المحصول للرازي

الرازي، فخر الدين

ـ[المحصول]ـ المؤلف: أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي خطيب الري (المتوفى: 606هـ) دراسة وتحقيق: الدكتور طه جابر فياض العلواني الناشر: مؤسسة الرسالة الطبعة: الثالثة، 1418 هـ - 1997 م [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]

_ طبع محققا على ست نسخ لأول مرة منذ أن فرغ مؤلفه من كتابته سنة 575 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

عنوان الكتاب من نسخة دار الكتب المصرية المرموز لها ب (ل)

الصفحة الاولى من نسخة دار الكتب المصرية المرموز لها ب (ل)

الصفحة الثانية من نسخة دار الكتب المصرية المرموز لها ب (ل)

الصفحة الاخيرة من الجزء الاول من نسخة دار الكتب المصرية المرموز لها ب (ل)

عنوان الكتاب من نسخة أحمد الثالث - استنابول والمرموز لها ب (آ)

الورقة الاولى من نسخة أحمد الثالث - استنابول المرموز لها ب (آ)

الورقة الاولى من نسخة أحمد الثالث - استنابول المرموز لها ب (آ)

الورقة الاخيرة من الجزء الاول من نسخة أحمد الثالث - استنابول المرموز لها ب (آ)

عنوان الكتاب من نسخة دار الكتب المصرية المرموز لها ب (ي)

الصفحة الاولى من نسخة دار الكتب المصرية المرموز لها ب (ي)

الصفحة الاولى من نسخة دار الكتب المصرية المرموز لها ب (ي)

الصفحة الاخيرة من الجزء الاول من نسخة دار الكتب المصرية المرموز لها ب (ي) الجزء الاول

نموذج من النسخة اليمنية المرموز لها ب " ص "

نموذج من النسخة اليمنية المرموز لها ب " ص)

آخر النسخة اليمنية المرموز لها ب " ص "

عنوان الكتاب من نسخة دار الكتب المصرية المرموز لها ب (ن)

الصفحة الاولى من نسخة دار الكتب المصرية المرموز لها ب (ن)

الصفحة الثانية من نسخة دار الكتب المصرية المرموز لها ب (ن)

الورقة الاولى من نسخة الاحمدية - حلب المرموز لها ب (ح)

الصفحة الثانية من نسخة الاحمدية - حلب المرموز لها ب (ح)

الورقة الاخيرة من نسخة الاحمدية - حلب المرموز لها ب (ح)

مقدمة المحقق

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المحقق الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون. أحمده حمدا ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه. وأستعينه استعانة من لا حول له ولا قوة إلا به..وأستهديه بهداه الذي لا يضل من أنعم به عليه، وأستغفره لما قدمت وأخرت استغفار من أقر بعبوديته، وعلم أنه لا يغفر ذنبه ولا ينجيه منه إلا هو سبحانه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله أنقذنا الله - تعالى - به من الهلكة، وأنجانا من الضلال، وجعلنا في خير أمة أخرجت للناس. فصلى الله - تعالى - عليه في الاولين والاخرين أفضل وأكثر وأزكى ما صلى على أحد من خلقه، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعه، ودعا بدعوته إلى يوم لقاه. أما بعد: فإن من أهم العلوم الموصلة إلى معرفة أحكام الله - تعالى - في كتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - علم " أصول الفقه "، فهو " العلم الذي ازدوج فيه العقل والسمع، واصطحب فيه الرأي والشرع، فأخذ من صفو الشرع والعقل سواء السبيل، فلا هو تصرف بمحض العقول - الذي لا يتلقاه الشرع بالقبول - ولا هو مبني على محض التقليد الذي لا يشهد له القعل بالتسديد والتأييد ". كما يقول اللامام الغزالي. وإن من أهم ماكتب في هذا العلم - بعد رسالة الامام الشافعي - رحمه الله - كتاب " البرهان " لامام الحرمين الجويني " والمستصفى " لحجة الاسلام

1 - عصر الامام الرازي:

الغزالي - من أهل السنة - و " العهد " للقاضي عبد الجبار الهمداني " والمعتمد " لأبي الحسين البصري - من المعتزلة فإن هذه الكتب الاربعة قد ضمت جملة المباحث الاصولية، فتناولت جميع مسائل هذا العلم - الخطير الشأن - بعد تكامله حتى أصبحت هذه الكتب الاربعة - مراجع هذا العلم ومنابع قواعده. ولما اتصفت به هذه الكتب الاربعة من صفات - قد تحد من مجال الاستفادة منها، وتقلل من عدد المنتفعين بها من طلاب علوم الشريعة - ظهرت الحاجة إلى كتاب جامع لمزاياها، محيط بمباحثها مجرد عما أخذ عليها. فتصدي لهذه المهمة الامام فخر الدين الرازي فألف كتابه " المحصول في علم أصول الفقه " ليكون الجامع لما في هذه الامهات الاربعة من مسائل الاصول، المجرد عن جميع المآخذ التي أخذت عليها، وأضاف إلى ذلك من علمه الغزير ودقته في التعبير وحسن الاسلوب، وسلاسة العبارة ما جعل " المحصول " مطم آمال طلاب " أصول الفقه " ومعقد رجائهم، فأقبلوا عليه، واستغنوا به عما سبقه. فمن هو الامام فخر الدين الرازي وما هو كتابه " المحصول "؟ ! هذا ما سنوضحه في السطور التالية: 1 - عصر الامام الرازي: لقد عاش الامام " فخر الدين الرازي " النصف الثاني من القرن السادس الهجري كله مع ست أو سبع سنين من النصف الاول منه - هي سنوات طفولته - كما عاش السنين الست الاولى من القرن السابع. وقد كانت هذه الحقبة من الزمن من أحرج الفتران في حياة الامة الاسلامية: فالحملات الصليبية التي بدأت سنة " 494 هـ) كانت متتالية منذ ذلك التاريخ إلى أن توقف بعدما يقرب من مائتي عام منه. وكانت بلاد الاسلام خلالها هدفا لمختلف ضروب التوحش والهمجية التي جاء بها الغزاة. وفي الوقت ذاته كان على التخوم الشرقية لديار الاسلام أعداء أكثر توحشا وهمجية يعدون أيام الضعف والتدهور التي يعيشها المسلمون يوما يوما لينقضوا عليهم في أنسب فرصة تساعدهم على استئصال

شأفة المسلمين وتدمير كيانهم. وأما في داخل ديار الاسلام: فقد كانت الخلافة العباسية قد بلغت دور الشيخوخة، ووصل ضعفها إلى مداه، ولم يعد للخليفة من سلطان إلا في بعض المظاهر التي تضعف وتقوى تبعا لضعف شخصية الخليفة وقوتها. أما السلطان الحقيقي، والتصرف الفعلي بمقاليد الامور: فقد استبد به قادة عسكريون، أو رؤساء قبائل كانوا ينصبون أنفسهم ملوكا وسلاطين وشاهات على ما تت أيديهم. بدأ ذلك بالسلاجقة ثم الخوارز مشاهية والغورية، وكان هؤلاء الملوك متناحرين على السلطان، هدفهم تحقيق مأربهم السياسية، وبسط سلطانهم على ما تحت يد الاخرين من أبناء ملتهم، غافلين أو متغافلين عما يدور حولهم، وما يدبر لهم جميعا، وكل منهم يظن أنه الاصلح للبلاد والعباد من سواه. وإذا كانت الاحوال السياسية للمسلمين في هذا الدرك الهابط، فإن الاحوال الاجتماعية والاقتصادية لم تكن تقل عنها سواء. ولا نريد الدخول في تفصيل ما حدث في ذلك العصر لانه يبعدنا عن موضوعنا، ولانه وصف بإسهاب في مختلف الكتب التاريخية القديمة، والحديثة، ولكن الامر يختلف تمام الاختلاف من الناحية الفكرية والثقافية فلقد كانت العناية في العلوم، والثقافات، والفكر كبيرة. يقول ابن خلدون - وهو يتحدث عن العلوم العقلية وأصنافها والامم التي اعتنت بها أو أهملتها -: " ويبلغنا عن أهل المشرق أن بضائع هذه العلوم لم تزل عندهم موفورة وخصوصا في عراق العجم وما بعده فيما وراء النهر، وأنهم على (ثبج من العلوم العقلية لتوفر عمرانهم، واستحكام الحضارة فيهم ". كما عقد فصلا خاصا لبيان - أن حملة العلم في الاسلام أكثرهم من

العجم - وبعد أن قرر هذا قال: " وإن كان منهم العربي في نسبته فهو عجمي في لغته ومرباه ومشيخته ". ويقول ول ديورانت في كتابه " قصة الحضارة " - بعد أن تحدث عن الكثيرين من الحكام المسلمين وخصائصهم، وقارنهم بأمثالهم من حكام الافرنج: " وجرى هؤلاء الحكام المسلمون جميعهم، بل وصغار الملوك أنفسهم على سنة الخلفاء العباسيين: في مناصرة الاداب والفنون ... ثم ذكر حواضر الاسلام كبغداد ودمشق، والري، وهراة وسواها، وبين ازهار العلوم فيها، وقرر أنها كانت أكثر مدن العالم ثقافة وجمالا، وقصارى القول: إن هذا العصر كان عصر اضمحلال متلالئا ساطعا ". وأما " الري " المحيط الصغير للفخر - الذي ولد فيه وترعرع: - فالناظر في تاريخا يجدها مسرحا لمختلف الاراء والافكار والمذاهب حتى ليخيل إليه أن هذه المدينة معرض واسع، يشتمل على نماذج من كل ما كان في البيئة الاسلامية الكبرى من الاراء والمذاهب إضافة إلى العلوم المختلفة وكلها تتعايش في هذه البيئة الصغيرة بشكل يدعو إلى العجب. ولا شئ يوضح هذه الحقيقة مثل موقف الامام ابن فارس اللغوي: أبى الحسين الرازي الفقيه الشافعي الذي تحول إلى مذهب الامام مالك - رضي الله عنهما - وقوله في سبب تحوله هذا: " دخلتني الحمية لهذا الامام المقبول على جميع الالسنة، أن يخلو مثل هذا البلد عن مذهبه، فعمرت مشهد الانتساب إليه، حتى يكمل لهذا البلد فخره وفإن الري أجمع البلاد للمقالات والاختلافات في المذاهب على تضادها وكثرتها.

2 - اسمه ونسبه:

ولعله قد اتضح الان أن الحركة الفكرية والثقافية في عصر الفخر كانت قوية ونشطة، وأن الحياة العلمية كانت على جانب كبير من الازدهار لعوامل كثيرة من أهمها: تنافس الامراء والحكام في تشجيع العلماء وبناء المدارس، واقتناء المدارس، واقتناء التآليف. 2 - اسمه ونسبه: هو: محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن علي، الملقب بفخر الدين والمكنى بأبي عبد الله الرازي المولد الطبرستاني، القرشي.

3 - مولده:

التيمي البكري. 3 - مولده: ولد الامام الرازي في شهر رمضان من سنة أربع وأربعين وخمسمائة - على أصح القولين في تاريخ مولده، فقد بلغ - رحمه الله - في سنة هـ إحدى وستمائة سبعة وخمسين عاما، حيث قال - في تفسيره لسورة يوسف، وهو يتحدث عن التوكل على الله تعالى: " فهذه التجربة قد استمرت لي من أول عمري إلى هذا الوقت الذي بلغت فيه إلى السابع والخمسين ".

4 - نشأته:

وقد نص - رحمه الله - على أنه قد فرغ من تفسير السورة سنة إحدى وستمائة هـ. 4 - نشأته: نشأ الرازي في بيت علم، فقد كان والده الامام ضياء الدين عمر أحد كبار علماء الشافعية، وكان خطيب الري وعالمها، وله مؤلفات في الفقه والكلام من أهمها " غاية المرام في علم الكلام " ذكره ابن السبكي وقال: " إنه من أنفس كتب أهل السنة وأشدها تحقيقا ". وقال عن مؤلفه الامام ضياء الدين - والد الامام الفخر: "..كان فصيح اللسان، قوي الجنان، فقيها أصوليا، خطيبا محدثا أديبا، له نثر في غاية الحسن تكاد تحكي ألفاظه مقامات الحريري من حسنه وحلاوته ورشاقة سجعه ". وقد نشأ الفخر في حجر والده الامام ضياء الدين عمر فكان له الوالد والاستاذ - الذي كفاه عن طلب العلم على يد سواه - حتى انتقل إلى جوار به سنة تسع وخمسين وخمسائة هـ وكان الفخر يقر لوالده بالفضل في الكثير من علومه، ويطلق عليه في كتبه " الشيخ الوالد، والاستاذ الوالد، والامام السعيد ". وينص على تتلمذه عليه خاصة في علم الاصول - ويذكر - بكل اعتزاز - السلسلة العلمية التي تلقى والده علومه بها.

5 - نظرته للعلوم المختلفة:

ولذلك شغف الفخر بالعلم، وأكب على التحصيل، وحرص على أن لا يضيع من حياته أي وقت في غير التعلم والتعليم، فكان يتمنى لو استطاع أن يستغني عن كثير من الحاجات الطبيعية ليجعل وقته - المصروف فيها - في طلب العلم، فيقول: " والله إنني لا تأسف في الفوات عن الاشتغال في طلب العلم في وقت الاكل، فإن الوقت والزمان عزيز ". ولقد أمده الله - تعالى - بالاضافة إلى بيته وبيئته ورغبته - بذاكرة عجيبة، وذهن وقاد، وذكاء خارق، واستعداد للتعلم قل أن تيسر مثله - في عصره - لسواه، ولذلك استطاع في فترة وجيز) ة استيعاب الكثير من كتب المتقدمين: " كالشامل " في علم الكلام لامام الحرمين و " المستطفى " للغزالي و " المعتمد " لأبي الحسين البصري. ولذلك 4 ال: " ما أذن لي في تدريس علم الكلام حتى حفظت اثنتي عشر ألف ورقة ". 5 - نظرته للعلوم المختلفة: كان الامام الرازي يرى: أن تعلم العلوم - جميعها - فرض من الفرائض الشرعية ولذلك أحب العلوم وأقبل عليها بدون تفريق إلا ما يكون من فرق بين الفاضل والمفضول، فالعلوم - في نظره - لا تخرج عن كونها واجبا، أو مما لا يتم الواجب إلا به، أو مما لابد منه لتحقيق مصلحة من المصالح الدنيوية، أو مما لابد من تعلمه لمعرفة أضراره وأخطاره، والدعوة إلى اجتنابها.

ولم يكن في شغفه بالعلم مجرد هاو يتصفح الكتب، أو يأخذ من العلم ما يناسب رغبته وهواه، أو يكتفي بتعرف عنوين المسائل ورؤوس المواضيع، ولكنه كان مثالا للباحث المدقق، والعالم المحقق يغوص وراء دقائق المسائل، ومعضلات الامور، يستجلي الغامض ويستكشف المجهول، يساعده على ذلك جلد عجيب على التتبع، وصبر لا يجارى فيه على البحث. ولذلك اتسعت معارفه، وتنوعت علومه - فكان أصلويا من كبار الاصوليين، وفقيها من الفقهاء، ومتكلما من فحول المتكلمين، ومفسرا من أئمة المفسرين، وفيلسوفا ولغويا ونحويا وشاعرا وخطيبا ومربيا. ولذلك لقبه أصحابه الشافعية والاشاعرة " بالامام " في سائر كتبهم الاصولية والفقهية والكلامية، فإذا أطلق لقب " الامام " في هذه الكتب فالمراد به الامام فخر الدين الرازي. وكان يدعى في " هراة " ب " شيخ الاسلام ". وقد جمع الله - تعالى - له خمسة أشياء ما جمعها الله لغيره في عصره: سعة العبارة في القدرة على الكلام، وصحة الذهن، والاطلاع الذي لا مزيد عليه، والحافظة المستوعبة التي تعينه على ما يريد من تقرير الادلة والبراهين. ولقد ترك الامام الرازي في كل علم من العلوم - المعروفة في زمانه - مؤلفات

وآثارا تشهد له بذلك، تؤيد أن نيله لتلك المكانة العلمية كان عن جدارة واستحقاق. ولا نريد أن نتاول - بالتفصيل - جميع جوانب حياته العلمية في هذه العجالة فلذلك دراسة أخرى، ولكن ما نريده - هو الاشارة إلى فضل الرجل وطول باعه في علم الاصول والفقه خاصة ليكون ذلك تمهيدا مناسبا بين يدي آثاره الاصولية وفي مقدمتها " المحصول ". فالرازي أصولي - على طريقة المتكلمين ن، وفقيه شافي، وأصحابه يعرفون له قدره، ويضعونه في مقدمة أهل التحقيق من الاصوليين، ويخصونه بلقب " الامام ". كما مر. ولقد استوعب - وهو لا يزال في مقتبل العمر - أهم الكتب الاصولية لسابقيه، فدرس " البرهان " لامام الحرمين " و " العهد " للقاضي عبد الجبار، وحفظ المستصفى للغزالي و " المعتمد " لأبي الحسين البصري. ولكنه حين أخذ يكتب في الاصول لم يسر وراء من سبقوه سير مقلد يجمع ما قالوا، ثم يلخصه ويقرره، كما قد يتصور البعض، ولكنه نظر فيما جاء في تلك الكتب نظرة الفاحص المدقق، والناقد البصثر وملاحظاته على سابقيته تدل على ذلك. ولعل هذه أهم مزاياه - التي امتاز بها على صنوه الامديي صاحب " إحكام الاحكام " - الذي لخص فيه الكتب الاصولية الاربعة. فإنه - رحمه الله كثيرا ما يستدرك على إمام الحرمين والغزالي وأبي الحسن والقاضي عبد الجبار وغيرهم ويتعقب أقوالهم ويختار منها، وأحيانا يستدرك عليهم جميعا ليختار هو ما يراه الانسب أو الاقوى وسنلاحظ ذلك في كثير من المسائل في " المحصول " وأحيانا يتعجب من الاصوليين - عامة - ويستغرب بعض مواقفهم، فيقول " والعجب من الأصوليين: أنهم أقاموا الدلالة على خبر الواحد أنه حجة في الشرع ولم يقيموا الدلالة على ذلك في اللغة وكان هذا أولى لأن اثبات اللغة كالأصل

6 - مصنفاته وآثاره:

للتمسك بخبر الواحد..". 6 - مصنفاته وآثاره: الحديث عن مصنفات أبي عبد الله - رحمه الله - يطول، فقد حظيت مؤلفاته باهتمام بالغ لم تحظ به كتب أحد من معاصريه، فلقد أقبل الناس عليها واشتغلوا بها ورفضوا كتب الاقدمين ولقد بلغ من إقبال الناس عليها أن الكتاب الواحد كان يباع أحيانا بخمسمائة أو بألف دينار ذهبي. وبقدر ما كان - رحمه الله - مشغوفا بالعلم والتعليم كان مشغوفا بالتأليف حتى كتب في كل علم تعلمه كتابا أو أكثر،. وكلها مراجع في العلوم التي كتبت فيها. ولقد أذت كتبه في جميع مراجع ترجمته مكانا بارزا حتى لم يكد يخلو كتاب من الكتب التي ترجمت له من ذكر مجموعة منها وكان المؤرخون بين مقل ومكثر، فمنهم من ذهب إلى أنها مائتا نصف أو تزيد، ومنهم من اكتفى بذكر مجموعة منها مع الاشارة إلى كثرتها. وفي القسم الدراسي - الذي كتبه عن حياة الفخر وآثاره - تناولت كل ما نسب إليه من الكتب والرسائل في سائر العلوم، ثم بينت صحيح النسبة إليه، وما نسب إليه خطأ، مع بيان الموجود منها وأماكن وجوده، وذكر المفقود، وذكر كل ما أمكنني معرفته عن تلك المصنفات. ولا أريد أن أعيد ما ذكرته - هناك - فالمهم

7 - مصنفات الفخر الأصولية

هنا هو التعريف بكتبه الاصولية وبخاصة " المحصول في علم أصول الفقه " الذي نقدمه. 7 - مصنفات الفخر الأصولية عدا المحصول: أ - إبطال القياس: ذكره القفطي وقال عنه: كتاب إبطال القسا لم يتم، ص، وابن أبي أصيبعة (22 / 29) ، والصفدي (4 / 255) . وفي كتابه " المعالم في أصول الفقه " ما يشعر بإكماله حيث قال - بعد عرض حجج نفاة القياس - والرد عليهم: " ولنا كتاب مفرد في مسألة القياس، فمن أراد الاستقصاء في القياس رجع إليه ". كما أن في هذه الاحالة ما يشعر بأن عنوانه الذي نقله المؤرخون قد يكون غير العنوان الذي وضعه هو له. ولقد أوهم عنوان هذا الكتاب كاتبا من المحدثين بأن الفخر من نفاة حجية القياس - فقال: " الرازي ممن ينفون القياس، ولا يقولون به مصدرا من مصادر التشريع فإن له رسالة في إبطال القياس "، قلت: والانكى من هذا أنه أضاف قوله: " كما يطهر في مواضع من تفسيره إنكاره للقياس ". ولو أن هذا الباحث الفاضل اطلع على ما كتبه الفخر في المحصول عن القياس - لرأى أن الامام عرض لمذاهب العلماء في القياس وأوضح حجج كل فريق، ثم عقب عليها بما نصه: " والذي نذهب إليه وهو قول الجمهور من علماء الصحابة والتابعين: أن القياس حجة في الشرع ". وإذا كان الرجوع إلى " المحصول " فيه شئ من المشقة عليه، لانه كان مخطوطا

فماذا عليه لو رجع إلى التفسر رجوع الدارسين قبل أن يرمي إماما من أئمة القائلين بحجية القياس بالقول بنفي هذه الحجية؟ ! ! إن الكاتب المذكور ادعى لتأييد برأيه: أن إنكار الفخر للقياس يظهر في مواضع من ت فسيره، وضرب مثالا على ذلك ما جاء في تفسيره لقوله تعالى: (وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله) . حيث ذكر حجج نفاة القياس، ثم أورد اعتراضا على ججتهم وذكر ما يمكن أن يجيبوا به عن ذلك الاعتراض، ثم أنهى المعركة من عغير أن يجيب عن جوابهم، ويديم الاخذ والرد إلى أن يرضى عنه الباحث الكريم. ولذلك عقب هذا ابلباحث - بعد أن نقل ما في التفسير - بقوله: وربما قيل: إنه يحكي هنا حجة نفاة القياس، وهذا لا يدل على أنه يرى رأيهم - والجواب والكلام للباحث الفاضل -: أن هذه ليست عادة الرازي في مناقشة الاراء فهو يبتني دائما بما يؤيد رأيه، وإذ لم يناقش هذه الحجة: علمنا أنها توافق رأيه، ولو كان له رأى مخالف لقوى الاعتراض الاخير، ووهن الرد عليه..وهكذا أكمل الباحث الكريم نطقه بالحكم على الفخر بأنه من نفاة حجية القياس. وقد فات الباحث وهوا لذي أكثر من الحديث عن تفسير الرازي ومنهجه في التفسير، والعلوم التي تطرق إليها في التفسير وغير ذلك مما حاول أن يوحي به أنه درس التفسير وصاحبه، أقول: لقد فاته أن الرازي قد بحث موضوع القياس في التفسير بشكل مسهب وبين حجج القائلين به وقواها، وذكر حجج نفاته وأوهنها في مواضع عديدة في مقدماتها: ما قاله في تفسير قوله تعالى: (يأيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنزعتم في شئ فردوه إلى الله

والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر، ذلك خير وأحسن تأويلا) . - ونصه: المسألة الثانية: اعلم أن هذه الاية آية شريفة مشتملة على أكثر علم " أصول الفقه "، وذلك لان الفقهاء زعموا أن أصول الشريعة أربع: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس. وهذه الاية مشتملة على تقرير هذه الاصول الاربعة بهذا الترتيب. أما الكتاب والسنة - فقد وقعت الاشارة إليهما بقوله: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) وبعد أن بين دلالة الآية على الاحتجاج بالكتاب والسنة والاجماع. قال: المسألة الرابعة: أعلم أن قوله: (فإن تنزعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) يدل - عندنا - على أن القياس حجة، ثم أفاض في بيان دلالة الآية على المراد، وذكر ما لنفاة القياس من إيرادات وأجاب عنها، ثم بين مرتبة القياس، وأنه رابع أدلة الفقه معللا لذلك، وبعد أن فرغ من بحث ذلك كله تحدث في المسألة الثانية عشرة عن مسائل من فروع القول بالقياس - فقال: ذكرنا أن قوله: (فإن تنزعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) يدل على صحة الفعل بالقياس -: كما أن هذه الاية دلت على هذا الأصل فكذلك دلت على مسائل كثيرة من فروع القول بالقياس ونحن نذكر بعضها "، وذكر ست مسائل من أهم المسائل المتعلقة بالقياس، وختم بحثه الطويل هذا بقوله: " فهذه المسائل الاصولية استنبطناها من هذه الآية في أقل من ساعتين، ولعل الانسان، إذا استعمل الفكر على الاستقصاء أمكنه استنباط أكثر مسائل أصول الفقه من هذه الاية ". أفلم يلحظ الباحث الكريم التشابه الكبير بين قول الله - تعالى -: (فإن تنزعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) .

وقوله جل شأنه: (وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله) ، وأن الفخر ما دام قد بحث الموضوع بشكل كامل في الآية الأولى فإنه يكفيه أن يذكر شيئا يسيرا في تفسير الاية الاخرى لمجرد التذكير بأن دلالة هذا النص على موضوع معين كدلالة ذلك! ! ولم يقتصر على هذا لا في التفسير ولا في كتبه الاصولية، بل ظل يتعقب أقوال نفاة حجية القياس ويد حضها في سائر المواضع ذات العلاقة به، شأنه في ذلك شأنه في بحث سائر الامور تخالف عقيدته الاشعرية أو مذهبه الشافعي. وكيف فات هذا الكتاب - وهو فيما يبدو من كلامه يعرف القائلين بحجية القياس، والنافين له - أن أهم ما تمسك به جمهور أهل السنة في الاستدلال لقولهم بحجية القياس من القرآن الكريم قوله تعالى: (فاعتبروا يأولى الابصر) ، وهذه الاية من سورة الحشر، أي من السور التى ادعى أنه أثبت كونها من تفسير الفخر. والامام الفخر حينما وصل إلى تفسير هذه الاية قال: " اعلم أنا قد تمسكنا بهذه الآية في كتاب " المحصول من أصول الفقه " على أن القياس حجة فلا نذكره ها هنا ". وفي مواضع متعددة من التفسير كان يفعل كما فعل في تفسيره لاية الشورى فيذكر أن نفاة حجية القياس استندوا إليها فيما ذهبوا إليه، ويبين وجه استدلالهم لا لانه يرى رأيهم، بل لمحاولة استقراء كل ما يمكن أن يؤخذ من الاية من قبل علماء أية فرقة أو مذهب. وكذلك يفعل في سائر المواضيع سواء أكانت أصولية، أو كلامية أو فقهية أو سواها.

هذا: ولعل فيما أوردنا ما يكفي لاقناع هذا الباحث ونحوه بخطأ ما ذهب إليه، ولعلنا نتعظ ونتروى فلا نتجنى على العلم وأهله نتيجة قله الاطلاع، أو قصورهم الفهم، أو بدافع من الرغبة في شهرة زائفة زائلة. بقي شئ في هذه المسألة أود التنبيه عليه - وهو: أن الفخر - رحمه الله - كان يرى أن المعاصرين له من علماء بلاده يتمسكون بالقياس على غير الطريقة المذكورة في كتب المتقدمين، وكان يرى إن كثيرا من هؤلاء العلماء لا يعرفون أن حجية القياس محل نزاع، وكل ما يعرفونه ويؤكدونه أن القياس حجة. وحين يطلب منهم الاستدلال على حجيته فإنهم يحتجون بأمور ضعيفة. ولما كان هؤلاء بمكانة قد لا تسمح لهم بالتتلمذ عليه - فإنه كان يرى في المناظرة أسلوبا لتعليمهم من غير أن يشعرهم بذلك، يدرك ذلك من يقرأ مناظراته، ومن المسائل الستة عشر التي اشتملت عليها مناظراته كان نصيب القياس منها اثنتين هما السابعة والثامنة. فلعله حين رأى هذه الحالة ألف كتابا خاصا يبحث موضوع القياس أسهب فيه في بيان أدلة القائلين بعدم حجيته، ثم رد عليهم، ليستفيد من هذا الكتاب معاصروه فاشتهر - " إبطال القياس " وإلا فإنه قد ثبت بما لا يدع مجالا لادنى شك أن الامام واحد من أئمة القائلين بحجية القياس. ب - إحكام الاحكام: ذكره القفطي في أخبار الحكماء، وابن أبي أصيبعة في عيون الانباء (2 / 30) والصفدي في الوافي (4 / 255) ، والبغدادي في هدية العارفين (2 / 107) ، ولم نجد - فيما اطلعنا عليه من مؤلفاته - إشارة إليه، كما لم تشر إليه كتب الاصول التي اطلعنا عليها، فلعله من كتبه المفقودة.

ج - الجدل: ذكر القفطي كتاب " مباحث الجدل " ص، وذكره كذلك بن أبي أصيبعة (2 / 30) ، وفي فهرس كوبريلي في استامبول (519 / 3) كتاب " الجدل والكاشف عن أصول الدلائل وفصول العلل ". وفيها أيضا نسخة أخرى بعنوان - " الجدل " - وفي معهد مخطوطات الجامعة العربية فيلمان لهاتين النسختين. د - رد الجدل: ذكره جميل العظم في ص، منفردا بذكره. هـ - الطريقة في الجدل: هكذا ذكرها القفطي ص، وفي وفيات الاعيان: وله طريقة في الخلاف (1 / 676) وكذلك اليافعي (4 / 8) ، ومثله في طبقات ابن السبكي (5 / 35) ، وكذلك في مفتاح السعادة (2 / 118) ، وفي كشف الظنون: " الطريقة في الخلاف والجدل " لفخر الدين محمد بن عمر الرازي (2 / 113) . والطريقة العلائية في الخلاف: ذكرها ابن أبي أصيبعة، وقال: " الطريقة العلائية في الخلاف أربع مجلدات " (2 / 29) ، ولم يذكر سابقتها، وذكرها القفطي وقال: " كتاب " الطريقة العلائية في الخلاف " أربع مجلدات " وذكر سابقتها ص، وذكرها الصفدي ولم يذكر سابقتها (4؟ 255) ، وأغفلها ابن السبكي، وذكر السابقة، وذكرها البغدادي (2 / 108) وجميل العظيم ص. ومع أننا لا نستكثر عن الفخر أن يؤلف في هذا العلم أكثر من كتابين أو ثلاثة كشأنه في بقية العلوم إلا أن في النفس شكا في صحة نسبة السابقة إليه، وإن كان القفطي قد ذكرها وذكر هذه أيضا - فإني أميل - والله أعلم - إلى أن المقصود أن

له أسلوبا متميزا في الخلاف، وذلك بعد أن قرأت عبارة ابن خلكان وابن السبكي، واليافعي، وطاش كبري زاده، وهي كما قال ابن خلكان: " وله مؤخذات على النحاة وله طريقة في الخلاف ". فكما أن قوله: وله مؤخذات على النحاة، لم يعن به أن له كتابا بهذا العنوان، فكذلك قوله: وله طريقة في الخلاف. ولعل العنوان الكامل للطريقة العلائية هو: " الطريقة العلائية في الخلاف والجدل "، وتكون كتابا واحدا هو هذا واختلفت المصادر بنقل عنوانه. ز - عشرة آلاف نكتة في الجدل: انفرد بذكره فهرس جوتا. ح - المحصل في أصول الفقه: انفرد بذكره البغدادي في هدية العارفين (2 / 108) ولعله وهم منه، أو أن الامام المصنف كان في نيته أن يكتب كتابه (محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين) بقسمين: قسم في علم الكلام، وهو المطبوع بالقاهرة سنة، وقسم في أصول الفقه - كما فعل بكتابه (المعالم أو المعالمين) فلم يتمكن من ذلك، أو لم يعثر على غير القسم الكلامي منه. ط - المعالم في أصول الفقه: ذكر القفطي كتاب " المعالم في الاصلين " ص، وقال ان خلكان: " وفي أصول الفقه، المحصول والمعالم " (1 / 676) ، كما ذكره الذهبي في تاريخ المرآة (4 / 7) ، وابن العماد في الشذرات (5 / 21) ، والصفدي في الوافي (4 / 55) ، وابن قاضي شهبة في طبقات الشافعية - وابن أبي أصيبعة ذكر أن

الصاحب نجم الدين أبا زكريا يحيى بن شمس الدين محمد بن عبدان اللبودي اختصر كتاب " المعلمين في الاصولين ". انظر (2 / 189) ، وهو يعني المعالم في أصول الدين، والمعالم في أصول الفقه، وإن كان حين ذكر مصنفات الفخر ذكر " المعالم " بالافراد مطلقا لم يحدد ما إذا كانت في أصول الدين أو أصول الفقه. انظر: (2 / 29) . كما ذكره طاش كبري في المفتاح (2 / 599) ، وحاجي خليفة في الكشف قال: " وشرحه علي بن الحسين الارموي المتوفى سنة (757 هـ "، ومن الذين شرحوا المعالم أيضا شرف الدين بن إبراهيم بن إسحاق المناوي المتوفى سنة هـ، وشرف الدين أبو محمد عبد الله بن محمد بن علي الفهري المعروف بابن التلمساني والمتوفى سنة هـ. انظر (2 / 1726 - 1727) . ولشر ابن التلمساني نسخة في أحمد الثالث 1353، ولها صورة في معهد المخطوطات. وللمعالم نسخ خطية في الازهر وفيها نقص / أصول، وفي ظاهرية دمشق (39، 55، 58، 62) ، وفي استامبول جار الله (1262 / 2) وأحمد الثالث، ولاله لي وفي القرويين، وبانكپور (10 / 57) . ي - المنتخب أو منتخب المحصول: ذكره منسوبا إلى الفخر الصفدي في الوافي (4 / 255) ، وابن العماد في الشذرات (5 / 21) ، وابن قاضي شهبة في طبقات الشافعية " الطبقة الخامسة عشرة " والخوانساري في روضاته، وحاجي خليفة في كشف الظنون (2 / 1616) والبغدادي في هدية العارفين (2 / 108) ، والعظم في عقود الجوهر. وله نسخة خطية في فات، ولها فيلم في معهد المخطوطات طبعنا عنه نسخة. ونسخة ثانية في ظاهرية دمشق - ف.

وأوله بعد الديباجة -: هذا مختصر في أصول الفقه انتخبته من كتاب " المحصول " وسميته ب " حاصل المحصول " ورتبته على مقدمة وفصول..إلخ. وعلى الورقة الاولى كتب عنوانه بلفظ " كتاب " منتخب المحصول في الاصول، وعلى طرفها كتب " حاصل محصول ". ويبدو أن في نسبة الكتاب إلى الفخر شكا قديما. وقد نقل ابن السبكي عن ابن الرفعة أنه قال - في " المطلب " في الجراح فيما إذا كان الشاج أكبر - وفي المنتخب المعزى لابن الخطيب: أنها للمشتري وقد نوقش فيه انتهى (قلت) : وقد أجاد في قوله: المعزو لابن الخطيب - لأن كثيرا من الناس ذكروا أنه لبعض تلامذة الامام لا للامام. اه كلام ابن السبكي. ولعل هذا الشك قد تسرب إلى نحو ابن السبكي مما قاله القرافي في النفائس. فإنه قد نقل عنه تلميذ الامام - شمس الدين الخسر وشاهي: أنه أكمله ضياء الدين حسين، فلما كمل وجد عبارته تخالف الكراسين الاولين، فغيرهما بعبارته وهذا هو " المنتخب " وعقب عليه بقوله: فالمنتخب لضياء الدين حسين، لا للامام فخر الدين. ويوجد في بعض النسخ: قال محمد بن عمر، اشارة للامام فخر الدين - وهو وهم، وليس للامام فخر الدين في اختصاره شئ اه. فإذا صح ما قاله القرافي - لزم أن يقال: إن الامام وقد ثبت أنه قد بدأ في المنتخب لم يتمه، وإنما عمل القدر الذي أشار إليه الخسرو شاهي. وإلا فإن الاحالات على المنتخب - منسوبا إلى الفخر أكثر من الكثرة في الكتب الاصولية المختلفة. وأما اشتهاره باسم " المنتخب " مع أن ما نقلناه من مقدمته ظاهر في أنه سماه ب " حاصل المحصول " - فلعل ذلك لورود كلمة انتخبته " في مقدمته. وعلى هذا فيمكن القول بأن المنتخب كتابان: كتاب استقل بتأليفه ضياء الدين حسين، وكتاب آخر ابتدأ الفخر به ولكنه لم يكمله، وأكمله ضياء الدين حسين

8 - الكلام عن المحصول:

وتكون النسخ التى ورد فيها قوله: فهذا مختصر انتخبته من كتابي المحصول هي من منتخب الامام الذي لم يكمل، لا كما ذكر القرافي: بأنه وهم. وأما النسخ التي لم ترد فيها مثل هذه العبارة فهي مما استقل بتأليفه، وانتخابه ضياء الدين حسين. هذا وممن شرح " المنتخب " القاضي ناصر الدين عبد الله بن عمر البيضاوي المتوفى سنة، أو (685 هـ) .. ويقوم - الان - بتحقيق " المنتخب " أخونا الاستاذ عبد المعز حريز لتقديمه إلى كلية الشريعة بجامعة الامام لنيل درجة الدكتوراه. ك - النهاية البهائية في المباحث القياسية: ذكره الصفدي في الوافي (4 / 255) . ولعله هو المعني بقول الفخر في المعالم - ص -: " ولنا كتاب مفرد في مسألة القياس، فمن أراد الاستقصاء في القياس رجع إليه. وقد أكثر شارح " المحصول " الاصفهاني من ذكرها والاشارة إليها. انظر: - على سبيل المثال - (3 / 202 أ، 203 أ، 209 أ، 211 ب، 251 أو 265 أ، 315 أ) ، وغيرها. وبهذا ينتهى القسم الاول من البحث في كتب الفخر الاصولية، وبه نكون قد أتينا على كل ما ذكرته المصادر - التى تيسر لنا الاطلاع عليها قديمة كانت أو حديثة - من كتب الفخر ورسائله الاصولية - ولم يبق منها إلا - الكتاب - موضوع تحقيقنا وهو " المحصول في علم أصول الفقه ". 8 - الكلام عن المحصول: ل - المحصول في علم أصول الفقه: المحصول هو: أهم كتب الامام فخر الدين الاصولية، ولعل كل ما كتبه قبله - في هذا العلم - قد أدرج فيه، وما كتبه بعده منتخب منه وعائد إليه.

وليس هذا فقط، بل هو أهم كتاب - في أصول الفقه - ظهر منذ أن فرغ الامام من تأليفه سنة هـ إلى يومنا هذا، ذلك لان فيه حصيلة أهم كتب الاصول - التى كتبت قبل الفخر - بأفصح أساليب التعبير، وأجود طرائق الترتيب والتهذيب، مضافا إليها من آرائه، وفوائد فكره، وحسن إيراداته الكثير. تسميته: عنوان كتابنا هذا في أربع نسخ من النسخ - التى حققناه عليها - هو: " المحصول في أصول الفقه ". وفي النسختين الاخريين كان عنوانه: " المحصول في علم الاصول ". وفي معظم المراجع التى ورد ذكره فيها، ذكر بالعنوان الاول، كما استعمل البعض العنوان الثاني: اعتمادا على اشتهار الكتاب بأنه في " أصول الفقه " أما الاحالات عليه فقد كان الغالب فيها الاقتصار على كلمة " المحصول " وحدها. وأول ما لفت نظري دلى وجوب تحقيق اسم الكتاب - هو الاشكال الذي أورده القرافي في النفائس على تسميته - حيث قال: " ... تسمية الكتاب بالمحصول مشكل، لان الفعل ان كان " حصل " فهو قاصر ليس له مفعول، فلا يقال " محصول " وإن كان حصل بالتشديد: فاسم المفعول منه محصل. نحو كسرته فهو مكسر ... فمحصول لا يتأتى منه، وليس للعرب ها هنا إلا حصل، وحصل. فعلى هذا لفظ " محصول ممتنع ". ثم شرع بالجواب عن هذا الاشكال، ولم يقنعه ما ذكره من جواب فأورد عليه اشكالات، وأجاب عنها وأطال. وإيرادات القرافي تؤكد أن عنوان الكتاب - في النسخ التي اطلع عليها - هو:

" المحصول " فقط. وأما عبارة " في أصول الفقه " أو غيرها فهي ليست من صلب العنوان، وإنما هي عبارة أضيفت لايضا العنوان. قد يكون الذي أضافها هو الامام المصنف نفسه، وقد يكون سواه. وقد رأينا من الواجب قبل أن نناقش ما أورده القرافي - من حيث صحة التسمية - لغة: أن نحاول العثور على العنوان الصحيح الذي وضعه الامام المصنف للكتاب. وهذا ما لا يتحقق إلا بأحد أمرين: الأول: العثور لعى نسخة بخطه يذكر فيها عنوان الكتاب الكامل. والثاني: تتبع إحالات الامام عليه في كتبه الاخرى. ولما لم نوفق للحصول على نسخة بخط الامام فإنه لم يبق أمامنا إلا تتبع إحالات الامام عليه في كتبه الاخرى. وقد أحال الامام عليه في تفسيره الكبير في ثلاثة مواضع سماه في الاول منها " المحصول في أصول الفقه ". وسماه في الثاني: " المحصول في علم الاصول ". وفي الموضع الثالث سماه " المحصول من أصول الفقه ". كما أحال عليه في كتابه - الاربعيه - مرتين سماه في الاولى " المحصول في علم الاصول ". وسماه في الثانية " المحصول في الاصول ". وحين ذكره في مقدمة المنتخب اقتصر على كلمة " المحصول " فقط. كما أشار إليه في نهاية العقول والمعالم في أصول الفقه باسم " المحصول في أصول ". والذي أميل إليه من كل هذه النقول: أن اسم الكتاب - الذي قد يكون وضعه الفخر له: هو " المحصول في أصول الفقه " ذلك لأن من المستبعد أن يطلق عليه

اسم المحصول فقط من غير أن يضيف إلى العنوان ما يشير إلى العلم الذي ألف الكتاب فيه، فإنه لو أطلق الاسم هنا - لكان الاولى به أن يطلقه في عنوان " المحصل " المسهب. وكذلك في عناوين كتبه الاخرى. وبهذا يتضح أنه لابد أن يكون قد أطلق عليه أحد العناوين التي تقدمت، وأقربها - من حيث اللغة - والمعنى - قوله: " المحصول في علم أصول الفقه " فكأنه أراد أن هذا الكتاب هو محصول أصول الفقه، وحاصله: أي: خلاصته المستخرجة منه. وفي المصباح عن ابن فارس: أصل التحصيلل، استخراج الذهب من حجر المعدن، وحاصل الشئ ومحصوله واحد. وعلى هذا فلا وجه لما أورده القرافي. كما أن الامام المصنف قد ذكر أن المصادر تجئ على المفعول: نحو المعقود والميسور - بمعنى العقد واليسر - يقال: ليس له معقود رأي، أي عقد رأي. وعلى هذا فإن اسم الكتاب لا إشكال عليه حتى لو سلمنا أنه اسمه " المحصول " فقط. من غير ذكر عبارة " في أصول الفقه " باعتباره مصدرا. المؤرخون الذين ذكروه: لاهمية " المحصول " لم يكد يغفل ذكره أحد ممن ترجموا للرازي، وذكروا مؤلفاته. فمن الذين ذكروه: القفطي في أخبار الحكماء، وابن أبي اصيبعة في عيون الانباء (2 / 29) ، وابن خلكان في الوفيات (1 / 676) ، والذهبي في تاريخ الاسلام (27 / 643) ، وابن السبكي في الطبقات (5 / 35) ، واليافعي في المرآة (4 / 7) ، وابن كثير في البداية (13 / 55) ، والصفدي في الوافي (4 / 255) ، وابن العماد في الشذرات (5 / 21) ، وابن حجر في اللسان (4 / 427) ، وابن

قاضي شهبة - في طبقات النحاة - 1 / 48) ، وقال عنه: " وهو من أجل الكتب " كما ذكره في طبقات الشافعية الطبقة الخامسة عشرة، والعيني في عقد الجمان (17 / 2 / 322) ، وأبو شامة في الذيل، وابن خلدون في المقدمة (3 / 1165) ، والانصاري في إرشاد القاصد ص، والقلقشندي في الصبح (1 / 472) ، وطاش كبرى زاده في المفتاح (2 / 118) ، وأبو عذبة في الروضة ص، والخوانساري في الروضات، وحاجي خليفة في الكشف، وذكر شروحه ومختصراته، وأشار إلى مصادره - انظر (2 / 1615 - 1616) ، والبغدادي في هدية العارفين (2 / 108) ، وبروكلمان في تاريخ الادب العربي (1 / 667) وجميل العظم في عقود الجوهر ص. المصادر التي استمد منها الفخر المحصول: اتفق الكاتبون في تاريخ علم " أصول الفقه " على أن أهم ما كتب في علم أصول الفقه بعد ما كتبه الامام الشافعي - رضي الله عنه - هذه الكتب الاربعة: أ - " البرهان " لامام الحرمين. ب - " المستصفى " للامام الغزالي. ج - " العهد " للقاضي عبد الجبار. وشرحه العمدة لابي الحسين. د - " المعتمد " لابي الحسن البصري - الذي هو مختصر شرحه للعهد. فهذه الكتب الاربعة احتوت مسائل ومباحث هذا العلم - على طريقة المتكلمين - وبذلك أصبحت قواعد هذا العلم وأركانه. وقد كان الامام الرازي - رحمه الله - يحفظ - عن ظهر قلب - من هذه الكتب الاربعة كتابين هما: " المستصفى " لحجة الاسلام الغزالي و " المعتمد " لأبي الحسين البصري. إضافة إلى اطلاعه على كتب الاصول الاخرى. لذلك فقد اتجه - رحمه الله - لوضع كتاب شامل في علم الاصول يهذب فيه

مسائله، ويمهد قواعده، ويتناول ما تناولته الكتب الاربعة من مباحثه: فكان " المحصول من أصول الفقه " في هذا الكتاب، مع مزاياه يندر توافرها في غير كتب الفخر: من جودة الترتيب، وفصاحة العبارة، وعمق التدقيق، والاستقصاء في البحث. شروحه: ما إن ظهر " المحصول " حتى أقبل طلاب الاصول عليه، واستغنوا عن كتب المتقدمين، ورأوا فيه كل ما يبتغيه طلاب الاصول منه. فأقبل عليه الاصوليون ما بين دارس، وشارح، ومعلق، ومختصر..وممن شرحه: - شمس الدين محمد بن محمود بن محمد الاصبهاني المتوفى سنة هـ. وهو شرح حافل، رجع مؤلفه إلى معظم الكتب الاصولية التي استطاع الرجوع إليها، وفي مقدمتها: أصول المحصول الاربعة، ومختصراته وسماه ب " الكاشف عن المحصول ". ومن أهم مزايا هذا الشرح: دقة العبارات التي نقلها من كتب الاصوليين لشرح ما ورد في المحصول بألفاظها لا بمعانيها، ولذلك يجد القارئ فيه الكثير من عبارات كتب أصولية مفقودة، وكتب أخرى من العسير الرجوع إليها. ولكن هذا الشرح ناقص، توفي مؤلفه قبل أن يتمه، والنسخ التي استطعنا الحصول على صورة عنها تنتهي بنهاية كتاب الاجماع. وهي في ثلاثة مجلدات كبار، تشتمل على ما يقرب من صفحة. وله نسخة خطية في دار الكتب المصرية تحت رقم أصول.

- وشهاب الدين، أبو العباس أحمد بن إدريس القرافي المتوفى سنة هـ وقد ذكر القرافي في مقدمة شرحه الذي سماه " نفائس الاصول في شرح المحصول " أنه جمع لكتابة شرحه هذا نحو ثلاثين تصنيفا في الاصول للمتقدمين والمتأخرين: من أهل السنة والمعتزلة، وأرباب المذاهب الاربعة. كما ألزم نفسه ببيان مشكله، وتقييد مهمله، وتحرير ما اختل من فهرسة مسائله، والاسئلة الواردة على متنه. والحق: أن في هذا الشرح كثيرا من الفوائد الاصولية العاملة، ولكنه كثيرا ما يفوته مراد الامام وقصده فيكثر من إيراد ما لا يرد عليه، ويحمل كلامه على غير محمله، وسنتعرض لبعض ذلك في تعليقاتنا على المحصول. وهو شرح كبير يقع في ثلاثة مجلدات كبار تبلغ ما يقارب صفحة. وله نسخة خطية في دار الكتب المصرية تحت رقم، وعنها أخذنا الصورة التي استعنا بها في التحقيق. - ذكر القرافي للنقشواني شرا على المحصول، لكنني لم أستطع الاهتداء إليه. المعلقون عليه: ذكر حاجي خليفة أن لاحمد بن عثمان بن صبيح الجوزجاني المتوفى سنة هـ تعليقة عليه. وكذلك عز الدين عبد الحميد بن هبة الله المدايني المعتزلي المتوفى سنة هـ. كما نسب القرافي لابن يونس الموصلي تعليقة عليه. مختصراته:

ومن أهم مختصراته: أ - المنتخب وقد تقدم الكلام عنه. ب - الحاصل من المحصول: وهو لتاج الدين أبي عبد الله محمد بن الحسين الارموي المتوفى سنة هـ وقد أتم تاج الدين مختصره هذا في شهر ذي الحجة سنة هـ، وهو يقع في صفحة من القطع المعتاد. وله نسخة خطية في دار الكتب المصريقة رقم أصول دار الكتب كتبت سنة هـ، وعنها أخذنا صورة للاستفادة منها في التحقيق. وقد قام زميل لنا بتحقيقه من عهد قريب ونال على ذلك درجة الدكتوراه من الازهر. والحاصل هو مأخذ " منهاج الوصول " المشهور للقاضي البيضاوي. ج - الحاصل من المحصول: لضياء الدين حسين، الذي ذكر القرافي أنه أكمل منتخب الامام. د - التحصيل وهو لسراج الدين، أبي الثناء، محمود بن أبي بكر الارموي المتوفى سنة هـ وعليه شرح موجز باسم (حل عقد التحصى) لبدر الدين التستري المتوفى سنة، والتحصيل مع شرحه هذا يقعان في حوالي صفحة من القطع المعتاد. وقد قام أحد الباحثين بتحقيقه رسالة لنيل درجة الدكتوراه من الازهر وقد نوقش منذ عهد قريب.

وله نسخة خطية في دار الكتب برقم أصول الفقه م. وعنها أخذنا صورة للاستفادة منها في التحقيق. وله نسخة خطية ممتازة في مكتبة الحرم المدني الشريف بخط عربي قديم تاريخ نسخها سنة هـ. هـ تنقيح الفصول في اختصار المحصول: وهو للشارع القرافي، كما شرح مختصره هذا، وهذا المختصر مع شرحه مطبوع في القاهرة بالمطبعة الخيرية سنة هـ. وتنقى المحصول: وهو لامين الدين مظفر بن محمد التبريزي المتوفى سنة هـ. ولهذا المختصر نسخة خطية في أحمد الثالث (1236، 168) ، ولها صورة في معهد المخطوطات في الجامعة العربية. وقد تم تحقيقه في الجامعة الاسلامية في المدينة المنورة. هذه أهم مختصراته المعروفة. وقد ذكرنا حاجي خليفة أن له مختصرات أخرى - منها: مختصر تاج الدين، عبد الرحيم بن محمد الموصلي - المتوفى سنة هـ ومختصر محي الدين سليمان بن عبد القوي الطوفي الحنبلي - المتوفى سنة هـ، ومختصر الباجي، علاء الدين، علي بن محمد خطاب المغربي ثم المصري الشافعي المتوفى سنة هـ.

كما ذكر: أن شمس الدين محمد بن يوسف المتوفى سنة هـ. كتب أجوبة من المسائل عليه. قلت لعله يريد أجوبة عما قد يكون أورد على بعض مسائله. ونسب الخوانساري إلى مجد الدين بن دقيق العيد القشيري المالكي مختصرا جيدا للمحصول. نسخ المحصول الموجودة في مختلف الخزانات: للمحصول نسخ خطية كثيرة منها: - نسخة كاملة في دار الكتب المصرية رقمها م. - ونسخة أخرى برقم وعنها أخذت نسخة المكتبة الازهرية. - والجزء الثاني فقط من نسخة أقرى برقم. - وقطعة من الجزء الاول فيها نقص من الاخر برقم. وفي سوهاج الجزء الثاني فقط. برقم أصول. - ونسخة كاملة في حلب - الاحمدية - برقم. - ونسخة كاملة أخرى في استنامبول - أحمد الثالث - برقم. - وراغب. - وعاطف. - وفي باريس. - وفاس - القرويين -. - ودمشق - الظاهرية - عام، وف (82 - 83) . - وبيشاور ب. - وبنكپور (19، 1560) .

- وبودليانا (1 / 267) . - المتحف البريطاني - الملحق -. - والمكتب الهندي (292، 1445) . - وفي طهران - خزانة فخر الدين النصيري - عن مجلة معهد المخطوطات 3 ج 1 مايو 1957. وقد بحثت عن هذه الخزانة في طهران فلم أعثر عليها. فلعلها أدمجت في خزانة أخرى بعد هذا التاريخ ونسي اسمها. - وفي صنعاء - الجامع الكبير - نسخة كاملة، في دار الكتب المصرية (ما يكرو فيلم) أخذ عنها برقم. - وداماد زادة. - ومشهد (6، 26، 87) . - باتنا (1، 74، 755) . هذه هي جملة النسخ التى تحتفظ بها هذه الخزانات العالمية للكتب. وأشارت إليها فهارسها. منها الكاملة، ومنها الناقصة، ومنها ما كتب بخط ناسخ واحد، ومنها الملفق، من نسختين، ومنها ما فصل الجزء الاول من الكتاب فيه عن الجزء الثاني، ومنها ما أدمج فيه المجلدان من غير فاصل. النسخ التى اخترناها للتحقيق: حينما شرعت في اختيار النسخ التى كان علي أن اعتمد عليها لتحقيق الكتاب، وضعت في اعتباري الامور التالية: - أن أقدم النسخ الكاملة على النسخ الناقصة. - وأقدم من النسخ الكاملة - الواضحة على غيرها، وأعني بالوضوح وضوح الخط والقرب إلى المعنى. - وأقدم من النسخ الكاملة الواضحة - القديمة على الحديثة.

وبناء على هذا فقد اخترت النسخ التالية: أولا - نسخة دار الكتب المصرية رقم أصول. ثانيا - نسخة دار الكتب المصرية رقم أصول. ثالثا - نسخة أحمد الثالث في استامبول رقم أصول. رابعا - نسخة حلب - الاحمدية - رقم أصول. خامسا - نسخة صنعاء - الجامع الكبير - (ما يكر وفلم) دار الكتب أصول دار الكتب. سادسا - قطعة من الجزء الاول تنتهي في مباحث (الاستثناء) رقم أصول. وقد قمت بتصوير هذه النسخ الست، وصورت معها شرحي المحصول (الكاشف) للاصفهاني، (والنفائس) للقرافي، ومختصرات المحصول (المنتخب) ، و (الحاصل) و (التحصيل) مع شرحه (حل عقد التحصيل) ، ونسخة سوهاج - الجزء الثاني أصول. أما نسخة دار الكتب المصرية رقم أصول فهي نسخة كاملة بمجلدين كبيرين فرغ من نسخها في 11 شعبان سنة سبعين وستمائة هـ. ناسخها: محمد بن حمزة بن محاسن، لم أستطع الترجمة له، كتبت بخط نسخ حسن. يقع الجزء الاول منها ب صفحة، ومسطرتها، ومعدل كلمات السطر كلمة. وعلى أعلى الصفحة الاولى بعض التملكات. كتب على الصفحة الاولى منها: الجزء الاول من كتاب " المحصول في أصول الفقه "، تصنيف فخر الدين محمد بن عمر الرازي - قدس سره روحه - وتحته عبارة تنص على أن هذه النسخة أوقفت على طلبة العلم. ويظهر أن هذه النسخة كانت قبل أن تنقل إلى دار الكتب في خزانة " السلطان حسين " حيث كتب في الطرف الايمن من الصفحة الاولى -: " أصول الفقه " " السلطان حسين ".

وهذه النسخة مقابلة بنسخة أخرى رمز لها الناسخ ب (خ) ، وعليها تصحيحات بخط الناسخ نفسه، وقد رمزت لهذه النسخة بحرف (ل) . وأما النسخة الثانية من نسخ دار الكتب أصول فهي - أيضا - نسخة كاملة، ولكننا لم نستطع معرفة اسم ناسخها ولا تاريخ النسخ. وقد أدمج الناسخ الجزئين ولم يفصل بينهما. وكتب الجزء الاول منهما في صفحة بخط دقيق. مسطرتها سطرا، ومعدل كلمات السطر يتراوح بين وكلمة. وقد كتبت بخط دقيق وحسن، وعليها بعض التصحيحات. وعلى الورقة الاولى منها: " المحصول في أصول الفقه " للشيخ فخر الدين ابن الخطيب الرازي - رحمه الله - آمين. وعليها تملكات غير واضحة لاصابة الورقة بالماء. وعليها تملكات غير واضحة لاصابة الورقة بالماء. وقد رمزت إليها بحرف (ي) . وأما نسخة أحمد الثالث في - استامبول - فهي نسخة كاملة في مجلدين مقاس (5، 17 - 5، 25) . ناسخها: محمد بن عثمان بن سلامة. وتاريخ نسخها: سبع عشرة وستمائة. ومكان نسخها: المدرسة النظامية ببغداد. مسطرتها سطرا. ومعدل كلمات السطر (14 - 17) وعدد صفحات الجزء الاول منها: صفحة. كتب على الصفة الاولى منها: الجزء الاول من كتاب " المحصول في علم الاصول "، تأليف الشيخ الامام العالم الاوحد فخر الدين، ركن الاسلام، أبي الفضل محمد بن عمر الخطيب الرازي، قدس الله روحه، ونور ضريحه، آمين بالعظيم المنان. محمد بن عثمان. وفي هذه النسخة سقط كثير، منه ما تلافاه الناسخ بعد المقابلة، وأثبته على

هوامش الصفحات، ومنه ما بقي ساقطا. وقد رمزت إليها بحرف (أ) . وأما نسخة حلب - الاحمدية) رقم فهي أحسن النسخ التي اطلع عليها خطا، ولكن بها نقصا فقد طمست منها صفة الغلاف وسقطت الصفحتان الاخيرتان من الجزء الاول، وصفحتان من وسط الجزء. وفي صفحاتها الاولى تآكل ابتدأ من الصفحة الاولى إلى الصفحة الرابعة والستين. وقد أدى هذا التآكل إلى سقوط كلمات من أواخر الاسطر الخامس والسادس والسابع من كل صفحة من الصفحات المذكورة تقريبا. ولم أستطع معرفة اسم ناسخها، ولا مكان النسخ. مقاسها: (23 / 13) سم. مسطرتها سطرا. ومعدل كلمات السطر كلمة. وتقع في صفحة. وقد ضبطت معظم كلماتها بالشكل. وعلى هوامشها معارضة بنسخة أخرى، وتصحيحات. وقد وجدتها أقرب النسخ إلى الصواب. بعد النسخة اليمنية. وقد رمزت إليها بحرف (ح) . وأما النسخة الخامسة فهي نسخة الجامع الكبير في صنعاء. يقول ناسخها: إنه استنسخها عن نسخة نسخت من نسخة كتبت على زمان المصنف بمدينة " نيسابور " ب " خراسان " سنة هـ. وفرغ من نسخ نسخته التي بين أيدينا - سنة هـ. ومسطرتها: ما بين (42 - 45) سطرا في الصفحة الواحدة. ومعدل كلمات السطر: ما بين (18 - 24) كلمة. وقد كتبت بخط يمني معتاد. ومع كل ما يعانيه قارئها من صعوبات في القراءة، فإنها أقرب النسخ التى اطلعت عليها إلى الصواب - من حيث المعنى ولانها كتبت بخط في غاية الدقة فإن الجزء

الاول قد وقع في صفحة. وقد كتب على الصفحة الاولى منها: كتاب " المحصول في أصول الفقه "، تصنيف الشيخ الصدر، الامام، الاجل، الافضل، الاكمل، الاشرف، فخر الدين، ناصر الاسلام، ملك العلماء، سلطان المحققين، استاذ الورى، علم الهدى، أبي عبد الله محمد بن عمر بن الحسين الرازي. قدس الله روحه ونور ضريحه. وعليها تملكات كثيرة عليها شطب، والذى استطعت قراءته منها: " ملك العبد الفقير إلى الله سنبل بنى سرور الصنعاني ". وكتب تحت عنوان الكتاب بعض الابيات الشعرية، وأضيفت عند التجليد ورقة بعد ورقة العنوان غريبة عن الكتاب فيها بعض الابيات الشعرية نسبها الناسخ للامام أبي حنيفة - رحمه الله - وأتبعها ببعض أبيات المتنبي، وكلام نقله عن الامام الهادي يحيى بن الحسن، قال: إنه قاله لاهل صنعاء. ويبدو أن الناسخ ذا عناية بالطلاسم والعزائم فقد ألحق خمس صفحات بآخر الكتاب كتب فيها جملة من الطلاسم والعزائم لاغراض مختلفة، كما كتب بعض وصايا ورسائل نسبها لبعض أئمة الزيدية. ورمزت لهذه النسخة بحرف (ص) . وأما النسخة السادسة فهي قطعة من الجزء الاول تنتهي بالمسألة السابعة في الاستثناء المذكور عقيب الجمل - وهي محفوظة بدار الكتب المصرية برقم أصول. وقد أهديت إلى دار الكتب من قبل السيد حسين الحسيني وكانت قبل ذلك ملك والده: أحمد الحسيني بن السيد أحمد بن السيد يوسف الحسيني. وخطها، حديث، أظنها كتبت بعد الالف. مسطرتها: سطرا، ومعدل كلمات السطر. وتقع في صفحة. وقد رمزت إليها بحرف (ن) .

9 - أهمية التحقيق:

هذا وصف مجمل للنسخ الست التى اعتمدت عليها في تحقيق الكتاب. 9 - أهمية التحقيق: والتحقيق علم من أهم العلوم له قواعده، وأصوله، وأهدافه، وغاياته، وهذه القواعد والاصول هي أقرب ما تكون إلى علمي الحديث " دراية ورواية "، تساهل السلف فيه لانتشار العدالة، وعلو شأن الامانة في النقل، وقدرتهم الفائقة على ضبط المنقول مشافهة أو نسخا، وقلة التحريف والتصحيف عندهم. ورسول الله صلى الله عليه وسلم - أول من سن قاعدة " المقابلة " بما كان يقابل القرآن على ناقله إليه جبريل - عليه السلام - ولقد ظن القوم - وبعض الظن إثم - أن التحقيق علم من العلوم التى استأثر الغربيون بفضيلة تأسيسها، وأنه بدأ يظهر مع بدء النهضة الاوربية في القرن التاسع عشر الميلادي. وأن على أيديهم قواعده وأصوله، وذلك جهل في تراث هذه الامة لا يليق بباحث. وأنه إذا كان لهؤلاء الغربيين، والمستشرقين منهم فضل في هذا العلم، فإنما هو كفضلهم في سائر ما أخذوه عنا من تراث السلف، وأضاعه الخلف، فتلقفه هؤلاء، وبنوا على أصوله وأبروزه، فإن موقفهم في الكثير مما أخذوه عن سلفنا كموقف شركائهم في الاستيلاء على خامات بلادنا، وتصنيعها وإعادتها إلى أسواقنا باعتبارها صناعتهم، وايجادهم. ولقد برزت الحاجة إلى التحقيق بروزا ظاهرا بعد أن نشطت حركة التأليف، واتسعت الحركة العلمية اتساعا كبيرا، في القرن الرابع الهجري، وما بعده من قرون. واشتدت الحاجة إليه أكثر بعد أن أصبحت المصنفات تعتمد في انتشارها على نساخ، حرفتهم نسخ الكتب لحساب طالبيها، وهؤلاء النساخ أصناف: منهم من

10 - حاجة المحصول إلى التحقيق:

أوتي من العلم حظا ساعده على اتقان حرفته، ومنهم من لا يختلف عن منضد الحروف في المطبعة الحديثة في كونه لا يعرف غير صورة الحرف، وشكل الكلمة. وأخذت الكتب تنتشر على أيدي هؤلاء، وهم ينسخون من الكتب ما كتب في علوم لهم إلمام بها، أو في علوم يجهلونها. وكثيرا ما تغلب الرغبة في الربح على صاحبها فتحمله على السرعة في السنخ، وقلة التثبت، وعلى التصرف في العبارة في بعض الاحيان فربما أضاف ناسخ تعليقة إلى المتن لعدم تثبته، وربما استدل عبارة أخرى من عنده لظنه أنها أخصر. وإن كانت سيطرة الاسلام على حياة الناس وسيادة شريعته ويقظة ضمائر المسلمين العامرة بالايمان قد حالت دون كثرة هذه الامور، وجعلتها في كتبنا أقل بكثير مما هي في كتب غيرنا من الامم وفي مقدماتها كتب تلك الامم السابقة. والحاجة إلى التحقيق تتضح أكثر -: حين ندرك أنه بغير التحقيق يصعب علينا إثبات نسب الكتاب لصاحبه، كما يصعب علينا التأكد من أن هذا الكتاب هو على حقيقته حين كتبه مؤلفه، وقبل التأكد من كل هذا فإن عملية النقل عن الكتاب، والاحتجاج بما فيه تكون من أصعب الامور. ولهذا فإن من الممكن القول بأن أهمية تحقيق كتاب ما تحقيقا علميا أمينا لا تقل أهمية عن قيمة الكتاب ذاته. 10 - حاجة المحصول إلى التحقيق: " المحصول " من كتب الفخر التي حفل بها هو كثيرا قبل أن يحفل به سواه فقد حاول أن يضم بين صفحاته كل ما استفاده من علم الاصول. وفرغ من تأليفه بعد اكتمال نضجه العلمي على أيدي أساتذته وذلك سنة هـ. وله من العمر آنذاك عاما. وأقبل عليه طلاب العلم، واستغنوا به عن أصوله ومنابعه، وكثرت نسخه، ومع ذلك فإن شارحه شمس الدين الاصفهاني المتوفى سنة

هـ يقول معقبا على زيادة ناسخ: " ليس من هذا الكتاب نسخة صحيحة أصلا ". وحين يكن التصحيف والتحريم، والزيادة، أو النقص من الامور البينة فإن الخطب يهون، ولكن حين يخفى الكثير منه على إمام كالقرافي: أحمد بن إدريس - رحمه الله - وهو الذي درس المحصول وشرحه بشر ضخم، واختصره وشرح المختصر أيضا، واطلع على نسخ بخط تلامذة الامام والتقى ببعضهم - فإننا نتبين - آنذاك - مدى حاجة هذا الكتاب إلى التحقيق. ولعل من المفيد أن نذكر بعض الامثلة من هذه التحريفات التى خفيت على القرافي ونحوه - فمنها: أن الامام - رحمه الله - ذكر في المسألة " تكليف ما لا يطاق " قول المعترض - وهو: " إن العلم إما أن يكون سببا للوجوب أو لا يكون " - فأجاب بقوله: " نختار أنه ليس سببا للوجب، ولكن نقول: إنه يكشف عن الوجوب ". وقصد الامام المصنف واضح بأنه في مقام الجواب عن الاعتراض، قال: نختار، أي: واحدا من هذين القسمين المتقابلين. فوردت هذه الكلمة في بعض النسخ ومنها نسخ القرافي بلفظ " المختار " فظن القرافي أن اختيار الامام - في علم الله - أنه كاشف عن الوجوب، وليس سببا له، وهنا أورد ما شاء من المناقشات على محض وهم، نجم عن تصحيف ناسخ. وفي موضع آخر وردت كلمة " المتنافين "، ويبدو أن بعض الناسخين استبدلها بكلمة " الضدين "، وبدلا من توجيه الاتهام إلى الناسخ بأنه سها أو بدل، أو حرف اتهم القرافي الامام المصنف بأنه أخطأ في إطلاق اسم الضدين على متنافيين. ومن الطريف أن هذه الكلمة وردت في نسختا الست بلفظ " المتنافيين " لا بلفظ " الضدين ".

وأحيانا يتلطف القرافي بالامام فيتعسف للكلمة المصحفة تأويلا بعيدا. كما فعل في قوله عن لفظ الجلالة " الله ": بأنها " سريانية "، فقد صحفت في بعض النسخ إلى " سوربينية "، وفي بعض آخر إلى " سورية " فاختار أولا: أن الاقرب كونها " سورية " ثم نقض اختياره هذا حين نفي وجود من قال بأنها " سورية " في غير المصول. وبعد ذلك تأول كلمة " سوربينية " بقوله: لعل أصلها " سوربان "، وهذه هي النسبة إليها، ومعلوم أنها لا سور ولا بان، وأنه مجرد تأويل متكلف لتصحيف ناسخ. وفي مسألة " عصمة الانبياء " - قال الامام المصنف - بعد أن ذكر المذاهب في المسألة -: " وقد سبقت هذه المسألة في علم الكلام " ويبدو أن بعض النساخ زاد من عنده عبارة " من هذا الكتاب ". فقال القرافى - رحمه الله - تعقيبا عليها: هذا سهو من المصنف، ثم حاول أن يعتذر للامام عن هذا السهو المتوهم فقال: لعله كان في تقديره أن يكتب الكتاب على قسمين: قسم في أصول الدين، والثاني في أصول الفقه ولم يتمكن من كتابة غير الثاني. ولقد وقعت في نسخة الاصفهاني زيادة في تعريف " الامر " - المنقول عن القاضي - رحمه الله - حيث ورد هذا الحد في نسخته بصيغة: " هو القول المقتضي - بنفسه - طاعة المأمور بفعل المأمور به "، وكلمة " بنفسه " زيادة لم ترد في نسخنا الست، كما لم ترد في المستصفى - حيث ارتضى الامام الغزالي هذا التعريف، ونقله عن القاضي بلفظه. ووردها في نسخة الاصفهاني جعله يعتبر هذا الحد حدا للامر النفساني، وأنه لا يمكن أن يكون حدا للامر اللساني إلا إذا أسقطنا هذه الزيادة، وهي ساقطة

بنفسها، ولعل الناسخ الذي أضافها كان من المتكليمين، أو كان يحفظ حدا للامر " النفساني وظن أنه " الامر " المراد تحديده، وليس الامر " اللساني " فأضافها. وفى حديث الامام المصنف عن الامور التي يعرف بها كون فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم - للوجوب، ورد قوله: " ورابعها: أن يكون جزاء لشرط موجب: كفعل ما وجب بالنذر ". فصحف قوله: " بالنذر " في بعض النسخ إلى: " نذره "، فأصبحت العبارة: " كفعل ما وجب نذره ". وقد عقب القرافي على هذا التصحيف بقوله: " كشفت نسخا كثيرة، فوجدت هذه العبارة فيها، ولم أجد غيرها، وهي مشكلة من جهة أن النذر لا يجب، بل يجب فيه، فكان المتجه أن يقول: " ما وجب بالنذر ". وقد وجدنا - والحمد لله - العبارة الصحيحة التى تمنى القرافي أن يعبر الامام المصنف بها في نسختين من نسخنا الست.

11 - وصيته

11 - وصيته حين مرض الفخر - رحمه الله - وأحسن بدنو الاجل أملى وهو في شدة مرضه على تلميذه إبراهيم بن أبي بكر بن علي الاصفهاني وصيته وذلك في يوم الاحد الحادي والعشرين من شهر محرم سنة هـ وامتد مرضه بعدها إلى أن توفي. وقد رأينا أن نذكر هذه الوصية كما ذكرها ابن أبي أصيبعة، لما فيها من العبرة والموعظة..ولاهتمام الكثيرين - من العلماء والمؤرخين - بروايتها وتحليلها وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم يقول العبد الراجي رحمة ربه، الواثق بكرم مولاه، محمد بن عمر بن الحسين الرازي، وهو في آخر عهدة بالدنيا، وأول عهده بالاخرة، وهو الوقف الذي يلين فيه كل قاس، ويتوجه إلى مولاه كل آبق: إني أحمد الله - تعالى - بالمحامد التي ذكرها أعظم ملائكته في أشرف أوقات معارجهم، ونطق بها أعظم أنبيائه في أكمل أوقات مشاهداتهم، بل أقول كل ذلك من نتائج الحدوث والامكان فأحمده بالمحامد التى تستحقها ألوهيته، ويستوجبها كمال ربوبيته، عرفتها أو لم أعرفها، لأنه لا مناسبة للتراب، مع جلال رب الارباب. وأصلي على الملائكة المقربين، والانبياء المرسلين، وجميع عباد الله الصالحين. ثم أقول - بعد ذلك -: اعلموا إخواني في الدين، وإخواني في طلب اليقين أن الناس يقولون: الانسان إذا مات انقطع تعلقه عن الخق، وهذا العام مخصوص من وجهين: الأول: أنه إن بقي منه عمل صالح صار ذلك سببا للدعاء، والدعاء له أثر عند الله. والثاني: ما يتعلق بمصال الاطفال، والاولاد، والعورات، وأداء المظالم والجنايات. أما الاول: فاعلموا أني كنت رجلا محبا للعلم، فكنت أكتب في كل شئ شيئا لا أقف على كمية وكيفية، سواء كان حقا أو باطلا أو غثا أو سمينا، إلا أن الذي

نظرته في الكتب المعتبرة لي: أن هذا العالم المحسوس تحت تدبير مدبر تنزه عن مماثلة المتحيزات والاعراض، وموصوف بكمال القدرة والعلم والرحمة. ولقد اختبرت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة، التي وجدتها في القرآن العظيم، لانه يسعى في تسليم العظمة والجلال بالكلية لله - تعالى - ويمنع عن التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات وما ذاك إلا العلم بأن العقول البشرية تتلاشى وتضمحل في تلك المضايق العميقة، والمناهج الخفية. فلهذا أقول كل ما ثبت بالدلائل الظاهرة من وجوب وجوده ووحدته وبراءته عن الشركاء في القدم والازلية، والتدبير والفعالية فذاك هو الذي أقول به، وألقى الله تعالى به. وأما ما انتهى الامر فيه إلى الدقة والغموض فكل ما ورد في القرآن والاخبار الصحيحة المتفقعليها بين الائمة المتبعين للمعنى الواحد فهو كما هو والذي لم يكن كذلك، أقول: يا إله العالمين إني أرى الخلق مطبقين على أنك أكرم الاكرمين، وأرحم الارحمين، فكل ما مر به قلمي، أو خطر ببالي، فأستشهد علمك وأقول: إن علمت مني أني أردت به تحقيق باطل، أو إبطال حق فافعل بى ما أنا أهله، وإن علمت مني أني ما سعيت إلا في تقرير ما اعتقدت أنه هو الق، وتصورت أنه الصدق، فلتكن رحمتك مع قصدي لا مع حاصلي، فذاك جهد المقل، وأنت أكرم من أن تضايق الضعيف الواقع في الزلة فأغثني، وارحمني، واستر زلتي، وامح حوبتي، يا من لا يزيد ملكه عرفان العارفين ولا ينتقص بخطأ المجرمين. وأقول: ديني متابعة محمد سيد المرسلين، وكتابي هو القرآن العظيم وتعويلي في طلب الدين عليهما. اللهم يا سامع الاصوات، ويا مجيب الدعوات، ويا مقيل العثرات، ويا راحم العبرات ويا قيام المحدثات والممكنات، أنا كنت حسن الظن بك، عظيم

الرجاء في رحمتك، وأنت قلت " أنا عند ظن عبدي بى " وأنت قلت: (أمن يجب المضطر إذا دعاه ") وأنت قلت: (وإذا سألك عبادي عنى فإنى قريب) ، فهب: أني ما جئت بشئ فأنت الغني الكريم، وأنا المحتاج اللئيم. وأعلم: أنه ليس لى أحد سواك، ولا أجد محسنا سواك، وأنا معترف بالزلة والقصور، والعيب والفتور فلا تخيب رجائي، ولا ترد دعائي واجعلني آمنا من عذابك قبل الموت، وعند الموت، وبعد الموت. وسهل علي سكرات الموت وخفف عني نزول الموت، ولا تضيق علي بسبب الالام والاسقام فأنت أرحم الراحمين. وأما الكتب العلمية التي صنفتها، أو استكثرت في إيراد السؤالات على المتقدمين فيها، فمن نظر في شئ منها، فإن طابت له تلك السؤالت فليذكرني في صالح دعائه على سبيل التفضل والانعام، وإلا فليحذف القول بالسئ فإني ما أردت إلا تكثير البحث، وتشحيذ الخاطر، والاعتماد في الكل على الله تعالى. وأما المهم الثاني وهو: إصلاح أمر الاطفال والعورات، فألاعتماد فيه على الله - تعالى - ثم على نائب الله " محمد " - اللهم اجعله قرين محمد الاكبر في الدين والعلو، إلا أن السلطان الاعظم لا يمكنه أن يشتغل بإصلاح مهمات الاطفال فرأيت الاولى: أن أفوض وصاية أولادي إلى فلان، وأمرته بتقوى الله - تعالى - (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) .

12 - وفاته:

قال ابن أبي أصيبعة: وسرد الوصية إلى آخرها. ثم قال: (وأوصيه، ثم أوصيه ثم أوصيه: بأن يبالغ في تربية ولدي " أبي بكر " فإن آثار الذكاء والفطنة ظاهرة عليه، ولعل الله - تعالى - يوصله إلى خير. وأمرته وأمرت كل تلامذتي، وكل من لي عليه حق أني إذا مت يبالغون في إخفاء موتي، ولا يخبون أحدا به، ويكفنوني، ويدفنوني على شرط الشرع، ويحملونني إلى الجبل المصاقب لقرية " مزداخان " ويدفنوني هناك، وإذا وضعوني في اللحد قرأوا علي ما قدروا من إلهيات القرآن، ثم ينثرون التراب علي وبعد التمام يقولون: يا كريم جاءك الفقير المحتاج فأحسن إليه. وهذا منتهى وصيتي في هذا الباب والله - تعالى - الفعال لما يشاء، وهو على ما يشاء قدير، وبالاحسان جدير) . 12 - وفاته: بعد أن لاقى - رحمه الله - في حياته الحافلة ما لاقى من أذى الخصوم - حط عصا الترحال في " هراة "، وسكن الدار التي كان قد أهداها له السلطان " خوارزم شاه " ولم يتركه خصومه يخلد إلى الراحة، بل استمروا يعملون للنيل منه حتى بلغ من فجور بعضهم في الخصومة: أنهم كانوا يرفعون إليه الرقع في مجالس درسه ووعظه وفيها: " أن ابنه يفسق ويزني، وأن امرأته كذلك ". وكان - رحمه الله - يقابل ذلك بصبر العلماء، وحلم الحكماء، وجلد الاتقياء، ويجيب عن تلك الرقع بنحو قوله: " إن هذه الرقعة تتضمن أن ابني يفسق ويزني..وذلك مظنة الشباب فإنه شعبة من الجنون، ونرجو من الله - تعالى - اصلاحه والتوبة، وأما امرأتي فهذا شأن النساء

13 - منهجي في التحقيق:

إلا من عصمها الله، وأنا شيخ ما في للنساء مستمتع، هذا كله ممكن وقوعه، ولكني - والله - ما قلت: إن الباري جسم، ولا أن له شبيها ولا ابني يقول ذلك ولا زوجتي تعتقده ولا غلامي، فأي الفريقين أهدى سبيلا "؟ !. وكان يكثر من ترديد قوله: والمرء مادام حيا يستهان به ويعظم الرزء فيه حين يفتقد وقد اشتد عداء خصومه الكرامية له حتى ذكر بعض المؤرخين أنهم سموه أو دسوا له من سمه. وقد اتفقت مصادر ترجمة على أن وفاته كانت سنة ست وستمائة هـ وإن اختلفت في تحديد الشهر واليوم الذي توفي فيه اختلافا كبيرا، فرحمه الله رحمة واسعة. 13 - منهجي في التحقيق: لقد سرت في تحقيق الكتاب على النحو التالى: - بعد أن تكونت لدي الفكرة على أجود النسخ الموجودة التى تيسر لي الحصول عليها: قمت بطبع صور عنها، كما صورت شرحيه " الكاشف عن المحصول " للاصفهاني، و " نفائس الاصول " للقرافي، وكذلك صورت مختصراته - المخطوطة - " المنتخب " و " الحاصل " و " التحصيل " بشرحه " حل عقد التحصيل " للتستري. قمت بكتابة نسخة من الكتاب عن نسخة (ل) وعرضتها عليها، وعلى النسخ الخمس الاخرى، وأثبت الفروق، ولم أترك من هذه الفروق إلا بعض ما يرجعع إلى قواعد الاملاء وطريقته. فقد وجدت في بعض النسخ كلمات " لان " بشراء " و " استثناء " " يرى "، " سواء " مرسومة هكذا: " لئن "، " بشرى، " استثنى "، " يرا ". فكتبت هذه الكلمات، ونظائرها وفق القواعد الاملائية

المعروفة اليوم، ولم أنبه على هذه الفروق لعدم ضرورة التنبيه عليها. وكذلك وجدت بعض النسخ تذكر بعد ورود اسم إمام أو صحابي: " رضي الله عنه "، أو " رحمه الله "، وبعض النسخ الاخرى تغفل هذه الزيادة، فجريت على إثبات هذه الصيغ وعدم التنبيه - أيضا - على النسخة التى لم تذكرها، وأما عبارات " الصلاة على رسول الله " - صلى الله عليه وسلم - فقد كنت أكملها، من غير تنبيه - أيضا - على النسخ التى ذكرت ما يقابلها. ثم عدت أقرأ نص الكتاب بتأمل وتدبر، فإذا عرضت لي كلمة أو عبارة اختلفت النسخ فيها: دققت النظر فيها، وراجعت الشرحين " الكاشف " و " النفائس " وكذلك المختصرات " المنتخب " و " الحاصل " و " التحصيل " و " المنهاج " وكثيرا ما رجعت إلى " المعتمد " و " المستصفى "، فتخيرت ما هو الاصوب أو الانسب أو الاحسن، فوضعته في صلب الكتاب، ووضعت ما يقابله من النسخ الاخرى في الحاشية ولم ألتزم بلفظ نسخة بعينها. صححت ألفاظا وردت في النص مخالفة لقواعد النحو والرسم. أحلت المسائل الاصولية الواردة في الكتاب على أهم المصادر الاصولية التي تناولت هذه المسائل، وعنيت عناية خاصة بربط الكتاب بعضه ببعض، وربطه " بالمعتمد والمستصفى " باعتبارهما أهم مصادره، وكذلك بذلت جهدي في ربط مختصراته به. ذكرت آراء الفقهاء في مسائل الخلاف والفروع التي أشار الامام المصنف إليها، وبنيت مواضع بحثها في كتب الفقه المختلفة. وردت في الكتاب بعض النصوص المنقولة عن الائمة فدللت على الصفحات التي ذكرت تلك النصوص فيها من كتبهم. خرجت شواهد الكتاب: من آيات، وأحاديث وأبيات شعرية وأمثال. ترجمت لجميع الاعلام الذين ذكروا في الكتاب ترجمة مختصرة، مع الاحالة على بعض المصادر التي تناولت الترجمة، كما عرفت بالفرق التي ذكرت فيه، والاماكن.

كلمة لا بد منها

عرفت بالكتب التي وردت أسماؤها في الكتاب وذكرت أماكن وجودها بذلت جهدي في إيضاح بعض ما غمض من عباراته مستفيدا مما قاله شارحاه الاصفهاني والقرافي، أو مما قاله الامام المصنف في كتبه الاخرى: كالتفسير وغيره، أو ما ورد في كتب الاصول الاخرى. كتبت بعض التلخيصات في أعقاب بعض المسائل الهامة زيادة في إيضاح تلك المسائل، وتحريرا لما ورد فيها وربطا لها بالكتب الاصولية الاخرى. شرحت بعض الالفاظ الغامضة في الكتاب شرحا لغويا. وضعت هذه العلامة (*) - للدلالة على نهاية كل ورقة أو لوحة من أوراق النسخ الست. د. طه جابر العلواني المحصول في علم أصول الفقه

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حق حمده وصلى الله على محمد وآله وعلى جميع الأنبياء والمرسلين

الكلام في المقدمات وفيه فصول

الفصل الأول في تفسير أصول الفقه

الفصل الأول في تفسير أصول الفقه (اعلم أن) المركب لا يمكن أن يعلم إلا بعد العلم بمفرداته لا من كل وجه بل من الوجه الذي لأجله يصح أن يقع التركيب فيه فيجب علينا تعريف الأصل والفقه ثم تعريف أصول الفقه أما الأصل فهو المحتاج إليه وأما الفقه فهو في أصل اللغة عبارة عن فهم غرض المتكلم من كلامه وفي اصطلاح العلماء عبارة عن العلم بالأحكام الشرعية العملية والمستدل على أعيانها بحيث لا يعلم كونها من الدين ضرورة فإن قلت الفقه من باب الظنون فكيف جعلته علما قلت المجتهد إذا غلب على ظنه مشاركة صورة لصورة في مناط

الحكم قطع بوجوب العمل بما أدى إليه ظنه فالحكم معلوم قطعا والظن واقع في طريقه وقولنا العلم بالأحكام احتراز عن العلم بالذوات والصفات الحقيقية وقولنا الشرعية احتراز عن العلم بالأحكام العقلية كالتماثل والاختلاف والعلم بقبح الظلم وحسن الصدق عند من يقول بكونهما عقليين وقولنا العملية احتراز عن العلم بكون الإجماع وخبر الواحد والقياس حجة فان كل ذلك أحكام شرعية مع أن العلم بها ليس من الفقه لأن العلم بها ليس علما بكيفية عمل وقولنا المستدل على أعيانها احتراز عما للمقلد من العلوم الكثيرة المتعلقة بالأحكام الشرعية العملية لأنه إذا علم أن المفتي أفتى بهذا الحكم وعلم أن ما أفتى به المفتي هو حكم الله تعالى في حقه فهذان العلمان يستلزمان العلم بأن حكم الله تعالى في حقه ذلك مع أن تلك العلوم لا تسمى فقها لما لم يكن مستدلا على أعيانها

وقولنا بحيث لا يعلم كونها من الدين ضرورة احتراز عن العلم بوجوب الصلاة والصوم فان ذلك لا يسمى فقها لأن العلم الضروري حاصل بكونهما من دين محمد صلى الله عليه وسلم وأما أصول الفقه فاعلم أن إضافة اسم المعنى تفيد اختصاص المضاف بالمضاف إليه في المعنى الذي عينت له لفظة المضاف يقال هذا مكتوب زيد والمفهوم ما ذكرناه وعند هذا نقول أصول الفقه عبارة عن مجموع طرق الفقه على سبيل الإجمال وكيفية الاستدلال بها وكيفية حال المستدل بها (ف) فقولنا مجموع احتراز عن الباب الواحد من أصول الفقه فإنه وان كان من أصول الفقه لكنه ليس أصول الفقه لأن بعض الشئ لا يكون نفس ذلك الشئ وقولنا طرق الفقه يتناول الأدلة والأمارات

وقولنا على طريق الإجمال أردنا به بيان كون تلك الأدلة أدلة ألا ترى أنا إنما نتكلم في أصول الفقه في بيان أن الإجماع دليل فأما أنه وجد الإجماع في هذه المسألة فذلك لا يذكر في أصول الفقه وقولنا وكيفية الاستدلال بها أردنا به الشرائط التي معها يصح الاستدلال بتلك الطرق وقولنا وكيفية حال المستدل بها أردنا به أن الطالب لحكم الله تعالى إن كان عاميا وجب أن يستفتي وان كان عالما وجب أن يجتهد فلا جرم وجب في أصول الفقه أن يبحث عن حال الفتوى والاجتهاد وأن كل مجتهد هل هو مصيب أم لا

الفصل الثاني فيما يحتاج إليه أصول الفقه من المقدمات

الفصل الثاني فيما يحتاج إليه أصول الفقه من المقدمات لما كان أصول الفقه عبارة عن مجموع طرق الفقه والطريق هو الذي يكون النظر الصحيح فيه مفضيا إما إلى العلم بالمدلول أو إلى الظن به والمدلول هنا هو الحكم الشرعي وجب علينا تعريف مفهومات هذه الألفاظ أعني العلم والظن والنظر والحكم الشرعي ثم ما كان منها بين الثبوت كان غنيا عن البرهان وما لم يكن كذلك وجب أن يحال بيانه على العلم الكلي الناظر في الوجود ولواحقه لأن مبادئ العلوم الجزئية لو برهن عليها فيها لزم الدور وهو محال

الفصل الثالث في تحديد العلم والظن

الفصل الثالث في تحديد العلم والظن هذا المقصود إنما يتحقق ببحثين الأول أن حكم الذهن بأمر على أمر إما أن يكون جازما أو لا يكون فإن كان جازما فإما أن يكون مطابقا للمحكوم عليه أو لا يكون فإن كان مطابقا فإما أن يكون لموجب أو لا يكون فإن كان لموجب فالموجب إما أن يكون حسيا أو عقليا أو مركبا منهما فإن كان حسيا فهو العلم الحاصل من الحواس الخمسة

ويقرب منه العلم بالأمور الوجدانية كاللذة والألم وإن كان عقليا فأما أن يكون الموجب مجرد تصور طرفي القضية أو لا بد من شئ آخر من القضايا فالأول هو البديهيات والثاني النظريات وأما إن كان الموجب مركبا من الحس والعقل فإما أن يكون من السمع والعقل وهو المتواترات أو من سائر الحواس والعقل وهو التجريبيات والحدسيات وأما الذي لا يكون لموجب فهو اعتقاد المقلد وأما الجازم غير المطابق فهو الجهل وأما الذي لا يكون جازما فالتردد بين الطرفين إن كان على السوية فهو الشك وإلا فالراجح ظن والمرجوح وهم الثاني أنه ليس يجب أن يكون كل تصور مكتسبا وإلا لزم الدور أو

التسلسل إما في موضوعا ت متناهية أو غير متناهية وهو يمنع حصول التصور أصلا بل لا بد من تصور غير مكتسب وأحق الأمور بذلك ما يجده العاقل من نفسه ويدرك التفرقة بينه وبين غيره بالضرورة ومنها القسم المسمى بالعلم لأن كل أحد يدرك بالضرورة ألمه ولذته ويدرك بالضرورة كونه عالما بهذه الأمور ولولا أن العلم بحقيقة العلم ضروري وإلا لامتنع أن يكون علمه بكونه عالما بهذه الأمور ضروريا لما أن التصديق موقوف على التصور وكذا القول في الظن ثم العبارة المحررة أن الظن تغليب لأحد مجوزين ظاهري التجويز وها هنا دقيقة وهي أن التغليب إما أن يكون في المعتقد أو في الاعتقاد أما الذي يكون في المعتقد فهو أن يكون الشئ ممكن الوجود والعدم إلا أن

أحد الطرفين به أولى كالغيم الرطب فإن نزول المطر منه وعدم نزوله ممكنان لكن النزول أولى وأما الذي يكون في الاعتقاد فهو أن يحصل اعتقاد الوقوع واعتقاد اللا وقوع كل واحد مع تجويز النقيض لكن اعتقاد الوقوع يكون أظهر عنده من اعتقاد اللاوقوع فظهر أن اعتقاد رجحان الوقوع مغاير لرجحان اعتقاد اللاوقوع فهذا الثاني هو الظن فان كان مطابقا للمظنون كان ظنا صادقا وإلا كان ظنا كاذبا وأما الأول وهو اعتقاد رجحان الوقوع فإن كان مطابقا للمعتقد كان علما أو تقليدا على التفصيل المتقدم وإلا كان جهلا والله أعلم

الفصل الرابع في النظر والدليل والأمارة

الفصل الرابع في النظر والدليل والأمارة أما النظر فهو ترتيب تصديقات في الذهن ليتوصل بها إلى تصديقات أخر والمراد من التصديق اسناد الذهن أمرا إلى أمر بالنفي أو بالاثبات اسنادا جازما أو ظاهرا ثم تلك التصديقات التي هي الوسائل إن كانت مطابقة لمتعلقاتها لو فهو النظر الصحيح وإلا فهو النظر الفاسد ثم تلك التصديقات المطابقة إما أن تكون بأسرها علوما فيكون اللازم عنها أيضا علما وإما أن تكون بأسرها ظنونا فيكون اللازم عنها أيضا ظنا وإما أن يكون بعضها ظنونا وبعضها علوما فيكون اللازم عنها أيضا ظنا لأن حصول النتيجة موقوف على حصول جميع المقدمات فإذا كان بعضها ظنا كانت النتيجة موقوفة على الظن والموقوف على الظن ظن فالنتيجة ظنية لا محالة

وأما الدليل فهو الذي يمكن أن يتوصل بصحيح النظر فيه إلى العلم وأما الأمارة فهي التي يمكن أن يتوصل بصحيح النظر فيها إلى الظن

الفصل الخامس في الحكم الشرعي

الفصل الخامس في الحكم الشرعي قال أصحابنا إنه الخطاب المتعلق بأفعال المكلفين بالإقتضاء أو التخيير أما الإقتضاء فإنه يتناول اقتضاء الوجود واقتضاء العدم إما مع الجزم أو مع جواز الترك فيتناول الواجب والمحظور والمندوب والمكروه وأما التخيير فهو الإباحة فإن قيل هذا التعريف فاسد من أربعة أوجه أحدهما أن حكم الله تعالى على هذا التقدير خطابه وخطاب

الله تعالى كلامه وكلامه عندكم قديم فيلزم أن يكون حكم الله تعالى بالحل والحرمة قديما وهذا باطل من ثلاثة أوجه الأول أن حل الوطء في المنكوحة وحرمته في الأجنبية صفة فعل العبد ولهذا يقال هذا الوطء حلال أو حرام وفعل العبد محدث وصفة المحدث لا تكون قديمة الثاني انه يقال هذه المرأة حلت لزيد بعدما لم تكن كذلك وهذا مشعر بحدوث هذه الأحكام الثالث أنا نقول المقتضى لحل الوطء هو النكاح أو ملك اليمين وما كان معللا بأمر حادث يستحيل أن يكون قديما فثبت أن الحكم يمتنع أن يكون قديما والخطاب قديم فالحكم لا يكون عين الخطاب وثانيهما أن بعض الأحكام خارج عن هذا الحد وهو كون الشئ سببا وشرطا ومانعا وصحيحا وفاسدا وثالثهما أن الحكم الشرعي قد يوجد في غير المكلف وذلك كجعل إتلاف

الصبي سببا لوجوب الضمان وجعل الدلوك سببا لوجوب الصلاة ورابعها أنك أدخلت كلمة أو في الحد وهو غير جائز لأنها للترديد والحد للإيضاح وبينهما مباينة والجواب قوله الحل والحرمة من صفات الأفعال قلنا لا نسلم فإن عندنا لا معنى لكون الفعل حلالا إلا مجرد كونه مقولا فيه رفعت الحرج عن فاعله ولا معنى لكونه حراما إلا كونه مقولا فيه لو فعلته لعاقبتك فحكم الله تعالى هو قوله والفعل متعلق القول وليس لمتعلق القول من القول صفة وإلا لحصل للمعدوم صفة ثبوتية بكونه مذكورا ومخبرا عنه ومسمى بالاسم المخصوص قوله إنا نقول هذه المرأة حلت لزيد بعدما لم تكن كذلك قلنا حكم الله تعالى هو قوله في الأزل أذنت للرجل الفلاني حين وجوده في كذا فحكمه قديم ومتعلق حكمه محدث

قوله الحكم يعلل بالأسباب قلنا المراد من السبب عندنا المعرف لا الموجب قوله هذا التحديد يخرج عنه كون الشئ سببا وشرطا ومانعا وصحيحا وفاسدا قلنا المراد من كون الدلوك سببا أنا متى شاهدنا الدلوك علمنا أن الله تعالى أمرنا بالصلاة فلا معنى لهذه السببية إلا الإيجاب وإذا قلنا هذا العقد صحيح لم نعن به إلا أن الشرع إذن له في الانتفاع به ولا معنى لذلك إلا الإباحة قوله هذا التحديد يخرج عنه إتلاف الصبي ودلوك الشمس قلنا معنى قولنا إتلاف الصبي سبب لوجوب الضمان أن الولي مكلف بإخراج الضمان من ماله والرجل مكلف ب أداء الصلاة عند الدلوك قوله كلمة أو للترديد قلنا مرادنا أن كل ما وقع على أحد هذه الوجوه كان حكما وإلا فلا

الفصل السادس في تقسيم الأحكام الشرعية

الفصل السادس في تقسيم الأحكام الشرعية التقسيم الأول وهو من وجوه خطاب الله تعالى إذا تعلق بشئ فإما أن يكون طلبا جازما أو لا يكون كذلك فإن كان جازما فإما أن يكون طلب الفعل وهو الإيجاب أو طلب الترك وهو التحريم وإن كان غير جازم فالطرفان إما أن يكونا على السوية وهو الإباحة وإما أن يترجح جانب الوجود وهو الندب أو جانب العدم وهو الكراهة فأقسام الأحكام الشرعية هي هذه الخمسة وقد ظهر بهذا التقسيم ماهية كل واحد منها

فلنذكر الآن حدودها وأقسامها

أما الواجب فالذي اختاره القاضي أبو بكر أنه ما يذم تاركه شرعا على بعض الوجوه وقولنا يذم تاركه خير من قولنا يعاقب تاركه لأن الله تعالى قد

يعفو عن العقاب ولا يقدح ذلك في وجوب الفعل ومن قولنا يتوعد بالعقاب على تركه لأن الخلف في خبر الله تعالى محال فكان ينبغي أن لا يوجد العفو ومن قولنا ما يخاف العقاب على تركه لأن الذي يشك في وجوبه وحرمته قد يخاف من العقاب على تركه مع أنه غير واجب وقولنا شرعا إشارة إلى ما نذهب إليه من أن هذه الأحكام لا تثبت إلا بالشرع وقولنا على بعض الوجوه ذكرناه ليدخل في الحد الواجب المخير لأنه يلام على تركه إذا تركه وترك معه بدله أيضا والواجب الموسع لأنه يلام على تركه إذا تركه في كل الوقت والواجب على الكفاية لأنه يلام على تركه إذا تركه الكل فإن قيل هذا الحد يدخل فيه السنة فإن الفقهاء قالوا لو أن أهل محلة اتفقوا على ترك سنة الفجر بالإصرار فإنهم يحاربون بالسلاح قلت سيأتي جوابه إن شاء الله تعالى.

وأما الاسم فاعلم أنه لا فرق عندنا بين الواجب والفرض والحنفية خصصوا اسم الفرض بما عرف وجوبه بدليل قاطع والواجب بما عرف وجوبه بدليل مظنون قال أبو زيد رحمه الله الفرض عبارة عن التقدير قال الله تعالى فنصف ما فرضتم أي قدرتم وأما الوجوب فهو عبارة عن السقوط قال الله تعالى فإذا وجبت جنوبها أي سقطت إذا ثبت هذا فنحن خصصنا اسم الفرض بما عرف وجوبه بدليل قاطع لأنه هو الذي يعلم من حاله أن الله تعالى قدره علينا وهذا الفرق ضعيف لأن الفرض هو المقدر لا انه الذي ثبت كونه مقدرا علما أو ظنا كما أن الواجب هو الساقط لا انه الذي ثبت كونه ساقطا علما أو

ظنا وإذا كان كذلك كان تخصيص كل واحد من هذين اللفظين بأحد القسمين تحكما محضا

وأما المحظور فهو الذي يذم فاعله شرعا وأسماؤه كثيرة أحدها أنه معصية واطلاق ذلك في العرف يفيد أنه فعل ما نهى الله تعالى عنه وقالت المعتزلة إنه الفعل الذي كرهه الله تعالى والكلام فيه مبني على مسألة خلق الأعمال وارادة الكائنات وثانيهما أنه محرم وهو قريب من المحظور وثالثهما أنه ذنب وهو المنهي عنه الذي تتوقع عليه العقوبة والمؤاخذة ولذلك لا توصف أفعال البهائم والأطفال بذلك وربما يوصف فعل المراهق به لما يلحقه من التأديب على فعله

ورابعها أنه مزجور عنه ومتوعد عليه ويفيد في العرف أن الله تعالى هو المتوعد عليه والزاجر عنه وخامسها أنه قبيح وسيأتي الكلام فيه إنشاء الله تعالى وأما المباح فهو الذي أعلم فاعله أو دل على أنه لا ضرر في فعله وتركه ولا نفع في الآخرة وأما الأسماء فالمباح يقال له إنه حلال طلق وقد يوصف الفعل بأن الإقدام عليه مباح وإن كان تركه محظورا كوصفنا دم المرتد بأنه مباح ومعناه أنه لا ضرر على من أراقه وإن كان الإمام ملوما بترك إراقته وأما المندوب فهو الذي يكون فعله راجحا على تركه في نظر الشرع ويكون تركه جائزا وإنما ذم الفقهاء من عدل عن جميع النوافل لاستدلالهم بذلك على استهانته بالطاعة وزهده فيها فإن النفوس تستنقص من هذا دأبه وعادته

وقولنا في نظر الشرع احتراز عن الأكل قبل ورود الشرع فإن فعله خير من تركه لما فيه من اللذة لكن ذلك الرجحان لما لم يكن مستفادا من الشرع فلا جرم انه لا يسمى مندوبا وأما الأسماء فأحدها أنها مرغب فيه لما أنه قد بعث المكلف على فعله بالثواب وثانيها أنه مستحب ومعناه في العرف أن الله تعالى قد أحبه وثالثها أنه نفل ومعناه أنه طاعة غير واجبة وأن للإنسان أن يفعله من غير حتم ورابعها أنه تطوع ومعناه أن المكلف انقاد لله تعالى فيه مع أنه قربة من غير حتم وخامسها أنه سنة ويفيد في العرف أنه طاعة غير واجبة ولفظ السنة مختص في العرف بالمندوب بدليل أنه يقال هذا الفعل واجب أو سنة ومنهم من قال لفظ السنة لا يختص بالمندوب بل يتناول كل ما علم وجوبه أو ندبيته بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو بإدامته فعله لأن السنة مأخوذة من

الإدامة ولذلك يقال الختان من السنة ولا يراد به أنه غير واجب وسادسها أنه إحسان وذلك إذا كان نفعا موصلا إلى الغير مع القصد إلى نفعه وأما المكروه فيقال بالاشتراك على أمور ثلاثة أحدها ما نهي عنه نهي تنزيه وهو الذي أشعر فاعله بأن تركه خير من فعله وإن لم يكن على فعله عقاب وثانيها المحظور وكثيرا ما يقول الشافعي رحمه الله أكره كذا وهو يريد به التحريم وثالثها ترك الأولى كترك صلاة الضحى ويسمى ذلك مكروها لا لنهي ورد عن الترك بل لكثرة الفضل في فعلها والله أعلم

التقسيم الثاني في انقسام الفعل إلى حسن وقبيح

التقسيم الثاني الفعل إما أن يكون حسنا أو قبيحا وتحقيق القول فيه أن الإنسان إما أن يصدر عنه فعله وليس هو على حالة التكليف وإما أن يصدر عنه الفعل وهو على حالة التكليف والأول كفعل النائم والساهي والمجنون والطفل فهذه الأفعال لا يتوجه نحو فاعليها ذم ولا مدح وإن كان قد يتعلق بها وجوب ضمان وأرش في مالهم ويجب اخراجه على وليهم والثاني ضربان لأن القادر عليه المتمكن من العلم بحاله إن كان له فعله فهو الحسن وإن لم يكن فهو القبيح ثم قال أبو الحسين البصري رحمه الله القبيح هو الذي ليس للمتمكن منه ومن العلم بقبحه أن يفعله ومعنى قولنا ليس له أن يفعله

معقول لا يحتاج إلى تفسير ويتبع ذلك أن يستحق الذم بفعله ويحد أيضا بأنه الذي على صفة لها تأثير في استحقاق الذم وأما الحسن فهو ما للقادر عليه المتمكن من العلم بحاله إن يفعله وأيضا ما لم يكن على صفة تؤثر في استحقاق الذم وأقول هذه الحدود غير وافية بالكشف عن المقصود أما الأول فنقول ما الذي أردت بقولك ليس له أن يفعله فإنه يقال للعاجز عن الفعل ليس له أن يفعله ويقال للقادر على الفعل إذا كان ممنوعا عنه حسا ليس له أن يفعله ويقال للقادر إذا كان شديد النفرة عن الفعل ليس له أن يفعله وقد يقال للقادر إذا زجره الشرع عن الفعل إنه ليس له أن يفعله والتفسيران الأولان غير مرادين لا محالة والثالث غير مراد أيضا لأن الفعل قد يكون حسنا مع قيام النفرة الطبيعية عنه وبالعكس والرابع أيضا غير مراد لأنه يصير القبيح مفسرا بالمنع الشرعي فإن قلت المراد منه القدر المشترك بين هذه الصور الأربع من مسمى المنع

قلت لا نسلم أن هذه الصور الأربع تشترك في مفهوم واحد وذلك لأن المفهوم الأول معناه أنه لا قدرة له على الفعل وهذا إشارة إلى العدم والمفهوم الرابع معناه أنه يعاقب عليه وهذا إشارة إلى الوجود ونحن لا نجد بينهما قدرا مشتركا وأما قوله ويتبع ذلك أن يستحق الذم بفعله قلنا لما فسرت القبيح بأنه الذي يستحق الذم بفعله وجب تفسير الاستحقاق والذم فأما الاستحقاق فقد يقال الأثر يستحق المؤثر على معنى أنه يفتقر إليه لذاته ويقال المالك يستحق الانتفاع بملكه على معنى أنه يحسن منه ذلك الانتفاع والأول ظاهر الفساد والثاني يقتضي تفسير الاستحقاق بالحسن مع أنه فسر الحسن بالاستحقاق حيث قال الحسن هو الذي لا يستحق فاعله الذم فيلزم الدور وإن أراد بالاستحقاق معنى ثالثا فلا بد من بيانه وأما الذم فقد قالوا إنه قول أو فعل أو ترك قول أو

ترك فعل ينبئ عن اتضاع حال الغير فنقول إن عنيت بالإتضاع يكون ما ينفر عنه طبع الإنسان ولا يلائمه فهذا معقول لكن يلزم عليه أن لا يتحقق الحسن والقبح في حق الله تعالى لما أن النفرة الطبيعية عليه ممتنعة وإن عنيت به أمرا آخر فلا بد من بيانه وأعلم أن هذه الاشكالات غير واردة على قولنا لأنا نعني بالقبيح المنهي عنه شرعا وبالحسن ما لا يكون منهيا عنه شرعا وتندرج فيه أفعال الله تعالى وأفعال المكلفين من الواجبات والمندوبات والمباحات وأفعال الساهي والنائم والبهائم وهو أولى من قول من قال الحسن ما كان مأذونا فيه شرعا لأنه يلزم عليه أن لا تكون أفعال الله تعالى حسنة ولو قلت الحسن هو الذي يصح من فاعله أن يعلم أنه غير ممنع عنه شرعا خرج عنه فعل النائم والساهي والبهيمة ويدخل فيه فعل الله تعالى لأن وجوب ذلك العلم

التقسيم الثالث في خطاب الوضع وأقسامة

لا ينافي صحته وبالله التوفيق التقسيم الثالث قالوا خطاب الله تعالى كما قد يرد بالاقتضاء أو التخيير فقد يرد أيضا بجعل الشئ سببا وشرطا ومانعا فلله تعالى

في الزاني حكمان أحدهما وجوب الحد عليه والثاني جعل الزنا سببا لوجوب الحد لأن الزنا لا يوجب الحد بعينه وبذاته بل بجعل الشارع إياه سببا ولقائل أن يقول إن كان المراد من جعل الزنا سببا لوجوب الحد هو أنه قال متى رأيت انسانا يزني فاعلم أني أوجبت عليه الحد فهو حق ولكن يرجع حاصله إلى كون الزنا معرفا بحصول الحكم وإن كان المراد أن الشرع جعل الزنى مؤثرا في هذا الحكم فهذا باطل لثلاثة أوجه الأول أن حكم الله تعالى كلامه وكلامه قديم والقديم لا يعلل بالمحدث

الثاني أن الشرع لما جعل الزنا مؤثرا في وجوب هذا الحد فبعد هذا الجعل إما أن تبقى حقيقة الزنا كما كانت قبل هذا الجعل أو لا تبقى فإن بقيت كما كانت وحقيقته قبل هذا الجعل ما كانت مؤثرة فبعد هذا الجعل وجب أن لا تصير مؤثرة وإن لم تبق تلك الحقيقة كان هذا إعداما لتلك الحقيقة والشئ بعد عدمه يستحيل أن يكون موجبا الثالث الشرع إذا جعل الزنا علة فإن لم يصدر عنه عند ذلك الجعل أمر ألبتة استحال أن يقال إنه جعله علة للحد لأن ذلك كذب والكذب على الشرع محال وإن صدر عنه أمر فذلك الأمر إما أن يكون هو الحكم أو ما يوجب الحكم أولا الحكم ولا ما يوجبه فإن كان الأول كان المؤثر في ذلك الحكم هو الشرع مع لا ذلك السبب وإن كان الثاني كان المؤثر في ذلك الحكم وصفا حقيقيا وهذا هو قول المعتزلة في الحسن والقبح وسنبطله إن شاء الله تعالى وإن كان الثالث فهو محال لأن الشارع لما أثر في شئ غير الحكم وغير مستلزم للحكم لم يكن لذلك الشئ تعلق بالحكم أصلا

التقسيم الرابع في الحكم بالصحة والبطلان

التقسيم الرابع الحكم قد يكون حكما بالصحة وقد يكون حكما بالبطلان والصحة قد تطلق في العبادات تارة وفي العقود أخرى أما في العبادات فالمتكلمون يريدون بصحتها كونها موافقة للشريعة سواء وجب القضاء أو لم يجب والفقهاء يريدون بها ما أسقط القضاء فصلاة من ظن أنه متطهر صحيحة في عرف المتكلمين لأنها موافقة للأمر المتوجه عليه والقضاء وجب بأمر متجدد وفاسدة عنه الفقهاء لأنها لا تسقط القضاء وأما في العقود فالمراد من كون البيع صحيحا ترتب أثره عليه وأما الفاسد فهو مرادف للباطل عند أصحابنا والحنفية جعلوه قسما متوسطا بين الصحيح والباطل وزعموا أنه الذي يكون منعقدا بأصله ولا يكون مشروعا بسبب وصفه كعقد الربا فإنه مشروع من حيث إنه بيع وممنوع من حيث إنه يشتمل على الزيادة

والكلام في هذه المسألة مذكور في الخلافيات ولو ثبت هذا القسم لم نناقشهم سعيد في تخصيص اسم الفاسد به ويقرب من هذا الباب البحث عن قولنا في العبادات إنها مجزية أم لا وأعلم أن الفعل إنما يوصف بكونه مجزيا إذا كان بحيث يمكن وقوعه بحيث يترتب عليه حكمه ويمكن وقوعه بحيث لا يترتب عليه حكمه كالصلاة والصوم والحج أما الذي لا يقع إلا على وجه واحد كمعرفة الله تعالى ورد الوديعة فلا يقال فيه إنه مجزئ أو غير مجزئ إذا عرفت هذه فنقول معنى كون الفعل مجزيا أن الإتيان به كاف في سقوط التعبد به وإنما يكون كذلك لو أتى المكلف به مستجمعا لجميع الأمور المعتبرة فيه من حيث وقع التعبد به ومنهم من فسر الإجزاء ب سقوط القضاء وهو باطل لأنه لو أتى بالفعل عند اختلال بعض شرائطه ثم مات لم يكن الفعل مجزيا مع سقوط القضاء

ولأن القضاء إنما يجب بأمر متجدد على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى ولأنا نعلل وجوب القضاء بأن الفعل الأول لم يكن مجزيا فوجب قضاؤه والعلة مغايرة للمعلول

التقسيم الخامس في وصف العبادة بالقضاء والأداء والإعادة

التقسيم الخامس العبادة توصف بالقضاء والأداء والإعادة فالواجب إذا أدي في وقته سمي أداء وإذا أدي بعد خروج وقته المضيق أو الموسع سمي قضاء وإن فعل مرة على نوع من الخلل ثم فعل ثانيا في وقته المضروب له سمي إعادة فالإعادة اسم لمثل ما فعل على ضرب من الخلل والقضاء اسم لفعل مثل ما فات وقته المحدود ثم ها هنا بحثان الأول لو غلب على ظنه في الواجب الموسع أنه لو لم يشتغل به لمات فها هنا لو أخر عصى فلو أخر وعاش ثم اشتغل به قال القاضي أبو بكر هذا قضاء لأنه تعين وقته بسبب غلبة الظن وما أوقعه فيه وقال الغزالي رحمه الله هذا أداء لأنه لما انكشف خلاف ما ظن زال حكمه فصار كما لو علم أنه يعيش

الثاني الفعل لا يسمى قضاء إلا إذا وجد سبب وجوب الأداء مع أنه لم يوجد الأداء ثم القضاء على قسمين أحدهما ما وجب الأداء فتركه وأتى بمثله خارج الوقت فكان قضاء وهو كمن ترك الصلاة عمدا في وقتها ثم أداها خارج الوقت وثانيهما ما لا يجب الأداء وهو أيضا قسمان أحدهما أن يكون المكلف بحيث لا يصح منه الأداء والثاني أن يصح منه ذلك أما الذي لا يصح منه الأداء فإما أن يمتنع ذلك عقلا كالنائم والمغمى عليه فإنه يمتنع عقلا صدور فعل الصلاة منه وإما أن يمتنع ذلك منه شرعا كالحائض فإنه لا يصح منها فعل الصوم لكن لما وجد في حقها سبب الوجوب وإن لم يوجد الوجوب سمي الإتيان بذلك الفعل خارج الوقت قضاء وأما الذي يصح ذلك الفعل منه إن لم يجب عليه الفعل فالمقتضى لسقوط الوجوب قد يكون من جهته كالمسافر فإن السفر منه وقد أسقط وجوب الصوم وقد يكون من الله تعالى كالمريض فإن المرض من الله وقد أسقط وجوب الصوم

ففي جميع هذه المواضع اسم القضاء إنما جاء لأنه وجد سبب الوجوب منفكا عن الوجوب لا لأنه وجد وجوب الفعل كما يقوله بعض من لا يعرف من الفقهاء لأن المنع من الترك جزء ماهية الوجوب فيستحيل تحقق الوجوب مع جواز الترك

التقسيم السادس في وصف الفعل بالعزيمة والرخصة

التقسيم السادس الفعل الذي يجوز للمكلف الإتيان به إما أن يكون عزيمة أو رخصة وذلك لأن ما جاز فعله إما أن يجوز مع قيام المقتضى للمنع أو لا يكون كذلك فالأول الرخصة والثاني العزيمة فما أباحه الله تعالى في الأصل من الأكل والشرب لا يسمى رخصة ويسمى تناول الميتة رخصة وسقوط رمضان عن المسافر رخصة ثم الذي يجوز فعله مع قيام المقتضى للمنع قد يكون واجبا كأكل الميتة والافطار عند خوف الهلاك من الجوع وقد لا يكون واجبا كالافطار والقصر في السفر وقول كلمة الكفر عند الإكراه ولما تكلمنا في الحكم الشرعي وأقسامه فلنبين أنه ثابت بالعقل أو بالشرع

الفصل السابع في أن حسن الأشياء وقبحها لا يثبت إلا بالشرع

الفصل السابع في أن حسن الأشياء وقبحها لا يثبت إلا بالشرع الحسن والقبح قد يعنى بهما كون الشئ ملائما للطبع أو منافرا وبهذا التفسير لا نزاع في كونهما عقليين وقد يراد بهما كون الشئ صفة كمال أو صفة نقص كقولنا العلم حسن والجهل قبيح ولا نزاع أيضا في كونهما عقليين بهذا التفسير وإنما النزاع في كون الفعل متعلق الذم عاجلا وعقابه آجلا فعندنا أن

ذلك لا يثبت إلا بالشرع وعند المعتزلة ليس ذلك إلا لكون الفعل واقعا على وجه مخصوص لأجله يستحق فاعله الذم قالوا وذلك الوجه قد يستقل العقل بإدراكه وقد لا يستقل أما الذي يستقل فقد يعلمه العقل ضرورة كالعلم بحسن الصدق النافع وقبح الكذب الضار وقد يعلمه نظرا كالعلم بحسن الصدق الضار وقبح الكذب النافع والذي لا يستقل العقل بمعرفته فكحسن صوم آخر يوم من رمضان وقبح صوم الذي بعده فإن العقل لا طريق له إلى العلم بذلك لكن الشرع لما ورده به علمنا أنه لولا اختصاص كل واحد منهما بما لأجله حسن وقبح وإلا لامتنع ورود الشرع به لنا أن دخول هذه القبائح في الوجود إما أن يكون على سبيل الاضطرار أو على سبيل الاتفاق وعلى التقديرين فالقول بالقبح العقلي باطل بيان الأول أن فاعل القبيح إما أن يكون متمكنا من الترك أولا يكون فإن لم

يتمكن من الترك فقد ثبت الاضطرار وإن تمكن من الترك فإما أن يتوقف رجحان الفاعلية على التاركية على مرجح أو لا يتوقف فإن توقف فذلك المرجح إما أن يكون من العبد أو من غيره أو لا منه ولا من غيره أما القسم الأول وهو أن يكون من العبد فهو محال لأن الكلام فيه كما في الأول فيلزم التسلسل وأما القسم الثاني وهو أن يكون من غير العبد فنقول عند حصوله ذلك المرجح إما أن يجب وقوع الأثر أو لا يجب فإن وجب فقد ثبت الاضطرار لأن قبل وجود هذا المرجح كان الفعل ممتنع الوقوع وعند وجوده صار واجب الوقوع وليس وقوع هذا المرجح بالعبد ألبتة فلم يكن للعبد تمكن في شئ من الأحوال من الفعل والترك ولا معنى للاضطرار إلا ذلك وإن لم يجب فعند حصول هذا المرجح لا يمتنع وجود الفعل تارة وعدمه أخرى فترجح جانب الوجود على جانب العدم أما أن يتوقف على انضمام مرجح إليه أو لا يتوقف فإن توقف لم يكن الحاصل قبل ذلك مرجحا تاما وكنا قد فرضناه مرجحا تاما هذا خلف وأيضا فالكلام في هذه الضميمة كما في الأول فيلزم التسلسل وهو محال وأما إن لم يتوقف على انضمام قيد الية بكر فمع ذلك المرجح تارة يوجد الأثر وتارة لا يوجد ولم يكن رجحان جانب الوجود على جانب العدم موقوفا على

قصد من جهته ولا على ترجيح ألبتة وإلا لعاد إلى القسم الأول وقد أبطلناه فحينئذ يكون دخول الفعل في الوجود اتفاقيا لا اختياريا فقد ثبت الاتفاق وأما القسم الثالث وهو أن يكون حصول ذلك المرجح لا من العبد ولا من غيره فحينئذ يكون واقعا لا لمؤثر فيكون حصوله اتفاقيا لا اختياريا وأما لو قلنا إن المتمكن من الفعل متمكن من الترك لكن لا يتوقف رجحان الفاعلية على التاركية على مرجح فعلى هذا التقدير يكون رجحان الفاعلية على التاركية اتفاقيا أيضا لأن تلك القادرية لما كانت نسبتها إلى الأمرين على السوية ثم حصلت الفاعلية في أحد الوقتين دون التاركية من غير مرجح ألبتة كان رجحان الفاعلية منه على التاركية اتفاقيا فإن قلت لم لا يجوز أن يقال القادر يرجح الفاعلية على التاركية من غير مرجح قلت هل لقولك يرجح مفهوم زائد على كونه قادرا أو ليس له مفهوم زائد عليه فإن كان ذلك مفهوما زائدا على كونه قادرا كان ذلك قولا بأن رجحان الفاعلية على التاركية لا يمكن إلا عند انضمام قيد آخر إلى القادرية فيصير هذا هو القسم الأول الذي تكلمنا فيه

وإن لم يكن ذلك مفهوما زائدا لم يبق لقولكم القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر من غير مرجح إلا أن صفة القادرية مستمرة في الأزمان كلها ثم إنه يوجد الأثر في بعض تلك الأزمنة دون بعض من غير أن يكون ذلك القادر قد رجحه أو قصد ايقاعه ولا معنى للاتفاق إلا ذلك فثبت بهذا البرهان القاطع أن دخول هذه القبائح في الوجود إما أن يكون على سبيل الاضطرار أو على سبيل الاتفاق وإذا ثبت ذلك امتنع القول القبع العقلي بالإتفاق أما على قولنا فظاهر وأما عند الخصم فلأنه لا يجوز ورود التكليف بذلك فضلا عن أن يقال إن حسنه معلوم بضرورة العقل فثبت بما ذكرنا أن القول ب القبح العقلي باطل أما الخصم فقد ادعى العلم الضروري بقبح الظلم والكذب والجهل وبحسن الانصاف والصدق والعلم

ثم قالوا هذا العلم غير مستفاد من الشرع لأن البراهمة مع انكارهم الشرائع عالمون بهذه الأشياء ثم زعموا بعد ذلك أن المقتضي لقبح الظلم مثلا هو كونه ظلما لأنا عند العلم بكونه ظلما نعلم قبحه وإن لم نعلم شيئا آخر وعند الغفلة عن كونه ظلما لا نعلم قبحه وإن علمنا سائر الأشياء فثبت أن المقتضي لقبحه ليس إلا هذا الوجه ومنهم من حاول الاستدلال بأمور أحدها أن الفعل الذي حكم فيه بالوجوب مثلا لم يختص بما لأجله استحق ثبوت ذلك الحكم وإلا كان تخصيصه بالوجوب دون سائر الأحكام ودون سائر الأفعال ترجيحا لأحد طرفي الجائز على الآخر لا لمرجح وثانيها أنه لو لم يكن الحسن والقبح إلا بالشرع لحسن من الله تعالى كل شئ ولو حسن منه كل شئ لحسن منه إظهار المعجزة على

يد الكاذب ولو حسن منه ذلك لما أمكننا أن نميز بين النبي والمتنبئ قد وذلك يفضي إلى بطلان الشرائع وثالثها لو حسن من الله تعالى كل شئ لما قبح منه الكذب وعلى هذا فلا يبقى اعتماد على وعده ووعيده فإن قلت الكلام الأزلي يستحيل أن يكون كذبا قلت هب أن الأمر كذلك لكن لم لا يجوز أن تكون هذه الكلمات التي نسمعها مخالفة لما عليه الشئ في نفسه وحينئذ يعود الإشكال ورابعها أن العاقل إذا قيل له إن صدقت أعطيناك دينارا وإن كذبت أعطيناك أيضا دينارا واستوى عنده الصدق والكذب في جميع الأمور إلا في كونه صدقا وكذبا فإنا نعلم بالضرورة أن العاقل يختار الصدق ولولا أن الصدق لكونه صدقا حسن وإلا لما كان كذلك وخامسها أن الحسن والقبح لو لم يكونا معلومين قبل الشرع لاستحال أن يعلما عند ورود الشرع بهما لأنهما إذا لم يكونا معلومين قبل ذلك فعند ورود الشرع بهما يكون واردا بما لا يعقله السامع ولا يتصوره وذلك محال فوجب أن يكونا معلومين قبل ورود الشرع

والجواب عن دعوى الضرورة أنها مسلمة ولكن لا في محل النزاع فإن كل ما كان ملائما للطبع حكموا بحسنه وما كان منافرا للطبع حكموا بقبحه فهذا القدر مسلم فإن ادعيتم أمرا زائدا عليه فلا بد من افادة تصوره ثم اقامة الدلالة على التصديق به فإن كل ذلك غير مساعد عليه فضلا عن ادعاء العلم الضروري فيه فإن قلت الظلم ملائم لطبع الظالم ومع ذلك فإنه يجد في صريح العقل قبحه ولأن من خاطب الجماد بالأمر والنهي فإنه لا ينفر طبعه عنه مع أن قبحه معلوم بالضرورة ولأن من أنشأنا قصيدة غراء في شتم الملائكة والأنبياء وكتبها بخط حسن وقرأها بصوت طيب حزين فإنه يميل الطبع إليه وينفر العقل عنه فعلمنا أن نفرة العقل مغايرة لنفرة الطبع قلت الجواب عن الأول أن الظالم لا يميل طبعه إلى الظلم لأنه لو حكم بحسنه لما قدر على دفع الظلم عن نفسه فالنفرة وفي عن الظلم متمكنة في طبع الظالم والمظلوم إلا أنه إنما رغب فيه لعارض يختص به وهو أخذ المال منه والحكم بحسن الإحسان إنما كان لأن الحكم بحسنه قد يفضي إلى وقوعه وهو ملائم لطبع كل أحد

والحكم بقبح الكذب إنما كان لكونه على خلاف مصلحة العالم وبحسن الصدق لكونه على وفق مصلحة العالم وبحسن انقاذ الغريق لأنه يتضمن حسن الذكر وإن لم يوجد ذلك فلأن من شاهد شخصا من أبناء جنسه في الألم تألم قلبه فإنقاذه منه يستلزم دفع ذلك الألم عن القلب وذلك مما يميل إليه الطبع وأما مخاطبة الجماد فلا نسلم أن استقباحها يجري مجرى استقباح الظلم والقدر الذي فيه من الاستقباح إنما كان لاتفاق أهل العلم على أن الإنسان لا يجب أن يشتغل إلا بما يفيده فائدة إما عاجلة وإما آجلة وأما القصيدة المشتملة على الشتم فإنما تستقبح لإفضائها إلى مقابلة أرباب الفضائل بالشتم والاستخفاف وهو على مضادة مصلحة العالم فظهر أن المرجع في هذه الأشياء إلى ملائمة الطبع ومنافرته ونحن قد ساعدنا على أن الحسن والقبح بهذا المعنى معلوم بالعقل والنزاع في غيره سلمنا تحقق الحسن والقبح لكن لا نسلم أن المقتضي لقبح

الظلم هو كونه ظلما ولم لا يجوز أن يكون المقتضى لقبحه أمرا آخر قوله العلم بالقبح دائر مع العلم بكونه ظلما وجودا وعدما قلنا لم قلت إن الدوران العقلي دليل العلية عليه وما الدليل عليه ثم إنه منقوض بالمضافين كل فإن العلم بكل واحد من المضافين دائر مع العلم بالآخر وجودا وعدما مع أنه يمتنع كون أحدهما علة للآخر وتمام تقرير هذا السؤال سيأتي إن شاء الله في كتاب القياس سلمنا أن الدليل الذي ذكرتموه يقتضي أن يكون قبح الظلم لكونه ظلما لكن معنا ما يدل على فساده وهو أن المفهوم من الظلم اضرار غير مستحق وكونه غير مستحق قيد عدمي والقيد العدمي لا يصلح أن

يكون علة للحكم الثابت ولا أن يكون جزءا للعلة إذ لو جاز استناد الأمر الثبوتي إلى الأمر العدمي لجاز استناد خلق العالم إلى مؤثر عدمي وحينئذ ينسد علينا باب معرفة كون الله تعالى موجدا لأن العدم نفي محض فيستحيل أن يكون مؤثرا فإن قلت لم لا يجوز أن يكون العدم شرطا لتأثير العلة في المعلول قلت لأنه إذا فقد هذا العدم لم تكن العلة مؤثرة في المعلول وعند وجوده تصير مؤثرة فيه فكون العلة بحيث تستلزم المعلول وتستعقبه أمر حدث مع حدوث هذا العدم وليس له سبب آخر سواه فوجب تعليله به فيعود الأمر إلى تعليل الأمر الثبوتي بالأمر العدمي وهو محال وأما الجواب عما احتجوا به أولا

فهو أن رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر إن افتقر إلى المرجح توقف رجحان فاعلية العبد على تاركيته على مرجح غير صادر من جهته وإلا وقع التسلسل ويكون رجحان الفاعلية على التاركية عند حصول ذلك المرجح واجبا وإلا لزم الرجحان لا لمرجح وإذا كان كذلك لزم الجبر ويلزم من لزوم الجبر القطع ببطلان القبح العقلي وإن لم يفتقر الرجحان إلى المرجح أصلا فقد اندفعت هذه الشبهة بالكلية والجواب عما احتجوا به ثانيا أن الاستدلال بالمعجزة على الصدق مبني على مقامين أحدهما أن الله تعالى إنما خلق ذلك المعجز لأجل التصديق والثاني أن كل من صدقه الله تعالى فهو صادق والقول بالحسن والقبح إنما ينفع في المقام الثاني لا في المقام الأول فلم قلتم إن الله تعالى ما خلق هذا الفعل إلا لغرض التصديق وتحقيقه أن لو توقف الرجحان على المرجح لزم الجبر وإذا لزم الجبر

لزم بطلان القبح العقلي ولو لم يتوقف على المرجح لجاز أن يقال أن الله تعالى خلق ذلك المعجز لا لغرض أصلا ثم إن كان ذلك لغرض فلم قلتم إنه لا غرض سوى التصديق فإن قلت القول بالقبح العقلي يمنع من خلق المعجز على يد الكاذب مطلقا لأن خلقه عند الدعوى يوهم أن المقصود منه التصديق فلو كان المدعي كاذبا لكان ذلك ايهاما لتصديق الكاذب وإنه قبيح والله تعالى لا يفعل القبيح قلت لم قلت إن الفعل الذي يوهم القبيح ولم يكن موجبا له قبيح وذلك لأن المكلف لما علم أن خلق المعجز عند الدعوى يحتمل أن يكون للتصديق ويحتمل أن يكون لغيره فلو حمله على التصديق قطعا لكان التقصير من المكلف حيث قطع لا في موضع القطع وهذا كإنزال المتشابهات في القرآن فإنه يوهم القبيح ولكنه لما احتمل سائر الوجوه لم يقبح شئ منها من الله تعالى فثبت أن الإلزام الذي أوردوه علينا في إحدى المقدمتين وارد عليهم في المقدمة

الأخرى وكل ما يجعلونه جوابا عنه في تقرير احدى المقدمتين فهو جوابنا في تقرير المقدمة الأخرى والجواب عما ذكروه ثالثا أنه وارد عليهم أيضا لأن الكذب قد يكون حسنا وذلك في صورتين إحداهما أن الكافر إذا قصد قتل النبي فاختفى النبي في دار انسان فجاء الكافر وسأل صاحب الدار عن ذلك النبي وعلم صاحب الدار أنه لو أخبره عن مكان النبي أو سكت أو اشتغل بالتعريض لقتله قطعا فها هنا الصدق قبيح والكذب حسن ثانيهما أن من توعد غيره ظلما وقال إني سأقتلك غدا فلا شك أنه متى لم يفعل ذلك صار هذا الخير كذبا فلو كان الكذب قبيحا لكان ترك هذه الأشياء مستلزما للقبيح ومستلزم القبيح قبيح فيجب أن يكون ترك هذه الأشياء قبيحا فيكون فعلها حسنا لا محالة وذلك باطل بالاتفاق

فإن قلت الجواب عن الصورة الأولى من وجهين الأول أنا لا نسلم أنه يحسن الكذب هناك ويقبح الصدق فإن الواجب أن يأتي فيه بالمعاريض وإن في المعاريض لمندوحة عن الكذب سلمنا أنه يحسن ذلك ولكن كونه كذبا يقتضي القبح والحكم قد يتخلف عن المقتضى لمانع إلا أن الأصل حصول الحكم عند حصول العلة وهذا هو الجواب أيضا عن الصورة الثانية قلت الجواب عن الأول أن الخبر إنما يصير من باب المعاريض باضمار أمر وراء ما دل الظاهر عليه إما بزيادة أو نقصان أو تقييد مطلق أو تخصيص عام مع أنه لا ينبه السامع على أنه نوى ذلك لأنه لو نبهه عليه لما حصل المقصود وإذا جوزتم حسن ذلك لأجل مصلحة تقتضي ذلك لم يمكنكم اجراء خطاب الله تعالى على ظاهره، إلا إذا عرفتم أنه لم يوجد هناك مصلحة (أخرى) تقتضي صرفها عن ظواهرها، وذلك لا سبيل إليه إلا بأن يقال لا يعرف هذا المعارض لكن عدم العلم بالشئ لا يدل على عدم الشئ

وعن الثاني أن تخلف الأثر العقلي عن المؤثر العقلي محال وإلا كان عدم المانع جزءا من العلة وهو محال ثم إن سلمناه لكن الإلزام عائد عليكم لأنكم لما جوزتم في الجملة تخلف الحكم عن المؤثر لمانع جاز في كل خبر كاذب أن لا يكون قبيحا لأجل أنه وجد مانع يمنع من قبحه وحينئذ لا يحصل القطع بكونه قبيحا بل غاية ما في الباب أن يحصل الظن بقبحه فقط والجواب عما ذكروه رابعا أنه إنما ترجح الصدق على الكذب في تلك الصورة لما أن أهل العلم قد اتفقوا على قبح الكذب وحسين الصدق لما أن نظام العالم لا يحصل إلا بذلك والإنسان لما نشأ على هذا الاعتقاد واستمر عليه لا جزم ترجح الصدق عنده على الكذب فإن قلت أنا أفرض نفسي خالية عن الإلف والعادة والمذهب والاعتقاد ثم أعرض على نفسي عند هذا الفرض هذه القضية فأجدها جازمة بترجيح الصدق على الكذب

قلت هب أنك فرضت نفسك خالية عن هذه العوارض لكن فرض الخلو عن العوارض لا يوجب حصول الخلو عن العوارض بل لو أني خلقت خاليا عن العوارض ففي ذلك الوقت لا أدري هل كنت أحكم بهذا الحكم أم لا والجواب عما ذكروه خامسا أن عندنا الموقوف على الشرع ليس هو تصور الحسن والقبح فإني قبل الشرع أتصور ماهية ترتب العقاب والذم على الفعل وعدم هذا الترتب فتصور الحسن والقبح لا يتوقف على الشرع وإنما الموقوف على الشرع هو التصديق به فأين أحدهما من الآخر والله أعلم وقد جرت عادة أصحابنا أن يتكلموا بعد هذه المسألة في مسألتين أخريين أحدهما أن شكر المنعم لا يجب عقلا والثانية أنه لا حكم قبل ورود الشرع واعلم أنا متى بينا فساد القول بالحسن والقبح العقليين فقد صح مذهبنا في هاتين المسألتين لا محالة

لكن الأصحاب سلموا القول بالحسن والقبح العقليين ثم بينوا أنه بعد تسليم هذين الأصلين لا يصح قول المعتزلة في هاتين المسألتين

الفصل الثامن في مسألة شكر المنعم

الفصل الثامن في أن شكر المنعم غير واجب عقلا وقالت المعتزلة بوجوبه عقلا لنا النص والمعقول

أما النص فقوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقوله تعالى رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وأما المعقول فهو أنه لو وجب لوجب إما لفائدة أو لا لفائدة والقسمان باطلان فالقول بالوجوب باطل إنما قلنا إنه لا يجوز أن يكون لفائدة لأن تلك الفائدة إما أن تكون عائدة إلى المشكور أو إلى غيره والأول باطل لأن الله تعالى منزه عن جلب المنافع ودفع المضار والثاني باطل لأن الفائدة العائدة إلى الغير إما جلب المنفعة أو دفع المضرة

لا جائز أن يكون ذلك لجلب المنفعة لثلاثة أوجه الأول أن جلب النفع غير واجب في العقل فما يفضي إليه أولى أن لا يجب الثاني أنه يمكن خلو الشكر عن جلب النفع لأن الشكر لما كان واجبا فإذن الواجب لا يقتضي شيئا آخر الثالث أن الله تعالى قادر على إيصال كل المنافع بدون عمل الشكر فيكون توسيط هذا الشكر غير واجب عقلا ولا جائز أن يكون لدفع المضرة لأنه إما أن يكو لدفع مضرة عاجلة وهو باطل لأن الاشتغال بالشكر مضرة عاجلة فكيف يكون دفعا للمضرة العاجلة وإما أن يكون لدفع مضرة آجلة وهو باطل أيضا لأن القطع بحصول المضرة عند عدم الشكر إنما يمكن إذا كان المشكور يسره الشكر ويسوءه الكفران فأما من كان منزها عنهما فاستوى الشكر والكفران بالنسبة إليه فلا يمكن القطع بحصول العقاب على ترك الشكر بل احتمال العقاب على الشكر قائم من وجوه

أحدها أن الشاكر ملك المشكور فإقدامه على تصرف الشكر بغير إذنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه من غير ضرورة وهذا لا يجوز وثانيها أن العبد إذا حاول مجازاة المولى على إنعامه عليه استحق التأديب والاشتغال بالشكر اشتغال المجازاة فوجب أن لا يجوز وثالثها أن من أعطاه الملك العظيم كسرة من الخبز أو قطرة من الماء فاشتغل المنعم عليه في المحافل العظيمة يذكر تلك النعمة وشكرها استحق التأديب وكل نعم الدنيا بالقياس إلى خزانة الله تعالى أقل من تلك الكسرة بالقياس إلى خزانة ذلك الملك فلعل الشاكر يستحق العقاب بسبب شكره ورابعها لعله لا يهتدي إلى الشكر اللائق فيأتي بغير اللائق فيستحق العقاب وإنما قلنا إنه لا يمكن أن يجب لا لفائدة لوجهين الأول أن ذلك عبث وأنه قبيح والثاني أن المعقول من الوجوب ترتب الذم والعقاب على الترك فإذا فقد ذلك امتنع تحقق الوجوب فإن قيل لم لا يجوز أن يقال وجب الشكر لمجرد كونه شكرا وذلك لأن وجوب كل شئ لو كان لأجل شئ آخر لزم التسلسل فثبت أنه لا بد وأن ينتهي إلى ما يكون واجبا لذاته

وعندنا الشكر واجب لنفس كونه شكرا كنا أن دفع الضرر عن النفس واجب لنفس كونه دفعا للضرر ولذلك فإن العقلاء يعلمون وجوبه عندما يعلمون كونه شكرا للنعمة وإن لم يعلموا جهة أخرى من جهات الوجوب نزلنا عن هذا المقام فلم لا يجوز أن يقال وجب الشكر عليه لدفع ضرر الخوف وذلك لأنه لا يجوز أن يكون خالقه طلب منه الشكر على ما أنعم به عليه فلو لم يقدم على الشكر كان مستوجبا للذم والعقاب أقصى ما في الباب أن يقال كما يجوز هذا يجوز أيضا أن يكون قد منعه من الشكر لتلك الوجوه الأربعة المذكورة في الاستدلال لكن الظن الأول أغلب لأن المشتغل بالخدمة والمواظب على الشكر احسن حالا من المعرض عن الخدمة والمتغافل عن الشكر وأما تمثيل نعم الله بكسرة الخبز فليس بجيد لأن خلقه العبد واحياءه واقداره وما منحه من كمال العقل وتمكينه من أنواع النعم أعظم من جميع خزائن ملوك الدنيا ثم ما أكرمهم به بعد تمام هذه النعمة من بعثة الرسل اليهم وانزال كتبه عليهم وقد صرح داود وسليمان عليهما السلام بالشكر في قوله تعالى وقالا

الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين وليس يجب إذا كان تعالى قادرا على أضعاف ما منحه عبيده من النعم أن يستحقر ما منحه إياهم كما أن الملك إذا أعطى قناطير ذهب فإنه لا يستحقر ذلك لأجل أن خزائنه بقيت مشتملة على أضعاف مضاعفة على ما أعطى سلمنا أن وجوبه ليس لفائدة زائدة فلم لا يجوز ذلك قوله أنه عبث والعبث قبيح قلنا إنكم تنكرون القبح العقلي فكيف تمسكتم به في هذا الموضع سلمنا أن ما ذكرتموه يوجب أن لا يجب الشكر عقلا لكنه يوجب أيضا أن لا يجب شرعا فإنه يقال إنه تعالى لو أوجبه لأوجبه إما لفائدة أو لا لفائدة إلى آخر التقسيم ولما كان ذلك باطلا بالاتفاق فكذا ما ذكرتموه سلمنا صحة دليلكم ولكنه معارض بوجوه الأول أن وجوب شكر المنعم مقرر في بدائه العقول وما كان كذلك لم يكن الاستدلال على نقيضه قادحا فيه الثاني هو أن من وصل إلى طريقين وكان أحدهما آمنا والآخر

مخوفا فإن العقل يقضي بسلوك الطريق الآمن دون المخوف وها هنا الاشتغال بالشكر طريق آمن والاعراض عنه مخوف فكان الاشتغال بالشكر أولى الثالث أنه لو لم يجب الشكر في العقل لم يجب طلب معرفة الله تعالى أيضا لأنه لا فرق في العقل بين البابين ولو لم يجب طلب معرفة الله تعالى في العقول لزم افحام الرسل والأنبياء لأنهم إذا أظهروا المعجزة قال المدعوون لهم لا يجب علينا النظر في معجزتكم إلا بالشرع ولا يستقر الشرع إلا بنظرنا في معجزتكم فإذا لم ننظر في معجزتكم ف لا نعرف وجوب ذلك علينا وذلك يقتضي إفحام الرسل والجواب قولهم لم لا يجوز أن يجب لنفس كونه شكرا

قلنا قولنا لو وجب الشكر لوجب إما لفائدة أولا لفائدة تقسيم دائر بين النفي والاثبات فلا يحتمل الثالث ألبتة وأيضاف قولكم إنه وجب لكونه شكرا معناه أن كونه شكرا يقتضي ترتب الذم والعقاب على تركه وهذا داخل فيما ذكرناه فلا يكون هذا قسما زائدا على ما ذكرناه قوله إنه إنما يجب عليه دفعا لضرر الخوف قلنا قد بينا أن الخوف حاصل في فعل الشكر كما أنه حاصل في تركه فإذا احتمل الخوف على الأمرين كان البقاء على الترك بحكم استصحاب الحال أولى فإن لم تثبت أولوية الترك فلا أقل من أن لا يثبت القطع بوجوب الفعل قوله الاشتغال بالخدمة أولى

قلنا هذا مسلم في حق من يفرح بالخدمة ويتأذى بالإعراض أما في حق من لا يجوز الفرح والغم عليه فمحال وأيضا فمثل هذا الترجيح لا يفيد إلا الظن قوله لا يجوز تشبيه نعم الله تعالى بكسرة الخبز قلنا التشبيه واقع في النسبة لا في المقدار ونحن لا نشك أن جميع نعم الدنيا بالإضافة إلى خزائن الله تعالى أقل من الكسرة بالإضافة إلى ملوك الدنيا قوله الحكم بكون العبث قبيحا لا يصح إلا مع القول بالقبح العقلي وأنت لا تقول به قلنا قد ذكرنا أصحابنا إنما تكلموا في هذه المسألة بعد تسليم القبح العقلي ليثبتوا أن كلام المعتزلة ساقط في هذا الفرع مع تسليم ذلك الأصل وإذا كان المقصود ذلك لم يكن ما قالوه قادحا في كلامنا قوله هذا يقتضي أن لا يحسن ايجاب الشكر من الله تعالى قلنا غرضنا من الدليل الذي ذكرناه بيان أنه لو صح التحسين والتقبيح العقلي لما أمكن القول بايجاب الشكر لا عقلا ولا شرعا وقد ثبت لنا ذلك

بقي أن يقال فأنتم كيف أوجبتموه شرعا قلنا لأن من مذهبنا أن أحكام الله تعالى وأفعاله لا تعلل بالأغراض فله بحكم المالكية أن يوجب ما شاء على من شاء من غير فائدة ومنفعة أصلا وهذا مما لا يتمكن الخصم من القول به فسقط السؤال أما قوله وجوب الشكر معلوم بالضرورة قلنا في حق من يسره الشكر ويسوءه الكفران أما في حق من لا يكون كذلك فلا نسلم فإن قلت بل وجوبه على الاطلاق معلوم بالضرورة وأنت مكابر في ذلك الإنكار قلت أحلف بالله تعالى وبالايمان التي لا مخارج منها أني راجعت عقلي وذهني وطرحت الهوى والتعصب فلم أجد عقلي قاطعا بذلك في حق من لا يصح عليه النفع والضرر بل ولا ظانا فإن كذبتمونا في ذلك كان ذلك لجاجا ولم تسلموا من المقابلة بمثله أيضا وأما قوله ترجيح الطريق الآمن على المخوف من لوازم العقل قلنا نعم لكنا بينا أن كلا الطرفين مخوف فوجب التوقف قوله إنه يفضي إلى إفحام الأنبياء قلنا العلم بوجوب الفكر والنظر ليس ضروريا بل نظريا فللمدعو أن يقول إنما يجب علي النظر في معجزتك لو نظرت فعرفت وجوب النظر لكني لا أنظر في أنه هل يجب النظر علي وإذا لم أنظر فيه لا أعرف وجوب النظر في

معجزتك فيلزم الإفحام فإن قلت بل أعرف بضرورة العقل وجوب النظر على قلت هذا مكابرة لأن العلم بوجوب النظر علي يتوقف على العلم بأن النظر في هذه الأمور الإلهية يفيد العلم وذلك ليس بضروري بل نظري خفي فإن كثيرا من الفلاسفة قالوا إن فكرة العقل تفيد اليقين في الهندسيات والحسابيات فأما في الأمور الإلهية فلا تفيد إلا الظن ثم بتقدير أن يثبت كونه مفيدا للعلم فإنما يجب الإتيان به لو عرف أن غيره لا يقوم مقامه في إفادة العلم وذلك ما لا سبيل إليه إلا بالنظر الدقيق وإذا كان العلم بوجوب النظر موقوفا على ذينك المقامين النظريين فالموقوف على النظري أولي أن يكون نظريا وإذا كان كذلك كان العلم بوجوب النظر نظريا لا ضروريا وحينئذ يتحقق الإلزام فكل ما يجعله الخصم جوابا عن ذلك فهو جوابنا عما ذكروه وبالله التوفيق

الفصل التاسع في حكم الأشياء قبل الشرع

الفصل التاسع في حكم الأشياء قبل الشرع انتفاع المكلف بما ينتفع به إما أن يكون اضطراريا كالتنفس في الهواء وغيره وذلك لا بد من القطع بأنه غير ممنوع عنه إلا إذا جوزنا تكليف ما لا يطاق وإما أن لا يكون اضطراريا كأكل الفواكه وغيرها فعند المعتزلة البصرية وطائفة من فقهاء الشافعية والحنفية أنها على الإباحة وعند المعتزلة البغدادية وطائفة من الإمامية وأبي علي بن أبي هريرة من فقهاء الشافعية أنها على الحظر

وعند أبي الحسن الأشعري وأبي بكر الصيرفي وطائفة من الفقهاء أنها على الوقف وهذا الوقف تارة يفسر بأنه لا حكم وهذا لا يكون وقفا بل قطعا بعدم الحكم وتارة بأنا لا ندري هل هناك حكم أم لا وإن كان هناك حكم فلا ندري أنه إباحة أو حظر لنا أن قبل الشرع ما ورد خطاب الشرع فوجب أن لا يثبت شئ من

الأحكام لما ثبت أن هذه الأحكام لا تثبت إلا بالشرع أما القائلون بالاباحة فقد تمسكوا بأمور ثلاثة الأول ما اعتمد عليه أبو الحسين البصري وهو أن تناول الفاكهة مثلا منفعة خالية عن أمارات المفسدة ولا مضرة فيه على المالك فوجب القطع بحسنه أما أنه منفعة فلا شك فيه وأما أنه خال عن أمارات المفسدة فلأن الكلام فيما إذا كان كذلك وأما أنه لا ضرر فيه على المالك فظاهر وأما أنه متى كان كذلك حسن الانتفاع به فلأنه يحسن منا الاستظلال بحائط غيرنا والنظر في مرآته والتقاط ما تناثر من حب غلته من غير إذنه إذا خلا عن أمارات المفسدة وإنما حسن ذلك لكونه منفعة خالية عن أمارات المفسدة غير مضرة بالمالك لأن العلم بالحسن دائر مع العلم بهذه الأوصاف وجودا وعدما وذلك دليل العلية وهذه المعاني قائمة في مسألتنا فوجد الجزم بالحسن فإن قلت هب أنكم لم تعلموا فيه مفسدة ولكن احتمال مفسدة لا تعلمونها

قائم فلم لا يكون ذلك كافيا في القبح قلت هذا مدفوع من وجهين الأول أن العبرة في قبح التصرف بالمفسدة المستندة إلى الأمارة فأما المفسدة الخالية عن الأمارة فلا عبرة بها ألا تراهم يلومون من قام من تحت حائط لا ميل فيه لجواز سقوطه ولا يلومونه إذا كان الجدار مائلا ويلومون منه من امتنع عن أكل طعام شهي لتجويز كونه مسموما من غير أمارة ولا يلومونه على الامتناع عند قيام أمارة فعلمنا أن مجرد الاحتمال لا يمنع الثاني لو قبح الإقدام لتجويز كونه مفسدة لقبح الاحجام عنه لتجويز كونه مصلحة وفيه وجوب الانفكاك عن كل واحد منهما وهو تكليف ما لا يطاق

الوجه الثاني في أصل المسألة أن الله تعالى خلق الطعوم في الأجسام مع إمكان أن لا يخلقها فيها وذلك يقتضي أن يكون له تعالى فيها غرض يخصها وإلا كان عبثا ويستحيل أن يعود الغرض إلى الله تعالى لامتناع ذلك عليه فلا بد وأن يكون الغرض عائدا إلى غيره فإما أن يكون الغرض هو الإضرار أو الإنفاع أو لا هذا ولا ذلك والأول باطل أما أولا فباتفاق العقلاء وأما ثانيا فلأنه لا يحصل الضرر إلا بإدراكها فإذا كان الضرر مقصودا والإدراك من لوازم الضرر كان مأذونا فيه لأن لازم المطلوب مطلوب ولا يجوز أن يكون الغرض أمرا وراء الإضرار والإنفاع لأنه باطل بالاتفاق فثبت أن الغرض هو الإنفاع وذلك الإنفاع لا يعقل إلا على أحد ثلاثة أوجه إما بأن يدركها وإما بأن يجتنبها لكون تناولها مفسدة يستحق الثواب باجتنابها وإما بأن يستدل بها وفي كل ذلك إباحة إدراكها لأنه إنما يستحق الثواب بتجنبها إذا

دعت النفس إلى إدراكها وفيه تقدم إدراكها وإنما يستدل بها إذا عرفت والمعرفة بها موقوفة على إدراكها لأن الله تعالى لم يخلق فينا المعرفة بها من دون الإدراك فصح أنه لا فائدة بها إلا إباحة الانتفاع بها الوجه الثالث أنه يحسن من العقلاء التنفس في الهواء وأن يدخلوا منه أكثر مما تحتاج إليه الحياة ومن رام أن لا يزيد على قدر ما يحتاج إليه عده العقلاء من المجانين والعلة في حسنه أنه انتفاع لا نعلم فيه مفسدة وهي قائمة في مسألتنا وهذه الدلالة هي عين الدلالة الأولى واستنشاق الهواء مثال ذلك أما القائلون بالحظر فقد احتجوا بأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه فوجب أن لا يجوز قياسا على الشاهد واحتج الفريقان على فساد قولنا إنه لا حكم بوجهين الأول إن قولكم لا حكم هذا حكم بعدم الحكم والجمع بين إثبات الحكم وعدمه تناقض

والثاني أن هذه التصرفات إما أن تكون ممنوعا عنها فتكون على الحظر أو لا تكون فتكون على الإباحة ولا واسطة بين النفي والإثبات والجواب عن الأول أن الحكم العقلي في الأصل ممنوع سلمناه لكن لا نسلم كونه معللا بالوصف المذكور والاعتماد في اثبات العلية على الدوران العقلي قد أبطلناه وعن الثاني بالقدح فيما ذكروه من التقسيم ثم بالنقض بالمطعومات الموذية المهلكة وعن حجة أصحاب الحظر بأن الإذن معلوم بدليل العقل كالاستظلال بحائط الغير فلم قلتم إن هذا القياس لا يدل عليه

وعن التناقض بأن نقول أي تناقض في الإخبار عن عدم الإباحة والحظر وعن الأخير أن مرادنا بالوقف أنا لا نعلم أن الحكم هو الحظر أو الإباحة وإن فسرناه بالعلم بعدم الحكم قلنا هذا القدر ليس إباحة بدليل أنه حاصل في فعل البهيمة مع أنه لا يسمى مباحا بل المباح هو الذي أعلم فاعله أو دل على أنه لا حرج عليه في الفعل والترك وإذا بينا أنه لم يوجد هذا الإعلام لا عقلا ولا شرعا لم يكن مباحا والله أعلم

الفصل العاشر في ضبط أبواب أصول الفقه

الفصل العاشر في ضبط أبواب أصول الفقه قد عرفت أن أصول الفقه عبارة عن مجموع طرق الفقه وكيفية الاستدلال بها وكيفية حال المستدل بها أما الطرق فإما أن تكون عقلية أو سمعية أما العقلية فلا مجال لها عندنا في الأحكام لما بينا أنها لا تثبت إلا بالشرع وأما عند المعتزلة فلها مجال لأن حكم العقل في المنافع الإباحة وفي المضار الحظر وأما السمعية فإما أن تكون منصوصة أو مستنبطة أما المنصوص فهو إما قول أو فعل يصدر عمن لا يجوز الخطأ عليه والذي لا يجوز الخطأ عليه هو الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ومجموع الأمة والصادر عن الرسول وعن الأمة إما قول أو فعل والفعل لا يدل إلا مع القول فتكون الدلالة القولية مقدمة على الدلالة الفعلية والدلالة القولية إما أن يكون النظر في ذاتها وهي الأوامر والنواهي وإما في

عوارضها إما بحسب متعلقاتها وهي العموم والخصوص أو بحسب كيفية دلالتها وهي المجمل والمبين والنظر في الذات مقدم علي النظر في العوارض فلا جرم باب الأمر والنهي مقدم على باب العموم والخصوص ثم النظر في العموم والخصوص نظر في متعلق الأمر والنهي والنظر في المجمل والمبين نظر في كيفية تعلق الأمر والنهي بتلك المتعلقات ومتعلق الشئ متقدم على النسبة العارضة بين الشئ وبين متعلقه فلا جرم قدمنا باب العموم والخصوص على باب المجمل والمبين وبعد الفراغ منه لا بد من باب الأفعال ثم هذه الدلائل قد ترد تارة لإثبات الحكم وأخرى لرفعه فلا بد من باب النسخ وإنما قدمناه على باب الإجماع والقياس لأن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به وكذا القياس ثم ذكرنا بعده باب الإجماع ثم هذه الأقوال والأفعال قد يحتاج إلى التمسك بها من لم يشاهد الرسول صلى الله عليه وأله وسلم ولا أهل الإجماع فلا تصل إليه هذه الأدلة إلا بالنقل فلا بد من البحث عن النقل الذي يفيد العلم والنقل الذي يفيد الظن وهو باب الأخبار فهذه جملة أبواب أصول الفقه بحسب الدلائل المنصوصة ولما كان التمسك بالمنصوصات إنما يمكن بواسطة اللغات فلا بد من تقديم باب اللغات على الكل

وأما الدليل المستنبط فهو القياس فهذه أبواب طرق الفقه وأما باب كيفية الاستدلال بها فهو باب التراجيح وأما باب كيفية حال المستدل بها فالذي ينزل حكم الله تعالى به إن كان عالما فلا بد له من الاجتهاد وهو باب شرائط الاجتهاد وأحكام المجتهدين وإن كان عاميا فلا بد له من الاستفتاء وهو باب المفتي والمستفتي ثم نختم الأبواب بذكر أمور اختلف المجتهدون في كونها طرقا إلى الأحكام الشرعية فهذه أبواب أصول الفقه أولها اللغات وثانيها الأمر والنهي وثالثها العموم والخصوص ورابعها المجمل والمبين وخامسها الأفعال وسادسها الناسخ والمنسوخ وسابعها الإجماع وثامنها الأخبار وتاسعها القياس وعاشرها التراجيح وحادي عشرها الاجتهاد وثاني عشرها الاستفتاء وثالث عشرها الأمور التي اختلف المجتهدون في أنها هل هي طرق للأحكام الشرعية أم لا

حكم تعلم أصول الفقه ولنختم هذا الفصل بذكر بحثين الأول أن تحصيل هذا العلم فرض والدليل عليه أن معرفة حكم الله تعالى في الوقائع النازلة بالمكلفين واجبة ولا طريق إلى تحصيلها إلا بهذا العلم وما لا يتأدى الواجب المطلق إلا به وكان مقدورا للمكلف فهو واجب وإنما قلنا أن معرفة حكم الله تعالى واجبة للإجماع على أن المكلف غير مخير بين النفي والاثبات في الوقائع النازلة بل لله تعالى في كل واقعة أو في أكثر الوقائع أحكام معينة على المكلف وإنما قلنا إنه لا طريق إلى معرفة حكم الله تعالى إلا بهذا العلم لأن المكلف إما أن يكون عاميا أو لا يكون فإن كان عاميا ففرضه السؤال لقوله فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون لكن لا بد من انتهاء السائلين إلى عالم وإلا لزم الدور أو التسلسل وعلى جميع التقادير فحكم الله تعالى لا يصير معلوما

وان كان عالما فالعالم لا يمكنه أن يعرف حكم الله تعالى إلا بطريق لانعقاد الإجماع على أن الحكم بمجرد التشهي غير جائز ولا معنى لأصول الفقه إلا تلك الطرق فثبت أنه لا سبيل إلى معرفة حكم الله تعالى إلا بأصول الفقه وأما بيان أن ما لا يتأدى الواجب المطلق إلا به وكان مقدورا للمكلف كان واجبا فسيأتي تقريره في باب الأمر إن شاء الله تعالى البحث الثاني أنه من فروض الكفايات لأنا سنقيم الدلالة إن شاء الله تعالى في باب المفتي والمستفتي على أنه لا يجب على الناس بأسرهم طلب الأحكام بالدلائل المفصلة بل يجوز الاستفتاء وذلك يدل على أن تحصيل هذا العلم ليس من فروض الأعيان بل من فروض الكفايات والله تعالى أعلم بالصواب

الكلام في اللغات

الكلام في اللغات وفيه تسعة أبواب

الباب الأول في الأحكام الكلية للغات وفيه أنظار

الباب الأول في الأحكام الكلية للغات اعلم أن البحث إما أن يقع عن ماهية الكلام أو عن كيفية دلالته ولما كانت دلالته وضعية فالبحث إما أن يقع عن الواضع أو عن الموضوع أو عن الموضوع له أو عن الطريق الذي به يعرف الوضع

النظر الأول في البحث عن ماهية الكلام

النظر الأول في البحث عن ماهية الكلام اعلم أن لفظة الكلام عند المحققين منا تقال بالاشتراك على المعنى القائم بالنفس وعلى الأصوات المتقطعة المسموعة والمعنى الأول مما لا حاجة في أصول الفقه إلى البحث عنه إنما الذي نتكلم فيه القسم الثاني فقال أبو الحسين الكلام هو المنتظم من الحروف المسموعة المتميزة المتواضع عليها وربما زيد فيه فقيل إذا صدر عن قادر واحد أما قولنا المنتظم فاعلم أنه حقيقة في الأجسام لأن النظام هو

التأليف وذلك لا يتحقق إلا في الأجسام ولكن الأصوات المتوالية على السمع شبهت بها فأطلق لفظ المولف والمنتظم عليه مجازا وقولنا من الحروف احترزنا به عن الحرف الواحد فإن أهل اللغة قالوا أقل الكلام حرفان إما ظاهرا وإما في الأصل كقولنا ق ش ع فإنه كان في الأصل قي وشي وعي ولهذا يرجع في التثنية إليه فيقال قيا عيا إلا أنه أسقط الياء للتخفيف وقولنا المسموعة احتراز عن حروف الكتابة وقولنا المتميزة احتراز عن أصوات كثير من الطيور وقولنا المتواضع عليها احتراز عن المهملات وقولنا إذا صدر عن قادر واحد احتراز عما إذا صدر كل واحد من حروف الكلمة عن قادر آخر نحو أن يتكلم أحدهم بالنون من نصر والثاني بالصاد والثالث بالراء فإن ذلك لا يسمى كلاما واعلم أن هذا الحد يقتضي أمرين

أحدهما كون الكلمة المفردة كلاما وهو قول الأصوليين والنحاة أجمعوا على فساد ذلك وقالوا إن لفظ الكلام مخصوص بالجملة المفيدة ونقلوا أيضا فيه نصا عن سيبويه وقول أهل اللغة في المباحث اللغوية راجح على قول غيرهم الثاني أن قوله أقل الكلام حرفان إما ظاهرا أو في الأصل يشكل بلام التمليك وباء الالصاق وفاء التعقيب فإنها أنواع الحرف الذي هو قسيم الاسم وكل حرف كلمة وكل كلمة كلام مع أنها غير مركبة فإن قلت الحركة في الحقيقة حرف فإذا ضمت الحركة إلى الحرف كان المجموع مركبا قلت هذا على بعده لو قبلناه بقي الإشكال بالياء من غلامي ونون التنوين ولام التعريف فإنها حروف مفردة خالية عن الحركات وهي مفيدة فالأولى أن نساعد أهل النحو ونقول كل منطوق به دل بالاصطلاح على معنى فهو كلمة

فهذا يتناول الحرف الخالي عن الحركة والحرف المتحرك والمركب من الحروف وأما الكلام فهو الجملة المفيدة وهي إما الجملة الاسمية كقولنا زيد قائم أو الفعلية كقولنا قام زيد وإما مركب من جملتين وهي الشرطية كقولك إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود قال ابن جني الكلام يخرج عن كونه كلاما تارة بالنقصان وتارة بالزيادة أما بالنقصان فإذا قلت قام زيد ثم أسقطت اسم زيد واقتصرت على مجرد قولك قام لم يبق كلاما وأما بالزيادة فإنك إذا أدخلت على تلك الجملة صيغة الشرط حتى صارت هكذا إن قام زيد فإنه لأجل هذه الزيادة خرج عن كونه كلاما لأنه لا يكون مفيدا ما لم يضم اليه غيره

النظر الثاني في البحث عن الواضع

النظر الثاني في البحث عن الواضع كون اللفظ مفيدا للمعنى إما أن يكون لذاته أو بالوضع سواء كان الوضع من الله تعالى أو من الناس أو بعضه من الله تعالى وبعضه من الناس فهذه احتمالات أربعة الأول مذهب عباد بن سليمان الصيمري والثاني وهو القول بالتوقيف مذهب الأشعري وابن فورك

والثالث وهو القول بالاصطلاح مذهب أبي هاشم وأتباعه والرابع هو القول بأن بعضه توقيفي وبعضه اصطلاحي وفيه قولان منهم من قال ابتداء اللغات يقع بالاصطلاح والباقي لا يمتنع أن يحصل بالتوقيف ومنهم من عكس الأمر وقال القدر الضروري الذي يقع به الاصطلاحي توقيفي والباقي اصطلاحي وهو قول الأستاذ أبي اسحاق وأما جمهور المحققين فقد اعترفوا بجواز هذه الأقسام وتوقفوا عن الجزم

والذي يدل على فساد قول عباد بن سليمان أن دلالة الألفاظ لو كانت ذاتية لما اختلفت باختلاف النواحي والأمم ولاهتدى: كل انسان إلى كل لغة وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم واحتج عباد بأنه لو لم يكن بين الأسماء والمسميات مناسبة بوجه ما لكان تخصيص الاسم المعين بالمسمى المعين ترجيحا لأحد طرفي الجائز على الآخر من غير مرجح وهو محال وإن حصلت بينهما مناسبة فذلك هو المطلوب والجواب إن كان الواضع هو الله تعالى كان تخصيص الاسم المعين بالمسمى المعين كتخصيص وجود العالم بوقت مقدر دون ما قبله أو ما بعده وان كان الناس فيحتمل أن يكون السبب خطور ذلك اللفظ في ذلك الوقت بالبال دون غيره كما قلنا في تخصيص كل شخص بعلم خاص من غير أن يكون بينهما مناسبة وأما الذي يدل على إمكان الأقسام الثلاثة فهو أن الله تعالى قادر على أن يخلق فيهم علما ضروريا بالألفاظ والمعاني وبأن واضعا وضع تلك الألفاظ لتلك المعاني وعلى هذا التقدير تكون اللغات توقيفية

وأيضا فيصح من الواحد منهم أن يضع لفظا لمعنى ثم إنه يعرف الغير ذلك الوضع بالايماء والاشارة ويساعده الآخر عليه ولهذا قيل لو جمع جمع من الأطفال في دار بحيث لا يسمعون شيئا من اللغات فاذا بلغوا الكبر لا بد وأن يحدثوا فيما بينهم لغة يخاطب بها بعضهم بعضا وبهذا الطريق يتعلم الطفل اللغة من أبويه ويعرف الأخرس غيره ما في ضميره فثبت إمكان كونها اصطلاحية واذا ثبت جواز القسمين ثبت جواز القسم الثالث وهو أن يكون البعض توقيفيا والبعض اصطلاحيا ولما كنا لا نجزم بأحد هذه الثلاثة فذلك يكفي فيه الطعن في طرق القاطعين احتج القائلون بالتوقيف بالمنقول والمعقول أما المنقول فمن ثلاثة أوجه

أحدهما قوله تعالى وعلم آدم الأسماء كلها دل هذا على أن الأسماء توقيفية واذا ثبت ذلك في الأسماء ثبت أيضا في الأفعال والحروف من ثلاثة أوجه الأول أنه لا قائل بالفرق والثاني أن التكلم بالأسماء وحدها متعذر فلا بد مع تعليم الأسماء من تعليم الأفعال والحروف والثالث أن الاسم إنما سمي اسما لكونه علامة على مسماه والأفعال والحروف كذلك فهي اسماء أيضا وأما تخصيص لفظ الاسم ببعض الأقسام فهذا عرف أهل اللغة والنحو وثانيها أن الله تعالى ذم أقواما على تسميتهم بعض الأشياء من غير توقيف بقوله تعالى إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله

بها من سلطان فلو لم يكن ما جعل دالا على غيرها من الاسماء توقيفا لما صح هذا الذم وثالثها قوله تعالى ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم ولا يجوز أن يكون المراد منه اختلاف تأليفات الألسنة وتركيباتها لأن ذلك في غير الألسن أبلغ وأجمل فلا يكون تخصيص الألسن بالذكر مرادا فبقي أن يكون المراد اختلاف اللغات وأما المعقول فمن وجهين أحدهما أن الاصطلاح إنما يكون بأن يعرف كل واحد منهم صاحبه ما في ضميره وذلك لا يعرف إلا بطريق كالألفاظ والكتابة وكيفما كان فإن ذلك الطريق لا يفيد لذاته فهو إما بالاصطلاح فيكون الكلام فيه كما في الأول ويلزم التسلسل أو بالتوقيف وهو المطلوب

وثانيها أنها لو كانت بالمواضعة لارتفع الأمان عن الشرع لأنها لعلها على خلاف ما اعتقدناها أحمد لأن اللغات قد تبدلت فان قلت لو وقع ذلك لاشتهر قلت هذا مبني على أن الواقعة العظيمة يجب اشتهارها وذلك ينتقض بسائر معجزات الرسول وبأمر الاقامة أنها فرادى أو مثناة أما القائلون بالاصطلاح فقد تمسكوا بالنص والمعقول أما النص فقوله تعالى وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه فهذا يقتضي تقدم اللغة على بعثة الرسول فلو كانت اللغة توقيفية والتوقيف لا يحصل إلا بالبعثة لزم الدور وهو محال

وأما المعقول فهو أنها لو كانت توقيفية لكان إما أن يقال إنه تعالى يخلق العلم الضروري بأنه تعالى وضعها لتلك المعاني أو لا يكون كذلك والأول لا يخلو إما ان يقال إنه تعالى يخلق ذلك العلم في العاقل أو في غير عاقل وباطل أن يخلقه تعالى في عاقل لأن العلم بأنه تعالى وضع تلك اللفظة لذلك المعنى يتضمن العلم به تعالى فلو كان ذلك العلم ضروريا لكان العلم به تعالى ضروريا لأن العلم بصفة الشئ متى كان ضروريا كان العلم بذاته أولي أن يكون ضروريا ولو كان العلم به تعالى ضروريا لبطل التكليف لكن ذلك باطل لما ثبت أن كل عاقل فإنه يجب أن يكون مكلفا وباطل أن يخلقه في العاقل لأنه من البعيد أن يصير الانسان غير العاقل عالما بهذه اللغات العجيبة والتركيبات النادرة اللطيفة وأما الثاني وهو أن لا يخلق الله تعالى العلم الضروري بوضع تلك الألفاظ لتلك المعاني فحينئذ لا يعلم سامعها كونها موضوعة لتلك المعاني إلى بطريق آخر والكلام فيه كالكلام في الأول فيلزم إما التسلسل وإما الانتهاء إلى الاصطلاح

هذا ملخص ما عول عليه ابن متويه في التذكرة واحتج الأستاذ أبو اسحاق على قوله بأن الاصطلاح لا يصح إلا بأن يعرف كل واحد منهم صاحبه ما في ضميره فإن عرفه بأمر آخر اصطلاحي لزم التسلسل فثبت أنه لا بد في أول الأمر من التوقيف ثم بعد ذلك لا يمتنع أن تحدث لغات كثيرة بسبب الاصطلاح بل ذلك معلوم بالضرورة ألا ترى أن الناس يحدثون في كل زمان ألفاظا ما كانوا يستعملونها قبل ذلك فهذا مجموع أدلة الجازمين والجواب عن التمسك بقوله تعالى وعلم آدم الأسماء كلها أن نقول لم لا يجوز أن يكون المراد من التعليم أنه تعالى ألهمه الاحتياج إلى هذه الألفاظ وأعطاه من العلوم ما لأجلها قدر على هذا الوضع

وليس لأحد أن يقول التعليم ايجاد العلم بل التعليم فعل صالح لأن يترتب عليه حصول العلم ولذلك يقال علمته فلم يتعلم ولو كان التعليم ايجاد العلم لما صح ذلك سلمنا أن التعليم ايجاد العلم ولكن العلم الذي يكتسبه العبد مخلوق لله تعالى فالعلم الذي يحصل بعد الاصطلاح بكون من خلق الله تعالى فقوله تعالى وعلم ولا ينافي كونه بالاصطلاح سلمنا ذلك فلم لا يجوز أن يكون المراد من الأسماء العلامات والصفات مثل أن يقال إنه تعالى علم آدم عليه السلام أن الخيل تصلح للكر والفر والجمال للحمل والثيران للزرع وذلك لأن الاسم مشتق من السمة أو من السمو وعلى التقديرين فكل ما يعرف عن ماهية شئ ويكشف عن حقيقته كان اسما له وأما تخصيص لفظ الاسم بهذه الألفاظ فهذا عرف حادث سلمنا أن المراد من الأسماء الألفاظ فلم لا يجوز ان يقال إنها كانت موضوعة بالاصطلاح من خلق خلقه الله تعالى قبل آدم عليه السلام فعلمه الله ما تواضع عليه غيره

وعن الثاني أنهم إنما استحقوا الذم لاطلاقهم لفظ الإله على الصنم مع اعتقاد تحقق مسمى الإلهية فيها وعن الثالث أن اللسان اسم للجارحة المخصوصة وهي غير مرادة بالاجماع فلا بد من المجاز فليسوا بصرفه إلى اللغات أولى منا بصرفه إلى القدرة على اللغات أو إلى مخارج اللغات وعن الرابع أنه باطل بتعلم الولد اللغة من والديه فإن ذلك ليس مسبوقا بالتوقيف سلمنا أنه بعد لا بد قبل الاصطلاح من لغة أخرى ليصطلحوا بها على تلك اللغة الثانية فلم لا يجوز أن تكون هذه اللغات التي نتكلم بها الآن توقيفية لاحتمال أن يقال كان قبل هذه اللغات لغة أخرى وأنها كانت توقيفية ثم إن الناس بتلك اللغة اصطلحوا على وضع هذه اللغات فإن قلت إذا كان لا بد من الاعتراف بلغة توقيفية فلنعترف يقول بكون هذه اللغات توقيفية ولنسقط الذي من البين تلك الواسطة المجهولة

قلت كلامنا في الجزم وما ذكرته ليس من الجزم في شئ وعن الخامس أنه لو وقع التغيير في هذه اللغة لاشتهر ونقضه بمعجزات الرسول وأن الإقامة فرادى أو مثناة فسيجئ الجواب عنه في باب الأخبار إن شاء الله تعالى أما الذي احتج به القائلون بالاصطلاح فالجواب عما تمسكوا به أولا أن الحجة إنما تتم لو لم يحصل التوقيف إلا ببعثة الرسل وذلك ممنوع وعن الثاني أنه تعالى خلق فيهم علما ضروريا بأن واضعا وضع هذه الألفاظ بازاء تلك المعاني وإن كان لا يخلق فيهم العلم بأن ذلك الواضع هو الله تعالى سلمنا أنه تعالى يخلق فيهم العلم بأن ذلك الواضع هو الله تعالى فلم قلت إنه باطل قوله لأنه ينافي التكليف قلنا إنه ينافي التكليف بمعرفة الله تعالى ولا ينافي التكليف بسائر الأشياء سلمنا أنه لا يخلقه في العاقل فلم لا يخلقه في غير العاقل ولم لا يجوز في المجنون أن يعلم بالعلم الضروري بعض الأحكام الدقيقة فهذا هو الجواب عن وجوه القاطعين ومتى ظهر ضعفها وجب التوقف والله أعلم

النظر الثالث في البحث عن الموضوع

النظر الثالث في البحث عن الموضوع اعلم أن الانسان الواحد لما خلق بحيث لا يمكنه أن يستقل وحده باصلاح جميع ما يحتاج إليه فلا بد من جمع عظيم ليعين بعضهم بعضا حتى يتم لكل واحد منهم ما يحتاج إليه ف احتاج كل واحد منهم إلى أن يعرف صاحبه ما في نفسه من الحاجات وذلك التعريف لا بد فيه من طريق وكان يمكنهم أن يضعوا غير الكلام معرفا لما في الضمير كالحركات المخصوصة بالأعضاء المخصوصة معرفات لأصناف الماهيات إلا أنهم وجدوا جعل الأصوات المتقطعة طريقا إلى ذلك أولى من غيرها لوجوه أحدها أن ادخال الصوت في الوجود أسهل من غيره لأن الصوت إنما يتولد في كيفية مخصوصة في اخراج النفس وذلك أمر ضروري فصرف ذلك الأمر الضروري إلى وجه ينتفع به انتفاعا كليا أولى من تكلف طريق آخر قد يشق على الانسان الإتيان به

وثانيها أن الصوت كما يدخل في الوجود ينقضي فيكون موجودا حال الحاجة ومعدوما حال الاستغناء عنه وأما سائر الأمور فإنها قد تبقى وربما يقف عليها من لايراد وقوفه عليها أما الاشارة فإنها قاصرة عن افادة الغرض فإن الشئ ربما كان بحيث لا يمكن الاشارة إليه حسا كذات الله تعالى وصفاته وأما المعدومات فتعذر الاشارة إليها ظاهر وأما الأشياء ذوات الجهات فكذلك أيضا لأن الاشارة إذا

توجهت إلى محل فيه لون وطعم وحركة لم يكن انصرافها إلى بعضها أولى من البعض وثالثها أن المعاني التي يحتاج إلى التعبير عنها كثيرة جدا فلو وضعنا لكل واحد منها خاصة لكثرت العلامات بحيث يعسر ضبطها أو وقوع الاشتراك في أكثر المدلولات وذلك مما يخل بالتفهيم فلهذه الأسباب وغيرها اتفقوا على اتخاذ الأصوات المتقطعة معرفات للمعاني لا غير

النظر الرابع في البحث عن الموضوع له

النظر الرابع في البحث عن الموضوع له وفيه أبحاث أربعة الأول الأقرب أنه لا يجب أن يكون لكل معنى لفظ يدل عليه بل ولا يجوز لأن المعاني التي يمكن أن يعقل كل واحد منها غير متناهية فلو وجب أن يكون لكل معنى لفظ يدل عليه لكان ذلك إما على الانفراد أو على الاشتراك والأول باطل لأنه يفضي إلى وجود ألفاظ غير متناهية والثاني باطل أيضا لأن تلك الألفاظ المشتركة إما أن يوجد فيها ما وضع لمعان غير متناهية أو لا يكون كذلك والأول باطل لأن الوضع لا يكون إلا بعد التعقل وتعقل أمور غير متناهية على التفصيل محال في حقنا وإذا كان كذلك امتنع منا وقوع التخاطب بمثل ذلك اللفظ

والثاني يقتضي أن تكون مدلولات الألفاظ متناهية لأن الألفاظ إذا كانت متناهية ومدلول كل واحد منها متناه فضم المتناهي إلى المتناهي مرات متناهية لا يفيد إلا التناهي فكان الكل متناهيا فمجموع ما لا نهاية له غير مدلول عليه بالألفاظ إذا ثبت هذا الأصل فنقول المعاني على قسمين منها ما تكثر الحاجة إلى التعبير عنه ومنها ما لا يكون كذلك فالأول لا يجوز خلو اللغة عن وضع اللفظ بازائه لأن الحاجة لما كانت شديدة كانت الدواعي إلى التعبير عنها متوفرة والصوارف عنها زائلة ومع توفر الدواعي إلى التعبير عنها وارتفاع الصوارف يجب الفعل وأما الأمور التي لا تشتد الحاجة إلى التعبير عنها فإنه يجوز خلو اللغة عن الألفاظ الدالة عليها البحث الثاني في أنها ليس الغرض من وضع اللغات أن تفاد بالألفاظ المفردة معانيها والدليل عليه أن إفادة الألفاظ المفردة لمسمياتها موقوفة على العلم بكونها موضوعة لتلك المسميات المتوقف على العلم بتلك المسميات فلو

استفيد العلم بتلك المسميات من تلك الألفاظ المفردة لزم الدور بل الغرض من وضع الألفاظ المفردة لمسمياتها تمكين الانسان من تفهم ما يتركب من تلك المسميات بواسطة تركيب تلك الألفاظ المفردة فان قلت ما ذكرته في المفردات قائم بعينه في المركبات لأن المركب لا يفيد مدلوله إلا عند العلم بكون ذلك اللفظ المركب موضوعا لذلك المدلول وذلك يستدعي سبق العلم بذلك المدلول فلو استفيد العلم بذلك المدلول من ذلك اللفظ المركب لزم الدور قلت لا نسلم أن الألفاظ المركبة لا تفيد مدلولها إلا عند العلم بكون تلك الألفاظ المركبة موضوعة لذلك المدلول بيانه أنا متى علمنا كون كل واحد من تلك الألفاظ المفردة موضوعا

لتلك المعاني المفردة وعلمنا أيضا كون حركات تلك الألفاظ دالة على النسب المخصوصة لتلك المعاني فاذا توالت الألفاظ المفردة بحركاتها المخصوصة على السمع ارتسمت تلك المعاني المفردة مع نسبة بعضها إلى بعض في الذهن ومتى حصلت المفردات مع نسبها المخصوصة في الذهن حصل العلم بالمعاني المركبة لا محالة فظهر أن استفادة العلم بالمعاني المركبة لا تتوقف على العلم بكون تلك الألفاظ المركبة موضوعة لها والله أعلم البحث الثالث في أن الألفاظ ما وضعت للدلالة على الموجودات الخارجية بل وضعت للدلالة على المعاني الذهنية والدليل عليه أما في الألفاظ المفردة فلأنا إذا رأينا جسما من بعيد وظنناه صخرة سميناه بهذا الاسم فإذا دنونا منه وعرفنا أنه حيوان لكنا ظنناه طيرا

سميناه به فإذا ازداد القرب وعرفنا أنه انسان سميناه به فاختلاف الأسامي عند اختلاف الصور الذهنية يدل على أن اللفظ لا دلالة له إلا عليها وأما في المركبات فلأنك إذا قلت قام زيد فهذا الكلام لا يفيد قيام زيد وإنما يفيد أنك حكمت بقيام زيد وأخبرت عنه ثم إن عرفنا أن ذلك الحكم مبرء لأن عن الخطأ فحينئذ نستدل به على الوجود الخارجي فأما أن يكون اللفظ دالا على ما في الخارج فلا والله أعلم البحث الرابع في أن اللفظ المشهور المتداول بين الخاصة والعامة لا يجوز أن يكون موضوعا لمعنى خفي لا يعرفه إلا الخواص مثاله ما يقوله مثبتو الأحوال من المتكلمين أن الحركة معنى يوجب للذات كونه متحركا

فنقول المعلوم عند الجمهور ليس إلا نفس كونه متحركا فأما أن متحركيته وقد حالة معللة بمعنى وأنها غير واقعة بالقادر فذلك لو صح القول به لما عرفه إلا الأذكياء من الناس بالدلائل الدقيقة ولفظة الحركة لفظة متداولة فيما بين الجمهور من أهل اللغة وإذا كان كذلك امتنع أن يكون موضوعا لذلك المعنى بل لا مسمى للحركة في وضع اللغة إلا نفس كون الجسم منتقلا لا غير والله أعلم

النظر الخامس فيما به يعرف كون اللفظ موضوعا لمعناه

النظر الخامس فيما به يعرف كون اللفظ موضوعا لمعناه لما كان المرجع في معرفة شرعنا إلى القرآن والأخبار وهما واردان بلغة العرب ونحوهم وتصريفهم كان العلم بشرعنا موقوفا على العلم بهذه الأمور وما لا يتم الواجب المطلق به وكان مقدورا للمكلف فهو واجب ثم الطريق إلى معرفة لغة العرب ونحوهم وتصريفهم إما العقل وإما النقل أو ما يتركب منهما أما العقل فلا مجال له في هذه الأشياء لما بينا أنها امور وضعية والأمور الوضعية لا يستقل العقل بإدراكها وأما النقل فهو إما تواتر أو آحاد والأول يفيد العلم والثاني يفيد الظن

واما ما يتركب من العقل والنقل فهو كما عرفنا بالنقل أنهم جوزوا الاستثناء عن صيغ الجمع وعرفنا بالنقل أيضا أنهم وضعوا الاستثناء لإخراج ما لولاه لدخل تحت اللفظ فحينئذ نعلم بالعقل بواسطة هاتين المقدمتين النقليتين أن صيغة الجمع تفيد الاستغراق واعلم أن على كل واحد من هذه الطرق الثلاثة اشكالات أما التواتر فإن الاشكال عليه من وجوه أحدها أنا نجد الناس مختلفين في معاني الألفاظ التي هي أكثر الألفاظ دورانا على ألسنة المسلمين اختلافا لا يمكن القطع فيه بما هو الحق كلفظة الله تعالى فإن بعضهم زعم أنها ليست عربية بل سريانية والذين جعلوها عربية اختلفوا في أنها من الأسماء المشتقة أو

الموضوعة والقائلون بالاشتقاق اختلفوا اختلافا شديدا وكذا القائلون بكونه موضوعا اختلفوا أيضا اختلافا كبيرا ومن تأمل أدلتهم في تعيين مدلول هذه اللفظة علم أنها متعارضة وأن شيئا منها لا يفيد الظن الغالب فضلا عن اليقين وكذلك اختلفوا في الايمان والكفر والصلاة والزكاة حتى إن كثيرا من المحققين في علم الاشتقاق زعموا أن اشتقاق الصلاة من الصلوين وهما عظما الورك ومن المعلوم أن هذا الاشتقاق غريب وكذلك اختلفوا في صيغ الأوامر والنواهي وصيغ العموم مع شدة اشتهارها وشدة الحاجة اليها اختلافا شديدا وإذا كان الحال في هذه الألفاظ التي هي أشهر الألفاظ والحاجة إلى استعمالها ماسة جدا كذلك فما ظنك بسائر الألفاظ وإذا كان كذلك ظهر أن دعوى التواتر في اللغة والنحو متعذر ة

فإن قلت هب إنه لا يمكن دعوى التواتر في معاني هذه الألفاظ على سبيل التفصيل ولكنا نعلم معانيها في الجملة فنعلم أنهم يطلقون لفظ الله على افله علي سبحانه وتعالى وان كنا لا نعلم أن مسمى هذا اللفظ أهو الذات أم المعبودية أم القادرية وكذا القول في سائر الألفاظ قلت حاصل ما ذكرته أنا نعلم إطلاق لفظ الله على الإله سبحانه وتعالى من غير أن نعلم أن مسمى هذا الاسم ذاته أو كونه معبودا أو كونه قادرا على الاختراع أو كونه ملجأ الخلق أو كونه بحيث تتحير العقول في ادراكه إلى غير ذلك من المعاني المذكورة لهذا اللفظ وذلك يفيد نفي القطع بمسماه واذا كان الأمر كذلك في هذه اللفظة مع غاية شهرتها ونهاية الحاجة إلى معرفتها كان الاحتمال فيما عداها أظهر وثانيها أن من شرط التواتر استواء الطرفين والواسطة فهب أنا علمنا حصول شرائط التواتر في حفاظ اللغة والنحو والتصريف في زماننا هذا فكيف نعلم حصولها في سائر الأزمان فان قلت الطريق إليه أمران

أحدهما أن الذين شاهدناهم أخبرونا أن الذين أخبروهم بهذه اللغات كانوا موصوفين بالصفات المعتبرة في التواتر وأن الذين أخبروا من أخبرهم كانوا كذلك إلى أن يتصل النقل بزمان الرسول صلى الله عليه وسلم وثانيهما أن هذه الألفاظ لو لم تكن موضوعة لهذه المعاني ثم وضعها واضع لهذه المعاني لاشتهر ذلك ولعرف فإن ذلك مما تتوفر الدواعي على نقله قلت أما الأول فغير صحيح لأن كل واحد منا حين سمع لغة مخصوصة من انسان فإنه لم يسمع منه أنه سمع من أهل التواتر وأن الذين اسمعوا كل واحد من مسمعيه حتى سمعوها أيضا من أهل التواتر إلى أن يتصل ذلك بزمان الرسول صلى الله عليه وسلم بل تحرير هذه الدعوى على هذا الوجه مما لا يفهمه كثير من الأدباء فكيف يدعى أنهم علموه بالضرورة بل الغاية القصوى في راوي اللغة أن يسنده إلى كتاب مصحح أو

إلى استاذ متقن ومعلوم أن ذلك لا يفيد اليقين وأما الثاني فضعيف أيضا أما أولا فلأن ذلك الاشتهار إنما يجب في الأمور العظيمة ووضع اللفظة المعينة بإزاء المعنى المعين ليس من الأمور العظيمة التي يجب اشهارها وأما ثانيا فلأن ذلك ينتقض ب ما أنا نرى أكثر العرب في زماننا هذا يتكلمون بألفاظ مختلة واعرابات فاسدة مع أنا لا نعلم واضع تلك الألفاظ المختلة ولا زمان وضعها وينتقض أيضا بالألفاظ العرفية فإنها نقلت عن موضوعاتها الأصلية مع أنا لا نعلم المغير ولا زمان التغيير فكذا ها هنا سلمنا أنه يجب أن يشتهر ذلك لكن لا نسلم أنه لم يشتهر فإنه قد اشتهر بل بلغ مبلغ التواتر أن هذه اللغات إنما أخذت عن جمع مخصوصين كالخليل وأبي عمرو بن العلاء والاصمعي وأبي عمرو

الشيباني وأضرابهم ولا شك أن هؤلاء ما كانوا معصومين ولا كانوا بالغين حد التواتر وإذا كان كذلك لم يحصل القطع واليقين بقولهم أقصى ما في الباب أن يقال نعلم قطعا استحالة كون هذه اللغات بأسرها منقولة على سبيل الكذب إلا أنا نسلم ذلك ونقطع بأن فيها ما هو صدق قطعا لكن كل لفظة عيناها فإنه لا يمكننا القطع بأنها من قبيل ما نقل صدقا أو كذبا وحينئذ لا يبقى القطع في لفظ معين أصلا هذا هو الاشكال على من ادعى التواتر في نقل اللغات أما الآحاد فالاشكال عليها من وجوه أحدها أن رواية الآحاد لا تفيد إلا الظن ومعرفة القرآن والأخبار

مبنية على معرفة اللغة والنحو والتصريف والمبني على المظنون مظنون فوجب أن لا يحصل القطع بشئ من مدلولات القرآن والاخبار وذلك خلاف الاجماع وثانيها أن رواية الآحاد لا تفيد الظن إلا إذا سلمت عن القدح وهؤلاء الرواة مجرحون فإن بيانه أن أجل الكتب المصنفة في النحو واللغة كتاب سيبويه وكتاب العين أما كتاب سيبويه فقدح الكوفيين فيه وفي صاحبه أظهر من الشمس وأيضا فالمبرد عمر كان من أجل البصريين وهو قد أورد كتابا في القدح فيه وأما كتاب العين فقد أطبق الجمهور من أهل اللغة على القدح فيه

وأيضا فإن ابن جني أورد بابا في كتاب الخصائص في قدح أكابر الأدباء بعضهم في بعض وتكذيب بعضهم بعضا وطول في ذلك وأفرد بابا آخر في أن لغة أهل الوبر أصح من لغة أهل المدر وغرضه من ذلك القدح في الكوفيين وأفرد بابا آخر في كلمات الغريب لا يعلم أحد اتى بها إلا ابن أحمر الباهلي وروي عن رؤبة وأبيه أنهما كانا يرتجلان النبي ألفاظا لم يسمعاها ولم يسبقا

إليها وعلى نحو هذا قال المازني ما قيس على كلام العرب فهو من كلامهم وأيضا فالأصمعي كان منسوبا إلى الخلاعة ومشهورا أنه كان يزيد في اللغة ما لم يكن منها والعجب من الأصوليين أنهم أقاموا الدلالة على أن خبر الواحد حجة في الشرع ولم يقيموا الدلالة على ذلك في اللغة وكان هذا أولى لأن اثبات اللغة كالأصل للتمسك بخبر الواحد وبتقدير أن يقيموا الدلالة على ذلك فكان من الواجب عليهم أن يبحثوا عن أحوال رواة اللغاة وإن والنحو وأن يتفحصوا عن اسباب جرحهم وتعديلهم كما فعلوا ذلك في رواة الأخبار لكنهم تركوا ذلك بالكلية مع شدة الحاجة إليه فإن اللغة والنحو يجريان مجرى الأصل للاستدلال بالنصوص

وثالثهما أن رواية الراوي إنما تقبل إذا سلمت عن المعارض وهاهنا روايات دالة على أن هذه اللغة تتطرق إليها الزيادة والنقصان أما الزيادة فلما نقلنا عن رؤبة وأبيه من الزيادات وكذلك عن الأصمعي والمازني وأما النقصان فلما روى ابن جني باسناده عن ابن سيرين عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أنه قال كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه فجاء الاسلام فتشاغلت عنه العرب بالجهاد وغزو فارس والروم وغفلت عن الشعر وروايته فلما كثر الاسلام وجاءت الفتوح واطمأنت العرب في الأمصار راجعوا رواية الشعر فلم يؤولوا فيه إلى ديوان مدون ولا كتاب مكتوب وقد هلك من العرب من هلك فحفظوا أقل ذلك وذهب عنهم أكثره

وروى ابن جني أيضا باسناده عن يونس بن حبيب عن أبي عمرو ابن العلاء أنه قال ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله ولو جاءكم وافرا لجاءكم كما علم وشعر كثير قال ابن جني فهذا ما نراه وقد روي في معناه كثير وذلك يدل على تنقل الأحوال بهذه اللغة واعتراض الأحداث عليها وكثرة تغيرها وأيضا فالصحابة مع شدة عنايتهم بأمر الدين واجتهادهم في ضبط أحواله عجزوا عن ضبط الأمور التي شاهدوها في كل يوم خمس مرات وهو كون الإقامة فرادى أو مثناة والجهر بالقراءة ورفع اليدين فاذا كان الأمر في هذه الأشياء الظاهرة كذلك فما ظنك باللغات وكيفية الاعرابات مع قلة وقعها في القلوب ومع ما أنه لم يشتغل بتحصيلها وتدوينها محصل إلا بعد انقراض عصر الصحابة والتابعين

واما ما يتركب من العقل والنقل فالاعتراض عليه أن الاستدلال بالمقدمتين النقليتين على النتيجة لا يصح إلا إذا ثبت أن المناقضة غير جائزة على الواضع وهذا إنما يثبت اذا ثبت أن الواضع هو الله تعالى وقد بينا أن ذلك غير معلوم فان قلت الناس قد أجمعوا على صحة هذا الطريق لأنهم لا يثبتون شيئا من مباحث علم النحو والتصريف إلا بهذا الطريق والاجماع حجة قلت اثبات الاجماع من فروع هذه القاعدة لأن اثبات الاجماع سمعي فلا بد فيه من اثبات الدلائل السمعية والدليل السمعي لا يصح إلا بعد ثبوت اللغة والنحو والتصريف فالإجماع فرع هذا الأصل فلو أثبتنا هذا الأصل بالاجماع لزم الدور وهو محال فهذا تمام الإشكال والجواب

أن اللغة والنحو على قسمين أحدهما المتداول المشهور والعلم الضروري حاصل بأنها في الأزمنة الماضية كانت موضوعة لهذه المعاني فإننا نجد أنفسنا جازمة بأن لفظ السماء والأرض كانتا مستعملتين في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم في هذين المسميين ونجد الشكوك التي ذكروها جارية مجرى شبه السوفسطائية القادحة في المحسوسات التي لا تستحق الجواب وثانيهما الألفاظ الغريبة والطريق إلى معرفتها الآحاد إذا عرفت هذا فنقول أكثر ألفاظ القرآن ونحوه وتصريفه من القسم الأول فلا جرم

قامت الحجة به وأما القسم الثاني فقليل جدا وما كان كذلك فإنا لا نتمسك به في المسائل القطعية ونتمسك به في الظنيات ونثبت وجوب العمل بالظن بالاجماع ونثبت الاجماع بآية واردة بلغات معلومة لا مظنونة وبهذا الطريق يزول الإشكال والله أعلم

الباب الثاني في تقسيم الألفاظ

الباب الثاني في تقسيم الألفاظ وهو من وجهين التقسيم الأول اللفظ إما أن تعتبر دلالته بالنسبة إلى تمام مسماه أو بالنسبة إلى ما يكون داخلا في المسمى من حيث هو كذلك أو بالنسبة إلى ما يكون خارجا عن المسمى من حيث هو كذلك فالأول هو المطابقة والثاني التضمن والثالث الالتزام تنبيهات الأول الدلالة الوضعية هي دلالة المطابقة وأما الباقيتان فعقليتان لأن اللفظ إذا وضع للمسمى انتقل الذهن من المسمى إلى لازمه ولازمه إن كان داخلا في المسمى فهو التضمن وان كان خارجا فهو الالتزام

الثاني إنما قلنا في التضمن إنه دلالة اللفظ على جزء المسمى من حيث هو كذلك احترازا عن دلالة اللفظ على جزء المسمى بالمطابقة على سبيل الاشتراك وكذلك القول في الالتزام الثالث دلالة الالتزام لا يعتبر فيها اللزوم الخارجي لأن الجوهر والعرض متلازمان ولا يستعمل اللفظ الدال على أحدهما في الآخر والضدان متنافيان وقد يستعمل اللفظ الدال على أحدهما في الآخر كقوله تعالى وجزاء سيئة سيئة مثلها بل المعتبر اللزوم الذهني ظاهرا ثم هذا اللزوم شرط لا موجب

ولنرجع إلى التقسيم فنقول اللفظ الدال بالمطابقة إما أن لا يدل شئ من أجزائه على شئ حين هو جزؤه وهو المفرد كالأبكم وإما أن يدل كل واحد من أجزائه على شئ حين هو جزؤه وهو المركب وأما أن يدل أحد جزئيه دون الآخر وهو غير واقع لأنه يكون ضما لمهمل هو إلى مستعمل وهو غير مفيد أما المفرد فيمكن تقسيمه على ثلاثة أوجه الأول أن المفرد إما أن يمنع نفس تصور معناه من الشركة وهو الجزئي أو لا يمنع وهو الكلي ثم الماهية الكلية إما أن تكون تمام الماهية أو جزئها أن خارجا عنها والأول هو المقول في جواب ما هو والثاني هو الذاتي والثالث هو العرضي أما الماهية فإما أن تكون ماهية واحد أو ماهية أشياء والأول هو الماهية بحسب الخصوصية

اما الثاني فتلك الأشياء لا بدو أن يخالف كل واحد منها صاحبه في التعين فإما أن يحصل مع ذلك مخالفة بعضها بعضا في شئ من الذاتيات أو لا يحصل فإن كان الأول فتمام القدر المشترك بينها من الأمور الداخلة فيها هو تمام الماهية المشتركة لأن ما هو أعم منه لا يكون تمام المشترك وما هو أخص منه لا يكون مشتركا وما يساويه فإن ساواه في الماهية فهو هو لا غيره وإن ساواه في اللزوم دون المفهوم لم يكن هو تمام القدر المشترك وان كان الثاني كان تمام القدر المشترك بينهما هو تمام ماهية كل منهما بعينه إذ لو كان لكل واحد منهما ذاتي آخر وراء القدر المشترك كانت المخالفة بينهما لا بالتعين فقط بل وبالذاتيات وسلم وقد فرض أنه لا مخالفة في الذاتيات هذا خلف وأما الذاتي فهو إما أن يكون تمام الجزء المشترك وهو الجنس

أو تمام الجزء الذي يميزه عما يشاركه في الجنس وهو الفصل أو المجموع الحاصل منهما وهو النوع وإما أن لا يكون كذلك فيكون ذلك جزء الجزء وهو إما جنس الجنس أو جنس الفصل أو فصل الجنس أو فصل الفصل ثم إن الأجناس تترتب متصاعدة وتنتهي في الارتقاء إلى جنس لا جنس فوقه وهو جنس الأجناس والأنواع تترتب متنازلة إلى نوع لا نوع تحته وهو نوع الأنواع وأما الوصف الخارج عن الماهية فتقسيمه على وجهين الأول أن ذلك الخارجي إما أن يكون لازما للماهية أو للوجود أو لا يلزم واحد منهما ثم لازم كل واحد من القسمين قد يكون بوسط وقد يكون بغير

وسط والذي يكون بوسط ينتهي إلى غير ذي وسط وإلا لزم الدور أو التسلسل وغير اللازم قد يكون سريع الزوال وقد يكون بطيئه الثاني أن الوصف الخارجي إما أن يعتبر من حيث إنه مختص بنوع واحد لا يوجد في غيره وهو الخاصة أو من حيث إنه موجود فيه وفي غيره وهو العرض العام وهذا التقسيم وإن كان بالحقيقة في المعاني لكنه عظيم النفع في الألفاظ

التقسيم الثاني للفظ باعتبار دلالته على لفظ

التقسيم الثاني للفظ المفرد وهو أنه إما أن يكون معناه مستقلا بالمعلومية إن أو لا يكون والثاني هو الحرف والأول إما أن يكون اللفظ الدال عليه دالا على الزمان المعين لمعناه وهو الفعل أولا يدل وهو الاسم ثم الاسم تقسيمه من وجهين الأول أن الاسم ان كان اسما للجزئي فإن كان مضمرا فهو المضمرات وإن كان مظهرا فهو العلم

وان كان اسما للكلي فهو إما ان يكون اسما لنفس الماهية كلفظ السواد وهو المسمى باسم الجنس في اصطلاح النحاة أو لموصوفية إلا أمر ما بصفة وهو الاسم المشتق كلفظ الضارب فإن مفهومه أنه شئ ما مجهول بحسب دلالة هذا اللفظ لكن علم منه أنه موصوف بصفة الضرب الثاني أن الاسم هو الذي يدل على معنى ولا يدل على زمانه المعين وهو على أقسام ثلاثة فإن المسمى قد يكون نفس الزمان كلفظ الزمان واليوم والغد وقد يكون أحد أجزائه الزمان كالاصطباح فيه والاغتباق ولهذا يتطرق اليه التصريف وقد لا يكون زمانا ولا مركبا من الزمان كالسواد وأمثاله

التقسيم الثالث

التقسيم الثالث للفظ المفرد وهو إما أن يكون اللفظ والمعنى واحدا أو يتكثران صلى أو يتكثر اللفظ ويتحد المعنى أو بالعكس أما القسم الأول فالمسمى إن كان نفس تصوره مانعا من الشركة ومظهرا فهو العلم وإن لم يمنع فحصول ذلك المسمى في تلك المواضع إن كان بالسوية فهو المتواطئ أولا بالسوية فهو المشكك كالوجود الذي ثبوت مسماه للواجب أولى من ثبوته للممكن

أما إذا تكثرت الألفاظ والمعاني فهي المتباينة سواء تباينت المسميات بذواتها أو كان بعضها صفة للبعض كالسيف والصارم أو صفة للصفة كالناطق والفصيح وأما إذا تكثرت الألفاظ واتحد المعنى فهو الألفاظ المترادفة سواء كانت من لغة واحدة أم من لغات كثيرة وأما إذا اتحد اللفظ وتكثر المعنى فهذا اللفظ إما أن يكون قد وضع أولا لمعنى ثم نقل عنه إلى معنى آخر أو وضع لهما معا أما الأول فإما أن يكون ذلك النقل لا لمناسبة بين المنقول إليه والمنقول عنه وهو المرتجل أو لمناسبة وحينئذ إما أن تكون دلالة اللفظ بعد النقل على المنقول إليه أقوى م دلالته على المنقول عنه أو لا تكون فان كان الأول سمي اللفظ بالنسبة إلى المنقول إليه لفظا منقولا

ثم الناقل إن كان هو الشارع سمي لفظا شرعيا أو أهل العرف فيسمى لفظا عرفيا والعرف إما أن يكون عاما كلفظ الدابة أو خاصا كالاصطلاحات وقال التي لكل طائفة من أهل العلم وأما إن لم تكن دلالته على المنقول إليه أقوى من دلالته على المنقول عنه سمي ذلك اللفظ بالنسبة إلى الوضع الأول حقيقة وبالنسبة إلى الثاني مجازا ثم جهات النقل كثيرة من جملتها المشابهة وهي المسمى بالمستعار خاصة وأما إذا كان اللفظ موضوعا للمعنيين جميعا فإما أن تكون

إرادة ذلك اللفظ لهما على السوية أو لا تكون على السوية فإن كانت على السوية سميت اللفظة بالنسبة اليهما معا مشتركا وبالنسبة إلى كل واحد منهما مجملا لأن كون اللفظ موضوعا لهذا وحده ولذاك وحده معلوم فكان مشتركا من هذا الوجه وأما إن كان المراد منه هذا أو ذاك غير معلوم فلا جرم كان مجملا من هذا الوجه وأما إن كانت دلالة اللفظ على أحد مفهوميه أقوى سمي اللفظ بالنسبة إلى الراجح ظاهرا وبالنسبة إلى المرجوح مؤولا تنبيه الأقسام الثلاثة الأول مشتركة في عدم الاشتراك فهي نصوص وأما الرابع فينقسم إلى ما إفادته لأحد مفهوميه أرجح من افادته للثاني وهو الظاهر

وإلى ما لا يكون كذلك وهو الذي يكون على السوية وهو المجمل أو مرجوحا وهو المؤول ف النص والظاهر يشتركان في الرجحان إلا أن النص راجح مانع من النقيض فهذا القدر المشترك هو المسمى بالمحكم فهو جنس لنوعين النص والظاهر والذي لا يقتضي الرجحان فهو المتشابه وهو جنس لنوعين المجمل والمؤول أما المركب فنقول الحاجة إلى اللفظ المركب كما تقدم للإفهام فالقول المفهم إما أن يفيد طلب شئ إفادة أولية أو لا يفيده فإن كان الأول فإما أن يفيد طلب ذكر ماهية الشئ وهو الاستفهام أو طلب التحصيل وهو إن كان على وجه الاستعلاء فهو الأمر وان كان على وجه الخضوع فهو السؤال

وان كان على وجه التساوي فهو الالتماس وكذلك القول في طلب الامتناع وأما القول المفهم الذي لا يفيد طلب شئ إفادة اولية فإما أن يحتمل التصديق والتكذيب وهو الخبر أو لا يكون كذلك وهو مثل التمني والترجي والقسم والنداء ويسمى هذا القسم بالتنبيه تمييزا له عن غيره وأنواع جنس التنبيه معلومة بالاستقراء لا بالحصر هذا كله تقسيم المطابقة أما تقسيم دلالة الالتزام فنقول المعنى المستفاد من دلالة الالتزام إما أن يكون مستفادا من معاني الألفاظ المفردة أو من حال تركيبها والأول قسمان لأن المعنى المدلول عليه بالالتزام إما أن يكون شرطا للمعنى المدلول عليه بالمطابقة أو تابعا له فإن كان الأول فهو المسمى بدلالة الاقتضاء

ثم تلك الشرطية قد تكون عقلية كقوله صلى الله عليه وسلم رفع عن أمتي الخطأ والنسيان فإن العقل دل على أن هذا المعنى لا يصح إلا إذا أضمرنا فيه الحم الشرعي وقد تكون شرعية كقوله والله لأعتقن هذا العبد فإنه يلزمه تحصيل الملك لأنه لا يمكنه الوفاء بقوله شرعا إلا بعد ذلك وأما إن كان تابعا لتركيبها أنه فإما أن يكون من مكملات ذلك المعنى أو لا يكون

فالأول كدلالة تحريم التأفيف على تحريم الضرب عند من لا يثبته بالقياس وأما الثاني فإما أن يكون المدلول عليه بالالتزام ثبوتيا أو عدميا أما الأول فكقوله تعالى فالآن باشروهن ومد ذلك إلى غاية تبين الخيط الأبيض فيلزم فيمن أصبح جنبا أن لا يفسد صومه وإلا وجب أن يحرم الوطء في آخر جزء من الليل بقدر ما يقع الغسل فيه وأما الثاني فهو أن تخصيص الشئ بالذكر هل يدل على نفيه عما عداه والله أعلم

التقسيم الرابع (الوجه الثاني)

التقسيم الثاني للألفاظ اللفظ الدال على معنى إما أن يكون مدلوله لفظا أو لا يكون والثاني بمعزل عن اعتبارنا والذي مدلوله لفظ فإما أن يكون لفظا مفردا أو مركبا وكلاهما إما أن يكون دالا على معنى أو ليس بدال على معنى فهذه اربعة أحدها اللفظ الدال على لفظ مفرد دال على معنى مفرد وهو لفظ الكلمة وأنواعها وأصنافها فإن لفظ الكلمة بتناول لفظ الاسم وهو لفظ مفرد ويتناول لفظ الرجل وهو لفظ مفرد دال على معنى مفرد وكذا القول في جميع أسماء الألفاظ كالقول والكلام والأمر والنهي والعام والخاص وأمثالها

وثانيها اللفظ الدال على لفظ مركب موضوع لمعنى مركب وهو كلفظ الخبر فإنه يتناول قولك زيد قائم وهو لفظ مركب دال على معنى مركب وثالثها اللفظ الدال على لفظ مفرد لم يوضع لمعنى وهو الحرف المعجم فإنه يتناول كل واحد من آحاد الحروف وتلك الحروف لا تفيد شيئا فإن قلت أليس أنهم قالوا لفظ الألف اسم لتلك المدة قلت ليس المراد من قولي الحرف لا يفيد شيئا إلا نفس تلك المدة وكذا القول في سائر الحروف ورابعها اللفظ الدال على لفظ مركب لم يوضع لمعنى والأشبه أنه غير موجود لأن التركيب إنما يصار إليه لغرض الإفادة فحيث لا إفادة فلا تركيب واعلم أن في البحث عن ماهية الاسم والفعل والحرف دقائق غامضة ذكرناها في كتاب المحرر في دقائق النحو والله أعلم

الباب الثالث في الأسماء المشتقة

الباب الثالث في الأسماء المشتقة والنظر في ماهية الاسم المشتق وفي أحكامه أما الماهية فقال الميداني رحمه الله الاشتقاق أن تجد بين اللفظين تناسبا في المعنى والتركيب فترد أحدهما إلى الآخر واركانه أربعة أحدها اسم موضوع لمعنى وثانيها شئ آخر له نسبة إلى ذلك المعنى وثالثها مشاركة بين هذين الاسمين في الحروف الأصلية ورابعها تغيير يلحق الاسم في حرف فقط أو حركة فقط أو فيهما معا وكل واحد من الأقسام الثلاثة فإما ان يكون بالزيادة أو بالنقصان أو بهما معا فهذه تسعة أقسام

أحدها زيادة الحركة وثانيها زيادة الحرف وثالثها زيادتهما معا ورابعها نقصان الحركة وخامسها نقصان الحرف وسادسها نقصانهما معا وسابعها زيادة الحرف مع نقصان الحركة وثامنها زيادة الحركة مع نقصان الحرف وتاسعها أن تزاد فيه حركة وحرف وتنقص منه أيضا حركة وحرف فهذه الأقسام الممكنة وعلى اللغوي طلب امثلة ما وجد منها أما الأحكام فنذكرها في مسائل المسألة الأولى أن صدق المشتق لا ينفك عن صدق المشتق منه خلافا لأبي علي وأبي هاشم فإن العالم والقادر والحي اسماء مشتقة من العلم والقدرة والحياة

ثم إنهما يطلقان هذه الأسماء على الله تعالى وينكران حصول العلم والقدرة والحياة لله تعالى لأن المسمى بهذه الأسامي هي المعاني التي توجب العالمية والقادرية والحيية وهذه المعاني غير ثابتة لله تعالى فلا يكون لله تعالى علم وقدرة وحياة مع أنه عالم قادر حي وأما أبو الحسين فإنه لا يتقرر معه هذا الخلاف لأن المسمى عنده بالقدرة نفس القادرية وبالعلم العالمية وهذه الأحكام حاصلة لله تعالى فيكون لله تعالى علم وقدرة لنا أن المشتق مركب والمشتق منه مفرد والمركب بدون المفرد غير معقول المسألة الثانية اختلفوا في أن بقاء وجه الاشتقاق هل هو شرط لصدق اسم المشتق والأقرب

أنه ليس بشرط خلافا لأبي علي بن سيناء من الفلاسفة وأبي هاشم من المعتزلة لنا أن بعد انقضاء الضرب يصدق عليه أنه ليس بضارب واذا صدق ذلك وجب أن لا يصدق عليه أنه ضارب بيان الأول أنه يصدق عليه أنه ليس بضارب في هذه الحال وقولنا ليس بضارب جزء من قولنا ليس بضارب في هذه الحال ومتى صدق الكل صدق كل واحد من أجزائه فإذن صدق عليه أنه ليس بضارب وبيان الثاني أنه لما صدق عليه ذلك وجب أن لا يصدق عليه أنه ضارب لأن قولنا ضارب يناقضه في العرف ليس بضارب بدليل أن من قال فلان ضارب فمن أراد تكذيبه وإبطال قوله قال إنه ليس بضارب ولولا أنه نقيض الأول وإلا لما استعملوه لنقض الأول ولما ثبت كونهما موضوعين لمفهومين متناقضين وقد صدق أحدهما فوجب أن لا يصدق الآخر

فإن قيل لا نسلم أنه يصدق عليه بعد انقضاء الضرب أنه ليس بضارب قوله لأنه يصدق عليه أنه ليس بضارب في هذه الحال ومتى صدق عليه ذلك صدق عليه أنه ليس بضارب قلنا حكم الشئ وحده يجوز أن يكون مخالفا لحكمه مع غيره فلا يلزم من صدق قولنا ليس بضارب في الحال صدق قولنا ليس بضارب سلمنا أنه يصدق عليه أنه ليس بضارب فلم لا يصدق عليه أنه ضارب

بيانه أن قولنا فلان ضارب فلان ليس بضارب ما لم نعتبر فيه اتحاد الوقت لم يتناقضا ولا يجوز ايراد أحدهما لتكذيب الآخر سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على قولكم لكنه معارض بوجوه الأول أن الضارب من حصل له الضرب وهذا المفهوم أعم من قولنا حصل له الضرب في الحال أو في الماضي لأنه يمكن تقسيمه اليهما ومورد القسمة مشترك بين القسمين ولا يلزم من نفي الخاص نفي المشترك فإذن لا يلزم من نفي الضاربية في الحال نفي الضاربية مطلقا الثاني أن أهل اللغة اتفقوا على أن اسم الفاعل إذا كان في تقدير الماضي لا يعمل عمل الفعل ولولا أن اسم الفاعل يصح اطلاقه لفعل وجد في الماضي وإلا لكان هذا الكلام لغوا الثالث أنه لو كان حصول المشتق منه شرطا في كون الاسم المشتق حقيقة لما كان اسم المتكلم والمخبر واليوم والأمس وما يجري مجراها حقيقة في شئ أصلا واللازم باطل فالملزوم مثله

بيان الملازمة أن الكلام اسم لمجموع الحروف المتوالية لا لكل واحد منها ومجموع تلك الحروف لا وجود له أصلا بل الموجود منه أبدا ليس إلا الحرف الواحد فلو كان شرط كون الاسم المشتق حقيقة حصول المشتق منه لوجب أن لا يصير هذا الاسم المشتق حقيقة ألبتة فإن قلت لم لا يجوز أن يقال الكلام اسم لكل واحد من تلك الحروف سلمنا أنه ليس كذلك فلم لا يجوز أن يقال حصول المشتق مه شرط في كون المشتق حقيقة إذا كان ممكن الحصول فأما إذا لم يكن كذلك فلا أو نقول شرط كون المشتق حقيقة حصول المشتق منه إما لمجموعه أو لأجزائه وهاهنا إن امتنع أن يكون للمجموع وجود لكنه لا يمتنع ذلك للآحاد أو نقول لم لا يجوز أن يقال هذه الألفاظ ليست حقائق في شئ من المسميات أصلا

قلت الجواب عن الأول أن ذلك باطل باجماع أهل اللغة وأيضا فالالزام عائد في لفظ الخبر فإنه لا شك في أن كل واحد من حروف الخبر ليس خبرا وكذلك كل واحد من أجزاء الشهر والسنة ليس بشهر ولا سنة وعن الثاني أن أحدا من الأمة لم يقل بهذا الفرق فيكون باطلا وعن الثالث أن هذه الألفاظ مستعملة وكل مستعمل فإنه إما أن يكون حقيقة أو مجازا وكل مجاز فله حقيقة فإذن هذه الألفاظ حقائق في بعض الأشياء وقد علم بالضرورة أنها ليست حقائق فيما عدا هذه المعاني فهي حقائق فيها الرابع الايمان مفسر إما بالتصديق أو العمل أو الاقرار أو مجموعها

والشخص حين ما لا يكون مباشرا لشئ من هذه الأشياء الثلاثة يسمى مؤمنا حقيقة فلولا أن حصول ما منه الاشتقاق ليس شرطا لصدق المشتق وإلا لما كان كذلك والجواب قوله يجوز أن يختلف حال الشئ بسبب الانفراد والتركيب قلنا مدلول الألفاظ المركبة ليس إلا المركب الحاصل من المفردات التي هي مدلولات الألفاظ المفردة قوله وحدة الزمان معتبرة في تحقق التناقض قلنا هذا لا نزاع فيه لكنا ندعي أن قولنا ضارب يفيد الزمان المعين وهو الحاضر بدليل ما ذكرنا أن إحدى اللفظتين مستعملة في رفع الأخرى أما أولا فلأنا نعلم بالضرورة من أهل اللغة أنهم متى حاولوا تكذيب المتلفظ باحدى اللفظتين لا يذكرون إلا اللفظة الأخرى ويكتفون بذكر كل واحدة منهما عند محاولة تكذيب الأخرى ولولا اقتضاء كل واحدة

منهما للزمان المعين وإلا لما حصل التكاذب وأما الثانية فلأن كلمة ليس موضوعة للسلب فإذا قلنا ليس بضارب فلا بد وأن يفيد سلب ما فهم من قولنا ضارب وإلا لم تكن لفظة ليس مستعملة للسلب وإذا ثبت أن كل واحدة من هاتين اللفظتين موضوعة لرفع مقتضى الأخرى وجب تناولهما لذلك الزمان المعين وإلا لم يحصل التكاذب ثم لا نزاع في أن ذلك الزمان ليس هو الماضي ولا المستقبل فتعين أن يكون الحاضر قوله في المعارضة الأولى ثبوت الضرب له أعم من ثبوته له في الحاضر أو الماضي بدليل صحة التقسيم إليهما قلنا كما يمكن تقسيمه إلى الماضي والحاضر يمكن تقسيمه إلى المستقبل فإنه يمكن أن يقال ثبوت الضرب له أعم من ثبوته له في الحال أو في المستقبل فإن كان ما ذكرته يقتضي كون

الضارب حقيقة لمن حصل له الضرب في الماضي فليكن حقيقة لمن سيوجد الضرب منه في المستقبل وإن لم يوجد ألبتة لا في الحاضر ولا في الماضي فإنه باطل بالاتفاق قوله ثانيا إن أهل اللغة قالوا اسم الفاعل إذا أفاد الفعل الماضي لا يعمل عمل الفعل قلنا وقد قالوا أيضا إذا أفاد الفعل المستقبل عمل عمل الفعل فيلزم أن يكون الاسم المشتق حقيقة فيما سيوجد فيه المشتق منه ولا شك في فساده قوله ثالثا يلزم أن لا يكون اسم المخبر حقيقة أصلا قلنا المعتبر عندنا حصوله بتمامه إن أمكن أو حصول آخر جزء من أجزائه ودعوى الاجماع على فساد هذا التفصيل ممنوعة قوله رابعا الشخص يسمى مؤمنا وإن لم يكن مشتغلا في الحال بمسمى الايمان قلنا لا نسلم أن ذلك الاطلاق حقيقة والدليل عليه إنه لا يجوز أن يقال في أكابر الصحابة إنهم كفرة لأجل

كفر كان موجودا قبل إيمانهم ولا لليقظان إنه نائم لأجل نوم كان موجودا قبل ذلك والله أعلم المسألة الثالثة اختلفوا في أن المعنى القائم بالشئ هل يجب أن يشتق له منه اسم والحق والتفصيل فإن المعاني التي لا أسماء لها مثل أنواع الروائح والآلام فلا شك أن ذلك غير حاصل فيها وأما التي لها اسماء ففيها بحثان أحدهما أنه هل يجب أن يشتق لمحالها منها أسماء الظاهر من مذهب المتكلمين منا أن ذلك واجب فإن المعتزلة لما قالت إن الله تعالى يخلق كلامه في جسم قال أصحابنا لهم لو كان كذلك لوجب أن يشتق لذلك المحل اسم المتكلم من ذلك الكلام وعند المعتزلة أن ذلك غير واجب وثانيهما أنه إذا لم يشتق لمحله منه اسم فهل يجوز أن يشتق لغير ذلك المحل منه اسم فعند أصحابنا لا وعند المعتزلة نعم لأن الله تعالى يسمى متكلما بذلك الكلام واستدلت المعتزلة لقولهم في الموضعين بأن القتل والضرب

والجرح قائم بالمقتول والمضروب والمجروح ثم إن المقتول لا يسمى قاتلا فإذن محل المشتق منه لم يحصل له اسم الفاعل وحصل ذلك الاسم لغير محله وأجيبوا عنه بأن الجرح ليس عبارة عن الأمر الحاصل في المجروح بل عن تأثير قدرة القادر فيه وذلك التأثير حكم حاصل للفاعل وكذا القول في القتل وأجابت المعتزلة عنه بأنه لا معنى لتأثير القدرة في المقدور إلا وقوع المقدور إذ لو كان التأثير أمرا زائدا لكان إما أن يكون قديما وهو محال لأن تأثير الشئ في الشئ نسبة بينهما فلا يعقل ثبوته عند عدم واحد منهما أو محدثا فيفتقر إلى تأثير آخر فيلزم التسلسل

والذي يحسم مادة الإشكال أن الله تعالى خالق العالم واسم الخالق مشتق من الخلق والخلق نفس المخلوق والمخلوق غير قائم بذات الله تعالى والدليل على أن الخلق عين المخلوق أنه لو كان غيره لكان إن كان قديما لزم قدم العالم وإن كان محدثا لزم التسلسل ومما يدل على أنه ليس من شرط المشتق منه قيامه بمن له الاشتقاق أن المفهوم من الاسم المشتق ليس إلا أنه ذو ذلك المشتق منه ولفظ ذو لا يقتضي الحلول ولأنه لفظة اللابن والتامر والمكي والمدني والحداد مشتقة من أمور يمتنع قيامها بمن له الاشتقاق

المسألة الرابعة مفهوم الأسود شئ ما له السواد فأما حقيقة ذلك الشئ فخارج عن المفهوم فإن علم علم بطريق الالتزام والذي يدل عليه أنك تقول الأسود جسم فلو كان مفهوم الأسود أنه جسم ذو سواد لتنزل ذلك منزلة ما يقال الجسم ذو السواد يجب أن يكون جسما والله أعلم بالصواب

الباب الرابع في أحكام الترادف والتوكيد

الباب الرابع في أحكام الترادف والتوكيد الألفاظ المترادفة هي الألفاظ المفردة الدالة على مسمى واحد باعتبار واحد واحترزنا بقولنا المفردة عن الرسم والحد وبقولنا باعتبار واحد عن اللفظتين إذا دلا على شئ واحد باعتبار صفتين كصارم والمهند أو باعتبار الصفة وصفة الصفة كالفصيح والناطق فإنهما من المتباينة واعلم أن الفرق بين المترادف والمؤكد أن المترادفين يفيدان فائدة واحدة من غير تفاوت أصلا

وأما المؤكد فانه لا يفيد عين فائدة المؤكد بل يفيد تقويته والفرق بينه وبين التابع كقولنا شيطان ليطان أن التابع وحده لا يفيد بل شرط كونه مفيدا تقدم الأول عليه أما الأحكام ففي مسائل المسألة الأولى في إثباته من الناس من أنكره وزعم أن الذي يظن أنه من المترادفات فهو من المتباينات التي تكون لتباين الصفات أو لتباين الموصوف مع الصفات والكلام معهم إما في الجواز وهو معلوم بالضرورة أو في الوقوع وهو

إما في لغتين وهو أيضا معلوم بالضرورة أو في لغة واحدة وهو مثل الأسد والليث والحنطة والقمح والتعسفات وهو التي يذكرها الاشتقاقيون صلى الله عليه وسلم في دفع ذلك مما لا يشهد بصحتها عقل ولا نقل فوجب تركها عليهم المسألة الثانية في الداعي إلى الترادف الأسماء المترادفة إما أن تحصل من واضع أو من واضعين أما الأول فيشبه أن يكون هو السبب الأقلي وفيه سببان الأول التسهيل والإقدار على الفصاحة لأنه قد يمتنع وزن البيت وقافيته مع بعض أسماء الشئ ويصح مع الاسم الآخر وربما حصل رعاية السجع والمقلوب والمجنس إذا وسائر أصناف البديع مع بعض أسماء الشئ دون البعض الثاني التمكين من تأدية المقصود باحدى العبارتين عند نسيان الأخرى

وأما الثاني فيشبه أن يكون هو السبب الأكثري وهو اصطلاح إحدى القبيلتين على اسم لشئ غير الذي اصطلحت القبيلة الأخرى عليه ثم اشتهار الوضعين بعد ذلك ومن الناس من قال الأصل عدم الترادف لوجهين الأول أنه يخل بالفهم التام لاحتمال أن يكون المعلوم لكل واحد من المتخاطبين غير الاسم الذي يعلمه الآخر فعند التخاطب لا يعلم كل واحد منهما مراد الآخر فيحتاج كل واحد منهما إلى حفظ تلك الألفاظ حذرا عن هذا المحذور فتزداد المشقة الثاني أنه يتضمن تعريف المعرف وهو خلاف الأصل المسألة الثالثة في أنه هل تجب صحة إقامة كل واحد من المترادفين مقام الآخر أم لا الأظهر في أول النظر ذلك لأن المترادفين لا بد وأن يفيد كل واحد منهما عين فائدة الآخر فالمعنى لما صح أن يضم إلى معنى حينما يكون مدلولا لأحد اللفظين لا بد وأن يبقى بتلك الصفة حال كونه مدلولا للفظ الثاني لأن

صحة الصم من عوارض المعاني لا من عوارض الألفاظ والحق أن ذلك غير واجب لأن صحة الضم قد تكون من عوارض الألفاظ لأن المعنى الذي يعبر عنه في العربية بلفظ من يعبر عنه في الفارسية بلفظ آخر فإذا قلت خرجت من الدار استقام الكلام ولو أبدلت صيغة من وحدها بمرادفها من الفارسية لم يجز فهذا الامتناع ما جاء من قبل المعاني بل من قبل الألفاظ وإذا عقل ذلك في لغتين فلم لا يجوز مثله في لغة واحدة المسألة الرابعة إذا كان أحد المترادفين أظهر كان الجلي بالنسبة إلى الخفي شرحا له وربما انعكس الأمر بالنسبة إلى قوم آخرين وزعم كثير من المتكلمين أنه لا معنى للحد إلا ذلك فقالوا الحد تبديل لفظ خفي بلفظ أوضح منه تفهيما للسائل وليس الأمر كما ذكروه على الاطلاق بل الماهية المفردة إذا حاولنا تعريفها بدلالة المطابقة لم يكن إلا على الوجه الذي ذكروه

المسألة الخامسة في التأكيد وأحكامه وفيه أبحاث الأول التأكيد هو اللفظ الموضوع لتقوية ما يفهم من لفظ آخر الثاني الشئ إما أن يؤكد بنفسه أو بغيره فالأول كقوله عليه الصلاة والسلام والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا

والثاني على ثلاثة أقسام فإن لفظة التأكيد إما ان يختص بها المفرد وهو لفظ النفس والعين أو المثنى وهو كلا وكلتا أو الجمع وهو أجمعون أكتعون أبصعون فقال والكل وهو أم الباب وقد يكون داخلا على الجمل مقدما عليها كصيغة إن وما يجري مجراها الثالث في حسن استعماله والخلاف فيه مع الملاحدة الطاعنين في القرآن والنزاع إما أن يقع في جوازه عقلا أو في وقوعه أما الجواز فهو معلوم بالضرورة لأن التأكيد يدل على شدة اهتمام القائل بذلك الكلام وأما الوقوع فاستقراء اللغات بأسرها يدل عليه واعلم أن التأكيد وان كان حسنا إلا أنه متى أمكن حمل الكلام على فائدة زائدة وجب صرفه إليها

الرابع في فوائد التأكيد وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكرها في باب العموم عند استدلال الواقفية بحسن التأكيد على الاشتراك والله أعلم

الباب الخامس في الاشتراك

الباب الخامس في الاشتراك اللفظ المشترك هو اللفظ الموضوع لحقيقتين مختلفتين أو أكثر وضعا أولا من حيث هما كذلك فقولنا الموضوع لحقيقتين مختلفتين احترزنا به عن الأسماء المفردة وقولنا وضعا أولا احترزنا به عما يدل على الشئ بالحقيقة وعلى غيره بالمجاز وقولنا من حيث هما كذلك احترزنا به عن اللفظ المتواطئ فإنه يتناول الماهيات المختلفة لكن لا من حيث إنها مختلفة بل من حيث إنها مشتركة في معنى واحد المسألة الأولى في بيان امكانه ووجوده

وجود اللفظ المشترك إما أن يكون واجبا أو ممتنعا أو جائزا وقال بكل واحد من هذه الأقسام قائل أما القائلون بالوجوب فقد احتجوا بأمرين الأول أن الألفاظ متناهية والمعاني غير متناهية والمتناهي إذا وزع على غير المتناهي لزم الاشتراك وإنما قلنا إن الألفاظ متناهية لأنها مركبة من الحروف المتناهية والمركب من المتناهي متناهي وإنما قلنا إن المعاني غير متناهية لأن الأعداد أحد أنواع المعاني وهي غير متناهية وأما أن المتناهي إذا وزع على غير المتناهي حصل الاشتراك فهو معلوم بالضرورة الثاني أن الألفاظ العامة كالوجود والشئ لا بد منها في اللغات ثم قد ثبت أن وجود كل شئ نفس ماهيته فيكون كل شئ مخالفا لوجود الآخر فيكون قول الموجود عليها بالاشتراك والجواب عن الأول بعد تسليم المقدمتين الباطلتين أن نقول الأمور التي يقصدها المسمون بالتسمية متناهية فإنهم لا

يشرعون في أن يسموا كل واحد من الأمور التي لا نهاية لها فإن ذلك مما لا يخطر ببالهم فكيف يقصدون تسميتها بل لا يقصدون إلا إلى تسمية أمور متناهية ويمكن أن يكون لكل واحد منها اسم مفرد وأيضا فكل واحد من هذه الألفاظ المتناهية إن دل على معان متناهية لم يكن جميع الألفاظ المتناهية دالا على معان غير متناهية لأن المتناهي إذا ضوعف مرات متناهية كان الكل متناهيا وإن دل كل واحد منها أو بعضها على معان غير متناهية فالقول به مكابرة وعن الثاني أنا لا نسلم أن الألفاظ العامة ضرورية في اللغات وإن سلمنا ذلك لا نسلم أن الوجود غير مشترك في المعنى وإن سلمنا لكن لم لا يجوز اشتراك الموجودات بأسرها في حكم واحد سوى الوجود وهو المسمى بتلك اللفظ العامة أما القائلون بالامتناع فقد قالوا المخاطبة باللفظ المشترك لا تفيد فهم المقصود على سبيل التمام وما يكون كذلك كان منشأ للمفاسد على ما سيأتي تقريره في مسألة أن الأصل عدم الاشتراك وما يكون منشأ للمفاسد وجب أن لا يكون والجواب

لا نزاع في أنه لا يحصل الفهم التام من سماع اللفظ المشترك لكن هذا القدر لا يوجب نفيه لأن أسماء الأجناس غير دالة على أحوال تلك المسميات لا نفيا ولا اثباتا والأسماء المشتقة لا تدل على تعين الموصوفات ألبتة ولم يلزم من ذلك جزم القول بأنها غير موضوعة فكذا هاهنا واذا بطل هذان القولان فنحن نبين الامكان أولا ثم الوقوع ثانيا أما بيان الامكان فمن وجهين الأول أن المواضعة تابعة لأغراض المتكلم وقد يكون للانسان غرض في تعريف غيره شيئا على التفصيل وقد يكون غرضه تعريف ذلك الشئ على الاجمال بحيث يكون ذكر التفصيل سببا للمفسدة كما روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال للكافر الذي سأله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت ذهابهما إلى الغار من هو فقال رجل يهديني السبيل ولأنه ربما لا يكون المتكلم واثقا بصحة الشئ على التعيين إلا أنه يكون واثقا

بصحة وجود أحدهما لا محالة فحينئذ يطلق اللفظ المشترك لئلا يكذب ولا يكذب ولا يظهر جهله بذلك فإن أي معنى يصح فله أن يقول إنه كان مرادي الثاني أن ما ذكروه من المفاسد لو صح فإنما يقدح في أن يضع الواضع لفظا لمعنيين على سبيل الاشتراك لكنه يجوز أن يوجد المشترك بطريق آخر وهو أن تضع قبيلة اسما لشئ وقبيلة أخرى ذلك الاسم لشئ آخر ثم يشيع الوضعان ويخفى كونه موضوعا للمعنيين من جهة القبيلتين وأما الوقوع فمن الناس من قال إن كل ما يظن مشتركا فهو إما أن يكون متواطئا أو يكون حقيقة في أحدهما مجازا في الآخر كالعين فإنه وضع أولا للجارحة المخصوصة ثم نقل إلى الدينار لإنه في الغرة والصفاء كتلك الجارحة وإلى الشمس لأنها في الصفاء والضياء كتلك الجارحة وإلى الماء لوجود المعنيين فيه وعندنا أن كل ذلك ممكن والأغلب على الظن وقوع المشترك والدليل عليه أنا إذا سمعنا القرء لم نفهم أحد المعنيين من غير تعيين بل بقي الذهن مترددا ولو كان اللفظ متواطئا أو حقيقة في أحدهما مجازا في الآخر لما كان كذلك

فإن قلت لم لا يجوز أن يقال كان حقيقة في أحدهما مجازا في الآخر ثم خفي ذلك قلت أحكام اللغات لا تنتهي إلى القطع المانع من الاحتمالات البعيدة وما ذكرتموه لا ينفي كونه حقيقة فيهما الآن وهو المقصود والله أعلم المسألة الثانية في أقسام اللفظ المشترك المفهومان إما أن يكونا متباينين كالطهر والحيض المسميين بالقرء أولا يكونا متباينين بل يكون بينهما تعلق وحينئذ لا يخلو إما أن يكون أحدهما جزءا من الآخر أو لا يكون فالأول مثل ما إذا سمي معنى عام باسم وسمي معنى خاص تحته بذلك الاسم فوقوع الاسم عليهما والحالة هذه يكون بالاشتراك مثل الممكن اذا قيل لغير الممتنع وقيل لغير الضروري فإن غير الممتنع أعم من غير الضروري فإذا قيل الممكن عليهما فهو بالاشتراك وأيضا فقوله على الخاص وحده قول بالاشتراك أيضا بالنظر إلى ما فيه من المفهومين المختلفين وأما إن لم يكن أحدهما جزءا من الآخر فلا بد وأن يكون أحدهما صفة للآخر وهو كما إذا سمي شخص أسود اللون بالأسود فان قول الأسود عليه من حيث إنه لقب ومن حيث إنه مشتق بالاشتراك ثم إذا نسبت ذلك الشخص إلى القار فإن اعتبرت لونه كان الأسود مقولا عليه

وعلى القار بالتواطؤ وإن اعتبرت اسمه كان الأسود مقولا عليه وعلى القار بالاشتراك دقيقة لا يجوز أن يكون اللفظ مشتركا بين عدم الشئ وثبوته لأن اللفظ لا بد وأن يكون بحال متى أطلق أفاد شيئا وإلا كان عبثا والمشترك بين النفي والاثبات لا يفيد إلا التردد بين النفي والاثبات وهذا معلوم لكل أحد المسألة الثالثة في سبب وقوع الاشتراك السبب الأكثري هو أن تضع كل واحدة من القبيلتين تلك اللفظة لمسمى آخر ثم يشتهر الوضعان فيحصل الاشتراك والأقلي أي هوأن يضعه واضع واحد لمعنيين ليكون المتكلم متمكنا من التكلم بالمجمل وقد سبق في الفصل السالف أن التكلم بالكلام المجمل من مقاصد العقلاء ومصالحهم وأما السبب الذي يعرف به كون اللفظ مشتركا فذلك إما الضرورة وهو ان يسمع تصريح أهل اللغة به

وإما النظر وذلك أنا سنذكر إن شاء الله تعالى الطرق الدالة على كون اللفظة حقيقة في مسماها فاذا وجدت تلك الطرق في اللفظة الواحدة بالنسبة إلى معنيين مختلفين حكمنا بالاشتراك ومن الناس من ذكر فيه طريقين آخرين أحدهما أن حسن الاستفهام يدل على الاشتراك لأن الاستفهام عبارة عن طلب الفهم وطلب الشئ حال حصوله محال والفهم إنما لا يكون حاصلا لو كان اللفظ مترددا بين المعنيين الثاني قالوا استعمال الفظ في معنيين ظاهرا يدل على كونه حقيقة ف يهما وذلك يقتضي الاشتراك واعلم أنا سنبين إن شاء الله تعالى في باب العموم أن هذين الطريقين لا يدلان على الاشتراك المسألة الرابعة في أنه لا يجوز استعمال المشترك المفرد في معانيه على الجمع وذهب الشافعي والقاضي أبو بكر رضي الله عنهما إلى

جوازه وهو قول الجبائي والقاضي عبد الجبار بن أحمد وذهب آخرون إلى امتناعه وهو قول أبي هاشم وأبي الحسين البصري والكرخي ثم اختلفوا فمنهم من منع منه لأمر يرجع إلى القصد ومنهم من منع منه لأمر يرجع إلى الوضع وهو المختار

وقبل الخوض في الدليل لا بد من مقدمة وهي أنه ليس يلزم من كون اللفظ موضوعا لمعنيين على البدل أن يكون موضوعا لهما جميعا وذلك لأنا نعلم بالضرورة المغايرة بين المجموع وبين كل واحد من أفراده ولا يلزم أن يكون المجموع مساويا لكل واحد من أفراده في جميع الأحكام فلا يلزم من كون كل واحد من الشيئين مسمى باسم كون مجموعهما مسمى به اذا ثبتت هذه المقدمة فالدليل على ما قلنا أن الواضع إذا وضع لفظا لمفهومين على الانفراد فإما أن يكون قد وضعه مع ذلك لمجموعهما أو ما وضعه لهما فإن قلنا إنه ما وضعه للمجموع فاستعماله لافادة المجموع استعمال اللفظ في غير ما وضع له وإنه غير جائز وإن قلنا إنه وضعه للمجموع فلا يخلو إما أن يستعمل لإفادة المجموع وحده أو لإفادته مع إفادة الأفراد فان كان الأول لم يكن اللفظ إلا لأحد مفهوماته لأن الواضع إن كان وضعه بازاء أمور ثلاثة على البدل وأحدها ذلك المجموع فاستعمال اللفظ فيه وحده لا يكون استعمالا للفظ في كل واحد من مفهوماته

فان قلت إنه يستعمل في إفادة المجموع والأفراد على الجمع فهو محال لأن افادته للمجموع معناه أن الاكتفاء لا يحصل إلا بهما وافادته للمفرد معناه أنه يحصل الاكتفاء بكل واحد منهما وحده وذلك جمع بين النقيضين وهو محال فثبت أن اللفظ المشترك من حيث إنه مشترك لا يمكن استعماله في إفادة مفهوماته على سبيل الجمع واحتج المجوزون بأمور أحدها أن الصلاة من الله رحمة ومن الملائكة استغفار ثم إن الله تعالى أراد بهذه اللفظة كلا معنييها في قوله تعالى إن الله وملائكته يصلون على النبي وثانيها قوله تعالى ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب أراد بالسجود ها هنا الخضوع لأنه هو المقصود من الدواب

وأراد به أيضا وضع الجبهة على الأرض لأن تخصيص كثير من الناس بالسجود دون ما عداهم ممن حق عليه العذاب مع استوائهم في السجود بمعنى الخشوع يدل على أن الذي خصوا به من السجود هو وضع الجبهة على الأرض فقد صار المعنيان مرادين وثالثها قوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء إذا أراد به الحيض والطهر لأن المرأة إذا كانت من أهل الاجتهاد فالله تعالى أراد منها الاعتداد بكل واحد منهما بدلا عن الآخر بشرط أن يؤدي اجتهادها إليه أو إلى الآخر ورابعها قال سيبويه قول القائل لغيره الويل لك دعاء وخبر فجعله مفيدا لكلا الأمرين والجواب عن هذه الوجوه بأسرها أن ما ذكروه لو صح لدل على أن هذه الألفاظ كما هي موضوعة للآحاد فهي موضوعة للجمع وإلا لكان الله تعالى قد استعمل اللفظ في غير مفهومه وهو غير جائز وعلى هذا التقدير يكون استعماله لإفادة الجمع استعمالا له في إفادة أحد

موضوعاته لا في إفادة الكل على ما بيناه والله أعلم فرعان الأول بعض من أنكر استعمال المفرد المشترك في جميع مفهوماته جوز ذلك في لفظ الجمع أما في جانب الاثبات فكقوله للمرأة اعتدي بالأقراء والحق أنه لا يجوز لأن قوله اعتدي بالأقرا معناه اعتدي بقرء وقرء وقرء وإذا لم يصح أن يفاد بلفظ القرء كلا المدلولين لم يصح ذلك أيضا في الجمع الذي لا يفيد إلا عين فائدة الافراد وأما في جانب النفي فكذلك ايضا وفيه احتمال لأنا إنما منعناه من إفادة المعنيين في جانب الإثبات لما قلنا أن الواضع ما وضعه لهما جميعا وأما في جانب النفي فلم يقم دليل قاطع على أن الواضع ما استعلمه في إفادة نفيهما جميعا ويمكن أن يجاب عنه بأن النفي لا يفيد إلا رفع مقتضى الاثبات

فإذا لم يفد في جانب الاثبات إلا أمرا واحدا لم يرتفع عند حرف النفي إلا المعنى الواحد فأما إن أريد حمله على أن المراد منه لا تعتدي بما هو مسمى الأقراء فحينئذ يكون كون الحيض والطهر مسمى بالقرء وصفا معقولا مشتركا بينهما فيكون اللفظ على هذا التقدير متواطئا لا مشتركا الثاني أنا لو جوزنا أن يفاد باللفظ المشترك جميع معانيه فإنه لا يجب ذلك ونقل عن الشافعي رضي الله عنه والقاضي أبي بكر أنهما قالا المشترك إذا تجرد عن القرائن المخصصة وجب حمله على جميع معانيه وفيه نظر لأنه إن لم يكن موضوعا للمجموع فلا يجوز استعماله فيه وإن كان موضوعا له فهو أيضا موضوع لكل واحد من الأفراد واللفظ دائر بين كل واحد من الفردين وبين المجموع فيكون الجزم بإفادته للمجموع دون كل واحد من الفردين ترجيحا لأحد الجائزين على الآخر من غير مرجح وهو محال

فإن قلت حمله على المجموع أحوط فيكون الأخذ به واجبا قلت القول بالاحتياط سنتكلم عليه إن شاء الله تعالى المسألة الخامسة في أن الأصل عدم الاشتراك ونعنى به أن اللفظ متى دار بين الاشتراك وعدمه كان الأغلب على الظن عدم الاشتراك ويدل عليه وجوه أحدها أن احتمال الاشتراك لو كان مساويا لاحتمال الانفراد لما حصل التفاهم بين أرباب اللسان حالة التخاطب في أغلب الأحوال من غير استكشاف وقد علمنا حصول ذلك فكان الغالب حصول احتمال الانفراد وثانيها لو لم يكن الاشتراك مرجوحا لما بقيت الأدلة السمعية مفيدة ظنا فضلا عن اليقين لاحتمال أن يقال إن تلك الألفاظ مشتركة بين ما ظهر لنا منها وبين غيره وعلى هذا التقدير يحتمل أن يكون المراد غير ما ظهر لنا وحينئذ لا يبقى التمسك بالقرآن والأخبار مفيدا للظن فضلا عن العلم وثالثها أن الاستقراء دل على أن الكلمات في الأكثر مفردة لا مشتركة والكثرة تفيد ظن الرجحان

فان قلت لا نسلم أن الكلمات في الأكثر مفردة لأن الكلمة إما حرف أو فعل أو اسم أما الحرف فكتب النحو شاهدة بأنه مشترك وأما الفعل فهو إما الماضي أو المستقبل أو الأمر أما الماضي والمستقبل فهما مشتركان لأنهما تارة يستعملان في الخبر وأخرى في الدعاء ولأن صيغة المضارع مشتركة بين الحال والاستقبال وأما صيغة إفعل فالقول بأنها مشتركة بين الوجوب والندب مشهور وأما الأسماء ففيها اشتراك كثير فإذا ضممنا اليها الأفعال والحروف كانت الغلبة للاشتراك قلت الأصل في الألفاظ الأسماء والاشتراك نادر فيها بدليل أنه لو كان الاشتراك أغلب لما حصل فهم غرض المتكلم في الأكثر ولما لم يكن كذلك علمنا أن الغالب عدم الاشتراك ورابعها أن الاشتراك يخل بفهم القائل والسامع وذلك يقتضي أن لا يكون موضوعا بيان أنه يقتضي الخلل في الفهم أما في حق السامع فمن وجهين الأول أن الغرض من الكلام حصول الفهم وهو غير حاصل في المشترك لتردد الذهن بين مفهوماته

الثاني أن سامع اللفظ المشترك ربما يتعذر عليه الاستكشاف إما لأنه يهاب المتكلم أو لأنه يستنكف عن السؤال وإذا لم يستكشف فربما حمله على غير المراد فيقع في الجهل ثم ربما ذكره لغيره فيصير ذلك سببا لجهل جمع كثير ولهذا قال أصحاب المنطق إن السبب الأعظم في وقوع الأغلاط حصول اللفظ المشترك وأما في حق القائل فلأن الانسان إذا تلفظ باللفظ المشترك احتاج في تفسيره إلى أن يذكره باسمه المفرد فيقع تلفظه باللفظ المشترك عبثا ولأنه ربما ظن أن السامع متنبه للقرينة الدالة على تعيين المراد مع أن السامع لم يتنبه له فيحصل الضرر كمن قال لعبده أعط الفقير عينا على ظن أنه يفهم أن مراده الماء ثم إنه يعطيه الذهب فيتضرر السيد به فثبت بهذه الوجوه أن الاشتراك منشأ للمفاسد فهذه المفاسد إن لم تقتض امتناع الوضع فلا أقل من اقتضاء المرجوحية

وخامسها أن الانسان مضطر في بقائه إلى استعمال المفردات ولا حاجة به إلى المشترك فيكون المفرد أغلب في الوجود وفي الظن بيان الحاجة إلى المفردات أن الإنسان لا يستقل بتكميل مهمات معيشته بدون الاستعانة بغيره والاستعانة بالغير لا تتم إلا بإطلاع الغير على حاجته وقد عرفت أن ذلك لا يحصل إلا بالألفاظ وذلك التعريف لا يحصل إلا بالألفاظ المفردة وإنما قلنا إن الحاجة إلى المشترك غير ضرورية لأنهم إن احتاجوا إلى التعريف الاجمالي أمكنهم ذكر تلك المفردات مع لفظ الترديد وحينئذ يحصل المطلوب في اللفظ المشترك وإذا ظهرت المقدمتان ثبت رجحان المفرد على المشترك في الوجود وفي الذهن وهو المطلوب والله أعلم المسألة السادسة فيما يعين مراد اللافظ باللفظ المشترك اللفظ المشترك إما أن توجد معه قرينة مخصصة أو لا توجد فإن لم توجد بقي مجملا لما ثبت من امتناع حمله على الكل وإن وجدت القرينة فتلك القرينة إما أن تدل على حال كل واحد من

مسميات اللفظ الغاءا أو اعتبارا أو على حال البعض الغاءا أو اعتبارا وإما على حال الكل م حيث هو كل الغاءا أو اعتبارا فهو مندرج تحت حال البعض لأن اللفظ إذا كان مفيدا لكل واحد من تلك الأفراد وللكل من حيث هو كل كان الكل أحد الأمور المسماة به فتكون القرينة الدالة عليه الغاءا أو اعتبارا دالة على حال بعض ما اندرج تحت تلك اللفظة ف أما القسم الأول وهو ما يفيد اعتبار كل واحد من تلك المعاني فتلك المعاني إما أن تكون متنافية أو لا تكون فان كانت متنافية بقي اللفظ مترددا بينها كما كان إلى أن يظهر المرجح وإن لم تكن متنافية ف قال بعضهم الأدلة المقتضية لحمل اللفظة على كل معانيها معارضة للدليل المانع من حمل اللفظ المشترك على كل معانيه فتعتبر بينهما الترجيحات وهذا خطأ لأن الدلالة المانعة من حمل اللفظ المشترك على كل معانيه دلالة قاطعة فلا تقبل المعارضة

سلمنا قبوله للمعارضة لكن لا معارضة ها هنا فان الدليلين اذا اقتضيا حمل اللفظ على كلا مدلوليه أمكن أن يكون اللفظ كما كان موضوعا لكل واحد منهما بالاشتراك فهو أيضا موضوع للجميع أو أن المتكلم قد تكلم به مرتين ومع هذين الاحتمالين زال التعارض وإذا بطل التعارض ثبت أنه متى قامت الدلالة على كون كل واحد منهما مرادا وجب حمله عليهما القسم الثاني وهو الذي يكون مفيدا الغاء كل واحد من تلك المعاني وحينئذ يجب حمل اللفظ على مجازات تلك الحقائق الملغاة ثم لا يخلو إما ان تكون تلك الحقائق الملغاة بحال لو لم تقم الدلالة على إلغائها كان البعض أرجح من البعض أو ليس الأمر كذلك فان كان الأول فمجازاتها إما أن تكون متساوية في القرب أو لا تكون متساوية فان تساوت المجازات في القرب وكانت إحدى الحقيقتين راجحة كان مجاز الحقيقة الراجحة راجحا

وان تفاوتت المجازات نظر فان كان مجازا الحقيقة الراجحة راجحا فلا كلام في رجحانه وان كان مجاز الحقيقة المرجوحة راجحا وقع التعارض بين المجازين لأن هذا المجاز وإن كان راجحا إلا أن حقيقته مرجوحة وذلك المجاز وإن كان مرجوحا إلا أن حقيقته راجحة فقد اختص كل واحد منهما بوجه رجحان فيصار إلى الترجيح وأما إن كانت الحقائق متساوية فإما أن يكون أحد المجازين أقرب إلى حقيقته من المجاز الآخر أو لا يكون فإن كان الأول وجب العمل بالأقرب وإن كان الثاني بقيت اللفظة مترددة بين مجازات تلك الحقائق لما ثبت من امتناع حمل اللفظ على مجموع معانيه سواء كانت حقيقية أو مجازية القسم الثالث وهو الذي يدل على الغاء البعض فاللفظة المشتركة إما أن تكون مشتركة بين معنيين فقط أو أكثر فإن كان الأول فقد زال الإجمال لأن اللفظ لما وجب حمله على معنى ولا معنى له إلا هذان وقد تعذر حمله على ذلك فيتعين حمله على هذا

وإن كان الثاني وهو أن تكون المعاني أكثر من واحد فعند قيام الدليل على إلغاء واحد منها بقي اللفظ مجملا في الباقي وأما القسم الرابع وهو الذي يدل على اعتبار البعض فهذا يزيل الإجمال سواء كانت اللفظة مشتركة بين معنيين أو أكثر المسألة السابعة في أنه يجوز حصول اللفظ المشترك في كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وأله وسلم والدليل على جوازه وقوعه وهو في قوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء وفي قوله تعالى والليل إذا عسعس فانه مشترك بين الاقبال والادبار

واحتج المانع بأن ذلك اللفظ إما أن يكون المراد منه حصول الفهم أو لا يكون والثاني عبث والأول لا يخلو إما أن يكون المراد منه حصول الفهم بدون بيان المقصود أو مع بيانه والأول تكليف ما لا يطاق والثاني لا يخلو إما أن يكون البيان مذكورا معه أو لا يكون فإن كان الأول كان تطويلا من غير فائدة وهو سفه وعبث وإن كان الثاني أمكن أن لا يصل البيان إلى المكلف فحينئذ يبقى الخطاب مجهولا والجواب أن هذا غير وارد على مذهبنا في أن الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد

وأما الجواب على أصول المعتزلة فسيأتي في مسألة تأخير البيان عن وقت الخطاب ان شاء الله تعالى

الباب السادس في الحقيقة والمجاز

الباب السادس في الحقيقة والمجاز وهو مرتب على مقدمة وثلاثة أقسام أما المقدمة ففيها ثلاثة مسائل المسألة الأولى في تفسير لفظتي الحقيقة والمجاز في أصل اللغة أما الحقيقة فهي فعلية من الحق ويجب البحث ها هنا عن أمرين أحدهما أن الحق في اللغة هو الثابت لأنه يذكر في مقابلته الباطل فإذا كان الباطل هو المعدوم وجب أن يكون الحق هو الثابت وثانيهما البحث عن وزن الفعيلة وفيه أيضا بحثان الأول أن الفعيل قد يكون بمعنى المفعول وقد يكون بمعنى الفاعل فعلى التقدير الأول معنى الحقيقة المثبتة وعلى التقدير الثاني الثابتة الثاني أن الياء في الفعلية لنقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية الصرفة فلا يقال شاة أكيلة ونطيحة

وأما المجاز فهو مفعل من الجواز الذي هو التعدي في قولهم جزت موضع كذا أو من الجواز الذي هو قسيم الوجوب والامتناع وهو في التحقيق راجع إلى الأول لأن الذي لا يكون واجبا ولا ممتنعا كان مترددا بين الوجود والعدم فكأنه ينتقل من الوجود إلى العدم أو من العدم إلى الوجود فاللفظ المستعمل في غير موضوعه الأصلي شبيه بالمنتقل عن موضوعه فلا جرم سمي مجازا المسألة الثانية في حد الحقيقة والمجاز أحسن ما قيل في ما ذكره أبو الحسين وهو أن الحقيقة ما أفيد بها ما وضعت له في أصل الاصطلاح الذي وقع التخاطب به وقد دخل فيه لحقيقة اللغوية والعرفية والشرعية والمجاز ما أفيد به معنى مصطلح عليه غير ما اصطلح عليه في أصل تلك المواضعة التي وقع التخاطب بها لعلاقة بينه وبين الأول وهذا القيد الأخير لم يذكره أبو الحسين ولا يد منه فإنه لولا العلاقة لما كان مجازا بل كان وضعا جديدا وقوله معنى مصطلح عليه إنما يصح على قول من يقول المجاز لا بد فيه من الوضع فأما من لم يقل به فيجب عليه حذفه

وأما قوله غير ما اصطلح عليه في أصل تلك المواضعة ففيه سؤال وذلك أنه يقتضي خروج الاستعارة عن حد المجاز بيانه أنا إذا قلنا على وجه الاستعارة رأيت أسدا فالتعظيم الحاصل من هذه الاستعارة ليس لأنا سميناه باسم الأسد ألا ترى أنا لو جعلنا الأسد علما له لم يحصل التعظيم ألبتة بل التعظيم إنما حصل لأنا قدرنا في ذلك الشخص صيرورته في نفسه أسدا لبلوغه في الشجاعة التي هي خاصية الأسد إلى الغاية القصوى فلما قدرنا أنه صار أسدا في نفسه أطلقنا عليه اسم الأسد وعلى هذا التقدير لا يكون اسم الأسد مستعملا في غير موضوعه الأصلي وجوابه أنه يكفي في تحصيل التعظيم أن يقدر أنه حصل له من القوة مثل ما للأسد فيكون استعمال لفظ الأسد فيه استعمالا للفظ في غير موضوعه الأصلي وأعلم أن الناس ذكروا في تعريف الحقيقة والمجاز وجوها فاسدة أحدها ما ذكره أبو عبد الله البصري ألا وهو أن الحقيقة ما انتظم لفظها معناها من غير زيادة ولا نقصان ولا نقل

والمجاز هو الذي لا ينتظم لفظه معناه إما لزيادة أو لنقصان أو لنقل فالذي يكون للزيادة هو الذي ينتظم عند اسقاط الزيادة كقوله تعالى ليس كمثله شئ فإنا لو أسقطنا الكاف استقام المعنى والذي يكون للنقصان هو الذي ينتظم الكلام عند الزيادة كقوله تعالى واسئل القرية ولو قيل واسئل أهل القرية صح الكلام والذي يكون لأجل النقل قوله رأيت أسدا وهو يعني الرجل الشجاع وأعلم ان هذا التعريف خطأ لأن المجاز بالزيادة والنقصان إنما كان مجازا لأنه نقل عن موضوعه الأصلي إلى موضوع آخر في المعنى وفي الاعراب وإذا كان كذلك لم يجز جعلهما قسمين في مقابلة النقل أما في المعنى فلأن قوله تعالى ليس كمثله شئ يفيد نفي مثل مثله وهو باطل لأنه يقتضي نفيه تعالى تعالى الله عن ذلك إلا أنه نقل عن هذا المعنى إلى نفي المثل وكذلك قوله تعالى واسئل القرية موضوع لسؤال القرية وقد نقل إلى أهلها

وأما في الاعراب فلأن الزيادة والنقصان متى لم يغير اعراب الباقي لم يكن ذلك مجازا فإنك إذا قلت جاءني زيد وعمرو فهو في الأصل جاءني زيد وجاءني عمرو إلا أنه حذف أحد اللفظين لدلالة الثاني عليه لكن لما لم يكن الحذف سببا لتغيير الإعراب لم يحكم عليه بكونه مجازا وهكذا الكلام في جانب الزيادة وأما إذا أوجبا تغيير الاعراب كانا مجازين وذلك إنما يتحقق عند نقل اللغة اللفظة من اعراب إلى اعراب آخر وثانيها أيضا ما ذكره أبو عبد الله البصري ثانيا فقال الحقيقة ما أفيد بها ما وضعت له والمجاز ما أفيد به غير ما وضع له وهذا أيضا باطل أما قوله في الحقيقة إنها ما أفيد بها ما وضعت له فباطل لأنه يدخل في الحقيقة ما ليس منها لأن لفظة الدابة إذا استعملت في الدودة والنملة فقد أفيد بها ما وضعت له في أصل اللغة مع أنه بالنسبة إلى

الوضع العرفي مجاز فقد دخل المجاز العرفي فيما جعله حدا لمطلق الحقيقة وهو باطل وقوله في المجاز إنه الذي أفيد به غير ما وضع له فهو باطل بالحقيقة العرفية والشرعية فإن اللفظة أفيد بها والحالة هذه غير ما وضعت له في أصل اللغة فقد دخلت هذه الحقيقة في المجاز وأيضا فقوله ما أفيد به غير ما وضع له إما أن يكون المراد منه أنه أفيد به غير ما وضع له بدون القرينة أو مع القرينة والأول باطل لأن المجاز لا يفيد ألبتة بدون القرينة والثاني ينتقض بما إذا استعمل لفظ السماء في الأرض فان اللفظ قد أفيد به غير ما وضع له مع أنه ليس ب مجاز فيه وأيضا ينتقض بالأعلام المنقولة فإن قلت العلم لا يفيد قلت حق إن العلم لا يفيد في المسمى صفة وليس بحق إنه لا يفيد أصلا بل هو يفيد عين تلك الذات لكنه لا يفيد صفة في الذات وثالثها ما ذكره ابن جني وهو أن الحقيقة ما أقر في الاستعمال ع لى أصل وضعه في اللغة والمجاز ما كان بضد ذلك

وهذا ضعيف لأن ما ذكره في حد الحقيقة تخرج عنه الحقيقة الشرعية والعرفية وهما يدخلان فيما جعله حد المجاز وأيضا فقوله والمجاز ما كان بضد ذلك معناه أن المجاز هو الذي ما أقر في الاستعمال على أصل وضعه في اللغة وهو باطل وإلا لكان استعمال لفظ الأرض في السماء مجازا ورابعها ما ذكره عبد القاهر النحوي رحمه الله فقال الحقيقة كل كلمة أريد بها عين ما وقعت له في وضع واضع وقوعا لا يستند فيه إلى غيره كالأسد للبهيمة المخصوصة والمجاز كل كلمة أريد بها غير ما وقعت له في وضع واضعها لملاحظة بين الأول والثاني

وهذا التعريف أيضا ليس بجيد لأنه يقتضي خروج الحقيقة الشرعية والعرفية عن حد الحقيقة ودخولهما في حد المجاز وهو غير جائز المسألة الثالثة في أن لفظتي الحقيقة والمجاز بالنسبة إلى المفهومين المذكورين حقيقة أو مجاز الحق أن هاتين اللفظتين في هذين المفهومين مجازان بحسب أصل اللغة حقيقتان بحسب العرف بيان الأول أما في الحقيقة فلأنا بينا أنها مأخوذة من الحق وبينا أن الحق حقيقة في الثابت ثم إنه نقل إلى العقد المطابق لأنه أولى بالوجود من العقد غير المطابق ثم نقل إلى القول المطابق لعين هذه العلة ثم نقل إلى استعمال اللفظ في موضوعه الأصلي لأن استعماله فيه تحقيق لذلك الوضع فظهر أنه مجاز واقع في الرتبة الثالثة بحسب اللغة الأصلية

وأما المجاز فإطلاقه على المعنى المذكور على سبيل المجاز أيضا لوجهين الأول هو أن حقيقته العبور والتعدي وذلك إنما يحصل في انتقال الجسم من حيز إلى حيز فأما في الألفاظ فلا فثبت أن ذلك إنما يكون على سبيل التشبيه الثاني هو أن المجاز مفعل وبناء المفعل حقيقة إما في المصدر أو في الموضع فأما الفاعل فليس حقيقة فيه فاطلاقه على اللفظ المنتقل لا يكون إلا مجازا هذا إذا قلنا إن المجاز مأخوذ من التعدي وأما إذا قلنا إنه مأخوذ من الجواز كان حقيقة لا مجازا لأن الجواز كما يمكن حصوله في الأجسام يمكن حصوله في الأعراض

فاللفظ يكون موضوعا لذلك الجواز لأنه موضوع لجواز أن يستعمل في غير معناه الأصلي فيكون حقيقة من هذين الوجهين إلا أنا قد ذكرنا أن الجواز إنما سمي جوازا مجازا عن معنى العبور والتعدي والله أعلم بالصواب

المقدمة

القسم الأول في أحكام الحقيقة وفيه مسائل المسألة الأولى في اثبات الحقيقة اللغوية والدليل عليه أن ها هنا ألفاظا وضعت لمعان ولا شك أنها قد استعملت بعد وضعها فيها ولا معنى للحقيقة إلا ذلك واحتج الجمهور عليه بأن اللفظ إن استعمل في موضوعه الأصلي فهو الحقيقة وان استعمل في غير موضوعه الأصلي كان مجازا لكن المجاز فرع الحقيقة ومتى وجد الفرع وجد الأصل فالحقيقة موجودة لا محالة وهذا ضعيف لأن المجاز لا يستدعي إلا مجرد كونه موضوعا قبل ذلك لمعنى آخر وستعرف أن اللفظ في الوضع الأول لا يكون حقيقة ولا مجازا فالمجاز غير متوقف على الحقيقة

المسألة الثانية في الحقيقة العرفية اللفظة العرفية هي التي انتقلت عن مسماها إلى غيره بعرف الاستعمال ثم ذلك العرف قد يكون عاما وقد يكون خاصا ولا شك في إمكان القسمين إنما النزاع في الوقوع فنقول أما القسم الأول فالحق أن تصرفات أهل العرف منحصرة في أمرين أحدهما أن يشتهر المجاز بحيث يستنكر معه استعمال الحقيقة ثم للمجاز جهات كما سيأتي تفصيلها ان شاء الله تعالى منها حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه كاضافتهم ثنا الحرمة إلى الخمر وهي في الحقيقة مضافة إلى الشرب ومنها تسميتهم الشئ باسم شبيهه كتسميتهم حكاية كلام زيد بأنه كلام زيد ومنها تسميتهم الشئ باسم ما له به تعلق كتسميتهم قضاء الحاجة بالغائط الذي هو المكان المطمئن من الأرض وكتسميتهم المزادة بالرواية التي هي اسم الجمل الذي يحملها وثانيهما تخصيص الاسم ببعض مسمياته كالدابة فإنها مشتقة من

الدبيب ثم إنها اختصت ببعض البهائم والملك مأخوذ من الألوكة وهي الرسالة ثم اختص ببعض الرسل والجن مأخوذ من الاجتنان به ثم اختص ببعض من يستتر عن العيون وكذا القارورة والخابية موضوعتان لما يستقر فيه الشئ وتخبأ فيه ثم خصصا بشئ معين فالتصرف الواقع على هذين الوجهين هو الذي ثبت من أهل العرف ف أما على غير هذين الوجهين فلم يثبت عنهم فلا يجوز إثباته والذي يدل على وجود هذا القدر من التصرف أن علامات الحقيقة كما سنذكرها حاصلة في هذه الألفاظ عرفا فوجب كونها حقيقة فيه

وأما القسم الثاني وهو العرف الخاص فهو ما لكل طائفة من العلماء من الاصطلاحات التي تخصهم كالنقض والكسر والقلب والجمع والفرق للفقهاء والجوهر والعرض والكون للمتكلمين والرفع والنصب والجر للنحاة ولا شك في وقوعه المسألة الثالثة في الحقيقة الشرعية وهي اللفظة التي استفيد من الشرع وضعها للمعنى سواء كان المعنى واللفظ مجهولين عند أهل اللغة أو كانا معلومين لكنهم لم يضعوا ذلك الاسم لذلك المعنى أو كان أحدهما مجهولا والآخر معلوما واتفقوا على إمكانه واختلفوا في وقوعه فالقاضي أبو بكر منع منه مطلقا

والمعتزلة أثبتوه مطلقا وزعموا أنها منقسمة إلى أسماء أجريت على الأفعال وهي الصلاة والزكاة والصوم وغيرها وإلى أسماء أجريت على الفاعلين كالمؤمن والفاسق والكافر وهذا الضرب يسمى بالأسماء الدينية تفرقة بينهما وبين ما أجريت على الأفعال وإن كان الكل على السواء في أنه عرف شرعي والمختار إن اطلاق هذه الألفاظ على هذه المعاني على سبيل المجاز من الحقائق اللغوية لنا أن إفادة هذه الألفاظ لهذه المعاني لو لم تكن لغوية لما كان القرآن كله عربيا وفساد اللازم يدل على فساد الملزوم أما الملازمة فلأن هذه الألفاظ مذكورة في القرآن فلو لم تكن إفادتها لهذه المعاني عربية لزم أن لا يكون القرآن كله عربيا

وأما فساد اللازم فلقوله تعالى قرآنا عربيا وقوله تعالى وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه فإن قيل هذا الدليل فاسد الوضع لأنه يقتضي أن تكون هذه الألفاظ مستعملة في عين ما كان العرب يستعملونها فيه وبالاتفاق ليس كذلك فإن الصلاة لا يراد بها في الشرع نفس الدعاء أو المتابعة فقط فإذن ما يقتضيه هذا الدليل لا تقولون به وما تقولون به لا يقتضيه هذا الدليل فكان فاسدا سلمنا أنه ليس فاسد الوضع، لكن الملازمة ممنوعة. بيانه: أن إفادة هذه الألفاظ لهذه المعاني وإن لم تكن عربية لكنها في الجملة ألفاظ عربية فإنهم كانوا يتكلمون بها في الجملة وإن كانوا يعنون بها غير هذه المعاني واذا كان كذلك كانت هذه الألفاظ عربية سلمنا أنها إذا استعملت في غير معانيها العربية لا تكون عربية لكن لم يلزم أن لا يكون القرآن عربيا

بيانه أن هذه الألفاظ قليلة جدا فلا يلزم خروج القرآن بسببها عن كونه عربيا فإن الثور الأسود لا يمتنع إطلاق اسم الأسود عليه لوجود شعرات بيض في جلده والشعر الفارسي يسمى فارسيا وان وجدت فيه كلمات كثيرة عربية سلمنا ذلك لكن لم لا يجوز خروج كل القرآن عن كونه عربيا وأما الآيات فهي لا تدل على أن القرآن بكليته عربي لأن القرآن يقال بالاشتراك على مجموعه وعلى كل بعض منه لأربعة أوجه أحدها لو حلف أن لا يقرأ القرآن فقرأ آية حنث في يمينه ولولا أن الآية مسماة بالقرآن وإلا لما حنث الثاني أن الدليل يقتضي أن يسمى كل ما يقرأ قرآنا لأنه مأخوذ من القرأة أو القرء وهو الجمع خالفناه فيما عدا هذا الكتاب فنتمسك به في الكتاب بمجموعه وأجزائه

الثالث أنه يصح أن يقال هذا كل القرآن وهذا بعض القرآن ولو لم يكن القرآن إلا اسما للكل لكان الأول تكرار والثاني نقضا الرابع قوله تعالى في سورة يوسف إنا أنزلناه قرآنا عربيا والمراد منه تلك السورة فثبت أن بعض القرآن قرآن وإذا ثبت هذا لم يلزم من كون القرآن عربيا كونه بالكلية كذلك سلمنا أن ما ذكرتم من الدليل يقتضي كون القرآن بالكلية عربيا لكنه معارض بما يدل على أنه ليس بالكلية عربيا فإن الحروف المذكورة في أوائل السور ليست عربية والمشكاة من لغة الحبشة والاستبرق والسجيل فارسيتان هذا معربتان ثم والقسطاس من لغة الروم

سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على مذهبكم لكنه معارض بأدلة أخرى من حيث الاجمال والتفصيل أما الاجمال فهو أنه قد ثبت بالشرع معان لم تكن ثابتة قبله وما لم يكن معقولا للعرب لا يجوز أن يضعوا له اسما وذا لم يكن لها شئ من الأسامي واحتيج إلى تعريفها فلا بد من وضع الأسامي لها كالولد الحادث والأداة الحادثة أما التفصيل فهو أن يتبين في كل واحد من هذه الألفاظ أنها مستعلمة لا في معانيها الأصلية أما الإيمان فهو في أصل اللغة عبارة عن التصديق وفي الشرع عبارة عن فعل الواجبات ويدل عليه ثمانية أوجه الأول أن فعل الواجبات هو الدين والدين هو الاسلام والاسلام هو الايمان ففعل الواجبات هو الايمان

وإنما قلنا إن فعل الواجبات هو الدين لقوله تعالى وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة فقوله وذلك دين القيمة يرجع إلى كل ما تقدم فيجب أن يكون كل ما تقدم دينا وإنما قلنا إن الدين هو الإسلام لقوله تعالى إن الذين عند الله الإسلام وإنما قلنا إن الاسلام هو الايمان لوجهين أحدهما أن الايمان لو كان غير الاسلام لما كان مقبولا ممن ابتغاه لقوله تعالى ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه والثاني أنه تعالى استثنى المسلمين من المؤمنين في قوله تعالى فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين ولولا الاتحاد لما صح الاستثناء الثاني قوله تعالى وما كان الله ليضيع إيمانكم قيل صلاتكم الثالث قوله تعالى إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله إلى آخر الآية ثم إن الله تعالى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في

آخر هذه الآية ان يستغفر لهم والفاسق لا يستغفر له الرسول حال كونه فاسقا بل يلعنه ويذمه فدل على أنه غير مؤمن الرابع أن قاطع الطريق يخزى يوم القيامة والمؤمن لا يخزى يوم القيامة فقاطع الطريق ليس بمؤمن أما الأول فلأن الله تعالى يدخله النار يوم القيامة وكل من كان كذلك فقد أخزي أما الأول فلقوله تعالى في صفتهم ولهم في الآخرة عذاب عظيم وأما الثاني فلقوله تعالى حكاية عنهم ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته ولم يكذبهم فدل على صدقهم فيه وإنما قلنا إن المؤمن لا يخزى يوم القيامة لقوله تعالى يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه الخامس لو كان الايمان في عرف الشرع عبارة عن التصديق لما صح وصف المكلف به إلا في الوقت الذي يكون مشتغلا به على ما مر بيانه في باب الاشتقاق لكن ليس كذلك لأن من أتى بأفعال الايمان ولم يحبطها يقال إنه مؤمن بل حال كونه نائما يوصف بأنه مؤمن السادس يلزم أن يوصف بالايمان كل مصدق بأمر من الأمور سواء كان مصدقا بالله تعالى أو بالجبت والطاغوت

السابع من علم بالله تعالى ثم سجد للشمس وجب أن يكون مؤمنا وبالاجماع ليس كذلك الثامن قوله تعالى وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون أثبت الايمان مع الشرك والتصديق بوحدانية الله لا يجامع الشرك فالايمان غير التصديق أما الصلاة فهي في أصل اللغة أما للمتابعة كما يسمى الطائر الذي يتبع السابق مصليا وإما للدعاء كما في قول الشاعر وصلى على دنها وارتسم أو لعظم الورك كما قال بعضهم الصلاة إنما سميت صلاة لأن العادة في الصلاة أن يقف المسلمون صفوفا فإذا ركعوا كان رأس أحدهم عند صلا الآخر وهو عظم الورك

ثم إنها في الشرع لا تفيد شيئا من هذه المعاني الثلاثة لوجهين الأول أنا إذا أطلقناها لم يخطر ببال السامع شئ من هذه الثلاثة ومن شأن الحقيقة المبادرة إلى الفهم الثاني أن صلاة الامام والمنفردة صلاة ولم يوجد فيها شئ من المتابعة ولا يكون رأسه عند عظم ورك غيره واذا انتقل الانسان من الدعاء إلى غيره لا يقال إنه فارق صلاته ولأن صلاة الأخرس صلاة ولا دعاء فيها فدل على أن هذه اللفظة غير مستعملة في معانيها اللغوية وأما الزكاة فإنها في اللغة للنماء والزيادة وفي الشرع لتنقيص المال على وجه مخصوص وأما الصوم فإنه في اللغة لمطلق الامساك وفي الشرع للامساك المخصوص ولا يتبادر الذهن عند سماعه إلى مطلق الامساك والجواب قوله الدليل فاسد الوضع لأنه يقتضي كون هذه الألفاظ موضوعة في المعاني التي كانت العرب يستعملونها فيها قلنا هذا الدليل يقتضي كون هذه الألفاظ مستعملة في المعاني التي كانت

العرب يستعملونها فيها على سبيل الحقيقة فقط أو سواء كانت حقيقة أو مجازا الأول ممنوع والثاني مسلم بيانه أن العرب كما كانوا يتكلمون بالحقيقة كانوا يتكلمون بالمجاز ومن المجازات المشهورة تسميتهم الشئ باسم جزئه كما يقال للزنجي إنه أسود والدعاء أحد أجزاء هذا المجموع المسمى بالصلاة بل هو الجزء المقصود لقوله تعالى وأقم الصلاة لذكري ولأن المقصود من الصلاة التضرع والخضوع فلا جرم لم يكن اطلاق لفظ الصلاة عليه خارجا عن اللغة فإن كان مذهب المعتزلة في هذه الأسماء الشرعية ذلك فقد ارتفع النزاع وإلا فهو مردود بالدليل المذكور فإن قلت من شرط المجاز اللغوي تنصيص أهل اللغة على تجويزه وها هنا لم يوجد ذلك لأن هذه المعاني كانت معقولة لهم فكيف يمكن أن يقال إنهم جوزوا نقل لفظ الصلاة من الدعاء الذي هو أحد أجزاء هذا المجموع إليه قلت لا نسلم أن شرط حسن استعمال المجاز تصريح أهل اللغة بجوازه

سلمنا ذلك إلا أنهم صرحوا بأن اطلاق اسم الجزء على الكل على سبيل المجاز جائز فدخلت هذه الصورة فيه قوله افادة هذه اللفظة لهذا المعنى وإن لم تكن عربية فلم لا يجوز أن يقال هذه اللفظة عربية قلنا لأن كون اللفظة عربية ليس حكما حاصلا لذات اللفظة من حيث هي هي بل حيث هي دالة على المعنى المخصوص فلو لم تكن دلالتها على معناها عربية لم تكن اللفظة عربية قوله اشتمال القرآن على ألفاظ قليلة لا يخرجه عن كونه عربيا قلنا لا نسلم فإنه لما وجد فيه ما لا يكون عربيا وان كان في غاية القلة لم يكن المجموع عربيا وأما الثور الأسود الذي توجد فيه شعرة واحدة بيضاء والقصيدة الفارسية التي يوجد فيها ألفاظ عربية فلا نسلم جواز اطلاق الأسود والفارسي على مجموعهما على سبيل الحقيقة والدليل عليه جواز الاستثناء ولولا أنه يمجموعه رسول لا يسمى بهذا الاسم حقيقة وإلا لما جاز الاستثناء قوله القرآن اسم لمجموع الكتاب أوله ولبعضه قلنا بل للمجموع بدليل إجماع الأمة على أن الله تعالى ما

أنزل إلا قرآنا واحدا ولو كان لفظ القرآن حقيقة في كل بعض منه لما كان القرآن واحدا وما ذكروه من الوجوه الأربعة معارض بما يقال في كل آية وسورة إنه من القرآن وإنه بعض القرآن قوله وجد في القرآن ألفاظ عربية قلنا لا نسلم أما الحروف المذكورة في أوائل السور فعندنا أنها أسماء السور وأما المشكاة والقسطاس والاستبرق فلا مانع من كونها عربية وإن كانت موجودة في سائر اللغات فإن توافق اللغات غير ممتنع سلمنا أنها ليست بعربية لكن العام إذا خص يبقى حجة فيما وراءه قوله هذه المسميات حدثت فلا بد م حدوث اسمائها قلنا لم لا يكفي فيها المجاز وهو تخصيص هذه الألفاظ المطلقة ببعض مواردها فإن الإيمان والصلاة والصوم كانت موضوعة لمطلق التصديق والدعاء والامساك ثم تخصصت بسبب الشرع بتصديق معين ودعاء معين وامساك معين والتخصيص لا يتم إلا بادخال قيود زائدة على الأصل وحينئذ يكون اطلاق اسم المطلق على المقيد اطلاقا لاسم الجزء على الكل وأما الزكاة فإنها من المجاز الذي ينقل فيه اسم المسبب إلى السبب

والجواب عن المعارضة الأولى أنا لا نسلم أن فعل الواجبات هو الدين أما قوله تعالى وذلك دين القيمة فنقول لا يمكن رجوعه إلى ما تقدم لوجهين أحدهما أن ذلك لفظ الوجدان فلا يجوز صرفه إلى الأمور الكثيرة والثاني أنه من ألفاظ الذكران فلا يجوز صرفه إلى إقامة الصلاة وإذا كان كذلك فلا بد من إضمار شئ آخر وهو أن يقولوا ذلك الذي أمرتم به دين القيمة وإذا كان كذلك فليسوا بأن يضمروا ذلك أولى منا بأن نضمر شيئا آخر وهو أن نقول معناه أن ذلك الاخلاص أو ذلك التدين دين القيمة ويكون قوله تعالى مخلصين له الدين دالا على الاخلاص واذا تعارض الاحتمالات فعليهم الترجيح وهو معنا لأن إضمارهم يؤدي إلى تغيير اللغة واضمارنا ولا يؤدي إلى عدم التغيير والجواب عن الثاني أنا لا نسلم أن المراد في قوله تعالى وما كان الله

ليضيع إيمانكم أي صلاتكم إلى بيت المقدس بل المراد منه موضوعه اللغوي وهو التصديق بوجوب تلك الصلاة وعن الثالث لا نسلم أن كلمة إنما للحصر سلمناه لكنه معارض بآيات منها ما يدل على أن محل الايمان هو القلب وذلك يدل على مغايرة الايمان لعمل الجوارح قال تعالى أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وقلبه مطمئن بالإيمان يشرح صدره للإسلام وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك

ومنها الآيات الدالة على أن الأعمال الصالحة أمور مضافة إلى الإيمان قال الله تعالى الذين آمنوا وعملوا الصالحات ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن ومنها الآيات الدالة على مجامعة الايمان مع المعاصي قال الله تعالى الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا وهذا هو الجواب عن سائر الآيات التي تمسكوا بها والجواب عن الخامس أن ما ذكروه لازم عليهم لأنه قد يسمى مؤمنا حال كونه غير مباشر لأعمال الجوارح

والجواب عن السادس أنا نعترف بأن الايمان في عرف الشرع ليس ل مطلق التصديق بل التصديق الخاص وهو تصديق محمد صلى الله عليه وأله وسلم في كل أمر ديني علم بالضرورة مجيئه به وهو الجواب عن السابع والثامن وأما الذي احتجوا به من أن الصلاة والصوم غير مستعملين في موضوعيهما اللغويين فمسلم ولكنهما مستعملان في أمور هي مجازات بالنسبة إلى تلك الموضوعات الأصلية وهم ما أقاموا الدلالة على فساده والله أعلم فروع على القول بالنقل الأول النقل خلاف الأصل ويدل عليه أمور أحدها أن النقل لا يتم إلا بثبوت الوضع اللغوي ثم نسخه ثم ثبوت الوضع الآخر وأما الوضع اللغوي فإنه يتم بوضع واحد وما يتوقف على ثلاثة أشياء مرجوح بالنسبة إلى ما لا يتوقف إلى على شئ واحد

وثانيها أن ثبوت الحكم في الحال يفيد ظن البقاء على ما سنقيم الدليل عليه في باب الاستصحاب وذلك يدل على أن البقاء على الوضع الأول أرجح وثالثها أنه لو كان احتمال بقاء اللغة على الوضع الأصلي معارضا لاحتمال التغيير لما فهمنا عند التخاطب شيئا إلا إذا سألنا في كل لفظة هل بقيت على وضعها الأول واذا لم يكن كذلك ثبت ما قلناه الفرع الثاني لا شك في ثبوت الألفاظ المتواطئة في الاسماء الشرعية واختلفوا في وقوع الأسماء المشتركة والحق وقوعها لأن لفظ الصلاة مستعمل في معان شرعية لا يجمعها جامع لأن اسم الصلاة يتناول ما لا قراءة فيه كصلاة الأخرس وما لا سجود فيه ولا ركوع كصلاة الجنازة وما لا قيام فيه كصلاة القاعد والصلاة بالايماء على مذهب الشافعي رضي الله عنه ليس فيها شئ من ذلك وليس بين هذه الأشياء قدر مشترك يجعل مسمى الصلاة فيها حقيقة

وأما المترادف فالأظهر أنه لم يوجد لأنه ثبت أنه على خلاف الأصل فيقدر بقدر الحاجة الفرع الثالث كما وجد الاسم الشرعي فهل وجد الفعل الشرعي والحرف الشرعي الأقرب أنه لم يوجد أما أولا فبالإستقراء لم وأما ثانيا فلأن الفعل صيغة دالة على وقوع المصدر بشئ غير معين في زمان معين فإن كان المصدر لغويا استحال كون الفعل شرعيا وإن كان شرعيا وجب كون الفعل أيضا شرعيا تبعا لكون المصدر شرعيا فيكون كون الفعل شرعيا أمرا حصل بالعرض لا بالذات الفرع الرابع في أن صيغ العقود انشاءات حدثنا ام إخبارات

لا شك أن قوله نذرت وبعت واشتريت صيغ الأخبار في اللغة وقد تستعمل في الشرع أيضا للإخبار وإنما النزاع في أنها حيث تستعمل لاستحداث الأحكام إخبارات أم إنشاءآت ابن والثاني هو الأقرب لوجوه الأول أن قوله أنت طالق لو كان إخبارا لكان إما أن يكون إخبارا عن الماضي أو الحال أو المستقبل والكل باطل فبطل القول بكونها أخبارا أما إنه لا يمكن أن يكون إخبارا عن الماضي والحاضر فلأنه لو كان كذلك لامتنع تعليقه على الشرط لأن التعليق عبارة عن توقيف دخوله في الوجود على دخوله في غيره الوجود وما دخل في الوجود لا يمكن توقيف دخوله في الوجود على دخول غيره في الوجود ولما صح تعليقه على الشرط بطل كونه إخبارا عن الماضي أو الحال وأما أنه لا يمكن أن يكون إخبارا عن المستقبل فلأن قوله أنت طالق في دلالته على الإخبار عن صيرورتها موصوفة بالطلاق في المستقبل ليس أقوى من تصريحه بذلك وهو قوله ستصيرين طالقا في المستقبل

لكنه لو صرح بذلك فإنه لا يقع الطلاق فما هو أضعف منه وهو قوله أنت طالق أولى بأن لا يقتضي وقوع الطلاق الثاني أن هذه الصيغ لو كانت أخبارا لكانت إما أن تكون كذبا أو صدقا فان كانت كذبا فلا عبرة بها وان كانت صدقا فوقوع الطالقية إما أن يكون متوقفا على حصول هذه الصيغ أو لا يكون فإن كان متوقفا عليه فهو محال لأن كون الخبر صدقا يتوقف على وجود المخبر عنه والمخبر عنه ها هنا هو وجود الطالقية فلإخبار قوله عن الطالقية يتوقف كونها صدقا على حصول الطالقية فلو توقف حصول الطالقية على هذا الخبر لزم الدور وهو محال وإن لم يكن متوقفا عليه فهذا الحكم لا بد له من سبب آخر فبتقدير ح صول ذلك السبب تقع الطالقية وإن لم يوجد هذا الخبر وبتقدير عدمه لا توجد وإن وجد هذا الإخبار وذلك باطل بالاجماع فان قيل لم لا يجوز أن يكون تأثير ذلك المؤثر في حصول الطالقية يتوقف على هذه اللفظة

قلت هذه اللفظة إذا كانت شرطا لتأثير المؤثر في الطالقية وجب تقدمها على الطالقية لكنا بينا أنا متى جعلناه خبرا صادقا لزم تقدم الطالقية عليها فيعود الدور الثالث قوله تعالى فطلقوهن لعدتهن أمر بالتطليق فيجب أن يكون قادرا على التطليق ومقدوره ليس إلا قوله طلقت فدل على أن ذلك مؤثر في الطالقية الرابع لو أضاف الطلاق إلى الرجعية وقع وان كان صادقا بدون الوقوع فثبت أنه انشاء لا إخبار والله أعلم

القسم الثاني في المجاز

القسم الثاني في المجاز وفيه مسائل المسألة الأولى في أقسام المجاز المجاز إما أن يقع في مفردات الألفاظ فقط أو في مركباتها أو فيهما معا أما الذي يقع في المفردات فكإطلاق له لفظ الأسد على الشجاع والحمار على البليد وأما الذي يقع في التركيب فهو أن يستعمل كل واحد من الألفاظ المفردة في موضوعه الأصلي لكن التركيب لا يكون مطابقا لما في الوجود كقوله أشاب الصغير وأفنى الكبير كر الغداة ومر العشي

فكل واحد من الألفاظ المفردة التي في هذا البيت مستعمل في موضوعه الأصلي لكن اسناد أشاب إلى كر الغداة غير مطابق لما عليه الحقيقة فإن الشيب يحصل بفعل الله تعالى لا بكر الغداة وأما الذي يقع في المفردات والتركيب معا فكقولك لمن تداعبه ذلك أحياني اكتحالي بطلعتك فإنه استعمل الإحياء لا في موضوعه الأصلي ولفظ الاكتحال لا في موضوعه الأصلي ثم نسب الإحياء إلى الاكتحال مع أنه غير منتسب إليه وقد جاء في القرآن والأخبار من الأقسام الثلاثة شئ كثير والأصوليون لم يتنبهوا للفرق بين هذه الأقسام وإنما لخصه الشيخ عبد القاهر النحوي المسألة الثانية في إثبات المجاز المفرد الدليل عليه أنهم يستعملون الأسد في الشجاع والحمار في البليد مع اعترافهم بأن الأسد والحمار غير موضوعين في أول الأمر لهذين المعنيين بل إنهما أطلقا عليهما لما بين مفهوميهما وبين هذين الأمرين من المشابهة ولا معنى للمجاز إلا ذلك

واحتج المانعون منه بأن اللفظ لو أفاد المعنى على سبيل المجاز فإما أن يفيده مع القرينة أو بدون القرينة والأول باطل لأنه مع القرينة المخصوصة لا يحتمل غير ذلك فيكون هو مع تلك القرينة حقيقة فيه لا مجازا وبدون تلك القرينة غير مفيد له أصلا فلا يكون حقيقة ولا مجازا فظهر أن اللفظ على هذا التقدير لا يكون مجازا لا حال القرينة ولا حال عدم القرينة والثاني أيضا باطل لأن اللفظ لو أفاد معناه المجازي بدون قرينة لكان حقيقة فيه لأنه لا معنى للحقيقة إلا ما يكون مستقلا بالإفادة بدون القرينة والجواب أن هذا نزاع في العبارة ولنا أن نقول اللفظ الذي لا يفيد إلا مع القرينة هو المجاز ولا يقال اللفظ مع القرينة حقيقة فيه لأن دلالة القرينة ليست دلالة وضعية حتى يجعل المجموع لفظا واحدا دالا على المسمى المسألة الثالثة في أقسام هذا المجاز والذي يحضرنا منه اثنا عشر وجها أحدها اطلاق اسم السبب على المسبب والأسباب أربعة القابل والصورة والفاعل والغاية مثال تسمية الشئ باسم قابله قولهم سال الوادي

ومثال التسمية باسم الصورة تسميتهم اليد بالقدرة ومثال التسمية باسم بالفاعل حقيقة أو ظنا تسمية المطر بالسماء ومثال التسمية باسم الغاية تسمية العنب بالخمر والعقد بالنكاح وثانيها اطلاق اسم المسبب على السبب كتسمية المرض الشديد والمذلة العظيمة بالموت ويحتمل أن يكون وجه المجاز ها هنا ما بين الأمرين من المشابهة ثم ها هنا بحثان البحث الأول أن العلة الغائية حال كونها ذهنية علة العلل وحال كونها خارجية معلولة العلل فقد حصلت لها علاقتا محمد العلية والمعلولية وكل واحدة منها علة لحسن التجوز إلا أن نقل اسم السبب إلى المسبب أحسن من العكس لأن السبب المعين يقتضي المسبب المعين لذاته

وأما المسبب المعين فإنه لا يقتضي لذاته السبب المعين على ما بينا الفرق بينهما في الكتب العقلية وإذا كان كذلك كان اطلاق اسم السبب على المسبب أولى من العكس الثاني هو أن العلة الغائية لما اجتمع فيها الوجهان السببية والمسببية كان استعمال اللفظ المجازي فيها أولى من سائر المواضع لاجتماع الوجهين وثالثها تسمية الشئ باسم ما يشابهه كتسمية الشجاع أسدا والبليد حمارا وهذا القسم على الخصوص هو المسمى بالمستعار ورابعها تسمية الشئ باسم ضده كقوله تعالى وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم

ويمكن جعل ذلك من باب المجاز للمشابهة لأن جزاء السيئة يشبهها في كونها سيئة بالنسبة إلى من يصل إليه ذلك الجزاء وخامسها تسمية الجزء باسم الكل كاطلاق اللفظ العام مع أن المراد منه الخصوص وسادسها تسمية الكل باسم الجزء كما يقال للزنجي إنه أسود والأول أولى لأن الجزء لازم الكل أما الكل فليس بلازم للجزء وسابعها تسمية إمكان الشئ باسم وجوده كنا يقال للخمر التي في الدن إنها مسكرة وثامنها إطلاق اللفظ المشتق بعد زوال المشتق منه كقولنا للانسان بعد فراغه من الضرب إنه ضارب وتاسعها المجاورة كنقل اسم الراوية من الجمل إلى ما يحمل عليه من ظرف الماء وكتسمية إلى الشراب بالكأس ويمكن جعله من المجاز بسبب القابل

وعاشرها المجاز بسبب أن أهل العرف تركوا استعماله فيما كانوا يستعملونه فيه ك الدابة اذا استعملت في الحمار فإن قلت لفظ الدابة إما أن يكون مجازا من حيث إنه صار مستعملا في الفرس وحده أو من حيث منع من استعماله في غيره والأول من باب اطلاق اسم العام على الخاص فلا يكون قسما آخر والثاني باطل لأن المجازية كيفية عارضة للفظة من جهة دلالتها على المعنى لا من جهة عدم دلالتها على الغير قلت لفظ الدابة اذا استعمل في الحمار والكلب كان ذلك مجازا بالنسبة إلى الوضع العرفي لأنه يكون مستعملا في غير موضعه لعلاقة بينه وبين موضوعه ويكون ذلك حقيقة بالنسبة إلى الوضع اللغوي إلا أن هذا المجاز من باب المشابهة فلا يكون في الحقيقة قسما آخر وحادي عشرها المجاز بسبب الزيادة والنقصان وقد ذكرنا مثاليهما كان وبينا كيفية الحال فيهما وثاني عشرها تسمية المتعلق باسم المتعلق كتسمية المعلوم علما والمقدور قدرة

المسألة الرابعة في أن المجاز بالذات لا يدخل دخولا أوليا إلا في أسماء الأجناس أما الحرف فلا يدخل فيه المجاز بالذات لأن مفهومه غير مستقل بنفسه بل لا بد أن ينضم إليه شئ آخر لتحصل الفائدة فإن ضم إلى ما ينبغي ضمه إليه فهو حقيقة فيه وإلا فهو مجاز في المركب لا في المفرد وأما الفعل فهو لفظ دال على ثبوت شئ لموضوع غير معين في زمان معين فيكون الفعل مركبا من المصدر وغيره فما لم يدخل المجاز في المصدر استحال دخوله في الفعل الذي لا يفيد إلا ثبوت ذلك المصدر لشئ وأما الاسم فهو إما علم أو مشتق أو اسم جنس أما العلم فلا يكون مجازا لأن شرط المجاز أن يكون النقل لأجل علاقة بين الأصل والفرع وهي غير موجودة في الأعلام

وأما المشتق فما لم يتطرق المجاز إلى المشتق منه فلا يتطرق إلى المشتق الذي لا معنى له إلا أنه أمر ما حصل له المشتق منه فاذن المجاز لا يتطرق في الحقيقة إلا إلى أسماء الأجناس والله أعلم المسألة الخامسة في أن استعمال اللفظ في معناه المجازي يتوقف على السمع الدليل عليه أن لفظ الأسد لا يستعار للرجل الشجاع إلا لأجل المشابهة في الشجاعة لكن الرجل الشجاع كما يشبه الأسد في شجاعته فقد يشبهه في صفات أخر كالبخر وغيره فلو كانت المشابهة كافية في ذلك ل جاز استعارة الأسد للأبخر أبو ولما لم يجز ذلك صح قولنا ولأنهم قد يطلقون النخلة على الرجل الطويل ولا يطلقونها على غير الانسان وذلك يدل على اعتبار الاستعمال في المجاز واحتج المخالف بوجهين الأول اتفقوا على أن وجوه المجازات والاستعارات مما يحتاج في استخراجها إلى تدقيق النظر وما يكون نقليا لا يكون كذلك الثاني أنك إذا قلت رأيت أسدا وعنيت به الشجاع فالغرض من

التعظيم إنما يحصل بإعارة معنى الأسد له فإنك لو أعطيته الاسم بدون المعنى لم يحصل التعظيم وإذا كانت إعارة اللفظ تابعة لاعارة المعنى وإعارة المعنى حاصلة بمجرد قصد المبالغة وجب أن لا يتوقف استعمال اللفظ المستعار على السمع والجواب عن الأول أن المستخرج بالفكر جهات حسن المجاز وعن الثاني أن هذه الاعارة ليست أمرا حقيقيا بل أمرا تقديريا فلم لا يجوز أن يمنع الواضع منه في بعض المواضع دون البعض المسألة السادسة في أن المجاز مركب عقلي ومثاله في القرآن قوله تعالى وأخرجت الأرض أثقالها وقوله مما تنبت الأرض فالإخراج والإنبات غير مستندين في نفس الأمر إلى الأرض بل إلى الله تعالى وذلك حكم عقلي ثابت في نفس

الأمر فنقله عن متعلقه إلى غيره نقل لحم عقلي لا للفظ لغوي فلا يكون هذا المجاز إلا عقليا فإن قلت لم لا يجوز أن يقال صيغة أخرج وأنبت وضعت في أصل اللغة بازاء صدور الخروج والنبات من القادر فاذا استعملت في صدورهما من الأرض فقد استعملت الصيغة في غير موضوعها فيكون هذا المجاز لغويا قلت إن أمثلة الأفعال لا تدل بالتضمن على خصوصية المؤثر والدليل عليه وجوه أحدها أنه لو كانت كذلك لكان المفهوم من لفظة أخرج أن القادر صدر عنه هذا الأثر فيكون مجرد قولنا أخرج خبرا تاما فكان يلزم أن يتطرق إليه وحده التصديق ولتكذيب ومعلوم أنه ليس كذلك وثانيها أنه يصح أن يقال أخرجه القادر ولو كان القادر جزءا من مفهوم أخرج لكان التصريح بذكر القادر تكرارا وثالثها هب أنها دالة على صدور الفعل عن القادر فأما عن القادر المعين فلا وإلا لزم حصول الاشتراك اللفظي بحسب كل واحد واحد من القادرين إذا ثبت هذا فنقول إذا أضيف ذلك الفعل إلى غير ذلك القادر الذي هو

صادر عنه لم يكن التغيير واقعا في مفهومات الألفاظ بل في إسناد مفهوماتها إلى غير ما هو مستندها فإن قال قائل ما الفرق بين هذا المجاز وبين الكذب قلنا الفارق هو القرينة وهي قد تكون حالية وقد تكون مقالية أما الحالية فهي ما إذا علم أو ظن أن المتكلم لا يتكلم بالكذب فيعلم أن المراد ليس هو الحقيقة بل المجاز ومنها أن يقترن الكلام بهيئات مخصوصة قائمة بالمتكلم دالة على أن المراد ليس هو الحقيقة بل المجاز ومنها أن يعلم بسبب خصوص الواقعة أنه لم يكن للمتكلم داع إلى ذكر الحقيقة فيعلم أن المراد هو المجاز وأما القرينة المقالية فهي أن يذكر المتكلم عقيب ذلك الكلام ما يدل على أن المراد من الكلام الأول غير ما أشعر به ظاهره المسألة السابعة ف ي جواز دخول المجاز في خطاب الله تعالى وخطاب رسوله صلى الله عليه وسلم

الأكثرون جوزوا ذلك خلافا لأبي بكر بن داود الأصفهاني لنا قوله تعالى جدارا يريد أن ينقض فأقامه وجاء ربك وقد ثبت بالدليل أنه لا يجوز أن يكون المراد منها ظواهرها فوجب صرفها إلى غير ظواهرها وهو المجاز واحتج المخالف بأمور أحدها لو خاطب الله بالمجاز لجاز وصفه بأنه متجوز ومستعير وثانيها أن المجاز لا ينبئ بنفسه عن معناه فورود القرآن به يقتضي الالتباس وثالثها أن العدول عن الحقيقة إلى المجاز يقتضي العجز عن الحقيقة وهو على الله تعالى محال ورابعها أن كلام الله تعالى كله حق وكل حق فله حقيقة وكل ما كان حقيقة فإنه لا يكون مجازا

والجواب عن الأول أن أسامي الله تعالى توقيفية وبتقدير كونها اصطلاحية لكن لفظ المتجوز يوهم كونه تعالى فاعلا ما لا ينبغي فعله وهو في حق الله تعالى محال وعن الثاني أنه لا التباس مع القرينة الدالة على المراد وعن الثالث أن العدول عن الحقيقة إلى المجاز لأغراض سنذكرها إن شاء الله تعالى وعن الرابع أن كلام الله تعالى كله حقيقة بمعنى أنه صدق لا بمعنى كون ألفاظه بأسرها مستعملة في موضوعاتها الأصلية والله أعلم المسألة الثامنة في الداعي إلى التكلم بالمجاز العدول عن الحقيقة إلى المجاز إما لأجل اللفظ أو المعنى أو لهما أما الذي لأجل اللفظ فإما أن يكون لأجل جوهر اللفظ أو لأجل أحوال عارضة للفظ

أما الأول فهو أن يكون اللفظ الدال على الشئ بالحقيقة ثقيلا على اللسان أما لأجل مفردات حروفه أو لتنافر تركيبه أو لثقل وزنه واللفظ المجازي يكون عذبا فتترك الحقيقة إلى هذا المجاز وأما الثاني وهو أن يكون لأجل أحوال عارضة للفظ فهو أن تكون اللفظة المجازية صالحة للشعر أو السجع وسائر اصناف البديع واللفظة الحقيقية لا تصلح لذلك وأما الذي يكون لأجل المعنى فقد تترك الحقيقة إلى المجاز لأجل التعظيم والتحقير ولزيادة البيان ولتلطيف أو الكلام أما فكما يقال سلام على المجلس العالي فإنه تركت الحقيقة ها هنا لأجل الاجلال وأما التحقير فكما يعبر عن قضاء الحاجة بالغائط الذي هو اسم للمكان المطمئن من الأرض وأما زيادة البيان فقد تكون لتقوية حال المذكور وقد تكون لتقوية الذكر أما الأول فكقولهم رأيت أسدا فإنه لو قال رأيت انسانا

يشبه الأسد في الشجاعة لم تكن في البلاغة كما اذا قال رأيت أسدا وتحقيق هذا الفرق مذكور في كتابنا في الاعجاز وأما الثاني فهو المجاز الذي يذكر للتأكيد وأما تلطيف الكلام فهو أن النفس إذا وقفت على تمام كلام فلو وقفت على تمام المقصود لم يبق لها شوق إليه أصلا لأن تحصيل الحاصل محال وإن لم تقف على شئ منه أصلا لم يحصل لها شوق إليه فأما إذا عرفته من بعض الوجوه دون البعض فإن القدر المعلوم يشوقها إلى تحصيل العلم بما ليس بمعلوم فيحصل لها بسبب علمها بالقدر الذي علمته لذة وبسبب حرمانها من الباقي ألم فتحصل هناك لذات وآلام متعاقبة واللذة إذا حصلت عقيب الألم كانت أقوى وشعور النفس بها أتم إذا عرفت هذا فنقول إذا عبر عن الشئ باللفظ الدال عليه على سبيل الحقيقة حصل كمال العلم به فلا تحصل اللذة القوية أما إذا عبر عنها بلوازمها الخارجية عرف لا على سبيل الكمال فتحصل الحالة المذكورة التي هي كالدغدغة) النفسانية فلأجل هذا كان التعبير عن المعاني بالعبارات المجازية ألذ من التعبير عنها بالألفاظ الحقيقية والله أعلم

المسألة التاسعة في أن المجاز غير غالب على اللغات قال أبو الفتح ابن جني أكثر اللغة مجاز أما في الأفعال فنحو قولك قام زيد وقعد عمرو فإن الفعل يفيد المصدر فقولك قام زيد معناه كان منه القيام أي هذا الجنس من الفعل والجنس يتناول جميع الأفراد ومعلوم أنه لم يكن منه جميع القيام لأنه لا يجتمع لانسان واحد في وقت واحد ولا في مائة ألف سنة القيام كله الداخل تحت الوهم أقول هذا ركيك لأنه ظن أن المصدر لفظ دال على جميع أشخاص تلك الماهية وهو باطل بل المصدر لفظ دال على الماهية أعني القدر المشترك بين الواحد والكل والماهية من حيث هي هي لا تستلزم الوحدة ولا الكثرة وإذا كان كذلك كان الفعل المشتق منه لا دلالة على الكثرة ولا على الوحدة وقال أيضا قولك ضربت عمرا مجاز من جهة أخرى لأنك إنما ضربت بعضه لا جميعه ولهذا إذا احتاط الانسان قال ضربت رأسه وهذا أيضا يكون مجازا وذلك عندما

إذا ضربت جانبا من جوانب رأسه فقط اعترض أبو محمد بن متويه فقال المتألم بالضرب جملة عمرو لا عضو منه أقول هذا الاعتراض ساقط لأن ابن جني إنما ألزم المجاز في لفظ الضرب لا في لفظ التألم والضرب عبارة عن امساس جسم حيوان بعنف والامساس عبد حكم يرجع إلى الاجزاء لا إلى الجملة بالاتفاق فكان المضروب بالحقيقة هو الجزء الممسوس فقط فظهر سقوط هذا الاعتراض وأقول ها هنا وجوه أخر من المجازات السائغة فإني إذا قلت ضربت زيدا فزيد ليس عبارة عن جملة البنية المشاهدة لأنا نعلم أن زيدا هو الذي كان موجودا وقت ولادته ونعلم أن أجزاءه وقت شبابه أكثر مما كانت وقت ولادته ولا شك أن زيدا هو تلك الأجزاء الباقية من أول حدوثه إلى آخر فنائه وتلك الأجزاء قليلة فإذن المسمى بزيد هو تلك الأجزاء فإذا قلت ضربت زيدا فلعل هذا الامساس ما وقع على تلك

الأجزاء فيكون الكلام أيضا مجازا من هذا الوجه ثم ها هنا دقيقة وهي أن هذه المجازات من باب المجاز العقلي لأنك إذا قلت رأيت زيدا وضربت عمروا فصيغتا عليه رأيت وضربت مستعملتان في موضوعيهما الأصليين فلا يكون مجازا وأما لفظة زيد فهي من الأعلام فلا تكون مجازا فلم يبق إلا أن المجاز واقع في النسبة فيكون مجازا عقليا والله أعلم المسألة العاشرة في أنت المجاز على خلاف الأصل والذي يدل عليه وجوه أحدها أن اللفظ إذا تجرد فإما أن يحمل على حقيقته أو على مجازه أو عليهما أو لا على واحد منهما والثلاثة الأخيرة باطلة فتعين الأول وإنما قلنا إنه لا يجوز حمله على مجازه لأن شرط الحمل على المجاز حصول القرينة فإن الواضع لو أمر بحمل اللفظ عند تجرده على ذلك المعنى لكان حقيقة فيه إذ لا معنى للحقيقة إلا ذلك وأما أنه لا يجوز حمله عليهما معا فظاهر لأن الواضع لو قال احملوه وحده عليهما معا كان اللفظ حقيقة في ذلك المجموع ولو قال احملوه إما على هذا أو على ذاك كان مشتركا بينهما

وأما أنه لا يجوز أن لا يحمل على واحد منهما ألبتة فلأنه على هذا التقدير يكون اللفظ حال تجرده من المهملات لا من المستعملات واذا بطلت هذه الأقسام الثلاثة تعين القسم الأول وهو المطلوب وثانيها أن المجاز لا يتحقق إلا عند نقل اللفظ من شئ إلى شئ لعلاقة بينهما وذلك يستدعي أمورا ثلاثة وضعه للأصل ثم نقله إلى الفرع ثم علة للنقل وأما الحقيقة فإنه يكفي فيها أمر واحد وهو وضعه للأصل ومن المعلوم أن الذي يتوقف على شئ واحد أغلب وجودا مما يتوقف على ذلك الشئ مع شيئين آخرين معه وثالثها أن واضع اللفظ للمعنى إنما يضعه له ليكتفي به في الدلالة عليه وليستعمل فيه فكأنه قال اذا سمعتموني أتكلم بهذا الكلام فاعلموا أنني أعني هذا المعنى وإذا تكلم به متكلم بلغتي فليعن به هذا

فكل من تكلم بلغته يجب أن يعنى به ذلك المعنى ولهذا يسبق إلى أذهان السامعين ذلك المعنى دون ما هو مجاز فيه ولو قال لنا مثل ذلك في المجاز لكان حقيقة ولم يكن مجازا ورابعها إجماع الكل على أن الأصل في الكلام الحقيقة وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال ما كنت أعرف معنى الفاطر حتى اختصم إلي شخصان في بئر فقال أحدهما فطرها أبي أي اخترعها وقال الأصمعي ما كنت أعرف الدهاق حتى سمعت جارية بدوية تقول اسقني دهاقا أي ملآنا فها هنا استدلوا بالاستعمال على الحقيقة فلولا أنهم عرفوا أن الأصل في الكلام الحقيقة وإلا لما جاز لهم ذلك وخامسها لو لم يكن الأصل في الكلام الحقيقة لكان الأصل إما أن يكون هو المجاز وهو باطل باجماع الأمة أو لا يكون واحد منهما

أصلا فحينئذ يتردد كل كلام الشارع بين أمرين فيصير الكل مجملا وهو باطل بالاجماع ويلزم أن يصير كل ما يتكلم به في العرف مجملا لتردد تلك الألفاظ بين حقائقها ومجازاتها ولو كان الكل مجملا لما فهمنا المراد في شئ من الألفاظ إلا بعد الاستفسار وطلب تعيين المراد ولما كان ذلك باطلا علمنا أن الأصل في الكلام الحقيقة فرع إذا دار اللفظ بين الحقيقة المرجوحة والمجاز الراجح فأيهما أولى فعند أبي حنيفة رضي الله عنه الحقيقة المرجوحة أولى وعند أبي يوسف رحمه الله المجاز الراجح أولى ومن الناس من قال يحصل التعارض لأن كل واحد منهما راجح على الآخر من وجه ومرجوح من وجه آخر فيحصل التعارض

القسم الثالث في المباحث المشتركة

القسم الثالث في المباحث المشتركة بين الحقيقة والمجاز وفيه مسائل المسألة الأولى في أن دلالة اللفظ بالنسبة إلى المعنى قد تخلو عن كونها حقيقة ومجازا أما في الأعلام فظاهر وأما في غيرها فالوضع الأول ليس بحقيقة ولا مجاز لأن الحقيقة استعمال اللفظ في موضوعه فالحقيقة لا تكون حقيقة إلا إذا كانت مسبوقة بالوضع الأول والمجاز هو المستعمل في غير موضوعه الأصلي فيكون هو أيضا مسبوقا بالوضع الأول فثبت أن شرط كون اللفظ حقيقة أو مجازا حصول الوضع الأول فالوضع الأول وجب أن لا يكون حقيقة ولا مجازا المسألة الثانية في أن اللفظ الواحد هل يكون حقيقة ومجازا معا أما بالنسبة إلى معنيين فلا شك في جوازه

وأما بالنسبة إلى معنى واحد فإما أن يكون بالنسبة إلى وضعين أو إلى وضع واحد أما الأول فجائز لأن لفظ الدابة بالنسبة إلى الحمار حقيقة بحسب الوضع اللغوي مجاز بحسب الوضع العرفي وأما الثاني فهو محال لامتناع اجتماع النفي والاثبات في جهة واحدة المسألة الثالثة في أن الحقيقة قد تصير مجازا وبالعكس الحقيقة إذا قل استعمالها صارت مجازا عرفيا والمجاز إذا كثر استعماله صار حقيقة عرفية المسألة الرابعة في أن اللفظ متى كان مجازا فلا بد وأن يكون حقيقة في غيره ولا ينعكس أما الأول فلأن المجاز هو المستعمل في غير موضوعه الأصلي وهذا تصريح بأنه وضع في الأصل لمعنى آخر فاللفظ متى استعمل في ذلك الموضوع كان حقيقة فيه وأما الثاني فلأن المجاز هو المستعمل في غير موضوعه الأصلي لمناسبة بينهما وليس يلزم من كون اللفظ موضوعا لمعنى أن يصير موضوعا

لشئ آخر بينه وبين الأول مناسبة المسألة الخامسة فيما به تنفصل الحقيقة عن المجاز الفروق المذكورة منها صحيحة ومنها فاسدة أما الصحيحة فنقول الفرق بين الحقيقة والمجاز إما أن يقع بالتنصيص أو الاستدلال أما التنصيص فمن ثلاثة أوجه أحدها أن يقول الواضع هذا حقيقة وذلك مجاز وثانيها أن يذكر أحدهما وثالثها أن يذكر خواصهما وأما الاستدلال فمن وجوه أربعة أحدها أن يسبق المعنى إلى افهام جماعة أهل اللغة عند سماع اللفظ من دون قرينة فيعلم أنها حقيقة فيه فإن السامع لولا أنه اضطر من قصد الواضعين إلى أنهم وضعوا اللفظ لذلك المعنى لما سبق إلى فهمه ذلك المعنى دون غيره

وثانيها أن أهل اللغة إذا أرادوا إفهام غيرهم معنى اقتصروا على عبارات مخصوصة واذا عبروا عنه بعبارات أخرى لم يقتصروا عليها بل ذكروا معها قرينة فيعلم أن الأول حقيقة إذ لولا أنه استقر في قلوبهم استحقاق تلك اللفظة لذلك المعنى لما اقتصروا عليها وثالثها إذا علقت الكلمة بما يستحيل تعليقها به علم أنها في أصل اللغة اللغة غير موضوعة له فيعلم أنها مجاز فيه كقوله تعالى واسئل القرية ورابعها أن يضعوا اللفظ لمعنى ثم يتركوا استعماله إلا في بعض مجازاته ثم استعملوه بعد ذلك في غير ذلك الشئ علمنا كونه مجازا عرفيا مثل استعمال لفظ الدابة في الحمار فالخاصيتان أبي الأوليان للحقيقة والأخريان للمجاز وأما الفروق الضعيفة فقد ذكر مها الغزالي وجوها أربعة أحدها أن الحقيقة جارية على الاطراد فقولنا عالم لما صدق على ذي علم واحد صدق على كل ذي علم والمجاز ليس كذلك فإنه لما صح واسئل القرية صح واسأل البساط

وهذا ضعيف لأن الدعوى العامة لا تصح بالمثال الواحد وأيضا إن أراد باطراد الحقيقة استعمالها في جميع موارد نص الواضع فالمجاز أيضا كذلك لأنه يجوز استعماله في جميع موارد نص الواضع فلا يبقى بينهما فيه فرق وان أراد استعمال الاسم في غير موضع نص الواضع لكونه مشاركا للمنصوص عليه في المعنى فهذا هو القياس وعنده لا قياس في اللغات سلمنا جواز القياس في اللغة لكن دعوى اطراد الحقيقة ممنوعة لأن الحقيقة لا تطرد في مواقع كثيرة الأول أن يمنع منه العقل كلفظ الدليل عند من يقول إنه حقيقة في فاعل الدلالة فإنه لما كثر استعماله في نفس الدلالة لا جرم لم يحسن استعماله في حق الله تعالى إلا مقيدا الثاني أن يمنع السمع منه كتسمية الله تعالى بالفاضل والسخي فإنها ممنوعة شرعا مع حصول الحقيقة فيه الثالث ان تمنع منه اللغة كامتناع استعمال الأبلق في غير الفرس

فان اعتذروا عنه بأن الأبلق موضوع للمتلون بهذين اللونين بشرط كونه فرسا فنقول جوز في كل مجاز لا يطرد أن يكون سبب عدم اطراده ذلك وحينئذ لا يمكن الاستدلال بعدم الاطراد على كونه مجازا وثانيها قال الغزالي رحمه الله امتناع الاشتقاق دليل كون اللفظ مجاز فإن الأمر لما كان حقيقة في القول اشتق منه الآمر والمأمور ولما لم يكن حقيقة في الفعل لم يوجد منه الاشتقاق وهذا ضعيف لما تقدم أن الدعوى العامة لا تصح بالمثال الواحد لأنه ينتقض بقولهم للبليد حمار وللجمع حمر وعكسه أن الرائحة حقيقة في معناها ولم يشتق منها الاسم وثالثها أن تختلف صيغة الجمع على الاسم فيعلم أنه مجاز في أحدهما إذ الأمر الحقيقي يجمع على الأوامر وإذا أريد به الفعل يجمع على أمور

وهو ضعيف لأن اختلاف الجمع لا اشعار له ألبتة بكون اللفظ حقيقة في معناه أو مجازا ورابعها أن المعنى الحقيقي إذا كان متعلقا بالغير فإذا استعمل فيما لا تعلق له بشئ كان مجازا فالقدرة إذا أريد بها الصفة كان متعلقا بالمقدور وإذا أطلق على البيان الحسن لم يكن له متعلق فيعلم كونه مجازا فيه وهذا أيضا ضعيف جدا لاحتمال أن يكون اللفظ حقيقة فيهما ويكون له بحسب إحدى الحقيقتين متعلق دون الأخرى والله أعلم

الباب السابع في التعارض الحاصل بين أحوال اللفظ

الباب السابع في التعارض الحاصل بين أحوال الألفاظ اعلم أن الخلل الحاصل في فهم مراد المتكلم ينبني على خمس احتمالات في اللفظ أحدها احتمال الاشتراك وثانيها احتمال النقل بالعرف أو الشرع وثالثها احتمال المجاز ورابعها احتمال الإضمار وخامسها احتمال التخصيص فإن قلت تركت احتمال الاقتضاء قلت الاقتضاء اثبات شرط يتوقف عليه وجود المذكور ولا يتوقف عليه صحة اللفظ لغة كقول القائل اصعد السطح فإنه يقتضي نصب السلم لكن نصب السلم لا يتوقف عليه وجوب الصعود ولا يتوقف عليه صحة اللفظ

وإنما قلنا إن الخلل في الفهم لا بد وأن يكون لأحد هذه الخمس لأنه إذا انتقى احتمال الاشتراك والنقل كان اللفظ موضوعا لمعنى واحد واذا انتفى احتمال المجاز والاضمار كان المراد باللفظ ما وضع له فلا يبقى عند ذلك خلل في الفهم واذا انتفى احتمال التخصيص كان المراد باللفظ جميع ما وضع له. واعلم أن التعارض بين هذه الاحتمالات يقع في عشرة أوجه لأنه يقع التعارض بين الاشتراك وبين الأربعة الباقية ثم بين النقل والثلاثة الباقية ثم بين المجاز والوجهين الباقيين ثم بين الاضمار والتخصيص فكان المجموع عشرة المسألة الأولى إذا وقع التعارض بين الاشتراك والنقل فالنقل أولى لأن عند النقل يكون اللفظ لحقيقة مفردة في جميع الأوقات إلا أنه في بعض الأوقات مفرد بالاضافة إلى معنى وفي بعض الأوقات مفرد بالاضافة إلى معنى آخر والمشترك مشترك في الأوقات كلها فكان الأول أولى فإن قبل لا بل الاشتراك أولى لوجوه أحدها أن الاشتراك لا يقتضي نسخ وضع سابق والنقل يقتضيه فالاشتراك أولى من النسخ على ما سيأتي بيانه فوجب أن يكون أولى مما لا يحصل إلا عند حصول النسخ

وثانيها أن الاشتراك ما أنكره أحد من العلماء المحققين والنقل انكره كثير من المحققين فالأول أولى وثالثها أن الاشتراك إما أن يوجد مع القرينة أو لا يوجد مع القرينة فإن حصلت القرينة معه عرف المخاطب المراد على التعيين وإن لم توجد القرينة معه تعذر عليه العمل فيتوقف وعلى التقديرين لا يخطئ في العمل أما في النقل فربما لا يعرف النقل الجديد فيحمله على المفهوم الأول فيقع الغلط في العمل ورابعها أن الاشتراك يمكن حصوله بوضع واحد فإن المتكلم قد يحتاج إلى التكلم بالكلام المجمل فيقول الواضع وضع هذا اللفظ لهذا ولهذا بالاشتراك أما النقل فيتوقف على وضعه أولا ثم على نسخه ثانيا ثم على وضع جديد ولموقوف على أمر واحد أولى من الموقوف على أمور كثيرة وخامسها أن السامع قد يسمع استعمال اللفظ في المعنى الأول وفي المعنى الثاني ولا يعرف أنه نقل من الأول إلى الثاني فيظنه مشتركا فحينئذ يحصل فيه كل مفاسد الاشتراك مع مفاسد أخرى وهي جهله بكون اللفظ منقولا مع جميع المفاسد الحاصلة من النقل

وسادسها أن المشترك أكثر وجودا من المنقول فلو كانت المفاسد الحاصلة من المشترك أكثر لكان الواضع قد رجح ما هو أكثر مفسدة على ما هو أقل مفسدة وهو غير جائز والجواب أن الشرع إذا نقل اللفظ عن معناه اللغوي إلى معناه الشرعي فلا بد أن يشتهر ذلك النقل وأن يبلغ إلى حد التواتر وعلى هذا التقدير تزول المفاسد المذكورة والله أعلم المسألة الثانية إذا وقع التعارض بين الاشتراك والمجاز فالمجاز أولى ويدل عليه وجهان الأول أن المجاز أكثر في الكلام من الاشتراك والكثرة أمارة الظن في محل الشك الثاني أن اللفظ الذي له مجاز إن تجرد من القرينة حمل على الحقيقة وان لم يتجرد عنها حمل على المجاز فلا يعرى على تعيين المراد والمشترك لا يفيد عين المراد عند العراء عن القرينة فإن قيل بل الاشتراك أولى لوجوه

أحدها أن السامع للمشترك إن سمع القرينة معه علم المراد عينا فلا يخطئ وإن لم يسمع توقف وحينئذ لا يحصل إلا محذور واحد وهو الجهل بمراد المتكلم أما اللفظ المحمول على المجاز بالقرينة فقد يسمع اللفظ ولا تسمى القرينة وحينئذ يحمل على الحقيقة فيحصل محذوران احدهما الجهل بمراد المتكلم والآخر اعتقاد ما ليس بمراد مرادا وثانيها أن الاشتراك يحصل بوضع واحد على ما تقدم بيانه وأما المجاز فيتوقف على وجود الحقيقة وعلى وجود ما يصلح مجازا وعلى العلاقة التي لأجلها يحسن جعله مجازا وعلى تعذر الحمل على الحقيقة وما يتوقف على شئ واحد أولى مما يتوقف على أشياء وثالثها أن اللفظ المشترك إذا دل دليل على تعذر أحد مفهوميه يعلم منه كون الآخر مرادا والحقيقة إذا دل الدليل على تعذر العمل بها فلا يتعين فيها مجاز يجب حملها عليه

ورابعها أن اللفظ المشترك يفيد أن المراد هذا أو ذاك ودلالة اللفظ على هذا القدر من المعنى حقيقة لا مجاز والحقيقة راجحة على المجاز فالاشتراك راجح على المجاز وخامسها أن صرف اللفظ إلى المجاز يقتضي نسخ الحقيقة وحمله على الاشتراك لا يقتضي ذلك فكان الاشتراك أولى وسادسها أن المخاطب في صورة الاشتراك يبحث عن القرينة لأن بدون القرينة لا يمكنه العمل فيبعد احتمال الخطأ أما في صورة المجاز فقد لا نبحث عن القرينة لأن بدون القرينة يمكنه العمل فينصرف احتمال الخطأ سابعها أن الفهم في صورة الاشتراك يحصل بأدنى القرائن لأن ذلك كاف في الرجحان أما في صورة المجاز فلا يحصل رجحان المجاز إلا بقرينة قوية جدا لأن أصالة الحقيقة لا تترك إلا لقرينة والجواب أن هذه الوجوه معارضة بما ذكرناه في الباب المتقدم من فوائد المجازات

المسألة الثالثة إذا وقع التعارض بين الاشتراك والإضمار فالإضمار أولى لأن الاجمال الحاصل بسبب الاضمار مختص ببعض الصور والاجمال الحاصل بسبب الاشتراك عام في كل الصور فكان الاشتراك أخل بالفهم فإن قلت الإضمار يفتقر إلى ثلاث قرائن قرينة تدل على أصل الاضمار وقرينة تدل على موضع الاضمار وقرينة تدل على نفس المضمر والمشترك يفتقر إلى قرينة واحدة فكان الاضمار أكثر إخلالا بالفهم قلت هذا لا ينفعكم لأن الإضمار يحتاج إلى ثلاث قرائن في صورة واحدة والمشترك يحتاج إلى قرائن في صور متعددة فيبقى بعضها معارضا للبعض على أن الإضمار من باب الايجاب والاختصار وهو من محاسن الكلام قال عليه الصلاة والسلام أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارا وليس المشترك كذلك

المسألة الرابعة إذا وقع التعارض بين الاشتراك والتخصيص فالتخصيص أولى لأن التخصيص خير من المجاز على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى والمجاز خير من الاشتراك على ما تقدم فالتخصيص خير من الاشتراك لا محالة المسألة الخامسة إذا وقع التعارض بين النقل والمجاز فالمجاز أولى لأن النقل يحتاج إلى اتفاق أهل اللسان على تغيير الوضع وذلك متعذر أو متعسر والمجاز يحتاج إلى قرينة تمنع المخاطب عن فهم الحقيقة وذلك متيسر فكان المجاز أظهر فان قلت ما ذكرته معارض بشئ آخر وهو أنه إذا ثبت النقل فهم كل أحد مراد المتكلم بحكم الوضع فلا يبقى خلل في الفهم وفي المجاز إذا خرجت الحقيقة فربما خفي وجه المجاز أو تعدد طريقه فيقع خلل في الفهم قلت ما ذكرتموه يعارضه شيئان آخران

أحدهما أن الحقيقة تعين على فهم المجاز لأن المجاز لا يصح إلا إذا كان بين الحقيقة والمجاز اتصال وفي صورة النقل اذا خرج المعنى الأول لقرينة لم يتعين اللفظ للمنقول إليه فكان المجاز أقرب إلى الفهم من هذا الوجه الثاني أن في المجاز من الفوائد وليس في النقل ذلك فكان المجاز أولى المسألة السادسة إذا وقع التعارض بين النقل والاضمار فالاضمار (أولى والدليل عليه ما ذكرناه في أن المجاز أولى سواء بسواء المسألة السابعة اذا وقع التعارض بين النقل والتخصيص فالتخصيص أولى لأن التخصيص خير من المجاز على ما سيأتي والمجاز خير من النقل على ما تقدم فالتخصيص خير من النقل المسألة الثامنة اذا وقع التعارض بين المجاز والاضمار فهما سواء لأن كل واحد منهما يحتاج إلى قرينة تمنع المخاطب عن فهم الظاهر

وكما يتوقع وقوع الخفاء في تعيين المضمر كذلك يتوقع وقوع الخفاء في تعيين المجاز فان قلت الحقيقة تعين على فهم المجاز فكانت أولى قلت والحقيقة تعين على فهم الإضمار لأن حد الاضمار أن يسقط من الكلام شئ يدل عليه الباقي المسألة التاسعة إذا وقع التعارض بين المجاز والتخصيص فالتخصيص أولى لوجهين الأول أن في صورة التخصيص اذا لم يقف على القرينة يجريه على عمومه فيحصل مراد المتكلم وغير مراده وفي صورة المجاز اذا لم يقف على القرينة يجريه على الحقيقة فلا يحصل مراد المتكلم ويحصل غير مراده الثاني أن في صورة التخصيص انعقد اللفظ دليلا على كل الأفراد فاذا خرج البعض بدليل بقي معتبرا في الباقي فلا يحتاج فيه إلى تامل واستدلال واجتهاد وفي صورة المجاز انعقد اللفظ دليلا على الحقيقة فاذا خرجت الحقيقة بقرينة احتيج في صرف اللفظ إلى المجاز إلى نوع تأمل واستدلال فكان التخصيص أبعد عن الاشتباه فكان أولى المسألة العاشرة إذا وقع التعارض بين الإضمار والتخصيص فالتخصيص أولى

والدليل عليه أن التخصيص خير من المجاز والمجاز والاضمار سيان فيلزم أن يكون التخصيص خيرا من الإضمار فروع الأول أنك ستعرف إن شاء الله تعالى أن النسخ تخصيص في الأزمان فحيث رجحنا التخصيص على الاشتراك فإنما أردنا به التخصيص في الأعيان أما لو وقع التعارض بين الاشتراك والنسخ فالاشتراك أولى لأن النسخ يحتاط فيه ما لا يحتاط في تخصيص العام ألا ترى أنه يجوز تخصيص العام بخبر الواحد والقياس ولا يجوز نسخ العام بهما والفقه فيه أن الخطاب بعد النسخ يصير كالباطل وبعد التخصيص لا يصير كالباطل فلا جرم يحتاط في النسخ ما لا يحتاط في التخصيص الثاني أن اللفظ اذا دار بين التواطؤ والاشتراك فالتواطؤ أولى لأن مسمى اللفظ المتواطئ واحد والتعدد واقع في محاله ومسمى المشترك ليس بواحد والافراد أولى من الاشتراك على ما تقدم بيانه الثالث إذا وقع التعارض بين أن يكون مشتركا بين علمين وبين معنيين كان

جعله مشتركا بين علمين أولى لأن الاعلام إنما تنطلق على الأشخاص المخصوصة كزيد وعمرو وأما أسماء المعاني فإنها تتناول المسمى في أي ذات كان فكان اختلال الفهم بجعله مشتركا بين علمين أقل فكان أولى الرابع جعل اللفظ مشتركا بين علم ومعنى أولى من جعله مشتركا بين معنيين لأن الاختلال الحاصل عند الاشتراك بين العلم ولمعنى أقل مما عند الاشتراك بين المعنيين الخامس اللفظ إذا تناول الشئ بجهة الاشتراك وبجهة التواطؤ كان اعتقاد أنه مستعمل بجهة التواطؤ أولى وبيانه ان لفظ الأسود يتناول القار والزنجي بالتواطؤ ويتناول القار والرجل المسمى بالأسود بالاشتراك فاذا وجد شخص أسود ومسمى بالأسود ثم أطلق عليه لفظ الأسود فاعتقاد أنه أطلق عليه هذا الاسم باعتبار كونه ملونا أولى لأن الاطلاق بهذا الاعتبار اطلاق بجهة التواطؤ والاطلاق بجهة التلقيب اطلاق بجهة الاشتراك والتواطؤ أولى من الاشتراك فكان ذلك أولى والله أعلم

الباب الثامن في تفسير حروف تشتد الحاجة في الفقه إلى معرفة معانيها

الباب الثامن في تفسير حروف تشتد الحاجة في الفقه إلى معرفة معانيها وفيها مسائل المسألة الأولى ف ي أن الواو العاطفة لمطلق الجمع قال أبو علي الفارسي أجمع نحاة البصرة والكوفة على أنها للجمع المطلق وذكر سيبويه في سبعة عشر موضعا من كتابه أنها للجمع المطلق وقال بعضهم إنها للترتيب

لنا وجوه الأول أن الواو قد تستعمل فيما يمتنع حصول الترتيب فيه كقولهم تقاتل زيد وعمرو ولو قيل تقاتل زيد فعمرو أو تقاتل زيد ثم عمرو لم يصح والأصل في الكلام الحقيقة فوجب أن يكون حقيقة في غير الترتيب فوجب أن لا يكون حقيقة في الترتيب دفعا للاشتراك الثاني لو اقتضت الواو الترتيب لكان قوله رأيت زيدا وعمرا بعده تكريرا ولكان قوله رأيت زيدا وعمروا قبله متناقضا ولما لم يكن كذلك بالاجماع صح قولنا فان قلت يجوز أن يكون الشئ بإطلاقه لا يفيد حكما ثم إذا أضيف إليه شئ آخر تغير عما كان عليه فقوله زيد في الدار يفيد الجزم فإذا أدخلت عليه الهمزة فقيل أزيد في الدار صار للاستخبار وبطل معنى الجزم قلت حاصل هذا السؤال يرجع إلى أن قوله قبله أو بعده كالمعارض لمقتضى الواو إلا أن التعارض خلاف الأصل فالمفضي إليه وجب أن لا يكون

الثالث قوله تعالى في سورة البقرة وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة وفي الأعراف وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا والقصة واحدة وقوله تعالى واسجدي واركعي مع أن شرعها تقدم الركوع وقوله تعالى فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله وقوله تعالى أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وقوله تعالى والسارق والسارقة وقوله الزانية والزاني ففي شئ من هذه المواضع لا تفيد الترتيب الرابع السيد إذا قال لعبده اشتر اللحم والخبز لم يفهم منه الترتيب الخامس روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له حين أراد السعي بين الصفا والمروة بأيهما نبدأ فقال ابدأوا بما

بدأ الله به ولو كانت الواو للترتيب لما اشتبه ذلك على أهل اللسان ولما احتيج في بيان وجوب الابتداء من الصفا إلى الاستدلال بأنه مذكور أولا فوجب أن تقع به البداءة السادس لو كانت الواو للترتيب لوجب أن القائل اذا قال رأيت زيدا وعمرا ثم علم أنه رآهما معا أن يكون كاذبا وبالاجماع ليس كذلك السابع قال أهل اللغة واو العطف في الأسماء المختلفة ك واو الجمع وبالتثنية في الأسماء المتماثلة فإنهم لما لم يتمكنوا من جمع الأسماء المختلفة بواو الجمع استعملوا فيها واو العطف ولما كان قولهم جاءني الزيدان واجتمع الزيدون يفيد الاشتراك في الحكم ولا يفيد الترتيب فيه فكذا القول في واو العطف وواو الجمع يجوز أن يشتركا في إفادة الاشتراك ف إن قلت واو العطف وواو الجمع يجوز أن يشتركا في إفادة الاشتراك ثم واو العطف يختص بفائدة زائدة وهي الترتيب

قلت إنهم نصوا على أن فائدة احداهما عين فائدة الأخرى وذلك ينفي الاحتمال المذكور احتج المخالف بأمور أحدها أن واحدا قام عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال من أطاع الله ورسوله فقد اهتدى ومن عصاهما فقد غوى فقال عليه الصلاة والسلام بئس الخطيب أنت هلا قلت ومن عصى الله ورسوله فقد غوى

ولو كانت الواو للجمع المطلق لما افترق الحل بين ما علمه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبين ما قال الرجل وعن عمر رضي الله عنه أنه سمع شاعرا يقول كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا

فقال له عمر رضي الله عنه لو قدمت الإسلام على الشيب لأجزتك وهذا يدل على أن التأخير في اللفظ يدل على التأخير في الرتبة وروي أن الصحابة رضي الله عنهم قالوا لابن عباس رضي الله عنهما لم تأمرنا بالعمرة قبل الحج وقد قال الله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله وهم كانوا فصحاء العرب فثبت أنهم فهموا من الواو الترتيب

وثانيها إذا قال الزوج لامرأته التي لم يدخل بها أنت طالق وطالق طلقت طلقة واحدة ولم تلحقها الثانية ولولا أن الواو تقتضي الترتيب للحقتها الثانية كما أنها تطلق طلقتين إذا قال لها أنت طالق طلقتين وثالثها اذا قال رأيت زيدا وعمرا فالترتيب يستدعي سببا والترتيب في الوجود صالح له فوجب جعله سببا له إلى أن يذكر الخصم سببا آخر ورابعها أن الترتيب على سبيل التعقيب وضعوا له الفاء والترتيب على سبيل التراخي وضعوا له ثم ومطلق الترتيب وهو القدر المشترك بين هذين النوعين معنى معقول أيضا فلا بد له من لفظ يدل عليه وما ذاك إلا الواو

فإن قلت الجمع المطلق معنى معقول أيضا فلا بد له من لفظ يدل عليه وما ذاك إلا الواو قلت لما حصل التعارض وجب الترجيح وهو معنا وذلك لأنا لو جعلناه للترتيب المطلق كان معنى الجمع المطلق جزءا من المسمى ولازما له فجاز جعله مجازا فيه بسبب الملازمة وأما لو جعلناه للجمع المطلق لم يكن الترتيب المطلق لازما له فلا يمكن جعله مجازا عنه لعدم الملازمة والجواب عن الأول أن الواو في قوله ومن عصى الله ورسوله لا تقتضي الترتيب لأن معصية الله تعالى ومعصية رسوله صلى الله عليه وسلم لا تنفك احداهما عن الأخرى فهذا بأن يدل على فساد قولكم أولى بل السبب فيه أن قوله ومن عصى الله ورسوله افراد لذكر الله تعالى عن ذكر غيره فكان أدخل في التعظيم وأما أثر عمر رضي الله عنه فهو محمول على أن الأدب أن يكون المقدم في الفضيلة مقدما في الذكر

وأما أثر ابن عباس رضي الله عنهما فهو معارض بأمر ابن عباس إياهم بتقديم العمرة على الحج وعن الثاني أن السبب في أن الطلقة الثانية لا تلحقها أن الطلاق الثاني ليس تفسيرا للكلام الأول والكلام الأول تام فبانت به أما إذا قالت أنت طالق طلقتين فالقول الأخير في حكم البيان للأول فكان تمام الكلام بآخره وعن الثالث أن الابتداء بالذكر لما كان دليلا على الترتيب لم تكن بنا حاجة إلى جعل الواو للترتيب وعن الرابع أن ما ذكرتموه من الترجيح معارض بوجه آخر وهو إن الحاجة إلى التعبير عن المعنى الأعم أشد من الحاجة إلى التعبير عن المعنى الأخص لأنه حيث يحتاج إلى ذكر الأخص يحتاج إلى ذكر الأعم لا محالة ضمنا وقد يحتاج إلى ذكر الأعم حيث لا يحتاج إلى ذكر الأخص ألبتة فكانت الحاجة إلى ذكر الأعم أشد

المسألة الثانية الفاء للتعقيب على حسب ما يصح فلو قال دخلت بغداد فالبصرة أفاد التعقيب على ما يمكن لا على ما يمتنع وإنما قلنا إنها للتعقيب لإجماع أهل اللغة عليه ومنهم من استدل عليه بأنها لو لم تكن للتعقيب لما دخلت على الجزاء اذا لم يكن بلفظ الماضي والمضارع لكنها تدخل فيه فهي للتعقيب بيان الملازمة أن جزاء الشرط قد يكون بلفظ الماضي كقوله من دخل داري أكرمته وقد يكون بلفظ المضارع كقوله من دخل داري يكرم وقد يكون لا بهاتين اللفظتين وحينئذ لا بد من ذكر الفاء كقوله من دخل داري فله درهم وقول الشاعر من يفعل الحسنات ... الله يشكرها فقد أنكره المبرد وزعم أن الرواية الصحيحة من يفعل الخير فالرحمن يشكره

وإذا وجب دخول الفاء على الجزاء وثبت أن الجزاء لا بد أن يحصل عقيب الشرط علمنا أن الفاء تقتضي التعقيب واحتج المنازع بأمور أحدها أن الفاء جاء في كتاب الله تعالى لا بمعنى التعقيب في قوله تعالى لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب والاسحات لا يقع عقيب الافتراء بل يتراخى إلى الآخرة وقال سبحانه وتعالى وان كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة مع أن ذلك قد لا يحصل عقيب المداينة

وثانيها أن الفاء قد تدخل على لفظ التعقيب ولو كانت الفاء للتعقيب لما جاز ذلك وثالثها أن التعقيب يصح الإخبار به وعنه والفاء ليست كذلك فالفاء مغايرة للتعقيب والجواب عن الكل أن ما ذكرتموه استدلال في مقابلة النص فلا يقدح في قولنا بل وجب حمل ما ذكروه أولا على المجاز وثانيا على التوكيد وأما الثالث ففيه بحث دقيق ذكرناه في كتاب المحرر في دقائق النحو المسألة الثالثة لفظة في للظرفية محققا أو مقدرا أما المحقق فكقولهم زيد في الدار وأما المقدر فكقوله تعالى ولأصلبنكم في جذوع النخل لتمكن المصلوب على الجذع تمكن الشئ في المكان

وقولنا فلان في الصلاة وشاك في هذه المسألة من هذا الباب ومن الفقهاء من قال إنها للسببية كقوله عليه الصلاة والسلام في النفس المؤمنة مائة من الإبل وهو ضعيف لأن أحدا من أهل اللغة ما ذكر ذلك مع أن المرجع في هذه المباحث اليهم المسألة الرابعة المشهور أن لفظة من ترد لابتداء الغاية كقولك سرت من الدار إلى السوق وللتبعيض كقولك باب من حديد وللتبيين كقوله تعالى فاجتنبوا الرجس من الأوثان وقد تجئ صلة في الكلام كقولك ما جاءني من رجل والحق عندي أنه للتمييز فقولك سرت من الدار إلى السوق ميزت مبدأ السير عن غيره وقولك باب من حديد ميزت الشئ الذي يكون منه الباب عن غيره وقوله عز وجل فاجتنبوا الرجس من الأوثان

ميزت الرجس الذي يجب اجتنابه عن غيره وكذلك قولك ما جاءني من أحد ميزت الذي نفيت عنه المجئ وأما إلى فهي لانتهاء الغاية وقيل إنها مجملة لأنها في قوله تعالى وأيديكم إلى المرافق تستدخل الغاية وفي قوله تعالى ثم أتموا الصيام إلى الليل تقتضي خروجها وهذا ضعيف لأن هذه اللفظة إنما تكون مجملة لو كانت موضوعة لدخول الغاية وعدم دخولها على سبيل الاشتراك لكنا بينا أن اللفظ لا يجوز أن يكون مشتركا بالنسبة إلى وجود الشئ وعدمه بل الحق أن الغاية إن كانت متميزة عن ذي الغاية بمفصل حسي كما في الليل والنهار وجب خروجها وان لم تكن متميزة عنها بمفصل حسي كما في اليد والمرفق وجب دخولها لأنه ليس بعض المقادير أولى من بعض فليس تقدير القدر الذي يجوز إخراجه من المرفق عن وجوب

الغسل بقدر معين أولى من تقديره بما هو أزيد أو أنقص المسألة الخامسة الباء اذا دخلت على فعل يتعدى بنفسه كقوله تعالى وامسحوا برءوسكم تقتضي التبعيض خلافا للحنفية وأجمعنا على أنها إذا دخلت على فعل لا يتعدى بنفسه كقولك كتبت بالقلم ومررت بزيد فإنها لا تقتضي إلا مجرد الالصاق لنا أنا نعلم بالضرورة الفرق بين أن يقال مسحت يدي بالمنديل وبالحائط وبين أن يقال مسحت المنديل والحائط في أن الأول يفيد التبعيض والثاني يفيد الشمول

واحتج المخالف بأمرين الأول أن القائل إذا قال مررت بزيد وكتبت بالقلم وطفت بالبيت عقلوا منه الصاق الفعل بالمفعول به فدل على أن مقتضى اللفظ ليس إلا الصاق الفعل بالمفعول به الثاني أن أبا الفتح ابن جني ذكر أن الذي يقال من أن الباء للتبعيض شئ لا يعرفه أهل اللغة والجواب عن الأول أن قولهم مررت بزيد وكتبت بالقلم إنما أفاد ذلك لأنه لا يتعدى بنفسه فلا يجوز أن يقال مررت زيدا وكتبت القلم فلذلك أفاد ما قالوه بخلاف ما ذكرنا وأما الطواف فهو عبارة عن الدوران حول جميع البيت ولهذا لا يسمى من دار ببعضه طائفا بخلاف ما نحن فيه فإن من مسح بعض الرأس يسمى ماسحا وعن الثاني أن الشهادة على النفي غير مقبولة فلنا أن نخطئ ابن

الجني بالدليل الظاهر الذي ذكرناه المسألة السادسة لفظة إنما للحصر خلافا لبعضهم لنا ثلاثة أوجه أحدها أن الشيخ ابا علي الفارسي حكى ذلك في كتاب الشيرازيات عن النحاة وصوبهم فيه وقولهم حجة وثانيها التمسك بقول الأعشى ولست بالأكثر منهم حصى ... وإنما العزة للكاثر

وبقول الفرزدق أنا الذائد الحامي الذمار وإنما ... يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي

ولو لم تحمل إنما ها هنا على الحصر لما حصل مقصود الشاعر وثالثها أن كلمة إن تقتضي الاثبات وما تقتضي النفي فعند تركيبها يجب أن يبقى كل واحد منهما على الأصل لأن الأصل عدم التغيير فإما أن نقول كلمة إن تقتضي ثبوت عين المذكور وكلمة ما تقتضي نفي المذكور وهذا هو الحصر وهو المراد واحتج المخالف بقوله تعالى إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وأجمعنا على أن من ليس كذلك فهو مؤمن أيضا والجواب أنه محمول على المبالغة

الباب التاسع في كيفية الاستدلال بخطاب الله وخطاب رسوله صلى الله عليه وسلم على الأحكام

الباب التاسع في كيفية الاستدلال بخطاب الله وخطاب رسوله صلى الله عليه وسلم على الأحكام وفيه مسائل المسألة الأولى في أنه لا يجوز أن يتكلم الله تعالى بشئ ولا يعني به شيئا والخلاف فيه مع الحشوية

لنا وجهان أحدهما أن التكلم بما لا يفيد شيئا هذيان وهو نقص والنقص على الله تعالى محال وثانيها أن الله تعالى وصف القرآن بكونه هدى وشفاء وبيانا وذلك لا يحصل بما لا يفهم معناه واحتج المخالف بأمور أحدها أنه جاء في القرآن ما لا يفيد كقوله كهيعص وما يشبهه وقوله كأنه رءوس الشياطين وقوله فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة فقوله عشرة كاملة لا يفيد فائدة زائدة وقوله فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وقوله لا تتخذوا إليهن اثنين

وثانيها أن الوقف على قوله تعالى وما يعلم تأويله إلا الله واجب ومتى كان ذلك كذلك لزم القول بأن الله تعالى قد تكلم بما لا يفهم منه شئ بيان الأول أننا لو لم نقف هناك بل وقفنا على قوله والراسخون في العلم فاذا ابتدأنا بقوله يقولون آمنا كان المراد منه قائلين آمنا به كل من عند ربنا ويصير ذلك عائدا إلى المذكورات السالفة فيصير المعنى كأن الله تعالى قال الراسخون في العلم قالوا آمنا به كل من عند ربنا وذلك غير جائز على الله تعالى فثبت أن الوقف على قوله تعالى وما يعلم تأويله إلا الله واجب وإذا ثبت ذلك ظهر أنا لا نعلم تأويل المتشابهات وثالثها أن الله تعالى خاطب الفرس بلغة العرب مع أنهم لا يفهمون شيئا منها وإذا جاز ذلك فليجز مطلقا

والجواب عن الأول أن لأهل التفسير فيها أقوالا مشهورة والحق فيها أنها أسماء السور وأما روس الشياطين فقيل إن العرب كانوا يستقبحون ذلك المتخيل ويضربون به المثل في القبح وأما قوله عشرة كاملة فذلك للتأكيد وهو الجواب أيضا عن سائر الآيات وعن الثاني أن موضع الوقف قوله والراسخون في العلم وما ذكرو من الاشكال فغايته أنه عام خص منه البعض بدليل العقل لامتناع عود ذلك الضمير إلى الله تعالى وعن الثالث أن للفرس طريقا إلى معرفة الخطاب بالرجوع إلى العرب المسألة الثانية في أنه لا يجوز أن يعني بكلامه خلاف ظاهره ولا يدل عليه ألبتة والخلاف فيه مع المرجئة

لنا أن اللفظ الخالي عن البيان أبدا يكون بالنسبة إلى غير ظاهره مهملا وقد بينا أن التكلم بالمهمل غير جائز على الله تعالى فإن قيل ان عنيت بالمهمل ما لا فائدة فيه ألبتة فلا نسلم أن الأمر كذلك لأنه تعالى اذا تكلم بما ظاهره يقتضي الوعيد مع أنه لا يريد ذلك حصل منه تخويف الفساق والتخويف يمنعهم من الاقدام فقد حصلت هذه الفائدة وإن عنيت به أنه لا يحصل منه فائدة الإفهام فهو مسلم

لكن لم قلت إن ما يكون كذلك فإنه غير جائز على الله تعالى فإن هذا أول المسألة والجواب لو فتحنا هذا الباب لما بقي الاعتماد على شئ من خبر الله وخبر رسوله صلى الله عليه وأله وسلم لأنه ما من خبر إلا ويحتمل أن يكون المقصود منه أمرا وراء الإفهام ومعلوم أن ذلك ظاهرا الفساد والله أعلم المسألة الثالثة في أن الاستدلال بالخطاب هل يفيد القطع أم لا منهم من أنكره وقال إن الاستدلال بالأدلة اللفظية مبني على مقدمات ظنية والمبني على المقدمات الظنية ظني فالاستدلال بالخطاب لا يفيد إلا الظن وإنما قلنا إنه مبني على مقدمات ظنية لأنه مبني على نقل اللغات ونقل النحو والتصريف وعدم الاشتراك والمجاز والنقل والاضمار

والتخصيص والتقديم والتأخير والناسخ والمعارض وكل ذلك أمور ظنية أما بيان أن نقل اللغات ظني فلأن المرجع فيه إلى أئمة اللغة وأجمع العقلاء على أنهم ما كانوا بحيث يقطع بعصمتهم فنقلهم لا يفيد إلا الظن وتمام الكلام في هذا المقام قد تقدم وأما النحو والتصريف فالمرجع في اثباتهما إلى أشعار المتقدمين إلا أن التمسك بتلك الأشعار مبني على مقدمتين ظنيتين احداهما أن هذه الأشعار رواها الآحاد ورواية الآحاد لا تفيد إلا الظن وأيضا إن الذين رووها روايتهم مرسلة لا مسندة والمرسل غير مقبول عند الأكثرين إذا كان خبرا عن رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم فكيف اذا كان خبر عن شخص لا يؤبه له ولا يلتفت إليه وثانيهما هب أنه صح هذا الشعر عن هذا الشاعر لكن لم قلت إن ذلك الشاعر لا يلحن أقصى ما في الباب أنه عربي لكن العربي قد يلحن في العربية كما أن الفارسي قد يلحن كثيرا في الفارسية

والذي يؤيد هذا الاحتمال أن الأدباء لحنوا أكابر شعراء الجاهلية كامرئ القيس وطرفة ولبيد واذا كانوا معترفين بأنهم قد لحنوا فكيف يجوز التعويل في تصحيح الألفاظ واعرابها في قولهم ذكر القاضي أبو الحسن على بن عبد العزيز الجرجاني في الكتاب الذي صنفه في الوساطة بين المتنبي وخصومه أن امرأ القيس أخطأ في قوله يا راكبا بلغ اخواننا ... من كان من كندة أو وائل

فنصب بلغ وفي قوله فاليوم اشرب غير مستحقب ... إثما من الله ولا واغل فسكن أشرب وقوله لها متنان خظاتا كما أكب على ساعديه النمر

فأسقط النون من خظاتا بغير اضافة وقول لبيد ... تراك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يرتبط بعض النفوس حمامها

فسكن يرتبط ولا عمل للم فيه وقوله طرفة قد رفع الفخ فماذا تحذري فحذف النون

وقول الأسدي كنا نرقعها فقد مزقت ... واتسع الخرق على الراقع

..فسكن نرقع وقول الفرزدق ... وعض زمان يا ابن مروان لم يدع من المال إلا مسحتا أو مجلف

فضم مجلف وقول ذي الخرق الطهوي

يقول الخنا وأبغض العجم ناطقا ... إلى ربنا صوت الحمار اليجدع فأدخل الألف واللام على الفعل وقول رؤية أقفرت الوعثاء والعثاعث ما من بعدهم والبرق البوارث

وإنما هي البرارث لا جمع برث وهي الأماكن السهلة من الأرض وقوله أيضا قد شفها اللوح بما زول أن ضيق ففتح الياء فهذه وأمثالها كثيرة

وجرى بين الفرزدق وبين عبد الله بن اسحاق الحضرمي في إقوائه على وفي لحنه في قوله فلو كان عبد الله مولى هجوته ... ولكن عبد الله مولى مواليا ففتح الياء من موالي في حال الجر وجرى له مع عنبسة الفيل النحوي

حتى قال فيه لقد كان في معدان للفيل شاغل ... لعنبسة الراوي علي القصائدا وكان القدماء يتبعون أشعار الأوائل من لحن وغلط وإحالة وفساد معنى وقال الأصمعي في الكميت إنه جرمقاني من جرامقة الشام لا يحتج بشعره وأنكر من شعر الطرماح ولحن ذا الرمة

ثم ان القاضي على بن عبد العزيز طول في هذا المعنى وفي هذا القدر كفاية ومن أراد الاستقصاء فليطالع ذلك الكتاب وعند هذا نقول المرجع في صحة اللغات والنحو والتصريف إلى هؤلاء الأدباء واعتمادهم على تصحيح الصحيح منها وإفساد الفاسد على أقوال هؤلاء الأكابر من شعراء الجاهلية والمخضرمين واذا كان الأدباء قدحوا فيهم وبينوا لحنهم وخطأهم في اللفظ والمعنى والإعراب ف مع هذا كيف يمكن الرجوع إلى قولهم والاستدلال بشعرهم أقصى ما في الباب أن يقال هذه الأغلاط نادرة والنادر لا عبرة به لكنا نقول النادر لا يقدح في الظن لكن لا شك أنه يقدح في اليقين لقيام الاحتمال في كل واحد من تلك الألفاظ والاعرابات أنه من ذلك اللحن النادر فثبت أن المقصد الأقصى في صحة اللغة والنحو والتصريف الظن

الظن الثاني عدم الاشتراك فإن بتقدير الاشتراك يجوز أن يكون مراد الله تعالى من هذا الكلام غير هذا المعنى الذي اعتقدناه لكن نفي الاشتراك ظني الظن الثالث عدم المجاز فإن حمل اللفظ على حقيقته إنما يتعين لو لم يكن محمولا على مجازه لكن عدم المجاز مظنون الظن الرابع أنه لا بد من عدم النقل فإن بتقدير أن يقال الشرع أو العرف نقله من معناه اللغوي إلى معنى آخر كان المراد هو المنقول إليه لا ذلك الأصل الظن الخامس أنه لا بد من عدم الإضمار فانه لو كان الحق هو لكان المراد هو ذلك الذي يدل عليه اللفظ بعد الإضمار لا هذا الظاهر الظن السادس عدم التخصيص وتقريره ظاهر

الظن السابع عدم الناسخ ولا شك في كونه محتملا في الجملة وبتقدير وقوعه لم يكن الحكم ثابتا الظن الثامن عدم التقديم والتأخير ووجهه ظاهر الظن التاسع نفي المعارض العقلي فإنه لو قام دليل قاطع عقلي على نفي ما أشعر به ظاهر النقل فالقول بهما محال لاستحالة وقوع النفي والاثبات والقول بارتفاعهما الله محال لاستحالة عدم النفي والاثبات والقول بترجيح النقل على العقل محال لأن العقل أصل النقل فلو كذبنا العقل لكنا كذبنا أصل النقل ومتى كذبنا أصل النقل فقد كذبنا النقل فتصحيح النقل بتكذيب العقل يستلزم تكذيب النقل فعلمنا أنه لا بد من ترجيح دليل العقل فإذا رأينا دليلا نقليا فإنما يبقى دليلا عند السلامة عن

هذه الوجوه التسعة ولا يمكن العلم بحصول السلامة عنها إلا إذا قيل بحثنا واجتهدنا فلم نجدها لكنا نعلم أن الاستدلال بعدم الوجدان على عدم الوجود لا يفيد إلا الظن فثبت أن التمسك بالأدلة النقلية مبني على مقدمات ظنية والمبني على الظني ظني وذلك لا شك فيه فالتمسك بالدلائل النقلية لا يفيد إلا الظن فإن قلت المكلف إذا سمع دليلا نقليا فلو حصل فيه شئ من هذه المطاعن لوجب في حكمه الله أن يطلعه على ذلك قلت القول بالوجوب على الله تعالى مبني على قاعدة الحسن والقبح العقليين وقد تقدم القول فيها سلمنا ولكننا نقطع بأنه لا يجب على الله تعالى أن يطلعه على

ذلك لما أنا نجد كثيرا من العلماء يسمعون آية أو خبرا مع أنهم لا يعرفون ما في نحوها ولغتها وتصريفها من الاحتمالات التسعة التي ذكرناها وانكار ذلك مكابرة ولو كان ذلك واجبا لما كان الأمر كذلك فعلمنا ضعف هذا العذر وفيه وجوه أخر من الفساد ذكرناها في الكتب الكلامية واعلم أن الانصاف أنه لا سبيل إلى استفاد ة اليقين من هذه الدلائل اللفظية إلا إذا اقترنت بها قرائن تفيد اليقين سواء كانت تلك القرائن مشاهدة أو كانت منقولة الينا بالتواتر المسألة الرابعة في كيفية الاستدلال بالخطاب

الخطاب إما أن يدل على الحكم بلفظه أو بمعناه أو لا يكون كذلك ولكنه بحيث لو ضم إليه شئ آخر لصار المجموع دليلا على الحكم القسم الأول ما يدل عليه بلفظه وقد عرفت أنه يجب حمل اللفظ على الحقيقة وعرفت أن الحقيقة ضربان أصلية وهي اللغوية وطارئة قال وهي العرفية والشرعية فإن كان الخطاب مستعملا في اللغة في شئ وفي العرف في شئ آخر ولم يخرج بالعرف عن أن يكون حقيقة في المعنى اللغوي فإنه يكون مشتركا بينهما وإن صار مجازا في المعنى اللغوي وجب حمله على العرفي لأنه هو المتبادر إلى الفهم ويجب مثل هذا في الاسم المنقول إلى معنى شرعي فالحاصل أن الخطاب يجب حمله على المعنى الشرعي ثم العرفي ثم المعنى اللغوي الحقيقي ثم المجاز فإن خاطب الله تعالى طائفتين بخطاب هو حقيقة عند

احداهما في شئ وعند الأخرى في شئ آخر وجب أن تحمله كل واحدة منهما على ما تتعارفه والالزم أن يقال أن الله تعالى خاطبه بغير ما هو ظاهر عنده مع عدم القرينة والله أعلم بالصواب القسم الثاني ما يدل عليه بمعناه وهو الدلالة الالتزامية وقد ذكرنا في الباب الثاني أقسام الدلالة الالتزامية القسم الثالث ما يكون بحيث لو ضم إليه شئ آخر لصار المجموع دليلا على الحكم فنقول ذلك الذي يضم إليه إما أن يكون دليلا شرعيا وهو نص أو إجماع أو قياس أويكون ذلك بشهادة حال المتكلم فهذه وجوه أربعة أحدها أن ينضم إلى النص آخر فيصير مجموعهما دليلا على الحكم وله مثالان

الأول أن يدل أحد النصين على إحدى المقدمتين والثاني على الثانية فيحصل المطلوب كقولنا تارك المأمور عاص لقوله تعالى أفعصيت أمري والعاصي يستتحق عن العقاب لقوله تعالى ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها الثاني أن يدل أحد النصين على ثبوت الحكم لشيئين ويدل النص الآخر على أن بعض ذلك لأحدهما فوجب القطع بأن باقي الحكم ثابت للثاني كقوله تعالى وحمله وفصاله ثلاثون شهرا فهذا يدل على أن مدة الحمل والرضاع ثلاثون شهرا وقوله تعالى والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين فهذا يدل على أن مدة الرضاع سنتان فيلزم أن تكون مدة الحمل ستة أشهر وثانيها أن يضم إلى النص اجماع كما إذا دل النص على أن الخال لا يرث ودل الاجماع على أن الخالة بمثابته

وثالثها أن يضم إلى النص قياس كما إذا دل النص على حرمة الربا في البر ودل القياس على أن التفاح بمثابته ورابعها أن يضم إلى النص شهادة حال المتكلم كما إذا كان كلام الشرع مترددا بين الحكم العقلي والشرعي فحمله على الشرعي أولى لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث لبيان الشرعيات لا لبيان ما يستقل العقل بإدراكه هذا إذا كان الخطاب مترددا بينهما أما إذا كان ظاهر هـ مع أحدهما لم يصح الترجيح بذلك والله أعلم المسألة الخامسة في الخطاب الذي لا يمكن حمله على ظاهره هذا الخطاب إما أن يكون خاصا أو عاما فان كان خاصا وكان حقيقة في شئ ثم وجدت قرينة تصرفه عنه فإما أن تدل القرينة على أن المراد ليس ظاهره أو تدل على أن المراد

غير ظاهره أو على أن المراد ظاهره وغير ظاهره معا فإن دل على أن المراد ليس ظاهره خرج الظاهر عن أن يكون مرادا فيجب حمله على المجاز ثم إن المجاز إما أن يكون واحدا أو أكثر فإن كان واحدا حمل اللفظ عليه من غير افتقار إلى دلالة أخرى صونا للكلام عن الإلغاء وإن كان أكثر من واحد فإما أن يدل دليل في واحد معين على أنه مراد أو على أنه ليس بمراد أو لا يدل الدليل في واحد معين لا بكونه مرادا ولا بكونه غير مراد فإن دل الدليل على أنه مراد قضي به وإن دل الدليل على أنه غير مراد فإن لم يبق إلا وجه واحد حمل عليه وإن بقي أكثر من واحد كان القول فيه كما إذا لم يوجد الدليل على كونه مرادا ولا على كونه غير مراد وهذا هو القسم الثالث فنقول وجوه المجاز إما أن تكون محصورة أو غير محصورة فإن لم تكن محصورة فقال القاضي عبد الجبار لا بد من دلالة تدل على المراد لأنه لا يجوز أن يريدها أجمع مع تعذر حصرها علينا قال أبو الحسين ولقائل أن يقول إنه أرادها كلها على البدل لأن

ذلك ممكن مع فقد الدلالة ومع فقد الحصر فإنه تعالى لو أوجب علينا ذبح بقرة فإنا نكون مخيرين في ذبح أي بقرة شئنا وإن لم يمكنا حصر البقر فأما من لا يجيز أن يراد بالكلمة الواحدة معنيان مختلفان فيجيئ على مذهبه أنه لا بد من دلالة تدل على المراد بعينه لأن اللفظ ما وضع للتخيير وأما إن كانت وجوه المجاز محصورة فإن كان البعض أقوى من الباقي حمل على الأقوى رعاية لزيادة القوة وإن تساوت حمل اللفظ عليها بأسرها على البدل أما على الكل فلأنه ليس حمل الخطاب على البعض أولى من الباقي وأما على البدل فلأن الخطاب ليس بعام حتى يحمل على الجميع هذا على قول من يجوز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه فأما من لا يجوزه فإنه يقول لا بد من البيان القسم الأول وهو أن يدل الدليل على أن غير الظاهر مراد فذلك الدليل إما أن يعين ذلك الغير أو لا يعينه

فإن عينه وجب حمله عليه وإن لم يعينه فالقول فيه كما في القسم الأول القسم الثاني وهو أن يدل دليل على أن ظاهر الخطاب مراد وغير ظاهره مراد فإن كان ذلك الغير معينا وجبت الحمل عليه فيكون اللفظ موضوعا لهما من جهة اللغة أو من جهة الشرع أو تكلم بالكلمة مرتين وان لم يتعين ذلك الغير فالكلام فيه كما في القسم الأول أما إن كان الخطاب عاما فإن تجرد عن القرينة حمل على العموم وان لم يتجرد فهذا يقع على وجوه أحدها أن تدل القرينة على أن المراد ظاهره وغير ظاهره معا فإن كان ذلك الغير معنيا حمل اللفظ عليه على التفصيل المذكور وان لم يكن معينا فالكلام فيه كما في الخاص إذا دلت الدلالة على أن المراد غير ظاهره وثانيها أن يدل الدليل على أن المراد ليس ظاهره وأن المراد

غير ظاهره فها هنا لا بد أن يوجد الدليل على التعيين لأنه إذا لم يكن المراد ظاهره جاز أن يكون المراد بعض ما يتناوله وجاز أن يكون المراد شيئا آخر لم يتناوله الخطاب فاذا لم يصح اجتماعهما فلا بد من دليل يعين المراد وثالثها أن يدل الدليل على أن بعضه مراد وهذا لا يقتضي خروج البعض الآخر عن أن يكون مرادا لأنه لا ينافي ذلك فان دل على أن المراد هو البعض خرج البعض الآخر عن كونه مرادا لأن ذلك اخبار بأن ذلك البعض هو كمال المراد ورابعها أن يدل الدليل على أن بعضه ليس بمراد وحينئذ يخرج عن كونه مرادا ويبقى ما عداه تحت ذلك الخطاب والله أعلم

المسألة السادسة في أن ثبوت حكم الخطاب اذا تناوله على وجه المجاز لا يدل على أنه مراد بالخطاب مثاله قوله تعالى أو لامستم النساء فإن قيام الدلالة على وجوب التيمم على المجامع وهو الذي تناوله اسم الملامسة على طريق الكناية هل يدل على أنه هو المراد بالآية فذهب الكرخي وأبو عبد الله البصري إلى أنه واجب وعندنا أنه ليس بواجب لنا المقتضى لاجراء الآية على ظاهرها موجود والمعارض الموجود وهو ثبوت حكم الخطاب فيما تناوله على وجه المجاز لا يصلح معارضا له لاحتمال ثبوته بدليل آخر أوجب اجراء الآية على ظاهرها

واحتجوا بأن ثبوت الحكم في صورة المجاز لا بد له من دليل ولا دليل سوى هذا الظاهر وإلا لنقل واذا حمل الظاهر على مجازه وجب أن لا يحمل على الحقيقة لامتناع استعمال اللفظ في مجازه وحقيقته معا كونه مرادا ويبقى ما عداه تحت ذلك الخطاب والله أعلم

المسألة السادسة في أن ثبوت حكم الخطاب اذا تناوله على وجه المجاز لا يدل على أنه مراد بالخطاب مثاله قوله تعالى أو لامستم النساء فإن قيام الدلالة على وجوب التيمم على المجامع وهو الذي تناوله اسم الملامسة على طريق الكناية هل يدل على أنه هو المراد بالآية فذهب الكرخي وأبو عبد الله البصري إلى أنه واجب وعندنا أنه ليس بواجب لنا المقتضى لاجراء الآية على ظاهرها موجود والمعارض الموجود وهو ثبوت حكم الخطاب فيما تناوله على وجه المجاز لا يصلح معارضا له لاحتمال ثبوته بدليل آخر أوجب اجراء الآية على ظاهرها

واحتجوا بأن ثبوت الحكم في صورة المجاز لا بد له من دليل ولا دليل سوى هذا الظاهر وإلا لنقل واذا حمل الظاهر على مجازه وجب أن لا يحمل على الحقيقة لامتناع استعمال اللفظ في مجازه وحقيقته معا والجواب لا نسلم أنه لا دليل سوى هذا الظاهر قوله لو وجد لنقل قلنا لعلهم استغنوا بالاجماع عن نقله والله أعلم.

بسم الله الرحمن الرحيم جميع الحقوق محفوظة للناشر الطبعة الثالثة 1418 هـ / 1997 م حقوق الطبع محفوظة 1992 م. لا يسمح بإعادة نشر هذا الكتاب أو أي جزء منه بأي شكل من الأشكال أو حفظه ونسخه في أي نظام ميكانيكي أو إلكتروني يمكن من استرجاع الكتاب أو أي جزء منه. ولا يسمح باقتباس أي جزء من الكتاب أو ترجمته إلى أي لغة أخرى دون الحصول على إذن خطي مسبق من الناشر.

المحصول في علم أصول الفقه للامام الأصولي النظار المفسر فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي 544 - 606 هـ / 1149 - 1209 م دراسة وتحقيق الدكتور طه جابر فياض العلواني الجزء الثاني مؤسسة الرسالة

بسم الله الرحمن الرحيم

الكلام في الأوامر والنواهي

الكلام في الأوامر والنواهي وهو مرتب: على مقدمة، وثلاثة أقسام: أما المقدمة ففيها مسائل:

المسألة الأولى فيما يكون فيه لفظ الأمر حقيقة

المسألة الأولى: اتفقوا على أن لفظة الأمر حقيقة في القول المخصوص واختلفوا في كونه حقيقة في غيره فزعم بعض الفقهاء أنه حقيقة في الفعل أيضا والجمهور على أنه مجاز فيه وزعم أبو الحسين البصري أنه مشترك بين القول المخصوص وبين الشئ وبين الصفة وبين الشأن والطريق والمختار أنه حقيقة في القول المخصوص فقط لنا إنا أجمعنا على أنه حقيقة في القول المخصوص فوجب أن لا يكون حقيقة في غيره دفعا للاشتراك ومن الناس من استدل على أنه ليس حقيقة في الفعل بأمور أحدها لو كان لفظ الأمر حقيقة في الفعل لاطرد فكان يسمى الأكل أمرا والشرب أمرا وثانيها ولكان يشتق للفاعل اسم الآمر وليس كذلك لأن من قام أو قعد لا يسمى آمرا

وثالثها أن للأمر لوازم ولم يوجد شئ منها في الفعل فوجب أن لا يكون الأمر حقيقة في الفعل بيان الأول أن الأمر يدخل فيه الوصف بالمطيع والعاصي وضده النهي ويمنع منه الخرس والسكوت لأنهم يستهجنون في الأخرس والساكت أن يقال وقع منه أمر وعدوا الأمر مطلقا من أقسام الكلام كما عدوا الخبر مطلقا منه وكل ذلك ينافي كون الأمر حقيقة إلا في القول ورابعها أنه يصح نفي الأمر عن الفعل فيقال إنه ما أمر به ولكن فعله وهذه الوجوه ضعيفة أما الأول فلأنا لا نسلم أن من شأن الحقيقة الاطراد وقد تقدم بيان هذا المقام سلمناه لكن لا نسلم أنه لا يصح أن يقال للأكل والشرب أمر وعن الثاني ما تقدم في باب المجاز أن الاشتقاق غير واجب في كل الحقائق

وعن الثالث أن العرب إنما حكموا بتلك الصفات في الأمر بمعنى القول فإن ادعيتم أنهم حكموا به في كل ما يسمى أمرا فهو ممنوع وعن الرابع لا نسلم أنهم جوزوا نفيه مطلقا واحتج القائلون بأنه حقيقة في الفعل بوجهين أحدهما أن أهل اللغة يستعملون لفظة الأمر في الفعل وظاهر الاستعمال الحقيقة بيان الاستعمال القرآن والشعر والعرف أما القرآن فقوله سبحانه وتعالى حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور والمراد منه العجائب التي فعلها الله تعالى وقوله تعالى أتعجبين من أمر الله وأراد به الفعل وقوله وما أمر فرعون برشيد وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر وقوله تجري في البحر بأمره وقوله مسخرات بأمره وأما الشعر فقوله لأمر ما يسود من يسود

وأما العرف فقول العرب في خبر الزباء لأمر ما جدع قصير أنفه ويقولون أمر فلان مستقيم وأمره غير مستقيم وإنما يريدون طرائقه وأفعاله وأحواله ويقولون هذا أمر عظيم كما يقولون خطب عظيم ورأيت من فلان أمرا هالني

وأما أن الأصل في الإطلاق الحقيقة فقد تقدم وثانيهما أنه قد خولف بين جمع الأمر بمعنى القول وبين جمعه بمعنى الفعل فيقال في الأول أوامر وفي الثاني أمور والاشتقاق علامة الحقيقة واحتج أبو الحسين على قوله بأن من قال هذا أمر لم يدر السامع أي هذه الأمور أراد فإذا قال هذا أمر بالفعل أو أمر فلان مستقيم أو تحرك هذا الجسم لأمر أو جاء زيد لأمر عقل السامع من الأول القول ومن الثاني الشأن ومن الثالث أن الجسم تحرك لشئ ومن الرابع أن زيدا جاء لغرض من الأغراض وتوقف الذهن عند السماع يدل على أنه متردد بين الكل والجواب عن الأول أنا لا نسلم استعمال هذا اللفظ في الفعل من حيث إنه فعل أما قوله تعالى حتى إذا جاء أمرنا فلم لا يجوز أن يكون المراد منه القول أو الشأن والفعل يطلق عليه اسم الأمر لعموم كونه شأنا لا لخصوص كونه فعلا

وكذا الجواب عن الآية الثانية وأما قوله تعالى وما أمر فرعون برشيد فلم لا يجوز أن يكون المراد هو القول بل الأظهر ذلك لما تقدم من قوله فاتبعوا أمر فرعون أي أطاعوه فيما أمرهم به سلمنا أنه ليس المراد منه القول فلم لا يجوز أن يكون المراد شأنه وطريقه وأما قوله تعالى وما أمرنا إلا واحدة فنقول لا يجوز إجراء اللفظ على ظاهره أما أولا فلأنه يلزم أن يكون فعل الله تعالى واحدا وهو باطل وأما ثانيا فلأنه يقتضي أن يكون كل فعل الله تعالى لا يحدث إلا كلمح بالبصر في السرعة ومعلوم أنه ليس كذلك وإذا وجب صرفه عن الظهر علمنا أن المراد منه تعالى من شأنه أنه إذا أراد شيئا وقع كلمح البصر وأما قوله تجري في البحر بأمره مسخرات بأمره فلا يجوز حمل الأمر هاهنا على الفعل لأن الجري والتسخير إنما حصلا

بقدرته لا بفعله فوجب حمله على الشأن والطريق سلمنا أن لفظ الأمر مستعمل في الفعل فلم قلت إنه حقيقة فيه فإن قلتم لأن الأصل في الكلام الحقيقة قلنا والأصل عدم الاشتراك على ما تقدم وقد تقدم بيان أنه إذا دار اللفظ بين الاشتراك والمجاز فالمجاز أولى والجواب عن الثاني لم لا يجوز أن تكون الأمور جمعا للأمر بمعنى الشأن لا بمعنى الفعل سلمناه لكن لا نسلم أن الجمع من علامات الحقيقة على ما تقدم بيانه فأما ما احتج به أبو الحسين فهو بناء على تردد الذهن عند سماع تلك اللفظة بين تلك المعاني وذلك ممنوع فإن الذي يزعم أنه حقيقة في القول يمنع من ذلك التردد اللهم إلا إذا وجدت قرينة مانعة من حمل اللفظ على القول كما إذا استعمل في موضع لا يليق به القول فحينئذ ذلك قرينة في أن المراد منه غير القول والله أعلم

المسألة الثانية في حد الأمر

المسألة الثانية ذكروا في حد الأمر بمعنى القول وجهين أحدهما ما قاله القاضي أبو بكر وارتضاه جمهور الأصحاب أنه هو القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به وهذا خطأ أما أولا فلأن لفظتي المأمور والمأمور به مشتقتان من الأمر فيمتنع تعريفهما إلا بالأمر فلو عرفنا الأمر بهما لزم الدور وأما ثانيا فلأن الطاعة عند أصحابنا موافقة الأمر وعند المعتزلة موافقة الإرادة فالطاعة على قول أصحابنا لا يمكن تعريفها إلا بالأمر فلو عرفنا الأمر بها لزم الدور وثانيهما ما ذكره أكثر المعتزلة وهو أن الأمر هو قول القائل لمن دونه افعل أو ما يقوم مقامه وهذا خطأ من وجوه الأول أنا لو قدرنا إن الواضع ما وضع لفظة افعل لشئ أصلا حتى كانت هذه اللفظة من المهملات ففي تلك الحالة لو تلفظ الإنسان بها مع من دونه لا يقال فيه إنه أمر ولو أنها صدرت عن النائم والساهي أو على سبيل انطلاق اللسان بها اتفاقا أو على سبيل الحكاية لا يقال فيه إنه أمر ولو أنا قدرنا أن الواضح وضع بإزاء معنى الأمر لفظ إفعل وبإزاء معنى الخبر لفظ إفعل لكان المتكلم بلفظ إفعل آمرا والمتكلم بلفظ إفعل مخبرا

فعلمنا أن تحديد ماهية الأمر بالصيغة المخصوصة باطل الثاني أن المطلوب تحديد ماهية الأمر من حيث إنه أمر وهي حقيقة لا تختلف باختلاف اللغات فإن التركي قد يأمر وينهى وما ذكروه لا يتناول إلا الألفاظ العربية فإن قلت قوله أو ما يقوم مقامه احتراز عن هذين الإشكالين اللذين ذكرتهما قلت قوله أو ما يقوم مقامه يعني به كونه قائما مقامه في الدلالة على كونه طالبا للفعل أو يعني به شيئا آخر فإن كان المراد هو الثاني فلا بد من بيانه وإن كان المراد هو الأول صار معنى حد الأمر هو قول القائل لمن دونه افعل أو ما يقوم مقامه في الدلالة على طلب الفعل وإذا ذكرناه على هذا الوجه كان قولنا الأمر هو اللفظ الدال على طلب الفعل كافيا وحينئذ يقع التعرض لخصوص صيغة إفعل ضائعا الثالث أنا سنبين إن شاء الله تعالى أن الرتبة غير معتبرة وإذا ثبت فساد هذين الحدين فنقول الصحيح أن يقال الأمر طلب الفعل بالقول على سبيل الاستعلاء

المسألة الثالثة وفروعها في ماهية الطلب

ومن الناس من لم يعتبر هذا القيد الأخير المسألة الثالثة في ماهية الطلب اعلم أن تصور ماهية الطلب حاصل لكل العقلاء على سبيل الاضطرار فإن من لم يمارس شيئا من الصنائع العلمية ولم يعرف الحدود والرسوم قد يأمر وينهى ويدرك تفرقة بديهية بين طلب الفعل وبين طلب الترك وبينهما وبين المفهوم من الخبر ويعلم أن ما يصلح جوابا لأحدهما لا يصلح جوابا للآخر ولولا أن ماهية الطلب متصورة تصورا بديهيا وإلا لما صح ذلك ثم نقول معنى الطلب ليس نفس الصيغة لأن ماهية الطلب لا تختلف باختلاف النواحي والأمم وكان يحتمل في الصيغة التي وضعوها للخبر أن يضعوها للأمر وبالعكس فماهية الطلب ليست نفس الصيغة ولا شيئا من صفاتها بل هي ماهية قائمة بقلب المتكلم تجري مجرى علمه وقدرته وهذه الصيغ المخصوصة دالة عليها ويتفرع على هذه القاعدة مسائل

المسألة الأولى أن تلك الماهية عندنا شئ غير الإرادة وقالت المعتزلة هي إرادة المأمور به لنا وجوه أولها أن الله تعالى ما أراد من الكافر الإيمان وقد أمره به فدل على أن حقيقة الأمر غير حقيقة الإرادة وغير مشروطة بها وإنما قلنا إنه تعالى ما أراد منه الإيمان لوجهين أحدهما أنه تعالى لما علم منه أنه لا يؤمن فلو آمن لزم انقلاب علمه جهلا وذلك محال والمفضي إلى المحال محال فصدور الإيمان منه محال والله تعالى عالم بكونه محالا والعالم بكون الشئ محال الوجود لا يكون مريدا له بالاتفاق فثبت أن الله تعالى لا يريد الإيمان من الكافر وتمام الأسئلة والأجوبة على هذا الوجه سيأتي في مسألة تكليف ما لا يطاق إن شاء الله تعالى الثاني هو أن صدور الفعل عن العبد يتوقف على وجود الداعي والداعي مخلوق لله تعالى دفعا للتسلسل وعند حصول الداعي يجب وقوع الفعل وإلا لزم وقوع الممكن لا عن مرجح أو افتقاره إلى

داعية أخرى وإلا لزم التسلسل إذا كانت الداعية مخلوقة لله تعالى وعند وجود الداعي يجب حصول الفعل فالله تعالى خلق في الكافر ما يوجب الكفر فلو أراد في هذه الحالة وجود الإيمان لزم كونه مريدا للضدين وذلك باطل بالاتفاق بيننا وبين خصومنا فثبت بهذين الوجهين أن الله تعالى ما أراد الإيمان من الكافر وأما أنه تعالى أمر الكافر بالإيمان فذلك مجمع عليه بين المسلمين وإذا ظهرت المقدمتان ثبت أنه وجد الأمر بدون الإرادة وإذا ثبت ذلك ثبت أن حقيقة الأمر مغايرة لحقيقة الإرادة وغير مشروطة بها فإن قيل ما المراد من قولك أمر الكافر بالإيمان إن أردت به أنه أنزل لفظا يدل على كونه مريدا لعقابه في الآخرة إذا لم يصدر منه الإيمان فهذا مسلم لكن معناه نفس إرادة العقاب لا غير فلا يحصل مطلوبكم من أنه أمر بما لم يرد وإن عنيت شيئا آخر فاذكره سلمنا ذلك لكن لا نسلم أنه ما أراد الإيمان ولا نسلم أن إيمانه محال وسيأتي تقرير هذا المقام في مسألة تكليف ما لا يطاق سلمناه لكن لا نسلم أن المحال غير مراد بيانه هو أن الإرادة من جنس الطلب وإذا جوزت طلب

المحال مع العلم بكونه محالا فلم لا تجوز إرادته مع العلم بكونه محالا والجواب قوله الأمر بالشئ عبارة عن الإخبار عن إرادة عقاب تاركه قلت لو كان كذلك لتطرق التصديق والتكذيب إلى قوله آمنوا لأن الخبر من شأنه قبول ذلك ولأن سقوط العقاب جائز أما عندنا فبالعفو وأما عندهم ففي الصغائر قبل التوبة وفي الكبائر بعدها ولو تحقق الخبر عن وقوع العقاب لما جاز ذلك قوله لم قلت إن إرادة المحال ممتنعة قلنا هذا متفق عليه بيننا وبينكم وأيضا فلأن الإرادة صفة من شأنها ترجيح أحد طرفي الجائز على الآخر وذلك في المحال محال والعلم به ضروري وثانيها أن الرجل قد يقول لغيره إني أريد منك هذا الفعل لكنني لا آمرك به ولو كان الأمر هو الإرادة لكان قوله أريد منك الفعل ولا آمرك به جاريا مجرى أن يقال أريد منك الفعل ولا أريده منك وقوله آمرك بهذا الفعل ولا أمرك به ومعلوم أن ذلك صريح

التناقض دون الأول وثالثها أن الحكيم قد يأمر عبده بشئ في الشاهد ولا يريد منه أن يأتي بالمأمور به لإظهار تمرده وسوء أدبه فإن قلت ذلك ليس بأمر وإنما تصور بصورته قلت التجربة إنما تحصل بالأمر فدل على أنه أمر ورابعها أنه سيظهر إن شاء الله تعالى في باب النسخ أنه يجوز نسخ ما وجب من الفعل قبل مضي مدة الامتثال فلو كان الأمر والنهي عبارتين عن الإرادة والكراهة لزم أن يكون الله تعالى مريدا كارها للفعل الواحد في الوقت الواحد من الوجه الواحد وذلك باطل بالاتفاق واحتج الخصم بوجهين الأول أن صيغة إفعل موضوعة لطلب الفعل وهذا الطلب إما الإرادة أو غيرها والثاني باطل لأن الطلب الذي يغاير الأرادة لو صح القول به لكان أمرا خفيا لا يطلع عليه إلا الأذكياء لكن العقلاء من أهل اللغة وضعوا هذه اللفظة للطلب الذي يعرفه كل واحد وما ذاك إلا الإرادة فعلمنا أن هذه الصيغة موضوعة للإرادة الثاني أن أرادة المأمور به لو لم تكن معتبرة في الأمر لصح الأمر بالماضي والواجب والممتنع قياسا على الخبر فإن إرادة المخبر عنه لما

لم تكن معتبرة في الخبر صح تعلق الخبر بكل هذه الأشياء والجواب عن الأول لا نسلم أن الطلب النفساني الذي يغاير الإرادة غير معلوم للعقلاء فإنهم قد يأمرون بالشئ ولا يريدونه كالسيد الذي يأمر عبده بشئ ولا يريده ليمهد عذره عند السلطان وعن الثاني أنه لا بد من الجامع وعلى أن القائل بتكليف ما لا يطاق يجوزه والله أعلم المسألة الثانية أن هذا الطلب معنى يقتضي ترجيح جانب الفعل على جانب الترك أو جانب الترك على جانب الفعل وعلى التقديرين فالترجيح قد يكون مانعا من الطرف الآخر كما في الوجوب والحظر وقد لا يكون كما في الندب والكراهة والتفاوت بين أصل الترجيح وبين الترجيح المانع من النقيض تفاوت بالعموم والخصوص وأيضا فهنا لفظ دال على أصل الترجيح ولفظ دال على الترجيح المانع من النقيض وعلى التقديرين فالمعتبر إما اللفظ الدال عليه كيف كان اللفظ وإما اللفظة العربية

فها هنا أقسام ستة أحدها أصل الترجيح وثانيها الترجيح المانع من النقيض وثالثها ورابعها مطلق اللفظ الدال على الأول أو الثاني وخامسها وسادسها اللفظة العربية الدالة على الأول أو الثاني ثم أنت بالخيار في إطلاق لفظ الأمر على أيها شئت أو عليها بأسرها أو على طائفة منها بحسب الاشتراك فهذا حظ البحث العقلي وأما البحث اللغوي فهو أن نقول جعل الأمر اسما للصيغة الدالة على الترجيح أولى من جعله اسما لنفس الترجيح ويدل عليه وجوه أحدها أن أهل اللغة قالوا الأمر من الضرب إضرب ومن النصر

أنصر جعلوا نفس الصيغة أمرا وثانيها لو قال إن أمرت فلانا فعبدي حر ثم أشار بما يفهم منه مدلول هذه الصيغة فإنه لا يعتق ولو كان حقيقة الأمر ما ذكرتم لزم العتق ولا يعارض هذا الحكم بما إذا خرس وأشار فإنه يعتق لأنا نمنع هذه المسألة وثالثها أنا لو جعلناه حقيقة في الصيغة كان مجازا في المدلول تسمية للمدلول باسم الدليل ولو جعلناه حقيقة في المدلول كان مجازا في الدليل تسمية للدليل باسم المدلول والأول أولى لأنه يلزم من فهم الدليل فهم المدلول أما لا يلزم من فهم المدلول فهم الدليل بل فهم دليل معين ورابعها أن الإنسان الذي قام بقلبه ذلك المعنى ولم ينطق بشئ لا يقال إنه أمر ألبتة بشئ وإذا قيل أمر فلان بكذا تبادر الذهن إلى اللفظ دون ما في

القلب وذلك يدل على أن لفظ الأمر اسم للصيغة لا للمدلول احتج المخالف بالآية والأثر والشعر والمعقول أما الآية فقوله تعالى إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون الله تعالى كذبهم في شهادتهم ومعلوم أنهم كانوا صادقين في النطق اللساني فلا بد من إثبات كلام في النفس ليكون الكذب عائدا إليه وأما الأثر فقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه زورت في نفسي كلاما فسبقني إليه أبو بكر

وأما الشعر فقول الأخطل إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا وأما المعقول فهو إن هذه الألفاظ مفردات فلو سميت كلاما لكانت إنما سميت بذلك لكونها معرفات للمعنى النفساني فكان يجب تسمية الكتابة والإشارة كلاما وإنه باطل والجواب عن الأول أن الشهادة هي الإخبار عن الشئ مع العلم به فلما لم يكونوا عالمين به فلا جرم كذبهم الله تعالى في ادعائهم كونهم شاهدين وعن الثاني أن قوله زورت في نفسي كلاما أي خمرته كما يقال قدرت في نفسي دارا وبناء

وعن الثالث أنا لا نسلم كون الشعر عربيا محضا ولو سلمناه فمعناه أن المقصود من الكلام ما حصل في القلب وعن الرابع أنه قياس في اللغة فلا يقبل فرع الآمر اسم لمطلق اللفظ الدال على مطلق الطلب أو اللفظ العربي الدال على مطلق الطلب والحق هو الأول لأن الفارسي إذا طلب من عبده شيئا بلغته فإن العربي يسميه أمرا ولو حلف لا يأمر فأمر بالفارسية يحنث في يمينه وأما أنه اسم لمطلق اللفظ الدال على مطلق الطلب أو لمطلق اللفظ الدال على الطلب المانع من النقيض فالحق هو الثاني وذلك إنما يظهر ببيان أن الأمر للوجوب المسألة الثالثة دلالة الصيغة المخصوصة على ماهية الطلب يكفي في تحققها الوضع من غير حاجة إلى إرادة أخرى وهو قول الكعبي لنا وجهان أحدهما أن هذه الصيغة لفظة وضعت لمعنى فلا تفتقر

في إفادتها لما هي موضوعة له إلى الإرادة كسائر الألفاظ مثل دلالة السبع والحمار على البهيمة المخصوصة فإنه لا حاجة فيها إلى الإرادة وثانيهما أن الطلب النفساني أمر باطن فلا بد من الاستدلال عليه بأمر ظاهر والإرادة أمر باظن في مفتقرة إلى المعرف كافتقار الطلب إليه فلو توقفت دلالة الصيغة على الطلب على تلك الإرادة لما أمكن الاستدلال بالصيغة على ذلك الطلب ألبتة احتج المخالف بأنا نميز بين ما إذا كانت الصيغة طلبا وبين ما إذا كانت تهديدا ولا مميز إلا الإرادة والجواب أنها حقيقة في الطلب مجاز في التهديد فكما أن الأصل في كل الألفاظ إجراؤها على حقائقها إلا عند قيام دلالة صارفة فكذا ها هنا المسألة الرابعة ذهب أبو علي وأبو هاشم إلى أن إراردة المأمور به تؤثر في صيرورة صيغة إفعل أمرا وهذا خطأ من وجهين الأول أن الآمرية لو كانت صفة للصيغة لكانت إما أن تكون حاصلة لمجموع الحروف وهو محال لأنه لا وجود لذلك المجموع

وإما لأحادها هذه فيلزم أن يكون كل واحد من الحروف التي ائتلفت صيغة الأمر منها أمرا على الاستقلال وهو محال الثاني إن صيغة إفعل دالة بالوضع على معنى وذلك المعنى هو أرادة المأمور فإذا كانت الإرادة نفس المدلول وجب أن لا تفيد الصيغة الدالة عليها صفة قياسا على سائر المسميات والأسماء المسألة الخامسة قال جمهور المعتزلة الآمر يجب أن يكون أعلى رتبة من المأمور حتى يسمى الطلب أمرا وقال أبو الحسين البصري المعتبر هو الاستعلاء لا العلو وقال أصحابنا لا يعتبر العلو ولا الاستعلاء

لنا قوله تعالى حكاية عن فوعون أنه قال لقومه فماذا تأمرون مع أنه كان أعلى رتبة منهم وقال عمرو بن العاص لمعاوية أمرتك أمرا حازما فعصيتني وكان من التوفيق قتل ابن هاشم وقال دريد بن الصمة لنظرائه ولمن هم فوقه

أمرتهم أمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا الرشد حتى ضحى الغد وقال حباب بن المنذر يخاطب يزيد بن المهلب أمير خراسان والعراق أمرتك أمرا حازما فعصيتني فأصبحت مسلوب الإمارة نادما فهذه الوجوه دالة على أن العلو غير معتبر وأما أن الاستعلاء غير معتبر فلأنهم يقولون فلان أمر فلانا

على وجه الرفق واللين نعم إذا بالغ في التواضع يمتنع إطلاق الاسم عرفا وإن ثبت ذلك لغة واحتج المخالف على أن العلو معتبر بأنه يستقبح في العرف أن يقول القائل أمرت الأمير أو نهيته ولا يستقبحون أن يقال سألته أو طلبت منه ولولا أن الرتبة معتبرة وإلا لما كان كذلك وأما أبو الحسين فقال اعتبار الاستعلاء أولى من اعتبار العلو لأن من قال لغيره إفعل على سبيل التضرع إليه لا يقال إنه أمره وإن كان أعلى رتبة من المقول إليه من قال لغيره إفعل على سبيل الاستعلاء لا على سبيل التذلل يقال إنه أمره وإن كان المقول له أعلى رتبة منه ولهذا يصفون من هذا سبيله بالجهل والحمق من حيث أمر من هو أعلى رتبة منه واعلم أن مدار هذا الكلام على صحة الاستعلاء وأصحابنا يمنعون منه والله أعلم

المسألة السادسة لفظ الأمر قد يقام مقام الخبر وبالعكس أما أن الأمر يقام مقام الخبر فكما في قوله عليه الصلاة والسلام إذا لم تستح فاصنع ما شئت معناه صنعت ما شئت وأما أن الخبر يقام مقام الأمر فكما في قوله تعالى والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء

والسبب في جواز هذا المجاز أن الأمر يدل على وجود الفعل كما أن الخبر يدل عليه أيضا فبينهما مشابهة من هذا الوجه فصح المجاز وأيضا تجوز إقامة النهي مقام الخبر وبالعكس أما الأول فكقوله عليه الصلاة والسلام لا تنكح اليتيمة حتى تستأمر معناه لا تنكحوها إلى غاية استئمارها وأما الثاني فكقوله ص لا تنكح المرأة المرأة ولا تنكح المرأة نفسها وكما في قوله تعالى لا يمسه إلا المطهرون

وجه المجاز أن النهي يدل على عدم الفعل كما أن هذا الخبر يدل على عدمه فبينهما مشابهة من هذا الوجه والله أعلم

القسم الأول في المباحث اللفظية وفيه مسائل

القسم الأول في المباحث اللفظية وفيه مسائل

المسألة الأولى في أن صيغة "افعل " مستعملة في خمسة عشر وجها

المسألة الأولى قال الأصوليون صيغة افعل مستعملة في خمسى عشر وجها الأول الإيجاب كقوله تعالى أقيموا الصلاة الثاني الندب كقوله تعالى فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وأحسنوا ويقرب منه التأديب كقوله عليه الصلاة والسلام كل فما يليك فإن الأدب مندوب إليه وإن كان قد جعله بعضهم قسما مغايرا للمندوب الثالث الإرشاد كقوله تعالى واستشهدوا شهيدين فاكتبوه والفرق بين الندب والإرشاد أن الندب لثواب الآخرة والإرشاد لمنافع الدنيا فإنه لا ينقص الثواب بترك الاستشهاد في المداينات ولا يزيد بفعليه

الرابع الإباحة كقوله تعالى كلوا واشربوا الخامس التهديد كقوله تعالى اعملوا ما شئتم واستفزز من استطعت منهم بصوتك ويقرب منه الإنذار كقوله تعالى قل تمتعوا وإن كانوا قد جعلوه قسما آخر السادس الامتنان فكلوا مما رزقكم الله السابع الإكرام ادخلوها بسلام آمنين الثامن التسخير كقوله كونوا قردة التاسع التعجيز فأتوا بسورة العاشر الإهانة ذق إنك أنت العزيز الكريم الحادي عشر التسوية صبروا أو لا تصبروا الثاني عشر الدعاء رب اغفر لي الثالث عشر التمني كقوله

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي الرابع عشر الاحتقار كقوله ألقوا ما أنتم ملقون الخامس عشر التكوين كقوله كن فيكون إذا عرفت هذا فنقول اتفقوا على أن صيغة إفعل ليست حقيقة في جميع هذه الوجوه لأن خصوصية التسخير والتعجيز والتسوية غير مستفادة من مجرد هذه الصيغة بل إنما تفهم تلك من القرائن إنما الذي وقع الخلاف فيه أمور خمسة الوجوب والندب والإباحة والتنزيه والتحريم فمن الناس من جعل هذه الصيغة بين هذه الخمسة ومنهم من جعلها مشتركة بين الوجوب والندب والإباحة ومنهم من جعلها حقيقة لأقل المراتب وهو الإباحة والحق أنها ليست حقيقة في هذه الأمور

لنا أنا ندرك التفرقة في اللغات كلها بين قوله إفعل وبين قوله إن شئت فافعل وإن شئت لا تفعل حتى إذا قدرنا انتفاء القرائن كلها وقدرنا هذه الصيغة منقولة على سبيل الحكاية عن ميت أو غائب لا في فعل معين حتى يتوهم فيه قرينة دالة بل في الفعل مطلقا سبق إلى فهمنا اختلاف معاني هذه الصيغ وعلمنا قطعا أنها ليست أسامي مترادفة على معنى واحد كما ندرك التفرقة بين قولهم قام زيد ويقوم زيد في أن الأول للماضي والثاني للمستقبل وإن كان قد يعبر عن الماضي بالمستقبل وبالعكس لقرائن تدل عليه فكذلك ميزوا الأمر عن النهي فقالوا الأمر أن تقول إفعل والنهي أن تقول لا تفعل فهذا أمر معلوم بالضرورة من اللغات لا يشككنا فيه إطلاقه مع قرينة على الإباحة أو التهديد فإن قيل تدعي الفرق بين إفعل ولا تفعل في حق من يعتقد كون اللفظ موضوعا للكل حقيقة أو في حق من لا يعتقد ذلك

الأول ممنوع والثاني مسلم بيانه أن كل من اعتقد كون هذه اللفظة موضوعة لهذه المعاني فإنه يحصل في ذهنه الاستواء أما من لا يعتقد ذلك فإنه لا يحصل عنده الرجحان سلما الرجحان لكن لم لا يجوز أن يكون ذلك للعرف الطارئ لا في أصل الوضع كما في الألفاظ العرفية سلمنا أن ما ذكرته يدل على قولك لكنه معارض بما يدل على نقيضه وهو أن الصيغة قد جاءت بمعنى التهديد والإباحة والأصل في الكلام الحقيقة والجواب عن الأول أنه مكابرة فإنا نعلم عند انتفاء كل القرائن بأسرها أنه يكون فهم الطلب من لفظ إفعل راجحا على فهم التهديد والإباحة وعن الثاني أن الأصل عدم التغيير وعن الثالث أنك قد عرفت أن المجاز أولى من الاشتراك ووجه المجاز أن هذه الأمور الخمسة أعني الوجوب والندب والإباحة

المسألة الثانية في أقوال العلماء فيما تستعمل فيه صيغة "افعل" على سبيل الحقيقة

والتنزيه والتحريم أضداد وإطلاق اسم الضد على الضد أحد وجوه المجاز والله أعلم المسألة الثانية الحق عندنا أن لفظة إفعل حقيقة في الترجيح المانع من النقيض وهو قول أكثر الفقهاء والمتكلمين وقال أبو هاشم إنه يفيد الندب ومنهم من قال بالوقف وهم فرق ثلاث الفرقة الأولى الذين يقولون أنه حقيقة في القدر المشترك بين الوجوب والندب وهو ترجيح الفعل على الترك ثم جاء الوجوب يمتاز عن الندب بامتناع الترك والندب يمتاز عن الوجوب بجواز الترك وليس في الصيغة إشعار بهذين القيدين ويليق بمذهب هؤلاء أن يقولوا إنه يجب حمله على الندب لأن اللفظ يفيد رجحان الفعل على الترك وليس فيه ما يدل على المنع من الترك وقد كان جواز الترك معلوما بحكم الاستصحاب وإذا كان كذلك كان جواز

الترك بحكم الاستصحاب ورجحان الفعل بدلالة اللفظ ولا معنى للندب إلا ذلك الفرقة الثانية الذين قالوا إن صيغة إفعل موضوعة للوجوب والندب على سبيل الاشتراك اللفظي وهو قول المرتضى من الشيعة الفرقة الثالثة الذين قالوا إنها حقيقة إما في الوجوب فقط أو في الندب فقط أو فيهما معا بالاشتراك لكنا لا ندري ما هو الحق من هذه الأقسام الثلاثة فلا جرم توقفنا في الكل وهو قول الغزالي منا لنا وجوه الدليل الأول التمسك بقوله تعالى لإبليس ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك وليس المراد منه الاستفهام بالاتفاق بل الذم فإنه لا عذر له في الإخلال بالسجود بعد ورود الأمر به هذا هو المفهوم من قول السيد لعبده ما منعك من دخول الدار إذ أمرتك إذا لم يكن مستفهما

ولو لم يكن الأمر دالا على الوجوب لما ذمه الله تعالى على الترك ولكان لإبليس أن يقول إنك ما ألزمتني السجود فإن قلت لعل الأمر في تلك اللغة كان يفيد الوجوب فلم قلتم إنه في هذه اللغة للوجوب قلنا الظاهر يقتضي ترتيب الذم على مخالفة الأمر فتخصيصه بأمر خاص خلاف الظاهر الدليل الثاني التمسك بقوله تعالى وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ذمهم على انهم تركوا عل ما قيل لهم افعلوه ولو كان الأمر يفيد الندب لما حسن هذا الكلام كما إذا قيل لهم الأولى أن تفعلوه ويجوز لكم تركه فإنه ليس لنا أن نذمهم على تركه

فإن قلت إنما ذمهم لا لأنهم تركوا المأمور به بل لأنهم لم يعتقدوا حقيقة الأمر والدليل عليه قوله تعالى ويل يومئذ للمكذبين وأيضا فصيغة إفعل قد تفيد الوجوب عند اقتران بعض القرائن بها فلعله تعالى إنما ذمهم لأنه كان قد وجدت قرينة دالة على الوجوب والجواب عن الأول أن المكذبين في قوله ويل يومئذ للمكذبين إما أن يكونوا هم الذين تركوا الركوع لما قيل لهم اركعوا أو غيرهم فإن كان الأول جاز أن يستحقوا الذم بترك الركوع والويل بسبب التكذيب فإن عندنا الكافر كما يستحق العقاب بترك الإيمان يستحق الذم والعقاب أيضا بترك العبادات وإن كان الثاني لم يكن إثبات الويل لإنسان بسبب التكذيب منافيا ثبوت الذم لإنسان آخر بسبب ترك المأمور به وعن الثاني أنه تعالى إنما ذمهم لمجرد أنهم تركوا الركوع لما قيل لهم اركعوا فدل على أن منشأ الذم هذا القدر لا القرينة الدليل الثالث لو لم يكن الأمر ملزما للفعل لما كان إلزام الأمر

سببا للزوم المأمور به لكنه سبب للزوم المأمور به فوجب أن يكون الأمر ملزما للفعل بيان الشرطية أن بتقدير أن لا يكون الأمر ملزما للفعل كان إلزام الأمر إلزاما لشئ وذلك الشئ لا يوجب فعل المأمور به فوجب أن لا يكون هذا القدر سببا للزوم المأمور به وبيان أن إلزام الأمر سبب للزوم المأمور به قوله تعالى وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم والقضاء هو الإلزام فقوله تعالى إذا قضى الله ورسوله أمرا معناه إذا ألزم الله ورسوله أمرا فإنه لا خيرة للمؤمنين في المأمور به ويجب ها هنا حمل لفظ الأمر على المأمور به إذ لو أجريناه على ظاهره لصار المعنى أنه لا خيرة للمؤمنين في صفة الله تعالى وذلك كلام غير مفيد وإذا تعذر حمله على نفس الآمر وجب حمله على المأمور به فيصير التقدير أن الله تعالى إذا ألزم المكلف أمرا فإنه لا خيرة له في المأمور به وإذا انتفت الخيرة بقي إما الحظر وإما الوجوب والحظر منتف بالإجماع فتعين الوجوب

فإن قيل القضاء هو الإلزام والأمر قد يرد بمعنى شئ فقوله إذا قضى الله ورسوله أمرا أي إذا ألزم الله ورسوله شيئا ونحن نعترف بأن الله تعالى إذا ألزمنا شيئا فإنه يكون واجبا علينا ولكن لم قلت إنه بمجرد أن يأمرنا بالشئ فقد ألزمنا فإن ذلك عين المتنازع في والجواب قد بينا أن لفظ الأمر حقيقة في القول المخصوص وليس حقيقة في الشئ دفعا للاشتراك ولا ضرورة ها هنا في صرفه عن ظاهره إذا ثبت هذا فقوله إذا قضى الله ورسوله أمرا معناه إذا ألزم الله أمرا وإلزام الأمر هو توجيهه على المكلف شاء أم أبى وإلزام الأمر غير إلزام المأمور به فإن القاضي إذا قضى بإباحة شئ فقد ثبت إلزام الحكم ولو لم يثبت المحكوم به فكذا هاهنا إلزام الأمر عبارة عن توجيهه على المكلف والقطع بوقوع ذلك الأمر ثم الأمر إن لم يقتض الوجوب لم يكن إلزام الأمر إلزاما للمأمور به وإن كان مقتضبا للوجوب فهو الذي قلناه

الدليل الرابع تارك ما أمر الله أو رسوله به مخالف لذلك الأمر ومخالف ذلك الأمر مستحق للعقاب فتارك ما أمر الله أو رسوله به مستحق للعقاب ولا معنى لقولنا الأمر للوجوب إلا ذلك وإنما قلنا إن تارك ما أمر الله أو رسوله به مخالف لذلك الأمر لأن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه والمخالفة ضد الموافقة فكانت مخالفة ألأمر عبارة عن الإخلال بمقتضاه فثبت أن تارك ما أمر الله أو رسوله به مخالف لذلك الأمر وإنما قلنا إن مخالف ذلك الأمر يستحق العقاب لقوله تعالى فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم أمر مخالف هذا الأمر بالحذر عن العذاب والأمر بالحذر عن العذاب إنما يكون بعد قيام المقتضي لنزول العذاب فدل على أن مخالف أمر الله أو أمر رسوله قد وجد في حقه ما يقتضي نزول العذاب به فإن قيل لا نسلم أن تارك المأمور به مخالف للأمر قوله موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه

قلنا لا نسلم أن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه وما الدليل عليه ثم إنا نفسر موافقة الأمر بتفسيرين آخرين أحدهما أن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بما يقتضيه الأمر على الوجه الذي يقتضيه الأمر فإن الأمر لو اقتضاه على سبيل الندب وأنت تأتي به على سبيل الوجوب كان هذا مخالفة للأمر وثانيهما أن موافقة الأمر عبارة عن الاعتراف بكون ذلك الأمر حقا واجب القبول ومخالفته عبارة عن إنكار كونه حقا وجاب القبول سلمنا أن ما ذكرتم يدل على أن مخالفة الأمر عبارة عن ترك مقتضاه لكن ها هنا ما يدل على أنه ليس كذلك فإنه لو كان ترك المأمور به عبارة عن مخالفة الأمر لكان ترك المندوب مخالفة لأمر الله تعالى وذلك باطل لأن وصل الإنسان بأنه مخالف لأمر لله تعالى اسم ذم فلا يجوز إطلاقه على تارك المندوب سلمنا أن تارك المندوب مخالف للأمر فلم قلت إن مخالف الأمر مستحق للعقاب أما قوله تعالى فليحذر الذين يخالفون عن أمره الآية

قلنا لا نسلم أن هذه الآية دالة على أمر من يكون مخالفا للأمر بالحذر بل هي دالة على الأمر بالحذر عن مخالف الأمر فلم لا يجوز أن تكون كذلك سلمنا ذلك ولكنها دالة على أن المخالف عن الأمر يلزمه الحذر فلم قلت إن مخالف الأمر يلزمه الحذر فإن قلت لفظة عن صلة زائدة قلت الأصل في الكلام الاعتبار لا سيما في كلام الله تعالى فلا يكون زائدا سلمنا دلالة الآية على أن مخالف الأمر مأمور بالحذر عن العذاب فلم قلت يجب عليه الحذر عن العذاب أقصى ما في الباب أنه ورد الأمر به لكن لم قلت أن الأمر للوجوب فإن ذلك أول المسألة فإن قلت هب أنه لا يدل على وجوب الحذر لكن لا بد وأن يدل على حسن الحذر وحسن الحذر إنما يكون بعد قيام المقتضي لنزول العذاب قلت لا نسلم أن حسن الحذر مشروط بقيام ما يقتضي نزول

العذاب بل الحذر يحسن عند احتمال نزول العذاب وعندنا مجرد الاحتمال قائم لأن هذه المسألة اجتهادية لا قطعية سلمنا دلالة الآية على قيام ما يقتضي نزول العذاب لكن لا في كل أمر بل في أمر واحد لأن قوله عن أمره لا يفيد إلا أمرا واحدا وعندنا أن أمرا واحدا يفيد الوجوب عمرو فلم قلت إن كل أمر كذلك سلمنا أن كل أمر كذلك لكن الضمير في قوله عن أمره يحتمل عوده إلى الله تعالى وعوده إلى رسوله فالآية لا تدل على أن الأمر للوجوب إلا في حق أحدهما فلم قلت إنه في حق الاخر كذلك والجواب قوله لم قلت إن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه قلنا الدليل عليه أن العبد إذا امتثل أمر السيد حسن أن يقال هذا العبد موافق للسيد ويجري على وفق أمره ولو لم يمتثل أمره يقال إنه ما وافقه بل خالفه وحسن هذا الإطلاق من أهل اللغة معلوم بالضرورة فثبت أن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه قوله الموافقة عبارة عن الإتيان بما يقتضيه الأمر على الوجه الذي يقتضيه الأمر قلنا لما سلمتم أن موافقة الأمر لا تحصل إلا عند الإتيان بمقتضى الأمر فنقول لا شك أن مقتضى الأمر هو الفعل لأن قوله إفعل لا يدل

إلا على اقتضاء الفعل فإذا لم يوجد الفعل لم يوجد مقتضى الأمر وإذا لم يوجد مقتضى الأمر لم توجد الموافقة وإذا لم توجد موافقة الأمر حصلت مخالفته لأنه ليس بين الموافقة والمخالفة واسطة قوله الموافقة عبارة عن اعتقاد كون ذلك الأمر حقا واجب القبول قلنا هذا لا يكون موافقة للأمر بل موافقة للدليل الدال على أن ذلك الأمر حق فإن موافقة الشئ عبارة عما يستلزم تقرير مقتضاه فإذا دل الدليل على حقية الأمر كان الاعتراف بحقيته مستلزما تقرير مقتضى ذلك الدليل أما الأمر فلما اقتضى دخول ذلك الفعل في الوجود كانت موافقته عبارة عما تقرر دخوله في الوجود وإدخاله في الوجود يقرر دخوله في الوجود فكانت موافقة الأمر عبارة عن فعل مقتضاه قوله لو كانت مخالفة الأمر عبارة عن ترك المأمور به لكنا إذا تركنا المندوب فقد خالفنا الأمر قلنا هذا الإلزام إنما يصح لو كان المندوب مأمورا به وإنما يكون المندوب مأمورا به لو ثبت أن الأمر ليس للوجوب وهذا عين المتنازع فيه

قوله لم لا يجوز أن يكون قوله تعالى فليحذر الذين يخالفون عن أمره أمرا بالحذر عن المخالف لا أمرا للمخالف بالحذر قلنا الدليل عليه وجوه أحدها أن النحويين اتفقوا على أن تعلق الفعل بفاعله أقوى من تعلقه بمفعوله فلو جعلناه أمرا للمخالف بالحذر لكنا قد أسندنا الفعل إلى الفاعل ولو جعلناه أمرا بالحذر عن المخالف لكنا قد أسندنا الفعل إلى المفعول فيكون الأول أولى وثانيها لو جعلناه أمرا بالحذر عن المخالف لم يتعين المأمور به فإن قلت المأمور به هو ما تقدم وهو قوله الذين يتسللون منكم لواذا قلت المتسللون منهم لواذا هم الذين خالفوا فلو أمروا بالحذر عن المخالف لكانوا قد أمروا بالحذر عن أنفسهم وهو لا يحوز وثالثها إنا لو جعلناه أمرا بالحذر عن المخالف لصار التقدير فليحذر المتسللون لواذا عن الذين يخالفون أمره وحينئذ يبقى قوله أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ضائعا لأن الحذر ليس فعلا يتعدى إلى مفعولين

قوله الآية دالة على وجوب الحذر عمن خالف عن الأمر لا عمن خالف الأمر قلنا قال النحاة كلمة عن للبعد والمجاوزة يقال جلس عن يمينه أي متراخيا عن بدنه في المكان الذي بحيال يمينه فلما كانت مخالفة أمر الله تعالى بعدا عن أمر الله تعالى لا جرم ذكره بلفظ عن قوله لم قلت إن قوله تعالى فليحذر يدل على وجوب الحذر عن العذاب قلنا لا ندعي وجوب الحذر عن العقاب ولكنه لا أقل من أن يدل على جواز الحذر وجواز الحذر عن الشئ مشروط بوجود ما يقتضي وقوعه لأنه لو لم يوجد المقتضي لوقوعه لكان الحذر عنه حذرا عما لم يوجد ولم يوجد المقتضى لوقوعه وذلك سفه وعبث فلا يجوز ورود الأمر به

قوله دلت الآية على أن مخالف أمر الله يستحق العقاب أو على أن مخالف كل أمر يستحق العقاب قلنا دلت على الثاني لوجوه الأول أنه يجوز استثنار قبل كل واحد من أنواع المخالفات نحو أن يقول فليحذر الذين يخالفون عن أمره إلا مخالفة الأمر الفلاني والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل فيه وذلك يفيد العموم الثاني أنه تعالى رتب استحقاق العقاب على مخالفة الأمر وترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية الثالث أنه لما ثبت أن مخالف الأمر في بعض الصور يستحق العقاب فنقول إنما استحق العقاب لأن مخالفة الأمر تقتضي عدم المبالاة بالأمر وذلك يناسبه الزجر وهذا المعنى قائم في كل المخالفات فوجب ترتب العقاب على الكل قوله هب أن أمر الله أو أمر الله، أو رسوله للوجوب - فلم قلتم: إن أمر الآخر كذلك قلنا: لأنه لا قائل بالفرق.

الدليل الخامس تارك المأمور به عاص وكل عاص يستحق العقاب فتارك المأمور به يستحق العقاب ولا معنى للوجوب إلا ذلك بيان الأول قوله تعالى ولا أعصي لك أمرا أفعصيت أمري لا يعصون الله ما أمرهم بيان الثاني قوله تعالى ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا الدا فيها فإن قيل لا نسلم أن تارك المأمور به عاص وبيانه من وجوه ألأول قوله تعالى لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون فلو كان العصيان عبارة عن ترك المأمور به لكان معنى قوله لا يعصون الله ما أمرهم أنهم يفعلون ما يؤمرون به فكان قوله ويفعلون ما يؤمرون تكرارا الثاني أجمع المسلمون على أن الأمر قد يكون أمر إيجاب وقد يكون أمر استحباب وتارك المندوب غير عاص وإلا لاستحق النار لما ذكرتموه فعلمنا أن المعصية ليست عبارة عن ترك المأمور به

سلمنا أن المعصية عبارة عن ترك ترك المأمور به لكن إذا كان الأمر أمر إيجاب أو مطلقا الأول مسلم والثاني ممنوع بيانه أن قوله تعالى لا يعصون الله ما أمرهم حكاية حال فيكفي في تحقيقها تنزيلها على صورة واحدة فلعل ذلك الأمر كان أمر إيجاب فلا جرم كان تركه معصية سلمنا أن تارك المأمور به عاص مطلقا فلم قلت إن العاصي يستحق العقاب والآية المذكورة مختصة بالكفار لقرينة الخلود والجواب قد بينا أن تارك المأمور به عاص قوله لو كان كذلك لكان قوله ويفعلون ما يؤمرون تكرارا قلنا لا نسلم بل معنى الآية والله أعلم لا يعصون الله ما أمرهم به في الماضي ويفعلون ما يؤمرون به في المستقبل قوله الأمر قد يكون أمر استحباب قلنا لا نسلم كون المستحب مأمورا به حقيقة بل مجازا لأن

الاستحباب لازم للوجوب وإطلاق اسم السبب على المسبب جائز فإن قلت ليس الحكم بكون هذه الصيغة للوجوب محافظة على عموم قوله ومن يعص الله ورسوله أولى من القول بأن المستحب مامور به محافظة على صيغ الأوامر الواردة في المندوبات قلت بل ما ذكرناه أولى للاحتياط ولأنا لو حملناه على الوجوب لكان أصل الترجيح داخلا فيه فيكون لازما للمسمى فيجوز جعله مجازا في أصل الترجيح أما لو جعلناه لأصل الترجيح لم يكن الوجوب لازما له فلا يمكن جعله مجازا عن الوجوب فكان الأول أولى قوله هذه الآية حكاية حال قلنا الله تعالى رتب اسم المعصية على مخالفة الأمر فيكون المتقضي لاستحقاق هذا الاسم هذا المعنى فيعم الاسم لعموم ما يقتضي استحقاقه قوله الآية مختصة بالكفار بقرينة الخلود قلنا الخلود هو المكث الطويل لا الدائم والله أعلم واعلم أن هذا الدليل قد يقرر على وجه آخر فيقال إنما قلنا إن تارك المأمور به عاص لأن بناء لفظة العصيان على

الامتناع ولذلك سميت العصا عصا لأنه يمتنع بها وتسمى الجماعة عصا يقال شققت عصا المسلمين أي جماعتهم لأنها يمتنع بكثرتها وهذا كلام مستعص على الحفظ أي ممتنع وهذا الحطب مستعص على الكسر وقال عليه الصلاة والسلام لولا أنا نعصي الله لما عصانا أي لم يمتنع عن إجابتنا فثبت أن العصيان عبارة عن الامتناع عما يقتضيه الشئ وإذا

كان لفظ إفعل مقتضيا للفعل كان عدم الإتيان به والامتناع منه عصيانا لا محالة وإنما قلنا إن تسمية تارك المأمور به بالعاصي تدل على أن الأمر للوجوب لوجهين أحدهما أن الإنسان إنما يكون عاصيا للأمر وللآمر إذا أقدم على ما يحظره الآمر ويمنع منه ألا ترى أن الله تعالى لو أوجب علينا فعلا فلم نفعله لكنا عصاة ولو ندبنا إليه فقال ألأولى أن تفعلوه ولكم أن لا تفعلوه فلم نفعله لم نكن عصاة ولهذا يوصف تارك الواجب بأنه عاص لله تعالى ولا يوصف تارك النوافل بذلك الثاني أن العاصي للقول مقدم على مخالفته وترك موافقته فليس تخلو مخالفته إما أن تكون بالإقدام على ما يمنع منه الأمر فقط أو قد تثبت بالإقدام على ما لا يتعرض له الأمر بمنع ولا إيحاب

وهذا الثاني باطل لأنا لو كنا عصاة للأمر بفعل ما نمنع منه لوجب إذا أمرنا الله بالصلاة غدا فتصدقنا اليوم أن نكون عصاة لذلك الأمر بتصدقنا يحيى اليوم فبان أن مخالفة الأمر إنما تثبت بالإقدام على ما يمنع منه فإذا كان تارك ما أمر به عاصيا للأمر والعاصي للأمر هو المقدم على مخالفة مقتضاه فالمقدم على مخالفة مقتضاه مقدم على ما يحظره الآمر ويمنع منه ثبت أن ترك المأمور به يحظره الآمر ويمنع منه وهذا هو معنى الوجوب الدليل السادس أنه عليه الصلاة والسلام دعا أبا سعيد الخدري فلم يجبه لأنه كان في الصلاة فقال ما منعك أن تستجيب وقد سمعت قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول فذمه على ترك

الاستجابة عند مجرد ورود الأمر فلولا أن مجرد الأمر للوجوب وإلا لما جاز ذلك فإن قيل هذا خبر واحد فلا يجوز التمسك به في مسألة علمية وأيضا فالنبي ص ما ذمه ولكنه راد أن يبين له أن دعاءه ص مخالف لدعاء غيره والجواب عن الأول أنا بينا أن المباحث اللفظية لا يرجى فيها

اليقين وهذه المسألة وإن لم تكن في نفسها عملية لكنها وسيلة إلى العمل فيجوز التمسك فيها بالظن لأنه لا فرق في العقل بين أن يحصل ظن الحكم وبين أن يحصل العلم بوجود ما يقتضي ظن الحكم في جواز التمسك بهما في العمليات وعن الثاني أن بتقدير أن لا يدل الأمر على الوجوب يكون المانع من الأجابة قائما وهو الصلاة فإنها تحرم الكلام وإذا كان المانع الظاهر قائما لم يجز من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يسأل عن المانع بلى إذا كان قوله تعالى استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم يفيد الوجوب فحينئذ يصح السؤال وأيضا فظاهر الكلام يقتضي اللوم وهو في معنى الأخبار عن نفي العذر وذلك لا يكون إلا والأمر للوجوب الدليل السابع هو قوله عليه الصلاة والسلام لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة

وكلمة لولا تفيد انتفاء الشئ لوجود غيره فها هنا تفيد انتفاء الأمر لوجود المشقة فهذا الخبر يدل على أنه لم يوجد الأمر بالسواك عند كل صلاة والإجماع قائم على أن ذلك مندوب فلو كان المندوب مأمورا به لكان الأمر قائما عند كل صلاة فلما لم يوجد الأمر علمنا أن المندوب غير مأمور به فإن قلت لم لا يجوز أن يقال هذا الوجه أمارة تدل على أنه أراد لأمرتهم به على وجه يقتضي الوجوب وليس يمتنع أن يقتضي الأمر الوجوب بدلالة أخرى قلت كلمة لولا دخلت على الأمر فوجب أن لا يكون الأمر حاصلا والندب حاصل فوجب أن لا يكون الندب أمرا وإلا لزم التناقض الدليل الثامن خبر بريرة فإنها قالت لرسول الله ص أتأمرني بذلك

فقال لا إنما أنا شفيع نفى الأمر مع ثبوت الشفاعة الدالة على الندب ونفي الأمر عند ثبوت الندبية يدل على أن المندوب غير مأمور به وإذا كان كذلك وجب أن لا يتناول الأمر الندب الدليل التاسع إن الصحابة تمسكوا بالأمر على الوجوب ولم يظهر من أحد منهم الإنكار عليه وذلك يدل على أنهم أجمعوا على أن ظاهر الأمر للوجوب وإنما قلنا إنهم تمسكوا بالأمر على الوجوب لأنهم أوجبوا أخذ

الجزية من المجوس لما روى عبد الرحمن أنه عليه الصلاة والسلام قال سنوا بهم سنة أهل الكتاب وأوجبوا غسل الإناء من ولوغ الكلب بقوله عليه الصلاة والسلام فليغسله سبعا وأوجبوا إعادة الصلاة عند ذكرها بقوله عليه الصلاة والسلام فليصلها إذا ذكرها

وأما أنه لم يظهر من أحد منهم إنكار عليه وأنه متى كان كذلك فقد حصل الإجماع فتمام تقريرهما مذكور في كتاب القياس فإن قيل كما اعتقدوا الوجوب عند هذه الأوامر فإنهم لم يعتقدوا عند غيرها نحو قوله تعالى وأشهدوا إذا تبايعتم وقوله فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وقوله فانكحوا ما طاب لكم من النساء وقوله وإذا حللتم فاصطادوا وإذا ثبت هذا فليس القول بأنهم لم يعتقدوا الوجوب في هذه الأوامر لدليل منفصل بأولى من القول بأنهم إنما اعتقدوا الوجوب في تلك الأوامر لدليل متصل والجواب أن نقول لو لم يكن الأمر للوجوب لامتنع أن يفيد الوجوب

في صورة أصلا ولو لم يفد الوجوب في شئ من الصور أصلا لكان دليلهم على وجوب أخذ الجزية شيئا غير خبر عبد الرحمن ولو كان كذلك لوجب اشتهار ذلك الدليل وحيث لم يشتهر علمنا أنه لو يوجد ولما لم يوجد كان دليلهم على وجوب أخذ الجزية ظاهر الأمر أما لو قلنا بأن الأمر للوجوب لم يلزم من عدم الوجوب في بعض الأوامر أن لا يفيد الوجوب أصلا لاحتمال أن يقال الحكم تخلف ها هنا لمانع فثبت أن الاحتمال الذي ذكرناه أولى الدليل العاشر لفظ إفعل إما أن يكون حقيقة في الوجوب فقط أو في الندب فقط أو فيهما معا أولا في واحد منهما والأقسام الثلاثة الأخيرة الرحمن باطلة فتعين الأول وهو أن يكون للوجوب فقط وإنما قلنا إنه لا يجوز أن يكون للندب فقط لأنه لو كان للندب فقد لما كان الواجب مأمورا به فيمتنع أن يكون الأمر للندب فقط بيان الملازمة أن المندوب هو الراجح فعله مع جواز الترك والواجب هو الراجح فعله مع المنع من الترك فالجمع بينهما محال فلو كان الأمر للندب فقط لم يكن الواجب مأمورا به فإن قلت لو كان للوجوب فقط لما كان المندوب مأمورا به

قلت ألتزم هذا لأن كثيرا من الأصوليين صرحوا بأن المندوب غير مأمور به ولا يمكنك أن تلتزم بأن الواجب غير مأمور به لأن أحدا من الأمة لم يقل به فثبت أن الأمر لا يجوز أن يكون حقيقة في الندب فقط وإنما قلنا إنه لا يجوز أن يكون حقيقة في الوجوب والندب معا لأنه لو كان حقيقة فيهما لكان إما أن يكون كونه حقيقة فيهما بحسب معنى مشترك بينهما كما يقال إنه حقيقة في ترجيح جانب الفعل على الترك فقط من غير إشعار بجواز الترك أو بالمنع منه أو يكون حقيقة فيهما لا بحسب معنى مشترك وألأول باطل لأنا لو جعلناه حقيقة في اصل الترجيح لم يمكن جعله مجازا في الوجوب لأن الوجوب غير ملازم لأصل الترجيح أعني القدر المشترك بين الواجب والمندوب ولو جعلناه حقيقة في الوجوب كان الترجيح جزءا من مسماه ولازما له فيمكن جعله مجازا عن أصل الترجيح وإذا كان كذلك كان جعله حقيقة في الوجوب ليكون مجازا في أصل الترجيح أولى من جعله حقيقة في اصل الترجيح مع أنه لا يكون حقيقة في الوجوب ولا مجازا فيه والثاني وهو أن يجعل حقيقة في الوجوب والندب لا بحسب معنى

مشترك بينهما فهذا يقتضي كون اللفظ مشتركا وقد عرفت أن ذلك خلاف الأصل وإنما قلنا إنه لا يجوز أن يقال إنه لا يتناول الواجب ولا المندوب أصلا لأن ذلك على خلاف الإجماع ولما ثبت فساد هذه الأقسام الثلاثة تعين القول بالوجوب والله أعلم الدليل الحادي عشر أن العبد إذا لم يفعل ما أمره به سيده اقتصر العقلاء من أهل اللغة في تعليل حسن ذمه على أن يقولوا أمره سيده بكذا فلم يفعله فدل كون ذلك علة في حسن ذمه على أن تركه لما أمره به ترك للواجب فإن قيل لا نسلم أنهم إنما ذموه لمجرد الترك بل لأجل أمور أخر أحدها أنهم علموا من سيده أنه كره ترك ذلك الفعل وثانيها أن الشريعة جاءت بوجوب طاعة العبد لسيده وثالثها أن السيد لا يأمر إلا بما فيه نفعه ودفع مضرته والعبد أيضا يلزمه إيصال المنافع إلى السيد ودفع المضار عنه سلمنا أنهم ذموه لمجرد الترك لكن لا نسلم أن فعلهم صواب ويدل عليه أمران أحدهما أنه لو كان المأمور به معصية لما استحق العبد الذم

بتركه فدل على أن مجرد الترك ليس بعلة للذم وثانيهما أن كثيرا من الأوامر ورد في كتاب الله تعالى وسنة رسوله ص بمعنى الندب فلو كان ترك المأمور به علة للذم لكان المندوب واجبا وهو محال فثبت بهذين الوجهين أن مجرد ترك المأمور به لا يمكن جعله علة للذم وإذا ثبت ذلك علمنا فساد ما ذكرتموه من أن العقلاء يعللون حسن ذمه بمجرد ترك المأمور به والجواب أن السيد إذا عاتب عبده عند عدم الامتثال فالعقلاء يقولون إنما عاتبه لأنه لم يمتثل الأمر ولولا أن علة حسن العتاب نفس مخالفة الأمر وإلا لما صح هذا الكلام وبهذا يظهر أن كراهية الترك لا مدخل لها في هذا الباب أما قوله الشريعة جاءت بوجوب طاعة العبد لسيده قلنا الشريعة إنما أوجبت على العبد طاعة السيد فيما أوجبه السيد على العبد ألا ترى أن سيده لو قال له الأولى أن تفعل كذا ولك أن لا تفعله لما ألزمته الشريعة فعله والأمر عند المخالف يجري مجرى هذا القول فينبغي أن لا يجب به على العبد شئ

وأما قوله السيد لا يأمر عبده إلا بما فيه جر نفع أو دفع مضرة وذلك واجب قلنا مجرد هذا القدر لا يفيد الوجوب إلا إذا أوجبه السيد ولم يرخص في تركه ألا ترى أنه لو قال له الأولى أن تفعل كذا ويجوز أن لا تفعله جاز له أن لا يفعل وكذلك لو علم أن غيره يقوم مقامه في دفع المضرة قوله يشترط في جواز هذا التعليل أن لا يكون المأمور به معصية قلنا هب أن هذا الشرط معتبر ولكن يجب فيما وراءه إجراء اللفظ على ظاهره قوله لو كان ترك المأمور به علة للذم لما جاز ترك المندوب قلنا هذا إنما يصح لو كان المندوب مأمورا به وهذا أول المسألة والله أعلم الدليل الثاني عشر لفظ إفعل دال على اقتضاء الفعل ووجوده فوجب أن يكون مانعا من نقيضه قياسا على الخبر فإنه لما دل على المعنى كان مانعا من نقيضه والجامع بين الصورتين أن اللفظ لما وضع لإفادة معنى فلا بد

أن يكون مانعا من النقيض تكميلا لذلك المقصود وتقوية لحصوله فإن قيل لا نزاع في أن ما دل على شئ فإنه يمنع من نقيضه لكن لم لا يجوز أن يقال مدلول قوله إفعل هو أن الأولى إدخاله في الوجود فلا جرم يمنع من عدم هذه الأولوية والجواب أن الفعل مشتق من المصدر فإشعاره وكان لا يكون إلا بالمصدر والمصدر في قولنا ضرب يضرب إضرب هو الضرب لا أولوية الضرب فإشعار روى لفظ الخبر والأمر بالضرب لا بأولوية الضرب وإذا كان إشعار الأمر والخبر ليس بأولوية الضرب بل بنفس الضرب وثبت أن المشعر بالشئ مانع من نقيضه وجب أن يكون لفظ إضرب مانعا من عدم الضرب لا من عدم أولوية الضرب ولأجل هذا كان الخبر مانعا من النقيض والله أعلم الدليل الثالث عشر الأمر يفيد رجحان الوجود على العدم وإذا كان كذلك وجب أن يكون مانعا من الترك وإنما قلنا إنه يفيد الرجحان لأن المأمور به إن لم تكن مصلحته راجحة إما أن يكون خاليا عن المصلحة أو تكون مصلحته مرجوحة أو تكون مساوية للمفسدة

فإن كان خاليا عن المصلحة كان محض المفسدة فلا يجوز ورود الأمر به وإن كانت مصلحته مرجوحة فذلك القدر من المصلحة يصير معارضا بمثله من المفسدة فيقى القدر الزائد من المفسدة خاليا عن المعارض فيكون ورود الأمر به أمرا بالمفسدة الخالصة فيعود إلى القسم الأول وإن كانت مصلحته معادلة لمفسدته ولم كان ذلك عبثا وهو غير لائق بالحكيم وإذا بطلت هذه الأقسام لم يبق إلا أن تكون مصلحة خالية عن المفسدة وإن كان فيه شئ من المفاسد ولكن تكون مصلحته زائدة وعلى التقديرين يثبت رجحان المصلحة وإذا ثبت هذا فنقول وجب أن لا يرد الإذن بالترك لأن الإذن في تفويت المصلحة الراجحة إذن في تفويت المصلحة الخالصة لأنه إن وجدت مفسدة مرجوحة فتصير هي معارضة بما يعادلها من المصلحة فيبقى القدر الزائد من المصلحة مصلحة خالصة

وإن لم توجد مفسدة أصلا كانت المصلحة خالصة فيكون الإذن في تفويته إذنا في تفويت المصلحة الخالصة عن شوائب المفسدة وذلك غير جائز عرفا فوجب أن لا يجوز شرعا لقوله عليه الصلاة والسلام ما رأه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح فمقتضى هذه الدلالة أن لا يوجد شئ من المندوبات ألبتة ترك العمل به في حق البعض تخفيفا من الله تعالى على العباد فوجب أن يبقى الباقي على حكم الأصل فإن قيل ما ذكرتموه معارض بوجه آخر وهو أنه كما أن الإذن في تفويت المصلحة الخالصة قبيح عرفا فكذا إلزام المكلف استيفاء المصلحة

بحيث لو لم يستوفها لاستحق العقاب قبيح أيضا لأنه يصير حاصل الأمر أن يقول الشرع استوف هذه المنافع لنفسك وإلا عاقبتك وهذا قبيح والجواب ما ذكرتموه قائم في كل التكاليف فلو كان ذلك معتبرا لما ثبت شئ من التكاليف الدليل الرابع عشر لا شك أن الأمر يدل على رجحان طرف الوجود على طرف العدم فنقول هذا الرجحان لا ينفك عن قيدين أحدهما المنع من الترك والآخر الإذن في الترك ولا شك أن إفضاء المنع من الترك إلى الوجود أكثر من إفضائه إلى العدم ولا شك أن إفضاء الإذن في الترك إلى العدم أكثر من إفضائه إلى الوجود ولا شك أن الذي يكون أكثر إفضاء إلى الشئ الراجح راجح في الظن على ما يكون أكثر إفضاء إلى المرجوح فإذن شرعية المنع من الترك راجح في الظن على شرعية الإذن في الترك والراجح في الظن واجب العمل به النص والمعقول أما النص فقوله عليه الصلاة والسلام أنا أقضي بالظاهر

وأما المعقول فمن وجهين الأول أن أحد النقيضين إذا كان راجحا على الآخر في الظن فلم يعمل بالراجح لوجب العمل بالمرجوح فيكون ذلك ترجيحا للمرجوح على الراجح وإنه غير جائز بالضرورة الثاني أنه وجب العمل بالفتوى والشهادة وقيم المتلفات وأروش الجنايات وتعيين القبلة عند حصول الظن وإنما وجب العمل به ترجيحا للراجح على المرجوح وذلك المعنى حاصل ها هنا قوجب بين العمل به الدليل الخامس عشر الوجوب ينبغي أن تكون له صيغة مفردة في اللغة وتلك الصيغة هي إفعل فوجب أن تكون إفعل للوجوب إنما قلنا إن الوجوب له صيغة مفردة في اللغة لأن الوجوب معنى

تشتد الحاجة إلى التعبير عنه والناس قادرون على الوضع والمانع زائل ظاهرا والقادر إذا دعاه الداعي إلى الفعل حال عدم المانع وجب حصول الفعل منه فثبت أن الوجوب له صيغة مفردة في اللغة وإنما قلنا إن تلك الصغية هي صيغة إفعل لأن تلك الصيغة إما أن تكون صيغة إفعل أو غيرها والثاني باطل بالإجماع أما عند الخصم فلأنه ينكر ذلك على الإطلاق وأما عندنا فلأنا لا نقول به في غير صيغة إفعل وإذا بطل هذا القسم ثبت القسم الأول وإلا لكانت اللغة خالية عن لفظة مفردة دالة على الوجوب مع ان الدليل قد دل على وجودها فإن قيل لا نسلم أن الوجوب له صيغة في اللغة قوله الداعي قائم قلنا لا نسلم أن الداعي قائم قوله الوجوب معنى تشتد الحاجة إلى التعبير عنه قلنا لا نسلم

سلمناه لكن لم قلت إنه لا بد من تعريفه باللفظ ولم لا تكفي فيه قرينة الحال سلمنا شدة الحاجة إلى لفظ يدل عليه، لكنه قد وجد - وهو: قوله: أوجبت وألزمت وحتمت فإن ادعيت أنه لا بد من اللفظ المفرد طالبناك أهل بالدلالة عليه سلمنا قيام الدلالة وحصول الداعي فلم قلت إنه لا مانع ثم نقول المانع هو أن اللغات توقيفية لا حديث اصطلاحية وإذا كان كذلك كانوا ممنوعين من وضع الألفاظ للمعاني سلمنا قيام الداعي وزوال المانع فلم قلت بأنه يجب الفعل ثم نقول ما ذكرتموه من الدليل منقوض ومعارض أما النقض فلأن الحاجة إلى وضع لفظ يدل على الحال ولفظ آخر يدل على الاستقبال على التعيين شديدة مع أنه لم يوجد ذلك في اللغة وأيضا فأصناف الروائح مختلفة والحاجة إلى تعريفها شديدة مع أنه

لم توضع لها ألفاظ مفردة وكذا أصناف الاعتمادات متميزة مع أنه لم توضع لها ألفاظ مفردة وأما المعارضة فمن وجهين أحدهما أن الوجوب كما أنه معنى تشتد الحاجة إلى التعبير عنه فكذا أصل الترجيح أعني القدر المشترك بين الوجوب والندب والندب معنى تشتد الحاجة إلى التعبير عنه فوجب أن يضعوا له لفظا ولا لفظ له سوى إفعل فوجب كونه موضوعا له ومن قال إنه للندب وحده قال الندبية معنى تشتد الحاجة إلى تعريفها فلا بد من لفظ ولا لفظ سوى هذا فوجب كونه للندب ومن قال بالاشتراك قال قد يحتاج إلى التعبير عن أحد هذين الأمرين على سبيل الإبهام فلا بد من لفظ ولا لفظ له إلا هذا فوجب كونه موضوعا لهما بالاشتراك وثانيهما أن الوجوب معنى تشتد الحاجة إلى التعبير عنه فلو كانت صيغة إفعل موضوعة له وجب أن يعرف ذلك كل أحد ولو عرفه كل أحد

لزال الخلاف فلما لم يزل علمنا أنه غير موضوع له سلمنا أنه لا بد من لفظ وأن ذلك اللفظ هو إفعل فلم لا يجوز أن يكون موضوعا للندب أيضا بالاشتراك ثم نقول الدليل الذي ذكرتموه يقتضي إثبات اللغة بالقياس وهو غير جائز والجواب قوله لا نسلم شدة الحاجة إلى التعبير عن معنى الوجوب قلنا الدليل عليه أن الإنسان الواحد لا يستقل بإصلاح كل ما يحتاج إليه بل لا بد من الجمع العظيم حتى يعين كل واحد منهم صاحبه في مهمة لتنتظم مصلحة الكل وإذا احتاج الإنسان إلى فعل يفعله الغير لا محالة وأن ذلك الغير لا يعلم منه ذلك إلا إذا عرفه فحينئذ يحتاج إلى أن يعرفه أنه لا بد وأن ياتي بذلك الفعل وأنه لا يجوز له الإخلال به فثبت أن هذا المعنى مما تشتد الحاجة إلى تعريفه قوله هب أنه لا بد من تعريفه فلم قلت إن ذلك التعريف لا يحصل إلا باللفظ

قلنا لأنهم إنما اتخذوا العبارات معرفات لما في الضمائر دون غيرها لأجل أن الإتيان بالعبارات أسهل من الإتيان بغيرها وهذا المعنى قائم في مسألتنا فوجب القول به قوله لم لا يكفي فيه قوله أوجبت وألزمت قلنا لأن اللفظ المفرد أخف على اللسان من المركب فيغلب على الظن أن الواضع وضع لفظا مفردا لهذا المعنى قياسا على سائر الألفاظ المفردة قوله لم قلت إنه لا مانع قلنا لأن الموانع بأسرها كانت معدومة والأصل بقاء ذلك العدم فيحصل من هذا ظن أنه لا مانع والدليل الذي ذكرناه ظني فيكون ذلك كافيا في تقريره قوله اللغات توفيقية فلعلهم منعوا عن الوضع قلنا الأصل في كل أمر بقاؤه على ما كان والأصل عدم التوقيف وعدم المنع من الوضع فيحصل ظن بقاء ذلك قوله لم قلت إنه إذا وجد الداعي في حق القادر وانتفى الصارف وقع الفعل قلنا الدليل عليه أن القادر على الفعل إن لم يكن متمكنا من الترك فقد تعين الفعل وإن كان متمكنا من الترك فعند الداعي إما أن يترجح أو لا يترجح

فإن لم يترجح البتة لم يكن الداعي داعيا وذلك محال وإن ترجح وجب الوقوع وتمام تقرير هذا الكلام في كتبنا العقلية وأما النقوض فهي مندفعة لأنا لا نسلم أن اشتداد الحاجة إلى تعيين الحال والاستقبال والروائح المخصوصة والاعتمادات المخصوصة مساوية لاشتداد الحاجة إلى التعبير عن معنى الإلزام فإن الإنسان قد تمر عليه مدة طويلة ولا يحتاج إلى التعبير عن تلك الاشياء مع أنه في كل لحظه يحتاج إلى التعبير عن معنى الوجوب وأما المعارضة الآولى فجوابها أنا لو جعلنا اللفظ حقيقة في الوجوب كان الترجيح لازما للمسمى فأمكن جعله مجازا عن الترجيح أما لو جعلناه حقيقة في الترجيح لم يكن الوجوب لازما للمسمى

فلا يمكن جعله مجازا عنه فكان ذلك أولى قوله الحاجة إلى التعبير عن الندبية شديدة قلنا لكن الوجوب أولى لأن الواجب لا يجوز الإخلال به والمندوب يجوز الإخلال به والإخلال ببيان ما يجوز الإخلال به أولى من الإخلال ببيان ما لا يجوز الإخلال به وأما المعارضة الثانية فهي أن اللفظ لو كان للوجوب لاشتهر قلنا هذا إنما يلزم لو سلم عن المعارض أما إذا كان له معارض ولم يظهر الفرق بينه وبين معارضه إلا على وجه مخصوص غامض لم يلزم ذلك قوله هب أن لفظ أفعل موضوع للوجوب فلم لا يجوز أن يكون موضوعا للندب أيضا بالاشتراك قلنا لما تقدم أن الاشتراك على خلاف الأصل قوله هذا إثبات اللغة بالقياس

قلنا سنبين في كتاب القياس إن شاء الله تعالى أنه جائز الدليل السادس عشر حمله على الوجوب يفيد القطع بعدم الإقدام على مخالفة الأمر وحمله على الندب يقتضي الشك فيه فوجب حمله على الوجوب وإنما قلنا إن حمله على الوجوب يفيد القطع بعدم الإقدام على مخالفة الأمر لأن المأمور به إما أن يكون واجبا أو مندوبا فإن كان واجبا فحمله على الوجوب يقتضي القطع بعدم الإقدام على مخالفة الأمر وإن كان مندوبا فالقول بوجوبه سعي في تحصيل ذلك المندوب بأبلغ الوجوه وذلك يفيد القطع بعدم الإقدام على مخالفة الأمر فإذن على كلا التقديرين هو غير مقدم على مخالفة الأمر أما لو حملناه على الندب فبتقدير أن يكون المأمور به مندوبا حصل القطع بعدم الإقدام على مخالفة الأمر أما لو كان واجبا ونحن قد جوزنا له الترك كان ذلك الترك مخالفة للأمر فثبت إن حمله على الندب يقتضي الشك في كونه مخالفا للأمر وإذا ثبت هذا فنقول وجب حمله على الوجوب للنص والمعقول

أما النص فقوله عليه الصلاة والسلام دع ما يريبك إلى ما لا يريبك وأما المعقول فهو أنه إذا تعارض طريقان أحدهما آمن قطعا والآخر مخوف كان ترجيح الآمن على المخوف من موجبات العقول فإن قيل لا نسلم أن حمله على المندوب يقتضي الشك في الإقدام على المحظور قوله لأنه بتقدير أن يكون المأمور به واجبا كان حمله على الندب

سعيا في الترك وإنه محظور قلنا لا نسلم أنه يمكن أن يكون المأمور به واجبا فإنا لو علمنا بدلالة لغوية أن الأمر ما وضع للوجوب وعلمنا أن الحكيم لا يجوز أن يجرده عن قرينه إلا والمأمور به غير واجب فإذا حملته على الندب أمنت الضرر سلمنا قيام هذا الاحتمال ولكن حمله على الوجوب فيه أيضا احتمال للضرر لأن بتقدير أن لا يكون الحق هو الوجوب كان اعتقاد كونه واجبا جهلا وتكون نية الوجوب قبيحة وكراهة أضداده قبيحة والجواب إذا علمنا أن لفظ إفعل لا يجوز استعماله إلا في أحد المعنيين إما الوجوب أو الندب فقبل أن يعلم ما يدل على كونه للوجوب فقط أو للندب فقط أولهما معا فإنا إذا حملناه على الوجوب قطعنا بأنا ما خالفنا الأمر وإذا حملناه على الندب لم نقطع بذلك فإذن قبل أن يعلم ما يدل على كونه للوجوب فقط أو للندب

فقط يقتضي العقل حمله على الوجوب ليحصل القطع بعدم المخالفة ثم بعد ذلك قيام الدليل على أنه للندب إشارة إلى المعارض من ادعاه فعليه الدليل قوله حمله على الوجوب يقتضي احتمال الجهل قلنا ما ذكرتموه إشارة إلى احتمال الخطأ في الاعتقاد وهو قائم في الطرفين وما ذكرناه فهو احتمال الخطأ في العمل وهو حاصل على تقدير الندب دون تقدير الوجوب وإذا اشترك الطرفان في أحد نوعي الخطأ واختص أحدهما بمزيد خطأ كان الجانب الخالي عن هذا الخطأ الزائد أولى بالاعتبار والله أعلم واحتج من أنكر كون الأمر للوجوب بأمور أحدها أن العلم بكون الأمر للوجوب إما أن يكون عقليا أو نقليا فالأول باطل لأن العقل لا مجال له في اللغات وأما النقل فإما أن يكون تواترا أو آحادا والتواتر باطل وإلا لعرف كل واحد بالضرورة أنه للوجوب والآحاد باطل لأن المسألة علمية ورواية الآحاد لا تقيد العلم

وهذه الحجة يحتج بها من يقول لا أدري أن اللفظ موضوع للوجوب فقط أو للندب فقط أولهما معا لأنه لو ادعى الاشتراك أو الندبيه لزمه أو يقال العلم بالاشتراك أو بالندبية إنما يستفاد من العقل أو النقل إلى آخر التقسيم وثانيها أن أهل اللغة قالوا لا فرق بين الأمر والسؤال إلا من حيث الرتبة وذلك يقتضي اشتراكهما في جميع الصفات سوى الرتبة فكما أن السؤال لا يدل على الإيجاب بل يفيد الندبية فكذلك الأمر وثالثها أن لفظ أفعل وارد في كتاب الله وسنة رسوله في الوجوب والندب والاشتراك والمجاز على خلاف الأصل فلا بد من جعله حقيقة في القدر المشترك وهو أصل الترجيح والدال على ما به الاشتراك غير الدال على ما به الامتياز لا بالوضع ولا بالاستلزام فلا يكون لهذه الصيغة إشعار البتة بالوجوب بل لا دلالة فيها إلا على ترجيح جانب الفعل وأما جواز الترك فقد كان معلوما بالعقل ولم يوجد ما يزيل ذلك الجواز فإذن وجب الحكم بأن ذلك العقل راجح الوجود على العدم مع كونه جائز الترك ولا معنى للندب إلا ذلك والجواب عن الأول أن نقول لم لا يجوز أن يعرف ذلك بدليل مركب من النقل والعقل مثل قولنا تارك المأمور به عاص والعاصي يستحق العقاب فيستلزم العقل من تركيب هاتين المقدمتين النقليتين أن الأمر للوجوب

المسألة الثالثة في الأمر الوارد عقيب الحظر والاستئذان

سلمناه فلم لا يجوز أن يثبت بالآحاد ولا نسلم أن المسألة قطعية وقد بينا أنه لا يقين في المباحث اللغوية وعن الثاني أن عندنا أن السؤال يدل على الإيجاب وإن كان لا يلزم منه الوجوب فإن السائل قد يقول للمسئول منه لا تخل بمقصودي ولا تتركه ولا تخيب رجائي فهده الألفاظ صريحة في الإيجاب وإن كان لا يلزم من هذا الإيجاب الوجوب وعن الثالث أن المجاز وان كان على خلاف الأصل لكنه قد يوجد إذا دل الدليل عليه وقد ذكرنا أن الدليل دل على كونها للوجوب فوجب المصير إليه والله أعلم المسألة الثالثة الأمر الوارد عقيب الحظر والاستئذان للوجوب خلافا لبعض أصحابنا لنا أن المقتضي للوجوب قائم والمعارض الموجود لا يصلح معارضا فوجب تحقق الوجوب

بيان المقتضي ما تقدم من دلالة الأمر على الوجوب بيان أن المعارض لا يصلح معارضا وجهان الأول أنه كما لا يمتنع الانتقال من الحظر إلى الإباحة فكذلك لا يمتنع الانتقال منه إلى الوجوب والعلم بجوازه ضروري الثاني أنه لو قال الوالد لولده أخرج من الحبس إلى المكتب فهذا لا يفيد الإباحة مع انه امر بعد الحظر الحاصل بسبب الحبس وكذا أمر الحائض والنفساء بالصلاة والصوم ورد بعد الحظر وأنه للوجوب واحتج المخالف بالآية والعرف أما الآية فقوله تعالى فإذا طعمتم فانتشروا وإذا حللتم فاصطادوا فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله وهذا النوع من الأمر في كتاب الله ما جاء إلا للإباحة فوجب كونه حقيقة فيها وأما العرف فهو أن السيد إذا منع عبده من فعل شئ ثم قال له إفعله فهم منه الإباحة والجواب عن الأول أنه يشكل بقوله تعالى فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين فهذا يدل على الوجوب إذ الجهاد فرض

المسألة الرابعة في الأمر المطلق هل يفيد التكرار

على الكفاية وقوله تعالى لا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله وحلق الرأس نسك وليس بمباح محض وعن الثاني أن العرف متعارض لأن من قال لابنه وهو في الحبس اخرج إلى المكتب فهو أمر بعد الحظر وقد يفيد الوجوب والله أعلم تنبيه القائلون بأن الأمر بعد الحظر للإباحة اختلفوا في النهي الوارد عقيب الوجوب فمنهم من طرد القياس فقال إنه للإباحة ومنهم من قال لا تأثير ها هنا للوجوب المقدم بل النهي يفيد التحريم المسألة الرابعة الأمر المطلق لا يفيد التكرار بل يفيد طلب الماهية من غير إشعار بالوحدة والكثرة إلا أن ذلك المطلوب لما حصل بالمرة الواحدة لا جرم يكتفى بها والأكثرون خالفوا فيه وهم ثلاث فرق

إحداها الذين قالوا إنه يقتضي المرة الواحدة لفظا والثانية أنه يقتضي التكرار وثالثها التوقف إما لادعاء كون اللفظ مشتركا بين المرة الواحدة والتكرار أو لأنه لا يدرى أنه حقيقة في المرة الواحدة أو في التكرار لنا وجوه أحدها أن صيغة إفعل موضوعة لطلب إدخال ماهية المصدر في الوجود فوجب أن لا تدل على التكرار ولا على المرة بيان الأول أن المسلمين أجمعوا على أن أوامر الله تعالى منها ما جاء على التكرار كما في قوله تعالى أقيموا الصلاة ومنها ما جاء لا على التكرار كما في الحج وفي حق العباد أيضا قد لا يفيد التكرار فإن السيد إذا أمر عبده بدخول الدار أو بشراء اللحم لم يعقل منه التكرار ولو ذمه السيد على ترك التكرار للامه العقلاء ولو كرر العبد الدخول لحسن من السيد أن يلومه ويقول إني قد

أمرتك بالدخول وقد دخلت فيكفي ذلك وما أمرتك بتكرار الدخول وقد يفيد التكرار فإنه إذا قال احفظ دابتي فحفظها ساعة ثم أطلقها يذم إذا ثبت هذا فنقول الاشتراك والمجاز خلاف الأصل فلا بد من جعل اللفظ حقيقة في القدر المشترك بين الصورتين وما ذاك إلا طلب إدخال ماهية المصدر في الوجود وإذا ثبت ذلك وجب أن لا يدل على التكرار لأن اللفظ الدال على القدر المشترك بين الصورتين المختلفتين لا دلالة فيه على ما به تمتاز إحدى الصورتين عن الأخرى لا بالوضع ولا بالاستلزام فالأمر لا دلالة فيه البتة لا على التكرار ولا على المرة الواحدة بل على طلب الماهية من حيث هي هي إلا إنه لا يمكن إدخال تلك الماهية في الوجود بأقل من المرة الواحدة فصارت المرة الواحدة من ضرورات الإتيان بالمأمور به فلا جرم دل على المرة الواحدة من هذا الوجه وثانيها أن أهل اللغة قالوا لا فرق بين قولنا يفعل وبين قولنا إفعل إلا في كون الأول خبرا والثاني طلبا ثم أجمعنا على أن قولنا يفعل يتحقق مقتضاه بتمامه في حق من

يأتي به مرة واحدة فكذا في الأمر وإلا لحصلت بينهما تفرقة في شئ غير الخبرية والطلبية وذلك يقدح في قولهم وثالثها أن القول بالتكرار يقتضي أن تستغرق الأوقات بحيث لا يخلو وقت عن وجوب المأمور به إذ ليس في اللفظ إشعار بوقت معين فليس حمله على البعض أولى من الباقي لكن حمله على كل الأوقات غير جائز أما أولا فبالإجماع وأما ثانيا فلأنه إذا أمر بعبادة ثم أمر بغيرها لزم أن تكون الثانية ناسخة للأولى لأن الأول قد استوعب جميع الأوقات والثاني يقتضي إزالته عن بعضها والنسخ هو إزالة الحكم بعد ثبوته إلى بدل وقد حصل ذلك ها هنا وفي علمنا بأن الأمر ببعض الصلوات ليس نسخا لغيرها وأن الأمر بالحج ليس نسخا للصلاة ما يدل على فساد ما قالوا وأما ثالثا فلأنه يلزم أن يكون الأمر بغسل بعض أعضاء الوضوء نسخا لما تقدمه والأمر بالصلاة يكون نسخال عند للأمر بالوضوء وذلك لا يقوله عاقل ورابعها أنا نعلم حسن قول القائل لغيره إفعل كذا أبدا أو افعله

مرة واحدة بلا زيادة فلو دل الأمر على التكرار لكان الأول تكرارا والثاني نقضا ولما لم يكن كذلك بطل ما قالوا احتج القائلون بالتكرار بوجوه أحدها أن الصديق رضي الله عنه تمسك على أهل الردة في وجوب تكرار الزكاة بقوله تعالى وآتوا الزكاة ولم ينكر عليه أحد من الصحابة فدل على انعقاد الإجماع على أن الأمر للتكرار وثانيها أن الأمر طلب الفعل والنهي طلب الترك فإذا كان النهي الذي هو أحد الطلبين يفيد التكرار فكذا الآخر وثالثها أن الأمر لو لم يفد التكرار لما جاز ورود النسخ عليه ولا

الاستثناء لأن ورود النسخ على المرة الواحدة يدل على البداء وورود الاستثناء عليها يكون نقضا ورابعها أنه ليس في لفظ الأمر تعيين زمان فلا يكون اقتضاؤه لأيقاع الفعل في زمان أولى من اقتضائه لإيقاعه في زمان آخر فإما أن لا يقتضي إيقاعه في شئ من الأزمنة وهو باطل أو في كل الأزمنة وهو المطلوب وخامسها أن الاحتياط يقتضي تكرار المأمور به لأنه بالتكرار يأمن من الإقدام على مخالفة أمر الله تعالى وبترك التكرار لا يأمن منه لاحتمال أن يكون ذلك الأمر للتكرار فوجب حمله على التكرار دفعا لضرر الخوف على النفس وأما القائلون بالاشتراك بين المرة الواحدة وبين التكرار فقد احتجوا بوجهين أحدهما أنه يحسن الاستفهام فيه فيقال أردت بأمرك فعل مرة واحدة أم أكثر ولذلك قال سراقة للنبي ص أحجتنا لعامنا هذا أم

للأبد وحسن الاستفهام دليل الاشتراك وثانيهما ورود الأمر في كتاب الله تعالى وسنة رسوله ص وسلم على الوجهين والأصل في الكلام الحقيقة فكان الاشتراك لازما والجواب عن الأول لعل رسول الله ص بين للصحابة أن قوله أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة يفيد التكرار فلما كان ذلك معلوما للصحابة لا جرم تمسك الصديق بهذه الآية في وجوب التكرار وعن الثاني أن الفرق من وجهين

الأول أن الانتهاء عن الفعل أبدا ممكن أما الاشتغال به أبدا فغير ممكن فظهر الفرق والثاني أن النهي كالنقيض للأمر لأن قول القائل لغيره كن فاعلا موجود في قوله لا تكن فاعلا وإنما زاد عليه لفظ النفي فجرى مجرى قوله زيد في الدار زيد ليس في الدار وإذا كان النهي مناقضا للأمر وجب أن تكون فائدة النهي مناقضة لفائدة الأمر فإذا كان قولنا إفعل يقتضي إيقاع الفعل في زمان ما أي زمان كان فقولنا لا تفعل وجب أن يقتضي المنع من إيقاعه في زمان ما أي زمان كان بل في الأزمنة كلها لأنه إن لم يفعل اليوم وفعل غدا كان ممتثلا للأمر ولا يجوز أن يكون ممتثلا للأمر والنهي معا مع كونهما نقيضين فصح أن كون الأمر مفيدا للمرة الواحدة يقتضي أن يكون النهي مانعا للفعل في جميع الأزمان ثم نقول كون النهي مفيدا للتكرار يدل على أن الأمر لا يفيد إلا المرة الواحدة لأن فائدة الأر رفع فائدة النهي وفائد النهي المنع من الفعل

في كل الأزمان ففائدة الأمر رفع هذا المنع الكلي ورفع المنع الكلي يحصل بالثبوت ولو في زمان واحد فوجب أن تكون فائدة الأمر اقتضاء الفعل ولو في زمان واحد وإذا كان كذلك لزم من كون الأمر نقيضا للنهي مع كون النهي مفيدا للتكرار أن يكون الأمر غير مفيد للتكرار وعن الثالث أن النسخ لا يجوز وروده عليه فإذا ورد صار ذلك قرينة في أنه كان المراد به التكرار وعندنا لا يمتنع حمل الأمر على التكرار بسبب بعض القرائن وأما الاستثناء فإنه لا يجوز على قول من يقول بالفور أما من لم يقل به فإنه يجوز الاستثناء وفائدته المنع من إيقاع الفعل في بعض الأوقات التي كان المكلف مخيرا بين إيقاع الفعل فيه وفي غيره وعن الرابع أن الآمر عند القائلين بالفور مختص بأقرب الأزمنة إليه وعند منكريه دال على طلب إيقاع المصدر من غير بيان الوحدة والعدد والزمان الحاضر والآتي بل على القدر المشترك بين المقيد والمؤقت ومقابليهما أخبرنا وعن الخامس أن المكلف إذا علم أن اللفظ لا يدل على التكرار أمن من الخوف على أنه معارض بالخوف الحاصل من التكرار فإنه ربما كان ذلك مفسدة كما في شراء اللحم ودخول الدار وأما الاستفهام والاستعمال فسيظهر إن شاء الله تعالى في باب

المسألة الخامسة في الأمر المعلق بشرط أو صفة هل يقتضي التكرار إذا تكرر أم لا؟

العموم أنه لا يدل واحد منهما على الاشتراك وعلى أن الأوامر الواردة بمعنى التكرار بعضها يفيد التكرار في اليوم وبعضها في الأسبوع وبعضها في الشهر وبعضها في السنة وظاهر أن ذلك لا يستفاد الا من دليل منفصل والله أعلم المسألة الخامسة اختلفوا في أن الأمر المعلق بشرط أو صفة هل يقتضي تكرار المأمور به بتكرارهما أم لا مثال الصفة قوله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ومثال الشرط إن كان أو إذا كان زانيا فارجمه فنقول كل من جعل الأمر المطلق مفيدا للتكرار قال به ها هنا أيضا وأما القائلون بأن الأمر المطلق لا يفيد التكرار فمنهم من قال بأنه ها هنا يفيد التكرار ومنهم من قال لا يفيده والمختار أنه لا يفيده من جهة اللفظ ويفيده من جهة ورود الأمر بالقياس فها هنا مقامان المقام الآول في أنه لا يفيده من جهة اللفظ ويدل عليه وجوه أحدها أن السيد إذا قال لعبده اشتر اللحم إن دخلت السوق لا يعقل

منه التكرار حتى لو اشتراه دفعة واحدة لا يلزمه الشراء ثانيا وثانيها لو قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق لا يتكرر الطلاق بتكرر دخولها في الدار وكذلك لو قال إن رد الله علي مالي أو دابتي أو صحتي فله علي كذا لم يتكرر الجزاء بتكرر الشرط وكذا لو قال الرجل لوكيله طلق زوجتي إن دخلت الدار لم يثبت على التكرار وثالثها أجمعنا على أن الخبر المعلق على الشرط كقوله زيد سيدخل الدار لو دخلها عمرو فدخلها عمرو ودخلها زيد فإنه يعد صادقا وإن لم يتكرر دخول زيد عند دخول عمرو فوجب أن يكون في هذه الصورة كذلك والجامع دفع الضرر الحاصل من التكليف بالتكرار ورابعها أن اللفظ ما دل إلا على تعليق شئ على شئ والمفهوم من تعليق شئ أعم من تعليقه عليه في كل الصور أو في صورة واحدة لأنه يصح تقسيم ذلك المفهوم إلى هذين القسمين ومورد التقسيم مشترك بين القسمين فإذن تعليق الشئ على الشئ لا يدل على تكرار ذلك التعليق

المقام الثاني في أنه يفيده من جهة ورود الأمر بالقياس والدليل عليه أن الله تعالى لو قال إن كان زانيا فارجمه فهذا يدل على انه تعالى جعل الزنا علة لوجوب الرجم ومتى كان كذلك لزم تكرر الحكم عند تكرر الصفة بيان الأول أن القائل اذا قال إن كان الرجل عالما زاهدا فاقتله وإن كان جاهلا فاسقا فأكرمه فهذا الكلام مستقبح في العرف والعلم بذلك ضروري فالاستقباح لو إما أن يكون لأنه يفيد أن هذا القائل جعل الجهل والفسق موجبين للتعظيم أو لأنه لا يفيد ذلك والثاني باطل لأنه لو لم يفد العلية ولا منافاة أيضا بين الجهل وبين استحقاق التعظيم بسبب آخر من كونه نسبيا شجاعا جوادا فصيحا فحينئذ لم يكن إثبات استحقاق التعظيم مع كونه جاهلا فاسقا على خلاف الحكمة فكان يجب أن لا يثبت وحيث ثبت علمنا فساد هذا القسم وأن ذلك الاستقباح إنما

حصل لأنه يفيد أن ذلك القائل جعل جهله وفسقه علة لاستحقاق الإكرام فثبت أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون الوصف علة فإذا صدر ذلك من الله تعالى أفاد ظن أن الله تعالى جعل ذلك الوصف علة وذلك يوجب تكرر الحكم عند تكرر الوصف باتفاق القائسين فثبت أن قول الله تعالى إن كان زانيا فارجمه يفيد تكرار الرجم عند تكرار الزنى فإن قيل أولا هذا يشكل بقوله إن دخلت الدار فأنت طالق فإنه لا يتكرر الطلاق بتكرر الدخول وإن دخلت السوق فاشتر اللحم فإنه لا يتكرر الأمر بشراء اللحم عند تكرر دخول السوق ثم نقول لا نسلم أنه يفيد ظن العلية أما قوله إن كان الرجل عالما فاقتله فهذا الاستقباح إنما جاز لأن كونه عالما ينافي جواز القتل فإثبات هذا الحكم مع قيام المنافي يوجب الاستقباح سلمنا أنه يفيد العلية في هذه الصورة فلم قلت إن في سائر الصور يجب أن يكون كذلك

سلمنا أنه في جميع الصور يفيد العلية فلم قلت إنه يلزم من تكرر العلة تكرر الحكم فإن السرقة وإن كانت موجبة للقطع لكن يتوقف إيجابها لهذا الحكم على شرائط كثيرة الجواب أن قوله إن دخلت الدار فأنت طالق فهذا يفيد ظن أن هذا الإنسان جعل دخول الدار علة لوقوع الطلاق وإذا جعل الإنسان شيئا علة لحكم لم يلزم من تكرر ما جعله تكرر ذلك الحكم ألا ترى أنه لو قال أعتقت عبدي غانما لسواده وبعلة كونه أسود وكان له عبد آخر أسود فإنه لا يعتق عليه ذلك العبد ومعلوم أن التنبيه على العلية لا يزيد على التصريح بها أما إذا علمنا أو ظننا أن الشارع جعل شيئا علة لحكم فإنه يلزم من تكرر ذلك الشئ تكرر ذلك الحكم بإجماع القائسين فثبت أنه لا يلزم من عدم تكرر الحكم عند تكرر المعلق عليه عند ما يكون التعليق صادرا من العبد أن لا يتكرر عند ما يكون التعليق صادرا من الله تعالى

فإن قلت هذا التكرار لا يكون مستفادا من اللفظ بل يكون مستفادا من الامر بالقياس قلت هذا هو الحق وعند هذا يظهر أنه لا مخالفة بين هذا المذهب وبين ظاهر المذهب المنقول عن الأصوليين من أنه لا يفيد التكرار وهو حق ونحن نعني به إنه يفيد ظن العلية فإذا انضم الأمر بالقياس حصل من مجموعهما إفادة التكرار ولا منافاة بين هذا المذهب وبين ما قالوه قوله الاستقباح إنما جاز لأن كونه فاسقا ينافي جواز التعظيم قلنا لا نسلم حصول المنافاة لأن الفاسق قد يستحق الإكرام بجهات أخر والأصل تخريج الحكم على وفق الأصل قوله لم قلت إنه لما حصل ظن العلية في الصورة التي ذكرتموها حصل ظن العلية في سائر الصور قلنا لوجهين أحدهما أنا نقيس عليه سائر الصور والجامع هو أن الحكم إذا كان مذكورا مع علته كان أقرب إلى القبول وذلك مصلحة المكلف فيناسب الشرعية الثاني أنا نعد صورا كثيرة ونبين حصول ذلك الظن فيها ثم نقول لا بد بينها من قدر مشترك وذلك المشترك إما ما ذكرناه من ترتيب الحكم على الوصف أو غيره

المسألة السادسة في أن مطلق الأمر لا يفيد الفور

والثاني مرجوح لأن الأصل عدد سائر الصفات فتعين الأول فعلمنا أن ترتيب الحكم على الوصف أينما كان فإنه يفيد ظن العلية قوله لم قلت إنه يلزم من تكرر العلة تكرر الحكم قلنا هذا متفق عليه بين القائسين فلا يكون المنع فيه مقبولا والله أعلم المسألة السادسة في أن مطلق الأمر لا يفيد الفور قالت الحنفية إنه يفيد الفور وقال قائلون إنه يفيد التراخي وقالت الواقفية إنه مشترك بين الفور والتراخي والحق أنه موضوع لطلب الفعل وهو القدر المشترك بين طلب الفعل على الفور وبين طلبه على التراخي من غير أن يكون في اللفظ إشعار بخصوص كونه فورا أو تراخيا لنا وجوه أحدها أن الأمر قد يرد عندما يكون المراد منه الفور تارة والتراخي اخرى فلا بد من جعله حقيقة في القدر المشترك بين القسمين دفعا للاشتراك والمجاز والموضوع لإفادة القدر بين القسمين لا يكون له إشعار

بخصوصية كل واحد من القسمين لأن تلك الخصوصية مغايرة لمسمى اللفظ وغير لازمة له فثبت أن اللفظ لا إشعار له لا بخصوص كونه فورا ولا بخصوص كونه تراخيا وثانيها أنه يحسن من السيد أن يقول إفعل الفعل الفلاني في الحال أو غدا ولو كان كونه فورا داخلا في لفظ إفعل لكان الأول تكرارا والثاني نقضا وأنه غير جائز وثالثها أن أهل اللغة قالوا لا فرق بين قولنا يفعل وبين قولنا إفعل إلا أن الآول خبر والثاني أمر لكن قولنا يفعل لا إشعار له بشئ من الأوقات فإنه يكفي في صدق قولنا يفعل إتيانه به في أي وقت كان من أوقات المستقبل فكذا قوله إفعل وجب أن يكفي في الإتيان بمقتضاه الإتيان به في أي وقت كان من اوقات المستقبل وإلا فحينئذ يحصل بينهما فرق في أمر آخر سوى كونه خبرا أو أمرا

ورابعها أن أهل اللغة قالوا في لفظ إفعل إنه أمر والأمر قدر مشترك بين الأمر بالشئ على الفور وبين الأمر به على التراخي لأن الأمر به على الفور أمر مع قيد كونه على الفور وكذلك الأمر به على التراخي أمر مع قيد كونه على التراخي ومتى حصل المركب فقد حصل المفرد فعلمنا أن مسمى الأمر قدر مشترك بين الأمر مع كونه فورا وبين الأمر مع كونه متراخيا وإذا ثبت أن لفظ إفعل للأمر وثبت أن الأمر قدر مشترك بين هذين القسمين ثبت أن لفظ أفعل لا يدل إلا على قدر مشترك بين هذين القسمين واحتج المخالف بأمور أحدها قوله تعالى لإبليس ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك عابه على أنه لم يأت في الحال بالمأمور به وهذا يدل على أنه أوجب عليه الإتيان بالفعل حين أمره به إذ لو لم يجب ذلك لكان لإبليس أن يقول إنك أمرتني وما أوجبت علي في الحال فكيف أستحق الذم بتركه في الحال

وثانيها قوله تعالى وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وقوله فاستبقوا الخيرات وثالثها لو جاز التأخير لجاز إما إلى بدل أولا إلى بدل والقسمان باطلان فالقول بجواز التأخير باطل أما فساد القسم الأول فهو أن البدل هو الذي يقوم مقام المبدل منه من كل الوجوه فإذا أتى بهذا البدل وجب أن يسقط عنه التكليف وبالاتفاق ليس كذلك فإن قلت لم لا يجوز أن يقال البدل قائم مقام المبدل منه في ذلك الوقت لا في كل الأوقات فلا جرم لم يلزم من الإتيان بابدل يكون سقوط الأمر بالمبدل قلت إذا كان مقتضى الأمر الإتيان بتلك الماهية مرة واحدة في أي وقت كان وهذا البدل قائم مقامه في هذا المعنى فقد تأدى ما هو المقصود من الأمر بتمامه فوجب سقوط الأمر بالكلية بل ذلك العذر يتمشى بتقدير أن يقتضي الأمر التكرار ولكنه باطل وأما فساد القسم الثاني وهو القول بجواز التأخير لا إلى بدل فذلك يمنع من كونه واجبا لأنه لا يفهم من قولنا إنه ليس بواجب إلا

أنه يجوز تركه من غير بدل ورابعها لو جاز التأخير لجاز إما إلى غاية معينة بحيث إذا وصل المكلف إليها لا يجوز له أن يؤخر الفعل عنها أو يجوز له التأخير أبدا والقسمان باطلان فالقول بجواز التأخير باطل إنما قلنا إنه لا يجوز له التأخير إلى غاية لأن تلك الغاية إما أن تكون معلومة للمكلف أو لا تكون فان كانت معلومة له فتلك الغاية ليست إلا أن تصير بحيث يغلب على ظنه أنه لو لم يشتغل بأدائه فاته ذلك الفعل بدليل أن كل من قال بجواز التأخير إلى غاية معلومة قال إن تلك الغاية هي هذا الوقت فالقول بإثبات غاية أخرى خرق للإجماع وإنه غير جائز لكن القول بجواز التأخير إلى هذه الغاية باطل لأن الظن إن لم يكن لأمارة جرى مجرى ظن السوداوي فلا عبرة به

وإن كان لأمارة فكل من قال بهذا القسم قال إن تلك الأمارة إما المرض الشديد أو علو السن وهذا أيضا باطل لأن كثيرا من الناس يموت فجأة وذلك يقتضي أنه ما كان يجب عليهم ذلك الفعل في علم الله تعالى مع أن ظاهر ذلك الأمر للوجوب وإنما قلنا إن تلك الغاية لا يجوز أن تكون مجهولة لأنه على هذا التقدير يصير مكلفا بأن لا يؤخر الفعل عن وقت معين مع أنه لا يعرف ذلك الوقت وهو تكليف ما لا يطاق وإنما قلنا إنه لا يجوز التأخير أبدا لأن التأخير أبدا تجويز للترك أبدا وإنه ينافي القول بوجوبه وخامسها أن السيد إذا أمر عبده بأن يسقيه الماء فهم منه التعجيل واستحسن العقلاء ذم العبد على التأخير والإسناد إلى مع القرينة خلاف الأصل فالأمر يفيد الفور وسادسها أجمعنا على أنه يجب اعتقاد وجوب الفعل على الفور فنقول الفعل أحد موجبي الأمر فيجب على الفور قياسا على الاعتقاد والجامع تحصيل المصلحة الحاصلة بسبب المسارعة إلى الامتثال

وسابعها أن الأمر يقتضي إيقاع الفعل فأشبه العقود في البياعات فلما وقع العقد عقيب الإيجاب والقبول فالأمر وجب أن يكون مثله وتحريره أنه استدعاء فعل بقول مطلق فيقتضي التعجيل كالإيجاب في البيع وثامنها أن الأمر ضد النهي فلما أفاد النهي وجوب الانتهاء على الفور وجب في الأمر أن يفيد الوجوب على الفور وربما أوردوا هذا على طريق آخر فقالوا ثبت أن الأمر بالشئ نهي عن تركه لكن النهي عن تركه يوجب الانتهاء عن تركه في الحال والانتهاء عن تركه في الحال لا يمكن إلا بالإقدام على الفعل في الحال فثبت أن الأمر يوجب الفعل في الحال وتاسعها أجمعنا على أنه لو فعل عقيبه يقع الموقع ويخرج عن العهدة وطريقة الاحتياط تقتضي وجوب الإتيان به على الفور لتحصيل

الخروج عن العهدة بيقين والجواب عن الأول أنه حكاية حال فلعل ذلك الأمر كان مقرونا بما يدل على الفور وعن الثاني أن قوله وسارعو سعيد إلى مغفرة من ربكم مجاز من حيث ذكر المغفرة وأراد ما يقتضيها وليس في الآية أن المقتضي لطلب المغفرة هو الإتيان بالفعل على سبيل الفور على أن هذه الآية لو دلت على وجوب الفور لم يلزم منه دلالة نفس الأمر على الفور وعن الثالث والرابع أنه يشكل بما إذا صرح وقال أوجبت عليك أن تفعل هذا الفعل في أي وقت شئت فكل ما جعلوه عذرا في هذه الصورة فهو عذرنا عما ذكروه وكذلك يشكل بالكفارات والنذور وكل الواجبات الموسعة وعن الخامس أنه معارض بما إذا أمر السيد غلامه بشئ ولم يعلم الغلام حاجة السيد إليه في الحال فإنه لا يفهم التعجيل فإن حملتم ذلك على القرينة ألزمناكم بكر مثله فإن قلت إن السيد يعلل ذمه لعبده بأنني أمرته بشئ فأخره

ولولا أن الأمر للفور وإلا لما صح هذا التعليل قلت وقد يعتذر العبد فيقول أمرتني بأن أفعل وما أمرتني بالتعجيل وما علمت بأن في التأخير مضرة وعن السادس أنه يبطل بما لو قال إفعل في أي وقت شئت وبالنذور والكفارات ويبطل أيضا بالخبر فإنه لو قال الشارع يقتل زيد عمرا فها هنا يجب الاعتقاد في الفور ولا يجب حصول الفعل في الفور ولأن الاعتقاد غير مستفاد من الأمر فلا يجب حصول الفعل في الفور لأن من ركب الله العقل فيه فإذا نظر علم أن امتثال أمر الله تعالى واجب وعن السابع أنه يبطل بقوله إفعل في أي وقت شئت ولأن الجامع الذي ذكروه وصف طردي وهو غير معتبر وعن الثامن أن النهي يفيد التكرار فلا جرم يوجب الفور والأمر لا يفيد التكرار فلا يلزم أن يفيد الفور وعن التاسع وهو طريقة الاحتياط انه ينتقض بقوله إفعل في أي وقت شئت واعلم أن هذا النقض يرد على أكثر أدلتهم وهو لازم لا محيص عنه

المسألة السابعة في أن الأمر المعلق أو الخبر المعلق على شئ بكلمة إن عدم عند عدم ذلك الشئ

المسألة السابعة في أن الأمر المعلق أو الخبر المعلق على شئ بكلمة إن عدم عند عدم ذلك الشئ والخلاف فيه مع القاضي بكر وأكثر المعتزلة لنا وجهان الأول هو أن النحويين سموا كلمة إن حرف شرط والشرط ما ينتفي الحكم عند انتفائه فيلزم أن يكون المعلق بهذا الحرف منتفيا عند انتفاء المعلق عليه أما أن النحويين سموا هذا الحرف بحرف الشرط فذلك ظاهر في كتبهم وأما أن الشرط ما ينتفي الحكم عند انتفائه فلأنهم يقولون الوضوء شرط صحة الصلاة والحول شرط وجوب الزكاة وعنوا بكونهما شرطين انتفاء الحكم عند انتفائهما والاستعمال دليل الحقيقة ظاهرا فإن قيل لا نزاع في أن النحويين سموا هذا الحرف بحرف الشرط ولكن

لعل ذلك من اصطلاحاتهم الحادثة كتسميتهم الحركات المخصوصة بالرفع والنصب والجر وإن لم تكن تسمية هذه الحركات بهذه الأسماء موجودة في أصل اللغة سلمنا أن هذا الاسم أصلي لكن لا نسلم أن الشرط ما ينتفي الحكم عند انتفائه بل شرط الشئ ما يكون علامة على ثبوته الحكم من قولهم أشراط الساعة أي علاماتها وإذا كان الشرط عبارة عن العلامة لزم من ثبوتها ثبوت الحكم لكن لا يلزم من عدمها عدم الحكم سلمنا أن شرط الشئ ما يقف وفي عليه الحكم لكن مطلقا أو بشرط أن لا يوجد ما يقوم مقامه الأول ممنوع والثاني مسلم وعلى هذا التقدير لا يلزم من عدم هذا الشرط عدم الحكم إلا إذا عرف أنه لم يوجد شئ ما يقوم مقام هذا الشرط

والجواب لما دلت الكتب النحوية على تسمية هذا الحرف بحرف الشرط وجب اعتقاد أن هذا الاسم كان حاصلا في أصل اللغة وإلا لكان حصول هذا الاسم له النقل وقد بينا النقل خلاف الأصل قوله شرط الشئ ما يدل على ثبوته قلنا لو كان كذلك لامتنعت تسمية الوضوء بأنه شرط صحة الصلاة فإن الوضوء لا يدل على صحة الصلاة وكذا القول في قولنا الحول شرط وجوب الزكاة والإحصان شرط وجوب الرجم وأما أشراط الساعة فهي وإن كانت علامات دالة على وجوب الساعة لكن يمتنع وجود الساعة إلا عند وجودها فهي مسماة بالأشراط لا بحسب الاعتبار الأول بل بحسب الاعتبار الثاني قوله شرط الشئ ما ينتفي الحكم عند انتفائه مطلقا أو إذا لم يوجد ما يقوم مقامه قلنا مطلقا لأنه إذا ثبت كون شئ شرطا وثبت أن لفظ الشرط

معناه في اللغة ما ينتفي الحكم عند انتفائه وثبت أن ذلك الشئ يجب انتفاء الحكم عند انتفائه فلو أثبتنا شيئا آخر يقوم مقامه لم يكن ذلك الشئ بعينه شرطا بل يكون الشرط إما هو أو ذلك الآخر لا على التعيين وذلك ينافي قيام الدلالة على كونه بعينه شرطا الحجة الثانية ما روي أن يعلى بن أمية سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال ما بالنا نقصر وقد أمنا فقال عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله ص فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته

ولو لم يفهم أن المعلق على الشئ بكلمة إن عدم عند عدم ذلك الشئ لم يكن لذلك التعجب معنى فإن قيل لم لا يجوز أن يقال إنما تعجبا من ذلك لأنهما عقلا من الآيات الواردة في وجوب الصلاة وجوب الإتمام وأن حال الخوف مستثناة من ذلك وما عداها ثابت على الآصل في وجوب الإتمام فلذلك تعجبا من ثبوت القصر مع الأمن ثم نقول هذا الحديث حجة عليكم لأنه لو امتنع المشروط عند عدم الشرط لما جاز القصر عند عدم الخوف وقد جاز فعلمنا أنه لا يجب عدم المشروط عند عدم الشرط والجواب عن السؤال الأول أن الآيات الدالة على وجوب الصلاة لا تنطق بالإتمام ولا بأن الأصل في الصلاة الإتمام بل المروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كانت صلاة السفر والحضر ركعتين

فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر وعن الثاني أن طاهر الشرع يمنع من ذلك ولذلك ظهر التعجب لكن لا يمتنع أن يدل دليل على خلاف الظاهر والله أعلم احتج المخالف بالآية والحكم أما الآية فهو أن المعلق إن على شئ لو كان عدما عند عدم ذلك الشئ لكان قوله عز وجل ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا دليلا على أنه ما حرم الإكراه على البغاء إن لم يردن التحصن وقوله تعالى فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وقوله واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون وقوله أن تقصروا من الصلاة إن خفتم وقوله فإن لم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة ففي جبمع هذه الآيات الحكم غير منتف عند انتفاء الشرط

وأما الحكم فهو ما إذا قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق فهذا لا ينفي الطلاق قبل ذلك الشرط حتى لو نجز أو علق بشرط آخر لم يكن مناقضا للأول ولو لزم عدم المشروط عند عدم الشرط لزم التناقض ها هنا والجواب عن الأول أن الظاهر يقتضي أن لا يحرم الإكراه على البغاء إذا لم يردن التحصن ولكن لا يلزم من عدم الحرمة القول بالجواز لأن زوال الحرمة قد يكون لطريان المحل وقد يكون لامتناع وجوده عقلا وها هنا كذلك لأنهن إذا لم يردن التحصن فقد أردن البغاء وإذا أردن البغاء امتنع إكراههن على البغاء وعن الثانية أنه إذا علق الطلاق على الدخول ثم نجز فإن كان المنجز واحدة أو اثنتين بقي التعليق فالمنجز غير المعلق حتى لو تزوجت بزوج آخر وعادت إليه وتزوجها وقع الطلاق المعلق وإن كان المنجز ثلاثا فعندنا المنجز غير المعلق حتى بقي المعلق موقوفا على دخول الدار فإذا تزوجت بزوج آخر وعادت إليه ودخلت الدار وقع الطلاق المعلق والله أعلم

المسألة الثامنة في الأمر المقيد بعدد

المسألة الثامنة في الأمر المقيد بعدد فلنبحث أن الحكم المعلق بعدد هل يدل على حكم ما زاد عليه وما نقص عنه أم لا أما في جانب الزيادة فمتى كان العدد الناقص علة لعدم أو أمتنع ثبوت ذلك الأمر في العدد الزائد فعله عدم ذلك الأمر حاصلة عند عدم حصول العدد الزائد مثاله لو حظر الله تعالى علينا جلد الزاني مائة كان الزائد على المائة محظورا لأن المائة موجودة في الزائد على المائة ولو قال إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا فجعل القلتين علة

لاندفاع حكم النجاسة فالزائد عليهما أولى أن يكون كذلك أما إذا كان العدد الناقص موصوفا بحكم لم يجب أن يكون الزائد عليه موصوفا بذلك لأنه لا يلزم من كون عدد واجبا أو مباحا أن يكون الزائد عليه واجبا أو مباحا وأما في جانب النقصان فالحكم إما أن يكون إباحة أو إيجابا أو حظرا فإن كان إباحة لم يخل ما دون ذلك العدد إما أن يكون داخلا تحت ذلك العدد على كل حال أو لا يدخل تحته على كل حال أو يدخل تحته تارة ولا يدخل أخرى مثال الأول أن يبيح الله تعالى لنا جلد الزاني مائة فإنه يدل على إباحة جلد خمسين لأن الخمسين داخلة في المائة ومثال الثاني أن يبيح الله عز وجل لنا أن نحكم بشهادة شاهدين فإنه لا يدل على إباحة الحكم بشهادة الواحد لإن الحكم بشهادة

الشاهد الواحد غير داخل تحت الحكم بشهادة شاهدين ومثال الثالث أن يبيح لنا استعمال القلتين من الماء إذا وقعت فيهما نجاسة فإنه قد أباح لنا استعمال القلة من هاتين القلتين ولا يدل على إباحة استعمال قلة واحدة فلا إذا وقعت فيها نجاسة لأن القلة الواحدة إذا وقعت فيه نجاسة غير داخلة تحت قلتين وقعت فيهما نجاسة أما إذا حظر الله تعالى علينا عددا مخصوصا فإنه يختلف أيضا فربما دل على حظر ما دونه من طريق الأولى لأنه إذا حظر استعمال القلتين إذا وقعت فيهما نجاسة فحظر القلة الواحدة أولى أما لو حظر الله تعالى علينا جلد الزاني مائة لم يدل أن ما دونه محظور وأما إذا أوجب الله تعالى جلد الزاني مائة فإنه يدل على وجوب جلد خمسين لأنه لا يمكن فعل الكل إلا بفعل الجزء ولكنه ينفي قصر الوجوب على الجزء فثبت أن قصر الحكم على العدد لا يدل على نفيه عما زاد أو نقص إلا لدليل منفصل

واحتج المخالف بالسنة والإجماع أما السنة فهي أن الله تعالى لما قال إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم قال عليه الصلاة والسلام والله لأزيدن على السبعين

فعقل أن الحكم منفي عن الزيادة وأما الإجماع فهو أن الأمة عقلت من تحديد جلد القاذف بالثمانين نفي الزيادة والجواب عن الأول إن تعليق الحكم على السبعين كما لا ينفيه عن الزائد فكذا لا يوجبه فلعله ص جوز حصول المغفرة لو زاد على السبعين فلذلك قال ما قال

المسألة التاسعة في الأمر المقيد بالاسم

وعن الثاني أن ذلك النفي إنما عقل بالبقاء على حكم الأصل والله أعلم المسألة التاسعة في الأمر المقيد بالاسم الجمهور منا ومن المعتزلة قالوا إن الأمر والخبر المقيد بالاسم لا يدل على نفي حكم ما عداه كقول القائل زيد في الدار لا يدل على أن عمرا ليس فيها وإذا أمر بشئ لا يدل على أن غيره ليس بواجب وقال أبو بكر الدقاق منا إنه يدل على ذلك لنا وجوه الأول اتفاق الكل على أنه يجوز أن يقال زيد أكل أو شرب مع

العلم بأن غيره فعل ذلك أيضا الثاني أن تخصيص البعض بالذكر لو دل على نفي الحكم عن غير المذكور لبطل القياس لأن التنصيص على حكم الأصل ان وجد معه التنصيص على حكم الفرع كان حكم الفرع ثابتا بالنص لا بالقياس وإن لم يوجد معه كان النص دالا على عدم الحكم في الفرع وحينئذ لا يجوز إثباته بالقياس لأن النص مقدم على القياس الثالث لو دل قولنا زيد أكل على أن غيره لم يأكل لدل عليه إما بلفظه أو بمعناه والأول باطل لأنه ليس في اللفظ ذكر غير زيد فكيف يدل على حكم غير زيد والثاني باطل لإن الإنسان قد يعلم أن زيدا وعمرا يشتركان في فعل ويكون له غرض في الإخبار عن أحدهما دون الآخر فثبت أنه لا يدل عليه لا بلفظه ولا بمعناه وأصبح المخالف بأنه لا بد في التخصيص من فائدة ولا فائدة إلا نفي الحكم عما عداه

المسألة العاشرة في الأمر المقيد بالصفة وفيه فرعان

والجواب المقدمة الثانية ممنوعة فلعل غرضه كان متعلقا بالأخبار عنه دون غيره فلهذا خصه بالذكر والله أعلم المسألة العاشرة في الأمر المقيد بالصفة وهو كقوله زكوا عن الغنم السائمة واختلفوا في أنه هل يدل ذلك على أنه لا زكاة في غير السائمة الحق أنه لا يدل وهو قول أبي حنيفة رحمه الله واختيار ابن سريج والقاضي أبي بكر وإمام الحرمين والغزالي وقول جمهور المعتزلة

وذهب الشافعي والأشعري رضي الله عنهما ومعظم الفقهاء منا إلى أنه يدل لنا وجوه الأول إن الخطاب المقيد بالصفة لو دل على أن ما عداه يخالفه لدل عليه إما بلفظه أو بمعناه لكنه لم يدل عليه من الوجهين فوجب أن لا يدل عليه أصلا إنما قلنا إنه لا يدل عليه بلفظه لأن اللفظ الدال على ثبوت الحكم في أحد القسمين إن لم يكن مع ذلك موضوعا لنفي الحكم في القسم الثاني لم يكن له عليه دلالة لفظية وإن كان موضوعا له فحينئذ يكون ذلك اللفظ موضوعا لمجموع إثبات الحكم في أحد القسمين ونفيه عن القسم الآخر ولا نزاع في دلالة مثل هذا اللفظ على هذا النفي بيان أنه لا يدل عليه بمعناه أن الدلالة المعنوية هي أن يستلزم المسمى شيئا فينتقل الذهب من المسمى إلى لازمه وها هنا ثبوت الحكم في أحد القسمين لا يستلزم عدمه عن القسم الثاني لأن الصورتين المشتركتين في الحكم كقوله في سائمة الغنم زكاة

في معلوفة الغنم زكاة يجوز تخصيص إحداهما بالبيان دون الثانية إما لأن بيان الصورة الأخرى غير واجب أو إن كان واجبا لكنه يبينه بطريق آخر أما إذا لم يكن واجبا فذلك إما لأنه خطر ببال المتكلم أحد القسمين دون الثاني وهذا إنما يعقل في حق غير الله تعالى أو أن خطر القسمان بالبال لكن السامع يحتاج إلى بيان أحد القسمين دون الثاني كمن يملك السائمة ولا يملك المعلوفة فإنه بعد حولان الحول يحتاج إلى معرفة حكم السائمة دون حكم المعلوفة فلا جرم يحسن من الشارع أن يخص السائمة بالذكر دون المعلوفة وأما إذا وجب حكم القسمين معا فها هنا قد يكون ذكر حكم أحد القسمين دليلا على ثبوت ذلك الحكم في القسم الآخر فإنه تعالى لما منع من قتل الأولاد خشية الإملاق كان ذلك دليلا على المنع من قتلهم عند الغنى بطريق الأولى وقد لا يكون كذلك لكنه تبين حكم القسم الآخر بطريق آخر

إما بنص خاص والفائدة فيه أن إثبات الحكم باللفظ العام أضعف من إثباته بالدليل الخاص لاحتمال تطرق التخصيص إلى العام دون الخاص أو بقياس كما نص على حكم الأجناس الستة في الربا وعرفنا حكم غيرها بالقياس والمقصود أن ينال المكلف رتبة المجتهدين أو بالبقاء على حكم الأصل مثل أن يقول الشارع لا زكاة في الغنم السائمة ثم نحن ننفي الزكاة عن المعلوفة لأجل أن الأصل عدم الزكاة وإنما خص القسم الأول بالذكر لأن الاشتباه فيه أكثر فإن السائمة لما كانت أخف مئونة من المعلوفة كان احتمال وجوب الزكاة في السائمة أظهر من احتمال وجوبها في المعلوفة فثبت أن تعليق الحكم على الصفة لا يدل على نفي ذلك الحكم عن غيرها لا بلفظه ولا بمعناه فوجب أن لا يدل أصلا فإن قيل المعتبر في الدلالة المعنوية القاطعة حصول الاستلزام قطعا وفي الدلالة المعنوية الظنية الظاهرة حصول الاستلزام ظاهرا ودعوى الاستلزام ظاهرا لا يقدح فيها عدم اللزوم في بعض الصور ألا ترى أن الغيم الرطب يدل على المطر منه ظاهرا ثم ذلك الظهور لا يبطل بعدم المطر في بعض الأوقات

إذا عرفت هذا فنحن لا ندعي إن تعليق الحكم على الصفة يدل على نفي الحكم عما عداه قطعا إنما ادعينا أنه يدل عليه ظاهرا وما ذكرتموه من تخلف هذه الدلالة في بعض الصور إنما يقدح في ذلك الظهور لو بينتم أن الاحتمالات التي ذكرتموها ها هنا مساوية في الظهور للاحتمال الذي ذكرناه وأنتم ما بينتم ذلك فيكون دليلكم خارجا عن محل النزاع والجواب تعليق الحكم على الوصف لا يدل على انتفائه عن غيره البتة أما قطعا فلما سلمتم وأما ظاهرا فلأنه لو دل عليه ظاهرا لكان صرفه إلى سائر الوجوه مخالفة للظاهر والأصل عدم ذلك وهذا القدر كاف في حصول ظن تساوي هذه الاحتمالات الدليل الثاني أن الأمر المقيد بالصفة تارة يرد مع انتفاء الحكم عن غير المذكور وهو متفق عليه وتارة مع ثبوته فيه كقوله تعالى ولا تقلوا أولادكم خشية إملاق ثم لا يجوز قتلهم لغير الإملاق وقال تعالى في قتل الصيد ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم ثم إن قتله خطأ يلزمه الجزاء أيضا وإذا ثبت هذا فنقول الاشتراك والمجاز خلاف الأصل

فوجب جعله حقيقة في القدر المشترك بين القسمين وهو ثبوت الحكم في المذكور مع قطع النظر عن ثبوته في غير المذكور ونفيه عنه الدليل الثالث هو أن ثبوت الحكم في إحدى الصورتين لا يلزمه ثبوت الحكم في الصورة الآخرى والإخبار عن ثبوت ذلك الحكم في إحدى الصورتين لا يلزمه الإخبار عنه في الصورة الآخرى فإذن الإخبار عن ثبوت الحكم في إحدى الصورتين لا يدل على حال الصورة الأخرى ثبوتا وعدما إنما قلنا أن ثبوت الحكم في إحدى الصورتين لا يلزمه الحكم في الصورة الآخرى ثبوتا وعدما لأنه لا يمتنع في العقل اشتراك الصورتين المختلفتين في بعض الأحكام فإنهما لما كانتا مختلفتين فقد اشتركتا في الاختلاف فلا يمتنع أيضا اختلافهما في بعض الأحكام وإذا ثبت الحكم في هذه الصورة لم يلزم من مجرد ثبوته فيها ثبوته في الصورة الأخرى ولا عدمه عنها

فدل على أن ثبوت الحكم في إحدى الصورتين لا يلزمه ثبوت ذلك الحكم في الصورة الأخرى ولا عدمه عنها وإنما قلنا إن الإخبار عن حكم أحدى الصورتين لا يلزمها الإخبار عن حكم الصورة الأخرى لأن إحدى الصورتين مخالفة للأخرى من بعض الوجوه والمختلفان لا يجب اشتراكهما في الحكم والعلم بذلك ضروري فلا يلزم من كون إحداهما متعلق غرض هذا الإنسان بأن يخبر عنها كون الصورة الأخرى كذلك فثبت أن الإخبار عن إحدى الصورتين لا يلزمه الإخبار عن الصورة الأخرى وإذا ثبتت هاتان المقدمتان ثبت إن الإخبار عن ثبوت الحكم في هذه الصورة لا يدل على حالة الصورة الأخرى وجودا ولا عدما وذلك هو المطلوب الدليل الرابع لو دل تخصيص الحكم بالصفة على نفيه عما عداه لدل تخصيصه بالاسم على نفيه عما عداه لكن التخصيص بالاسم لا يدل على

نفيه عما عداه فالتخصيص بالصفة وجب أن لا يدل على نفيه عما عداه بيان الملازمة أن التخصيص بالصفة لو دل على نفي الحكم عما عداه لكان إنما يدل عليه لأن التخصيص لابد فيه من غرض ونفي الحكم عما عداه يصلح أن يكون غرضا والعلم بأنه لا بد من غرض مع العلم بأن هذا المعنى يصلح أن يكون غرضا يفيد ظن أن هذا هو الغرض والعمل بالظن واجب وكل هذا المعنى موجود في التخصيص بالاسم فوجب أن يكون التخصيص بالاسم يفيد نفي الحكم عما عداه لأن الصورتين لما اشتركتا في العلة وجب اشتراكهما في الحكم ولما ثبت أن التخصيص بالاسم لا يفيد نفي الحكم عما عداه وجب في التخصيص بالصفة أن لا يدل على ذلك أيضا والله أعلم احتج المخالف بأمور الأول إن تعليق الحكم بالصفة يفيد في العرف نفيه عما عداه فوجب أن يكون في أصل اللغة كذلك إنما قلنا إنه يفيد ذلك في العرف لأن القائل إذا قال الإنسان

الطويل لا يطير واليهودي الميت لا يبصر يضحك منه ويقال إذا كان القصير لا يطير والميت الملم لا يبصر فأي فائدة للتقييد بالطويل واليهودي وأذا ثبت أنه في العرف كذلك وجب أن يكون في أصل اللغة كذلك وإلا لزم النقل وهو خلاف الأصل الثاني أن تخصيص الشئ بالذكر لا بد فيه من مخصص وإلا فقد ترجح أحد الجائزين على الآخر لا لمرجح ونفي الحكم عن غيره يصلح أن يكون مقصودا فوجب حمله عليه تكثيرا لفوائد كلام الشرع أو لأنه مناسب والمناسبة مع الاقتران دليل العلية فيغلب على الظن إن علة التخصيص هذا القدر الثالث إنا قد دللنا على أن الحكم المعلق على الصفة يشعر بكون ذلك الحكم معللا بتلك الصفة وتعليل الأحكام المتساوية بالعلل المختلفة خلاف الأصل على ما سيأتي بيانه إن شاء الله في كتاب القياس فيلزم من انتفاء هذا الوصف انتفاء الحكم والجواب عن الأول أن أهل العرف يضحكون من قول القائل زيد الطويل لا يطير وبالاتفاق إن التخصيص ها هنا لا يفيد نفي الحكم عما عداه

وللمستدل أن يقول لا نسلم أن التخصيص ها هنا لا يفيد نفي الحكم عما عداه لأن قوله زيد الطويل لا يطير تعليق للحكم بالصفة وأنه نفس محل الخلاف بل لو قال زيد لا يطير فهذا تعليق للحكم بالاسم وها هنا لا يقولون إن تعليقه على الاسم عبث بل يقولون إنه بيان للواضحات وفرق بين أن يقولوا إن هذا الكلام بيان للواضحات وبين أن يقولوا لا فائدة في ذكر هذه الصفة البتة وعلى هذا التقدير اندفع النقض وعن الثاني أنا لا نسلم أن التخصيص الصادر من القادر لا بد فيه من مخصص لأن الهارب من السبع إذا عن له طريقان فإنه يختار سلوك أحدهما دون الثاني لا لمرجح وأيضا فقد بينا أنه لا حسن ولا قبح عقلا فتخصيص الصورة المعينة بالحكم المعين تخصيص لأحد طرفي الجائز بذلك الحكم من غير مرجح وأيضا فتخصيص الله تعالى إحداث العالم بوقت معين دون ما قبله أو ما بعده تخصيص من غير مخصص

الفرع الأول في أن التخصيص بالصفة لا يدل على نفي الحكم عما عداه

وفي هذا المقام أبحاث دقيقة ذكرناها في كتبنا العقلية سلمنا أنه لا بد من فائدة ولكن سائر الوجوه التي عددناها في دليلنا الأول فوائد وأيضا فجملة الدليل منقوضة بالتخصيص بالاسم وعن الثالث لا نسلم أن تعليل الأحكام المتساوية بالعلل المختلفة خلاف الأصل وسيأتي تقريره في كتاب القياس إن شاء الله تعالى فرعان الأول القائلون بأن التخصيص بالصفة يدل على نفي الحكم عما عداه أقروا بأنه لا دلالة له في قوله تعالى وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا ولا في قوله عليه الصلاة والصلام أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها لأن الباعث على التخصيص هو العادة فإن الخلع

الفرع الثاني في أن تعليق الحكم على صفة في جنس يقتضي نفيه عما عداه

يجري غالبا إلا عند الشقاق والمرأة لا تنكح نفسها إلا عند إباء الولي فإذن لاحتمال أن يكون سبب التخصيص هو هذه العادة لم يغلب على الظن أن سببه نفي الحكم عما عداه الثاني تعليق الحكم على صفة في جنس كقوله عليه الصلاة

والسلام في سائمة الغنم زكاة يقتضي نفيه عما عداه في ذلك الجنس ولا يقتضي نفيه في سائر الأجناس وقال بعض الفقهاء من أصحابنا إنه يقتضي نفي الزكاة عن المعلوفة في جميع الأجناس لنا إن دليل الخطاب نقيض النطق فلما تناول النطق سائمة الغنم فدليله يقتضي معلوفة الغنم دون غيرها احتجوا بأن السوم يجري مجرى العلة في وجوب الزكاة ويلزم من عدم العلة عدم الحكم لأن الأصل اتحاد العلة

المسألة الحادية عشرة في أن الآمر هل يدخل تحت الأمر؟

والجواب أن المذكور سوم الغنم لا مطلق السوم فاندفع ما قالوه والله أعلم المسألة الحادية عشرة في أن الآمر هل يدخل تحت الأمر ذكر أبو الحسين البصري فيه تفصيلا لطيفا فقال هذا الباب يتضمن مسائل أولها أنه هل يمكن أن يقول الإنسان لنفسه إفعل مع انه يريد ذلك الفعل ومعلوم أنه لا شبهة في إمكانه وثانيها أن ذلك هل يسمى أمرا والحق أنه لا يسمى به لأن الاستعلاء معتبر في الأمر وذلك لا يتحقق إلا بين شخصين ومن لا يعتبر الاستعلاء فله أن يقول أن الأمر طلب الفعل بالقول من الغير فإذا لم توجد المغايرة لا يثبت اسم الأمر وثالثها أن ذلك هل يحسن أم لا والحق أنه لا يحسن لأن الفائدة من الأمر إعلام الغير كونه طالبا لذلك الفعل ولا فائدة في إعلام الرجل نفسه ما في قلبه

المسألة الثانية عشرة في الأمر الوارد عقيب الأمر

ورابعها إذا خاطب الإنسان غيره بالأمر هل يكون داخلا فيه والحق أنه إما أن ينقل أمر غيره بكلام نفسه أو بكلام ذلك الغير أما الأول فإن كان يتناوله دخل فيه وإلا لم يدخل فيه مثال الأول أن نقول إن فلانا يأمرنا بكذا ومثال الثاني أن نقول إن فلانا يأمركم بكذا وأما الثاني فكقوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم فهذا يدخل الكل فيه لأن ذلك خطاب مع جملة المكلفين فيتناولهم بأسرهم إلا من خصه الدليل والله أعلم المسألة الثانية عشرة في الأمر الوارد عقيب الأمر بحرف العطف وبغير حرف العطف القائل إذا قال لغيره إفعل ثم قال له إفعل لم يخل الأمر الثاني إما أن يتناول مخالف ما يتناوله الأمر الأول أو مماثله فإن تناول ما يخالفه اقتضى شيئا آخر لا محالة وهو ضربان أحدهما يصح اجتماعه مع الأول والآخر لا يصح فالذي يصح اجتماعه مع الآول يجب على المأمور فعلهما إما مجتمعين أو مفرقين إلا أن تدل دلالة منفصلة على وجوب الجمع أو

وجوب التفريق مثاله قول القائل لغيره صل صم وأما ما لا يصح أن يجتمع مع الأول فتارة لا يصح عقلا كالصلاة الواحدة في مكانين وتارة لا يصح سمعا كالصلاة والصدقة وكلا القسمين لا يصح الأمر بفعلهما إلا مفترقين أما إذا تناول الأمر الثاني مثل ما تناوله الأمر الأول فلا يخلو إما أن يكون ذلك المأمور به يصح التزايد فيه أو لا يصح فإن صح فإما أن يكون الأمر الثاني غير معطوف على الأول أو يكون معطوفا عليه فإن لم يكن معطوفا عليه فعند القاضي عبد الجبار ابن احمد أنه يفيد غير ما يفيده الأول إلا أن تمنع العادة من ذلك أو يرد الأمر الثاني معرفا وهذا هو المختار وقال أبو الحسين البصري الأشبه الوقف مثال ما تمنع منه العادة قول القائل لغيره إسقني ماء اسقني ماء فالعادة تمنع من تكرار سقيه في حالة واحدة في الأكثر ومثال ما يمنع منه التعريف الحاصل بالأمر الثاني قول القائل

لغيره صل ركعتين فإنه إذا قال له صل الصلاة انصرف إلى تلك الركعتين لأن لام الجنس تنصرف إلى العهد المذكور ومثال ما يعرى عن كلا القسمين قول القائل لغيره صل غدا ركعتين صل غدا ركعتين والدليل على أنه يفيد غير ما يفيد الأول وجهان الأول أن الأمر يقتضي الوجوب والفعل الأول وجب بالأمر الأول فيستحيل وجوبه بالأمر الثاني لأن تحصيل الحاصل محال فلو انصرف الأمر الثاني إلى الفعل الأول لزم حصول ما يقتضي الوجوب من غير حصول الأثر وذلك غير جائز فوجب صرفه إلى فعل آخر الثاني أنا لو صرفنا الأمر الثاني إلى عين ما هو متعلق الأمر الأول لكان الأمر الثاني تأكيدا ولو صرفناه إلى غيره لأفاد فائدة زائدة وإذا وقع التعارض بين أن يفيد الكلام فائدة أصلية وبين أن يفيد تأكيدا فلا شك حمله على ألأول أولى وأما إن كان الأمر الثاني معطوفا على الأول فإن لم يكن معرفا فإنه يفيد غير ما يفيده الأول لأن الشئ لا يعطف على نفسه مثاله أن يقول القائل لغيره صل ركعتين وصل ركعتين

فأما إن كان الثاني معطوفا على الأول ومعرفا كقول القائل لغيره صل ركعتين وصل الصلاة فعند أبي الحسين أن الأشبه هو الوقف فإنه يمكن أن يقال يجب حمله على تلك الصلاة لأجل لام التعريف ويمكن أن يقال بل يجب حمله على صلاة أخرى لأجل العطف وليس أحدهما بأولى من الآخر فوجب التوقف وعندي أن هذا الأخير أولى لأن لام الجنس قد تكون لتعريف الماهية كما قد تكون لتعريف المعهود السابق وبتقدير أن تكون للمعهود السابق فيمكن أن يكون المعهود السابق هو الصلاة التي تناولها الأمر الأول ويمكن أن تكون صلاة أخرى تقدم ذكرها وإذا كان كذلك بقي العطف سليما عن المعارض أما إذا كان الثاني أمرا بمثل ما تناوله الأمر وكان ذلك مما لا يصح فيه التزايد في المأمور به فلا يخلو إما أن يمتنع ذلك

عقلا كقتل زيد وصوم يوم أو يمتنع ذلك شرعا كعتق زيد فإنه قد كان يجوز أن يتزايد عتقه ويقف تمام حريته على عدد كالطلاق وإذا لم يصح التزايد في المأمور به لم يخل الأمران إما أن يكونا عامين أو خاصين أو يكون أحدهما عاما والآخر خاصا فإن كانا عامين أو خاصين وجب أن يكون مأمورهما واحدا وأن يكون الأمر التالي تأكيدا للأول سواء ورد مع حرف العطف أو بدونه مثال العامين بحرف عطف قول القائل لغيره أقتل كل إنسان واقتل كل إنسان ومثاله بلا حرف عطف أن يسقط من الأمر الثاني حرف العطف ومثاله الخاصين بحرف عطف وبغير حرف عطف قوله اقتل زيدا واقتل زيدا اقتل زيدا اقتل زيدا وأما إذا كان أحدهما عاما والآخر خاصا سواء تقدم العام أو الخاص فالأمر الثاني إما أن يكون معطوفا على الأول أو غير معطوف عليه فإن كان معطوفا عليه فمثاله قول القائل صم كل يوم وصم يوم الجمعة

فقال بعضهم إن يوم الجمعة لا يكون داخلا تحت الكلام الأول ليصح حكم العطف والأشبه الوقف لأنه ليس ترك ظاهر العموم أولى من ترك ظاهر العطف وحمله على التأكيد وأما إذا كان الأمر الثاني غير معطوف فمثاله قول القائل صم كل يوم صم يوم الجمعة فها هنا عموم أحد الأمرين دليل على أن الآخر ورد تأكيدا لأنه لم يبق من ذلك الجنس شئ لم يدخل تحت العام والله أعلم

القسم الثاني في المسائل المعنوية والنظر فيها في أمور أربعة

القسم الثاني في المسائل المعنوية والنظر فيها في أمور أربعة

النظر الأول في أقسام الوجوب

النظر الأول في الوجوب والبحث إما عن أقسامه أو أحكامه أما أقسامه فاعلم أنه بحسب المأمور به ينقسم إلى معين وإلى مخير وبحسب وقت المأمور به إلى مضيق وموسع وبحسب المأمور إلى واجب على التعيين وواجب على الكفاية المسألة الأولى قالت المعتزلة الأمر بالأشياء على التخيير يقتضي وجوب الكل على التخيير وقالت الفقهاء الواجب واحد لا بعينه واعلم أنه لا خلاف في المعنى بين القولين لأن المعتزلة قالوا المراد من قولنا الكل واجب على البدل هو إنه لا يجوز للمكلف الإخلال

بجميعها ولا يلزمه الجمع بينها ويكون فعل كل واحد منها موكولا إلى اختياره والفقهاء عنوا بقولهم الواجب واحد لا بعينه هذا المعنى بعينه فلا يتحقق الخلاف أصلا بل ها هنا مذهب يرويه أصحابنا عن المعتزلة ويرويه المعتزلة عن أصحابنا واتفق الفريقان على فساده وهو أن الواجب واحد معين عند الله تعالى غير معين عندنا إلا أن الله تعالى علم أن المكلف لا يختار إلا ذلك الذي هو واجب عليه والدليل على فساد هذا القول أن التخيير معناه أن الشرع جوز له

ترك كل واحد منها بشرط الإتيان بالآخر وكونه واجبا على التعيين عند الله تعالى معناه أنه تعالى منعه من تركه على التعيين والجمع بين جواز الترك وعدم جوازه متناقض فسح ما ادعيناه أنه يمتنع أن يكون كل واحد منها واجبا على التعيين فان قلت لا نسلم أن التخيير ينافي تعيينه عند الله تعالى بيانه أن الله تعالى وإن خير بين الكفارات لكنه علم أن المكلف لا يختار إلا ذلك الذي هو واجب فلا يحصل الإخلال بالواحب أو نقول لم لا يجوز أن يقال إن لاختيار المكلف تأثيرا في كون ذلك الفعل المختار واجبا أو نقول لا يمتنع أن يكون ما عدا ذلك الفعل المعين مباحا ويسقط به الفرض كما يقولون إن الإتيان بالفعل المحظور قد يسقط به الفرض كالصلاة في الدار المغصوبة قلت الجواب عن الأول أن الله تعالى لما خيرنا بين الأمرين فقد أباح لنا ترك كل واحد منهما بشرط الإتيان بالثاني ووجوبه على التعيين معناه

أنه تعالى لم يجوز لنا تركه البتة فلو خير الله تعالى بينه وبين غيره مع أنه جعله واجبا على التعيين لكان قد جمع بين جواز الترك وبين المنع منه أما قوله إن لاختيار المكلف تأثيرا قلت لا نزاع في تحقق الوجوب قبل الاختيار فمحل الوجوب إن كان واحدا معينا فهو باطل لأن التخيير ينافي التعيين وإن كان واحدا غير معين فهو محال لأن الواحد الذي يفيد كونه غير معين ممتنع الوجود وما يكون ممتنع الوجود يمتنع أن يقع التكليف بفعله وإن كان الواجب هو الكل بشرط التغيير فذاك هو المطلوب قوله لم لا يجوز أن يسقط الواجب بفعل مال ليس بواجب قلنا لأن الأمة أجمعت على أن الآتي بواحدة من الخصال الثلاث المشروعة في الكفارة لو كفر بغيرها من الثلاث لأجزأته ولكان فاعلا لما وقع التكليف به وذلك يبطل ما ذكروه واحتج المخالف بأن لفعل الواجب أثرا ولتركه أثرا وكلا الأثرين يدلان على أن الواجب واحد

أما طرف الفعل فقالوا هذا الفعل له صفات كونه بحيث يسقط الفرض به وكونه واجبا وكونه بحيث يستحق عليه ثواب الواجب وكونه الواجب وكونه بحيث ينوى بفعله أداء الواجب وكل هذه الصفات تقتضي أن يكون الواجب واحدا معينا فأولها سقوط الفرض فقالوا لو لم يكن الواجب واحد معينا لكان المكلف إذا أتى بكلها دفعة واحدة فإما أن يكون سقوط الفرض معللا بكل واحد منها فيكون قد اجتمع على الأثر الواحد مؤثران مستقلان وذلك محال لأن ذلك الأثر مع أحد المؤثرين يصير واجب الوجود بذاته وواجب الوجود بذاته يستحيل أن يكون واجب الوجود بغيره فهو مع هذا المؤثر يمتنع أن يكون معللا بالمؤثر الثاني ومع المؤئر الثاني يمتنع أن يكون معللا بالمؤثر الأول فإذا وجد المؤثران معا يلزم أن يستغنى بكل واحد منهما عن كل واحد منهما فيكون محتاجا إليهما معا وغينا عنهما معا وذلك محال وإما أن يكون سقوط الفرض بالمجموع فذلك محال لأنه يلزم أن يكون المجموع واجبا وقد فرضنا الإتيان بالكل غير واجب

وإما أن يكون سقوط الفرض بواحد منها فذلك الواحد إما أن يكون معينا غير معين والأول باطل لأن الأثر المعين يستدعي مؤثرا معينا موجودا وكل موجود فهو في نفسه معين ولا إبهام البتة في الوجود الخارجي إنما الإبهام في الذهن فقط وإذا امتنع وجود واحد غير معين امتنع الإتيان به وإذا امتنع الإتيان به امتنع أن يكون الإتيان به علة لسقوط الفرض ولما بطل هذا ثبت أن علة سقوط الفرض هو الإتيان بواحد منها عند الله تعالى وهو المطلوب وثانيها كونه واجبا فإذا أتى المكلف بكلها فإما أن يكون المحكوم عليه بالوجوب مجموعها أو كل واحد منها وعلى التقديرين يلزم أن يكون الكل واجبا على التعيين لا على التخيير وهو باطل أو واحدا غير معين وهو باطل لأن غير المعين يمتنع وجوده فيمتنع إيجابه أو واحدا معينا في نفسه غير معلوم لنا وهو المطلوب

وثالثها أن يستحق عليه ثواب الواجب فإذا أتى المكلف بكلها فإما أن يستحق ثواب الواجب على كل واحد منها أو على مجموعها وعلى التقديرين يلزم أن يكون الكل واجبا على التعيين وإما أن لا يستحق ثواب الواجب منها إلا على واحد فذلك الواحد إما أن يكون معينا أو غير معين والثاني محال لأن استحقاق ثواب الواجب على فعله حكم ثابت له معين والحكم الثابث المعين يستدعي محلا معينا ولأن فعل شئ غير معين محال فعلمنا أن ذلك الواحد معين في نفسه غير معلوم للمكلف وربما أوردوا هذا الكلام على وجه آخر وهو أنه إذا أتى بالكل فإما أن ينوي الوجوب في فعل كل واحد أو في فعل واحد دون الباقي وتمام التقرير كما تقدم وأما طرف الترك فأثره استحقاق العقاب فالمكلف إذا أخل بها بأسرها فإما أن يستحق العقاب على ترك كل واحد منها فيكون فعل كل واحد منها واجبا على التعيين هذا خلف أو على ترك واحد منها وهو إما أن يكون معينا أو غير معين والثاني محال أما أولا فلأنه إذا لم يتميز واحد منها عن الآخر بصفة الوجوب كان

إسناد استحقاق العقاب إلى واحد منها دون الآخر ترجيحا لأحد طرفي الجائز على الآخر لمرجح وهو محال وأما ثانيا فلأن استحقاق العقاب على الترك حكم معين فيستدعي محلا معينا لاستحالة قيام المعين بغير المعين وأما ثالثا فلأن استحقاق العقاب على الترك يستدعي إمكان الفعل ولا إمكان لفعل شئ غير معين ولما بطل هذا القسم ثبت أنه معلل بترك واحد معين عند الله تعالى وهو المطلوب وأما الذين زعموا أن الواجب واحد غير معين فقد احتجوا عليه بأن الإنسان إذا عقد على قفيز من صبرة فالمعقود عليه قفيز واحد لا بعينه وإنما يتعين باختيار المشتري أخذ قفيز منها فقد صار الواحد الذي ليس بمتعين في نفسه معينا باختيار المكلف وكذا إذا طلق زوجة من زوجاته لا بعينها أو أعتق عبدا من عبيده لا بعينه وكذا القول في عقد الإمامة لرجلين دفعة واحدة والخاطبين

لامرأة واحدة فإن الجمع فيه حرام والجواب عن الأول أنه يسقط الفرض عندنا بكل واحد منها قوله يلزم أن يجتمع على الأثر الواحد مؤثرات مستقلة قلنا هذه الأسباب عندنا معرفات لا موجبات ولا يمتنع أن يجتمع على المدلول الواحد معرفات كثيرة وعن الثاني إن أردت بقولك هي واجبة كلها أنه يلزم فعلها بعد أن صارت مفعولة فذلك محال وغير لازم ولا يبقى بعد هذا إلا أن يقال إنها قبل دخولها في الوجود هل كانت بحيث يجب تحصيلها إما على الجمع أو على البدل وجوابنا أن نقول أما الجمع فلا وأما البدل فنعم بمعنى أنها بعد وجودها يصدق عليها أنها كانت قبل وجودها بحيث يجب تحصيل أي واحد منها اختار المكلف بدلا عن صاحبه وذلك لا يقدح في قولنا وأيضا فهذه الشبهة والتي قبلها لازمة للمخالف إذا قال الواجب هو ما يختاره المكلف لأنه إذا أتى بالكل فقد اختار كلها فوجب أن يسقط الفرض بكل واحد منها وأن يكون كل واحد منها واجبا وحينئذ يلزمه ما أورده علينا

وعن الثالث قال بعضهم إنه يستحق ثواب الواجب على فعل أكثرها ثوابا ويمكن أن يقال إنه يستحق على فعل كل واحد منها ثواب الواجب المخير لا ثواب الواجب المعين ومعناه إنه يستحق على فعلها ثواب فعل أمور كان له ترك كل واحد منها بشرط الإتيان بالآخر لا ثواب فعل أمور كان يجب عليه الإتيان بكل واحد منها على التعيين وعلى هذا التقدير يسقط السؤال وهو الجواب عن قوله كيف ينوي وعن الرابع قال بعضهم يستحق عقاب أدونها عقابا ويمكن أن يقال لم لا يجوز أن يستحق العقاب على ترك مجموع أمور كان المكلف مخيرا بين ترك أي واحد منها كان بشرط فعل الآخر وعن الخامس أنه ليس العقد بأن يتناول قفيزا من الصبرة أولى من أن يتناول القفيز الآخر لفقدان الاختصاص فوجب أن يكون كل قفيز منها قد تناوله العقد لكن على سبيل البدل عل معنى أن كل واحد منها لا اختصاص لذلك العقد به على التعيين وللمشتري أن يختار أي قفيز شاء وإذا اختاره تعين ملكه فيه فتعين الملك في القفيز المعين كسقوط الفرض في الكفارة

وكذا إذا طلق زوجة من زوجاته لا بعينها أو أعتق عبدا من عبيده لا بعينه أن كل واحدة منهن طالق على البدل وكل واحد منهم يعتق على البدل على معنى أنه لا اختصاص للطلاق أو العتق بواحد معين وأن أي امرأة اختار مفارقتها تعينت الفرقة عليها وحلت له الأخرى وأي عبد اختار عتقه تعينت فيه الحرية وكان له استخدام الباقين والله أعلم فرع الأمر بالأشياء قد يكون على الترتيب وقد يكون على البدل وعلى التقديرين قد يكوة أحمد الجمع محرما ومباحا ومندوبا مثال المحرم في الترتيب أكل الميتة وأكل المباح وفي البدل تزويج المرأة من كفئين ومثال المباح في الترتيب الوضوء والتيمم وفي البدل ستر العورة بثوب بعد ثوب ومثال المندوب في الترتيب الجمع بين خصال كفارة الفطر وفي البدل الجمع بين خصال كفارة الحنث والله أعلم

المسألة الثانية في الواجب الموسع

المسألة الثانية الفعل بالنسبة إلى الوقت يكون على أحد وجوه ثلاثة الأول أن يكون الفعل فاضلا عن الوقت والتكليف بذلك لا يجوز إلا إذا جوزنا تكليف ما لا يطاق أو يكون المقصود إيجاب القضاء كما إذا طهرت الحائض أو بلغ الغلام وبقي من وقت الصلاة مقدار ركعة أو أقل والثاني أن لا يكون أزيد ولا أنقص نحو الأمر بإمساك كل اليوم وهذا لا إشكال فيه والثالث أن يكون الوقت فاضلا عن الفعل وهذا هو الواجب الموسع واختلف الناس فيه

فمنهم من أنكره وزعم أن الوقت لا يمكن أن يزيد على الفعل ومنهم من سلم جوازه أما الأولون فقد اختلفوا فيه على ثلاثة أوجه أحدها قول من قال من أصحابنا إن الوجوب مختص بأول الوقت وأنه لو أتى به في آخر الوقت كان قضاء وثانيها قول من قال من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله إن الوجوب مختص بآخر الوقت وأنه لو أتى به في أول الوقت كان جاريا مجرى ما لو أتى بالزكاة قبل وقتها وثالثها ما يحكى عن الكرخي أن الصلاة المأتي بها في أول الوقت موقوفة فإن أدرك المصلي آخر الوقت وليس هو على صفة المكلفين كان ما فعله نفلا وإن أدركه على صفة المكلفين كان ما فعله واجبا وأما المعترفون بالواجب الموسع وهم جمهور أصحابنا وأبو علي وأبو هاشم وأبو الحسين البصري فقد اختلفوا فيه على وجهين

منهم من قال الوجوب متعلق بكل الوقت إلا أنه إنما يجوز ترك الصلاة في أول الوقت إلى بدل هو العزم عليها وهو قول أكثر المتكلمين وقال قوم لا حاجة إلى هذا البدل وهو قول أبي الحسين البصري وهو المختار لنا والدليل على تعلق الوجوب بكل الوقت أن الوجوب مستفاد من الأمر والأمر تناول الوقت ولم يتعرض البتة لجزء من أجزاء الوقت لأنه لو دل الأمر على تخصيصه ببعض أجزاء ذلك الوقت لكان ذلك غير هذه المسألة التي نحن نتكلم فيها وإذا لم يكن في الأمر دلالة على تخصيص ذلك الفعل بجزء من أجزاء ذلك الوقت وكان كل جزء من أجزاء الوقت قابلا له وجب أن يكون حكم ذلك الأمر هو إيجاب إيقاع ذلك الفعل في أي جزء من أجزاء ذلك الوقت أراده المكلف وذلك هو المطلوب فإن قيل لا نسلم إمكان تحقق الوجوب في أول الوقت والتمسك بلفظ الأمر إنما يكون إذا لم يثبت بالدليل العقلي امتناعه وها هنا قد ثبت ذلك لأن كونه واجبا في ذلك الوقت معناه أن

المكلف ممنوع من أن لا يوقعه فيه والمكلف غير ممنوع من أن لا يوقع الصلاة في أول الوقت وإذا كان كذلك استحال كون الصلاة واجبة في أول الوقت وإذا تعذر حمل الأمر على الوجوب وجب حمله على الندب فإن قلت الفرق بينه وبين المندوب من وجهين الأول أن هذه الصلاة لا يجوز تركها مطلقا والمندوب يجوز تركه مطلقا والثاني أن هذه الصلاة إنما يجوز تركها في أول الوقت إلى بدل وهو العزم على فعلها بعد ذلك وأما المندوب فإنه يجوز تركه مطلقا قلت الجواب عن الأول إني لا أدعي أن الصلاة ليست واجبة مطلقا بل أدعي أنها ليست واجبة في أول الوقت بدليل أنه يجوز تركها في أول الوقت فأما المنع من تركها في آخر الوقت فذلك يدل على وجوبها في آخر الوقت ولا يلزم من كون الشئ واجبا في وقت كونه واجبا في وقت آخر وعن الثاني إن العزم على الصلاة لا يجوز أن يكون بدلا عن الصلاة ويدل عليه أمور أحدها أن العزم على الصلاة إما أن يكون مساويا للصلاة في جميع الأمور المطلوبة أو لا يكون فإن كان الأول وجب أن يكون الإتيان بالعزم سببا لسقوط

التكليف بالصلاة لأن الأمر ما وقع في ذلك الوقت إلا بالصلاة مرة واحدة وهذا العزم مساو للصلاة مرة واحدة في جميع الجهات المطلوبة فيلزم سقوط الأمر بالصلاة وإن كان الثاني امتنع جعله بدلا عن الصلاة لأن بدل الشئ يجب أن يكون قائما مقامه في الأمور المطلوبة يقول وثانيها أن الموجود ليس إلا الأمر بالصلاة في هذا لاوقت والأمر بالصلاة في هذا الوقت لا دلالة فيه على إيجاب العزم فإذن لا دليل البتة على وجوب العزم وما لا دليل عليه لا يجوز التكليف به وإلا ل صار ذلك تكليف ما لا يطاق وثالثها لو كان العزم بدلا عن الصلاة فإذا أتى المكلف بالعزم في هذا الوقت ثم جاء الوقت الثاني فإما أن يجب فعل العزم مرة أخرى أو لا يجب لاجائز أن يجب لأن بدل العبادة إنما يجب علي حد وجوبها ليكون فعله جاريا مجرى فعلها ومعلوم أن الأمر إنما اقتضى وجوب فعل العبادة في أحد اجزاء هذا الوقت مرة واحدة ولم يقتضي وجوب فعلها مرة أخرى في الوقت الثاني فوجب أن يكون وجوب بدلها على هذا الوجه فثبت أنه لا يجب فعل العزم في الوقت الثاني فإذن الوقت

الثاني لا يجب فيه فعل الصلاة ولا فعل بدلها وهو هذا العزم فثبت أن جواز ترك الصلاة في هذا الوقت لا يتوقف على فعل البدل وعند هذا يجب القطع بأنها ليست واجبة بل مندوبة والجواب قوله الفعل يجوز تركه في أول الوقت فلا يكون واجبا في أول الوقت قلنا للناس ها هنا طريقان الطريق الأول وهو الأصح أن حقيقة الواجب الموسع ترجع عند البحث إلى الواجب المخير فإن الآمر كأنه قال إفعل هذه العبادة إما في أول الوقت أو في وسطه أوفي آخره وإذا لم يبق من الوقت إلا قدر ما لا يفضل عنه فافعله لا محالة ولا تتركه البتة فقولنا يجب عليه أيقاع هذا الفعل إما في هذا الوقت أو في ذاك يجري مجرى قولنا في الواجب المخير إن الواجب علينا إما هذا أو ذاك فكما أنا نصفها بالوجوب على معنى إنه لا يجوز الإخلال بجميعها ولا يجب الإتيان بجميعها والأمر في اختيار أي واحد منها مفوض إلى رأي المكلف فكذا ها هنا لا يجوز للمكلف أن لا يوقع الصلاة في شئ من أجزاء هذا الوقت ولا يجب عليه أن يوقعها في كل أجزاء هذا

الوقت وتعيين ذلك الجزء مفوض إلى رأي المكلف هذا إذا كان في الوقت فسحة فأما إذا ضاق الوقت فإنه يتضيق التكليف ويتعين فهذا هو الذي نقول به وعلى هذا التقدير لا حاجة إلى إثبات بدل هو العزم الطريق الثاني وهو اختيار أكثر الأصحاب وأكثر المعتزلة هو أن الفرق بين هذا الواجب وبين المندوب أن هذا الواجب لا يجوز تركه إلا لبدل والمندوب يجوز تركه من غير بدل قوله أولا العزم إما أن يكون قائما مقام الأصل في جميع الجهات المطلوبة أو لا يكون قلنا لم لا يجوزأن يكون قائما مقام الأصل لا في جميع الأوقات بل في هذا الوقت المعين فإذا أتى بالبدل في هذا الوقت المعين سقط عنه الآمر بالأصل في هذا الوقت ولكن لم يسقط عنه الآمر بالأصل في كل الأوقات واعلم أن هذا الجواب ضعيف لأن الأمر لا يفيد التكرار بل لا يقتضي الفعل إلا مرة واحدة فإذا صار البدل قائما مقام الأصل في هذا الوقت فقد

صار قائما مقامه في المرة الواحدة فإذا لم يكن مقتضى الأمر إلا مرة واحدة وقد قام هذا البدل مقام المرة الواحدة فقد تأدى تمام مقصود هذا الأمر بهدا البدل فوجب سقوط التكليف به بالكلية أما قوله ثانيا لا دليل على إثبات العزم قلنا لا نسلم لأن النص لما دل على الواجب الموسع ودل العقل على أنه لا يمكن إثبات الواجب الموسع إلا إذا أثبتنا له بدلا ودل الاجماع على أن ذلك البدل هو العزم لأن القائل قائلان قائل أثبت البدل وقائل ما أثبته وكل من أثبته قال إنه العزم فلو أثبتنا البدل شيئا آخر لكان ذلك خرقا للإجماع وهو باطل فثبت أن الدليل دل على وجوب العزم لكن بهذا التدريح ثم هذا لا يكون مخالفا للنص لأن النص كما لا يثبته لا ينفيه وإثبات مالا يتعرض له النص بالنفي ولا بالإثبات لا يكون مخالفة للظاهر واعلم أن هذا الجواب ضعيف فإنا نسلم أن العقل دل على أنه

لا يمكن إثبات الواجب الموسع إلا إذا أثبتنا له بدلا وذلك لأنه لا معنى للواجب الموسع إلا أن يقول السيد لعبده لا يجوز لك إخلاء أجزاء هذا الوقت عن هذا الفعل ولا يجب عليك إيقاعه في جميع هذه الأجزاء ولك أن تختار أيها شئت بدلا عن الآخر ومعلوم أنه لو قال ذلك لما احتيج معه إلى إثبات بدل آخر وأما قوله ثالثا إما أن يجب فعل العزم في الوقت الثاني أو لا يجب قلنا لم لا يجوز أن يجب وذلك لأن العزم بدل عن الفعل في الوقت الأول فيفتقر إلى عزم ثان بدلا عن الفعل في الوقت الثاني واعلم أن هذا الجواب ضعيف لأنا بينا أن الأمر لا يقتضي الفعل إلا مرة واحدة وإذا كان كذلك وجب أن يكون الإتيان بالعزم الواحد كافيا فظهر بما ذكرناه أن القول بالواجب الموسع حق وأنه لا حاجة في إثباته إلى إثبات بدل هو العزم والله أعلم فرع في حكم الواجب الموسع في جميع العمر وذلك

كالمنذورات وقضاء العبادات الفائتة وتأخير الحج من سنة إلى سنة فنقول إن جوزنا له التأخير أبدا وحكمنا بأنه لا يعصي إذا مات لم يتحقق معنى الوجوب أصلا وإن قلنا إنه يتضيق التكليف عليه عند الانتهاء إلى زمان معين من غير أن يوجد على تعيين ذلك الزمان دليل فهو تكليف ما لا يطاق فإنه إذا قيل له إن كان في علم الله تعالى أنك تموت قبل الفعل فأنت في الحال عاص بالتأخير وإن كان في علمه أنك لا تموت قبل الفعل فلك التأخير فهو يقول وما يدريني ماذا في علم الله تعالى وما فتواكم في حق الجاهل فلا بد من الجزم بالتحليل أو التحريم فلم يبق إلا أن نقول يجوز له التأخير بشرط أن يغلب على ظنه أنه يبقى بعد ذلك سواء بقي أو لم يبق فأما إذا غلب على ظنه أنه لا يبقى بعد ذلك عصى بالتأخير سواء مات أو لم يمت لأنه مأخوذ بموجب ظنه ولهذا قال أبو حنيفة رضي الله عنه لا يجوز تأخير الحج لأن البقاء إلى سنة لا يغلب على الظن

وأما تأخير الصوم والزكاة إلى شهر أو شهرين فجائز لأنه لا يغلب على الظن الموت إلى هذه المدة والشافعي رضي الله عنه يرى البقاء إلى السنة الثانية غالبا على الظن في حق الشاب الصحيح دون الشيخ والمريض والمعزر إذا غلب على ظنه السلامة فهلك ضمن لا لأنه أثم لكن لأنه في اخطأ ظنه والمخطئ ضامن غير آثم والله أعلم

المسألة الثالثة في الواجب على سبيل الكفاية

المسألة الثالثة في الواجب على سبيل الكفاية الأمر إذا تناول جماعة فإما أن يتناولهم على سبيل الجمع أولا على سبيل الجمع فإن تناولهم على سبيل الجمع فقد يكون فعل بعضهم شرطا في فعل البعض كصلاة الجمعة وقد لا يكون كذلك كما في قوله تعالى وأقيموا الصلاة أما إذا تناول الجميع فذلك من فروض

الكفايات وذلك إذا كان الغرض من ذلك الشئ حاصلا بفعل البعض كالجهاد الذي الغرض منه حراسة المسلمين وإذلال العدو فمتى حصل ذلك بالبعض لم يلزم الباقين واعلم أن التكليف فيه موقوف على حصول الظن الغالب فإن غلب على ظن جماعة أن غيرها يقوم بذلك سقط عنها وإن غلب على ظنهم أن غيرهم لا يقوم به وجب عليهم وإن غلب على ظن كل طائفة أن غيرهم لا يقوم به وجب على كل طائفة القيام به وإن غلب على ظن كل طائفة أن غيرهم يقوم به سقط الفرض عن كل واحدة من تلك الطوائف وإن كان يلزم منه أن لا يقوم به أحد لأن تحصيل العلم بأن غيري هل فعل هذا الفعل أم لا غير ممكن إنما الممكن تحصيل الظن والله أعلم

النظر الثاني في أحكام الوجوب وفيه مسائل

النظر الثاني في أحكام الوجوب وفيه مسائل المسألة الأولى الأمر بالشئ أمر بما لا يتم الشئ إلا به بشرطين أحدهما أن يكون الأمر مطلقا والآخر أن يكون الشرط مقدورا للمكلف وقالت الواقفية إن كانت مقدمة المأمور به سببا له كان إيجاب المسبب إيجابا للسبب لأن عند حصول السبب يجب المسبب فيمتنع أن يوجب المسبب عند اتفاق وجود السبب أما إذا كانت المقدمة شرطا فحينئذ لا يكون المشروط واجب الحصول عند حصول الشرط فها هنا لا يكون الأمر بالمشروط أمرا بالشرط كالصلاة مع الوضوء لنا أن الأمر اقتضى إيجاب الفعل على كل حال ولا يستقر وجوبه على هذا الوجه إلا ومقدمته واجبة إنما قلنا أن الأمر اقتضى إيجاب الفعل على كل حال لأنه لا فرق

بين قوله أوجبت عليك الفعل في هذا الوقت وبين قوله لا ينبغي أن يخرج هذا الوقت إلا وقد أتيت بذلك الفعل في كون كل واحد من هذين اللفظين دليلا على الإيجاب على كل حال وإنما قلنا إن إيجاب الفعل على كل حال يقتضي إيجاب مقدمته لأنه لو لم يقتض ذلك لكان مكلفا حال عدم المقدمة وذلك تكليف ما لا يطاق فإن قيل لم لا يجوز أن يقال إنه أمر بالفعل بشرط حصول المقدمة غاية ما في الباب أن يقال هذا مخالفة للظاهر لأن اللفظ يقتضي إيجاب الفعل على كل حال فتخصيص الإيجاب بزمان حصول الشرط خلاف الظاهر لكنا نقول كما أن تخصيص الإيجاب بزمان حصول الشرط خلاف الظاهر فكذا إيجاب المقدمة مع أن الظاهر لا يقتضي وجوبها خلاف الظاهر وليس تحمل إحدى المخالفتين ب أولى من تحمل الآخرى فعليكم بالترجيح والجواب قوله لم لا يجوز أن يقال إن هذا الأمر أمر بالفعل بشرط حصول المقدمة

قلنا هذا يبطل بأمر الولى غلامه بأن يسقيه الماء إذا كان الماء على مسافة منه لأنه إن كان كلفه سقي الماء بشرط أن يكون قد قطع المسافة وجب إذا قعد في مكانه ولم يقطع المسافة أن لا يتوجه عليه الأمر بالسقي وإن كان مكلفا بالسقي مع عدم قطع المسافة فهذا تكليف ما لا يطاق فكل ما هو جواب الخصم فهو جوابنا ها هنا قوله ليس تحمل إحدى المخالفتين أولى من تحمل الثانية قلنا مخالفة الظاهر هي إثبات ما ينفيه اللفظ أو نفي ما يثبته اللفظ فأما إثبات ما لا يتعرض اللفظ له لا بنفي ولا إثبات فليس مخالفة للظاهر والمقدمة لا يتعرض اللفظ لها لا بنفي ولا إثبات فلم يكن إيجابها لدليل منفصل مخالفة للظاهر وليس كذلك إذا خصصنا وجوب الفعل بحال وجود المقدمة دون حال

الفرع الأول في أقسام ما لا يتم الواجب إلا به

عدمها لأن ذلك يخالف ما يقتضيه اللفظ من وجوب الفعل على كل حال فروع الأول اعلم أن ما لا يتم الواجب إلا معه ضربان أحدهما كالوصلة والطريق المتقدم على العبادة والآخر ليس كذلك والأول ضربان أحدهما ما يجب بحصوله حصول ما هو طريق إليه والآخر لا يجب ذلك فيه أما الأول فكما إذا أمر الله تعالى بإيلام زيد فإنه لا طريق إليه إلا الضرب فهو يستلزم الألم في البدن الصحيح وأما الثاني فضربان أحدهما يحتاج الواجب إليه شرعا والآخر يحتاج إليه عقلا أما الأول فكحاجة الصلاة إلى تقديم الطهارة

وأما الثاني فكالقدرة والآلة وقطع المسافة إلى أقرب الأماكن وهذا على قسمين منه ما يصح من المكلف تحصيله كقطع المسافة وإحضار بعض الآلات ومنه مالا يصح منه كالقدرة وأما الذي لا يكون كالوصلة فضربان أحدهما أن يصير فعله لازما لأن المأمور به اشتبه به وهو كما إذا ترك الإنسان صلاة من الصلوات الخمس لا يعرفها بعينها فيلزمه فعل الخمس لأنه لا يمكن مع الالتباس أن يحصل له يقين الإتيان بالصلاة المنسية إلا بفعل الكل وثانيهما أن لا يتمكن من استيفاء العبادة إلا بفعل شئ آخر لأجل ما بينهما من التقارب نحو ستر جميع الفخذ فإنه لا يمكن إلا مع ستر بعض الركبة وغسل كل الوجه لا يمكن إلا مع غسل جزء من الرأس وأما الترك فهو أن يتعذر عليه ترك الشئ إلا عند ترك غيره وذلك إذا كان الشئ ملتبسا بغيره وهو ضربان أحدهما أن يكون قد تغير في نفسه

والآخر أن لا يكون قد تغير في نفسه فالأول نحو اختلاط النجاسة بالماء الظاهر وللفقهاء فيه اختلافات غير لائقة بأصول الفقه وأما الذي لا يتغير مع الالتباس فإنه يشتمل على مسائل منها أن يشتبه الإناء النجس بالإناء الطاهر والفقهاء اختلفوا في جواز التحري فيه ومنها أن يوقع الإنسان الطلاق على امرأة من نسائه بعينها ثم يذهب عليه عينها والأقوى تحريم الكل تغليبا للحرمة على الحل

الفرع الثاني فيما إذا اختلطت منكوحة بأجنبية

الفرع الثاني قال قوم إذا اختلطت منكوحة بأجنبية وجب الكف عنهما لكن الحرام هي الأجنبية والمنكوحة حلال وهذا باطل لأن المراد من الحل رفع الحرج والجمع بينه وبين التحريم متناقض فالحق أنهما حرامان لكن الحرمة في إحداهما بعلة كونها أجنبية وفي الأخرى بعلة الاشتباه بالأجنبية أما إذا قال لزوجتيه إحداكما طالق فيحتمل أن يقال بحل وطئهما لأن الطلاق شئ متعين فلا يحصل إلا في محل متعين فقبل التعيين لا يكون الطلاق نازلا في واحدة منهما فيكون الموجود قبل التعيين ليس الطلاق بل أمرا له صلاحية التأثير في الطلاق عند اتصال البيان به وإذا ثبت أن قبل التعيين لم يوجد الطلاق وكان الحل موجودا وجب القول ببقائه فيحل وطؤهما معا ومنهم من قال حرمتا جميعا إلى وقت البيان تغليبا لجانب الحرمة

الفرع الثالث في الواجب الذي لا يتقدر بقدر معين

فإن قلت لما وجب عليه التعيين والله تعالى يعلم ما سيعينه فتكون هي المحرمة والمطلقة بعينها في علم الله تعالى وإنما هو مشتبه علينا قلت الله تعالى يعلم الأشياء على ماهي عليه فلا يعلم غير المتعين متعينا لأن ذلك جهل وهو في حق الله تعالى محال بل يعلمه غير متعين في الحال ويعلم أنه في المستقبل سيتعين الفرع الثالث اختلفوا في الواجب الذي لا يتقدر بقدر معين كمسح الرأس والطمأنينة في الركوع إذا زاد على قدر الزيادة هل توصف الزيادة بالوجوب والحق لا لأن الواجب هو الذي لا يجوز تركه وهذه الزيادة يجوز تركها فلا تكون واجبة

المسألة الثانية الأمر بالشئ نهي عن ضده

المسألة الثانية في أن الأمر بالشئ نهي عن ضده اعلم أنا لا نريد بهذا أن صيغة الأمر هي صيغة النهي بل المراد أن الأمر بالشئ دال على المنع من نقيضه بطريق الالتزام وقال جمهور المعتزلة وكثير من أصحابنا إنه ليس كذلك لنا إن ما دل على وجوب الشئ دل على وجوب ما هو من ضروراته إذا كان مقدورا للمكلف على ما تقدم بيانه في المسألة الأولى والطلب الجازم من ضروراته المنع من الإخلال به فاللفظ الدال على الطلب الجازم وجب أن يكون دالا على المنع من الإخلال به بطريق الالتزام ويمكن أن يعبر عنه بعبارة أخرى فيقال إما أن يمكن أن يوجد مع الطلب الجازم الإذن بالإخلال أو لا يمكن فإن كان الأول كان جازما بطلب الفعل ويكون قد أذن في الترك وذلك متناقض وإن كان الثاني فحال وجود هذا الطلب كان الإذن في الترك ممتنعا ولا معنى لقولنا الأمر بالشئ نهي عن ضده إلا هذا فإن قيل لا نسلم أن الطلب الجازم من ضروراته المنع من الإخلال وبيانه من وجهين

الأول أن الأمر بالمحال جائز فلا استبعاد في أن يأمر جزما بالوجود وبالعدم معا الثاني أن الآمر بالشئ قد يكون غافلا عن ضده والنهي عن الشئ مشروط بالشعور به فالآمر بالشئ حال غفلته عن ضد ذلك الشئ يمتنع أن يكون ناهيا عن ذلك الضد فضلا عن أن يقال هذا الأمر نفس ذلك النهي والجواب قوله الأمر بالمحال جائز قلنا هب أنه جائز ولكن لا تتقرر ماهية الإيجاب في الفعل إلا عند تصور المنع من تركه فكان اللفظ الدال على الإيجاب دالا على المنع من الإخلال به ضمنا قوله قد يأمر بالشئ حال غفلته عن ضده قلنا لا نسلم أنه يصح منه إيجاب الشئ عند الغفلة عن الإخلال به وذلك لأن الوجوب ماهية مركبة من قيدين أحدهما المنع من الترك فالمتصور للإيجاب متصور للمنع من الترك فيكون متصورا للترك لا محالة وأما الضد الذي هو المعنى الوجودي المنافي فقد يكون مفغولا

المسألة الثالثة ليس من شرط الوجوب تحقق العقاب على الترك

علي عنه ولكنه لا ينافي الشئ لماهيته بل لكونه مستلزما عدم ذلك الشئ فالمنافاة بالذات ليست إلا بين وجود الشئ وعدمه وأما المنافاة بين الضدين فهي بالعرض فلا جرم عندنا الأمر بالشئ نهي عن الإخلال به بالذات ونهي عن أضداده الوجودية بالعرض والتبع سلمنا أن الترك قد يكون مغفولا عنه لكن كما أن الأمر بالصلاة أمر بمقدمتها وإن كانت تلك المقدمة قد تكون مغفولا عنها فلم لا يجوز أن كون الأمر بالشئ نهيا عن ضده وإن كان ذلك الضد مغفولا عنه سلمنا كل ما ذكرتموه لكن لم لا يجوز أن يقال الأمر بالشئ يستلزم النهي عن ضده بشرط أن لا يكون الآخر آمرا بما لا يطاق وبشرط أن لا يكون غافلا عن الضد ولا استبعاد في أن يستلزم شئ شيئا عند حصول شرط خاص وأن لا يستلزمه عند عدم ذلك الشرط المسألة الثالثة في أنه ليس من شرط الوجوب تحقق العقاب على الترك

هذا هو المختار وهو قول القاضي أبي بكر خلافا للغزالي لنا وجهان الأول أنه لو كان كذلك لكان حيث تحقق العفو لم يتحقق الوجوب وذلك باطل على قولنا بجواز العفو عن أصحاب الكبائر والثاني أن ماهية الوجوب تتحقق عند المنع من الإخلال بالفعل وذلك يكفي في تحققه ترتب الذم على الترك ولا حاجة إلى ترتب العقاب على الترك والعجب أن الغزالي إنما أورد هذه المسألة بعد أن زيف ما قيل في حد الواجب أنه الذي يعاقب على تركه وذكر أن الأولى أن يقال الواجب هو الذي يذم تاركه وهذا منه اعتراف بأن الواجب لا يتوقف تقرر ماهيته على العقاب وأنه يكفي في تحققه استحقاق الذم ثم ذكر عقيبه فلا فصل هذه المسألة

المسألة الرابعة إذا نسخ الوجوب بقي الجواز

وذكر أن ماهية الوجوب لا تتحقق إلا بترجيح الفعل على الترك والترجيح لا يحصل إلا بالعقاب ولا شك أنه مناقضة ظاهرة المسألة الرابعة الوجوب إذا نسخ بقي الجواز خلافا للغزالي لنا أن المقتضي للجواز قائم والمعارض الموجود لا يصلح مزيلا فوجب بقاء الجواز إنما قلنا أن المقتضى للجواز قائم لأن الجواز جزء من الوجوب والمقتضى للمركب مقتض لمفرداته وإنما قلنا إن الجواز جزء من الوجوب لأن الجواز عبارة عن رفع الحرج عن الفعل والوجوب عبارة عن رفع الحرج عن الفعل مع إثبات الحرج في الترك ومعلوم أن المفهوم الأول من المفهوم الثاني

وإنما قلنا إن المقتضى للمركب مقتض لمفرداته لأنه ليس المركب إلا عين تلك المفردات فالمقتضى للمركب مقتض لتلك المفردات فإن قلت المقتضى للمركب مقتض لتلك المفردات حال اجتماعها فلم قلت إنه يكون مقتضيا لها حال انفرادها قلت تلك المفردات من حيث هي غير ومن حيث إنها مفردة غير وأنا لاأدعي حتى أنها من حيث هي مفردة داخلة في المركب وكيف يقال ذلك فيه وقيد الانفراد يعاند قيد التركيب وأحد المعاندين لا يكون داخلا في الآخر ولكنني أدعي أنها من حيث هي داخلة في المركب فيكون المقتضى للمركب مقتضيا تلك المفردات من حيث إنها هي لا من حيث إنها مفردة

وإنما قلنا إن المعارض الموجود لا يصلح مزيلا لأن المعارض يقتضي زوال الوجوب والوجوب ماهية مركبة والماهية المركبة يكفي في زوالها زوال أحد قيودها فزوال الوجوب يكفي فيه إزالة الحرج عن الترك ولا حاجة فيه إلى إزالة جواز الفعل فثبت أن المقتضي للجواز قائم والمعارض لا يصلح مزيلا فإن قيل الجواز الذي جعلته جزء ماهية الوجوب هو الجواز بمعنى رفع الحرج عن الفعل فقط أو بمعنى رفع الحرج عن الفعل والترك معا الأول مسلم والثاني ممنوع ولكن ذلك الأول لا يمكن بقاؤه بعد زوال الوجوب لأن مسمى رفع الحرج عن الفعل لا يدخل في الوجود إلا مقيدا إما بقيد إلحاق الحرج بالترك كما في الوجوب أو بقيد رفع الحرج عن الترك كما في المندوب ويستحيل أن يبقى بدون هذين القيدين وأما الثاني فممنوع لأن الجواز بمعنى رفع الحرج عن الفعل

والترك ينافي الوجوب الذي لا تتحقق ماهيته إلا مع الحرج على الترك والمنافي لا يكون جزءا فثبت أن المقتضي للوجوب لا يكون مقتضيا للجواز بهذا المعنى والجواب أن الجواز الذي هو جزء ماهية الوجوب هو الجواز بالمعنى الأول قوله إنه لا يتقرر إلا مع أحد القيدين قلنا نسلم لكن الناسخ للوجوب لما رفع الوجوب رفع منع الحرج عن الترك فقد حصل بهذا الدليل زوال الحرج عن الترك وقد بقي أيضا القدر المشترك بين الوجوب والندب وهو زوال الحرج عن الفعل فيحصل من مجموع هذين القيدين زوال الحرج عن الفعل وعن الترك معا وذلك هو المندوب والمباح فظهر بما ذكرنا أن الآمر إذا لم يبق معمولا به في الوجوب بقي

المسألة الخامسة في أن ما يجوز تركه لا يكون فعله واجبا

معمولا به في الجواز والله أعلم المسألة الخامسة في أن ما يجوز تركه لا يكون فعله واجبا والدليل عليه أن الواجب ما لا يجوز تركه والجمع بينه وبين جواز الترك متناقض واعلم أن الخلاف في هذا الفصل مع طائفتين إحداهما الكعبي وأتباعه فإنه روى في كتب أصحابنا عنهم أنهم قالوا المباح واجب واحتجوا عليه بأن المباح ترك به الحرام وترك الحرام واجب فيلزم أن يكون المباح واجبا وجوابه أن المباح ليس نفس ترك الحرام بل هو شئ به يترك الحرام ولا يلزم من كون الترك واجبا أن يكون الشئ المعين الذي يحصل به الترك واجبا إذا كان ذلك الترك ممكن التحقيق بشئ آخر غير ذلك الأول

وثانيهما ما ذكره كثير من الفقهاء من أن الصوم واجب على المريض والمسافر والحائض وما يأتون به عند زوال العذر يكون قضاء لما وجب وقال آخرون إنه لا يجب على المريض والحائض ويجب على المسافر وعندنا أنه لا يجب على الحائض والمريض البتة وأما المسافر فيجب عليه صوم أحد الشهرين إما الشهر الحاضر أو شهر آخر وأيهما أتى به كان هو الواجب كما قلنا في الكفارات الثلاث ودليلنا ما تقدم من أن الواجب هو الذي منع من تركه وهؤلاء ما منعوا من ترك الصوم فلا يكون واجبا عليهم بل الحائض ممنوعة من الفعل والممنوع من الفعل كيف يمكن أن يكون ممنوعا من الترك واحتج المخالف بأشياء أحدها قوله تعالى فمن شهد منكم الشهر فليصمه أوجب

فروع

الصوم على كل من شهد الشهر وهؤلاء قد شهدوا الشهر فيجب عليهم الصوم وثانيهما أنه ينوي قضاء رمضان ويسمى قضاء وذلك يدل على أنه يحكي وجوبا سابقا وثالثها أنه لا يزيد عليه ولا ينقص عنه فوجب أن يكون بدلا عنه كغرامات المتلفات والجواب عن الكل أن ما ذكرتموه استدلال بالظواهر والأقيسة على مخالفة ضرورة العقل وذلك لأن المتصور في الوجوب المنع من الترك فعند عدم المنع من الترك لو حاولنا إثبات المنع من الترك لكنا قد تمسكنا بالظواهر والأقيسة في إثبات الجمع بين النقيضين وذلك لا يقوله عاقل بلى إن فسرتم الوجوب بشئ آخر فذلك كلام آخر. فروع الفرع الأول اختلفوا في أن المندوب هل هو مأمور به أم لا

الفرع الثاني هل يصير المندوب واجبا بعد الشروع فيه؟

والحق أن المراد من الأمر إن كان هو الترجيح المطلق من غير إشعار بجواز الترك ولا بالمنع من الترك فنعم وإن كان هو الترجيح المانع من النقيض فلا لكنا لما بينا أن الأمر للوجوب كان الحق هو التفسير الثاني الفرع الثاني اختلفوا في أن المندوب هل يصير واجبا بعد الشروع فيه فعند أبي حنيفة رحمة الله عليه أن التطوع يلزم بالشروع

وعند الشافعي رضي الله عنه لا يجب لنا قوله عليه الصلاة والسلام الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر ولأنا نفرض الكلام فيما إذا نوى صوما يجوز له تركه بعد الشروع فنقول يجب أن يقع الصوم على هذه الصفة لقوله عليه الصلاة والسلام ولكل امرئ ما نوى وتمام الكلام في هذه المسألة مذكور في الخلافيات

الفرع الثالث هل المباح من التكليف؟

الفرع الثالث المباح هل هو من التكليف أم لا والحق أنه إن كان المراد بأنه من التكليف هو أنه ورد التكليف بفعله فمعلوم أنه ليس كذلك وإن كان المراد منه أنه ورد التكليف باعتقاد إباحته فاعتقاد كون ذلك الفعل مباحا مغاير لذلك الفعل في نفسه فالتكليف بذلك الاعتقاد لا يكون تكليفا بذلك المباح والأستاذ أبو إسحق سماه تكليفا بهذا التأويل وهو بعيد مع أنه نزاع في محض اللفظ الفرع الرابع المباح هل هو حسن والحق أنه إن كان المراد من الحسن كل ما رفع الحرج عن فعله

الفرع الخامس المباح هل هو من الشرع؟

سواء كان على فعله ثواب أو لم يكن فالمباح حسن وإن أريد به ما يستحق فاعله بفعله التعظيم والمدح والثواب فالمباح ليس بحسن الفرع الخامس المباح هل هو من الشرع قال بعضهم ليس من الشرع لأن معنى المباح أنه لا حرج في فعله وفي تركه وذلك معلوم قبل الشرع فتكون الإباحة تقرير للنفي الأصلي لا تغييرا فلا يكون من الشرع والحق أن الخلاف لفظي وذلك لأن الإباحة تثبت بطرق ثلاثة أحدها أن يقول الشرع إن شئتم فافعلوا وإن شئتم فاتركوا والثاني أن تدل أخبار الشرع على انه لا حرج في الفعل والترك والثالث أن لا يتكلم الشرع فيه البتة ولكن انعقد الإجماع مع

ذلك على أن ما لم يرد فيه طلب فعل ولا طلب ترك فالمكلف فيه مخير وهذا الدليل يعم جميع الأفعال التي لا نهاية لها إذا عرفت هذا فنقول إن عنى بكون الإباحة حكما شرعيا أنه حصل حكم غير الذي كان مستمرا قبل الشرع فليس كذلك بل الإباحة تقرير لا تغيير وإن عنى بكونه حكما شرعيا أن كلام الشرع دل على تحققه فظاهر أنه كذلك لأن الإباحة لا تتحقق إلا على أحد الوجوه الثلاثة المذكورة وفي جميعها خطاب الشرع دل عليها فكانت الإباحة من الشرع بهذا التأويل والله أعلم

النظر الثالث في المأمور به وفيه مسائل

النظر الثالث من القسم الثاني من كتاب الأوامر والنواهي في المأمور به وفيه مسائل المسألة الأولى يجوز ورود الأمر بما لا يقدر عليه المكلف عندنا خلافا للمعتزلة والغزالي منا لنا وجوه الأول أن الله تعالى أمر الكافر بالإيمان والإيمان منه محال لأنه يفضي إلى انقلاب علم الله تعالى جهلا والجهل محال والمفضي إلى المحال محال

فإن قيل لا نسلم أن الإيمان من الكافر محال ولا نسلم أن حصوله يفضي إلى انقلاب العلم جهلا بيانه أن العلم يتعلق بالشئ المعلوم على ما هو به فإن كان الشئ واقعا تعلق العلم بوقوعه وإن كان غير واقع تعلق العلم بلا وقوعه فإذا فرضت الإيمان واقعا لزم القطع بأن الله تعالى كان في الأزل عالما بوقوعه وإن فرضته غير واقع لزم القطع بأن الله تعالى كان في الأزل عالما بلا وقوعه ففرض الإيمان بدلا من الكفر لا يقتضي تغير العلم بل يقتضي أن يكون الحاصل في الأزل هو العلم بالإيمان بدلا عن العلم بالكفر فلم قلت إن ذلك محال سلمنا أن ما ذكرته يقتضي امتناع صدور الإيمان من الكافر لكنه معارض بوجوده دالة على أن الإيمان في نفسه ممكن الوجود

الأول أن الإيمان كان في نفسه ممكن الوجود فلو انقلب واجبا بسبب العلم لكان العلم مؤثرا في المعلوم وهو محال لأن العلم يتبع المعلوم ولا يؤثر فيه الثاني لو كان ما علم الله تعالى وجوده واجب الوجود وكل ما علم الله تعالى عدمه يكون واجب العدم لزم أن لا يكون الله تعالى قادرا على ايجاد شئ لأن الشئ لا ينفك من أن يقال إن الله تعالى علم وجوده أو علم عدمه وعلى التقديرين يكون واجبا والواجب لا قدرة عليه البتة فلزم أن لا يقدر الله تعالى على شئ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا الثالث لو كان ما علم الله وجوده واجب الوجود وما علم عدمه يكون واجب العدم لزم أن لا يكون لنا اختيار في فعل شئ أصلا وأن تكون حركاتنا بمنزلة تحريك الرياح للأشجار من حيث إنه لا يكون باختيارنا لكنا نعلم بالضرورة أن ذلك باطل لأنا ندرك تفرقة ضرورية

بين الحركات الحيوانية الاختيارية والجمادية الاضطرارية الرابع أنه لو كان كذلك لكان العالم واجب الوجود في الوقت الذي علم الله تعالى وقوعه فيه والواجب يسغني عن المؤثر فيلزم استغناء حدوثه عن المؤثر فيلزم ان لا يفتقر حدوث العالم ولا شئ من الأشياء إلى القادر المختار وذلك كفر الخامس إن تعلق العلم به إما أن يكون سببا لوجوبه أو لا يكون فإن كان سببا لوجوبه لزم أن يكون العلم قدرة وإرادة لأنه لا معنى للقدرة والإرادة إلا الأمر الذي باعتباره يترجح الوجود على العدم فإذا كان العلم كذلك صار العلم عين القدرة والإرادة وذلك محال لأنه يقتضي قلب الحقائق وهو غير معقول وإن لم يكن لعلم سببا لوجوب المعلوم فقد سقط ما ذكرتموه من الدلالة لأنه مبني على أن المعلوم صار واجب الوقوع عند تعلق العلم به فإذا بطل ذلك بطل دليلكم سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على أن الإيمان محال من الكافر لكن امتناعه ليس لذاته بل بالنظر إلى علم الله تعالى فلم قلتم أن ما لا يكون محالا لذاته فإنه لا يجوز ورود الأمر به

سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على إن الأمر بالمحال واقع لكنه يدل على أنه لا تكليف إلا وهو تكليف بما لا يطاق وذلك لأن الشئ إن كان معلوم العدم كان الأمر بالإتيان به أمرا بإيقاع الممتنع وإن كان معلوم الوجود كان واجب الوجود وما كان واجب الوجود لا يكون لقدرة القادر الأجنبي واختياره فيه أثر فيكون التكليف به أيضا تكليفا بما لا يطاق فثبت أن ما ذكرتموه يدل على أن التكاليف بأسرها تكليف ما لا يطاق وأن أحدا من العقلاء لم يقل بذلك فإن بعض الناس أحاله عقلا وبعضهم جوزه ولم يقل أحد بأنه يمتنع ورود التكليف إلا بما لا يطاق فما هو نتيجة هذا الدليل لا تقولون به وما تقولون به لا ينتجه هذا الدليل فيكون ساقطا

سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على قولكم ولكنه معارض بالنص والمعقول أما النص فقوله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وما جعل عليكم في الدين من حرج وأي حرج فوق تكليف بما لا يطاق وأما المعقول فمن ثلاثة أوجه الأول أن في المشاهد أن من كلف الأعمى نقط المصاحف والزمن الطيران في الهواء عد سفيها تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا الثاني المحال غير متصور وكل ما لا يكون متصورا لا يكون مأمورا به إنما قلنا إنه غير متصور لأن كل متصور متميز وكل متميز ثابت فما لا يكون ثابتا لا يكون متصورا بيان الثاني أن الذي لا يكون متصورا لا يكون في العقل إليه إشارة والمأمور به يكون في العقل إليه إشارة والجمع بينهما متناقض الثالث إذا جوزتم الأمر بالمحال فلم لا تجوزون أمر الجمادات وبعثة الرسل إليها وإنزال الكتب عليها

والجواب قوله إذا فرضنا الإيمان بدلا عن الكفر كان الموجود في الأزل هو العلم بالإيمان بدلا عن العلم بالكفر قلنا نحن وإن لم نعلم أن علم الله تعالى في الأزل تعلق بإيمان زيد أو بكفره لكنا نعلم أن علمه تعلق بأحدهما على التعيين وذلك العلم كان حاصلا في الأزل فنقول لو لم يحصل متعلق ذلك العلم لزم انقلاب ذلك العلم جهلا في الماضي وهو محال من وجهين أحدهما امتناع الجهل على الله تعالى والثاني أن تغير الشئ في الماضي محال قوله العلم غير مؤثر قلنا اللازم من دليلنا حصول الوجوب عند تعلق العلم فأما أن ذلك الوجوب به أو بغيره فذلك غير لازم قوله لزم أن لا يقدر الله تعالى على شئ قلنا قد بينا أن العلم بالوقوع يتبع الوقوع الذي هو تبع الإيقاع بالإرادة والقدرة فامتنع أن يكون الفرع مانعا من الأصل

بل تعلق علمه به على الوجه المخصوص يكشف عن أن قدرته وإرادته تعلقتا به على ذلك الوجه قوله يلزم الجبر قلنا إن عنيت بالجبر أن العبد لا يتمكن من شئ على خلاف علم الله تعالى فلم قلت إنه محال قوله يلزم أن يكون العالم واجب الحدوث حين حدوثه فيستغنى عن القدرة والإرادة قلنا قد بينا أن العلم بالوقوع تبع الوقوع الذي هو تبع القدرة والإرادة فإن والفرع لا يغني عن الأصل قوله إن العلم إما أن يكون سببا للوجوب أو لا يكون قلنا نختار أنه ليس سببا للوجوب ولكن نقول إنه يكشف عن الوجوب وإذا كان كاشفا عن الوجوب ظهر الفرق قوله هذا لا يدل على جواز الأمر بالجمع بين الضدين قلنا بل يدل لأن علم الله تعالى بعدم إيمان زيد ينافي وجود إيمان

زيد فإذا أمره بإدخال الإيمان في الوجود حال حصول العلم بعدم الإينما فقد كلفه بالجمع بين المتنافيين قوله هذا الدليل يقتضي أن تكون التكاليف كلها تكليف ما لا يطاق وذلك لم يقل به أحد قلنا الدلائل القطعية العقلية لا تدفع بأمثال هذه الدوافع أما الآية فهي معارضة بقوله تعالى ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ولأنك قد علمت أن القواطع العقلية لا تعارضها الظواهر النقلية بل تعلم أن تلك الظواهر مأولة ولا حاجة إلى تعيين تأويلها قوله أنه عبث قلنا إن عنيت بكونه عبثا خلوه عن مصلحة العبد فلم قلت إن هذا محال قوله المحال غير متصور

قلنا لو لم يكن متصورا لامتنع الحكم عليه بالامتناع لما أن التصديق موقوف على التصور ولأنا نميز بين المفهوم من قولنا الواحد نصف الإثنين والمفهوم من قولنا الوجود والعدم يجتمعان ولولا تصور هذين المفهومين لامتنع التمييز قوله لم لا يجوز أمر الجماد قلنا حاصل الأمر بالمحال عندنا هو الإعلام بنزول العقاب وذلك لا يتصور إلا في حق الفاهم الدليل الثاني أن الله تعالى أخبر عن أقوام معينين أنهم لا يؤمنون وذلك في قوله تعالى إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون وقال تعالى لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون إذا ثبت هذا فنقول أولئك الأشخاص لو آمنوا لا نقلب خبر الله تعالى الصدق كذبا والكذب على الله محال إما لأدائه إلى الجهل أو إلى الحاجة على قول المعتزلة أو لنفسه كما هو مذهبنا والمؤدي إلى المحال محال فصدور الإيمان عن أولئك الأشخاص محال وتمام هذا التقرير ما تقدم الدليل الثالث أن الله تعالى كلف أبا لهب بالإيمان ومن الإيمان

تصديق الله تعالى في كل ما أخبر عنه ومما أخبر عنه أنه لا يؤمن فقد صار مكلفا بأن يؤمن بأنه لا يؤمن أبدا وهذا هو التكليف بالجمع بين الضدين الدليل الرابع أن صدور الفعل عن العبد يتوقف على داعية يخلقها الله تعالى ومتى وجدت تلك الداعية كان الفعل واجب الوقوع وإذا كان كذلك كان الجبر لازما ومتى كان الجبر لازما كانت التكاليف بأسرها تكليف ما لا يطاق وإنما قلنا أن صدور الفعل من العبد يتوقف على داعية يخلقها الله تعالى لأن العبد لا يخلو إما أن يكون متمكنا من الفعل والترك أولا يكون كذلك فإن كان الأول فإما أن يكون ترجح الفاعلية على التاركية موقوفا على مرجح أو لا يكون فإن توقف فذلك المرجح إن كان من فعل العبد عاد التقسيم فيه ولا يتسلسل بل لابد وأن ينتهي إلى داعية ليست من العبد بل

من الله تعالى وهو المقصود وإن لم يتوقف على مرجح فقد ترجحت الفاعلية على التاركية لا لمرجح وهو محال لأن ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر لو جاز أن يكون لمرجح لجاز في كل العالم أن يكون كذلك وحينئذ لا يمكن الاستدلال بجواز العالم على وجود الصانع وهو محال فإن قلت لم لا يجوز أن يقال القادر وحده يكفي في ترجيح أحد الطرفين على الآخر قلت قول القائل إنما ترجح أحد الطرفين على الآخر لأن القادر رجحه مغالطة لأنا نقول هل لقولك القادر رجحه مفهوم زائد على كونه قادرا وعلى وجود الأثر أو ليس له مفهوم زائد فإن كان له مفهوم زائد فحينئذ يكون صدور أحد مقدوري القادر عنه دون الآخر موقوفا على أمر زائد وذلك هو القسم الأول الذي بينا أنه يفضي إما إلى التسلسل أو إلى مرجح يصدر من الله تعالى

وإن لم يكن له مفهوم زائد صار معنى قولنا القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر من غير مرجح إلى أن القادر يستمر كونه قادرا مدة من غير هذا الأثر ثم أنه وجد هذا الأثر بعد مدة من غير أن يحصل لذلك القادر قصد إليه وميل إلى تكوينه وذلك معلوم الفساد بالضرورة ومنشأ المغالطة في تلك اللفظة هو أن قول القائل القادر يرجح لكونه قادرا يوهم أن هذا المقدور إنما ترجح على المقدور الآخر لأن القادر خصه بالترجيح وقولنا خصه بالترجيح لا يوهم أمرا زائدا على محض القادرية لأنا إذا أثبتنا أمرا زائدا فقد أوقفنا ترجحه على انضمام أمر آخر إلى مجرد القادرية وحينئذ يرجع إلى القسم الأول فثبت إن هذا الكلام مغالطة محضة وإنما قلنا إن عند حصول تلك الداعية التي يخلقها الله تعالى يجب صدور الفعل فلأنه لو لم يجب لكان إما أن يمتنع أو يجوز فإن امتنع كانت الداعية مانعة لا مرجحة وإن جاز فمع تلك الداعية يجوز عدم الأثر تارة ووجوده أخرى فترجح الوجود على العدم أما أن يتوقف على أمر زائد أو لا يتوقف

فإن توقف لم تكن الداعية الأولى تمام المرجح وكنا قد فرضناها كذلك هذا خلف وأيضا فلأن الكلام في هذه الضميمة كما فيما قبلها ويلزم إما التسلسل أو الانتهاء إلى ترجح الممكن من غير مرجح وهما محالان أو الوجوب وهو المطلوب وإنما قلنا إنه لما توقف فعل العبد على داعية يخلقها الله تعالى وكان ذلك الفعل واجب الوقوع عند تلك الداعية لزم الجبر لأن قبل خلقها كان الفعل ممتنعا من العبد وبعد خلقها يكون واجبا وعلى كلا التقديرين لا تثبت المكنة من الفعل والترك وإنما قلنا إنه لما كان كذلك كانت التكاليف بأسرها تكليف مالا يطاق لأنه لما لم يكن العبد متمكنا من الفعل والترك البتة كان تكليفه تكليفا لمن لم يكن متمكنا من الفعل والترك وذلك هو المقصود الدليل الخامس التكليف إما أن يتوجه على المكلف حال استواء الداعي إلى الفعل والترك أو حال رجحان أحد الداعيين على الآخر فإن توجه عليه حال الاستواء كان ذلك تكليفا بمالا يطاق لأن حال حصول الاستواء يمتنع حصول الرجحان لأن الاستواء ينافي الرجحان فالجمع بينهما جمع بين المتنافيين

وإذا متنع الرجحان كان التكليف بالرجحان تكليفا بمالا يطاق وإن توجه عليه حال عدم الائتواء عمر فنقول الراجح يصير واجبا والمرجوح ممتنعا على ما تقدم تقريره في الدليل الرابع والتكليف بالواجب محال لأن ما يجب وقوعه استحال أن يسند وقوعه إلى شئ آخر وإذا استحال أن يسند وقوعه إلى غيره استحال أن يفعله فاعل فإذا أمر بفعله فقد أمر بما لا قدرة له عليه وإما التكليف بالممتنع فلا شبهة في أنه تكليف بمالا يطاق الدليل السادس أفعال العبد مخلوقة لله تعالى وإذا كان كذلك كان التكليف تكليف ما لا يطاق أما أن فعل العبد مخلوق لله تعالى فلأنه لو كان مخلوقا للعبد

لكان معلوما للعبد وليس معلوما للعبد فهو غير مخلوق له وتقريره في كتبنا الكلامية وأما أنه إذا كان فعل العبد مخلوقا لله تعالى كان التكليف تكليفا بما لا يطاق فلأن العبد قبل أن خلق الله تعالى فيه الفعل استحال منه تحصيل الفعل وإذا خلق الله تعالى فيه الفعل استحال منه الامتناع والدفع ففي كلتا الحالتين لا قدرة له لا على الفعل ولا على الترك فإن قلت هب أنه لا قدرة له على الإيجاد ولكن الله تعالى أجرى عادته بأنه إذا اختار العبد وجود الفعل فالله تعالى يخلقه وإن اختار عدم الفعل فالله تعالى لا يخلقه وعلى هذا الوجه يكون العبد مختارا قلت ذلك الاختيار إن كان منه لا من الله تعالى فالعبد موجد لذلك الاختيار

وإن لم يكن منه بل من الله تعالى كان مضطرا في ذلك الاختيار فيعود الكلام الدليل السابع الأمر قد وجد قبل الفعل والقدرة غير موجودة قبل الفعل فالأمر قد وجد لا عند القدرة وذلك تكليف ما لا يطاق أما أن الأمر قد وجد قبل الفعل فلأن الكافر مكلف بالإيمان وأما أن القدرة غير موجودة قبل الفعل فلأن القدرة صفة متعلقة فلا بد لها من متعلق والمتعلق إما الموجود وإما المعدوم ومحال أن يكون المعدوم متعلق القدرة لأن العدم نفي محض مستمر والنفي المحض يستحيل أن يكون مقدورا والمستمر يمتنع أيضا أن يكون مقدورا فالنفي المستمر اولى أن لا يكون مقدورا وإذا ثبت أن متعلق القدرة لا يمكن أن يكون عدما محضا ثبت أنه لا بد أن يكون موجودا فلما ثبت أن القدرة لا بد لها من معلق وثبت أن المتعلق لا بد وأن يكون موجودا ثبت أن القدرة لا توجد إلا عند وجود الفعل.

الدليل الثامن العبد لو قدر على الفعل لقدر عليه إما حال وجوده أو قبل وجوده والأول محال وإلا لزم إيجاد الموجود وهو محال والثاني محال لأن القدرة في الزمان المتقدم إما أن يكون لها أثر في الفعل أو لا يكون فإن كان لها أثر في الفعل فنقول تأثير القدرة في المقدور حاصل في الزمان الأول ووجود المقدور غير حاصل في الزمان الأول فتأثير القدرة في المقدور مغاير لوجود المقدور والمؤثر إما أن يؤثر في ذلك المغاير حال وجوده أو قبله فإن كان الأول لزم أن يكون موجدا للموجود وهو محال وإن كان الثاني كان الكلام فيه كما تقدم ولزم التسلسل وإن لم يكن لها أثر في الزمان المتقدم وثبت أيضا أنه ليس لها في الزمان المقارن لوجود الفعل أثر استحال أن يكون لها أثر في الفعل البتة وإذا لم يكن لها أثر ألبتة استحال أن تكون للعبد قدرة على الفعل البتة

واعلم أن هذين الوجهين لا نرتضيهما النبي لأنهما يشكلان بقدرة الباري جل جلاله على الفعل الدليل التاسع أن الله تعالى أمر بمعرفته في قوله فاعلم أنه لا إله إلا الله فنقول إما أن يتوجه الأمر على العارف بالله تعالى أو على غير العارف به والأول محال لأنه يقتضي تحصيل الحاصل والجمع بين المثلين وهما محالان والثاني محال لأن غير العارف بالله تعالى ما دام يكون غير عارف بالله تعالى استحال أن يكون عارفا بأن الله تعالى أمره بشئ لإن العلم بأن الله تعالى أمره بشئ مشروط بالعلم بالله تعالى ومتى استحال أن يعرف أن الله تعالى أمره بشئ كان وإن توجيه الأمر عليه في هذه الحالة توجيها للأمر على من يستحيل أن يعلم ذلك الأمر وذلك عين تكليف مالا يطاق

الدليل العاشر أن الأمر بالنظر والفكر واقع في قوله تعالى قل انظروا وفي قوله تعالى أولم يتفكروا وذلك أمر بمالا يطاق بيانه أن تحصيل التصورات غير مقدور وإذا لم تكن التصورات مقدورة لم تكن القضايا الضرورية مقدورة وإذا لم تكن القضايا الضرورية مقدورة لم تكن القضايا النظرية مقدورة وإذا لم تكن هذه الأشياء مقدورة لم يكن الفكر والنظر مقدورا وإنما قلنا إن التصورات غير مقدورة لأن القادر إذا أراد تحصيلها فإما أن يحصلها حال ما تكون التصورات خاطرة بباله أو حال مالا تكون تلك التصورات خاطرة بباله فإن كانت خاطرة بباله فتلك التصورات حاصلة فتحصيلها يكون تحصيلا للحاصل وهم محال وإن كانت غير خاطرة بباله كان الذهن غافلا عنه ومتى كان الذهن غافلا عنه استحال من القادر أن يحاول تحصيله والعلم بذلك ضروري فإن قلت لم لا يجوز أن يقال إنها متصورة من وجه دون وجه فلا جرم يمكنه أن يحصل كمالها قلت لما كانت متصورة من وجه دون وجه فالوجه المتصور مغاير لما ليس بمتصور فهما أمران

أحدهما متصور بتمامه والآخر غير متصور بتمامه وحينئذ يعود الكلام المقدم وإنما قلنا إن التصورات إذا لم تكن مقدورة كانت القضايا البديهية غير مقدورة لأن تلك التصورات إما أن تكون بحيث يلزم من مجرد حضورها في الذهن حكم الذهن بنسبة بعضها إلى بعض بالنفي أو بالإثبات أو لا يلزم فإن لم يلزم لم تكن تلك القضايا علوما يقينية بل تكون اعتقادات تقليدية وإن لزم فنقول حصول تلك التصورات ليس باختياره وعند حصولها فترتب تلك التصديقات عليها ليس باختياره فإذن حصول تلك القضايا البديهية ليس باختياره وذلك هو المطلوب وإنما قلنا إن القضايا البديهية إذا لم تكن باختياره لم تكن القضايا النظرية باختياره وذلك لأن لزوم هذه النظريات عن تلك الضروريات إما أن يكون واجبا أو لا يكون فإن لم يكن واجبا لم يكن ذلك استدلالا يقينيا لأنا إذا استدللنا

بدليل مركب من مقدمات ولم يكن المطلوب واجب اللزوم عن تلك المقدمات كان اعتقاد وجود ذلك المطلوب في هذه الحالة اعتقادا تقليديا لا يقينيا وإذا كان ذلك واجبا فنقول قبل حصول تلك المقدمات البديهية امتنع حصول هذه القضايا الاستدلالية وعند حصول تلك البديهيات يجب حصول هذه الاستدلاليات فإذن هذه الاستدلاليات في جانبي النفي والإثبات لا تكون باختيار المكلف وأذا ثبت هذا ثبت أن التكليف بها تكليف بما ليس في الوسع فهذا مجموع الوجوه المذكورة في هذه المسألة وبالله التوفيق

المسألة الثانية في تكليف الكفار بالفروع

المسألة الثانية قال أكثر أصحابنا وأكثر المعتزلة الأمر بفروع الشرائع لا يتوقف على حصول الإيمان وقال جمهور أصحاب أبي حنيفة رحمه الله عليه يتوقف عليه وهو قول الشيخ أبي حامد الاسفراييني من فقهائنا ومن الناس من قال تتناولهم النواهي دون الأوامر فإنه يصح انتهاؤهم عن المنهيات ولا يصح إقدامهم على المأمورات واعلم أنه لا أثر لهذا الاختلاف في الأحكام المتعلقة بالدينا لأنه ما دام الكافر كافرا يمتنع منه الإقدام على الصلاة وإذا أسلم لم يجب عليه القضاء وإنما تأثير هذا الاختلاف في أحكام الآخرة فإن الكافر إذا مات على كفره فلا شك أنه يعاقب على كفره وهل يعاقب مع ذلك على تركه الصلاة والزكاة وغيرهما أم لا

ولا معنى لقولنا كما إنهم مأمورون بهذه العبادات إلا أنهم كما يعاقبون على ترك الإيمان يعاقبون أيضا بعقاب زائد على ترك هذه العبادات ومن أنكر ذلك قال إنهم لا يعاقبون إلا على ترك الإينمان وهذه دقيقة لا بد من معرفتها لنا وجوه الأول أن المقتضى لوجوب هذه العبادات قائم والوصف الموجود وهو الكفر لا يصلح مانعا فوجب القول بالوجوب إنما قلنا إن المقتضى موجود لقوله تعالى يا أيها الناس اعبدوا ربكم وقوله تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ولا شك في أن هذه النصوص عامة في حق الكل وإنما قلنا إن الكفر لا يصلح أن يكون مانعا لأن الكافر متمكن من الإتيان بالإيمان أولا حتى يصير متكمنا من الإتيان بالصلاة والزكاة

بناء عليه وبهذا الطريق قلنا الدهري مكلف بتصديق الرسول والمحدث مأمور بالصلاة فثبت أن المقتضي قائم والمعارض غير مانع فوجب القول بالوجوب الدليل الثاني قوله تعالى ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين وهذا يدل على أنهم يعاقبون على ترك الصلاة فإن قيل هذه حكاية قول الكفار فلا يكون حجة فإن قلت لو كان ذلك باطلا لبينه الله تعالى قلت لا نسلم وجوب ذلك فإنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ما كنا نعمل من سوء يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ثم إنه تعالى ما كذبهم في هذه المواضع فعلمنا أن تكذيبهم غير واجب

سلمنا أنه جحة لكن لم لا يجوز أن يقال العذاب على مجرد التكذيب لقوله تعالى وكنا نكذب بيوم الدين والدليل عليه أن التكذيب سبب مستقل باقتضاء دخول النار وإذا وجد السبب المستقل باقتضاء الحكم لم يجز إحالته على غيره سلمنا أن العذيب واقع على جميع الأمور المذكورة لكن قوله لم نك من المصلين معناه لم نك من المؤمنين لأن اللفظ محتمل والدليل دل عليه أما اللفظ محتمل فلما روي في الحديث نهيت عن قتل المصلين ويقال قال أهل الصلاة والمراد منه المسلمون وأما أن الدليل دل عليه فلأن أهل الكتاب داخلون في هذه الجملة مع أنهم كانوا يصلون ويتصدقون ويؤمنون بالغيب ولو كان المراد من لم يأت بالصلاة والزكاة لكانوا كاذبين فيه فعلمنا أن المراد أنهم ما كانوا من أهل الصلاة والزكاة

سلمنا أن التعذيب على ترك الصلاة لكن قوله لم نك من المصلين يجوز أن يكون إخبارا عن قوم ارتدوا بعد إسلامهم مع أنهم ما صلوا حال إسلامهم لأنه واقعة حال فيكفي في صدقه صورة واحدة سلمنا عمومه في حق الكفار ولكن الوعيد ترتب على فعل الكل فلم قلت إنه حاصل على كل واحد من تلك الأمور والجواب أن الله تعالى لما حكى عن الكفار تعليلهم دخول النار بترك الصلاة وجب أن يكون ذلك صدقا لأنه لو كان كذبا مع أنه تعالى ما بين كذبهم فيها لم يكن في روايتها فائدة وكلام الله تعالى متى أمكن حمله على ما هو أكثر فائدة وجب ذلك وأما المواضع التي كذبوا فيها مع أن الله تعالى ما بين كذبهم فيها فذاك لاستقلال العقل بمعرفة كذبهم فيها فتكون الفائدة من ذكر تلك الأشياء بيان نهاية مكابرتهم وعنادهم في الدنيا والآخرة وأما ها هنا فلما لم يكن العقل مستقلا بمعرفة كذبهم والله تعالى

لم يبين لنا ذلك فلو كانوا كاذبين فيه لم يحصل منه غرض أصلا فتكون الآية عرية عن الفائدة قوله العلة هي التكذيب بيوم الدين قلنا لو كان كذلك لكان سائر القيود عديم الأثر في اقتضاء هذا الحكم وذلك باطل لأن الله تعالى رتب الحكم عليها أولا في قوله تعالى قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين قوله لما وجد السبب المستقل لم يجز إحالة الحكم على غيره قلنا لعل الحصول في الموضع المعين من الجحيم ما كان لمجرد التكذيب بل لمجموع هذه الأمور وإن كان مجرد التكذيب سببا لدخول مطلق الجحيم قوله المراد من قوله لم نك من المصلين أي لم نك من المؤمنين قلنا هذا التأويل لا يتأتي في قوله ولم نك نطعم المسكين قوله أهل الكتاب صلوا وأطعموا

قلنا الصلاة في عرف الشرع عبارة عن الأفعال المخصوصة التي في شرعنا لا التي في شرع غيرنا قوله جاز أن يكون المراد منه قوما ارتدوا بعد إسلامهم قلنا إن قوله سبحانه وتعالى قالوا لم نك من المصلين هو جواب المجرمين المذكورين في قوله يتساءلون عن المجرمين وذلك عام في حق الكل الدليل الثالث قوله تعالى والذين لا يدعون مع الله إلها آخر إلى قوله يضاعف له العذاب يوم القيامة وكذلك قوله فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى ذمهم على ترك الكل وكذلك قوله تعالى ويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة الدليل الرابع الكافر يتناوله النهي فوجب أن يتناوله الأمر وإنما قلنا إنه يتناوله النهي لأنه يحد على الزنى وإنما قلنا إنه إذا تناوله النهي وجب أن يتناوله الأمر لأنه إنما يتناوله النهي ليكون متمكنا من الاحتراز عن المفسدة الحاصلة بسبب

الإقدام على المنهي عنه فوجب أن يتناوله الأمر ليكون متمكنا من استيفاء المصلحة الحاصلة بسبب الإقدام على المأمور به فإن قيل لا نسلم أنه يتناوله النهي وأما الحد فذاك لأنه التزم إحكامنا وسلم سلمنا لكن لافرق بين الأمر والنهي هو أنه مع كفره يمكنه الانتهاء عن المنهيات ولا يمكنه مع كفره الإتيان بالمأمورات والجواب عن الأول أن من أحكام شرعنا أن لا يحد أحد بالفعل المباح وعن الثاني أن قولكم الكافر المكلف يمكنه الانتهاء عن المنهيات إن عنيتم به أنه يتمكن من تركها من غير اعتبار النية فهو أيضا متمكن من فعل المأمورات من غير اعتبار النية وإن عنيتم به أنه متمكن من الانتهاء عن المنهيات لغرض امتثال قول الشارع فمعلوم أن ذلك حال عدم الإيمان متعذر

فالحاصل أن المأمور والمنهي استويا في أن الإتيان بهما من حيث الصورة لا يتوقف على الإينما والإتيان بهما لغرض امتثال حكم الشارع يتوقف في كليهما على الإينما فبطل الفرق الذي ذكروه واحتج المخالف بأمرين أحدهما أنه لو وجبت الصلاة على الكافر لوجبت عليه إما حال الكفر أو بعده والأول باطل لأن الإتيان بالصلاة في حال الكفر ممتنع والممتنع لا يكون مأمورا به والثاني باطل لإجماعنا على أن الكافر إذا أسلم فإنه لا يؤمر بقضاء ما فاته من الصلاة في زمان الكفر وثانيهما لو وجبت هذه العبادات على الكافر لوجب عليه قضاؤها كما في حق المسلم والجامع تدارك المصلحة المتعلقة بتلك العبادات ولما لم يكن الأمر كذلك علمنا أنها غير واجبة عليه والجواب عن الأول أنا بينا أنه لا تظهر فائدة هذا الخلاف في الأحكام الدنيوية إنما تظهر فائدته في الأحكام الأخروية وهي أنه هل يزداد عقاب الكافر بسبب تركه لهذه العبادات وما ذكرتموه من الدلالة لا يتناول هذا المعنى

المسألة الثالثة في الإجزاء

وعن الثاني أنه ينتقض بالجمعة ثم الفرق أن إيجاب القضاء على من أسلم بعد كفره ينفره عن الإسلام لامتداد ايام الكفر بخلاف المسلم والله أعلم المسألة الثالثة في أن الإتيان بالمأمور به هل يقتضي الإجزاء قبل الخوض في المسألة لا بد من تفسير الإجزاء وقد ذكروا فيه تفسيرين أحدهما وهو الأصح أن المراد من كونه مجزيا هو أن الإتيان به كاف في سقوط الأمر وإنما يكون كافيا إذا كان مستجمعا لجميع الأمور المعتبرة فيه من حيث وقع الآمر به وثانيهما أن المراد من الإجزاء سقوط القضاء وهذا باطل لأنه لو أتى بالفعل عند اختلال بعض شرائطه ثم مات لم يكن مجزئا مع سقوط الفضاء ولأن القضاء إنما يجب بأمر متجدد على ما سيأتي ولأنا نعلل وجوب القضاء بأن الفعل الأول ما كان مجزئا والعلة مغايرة للمعلول إذا عرفت هذا فنقول فعل المأمور به يقتضي الإجزاء خلافا لأبي هاشم وأتباعه

لنا وجوه الأول أنه أتى بما أمر به فوجب أن يخرج عن العهدة إنما قلنا أنه أتى بما أمر به لأن المسألة مفروضة فيما إذا كان الأمر كذلك وإنما قلنا إنه يلزم أن يخرج عن العهدة لأنه لو بقي الأمر بعد ذلك لبقي إما متناولا لذلك المأتي به أو لغيره والأول باطل لأن الحاصل لا يمكن تحصيله والثاني باطل لأنه يلزم أن يكون الأمر قد كان متناولا لغير ذلك الذي وقع مأتيا به ولو كان كذلك لما كان المأتي به تمام متعلق الأمر وقد فرضناه كذلك هذا خلف الثاني أنه لا يخلو إما أنه يجب عليه فعله ثانيا وثالثا أو ينقضي عن عهدته بما ينطلق عليه الاسم والأول باطل لما بينا أن الأمر لا يفيد التكرار والثاني هو المطلوب لأنه لا معنى للإجزاء إلا كونه كافيا في الخروج عن عهدة الأمر الثالث أنه لو لم يقتض الإجزاء لكان يجوز أن يقول السيد لعبده إفعل وإذا فعلت لا يجزئ عنك ولو قال ذلك لعد متناقضا

احتج المخالف بوجوه أحدها أن النهي لا يدل على الفساد بمجرده فالأمر وجب أن لا يدل على الإجزاء بمجرده وثانيها إن كثيرا من العبادات يجب على الشارع فيها إتمامها والمضي فيها ولا تجزيه عن المأمور به كالحجة الفاسدة والصوم الذي جامع فيه وثالثها أن الأمر بالشئ لا يفيد إلا كونه مأمورا به فأما أن الإتيان يكون سببا لسقوط التكليف فذلك لا يدل عليه مجرد الأمر والجواب عن الأول أنا إن سلمنا أن النهي لا يدل على الفساد لكن الفرق بينه وبين الأمر أن نقول النهي يدل على أنه منعه من فعله وذلك لا ينافي أن نقول إنك لو أتيت به لجعله الله سببا لحكم آخر أما الأمر فلا دلالة فيه إلا على اقتضاء المأمور به مرة واحدة فإذا أتى به فقد أتى بتمام المقتضى فوجب أن لا يبقى الأمر بعد ذلك مقتضيا لشئ آخر

المسألة الرابعة في القضاء

وعن الثاني أن تلك الأفعال مجزئة بالنسبة إلى الأمر الوارد بإتمامها وغير مجزئة بالنسبة إلى الأمر الأول لأن الأمر الأول اقتضى إيقاع المأمور به لا على هذا الوجه الذي وقع بل على وجه آخر وذلك الوجه بعد لم يوجد وعن الثالث أن الإتيان بتمام المأمور به يوجب أن لا يبقى الأمر مقتضيا بعد ذلك وذلك هو المراد بالإجزاء والله أعلم المسألة الرابعة الإخلال بالمأمور به هل يوجب فعل القضاء أم لا هذه المسألة لها صورتان الصورة الأولى الأمر المقيد كما إذا قال إفعل في هذا الوقت فلم يفعل حتى مضى ذلك الوقت فالأمر الأول هل يقتضي إيقاع ذلك الفعل فيما بعد ذلك الوقت الحق لا لوجهين الأول أن قول القائل لغيره إفعل هذا الفعل يوم الجمعة لا يتناول ما عدا يوم الجمعة وما لا يتناولة عنه الأمر وجب أن لا يدل عليه بإثبات ولا بنفي بل لو كان قوله إفعل هذا الفعل يوم الجمعة موضوعا في اللغة

لطلب الفعل في يوم الجمعة وإلا ففيما بعدها فها هنا إذا تركه يوم الجمعة لزمه الفعل فيما بعده ولكن على هذا التقدير يكون الدال على لزوم الفعل فيما بعد يوم الجمعة ليس مجرد طلب الفعل يوم الجمعة بل كون الصيغة موضوعة لطلب يوم الجمعة وسائر الأيام ولا نزاع في هذه الصورة وإنما النزاع في أن مجرد طلب الفعل يوم الجمعة لا يقتضي إيقاعه بعد ذلك الثاني أن أوامر الشرع تارة لم تستعقب وجوب القضاء كما في صلاة الجمعة وتارى استعقبته إن ووجود الدليل مع عدم المدلول خلاف الأصل فوجب أن يقال إن إيجاب الشئ لا اشعار له بوجوب القضاء وعدم وجوبه فإن قلت إنك لما جعلته غير موجب للقضاء فحيث وجب القضاء لزمك خلاف الظاهر قلت عدم إيجاب القضاء غير وإيجاب عدم القضاء غير ومخالفة الظاهر إنما تلزم من الثاني وأنا لا أقول به أما على التقدير الأول فغايته أنه دل دليل منفصل على أمر لم يتعرض له الظاهر بنفي ولا إثبات وذلك لا يقتضي خلاف الظاهر

الصورة الثانية الأمر المطلق وهو أن يقول افعل ولا يقيده بزمان معين فإذا لم يفعل المكلف ذلك في أول أوقات الإمكان فهل يجب فعله فيما بعده أو يحتاج إلى دليل أما نفاة الفور فإنهم يقولون الأمر يقتضي الفعل مطلقا فلا يخرج عن العهدة إلا بفعله وأما مثبتوه فمنهم من قال إنه يقتضي الفعل بعد ذلك وهو قول أبي بكر الرازي ومنهم من قال لا يقتضيه بل لا بد في ذلك من دليل زائد ومنشأ الخلاف أن قول القائل لغيره إفعل كذا هل معناه إفعل في الزمان الثاني فإن عصيت ففي الثالث فإن عصيت ففي الرابع على هذا أبدا أو معناه إفعل في الثاني من غير بيان حال الزمان الثالث والرابع

فإن قلنا بالأول اقتضى الأمر الفعل في سائر الأزمان وإن قلنا بالثاني لم يقتضه فصارت هذه المسألة لغوية واحتج من قال أنه لا بد من دليل منفصل بأن قوله إفعل قائم مقام قوله إفعل في الزمان الثاني وقد بينا أنه إذا قيل له ذلك وترك الفعل في الزمان الثاني لم يكن ذلك القول سببا لوجوب الفعل في الزمان الثالث فكذا ها هنا ضرورة أنه لا تفاوت بين اللفظتين واحتج أبو بكر الرازي على قوله بأن لفظ إفعل يقتضي كون المأمور فاعلا على الإطلاق وهذا يوجب بقاء الأمر إلا ما لم يصر المأمور فاعلا وأيضا الأمر اقتضى وجوب المأمور به ووجوبه يقتضي كونه على الفور وإذا أمكن الجمع بين موجبيهما لم يكن لنا إبطال أحدهما وقد أمكن الجمع بينهما بأن نوجب فعل المأمور به في أول أوقات الإمكان لئا ينتقض وجوبه فإن لم يفعله أوجبناه في الثاني لأن مقتضى الأمر وهو كون المأمور فاعلا لم يحصل بعد والله أعلم

المسألة الخامسة في الأمر بالأمر في الشيء

المسألة الخامسة في أن الأمر بالأمر بالشئ لا فيه يكون أمرا به الحق أن الله تعالى إذا قال لزيد أوجب على عمرو كذا فلو قال لعمرو وكل ما أوجب عليك زيد فهو واجب عليك كان الأمر بالأمر بالشئ أمرا بالشئ في صلى هذه الصورة ولكنه بالحقيقة إنما جاء من قوله كل ما أوجب فلان عليك فهو واجب عليك أما لو لم يقل ذلك لم يجب كما في قوله عليه الصلاة والسلام مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع فإن ذلك لا يقتضي الوجوب على الصبي والله أعلم

المسألة السادسة في الأمر بالماهية

المسألة السادسة الأمر بالماهية لا يقتضي الأمر بشئ من جزئياتها كقوله بع هذا الثوب لا يكون هذا أمرا ببيعه بالغبن الفاحش ولا بالثمن المساوي لأن هذين النوعين يشتركان في مسمى البيع ويتمير كل واحد منهما عن صاحبه بخصوص كونه واقعا بثمن المثل وبالغبن الفاحش وما به الاشتراك غير ما به الامتياز وغير مستلزم له فالأمر بالبيع الذي هو جهة الاشتراك لا يكون أمرا بما به يمتاز كل واحد من النوعين عن الآخر لا بالذات ولا بالاستلزام وإذا كان كذلك فالأمر بالجنس لا يكون البته أمرا بشئ من أنواعه بل إذا دلت القرينة على الرضا ببعض الأنواع حمل اللفظ عليه ولذلك قلنا الوكيل بالبيع المطلق لا يملك البيع بغبن فاحش وإن كان يملك البيع بثمن المثل لقيام القرينة الدالة على الرضا به بسبب العرف وهذه قاعدة شرعية برهانية ينحل بها كثير من القواعد الفقهية إن شاء الله والله أعلم

النظر الرابع في المأمور وفيه مسائل

النظر الرابع في المأمور وفيه مسائل المسألة الأولى قال أصحابنا المعدوم يجوز أن يكون مأمورا لا بمعنى أنه حال عدمه يكون مأمورا فإنه معلوم الفساد بالضرورة بل بمعنى أنه يجوز أن يكون الأمر موجودا في الحال ثم إن الشخص الذي سيوجد بعد ذلك يصير مأمورا بذلك الأمر وأما سائر الفرق فقد أنكروه لنا أن الواحد منا حال وجوده يصير مأمورا بأمر الرسول ص مع أن ذلك الأمر ما كان موجودا إلا حال عدمنا وكذلك لا يبعد أن يقوم بذات ألاب طلب تعلم العلم من الولد الذي سيوجد وأنه لو قدر بقاء ذلك الطلب حتى وجد الولد صار الولد مطالبا

بذلك الطلب فكذا المعنى القائم بذات الله تعالى الذي هو اقتضاء الطاعة من العباد معنى قديم وأن العباد إذا وجدوا يصيرون مطالبين بذلك الطلب فإن قيل أمر النبي ص غير لازم على أحد بل هو عليه الصلاة والسلام أخبر أن الله تعالى يأمر كل واحد من المكلفين عند وجوده فيصير ذلك إخبارا عن أن الله تعالى سيأمرهم عند وجودهم لا أن الأمر حصل عند عدم المأمور سلمنا أن قول الرسول ص واجب الطاعة ولكن وجد هناك في الحال من سمع ذلك الأمر وبلغه إلينا أما في الأزل فلم يوجد أحد يسمع ذلك الأمر وينقله إلينا فكان ذلك الأمر عبثا ثم ما ذكرتموه معارض بدليل آخر وهو أن الأمر عبارة عن إلزام الفعل وفي إلزام الفعل من غير وجود المأمور عبث فإن من جلس في الدار يأمر وينهي من غير حضور مأمور ومنهي عد سفيها مجنونا وذلك على الله محال

والجواب قوله أمر النبي ص عبارة عن الإخبار قلنا من أصحابنا من قال ذلك وكذلك أمر الله تعالى عبارة عن أخباره بنزول العقاب على من يترك الفعل الفلاني إلا أن هذا مشكل من وجهين أحدهما أنا بينا فيما تقدم أنه لو كان الأمر عبارة عن هذا الإخبار لتطرق التصديق والتكذيب إلى الأمر ولامتنع العفو عن العقاب على ترك الواجبات لأن الخلف في خبر الله تعالى محال الثاني أنه لو أخبر في الأزل لكان إما أن يخبر نفسه وهو سفه أو غيره وهو محال لأنه ليس هناك غيره ولصعوبة هذا المأخذ ذهب عبد الله بن سعيد بن كلاب التميمي من أصحابنا إلى أن كلام الله تعالى في الأزل لم يكن أمرا ولا نهيا ثم صار فيما لا يزال كذلك

ولقائل أن يقول إنا لا نعقل من الكلام إلا الأمر والنهي والخبر فإذا سلمت حدوثها فقد قلت بحدوث الكلام فإن ادعيت قدم شئ آخر فعليك البيان بإفادة تصوره ثم اقامة الدلالة على أن الله تعالى موصوف به ثم اقامة الدلالة على قدمه وله أن يقول أعني بالكلام القدر المشترك بين هذه الأقسام ويمكن الجواب عن أصل الإشكال بأن قاعدة والحكمة مبنية على قاعدة الحسن والقبح وقد تقدم إفسادها

المسألة الثانية في تكليف الغافل

المسألة الثانية تكليف الغافل غير جائز للنص والمعقول أما النص فقوله عليه الصلاة والسلام رفع القلم عن ثلاث

وأما المعقول فهو أن فعل الشئ مشروط بالعلم به إذ لو لم يكن كذلك لما أمكننا الاستدلال بالأحكام على كون الله تعالى عالما وإذا ثبت هذا فلو حصل الأمر بالفعل حال عدم العلم به لكان ذلك تكليف مالا يطاق واعلم أن الكلام في هذه المسألة يتفرع على نفي تكليف ما لا يطاق فإن قيل لا نسلم أن فعل الشئ مشروط بالعلم به فإن الجاهل قد يفعله على سبيل الاتفاق فإن قلت الاتفاقي لا يكون دائما ولا أكثريا قلت لا نسلم فإن حكم الشئ حكم مثله فلما جاز وجود الفعل مع عدم العلم به مرة واحدة جاز أيضا ثانية وثالثة فيلزم إمكان ذلك في الأكثر ودائما وإذا جاز ذلك فلا استحالة في أن يعلم الله تعالى وقوع هذا الجائز في بعض الأشخاص

وإذا علم الله تعالى ذلك منه لم يكن تكليفه بالفعل حال مالا يكون المكلف عالما به نكليف أنه ما لا يطاق سلمنا ذلك لكنه معارض بأمور أحدها أن الأمر بمعرفة الله تعالى وارد فإما أن يكون ذلك الأمر واردا بعد حصول المعرفة وذلك محال لأنه يلزم الأمر إما بتحصيل الحاصل أو بالجمع بين المثلين وهو محال أو قبل حصول المعرفة لكن المأمور قبل أن يعرف الأمر استحال منه أن يعرف الأمر فإذن قد توجه التكليف عليه حالة مالا يمكنه العلم بذلك وهو المطلوب الثاني أن العلم بوجوب تحصيل معرفة الله تعالى ليس علما ضروريا لازما لعقول العقلاء وطباعهم بل ما لم يتأمل الأنسان ضربا من التأمل لا يحصل له العلم بالوجوب فنقول علمه بوجوب الطلب إما أن يحصل قبل إتيانه بالنظر أو بعد إتيانه به فإن حصل قبل إتيانه بالنظر وهو قبل إتيانه بالنظر لا يمكنه

أن يعلم ذلك الوجوب لأن العلم بالوجوب مشروط بالإتيان بذلك النظر وقبل الإيان بذلك النظر لو وجب عليه ذلك لوجب عليه في وقت لا يمكنه أن يعلم كونه واجبا عليه وذلك هو تكليف الغافل وإن حصل بعد إتيانه النظر فبعد الإتيان بالنظر حصل العلم بالوجوب فلو وجب عليه في هذا الوقت تحصيل العلم بالوجوب لزم إما تحصيل الحاصل أو الجمع بين المثلين الثالث أن الصبي والمجنون والنائم غافلون عن الفعل ثم إن أفعالهم توجب الغرامات والأروش الرابع قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون خاطب السكران والسكران غافل فثبت أنه يجوز خطاب الغافل والجواب نحن لا ندعي أن وقوع الفعل من العبد مشروط بعلمه به بل ندعي أن اختيار المكلف فعلا معينا لغرض الخروج عن عهدة التكليف مشروط بالعلم به وهذا معلوم بالضروة ولا يقدح فيه ما ذكرتموه

وأما المعارضة الأولى فقد تقدم ذكرها في مسألة تكليف مالا يطاق وأما الثانية فمن الناس من زعم أن العلم بوجوب النظر ضروري وهذا ضعيف لأن العلم بكون النظر في الإلهيات مفيدا للعلم وبكونه معينا في ذلك من أغمض المسائل وأدقها لأن جمهور العقلاء وإن ساعدوا على كون النظر مفيدا للعلم في الجملة كما في الحسابيات والهندسيات لكنهم نازعوا في كون النظر مفيدا للعلم في الإلهيات وزعموا أن النظر فيها لا يفيد إلا الظن ومن سلم ذلك فقد قالوا كما أن النظر يفيد العلم فغيره ايضا قد يفيده وهو تصفية الباطن

وإذا كان العلم بوجوب النظر موقوفا على هذين المقامين النظريين والموقوف على النظري أولي أن يكون نظريا فثبت إنه لا يمكن ادعاء الضرورة في ذلك واعلم أن هذه الحجة تؤيد القول بتكليف مالا يطاق وأما وجوب الغرامات فمعناه إما خطاب الولي بأدائها في الحال أو خطاب الصبي بعد صيرورته بالغا بأدائها وأما الآية فلها تأويلان أحدهما أنها خطاب مع من ظهرت منه مبادئ النشاط والطرب وما زال عقله وقوله حتى تعلموا ما تقولون معناه حتى يتكامل فيكم الفهم كما يقال للغضبان إصبر حتى تعلم ما تقول أي حتى يسكن غضبك وهذا لأنه لا يشتغل بالصلاة إلا مثل هذا السكران وقد يعسر عليه إتمام الخشوع

المسألة الثالثة في أن المامور يجب أن يقصد إيقاع المأمور به

الثاني أنه ورد الخطاب به في ابتداء الإسلام قبل تحريم الخمر وليس المراد المنع من الصلاة بل المنع من إفراط الشرب وقت الصلاة كما يقال لا تقرب التهجد وأنت شبعان أي لا تشبع فيثقل عليك التهجد والله أعلم المسألة الثالثة في أن المامور يجب أن يقصد إيقاع المأمور به على سبيل الطاعة المعتمد فيه قوله ص إنما الأعمال بالنيات قالوا ويستثنى منه سيئان أحدهما الواجب الأول وهو النظر المعرف للوجوب فإنه لا يمكن قصد إيقاعه طاعة مع أن فاعله لا يعرف وجوبه عليه إلا بعد إتيانه به الثاني إرادة الطاعة فإنها لو افتقرت إلى إرادة أخرى لزم التسلسل

المسألة الرابعة في تكليف المكره

المسألة الرابعة في أن المكره على الفعل هل يجوز أن يؤمر به ويتركه المشهور أن الإكراه إما أن ينتهي إلى حد الإلجاء أو لا ينتهي إليه فإن انتهى إلى حد الإلجاء امتنع التكليف لأن المكره عليه يعتبر واجب الوقوع وضده يصير ممتنع الوقوع والتكليف بالواجب والممتنع غير جائز

وإن لم ينته إلى حد الإلجاء صح التكليف به ولقائل أن يقول الإكراه لا ينافي التكليف لأن الفعل أما أن يتوقف غلى الداعي أو لا يتوقف فإن توقف فقد بينا فيما تقدم أنه لا بد من انتهاء الدواعي إلى داعية تحصل فيه من قبل غيره وان حصول الفعل عند حصول تلك الداعية واجب فحينئذ يكون التكليف تكليفا بما وجب وقوعه أو بما امتنع وقوعه وإذا جاز ذلك فلم لا يجوز مثله في الإكراه وأما إن لم يتوقف على الداعي كان رجحان الفعل على الترك أو بالعكس اتفاقيا والاتفاقي لا يكون باختيار المكلف وأذا جاز التكليف هناك مع أنه ليس باختيار المكلف فلم لا يجوز مثله في الإكراه فإن قلت ما الذي أردت بكون الفعل اتفاقيا إن عنيت به أنه حصل لا بقدرة القادر فهو ممنوع وذلك لأن المؤثر فيه عندنا هو القادر لكن القادر عندنا يمكنه أن يرجح أحد مقدوريه به على الآخر من غير مرجح وإن عنيت به أمرا آخر فلا بد من بيانه قلت الرجل كان موصوفا بكونه قادرا على هذا الفعل مع أن هذا الفعل ما كان موجودا فلما وجد هذا الفعل فإما أن يكون لأنه حدث أمر آخر وراء كونه قادرا الذي كان حاصلا قبل ذلك أو ليس كذلك

فإن حدث كان حدوث الفعل عن القادر متوقفا على أمر آخر سوى كونه قادرا وقد فرضناه ليس متوقفا عليه هذا خلف وإن لم يحدث البتة أمر كان حدوث هذا الفعل في بعض أزمنة كونه قادرا دون ما قبله وما بعده ليس لأمر حصل في جانب القادر حتى يؤمر به أو ينهى عنه بل كان ذلك محض الاتفاق فيكون في هذه الحالة تكليفا له بما ليس في وسعه وإذا ثبت ذلك بطل قولهم المكره غير مكلف وأعلم أن هذه القاعدة قد ذكرناها في هذا الكتاب مرارا وسنذكرها بعد ذلك وما ذاك إلا لأن أكثر القواعد مبني عليها ولا جواب عنها إلا بتسليم أنه يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد

المسألة الخامسة في أن التكليف يتوجه إلى المأمور حال المباشرة بالفعل

المسألة الخامسة ذهب أصحابنا إلى أن المأمور إنما يصير مأمورا حال زمان الفعل وقبل ذلك فلا أمر بل هو إعلام له بأنه في الزمان الثاني سيصير مأمورا به وقالت المعتزلة إنه إنما يكون مأمورا بالفعل قبل وقوع الفعل لنا أنه لو امتنع كونه مأمورا حال حدوث الفعل لامتنع كونه مأمورا

مطلقا لأن في الزمان الأول لو امر بالفعل لكان الفعل إما أن يكون ممكنا في ذلك الزمان أو لا يكون فإن كان ممكنا فقد صار مأمورا بالفعل حال إمكان وقوعه وإن لم يكن ممكنا كان مأمورا بما لا قدرة له عليه وذلك عند الخصم محال فان قلت إنه في الزمان الأول مأمور لا بأن يوقع الفعل في عين ذلك الزمان بل بأن يوقعه في الزمان الثاني منه قلت قولك إنه في الزمان الآول مأمور بأن يوقع الفعل في الزمان الثاني إن عنيت به أن كونه موقعا للفعل لا يحصل إلا في الزمان الثاني ففي الزمان الأول لم يكن موقعا البتة لشئ وليس هناك إلا نفس القدرة فيمتنع أن يكون في ذلك الزمان مأمورا بشئ وإن عنيت به أن كونه موقعا يحصل في والزمان الأول والفعل يوجد في الزمان الثاني فنقول كونه موقعا إما أن يكون نفس القدرة أو أمرا زائدا عليها فإن كان

نفس القدرة لم يكن لكونه موقعا للفعل معنى إلا محض كونه قادرا فيعود القسم الأول وإن كان أمرا زائدا عليها فحينئذ تكون القدرة مؤثرة في وقوع ذلك الزائد في الزمان الأول والأمر إنما توجه عليه في الزمان الأول بإيقاع ذلك الزائد وذلك الزائد واقع في الزمان الأول فالآمر لا يكون أمرا بالشئ إلا حال وقوعه لا قبله احتج الخصم بأن المأمور بالشئ يجب أن يكون قادرا عليه ولا قدرة على الفعل حال وجود الفعل وإلا لكان ذلك تحصيلا للحاصل وهو محال فعلمنا أن القدرة على الفعل متقدمة على الفعل والأمر لا يتناول إلا القادر والرجل لا يصير مأمورا بالفعل إلا قبل وقوعه والجواب القدرة مع الداعي مؤثرة في وجود الفعل ومستلزمة

له ولا امتناع في كون المؤثر مقارنا للأثر كما في سائر المؤثرات الموجبة والله اعلم

المسألة السادسة في المأمور به إذا كان مشروطا بشرط

المسألة السادسة المأمور به إذا كان مشروطا بشرط فالآمر إما أن يكون غير عالم بعدم الشرط أو لا يكون

أما الأول فكما إذا قال السيد لعبده صم غدا فإن هذا مشروط ببقاء العبد غدا وهو مجهول للآمر فها هنا الأمر تحقق في الحال يشرط بقاء المأمور قادرا على الفعل وأما الثاني فكما إذا علم الله تعالى إن زيدا سيموت غدا فهل يصح أن يقال أن الله تعالى أمره بالصوم غدا يشرط أن يعيش غدا مع أنه يعلم أنه لا يعيش غدا قطع القاضي أبو بكر والغزالي رحمهما الله تعالى به وأباه جمهور المعتزلة حجة المنكرين أن شرط الأمر بقاء المأمور فالعالم بأن المأمور لا يبقى عالم بفوات شرط الأمر فاستحال مع ذلك حصول الأمر قال المجوزون لا نزاع في أنه لا يجوز أن يقول للميت حال كونه ميتا إفعل لكن لم لا يجوز أن يقال في الحال لمن يعلم أن سيموت غدا إفعل غدا إن عشت بل هو جائز لما فيه من المصالح الكثيرة فإن المكلف قد يوطن النفس على الامتثال ويكون ذلك التوطين نافعا له يوم المعاد ونافعا له في الدنيا لأنه ينحرف به في الحال عن الفساد

وهذا كما أن السيد قد يستصلح عبده بأوامر ينجزها عليه مع عزمه على نسخ الأمر امتحانا للعبد وقد يقول الرجل لغيره وكلتك بيع العبد غدا مع علمه بأنه سيعزله وهو عن ذلك غدا لما أن غرضه منه استمالة الوكيل أو امتحانه في أمر ذلك العبد ومأخذ النزاع في هذه المسألة أن المجوزين قالوا الأمر تارة يحسن لمصالح تنشأ من نفس الأمر لا من المأمور به وتارة لمصالح تنشأ من المأمور به وأما المانعون فقد اعتقدوا أن الأمر لا يحسن إلا لمصلحة تنشأ من المأمور به وتمام تقريره سيظهر في مسألة أنه يجوز النسخ قبل مضي مدة الامتثال والله أعلم

القسم الثالث في النواهي وفيه مسائل

القسم الثالث في النواهي وفيه مسائل

المسألة الأولى ظاهر النهي التحريم

المسألة الأولى ظاهر النهي التحريم وفيه المذاهب التي ذكرناها في أن الأمر للوجوب لنا قوله تعالى وما نهاكم عنه فانتهوا أمر بالانتهاء عن المنهي عنه والأمر للوجوب فكان الانتهاء عن المنهي واجبا وذلك هو المراد من قولنا النهي للتحريم والله أعلم المسألة الثانية المشهور أن النهي يفيد التكرار

ومنهم من أباه وهو المختار لنا أن النهي قد يراد منه التكرار وهو متفق عليه وقد يراد منه المرة الواحدة كما يقول الطبيب للمريض الذي شرب الدواء لا تشرب الماء ولا تأكل اللحم أي في هذه الساعة ويقول المنجم لا تفصد ولا تخرج إلى الصحراء أي في هذا اليوم ويقول الوالد لولده لا تلعب صلى الله عليه وسلم أي في هذا اليوم والاشتراك والمجاز خلاف الأصل فوجب جعل النهي حقيقة في القدر المشترك الثاني أنه يصح أن يقال لا تأكل السمك أبدا وأن يقال لا تأكل اللحم في هذه الساعة وأما في الساعة الأخرى فكل والأول ليس بتكرار والثاني ليس بنقض فثبت أن النهي لا يفيد التكرار احتج المخالف بأمور أحدها أن قوله لا تضرب يقتضي امتناع المكلف من إدخال ماهية الضرب في الوجود والامتناع من إدخال هذه الماهية في الوجود إنما يتحقق إذا امتنع من إدخال كل أفرادها في الوجود إذ لو أدخل فردا من أفرادها

في الوجود وذلك الفرد مشتمل على الماهية فحينئذ يكون قد أدخل تلك الماهية في الوجود وذلك ينافي قولنا إنه امتنع من إدخال تلك الماهية في الوجود وثانيها أن قوله لا تضرب يعد في عرف اللغة مناقضا لقوله إضرب لأن تمام قولنا إضرب حاصل في قولنا لا تضرب مع زيادة حرف النهي لكن قولنا إضرب يفيد طلب الضرب مرة واحدة فلو كان قولنا لا تضرب يفيد الانتهاء أيضا مرة واحدة لما تناقضا لأن النفي والإثبات في وقتين لا يتناقضان فلما كان مفهوم النهي مناقضا لمفهوم الأمر وجب أن يتناول النهي كل الأوقات حتى تتحقق المنافاة وثالثها أن قوله لا تضرب لا يمتنع حمله على التكرار وقد دل الدليل على حمله على التكرار فوجب المصير إليه إنما قلنا إنه لا يمتنع حمله على التكرار لأن كون الإنسان ممتنعا عن فعل المنهي عنه أبدا ممكن ولا عسر فيه

وأما أن الدليل دل عليه فلأنه ليس في الصيغة دلالة على وقت دون وقت فوجب الحمل على الكل دفعا للإجمال بخلاف الأر فإنه يمتنع حمله على التكرار لإفضائه إلى المشقة والجواب عن الأول إنه لا نزاع في أن النهي يقتضي امتناع المكلف عن إدخال تلك الماهية في الوجود ولكن الامتناع عن إدخال تلك الماهية في الوجود قدر مشترك بين الامتناع عنه دائما وبين الامتناع عنه لا دائما كما تقدم بيانه واللفظ الدال على القدر المشترك لا دلالة له على ما به يمتاز كل واحد من القسمين عن الثاني فإذن لا دلالة في هذا اللفظ على الدوام البتة وعن الثاني إنك إن أردت بقولك إن الأمر والنهي دلا على مفهومين متناقضين أن هذا يدل على الإثبات وذلك يدل على النفي فهذا مسلم ولكن مجرد النفي والاثبات لا يتنافيان إلا بشرط اتحاد الوقت فإن قولك زيد قائم زيد ليس بقائم لا يتناقضان لأنه متى صدق الإثبات في وقت واحد فقد صدق الإثبات ومتى صدق النفي في وقت آخر فقد صدق النفي

المسألة الثالثة هل يجوز ورود الأمر والنهي على شيء واحد معا؟

ومعلوم أن الإثبات في وقت لا ينافي النفي في وقت آخر فمطلق الإثبات والنفي وجب أن لا يتناقضا البتة وعن الثالث أن النهي لا دلالة فيه إلا على مسمى الامتناع فحيث تحقق هذا المسمى فقد وقع الخروج عن عهدة التكليف تنبيه إن قلنا إن النهي يفيد التكرار فهو يفيد الفور لا محالة وإلا فلا المسألة الثالثة الشئ الواحد لا يجوز أن يكون مأمورا به منهيا عنه معا والفقهاء قالوا يجوز ذلك إذا كان للشئ وجهان لنا أن المأمور به هو الذي طلب تحصيله من المكلف وأقل مراتبه رفع الحرج عن الفعل والمنهي عنه هو الذي لم يرفع الحرج عن فعله فالجمع بينهما ممتنع إلا على القول بتكليف ما لا يطاق فإن قيل هذا الامتناع إنما يتحقق في الشئ الواحد من الوجه الواحد

إما الشئ ذو الوجهين فلم لا يجوز أن يكون مأمورا به نظرا إلى أحد وجهيه منهيا عنه نظرا إلى الوجه الآخر وهذا كالصلاة في الدار المغصوبة فإن لها جهتين كونها صلاة وكونها غصبا والغصب معقول دون الصلاة وبالعكس فلا جرم صح تعلق الأمر بها من حيث إنها صلاة وتعلق النهي بها من حيث إنها غصب لأن السيد لو قال لعبده خط هذا الثوب ولا تدخل هذه الدار فإذا خاط الثوب ودخل الدار حسن من السيد أن يضربه ويكرمه ويقول أطاع في أحدهما وعصى في الآخر فكذا ما نحن فيه فإن هذه الصلاة وإن كانت فعلا واحدا ولكنها تضمنت تحصيل أمرين أحدهما مطلوب والآخر منهي عنه سلمنا أن ما ذكرته يدل على قولك لكنه معارض بوجه آخر وهو أن الصلاة في الدار المغصوبة صلاة والصلاة مأمور بها فالصلاة في الدار المغصوبة مأمور بها وإنما قلنا أن الصلاة في الدار المغصوبة صلاة لأن الصلاة

في الدار المغصوبة صلاة مكفئة إذا والصلاة المكفئة فقال صلاة مع كيفية فيكون مسمى الصلاة حاصلا وإنما قلنا إن الصلاة مأمور بها لقوله تعالى وأقيموا الصلاة والجواب أن الذي ندعيه في هذا المقام أن الأمر بالشئ الواحد والنهي عنه من جهة واحدة يوجب التكليف بالمحال ثم إن جوزنا التكليف بالمحال جوزنا الأمر بالشئ الواحد والنهي عنه من جهة واحدة وإن لم نجوز ذلك لم نجوز هذا أيضا فلنبين ما ادعيناه فنقول متعلق الأمر إما أن يكون عين متعلق النهي أو غيره فإن كان الأول كان الشئ الواحد مأمورا به منهيا عنه معا وذلك عين التكليف بما لا يطاق والخصم لا يجعل هذا النوع من التكليف من باب تكليف مالا يطاق

وإن كان الثاني فالوجهان إما أن يتلازما وإما أن لا يتلازما فإن تلازما كان كل واحد منهما من ضرورات الآخر والأمر بالشئ أمر بما هو من ضروراته وإلا وقع التكليف بما لا يطاق وإذا كان المنهي من ضرورات المأمور كان مأمورا فيعود إلى ما ذكرنا من أنه يلزم كون الشئ الواحد مأمورا ومنهيا معا وإن لم يتلازما كان الأمر والنهي متعلقين بشيئين لا يلازم أحدهما صاحبه وذلك جائز إلا أنه يكون غير هذه المسألة التي نحن فيها فإن قلت هما شيئان يجوز انفكاك كل واحد منهما عن الآخر في الجملة إلا أنهما في هذه الصورة الخاصة صارا متلازمين قلت ففي هذه الصورة الخاصة المنهي عنه يكون من لوازم المأمور به وما يكون من لوازم المأمور به يكون مأمورا به فيلزم أن يصير المنهي عنه في هذه الصورة مأمورا به وذلك محال فهذا برهان قاطع على فساد قولهم على سبيل الإجمال أما على سبيل التفصيل فهو أن الصلاة ماهية مركبة من أمور أحد

تلك الأمور الحركات والسكنات وهما ماهيتان مشتركتان في قدر واحد من المفهوم وهو شغل الحيز لأن الحركة عبارة عن شغل الحيز بعد أن كان شاغلا لحيز آخر والسكون عبارة عن شغل حيز واحد أزمنة كثيرة وهذان المفهومان يشتركان في كون كل واحد منهما شغلا للحيز فإذن شغل الحيز جزء جزء ماهية الصلاة فيكون جزءا لها لا محالة وشغل الحيز في هذه الصلاة منهي عنه فإذن أحد أجزاء ماهية هذه الصلاة منهي عنه فيستحيل أن تكون هذه الصلاة مأمورا بها لأن الأمر بالمركب أمر بجميع أجزائه فيكون ذلك الجزء مأمورا به مع أنه كان منهيا عنه فيلزم في الشئ الواحد أن يكون مأمورا به منهيا عنه وهو محال أما قوله كونه صلاة وغصبا جهتان متباينتان يوجد كل واحد منهما عند عدم الآخر قلنا نعم ولكنا بينا أن شغل الحيز جزء ماهية الصلاة فكما أن مطلق الشغل جزء ماهية مطلق الصلاة فكذلك الشغل المعين يكون جزءا من ماهية الصلاة المعينة فإذا كان هذا الشغل منهيا عنه وهذا الشغل جزء ماهية هذه الصلاة كان جزء هذه الصلاة منهيا عنه وإذا كان

جزؤها منهيا عنه استحال كون هذه الصلاة مأمورا بها بل الصلاة مأمور بها لكن النزاع ليس في الصلاة من حيث إنها صلاة بل في هذه الصلاة وأما المثال الذي ذكروه وهو أن يقول السيد لعبده خط هذا الثوب ولا تدخل هذه الدار فهو بعيد لأن ها هنا الفعل الذي هو متعلق الأمر غير الفعل الذي هو متعلق النهي وليس بينهما ملازمة فلا جرم صح الأمر بأحدهما والنهي عن الآخر إنما النزاع في صحة تعلق الأمر والنهي بالشئ الواحد فأين أحدهما من الآخر وأما المعارضة التي ذكروها فمدار أمرها على إن قوله تعالى أقيموا الصلاة يفيد الأمر بكل صلاة فهذا مع ما فيه من المقدمات الكثيرة لو سلمناه لكن تخصيص العموم بدليل العقل غير مستبعد وما ذكرناه من الدليل عقلي قاطع فوجب تخصيصه به والله أعلم تنبيه الصلاة في الدار المغصوبة وإن لم تكن مأمورا بها إلا أن الفرض يسقط عندها لا بها لأنا بينا بالدليل امتناع ورود الأمر بها

المسألة الرابعة هل يفيد النهي الفساد؟

والسلف أجمعوا على أن الظلمة لا يؤمرون بقضاء الصلوات المؤداة في الدور المغصوبة ولا طريق إلى التوفيق بيهما إلا ما ذكرناه وهو مذهب القاضي أبي بكر رحمه الله والله أعلم المسألة الرابعة ذهب أكثر الفقهاء إلى أن النهي لا يفيد الفساد وقال بعض أصحابنا أنه يفيده وقال أبو الحسين البصري أنه يفيد الفساد في العبادات لا في المعاملات وهو المختار والمراد من كون العبادة فاسدة أنه لا يحصل الإجزاء بها أما العبادات فالدليل على أن النهي فيها يدل على الفساد أن نقول إنه بعد الإتيان بالفعل المنهي عنه لم يأت بما أمر به فبقي في العهدة

إنما قلنا إنه لم يأت بما أمر به لأن المأمور به غير المنهي عنه كما تقدم بيانه فلم يكن الإتيان بالمنهي عنه إتيانا بالمامور به وإنما قلنا إنه وجب أن يبقى في العهدة لأنه تارك للمأمور به وتارك المأمور به عاص والعاصي يستحق العقاب على ما مر تقريره في مسألة أن الأمر للوجوب فإن قيل لم لا يجوز أن يكون الإتيان بالفعل المنهي عنه سببا للخروج عن عهدة الأمر فإنه لا تناقض في أن يقول الشارع نهيتك عن الصلاة في الثوب المغصوب ولكن إن فعلته أسقطت عنك الفرض بسببه سلمنا أن ما ذكرته يدل على أن النهي يقتضي الفساد لكنه معارض بدليلين الأول أن النهي لو دل على الفساد لدل عليه إما بلفظه أو بمعناه ولم يدل عليه في الوجهين فوجب أن لا يدل على الفساد أصلا أما أنه لا يدل عليه بلفظه فلأن اللفظ لا يفيد إلا الزجر عن الفعل والفساد معناه عدم الإجزاء وأحدهما مغاير للآخر وأما أنه لا يدل عليه بمعناه فلأن الدلالة المعنوية إنما تتحقق إذا

كان لمسمى الشئ لازم فاللفظ الدال على الشئ دال على لازم المسمى بواسطة دلالته على المسمى وها هنا الفساد غير لازم للمنع لأنه لا استبعاد في أن يقول الشارع لا تصل في الثوب المغصوب ولو صليت صحت صلاتك ولا تذبح الشاة بالسكين المغصوب ولو ذبحتها بها حلت ذبيحتك وإذا لم تحصل الملازمة انتفت الدلالة المعنوية الثاني لو اقتضى النهي الفساد لكان أينما تحقق النهي تحقق الفساد لكن الأمر ليس كذلك بدليل النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة والوضوء بالماء المغصوب مع صحتهما والجواب قوله لم لا يجوز أن يكون الإتيان بالمنهي عنه سببا للخروج عن العهدة قلنا لأنه إذا لم يأت بالمأمور به بقي الطلب كما كان فوجب الإتيان به وإلا لزم العقاب بالدليل المذكور قوله الصلاة في الثوب المغصوب منهي عنها ثم إن الإتيان بها يقتضي الخروج عن العهدة

قلنا الدليل الذي ذكرناه يقتضي أن لا يخرج الإنسان عن عهدة الأمر إلا بفعل المأمور به إلا أنه قد يترك العمل بهذا الدليل في بعض الصور لمعارض والفرق أن مماسة بدن الإنسا للثوب ليست جزءا من ماهية الصلاة ولا مقدمة لشئ من أجزائها وإذا كان كذلك كان آتيا بعين الصلاة المأمور بها من غير خلل في ماهيتها أصلا أقصى ما في الباب أنه أتى مع ذلك بفعل آخر محرم ولكن لا يقدح في الخروج عن العهدة أما المعارضة الآولى فجوابها أن النهي دل على أن المنهي عنه مغاير للمأمور به والنص دل على أن الخروج عن عهدة الأمر لا يحصل إلا بالإتيان بالمأمور به فيحصل من مجموع هاتين المقدمتين أن الإتيان بالمنهي عنه لا يقتضي الخروج عن العهدة وأما المعارضة الثانية فنقول لا نسلم أن النهي في الصور التي ذكرتموها تعلق بنفس ما تعلق به

الأمر بل بالمجاور وحيث صح الدليل أن الفعل المأتي به غير الفعل المنهي عنه فلا نسلم أنه لا يفيد الفساد والله أعلم وأما المعاملات فالمراد من قولنا هذا البيع فاسد إنه لا يفيد الملك فنقول لو دل النهي على عدم الملك لدل عليه إما بلفظه أو بمعناه ولا يدل عليه بلفظه لأن لفظ النهي لا يدل إلا على الزجر ولا يدل عليه بمعناه أيضا لأنه لا استبعاد في أن يقول الشارع نهيتك عن هذا البيع ولكن إن أتيت به حصل الملك كالطلاق في زمان الحيض والبيع وقت النداء وإذا ثبت أن النهي لا يدل على الفساد لا بلفظه ولا بمعناه وجب أن لا يدل عليه أصلا فإن قيل هذا يشكل بالنهي في باب العبادات فإنه يدل على الفساد ثم نقول لا نسلم أنه يدل عليه بمعناه وبيانه من وجهين الأول أن فعل المنهي عنه معصية والملك نعمة والمعصية تناسب المنع من النعمة وإلا لاحت المناسبة فمحل الاعتبار جميع المناهي الفاسدة

الثاني أن المنهي عنه لا يجوز أن يكون منشأ المصلحة الخالصة أو الراجحة وإلا لكان النهي منعا عن المصلحة الخالصة أو الراجحة وإنه لا يجوز بقي أحد امور ثلاثة وهو أن يكون منشأ المفسدة الخالصة أو الراجحة أو المساوية وعلى التقديرين الأولين وجب الحكم بالفساد لأنه إذا لم يفد الحكم أصلا كان عبثا والعاقل لا يرغب في العبث ظاهرا فلا يقدم عليه فكان القول بالفساد سعيا في إعدام تلك المفسدة وعلى التقدير الثالث وهو التساوي كان الفعل عبثا والاشتغال بالعبث محذور عند العقلاء والقول بالفساد يفضي إلى دفع هذا المحذور فوجب القول به سلمنا أن ما ذكرته يدل على قولك لكنه معارض بالنص والإجماع والمعقول أما النص فقوله عليه الصلاة والسلام

من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد والمنهي عنه ليس من الدين فيكون مردودا ولو كان سببا للحكم لما كان مردودا وأما الإجماع فهو أنهم رجعوا في القول بفساد الربا وفساد نكاح المتعة إلى النهي وأما المعقول فمن وجهين الأول أن النهي نقيض الأمر لكن الأمر يدل على الإجزاء فالنهي يدل على الفساد الثاني أن النهي يدل على مفسدة خالصة أو راجحة والقول

بالفساد سعي في إعدام تلك المفسدة فوجب أن يكون مشروعا قياسا على جميع المناهي الفاسدة والجواب قوله يشكل بالنهي في العبادات قلنا المراد من الفساد في باب العبادات أنها غير مجزئة والمراد منه في باب المعاملات إنه لا يفيد سائر الاحكام واذا اختلف المعنى لم يتجه أحدهما نقضا على الآخر قوله الملك نعمة فلا تحصل من المعصية قلنا الكلام عليه وعلى الوجه الثاني مذكور في الخلافيات وأما الحديث فنقول الطلاق في زمان الحيض يوصف بأمرين أحدهما أنه غير مطابق لأمر الله تعالى والثاني أنه سبب للبينونة أما الأول فالقول به إدخال في الدين ما ليس منه فلا جرم كان ردا وأما الثاني فلم قلت إنه ليس من الدين حتى يلزم منه أن

يكون ردا فإن هذا عين المتنازع فيه وأما الإجماع فلا نسلم أن الصحابة رضي الله عنهم رجعوا في فساد الربا والمتعة إلى مجرد النهي بدليل أنهم حكموا في كثير من المنهيات بالصحة وعند ذلك لا بد وأن يكون أحد الحكمين لأجل القرينة وعليكم الترجيح ثم هو معنا لأنا لو قلنا إن النهي يدل على الفساد لكان الحكم بعدم الفساد في بعض الصور تركا للظاهر أما لو قلنا بأنه لا يقتضي الفساد لم يكن إثبات الفساد في بعض الصور لدليل منفصل تركا للظاهر فكان ما قلناه أولى قوله الأمر دل على الإجزاء فوجب أن يدل النهي على الفساد قلنا هذا غير لازم لإمكان اشتراك المتضادات في بعض الصور اللوازم ولو سلمنا ذلك لكان الأمر لما دل على الإجزاء وجب أن لا يدل النهي عليه لا أن يدل على الفساد والله أعلم

المسألة الخامسة هل يدل النهي على صحة المنهي عنه؟

المسألة الخامسة في أن النهي عن الشئ هل يدل على صحة المنهي عنه الذين قالوا إن النهي عن التصرفات لا يدل على الفساد اختلفوا في أنه هل يدل على الصحة فنقل عن أبي حنيفة ومحمد بن الحسن رحمهما الله أنه يدل على الصحة ولأجل ذلك احتجوا بالنهي عن الربا على انعقاده فاسدا وكذا في نذر صوم يوم العيد وأصحابنا أنكروا ذلك

لنا قوله ص دعي الصلاة أيام أقرائك وروى أنه ص نهى عن بيع الملاقيح والمضامين فالنهي

المسألة السادسة في المطلوب بالنهي عندنا وعند المعتزلة

في هذه الصورة منفك عن الصحة احتجوا بأن النهي عن غير المقدور عبث والعبث لا يليق بالحكيم فلا يجوزأن يقال للأعمى لا تبصر ولا أن يقال للزمن لا تطر والجواب عنه النقض بالمناهي المذكورة ثم نقول لم لا يجوز حمل النهي على النسخ كما اذا قال للوكيل لا تبع هذا فإنه وان كان نهيا في الصيغة لكنه نسخ في الحقيقة سلمنا أنه نهي لكن متعلقه هو البيع اللغوي وذلك ممكن الوجود فلم قلت إن المسمى الشرعي ممكن الوجود والله أعلم المسألة السادسة المطلوب بالنهي عندنا فعل ضد المنهي عنه وعند أبي هاشم نفس أن لا يفعل المنهي عنه

لنا أن النهي تكليف والتكليف إنما يرد بما يقدر عليه المكلف والعدم الأصلي يمتنع أن يكون مقدورا للمكلف لأن القدرة لا بد لها من تأثير والعدم نفي محض فيمتنع إسناده إلى القدرة وبتقدير أن يكون العدم أثرا يمكن إسناده إلى القدرة لكن العدم الأصلي لا يمكن إسناده إلى القدرة لأن الحاصل لا يمكن تحصيله ثانيا وإذا ثبت أن متعلق التكليف ليس هو العدم ثبت أنه أمر وجودي ينافي المنهي عنه وهو الضدد احتج المخالف بأن من دعاه الداعي إلى الزنا فلم يفعله فالعقلاء يمدحونه على أنه لم يزن من غير أن يخطر ببالهم فعل ضد الزنا فعلمنا أن هذا العدم يصلح أن يكون متعلق التكليف والجواب أنهم لا يمدحونه على شئ لا يكون في وسعه والعدم الأصلي يمتنع أن يكون في وسعه على ما تقدم بل إنما يمدحونه

المسألة السابعة في النهي عن أشياء متعددة

على امتناعه من ذلك الفعل وذلك الامتناع أمر وجودي لا محالة وهو فعل ضد الزنى فان قلت إنه كما يمكنه فعل الزنا فكذلك يمكنه أن يترك ذلك الفعل على عدمه الأصلي وأن لا يغيره فعدم التغيير أمر مقدور له فيتناوله التكليف قلت المفهوم من قولنا تركه على ذلك العدم الأصلي وما غيره عنه إما أن يكون محض العدم أو لا يكون فإن كان محض العدم لم يكن متعلق قدرته فاستحال أن يتناوله التكليف وإن لم يكن محض العدم كان أمرا وجوديا وهو المطلوب المسألة السابعة النهي عن الأشياء إما أن يكون نهيا عنها على الجمع أو عن الجمع أو نهيا عنها على البدل أو عن البدل أما النهي عنها على الجمع فهو أن يقول الناهي للمخاطب لا تفعل هذا ولا هذا فيكون ذلك موجبا للخلو عنهما أجمع

ثم تلك الأشياء التي أوجب الخلو عنها إن كان الخلو عنها ممكنا فلا شك في جواز النهي وإن لم يكن كان ذلك النهي جائزا عند من يجوز التكليف بمالا يطاق وأما النهي عن الجمع بين أشياء فهو مثل أن تقول لا تجمع بين كذا وكذا ثم تلك الأشياء إن أمكن الجمع بينها فلا كلام في جواز ذلك النهي وإلا لم يجز عند من لا يجوز تكليف مالا يطاق لأنه عبث يجري مجرى نهي الهاوي من شاهق جبل عن الصعود وأما النهي عن الأشياء على البدل فهو أن يقال للإنسان لا تفعل هذا إن فعلت ذلك ولا تفعل ذلك إن فعلت هذا وذلك ب أن يكون كل واحد منهما مفسده عند وجود الآخر وهذا يرجع إلى النهي عن الجمع بينهما وأما النهي عن البدل فيفهم منه شيئان

أحدهما أن ينهى الإنسان عن أن يفعل شيئا ويجعله بدلا عن غيره وذلك يرجع إلى النهي عن أن يقصد به البدل وذلك غير ممتنع والآخر أن ينهى عن أن يفعل أحدهما دون الآخر لكن يجمع بينهما وهذا النهي جائز إن أمكن الجمع وغير جائز إن تعذر على قول من لا يجوز تكليف مالا يطاق والله أعلم

الكلام في العموم والخصوص وهو مرتب على أقسام

الكلام في العموم والخصوص وهو مرتب على أقسام القسم الأول في العموم وهو مرتب على شطرين

الشطر الأول في ألفاظ العموم وفيه مسائل

الشطر الأول في ألفاظ العموم وفيه مسائل المسألة الأولى في العام هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد كقولنا الرجال فإنه مستغرق لجميع ما يصلح له ولا يدخل عليه النكرات كقولهم رجل لأنه يصلح لكل واحد من رجال الدنيا ولا يستغرقهم

ولا التثنية و (لا) الجمع لأن لفظ رجلان ورجال يصلحان لكل اثنين وثلاثة ولا يفيدان الاستغراق ولا ألفاظ العدد كقولنا خمسة لأنه صالح لكل خمسة ولا يستغرقه وقولنا بحسب وضع واحد احتراز عن اللفظ المشترك أو الذي له حقيقة ومجاز فإن عمومه لا يقتضي أن يتناول مفهوميه معا وقيل في حده أيضا إنه اللفظة الدالة على شيئين فصاعدا من غير حصر واحترزنا باللفظة عن المعاني العامة وعن الألفاظ المركبة وبقولنا الدالة عن الجمع المنكر فإنه يتناول جميع الأعداد لكن

المسألة الثانية في وسائل إفادة العام

على وجه الصلاحية لا على وجه الدلالة وبقولنا على شيئين عن النكرة في الإثبات وبقولنا من غير حصر عن أسماء الأعداد والله أعلم المسألة الثانية المفيد للعموم إما أن يفيد لغة أو عرفا أو عقلا أما الذي يفيده لغة فإما أن يفيده على الجمع أو على البدل والذي يفيده على الجمع فإما أن يفيده كونه اسما موضوعا للعموم أو لأنه اقترن به ما أوجب عمومه وأما الموضوع للعموم فعلى ثلاثة أقسام الأول ما يتناول العالمين وغيرهم وهو لفظ أي في الاستفهام والمجازاة تقول أي رجل وأي ثوب وأي جسم في الاستفهام والمجازاة وكذا لفظ كل وجميع الثاني ما يتناول العالمين فقط وهو من في المجازاة والاستفهام الثالث ما يتناول غير العالمين وهو قسمان أحدهما ما يتناول كل ما ليس من العالمين وهو صيغة ما

وقيل إنه يتناول العالمين أيضا كقوله تعالى ولا أنتم عابدون ما أعبد وثانيهما ما يتناول بعض ما ليس من العالمين وهو صيغة متى فإنها مختصة بالزمان وأنى وحيث فإنهما مختصان بالمكان وأما الاسم الذي يفيد العموم لأجل أنه دخل عليه ما جعله كذلك فهو إما في الثبوت أو في العدم أما الثبوت فضربان لام الجنس الداخلة على الجمع كقولك الرجال والإضافة كقولك ضربت عبيدي وأما العدم فكالنكرة به في النفي وأما الاسم الذي يفيد العموم على البدل فأسماء النكرات على اختلاف مراتبها في العموم والخصوص وأما القسم الثاني وهو الذي يفيد العموم عرفا كقوله تعالى حرمت عليكم أمهاتكم فإنه يفيد في العرف تحريم جميع وجوه الاستمتاع

المسألة الثالثة في الفرق بين المطلق والعام

وأما القسم الثالث وهو الذي يفيد العموم عقلا فأمور ثلاثة أحدها أن يكون اللفظ مفيدا للحكم ولعلته فيقتضي ثبوت الحكم أينما وجدت العلة والثاني أن يكون المفيد للعموم ما يرجع إلى سؤال السائل كما إذا سئل النبي عليه الصلاة والسلام عمن أفطر فيقول عليه الكفارة فنعلم أنه يعم كل مفطر والثالث دليل الخطاب عند من يقول به كقوله عليه الصلاة والسلام في سائمة الغنم زكاة فإنه يدل على أنه لا زكاة في كل ما ليس بسائمة والله أعلم المسألة الثالثة في الفرق بين المطلق والعام اعلم أن كل شئ فله حقيقة وكل أمر يكون المفهوم منه مغايرا للمفهوم من تلك الحقيقة كان لا محالة أمرا آخر سوى تلك الحقيقة سواء كان ذلك المغاير لازما لتلك الحقيقة أو مفارقا وسواء كان سلبا أو إيجابا

فالإنسان من حيث إنه إنسان ليس إلا أنه إنسان فأما أنه واحد أو لا واحد أو كثير أو لا كثير فكل ذلك مفهومات منفصلة عن الإنسان من حيث إنه إنسان وإن كنا نقطع بأن مفهوم الإنسان لا ينفك عن كونه واحدا أو لا واحدا إذا عرفت ذلك فنقول اللفظة الدالة على الحقيقة من حيث إنها هي هي من غير أن تكون فيها دلالة على شئ من قيود تلك الحقيقة سلبا كان ذلك القيد أو إيجابا فهو المطلق وأما اللفظ الدال على تلك الحقيقة مع قيد الكثرة فإن كانت الكثرة كثرة معينة بحيث لا يتناول ما يزيد عليها فهو اسم العدد وإن لم تكن الكثرة كثرة معينة فهو العام وبهذا التحقيق ظهر خطأ من قال المطلق هو الدال على واحد لا بعينه فإن كونه واحدا وغير معين قيدان زائدان على الماهية والله أعلم

المسألة الرابعة اختلاف العلماء في بعض ألفاظ العموم وهي في خمسة فصول

المسألة الرابعة اختلف الناس في صيغة كل وجميع وأي وما ومن في المجازاة والاستفهام فذهبت المعتزلة وجماعة من الفقهاء إلى أنها للعموم فقط وهو المختار وأنكرت الواقفية ذلك ولهم قولان فالأكثرون ذهبوا إلى أنها مشتركة بين العموم والخصوص والأقلون قالوا لا ندري أنها حقيقة في العموم فقط أو الخصوص فقط أو الاشتراك فقط والكلام في هذه المسألة مرتب على فصول خمسة

الفصل الأول في أن من وما وأين ومتى في الاستفهام

الفصل الأول في أن من وما وأين ومتى في الاستفهام للعموم فنقول هذه الصيغ إما أن تكون للعموم فقط أو للخصوص فقط أولهما على سبيل الاشتراك أو لا لواحد منهما والكل باطل إلا الأول أما أنه لا يجوز أن يقال إنها موضوعة للخصوص فقط فلأنه لو كان كذلك لما حس من المجيب أن يجيب بذكر كل العقلاء لأن الجواب يجب أن يكون مطابقا للسؤال لكن لا نزاع في حسن ذلك وأما أنه لا يجوز القول بالاشتراك فلأنه لو كان كذلك لما حسن الجواب إلا بعد الاستفهام عن جميع الأقسام الممكنة مثل أنه إذا قيل من عندك فلا بد أن تقول تسألني عن الرجال أو عن النساء فإذا قال عن الرجال فلا بد أن تقول تسألني عن العرب أو عن

العجم فإذا قال عن العرب فلا بد أن تقول تسألني عن ربيعة أو عن مضر وهلم جرا إلى أن تأتي على جميع التقسيمات الممكنة وذلك لأن اللفظ إما أن يقال أنه مشترك بين الاستغراق وبين مرتبة معينة في الخصوص أو بين الاستغراق وبين جميع المراتب الممكنة والأول باطل لأن أحدا لم يقل به والثاني يقتضي أن لا يحسن من المجيب ذكر الجواب إلا بعد الاستفهام عن كل تلك الأقسام لأن الجواب لا بد وأن يكون مطابقا للسؤال فإذا كان السؤال محتملا لأمور كثيرة فلو أجاب قبل أن يعرف ما عنه وقع السؤال لاحتمل أن لا يكون الجواب مطابقا للسؤال وذلك غير جائز فثبت أنه لو صح الاشتراك لوجبت هذه الاستفهامات لكنها غير واجبة أما أولا فلأنه لا عام إلا وتحته عام آخر وإذا كان كذلك كانت التقسيمات الممكنة غير متناهية والسؤال عنها على سبيل التفصيل محال وأما ثانيا فلأنا نعلم بالضرورة من عادة أهل اللسان أنهم يستقبحون مثل هذه الاستفهامات وأما أنه لا يجوز أن تكون هذه الصيغة غير موضوعة للعموم ولا للخصوص فمتفق عليه

فبطلت هذه الأقسام الثلاثة ولم يبق إلا القسم الأول وهو الحق فإن قيل لا نسلم أنها غير موضوعة للخصوص قوله لو كان كذلك لما حسن الجواب بذكر الكل قلنا متى إذا وجدت مع اللفظ قرينة تجعله للخصوص أو إذا لم توجد الأول ممنوع والثاني مسلم بيانه أن من الجائز أن تكون هذه الصيغة موضوعة للخصوص إلا أنه قد يقترن بها من القرائن ما يصير المجموع للعموم لجواز أن يكون حكم المركب مخالفا لحكم المفرد سلمنا ذلك فلم لا يكون مشتركا قوله لو كان كذلك لوجبت الاستفهامات قلنا لم لا يجوز أن يقال هذه اللفظة لا تنفك عن قرينة دالة على

المراد بعينه فلا جرم لا يحتاج إلى تلك الاستفهامات سلمنا إمكان خلوه عن تلك القرينة لكن متى يقبح الجواب بذكر الكل إذا كان ذكر الكل مفيدا لما هو المطلوب بالسؤال على كل التقديرات أو إذا لم يكن الأول ممنوع والثاني مسلم بيانه أن السؤال إما أن يكون قد وقع عن الكل أو عن البعض فإن وقع عن الكل كان ذكر الكل هو الواجب وإن وقع عن البعض فذكر الكل يأتي على ذلك البعض فيكون ذكر الكل مفيدا لحصول المقصود على كل التقديرات وذكر البعض ليس كذلك فكان ذكر الكل أولى سلمنا أن الاشتراك يوجب تلك الاستفهامات لكن لا نسلم أنها لا تحسن ألا ترى أنه إذا قيل من عندك حسن منه أن يقول أعن الرجال تسألني أم عن النساء أعن الأحرار أم عن العبيد غاية ما في الباب أن يقال الاستفهام عن كل الأقسام الممكنة غير جائز لكنا نقول

ليس الاستدلال بقبح بعض تلك الاستفهامات على عدم الاشتراك أولى من الاستدلال بحسن بعضها على الاشتراك وعليكم الترجيح سلمنا أن ما ذكرتم يدل على قولكم لكنه معارض بأن هذه الصيغ لو كانت للعموم فقط لما حسن الجواب إلا بقوله لا أو نعم لأن قوله من عندك تقديره أكل الناس عندك ومعلوم أن ذلك لا يجاب إلا بلا أو بنعم فكذلك ها هنا والجواب قوله الصيغة وإن كانت حقيقة في الخصوص لكن لم لا يجوز أن يقترن بها ما يصير المجموع للعموم قلنا لثلاثة أوجه الأول أن هذا يقتضي أنه لو لم توجد تلك القرينة أن لا يحسن الجواب بذكر الكل ونحن نعلم بالضرورة من عادة أهل اللغة حسن ذلك سواء وجدت قرينة أخرى أم لم توجد الثاني أن هذه القرينة لا بد وأن تكون معلومة للسامع والمجيب معا لأنه يستحيل أن تكون تلك القرينة طريقا إلى العلم بكون هذه الصيغة للعموم مع أنا لا نعرف تلك القرينة

ثم تلك القرينة إما أن تكون لفظا أو غيره والأول باطل لأنه إذا قيل لنا من عندك حسن منا أن نجيب بذكر كل من عندنا وإن لم نسمع من السائل لفظة أخرى والثاني باطل أيضا لأنا لا نعقل قسما آخر وراء اللفظ يدل على مقصود المتكلم إلا الإشارة وما يجري مجراها من تحريك العين والرأس وغيرهما وكل ذلك مما لا يطلع الأعمى عليه مع أنه يحسن منه أن يجيب بذكر الكل الثالث أن من كتب إلى غيره فقال من عندك حسن منه الجواب بذكر الكل مع أنه لم يوجد في الكتبة شئ من القرائن وبهذه الوجوه خرج الجواب أيضا عن قوله إنما لم يحسن الاستفهام عن جميع الأقسام لأن اللفظ لا ينفك عن القرينة الدالة وأيضا فقد إنعقد الإجماع على أن اللفظ المشترك يجوز خلوه عن جميع القرائن المعينة قوله إنما حسن الجواب بذكر الكل لأن المقصود حاصل على كل التقديرات قلنا يلزم منه لو قال من عندك من الرجال أن يحسن منه ذكر النساء مع الرجال لأن تخصيص الرجال بالسؤال عنهم لا يدل على أنه لا حاجة

به إلى السؤال عن النساء فلما لم يحسن في هذا فكذا فيما ذكرتموه وأيضا فكما أنه يحتمل أن يكون غرضه من السؤال ذكر الكل أمكن أن يكون غرضه السؤال عن البعض مع السكوت عن الباقين قوله قد يحسن الاستفهام عن بعض الأقسام فليس الاستدلال بقبح البعض على نفي الاشتراك أولى من الاستدلال بحسن البعض على ثبوت الاشتراك قلنا قد ذكرنا أنه ليس في الأمة أحد يقول بأن هذه الصيغ مخصوصة ببعض مراتب الخصوص دون البعض فلو كانت حقيقة في الخصوص لكانت حقيقة في كل مراتب الخصوص ولو كان كذلك لوجب الاستفهام عن كل تلك المراتب فلما لم يكن كذلك علمنا فساد القول بالاشتراك فأما حسن بعض الاستفهامات فلا يدل على وقوع الاشتراك لما سنذكر إن شاء الله تعالى أن للاستفهام فوائد أخر سوى الاشتراك قوله لو كانت هذه الصيغة للعموم لما حسن الجواب إلا بلا أو نعم قلنا لا نسلم وذلك لأن السؤال ها هنا ما وقع عن التصديق

حتى يكون جوابه بلا أو بنعم بل إنما وقع عن التصور فقوله من عندك معناه اذكر لي جميع من عندك من الأشخاص ولا تبق أحدا إلا وتذكره لي ومعلوم أنه يحسن الجواب عن هذا السؤال بلا أو بنعم والله أعلم

الفصل الثاني في من وما في المجازاة

الفصل الثاني في أن صيغة من وما في المجازاة للعموم ويدل عليه ثلاثة أوجه الأول أن قوله من دخل داري فأكرمه لو كان مشتركا بين الخصصوص والاستغراق لما حسن من المخاطب أن يجري على موجب الأمر إلا عند الاستفهام عن جميع الأقسام الممكنة لكنه حسن فدل على عدم الاشتراك وتقريره ما تقدم في الفصل الأول الوجه الثاني إنه إذا قال من دخل داري فأكرمه حسن منه استثناء كل واحد من العقلاء والعلم بحسن ذلك من عادة أهل اللغة ضروري والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله فيه وذلك لأنه لا نزاع في

أن المستثنى من الجنس لا بد وأن يصح دخوله تحت المستثنى منه فإما أن لا يعتبر مع الصحة الوجوب أو يعتبر والأول باطل وإلا لكان يبقى بين الاستثناء من الجمع المنكر كقوله جاءني فقهاء إلا زيدا وبين الاستثناء من الجمع المعرف كقوله جاءني الفقهاء إلا زيدا فرق لصحة دخول زيد في الخطابين لكن الفرق معلوم بالضرورة من عادة العرب فعلمنا أن الاستثناء من الجمع المعرف يقتضي إخراج ما لولاه لوجب دخوله تحت اللفظ وهو المطلوب فإن قيل ينتقض دليلكم بأمور ثلاثة أحدها جموع القلة كالأفعل والأفعال والأفعلة والفعلة وجمع السلامة فإنه للقلة بنص سيبوية مع أنه يصح استثناء كل واحد من أفراد ذلك الجنس عنها

وثانيها أنه يصح أن يقال اصحب جمعا من الفقهاء إلا فلانا ومعلوم أن ذلك المستثنى لا يجب أن يكون داخلا تحت ذلك المنكر وثاليها ثم إنه يصح أن يقال صل إلا اليوم الفلاني ولو كان الاستثناء يقتضي إخراج ما لولاه لدخل لكان الأمر مقتضيا للفعل في كل الأزمنة فكان الأمر يفيد الفور والتكرار وأنتم لا تقولون بهما سلمنا سلامته عن النقض لكن لا نسلم أن قوله من دخل داري أكرمه يحسن استثناء وكل واحد من العقلاء منه فإنه لا يحسن منه أن يستثنى الملائكة والجن واللصوص ولا يحسن أن يقول إلا ملك الهند وملك الصين سلمنا حسن ذلك ولكن لم يدل على العموم قوله المستثنى يجب صحة دخوله تحت المستثنى منه فإما أن يكون الوجوب معتبرا مع هذه الصحة أو لا يكون قلنا لا نسلم أن المستثنى يجب صحة دخوله تحت المستثنى منه فإن استثناء الشئ من غير جنسه جائز

سلمناه لكن لم قلت إنه لا بد من الوجوب قوله لو لم يكن الوجوب معتبرا لما بقي فرق بين الاستثناء من الجمع المنكر وبين الاستثنا من الجمع المعرف قلنا نسلم أنه لا بد من فرق لكن لا نسلم أنه لا فرق إلا ما ذكرتموه سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على الوجوب لكن معنا ما يدل على أن الصحة كافية وبيانه من وجهين الأول أن الصحة أعم من الوجوب فيكون حمل اللفظ على الصحة حملا له على ما هو أعم فائدة الثاني أن القائل اذا قال لغيره أكرم جمعا من العلماء واقتل فرفة من الكفار حسن أن يستثنى كل واحد من العلماء والكفار فيقول إلا فلانا وفلانا ولو كان الاستثناء يخرج ما لولاه لوجب دخوله فيه لوجب أن يكون اللفظ المنكر للاستغراق سلمنا أن ما ذكرتموه يقتضي أن تكون صيغة من للعموم لكن لا يجب أن يكون الأمر كذلك بيانه أن الاستدلال بالمقدمتين المذكورتين على النتيجة إنما يصح لو ثبت أنه لا تجوز المناقضة على واضع اللغة إذا لو جازت المناقضة عليه

جاز ان يقال إنهم حكموا بهاتين المقدمتين اللتين توجبان عليهم أن يحكموا بأن صيغة من للعموم ولكنهم لعلهم لم يحكموا بها لأنهم لم يحترزوا عن المناقضة بلى لو ثبت أن اللغات توفيقية اندفع هذا السؤال سلمنا أن صحة الاستثناء من هذه الصيغ دالة على أنها للعموم لكنها تدل على أنها ليست للعموم من وجه آخر وذلك لأنها لو كانت للعموم لكان الاستثناء نقضا على ما سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى والجواب أما النقض بجموع القلة فلا نسلم أنه يحسن استثناء أي عدد شئنا منه مثلا لا يجوز أن يقول أكلت الأرغفة إلا ألف رغيف وتوافقنا على أنه يجوز استثناء أي عدد شئنا من صيغة من في المجازاة مثل أن يقول من دخل داري أكرمته إلا أهل البلدة الفلانية قوله ينتقض بقوله اصحب جمعا من الفقهاء إلا زيدا قلنا هب أن الاستثناء من الجمع المنكر يخرج من الكلام ما لولاه لصح دخوله فيه فلم قلت إن في سائر الصور كذلك قوله يلزم أن تكون صيغة الأمر للتكرار قلنا لم لا يجوز أن يكون اقتران الاستثناء بلفظ الأمر قرينة دالة على دلالة الأمر على التكرار

قوله لا يحسن استثناء الملائكة واللصوص وملك الهند وملك الصين قلنا لأن المقصود من الاستثناء خروج المستثنى من الخطاب وقد علم من دون الاستثناء خروج هذه الأشياء من الخطاب ولهذا لو لم يعلم خروجها منه لحسن الاستثناء ألا ترى أنه لو كان الخطاب صادرا عن الله تعالى لحسن منه تعالى هذا الاستثناء مثل أن يقول إني أطعم من خلقت إلا الملائكة وأنظر بعين الرحمة إلى جميع خلقي إلا الملوك المتكبرين قوله لم قلت إنه يجب صحة دخول المستثنى تحت المستثنى منه قلنا لأن الإجماع منعقد على ذلك في استثناء الشئ من جنسه فلا يتوجه جواز الاستثناء من غير الجنس

ولأن الاستثناء مشتق من الثني وهو الصرف وإنما يحتاج إلى الصرف لو كان بحيث لولا الصارف لدخل قوله لم قلت إنه لا فرق بين الاستثناء من الجمع المنكر ومن الجمع المعرف إلا ما ذكرت قلنا لأن الجمع المنكر هو لاذي يدل على جمع يصلح أن يتناول كل واحد من الأشخاص فلو كان الجمع المعرف كذلك لم يبق بين الأمرين فرق وحينئذ لا يبقى بين الاستثناء من الجمعين فرق قوله حمل الاستثناء على الصحة أولى لكونها أعم فائدة قلنا يعارضه أن حمله على الوجوب أولى لأن الصحة جزء من الوجوب فلو حملناه على الوجوب لكنا قد أفدنا به الصحة والوجب معا ولو حملناه على الصحة وحدها لم نفد به الوجوب أصلا والجمع بين الدليلين بقدر الإمكان واجب قوله الاستثناء من الجمع المنكر ليس إلا لدفع الصحة

قلنا هب أنه كذلك فلم قلت أن الاستثناء من صيغة من وما في المجازاة كذلك قوله لم قلت إن التناقض على الواضعين لا يجوز قلنا لأن الأصل عدم التناقض على العقلاء لا سيما وقد قرر الله تعالى ذلك الوضع قوله لو كانت الصيغة للعموم لكان الاستثناء نقضا قلنا سيجئ الجواب عنه إن شاء الله تعالى فهذا أقصى ما يمكن تمحله رسول في هذه الطريقة الوجه الثالث لما أنزر ولا الله تعالى قوله إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم قال ابن الزبعري لأخصمن محمدا ثم أتى النبي ص فقال يا محمد أليس قد عبدت الملائكة أليس قد عبد عيسى فتمسك بعموم اللفظ ولم ينكر النبي ص ذلك حتى نزل قوله تعالى إن الذين سبقت لهم منا الحسنى

فإن قلت السؤال كان خطأ لأن ما لا تتناول العقلاء قلت لا نسلم لقوله تعالى والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس وما سواها والله أعلم

الفصل الثالث في صيغتي الكل والجميع

الفصل الثالث في أن صيغة الكل والجميع تفيدان الاستغراق ويدل عليه وجوه الأول أن قوله جاءني كل فقيه في البلد يناقضه قوله ما جاءني كل فقيه في البلد ولذلك يستعمل كل واحد منهما في تكذيب الآخر والتناقض لا يتحقق إلا إذا أفاد الكل الاستغراق لأن النفي عن البعض لا يناقض الثبوت في البعض الثاني أن صيغة الكل مقابلة في اللفظ لصيغة البعض ولولا أن صيغة الكل غير محتملة للبعض وإلا لما كانت مقابلة لها الثالث أن الرجل إذا قال ضربت كل من في الدار وعلم أن في الدار عشرة ولم يعرف سوى هذه اللفظة أعني أنه لم يعرف أن في الدار أباه وغيره ممن يغلب على الظن أنه لا يضربه بل جوز أن يضربهم كلهم فإن الأسبق إلى الفهم الاستغراق ولو كانت لفظة الكل مشتركة بين الكل

والبعض لما كان كذلك لأن اللفظ المشترك لما كان بالنسبة إلى المفهومين على السوية امتنع أن تكون مبادرة الفهم إلى أحدهما أقوى منها إلى الآخر الرابع أن يتمسك بسقوط الاعتراض عن المطيع وتوجهه على العاصي أما الأول فهو أن السيد إذا قال لعبده كل من دخل اليوم داري فأعطه رغيفا فلو أعطى كل داخل لم يكن للسيد أن يعترض عليه حتى أنه لو أعطى رجلا قصيرا فقال له لم أعطيته مع أني أردت الطوال فللعبد أن يقول ما أمرتني بإعطاء الطوال وإنما أمرتني بإعطاء من دخل وهذا قد دخل وكل عاقل سمع هذا الكلام رأي اعتراض السيد ساقطا وعذر العبد متوجها وأما الثاني فهو أن العبد لو أعطى الكل إلا واحدا فقال له السيد لم لم تعطه فقال لأنه طويل وكان لفظك عاما فقلت لعلك أردت القصار استوجب التأديب بهذا الكلام

الخامس إذا قال أعتقت كل عبيدي وإمائي ومات في الحال ولم يعلم منه أمر آخر سوى هذه الألفاظ حكم بعتق كل عبيده وإمائه ولو قال غانم حر وله عبدان اسمهما غانم وجبت المراجعة والاستفهام فعلمنا عدم الاشتراك السادس إنا ندرك تفرقة بين قولنا جاءني فقهاء وبين قولنا جاءني كل الفقهاء ولولا دلالة الثاني على الاستغراق وإلا لما بقي الفرق السابع معلوم أن أهل اللغة إذا أرادوا التعبير عن معنى الاستغراق فزعوا إلى استعمال لفظة الكل والجميع ولا يستعملون الجموع المنكرة ولولا أن لفظة الكل والجميع موضوعة للاستغراق وإلا لكان استعمالهم هاتين اللفظتين عند إرادة الاستغراق كاستعمالهم للجموع المنكرة فإن قلت في جميع هذه المواضع إنما حكمنا بالعموم للقرينة قلت كل ما تفرضونه من القرائن أمكننا فرض عدمه مع بقاء الأحكام المذكورة وأيضا لو قيل كل من قال لك جيم فقل له دال فها هنا لا قرينة تدل على هذه الأحكام مع أن العموم مفهوم منه

وأيضا فلو كتب في كتاب وقال اعملوا بما فيه حكم بالعموم مع عدم القرينة وأيضا الأعمى يفهم العموم من هذه الألفاظ مع أنه لا يعرف القرائن المبصرة وأما المسموعة فهي منفية لأنا فرضنا الكلام فيمن سمع هذه الألفاظ ولم يسمع شيئا آخر الثامن لما سمع عثمان رضي الله عنه قول لبيد وكل نعيم لا محالة زائل قال كذبت فإن نعيم الجنة لا يزول فلولا أن قوله أفاد العموم وإلا لما توجه عليه التكذيب والله أعلم

الفصل الرابع في النكرة في سياق النفي

الفصل الرابع في أن النكرة في سياق النفي تعم وذلك لوجهين الأول أن الإنسان إذا قال اليوم أكلت شيئا فمن أراد تكذيبه قال ما أكلت اليوم شيئا فذكرهم هذا النفي عند تكذيب ذلك الإثبات يدل على اتفاقهم على كونه مناقضا له ولو كان قوله ما أكلت اليوم شيئا لا يقتضي العموم لما ناقضه لأن السلب الجزئي لا يناقض الإيجاب الجزئي مثاله من كتاب الله أن اليهود لما قالت ما أنزل الله على بشر من شئ قال تعالى قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى وإنما أورد الله تعالى هذا الكلام نقضا لقولهم الثاني لو لم تكن النكرة في النفي للعموم لما كان قولنا لا إله إلا الله نفيا لجميع الآلهة سوى الله تعالى.

تنبيه النكرة في الآيات إذا كانت خبرا لا تقتضي العموم كقولك جاءني رجل وإذا كان أمرا فالأكثرون على أنه للعموم كقوله أعتق رقبة والدليل عليه أنه يخرج عن عهدة الأمر بفعل أيها كان ولولا أنها للعموم وإلا لما كان كذلك

الفصل الخامس في شبه منكري العموم

الفصل الخامس في شبه منكري العموم احتجوا بأمور أولها العلم بكون هذه الصيغ موضوعة للعموم إما أن يكون ضروريا وهو باطل وإلا وجب اشتراك العقلاء فيه أو نظريا وحينئذ لا بد فيه من دليل وذلك الدليل إما أن يكون عقليا وهو محال لأنه لا مجال للعقل في اللغات أو نقليا وهو إما أن يكون متواترا أو آحادا والمتواتر باطل وإلا لعرفه الكل والآحاد باطل لأنه لا يفيد إلا الظن والمسألة علمية وثانيها أن هذه الألفاظ مستعملة في الاستغرا لم تارة وفي الخصوص أخرى وذلك يدل على الاشتراك بيان المقدمة الأولى أن القائل اذا قال من دخل داري أهنته أو أكرمته فإنه قلما يريد به العموم وإذا قال لقيت العلماء وقصدت الشرفاء فقد يريد به العموم تارة والخصوص أخرى

بيان المقدمة الثانية من وجهين الأول أن الظاهر من استعمال اللفظ في شئ كونه حقيقة فيه إلا أن يدلونا بدليل قاطع على أنهم باستعماله فيه متجوزون لأنا لو لم نجعل ذلك طريقا إلى كون اللفظ حقيقة في المسمى لتعذر علينا أن نحكم بكون لفظ ما حقيقة في معنى ما إذ لا طريق إلى كون اللفظ حقيقة سوى ذلك الثاني هو أن هذه الألفاظ لو لم تكن حقيقة في الاستغراق والخصوص لكان مجازا في أحدهما واللفظ لا يستعمل في المجاز إلا مع قرينة وذلك خلاف الأصل وأيضا فتلك القرينة إما أن تعرف ضرورة أو نظرا والأول باطل وإلا لامتنع وقوع الخلاف فيه والثاني أيضا باطل لأنا لما نطرنا ابن في أدلة المثبتين لهذه القرينة لم نجد فيها ما يمكن التعويل عليه

وثالثها أن هذه الألفاظ لو كانت موضوعة للاستغراق لما حسن أن يستفهم المتكلم به لأن الاستفهام طلب الفهم وطلب الفهم عند حصول المقتضى للفهم عبث لكن من المعلوم أن من قال ضربت كل من في الدار أنه يحسن أن يقال اضربتهم قوله بالكلية وأن يقال أضربت أباك فيهم ورابعها أنها لو كانت للاستغراق لكان تأكيدها عبثا لأنها تفيد عين الفائدة الحاصلة من المؤكد وخامسها أنها لو كانت للاستغراق لكان الاستثناء نقضا وبيانه من وجهين الأول أن المتكلم قد دل على الاستغراق بأول كلامه ثم بالاستثناء رجع عن الدلالة على الكل إلى البعض فكان نقضا وجاريا مجرى ما يقال ضربت كل من في الدار لم أضرب كل من في الدار الثاني أن لفظة العموم لو كانت موضوعة للاستغراق لجرت لفظة العموم مع الاستثناء مجرى تعديد الأشخاص واستثناء الواحد منهم بعد ذلك في القبح كما اذا قال ضربت زيدا ضربت عمرا وضربت

خالدا ثم يقول إلا زيدا فلما لم يكن كذلك دل حسن الاستثناء على أن جنس هذه الصيغ ليست للاستغراق وسادسها أن صيغة من وما وأي في المجازاة يصح إدخال لفظ الكل عليها تارة والبعض أخرى تقول كل من دخل داري فأكرمه بعض من دخل داري فأكرمه ولو دلت تلك الصيغة على الاستغراق لكان إدخال الكل عليها تكريرا وسابعها لو كانت لفظة من للاستغراق لامتنع جمعها لأن الجمع يفيد أكثر مما يفيده الواحد ومعلوم أنه ليس بعد الاستغراق كثرة فيفيدها الجمع لكن يصح جمعها لقول الشاعر أتوا ناري فقلت منون أنتم فقالوا الجن قلت عموا ظلاما والجواب عن الأول لا نسلم أنه غير معلوم بالضرورة فإنا بعد

استقراء اللغات نعلم بالضرورة أن صيغ كل وجميع ومن وما وأي في الاستفهام والجزاء للعموم سلمناه فلم لا يجوز أن يعرف بالعقل قوله لا مجال للعقل في اللغات قلنا ابتداء أم بواسطة الاستعانة بمقدمات نقلية الأول مسلم والثاني ممنوع فلم قلت إنه لم توجد مقدمات نقلية يستنتج العقل منها ثبوت الحكم في هذه المسألة سلمناه فلم لا يجوز أن يعرف ذلك بالآحاد قوله المسألة قطعية قلنا لا نسلم كيف وقد بينا أن القطع لا يوجد في اللغات إلا نادرا والجواب عن الثاني لا نزاع في أن هذه الألفاظ قد تستعمل في الخصوص ولكنك إن ادعيت أنه لا يوجد الاستعمال إلا إذا كان حقيقة بطل قولك بالمجاز

وإن سلمت أنه قد يوجد الاستعمال حيث لا حقيقة فحينئذ تعذر الاستدلال بالاستعمال على كونه حقيقة فإن قلت أستدل بالاستعمال مع أن المجاز خلاف الأصل على كونه حقيقة فيه قلت قولك المجاز خلاف الأصل لا يفيد إلا الظن وعندك المسألة قطعية يقينية وأيضا فكما أن المجاز خلاف الأصل فكذلك الاشتراك وقد تقدم في كتاب اللغات أنه إذا وقع التعارض بينهما كان دفع الاشتراك أولى وأما قوله أولا لو لم يجعل هذا طريقا إلى كون اللفظ حقيقة لم يبق لنا إليه طريق أصلا قلنا قد بينا فساد هذا الطريق فإن لم يكن ها هنا طريق آخر إلى الفرق بين الحقيقة والمجاز وجب أن يقال إنه لا طريق إلى ذلك الفرق لأن ما ظهر فساده لا يصير صحيحا لأجل فساد غيره قوله ثانيا ذلك الطريق إما أن يعرف بالضرورة أو بالدليل والضرورة باطلة لوقوع الخلاف والدليل باطل لأنا لم نجد في أدلة الخالفين ما يدل عليه

قلنا الضروري لا ينكره الجمع العظيم من العقلاء وقد ينكره النفر اليسير ولا نسلم أن الجمع العظيم من أهل اللغة نازعوا في أن لفظ الكل وأي للعموم سلمنا ذلك لكن لا نسلم أنه لو يوجد ما يدل على كونها مجازا في الخصوص قوله نظرنا في أدلة المخالفين فلم نجد فيها ما يدل على ذلك قلنا عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود واعلم أن الشريف المرتضى عول على هذه الطريقة ومن تأمل كلامه فيها علم أنه في أكثر الأمر يدور على المطالبة بالدلالة على كون هذه الصيغة مجازا في الخصوص مع أنه شرع فيها شروع المستدل على كونها حقيقة في الاستغراق والخصوص والجواب عن الثالث لا نسلم أن حسن الاستفهام لا يكون إلا عند

الاشتراك فما الدليل عليه ثم الدليل على أنه قد يكون لغيره وجهان الأول أنه لو كان حسن الاستفهام لأجل الاشتراك لوجب أن لا يحسن الجواب إلا بعد الاستفهام عن جميع الأقسام الممكنة على ما قررناه في الفصل الأول الثاني أن الاستفهام قد يجاب عنه بذكر ما عنه وقع الاستفهام كما لو قال القائل ضربت القاضي فيقال له أضربت القاضي فيقول نعم ضربت القاضي ولا شك في حسن هذا الاستفهام في العرف فثبت بهذين الوجهين أن الاستفهام قد يحسن لا مع الاشتراك ثم نقول الاستفهام إما أن يقع ممن يجوز عليه السهو أو ممن لا يجوز عليه ذلك والأول قد يحسن لوجوه أربعة أخرى غير الذي ذكروه أحدها أن السامع ربما ظن أن المتكلم غير متحفظ في كلامه أو هو كالساهي فيستفهمه ويستبينه له حتى إن كان ساهيا زال سهوه وأخبره عن تيقظ ولذلك يحسن أن يجاب عن الاستفهام بعين ما وقع عنه الاستفهام

وثانيها أن يظن السامع لأجل أمارة أن المتكلم قد أخبر بكلامه العام عن جماعة على سبيل المجازفة ويكون السامع شديد العناية بذلك فتدعوه شدة عنايته إلى الاستفهام عن ذلك الشئ لكي يعلم المتكلم اهتمام السامع به فلا يجازف في الكلام ولهذا قد يقول القائل رأيت كل من في الدار فإذا قيل له أرأيت زيدا فيهم فقال نعم زالت التهمة لأن اللفظ الخاص أقل إجمالا وربما لم يتحقق رؤيته فيدعوه ما رآه من اهتمام المستفهم إلى أن يقول لا أتحقق رؤيته وثالثها أن يستفهم طلبا لقوة الظن ورابعها أن توجد هناك قرينة تقتضي تخصيص ذلك العموم مثل أن يقول ضربت كل من في الدار وكان فيها الوزير فغلب على الظن أنه ما ضربه فإذا حصل التعارض استفهمه ليقع الجواب عنه بلفظ خاص لا يحتمل التخصيص

وأما إن وقع ممن لا يجوز عليه السهو فذاك لأن دلالة الخاص أقوى من دلالة العام فيطلب الخاص بعد العام تحصيلا لتلك القوة والجواب عن الرابع من حيث المعارضة ومن حيث التحقيق أما المعارضة فمن ثلاثة أوجه أحدها تأكيد الخصوص كقولهم جاء زيد نفسه وثانيها تأكيد ألفاظ العدد كقوله تعالى تلك عشرة كاملة وثالثها إن التأكيد تقوية ما كان حاصلا فلو كان الحاصل هو الاشتراك لتأكد ذلك الاشتراك بهذا التأكيد فإن قلت التأكيد يعين اللفظ لأحد مفهوميه قلت هذا لا يكون تأكيدا بل بيانا وأما من حيث التحقيق فهو أن المتكلم إما أن يجوز عليه السهو أو

لا يجوز فإجاز ذلك كان حسن التأكيد لوجوه أحدها أن السامع إذا سمع اللفظ بدون تأكيد جوز مجازفة المتكلم فإذا أكده صار ذلك التجويز أبعد وثانيها أنه ربما حصل هناك ما يقتضي تخصيص العام فإذا اقترن به التأكيد كان احتمال الخصوص أبعد وثالثها تقوية بعض ألفاظ العموم ببعض وأما إن لم يجز السهو على المتكلم لم يكن للتأكيد فائدة إلا تقوية الظن والجواب عن الخامس أنه منقوض بألفاظ العدد فإنها صريحة في ذلك العدد المخصوص ثم يتطرق الاستثناء إليها ثم الفرق بين ما ذكروه من الصورتين وبين مسألتنا ان الاستثناء إذا اتصل بالكلام صار جزءا من الكلام فتصير الجملة شيئا واحدا مفيدا لأنه لا يستقل بنفسه في الإفادة فيجب تعليقه بما يقدم عليه فإذا علقناه به صار جزءا من الكلام فتصير الجملة شيئا واحدا مفيدا وفائدته محمد إرادة ما عدا المستثنى بخلاف قوله ضربت كل من في الدار لم أضرب كل من في الدار لأن ها هنا كل واحد من الكلامين مستقل بنفسه فلا حاجة إلى تعليقه بما تقدم عليه وإذا لم يتعلق به أفاد الأول ضرب جميع من في الدار وأفاد الآخر نفي ذلك فكان نقضا وأما الثاني فنطالبهم بالجامع

المسألة الخامسة في الجمع المعرف بلام الجنس

ثم الفارق أن الاستثناء إخراج جزء من كل فإذا قال ضربت زيدا وضربت عمرا إلا زيدا انصرف قوله إلا زيدا إلى زيد لا إلى عمرو لأن زيدا ليس بجزء منهم فكان نقضا بخلاف قوله رأيت الكل إلا زيدا لأن زيدا جزء من الكل فظهر الفرق والجواب عن السادس أن حكم المفرد يجوز أن يخالف حكم المركب فيجوز أن يكون شرط إفادة لفظة من للعموم انفرادها عن لفظ البعض معها بل لم يكن شرط إفادتها للعموم حاصلا فلا جرم لم يلزم النقض والجواب عن السابع أن أهل اللغة اتفقوا على أن ذلك ليس جمعا وإنما هو إشباع الحركة لسبب آخر مذكور في كتب النحو المسألة الخامسة لا خلاف في أن الجمع المعرف بلام الجنس ينصرف إلى المعهود لو كان هناك معهود

أما إذا لم يكن فهو للاستغراق خلافا للواقفية وأبي هاشم لنا وجوه الأول أن الأنصار لما طلبوا الإمامة احتج عليهم أبو بكر رضي الله عنه بقوله ص الأئمة من قريش والأنصار سلموا تلك الحجة ولو لم يدل الجمع المعرف بلام الجنس على الاستغراق لما صحت تلك الدلالة لأن قوله ص الأئمة من قريش لو كان معناه بعض الأئمة من قريش لوجب أن لا ينافي وجود إمام من قوم آخرين أما كون كل الآئمة من قريش فينافي كون بعض الأئمة من غيرهم

وروى عن عمر رضي الله عنه أنه قال لأبي بكر رضي الله عنه لما هم بقتال مانعي الزكاة أليس قال النبي ص أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله احتج عليهم بعموم اللفظ ثم لم يقل أبو بكر ولا أحد من الصحابة رضي الله عنهم إن اللفظ لا يفيده بل عدل إلى الاستثناء فقال أليس أنه عليه السلام قال إلا بحقها وإن الزكاة من حقها الثاني إن هذا الجمع يؤكد بما يقتضي الاستغراق فوجب أن يفيد في أصله الاستغراق أما انه يؤكد فلقوله تعالى فسجد الملائكة كلهم أجمعون وأما أنه بعد التأكيد يقتضي الاستغراق فبالإجماع

وأما أنه متى كان كذلك وجب أن يكون المؤكد في أصله للاستغراق فلأن هذه الألفاظ مسماة بالتأكيد إجماعا والتأكيد هو تقوية الحكم الذي كان ثابتا في الأصل فلو لم يكن الاستغراق حاصلا في الأصل وإنما حصل بهذه الألفاظ ابتداءا لم يكن تأثير هذه الألفاظ في تقوية هذ الحكم الأصلي بل في إعطاء حكم جديد فكانت مبينة للمجمل لا مؤكدة وحيث اجمعوا على انها مؤكدة اعلمنا اقتضاء الاستغراق كان حاصلا في الاصل فإن قيل هذا الاستدلال على خلاف النص لأن سيبويه نص على أن جمع السلامة للقلة وما يكون للقلة لا يكون للاستغراق ثم ينتقض بجمع القلة فإنه يجوز تأكيده بهذه المؤكدات وأيضا فعند الكوفيين يجوز تأكيد النكرات كقوله قد صرت البكرة يوما أجمعا

والنكرة لا تفيد الاستغراق والجواب أنه لا بد من التوفيق بين نص سيبويه وبين ما ذكرناه من الدليل فنصرف قول سيبويه إلى جمع السلامة إذا كان منكرا وما ذكرناه من الدليل إلى المعرف ونمنع جواز تأكيد جمع القلة وكذا تأكيد النكرات على قول البصريين الثالث الألف واللام إذا دخلا في الاسم صار معرفة كذا نقل عن أهل اللغة فيجب صرفه إلى ما به تحصل المعرفة وإنما تحصل المعرفة عند إطلاقه بالصرف إلى الكل لأنه معلوم للمخاطب فأما الصرف إلى ما دونه فانه لا يفيد المعرفة لأن بعض الجموع ليس أولى من بعض فكان مجهولا فإن قلت إذا أفاد جمعا من هذا الجنس فقد أفاد تعريف ذلك الجنس قلت هذه الفائدة كانت حاصلة بدون الألف واللام لأنه لو قال رأيت رجالا أفاد تعريف ذلك الجنس وتمييزه عن غيره فدل أن للألف واللام فائدة زائدة وما هي إلا الاستغراق

الرابع أنه يصح استثناء أي واحد كان منه وذلك يفيد العموم على ما تقدم الخامس الجمع المعرف في اقتضاء الكثرة فوق المنكر لأنه يصح انتزاع المنكر من المعرف ولا ينعكس فإنه يجوز أن يقال رجال من الرجال ولا يجوز أن يقال الرجال من رجال ومعلوم بالضرورة أن المنتزع منه أكثر من المنتزع وإذا ثبت هذا فنقول المفهوم من الجمع المعرف إما الكل أو ما دونه والثاني باطل لأنه ما من عدد دون الكل إلا ويصح انتزاعه من الجمع المعرف وقد عرفت أن المنتزع منه أكثر ولم بطل ذلك ثبت أنه للكل والله أعلم احتجوا بأمور أولها لو كانت هذه الصيغة للاستغراق لكانت إذا استعملت في العهد لزم إما الاشتراك وإما المجاز وهما على خلاف الأصل فوجب أن لا يفيد الاستغراق البتة وثانيها ولكان قولنا رأيت كل الناس أو بعض الناس خطأ لأن الأول تكرير والثاني نقض وثالثها يقال جمع الأمير الصاغة مع أنه ما جمع الكل والأصل في الكلام الحقيقة فهذه الألفاظ حقيقة فيما دون الاستغراق فوجب أن لا تكون حقيقة في الاستغراق دفعا للاشتراك

المسألة السادسة في الجمع المضاف

والجواب عن الأول أن الألف واللام للتعريف فينصرف إلى ما السامع به أعرف فإن كان هناك عهد فالسامع به أعرف فانصرف إليه وإن لم يكن هناك عهد كان السامع أعرف بالكل من البعض لأن الكل واحد والبعض كثير مختلف فانصرف إلى الكل وأيضا لا يبعد أن يقال إذا أريد به العهد كان مجازا إلا أنه لا يحمل عليه إلا بقرينة وهي العهد بين المتخاطبين وهذا أمارة المجاز وعن الثاني أن دخول لفظتي الكل والبعض لا يكون تكريرا ولا نقضا بل يكون تأكيدا أو تخصيصا وعن الثالث أن ذلك تخصيص بالعرف كما في قوله من دخل داري أكرمته فإنه لا يتناول الملائكة واللصوص والله أعلم المسألة السادسة الجمع المضاف كقولنا عبيد زيد للاستغراق والدليل عليه ما تقدم وأما الكناية كقوله فعلوا فإنه يقتضي مكنيا عنه والمكني

المسألة السابعة في أمر جمع بصيغة الجمع

عنه قد يكون للاستغراق وقد لا يكون كذلك فالكناية عنه أيضا تكون كذلك المسألة السابعة إذا أمر جمعا بصيغة الجمع أفاد الاستغراق فيهم والدليل عليه ان السيد إذا أشار إلى جماعة من غلمانه بقوله قوموا فليس يتخلف عن القيام أحد إلا استحق الذم وذلك يدل على أن اللفظ للشمول ولا يجوز أن يضاف ذلك إلى القرينة لأن تلك القرينة أن كانت من لوازم هذه الصيغة فقد حصل مرادنا وإلا فلنفرض هذه الصيغة مجردة عنها ويعود الكلام والله أعلم

الشطر الثاني فيما ألحق بالعموم وليس منه

الشطر الثاني من هذا القسم فيما ألحق بالعموم وليس منه

المسألة الأولى في الواحد المعرف بلام الجنس

المسألة الأولى الواحد المعرف بلام الجنس لا يفيد العموم خلافا للجبائي والفقهاء والمبرد لنا وجوه الأول أن الرجل إذا قال لبست الثوب وشربت الماء لا يتبادر إلى الفهم الاستغراق الثاني لا يجوز تأكيده بما يؤكد به الجمع فلا يقال جاءني الرجل كلهم أجمعون الثالث لا ينعت بنعوت الجمع فلا يقال جاءني الرجل القصار وتكلم الفقيه الفضلاء فأما ما يروى من قولهم أهلك الناس الدرهم البيض والدينار الصفر فمجاز بدليل أنه لا يطرد وأيضا فالدينار الصفر إن كان حقيقة فالدينار الأصفر مجاز كما أن الدينار الصفر لما كان حقيقة كان الدينار الأصفر إما خطأ أو مجازا الرابع البيع جزء من مفهوم هذا البيع وإحلال هذا البيع يتضمن إحلال البيع فلو كان لفظ البيع مقتضيا للعموم لزم من إحلال هذا البيع إحلال كل بيع ومعلوم أن ذلك باطل

فإن قلت لم لا يجوز أن يقال اللفظ المطلق إنما يفيد العموم بشرط العراء عن لفظ التعيين أو يقال اللفظ المطلق وإن اقتضى العموم إلا أن لفظ التعيين يقتضي خصوصه قلت أما الأول فباطل لأن العدم لا مدخل له في التأثير وأما الثاني فلأنه يقتضي التعارض وهو خلاف الأصل الخامس هو أنا قد بينا أن الماهية غير ووحدتها غير وكثرتها غير والاسم المعرف لا يفيد إلا الماهية وتلك الماهية تتحقق عند وجود فرد من أفرادها لأن هذا الإنسان مشتمل على الإنسان مع قيد كونه هذا فالآتي بهذا الإنسان آت بالإنسان فالإتيان بالفرد الواحد من تلك الماهية يكفي في العمل بذلك النص فظهر أن هذا اللفظ لا دلالة له على العموم البته احتجوا بوجوه أحدها أنه يجوز أن يستثنى منه الآحاد التي تصلح أن تدخل تحته لقوله تعالى إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله فيه وذلك يدل على كون هذا اللفط

وثانيها أن الألف واللام للتعريف وليس ذلك لتعريف الماهية فإن ذلك قد حصل بأصل الاسم ولا لتعريف واحد بعينه فإنه ليس في اللفظ دلالة عليه اللهم إلا عند المعهود السابق وكلامنا فيما إذا لم يوجد ذلك ولا لتعريف بعض مراتب الخصوص فإنه ليس بعض تلك المراتب أولى من بعض فلا بد من الصرف إلى الكل وثالثها أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعملية فقوله تعالى وأحل الله البيع مشعر بأنه إنما صار حلالا لكونه بيعا وذلك يقتضي أن يعم الحكم لعموم العلة ورابعها أنه يؤكد بما يؤكد به العموم كقوله كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل وذلك يدل على أنه للعموم وخامسها أنه ينعت بما ينعت به العموم كقوله تعالى والنخل باسقات وكقوله أو الطفل الذين وكل ذلك يدل على أنه للعموم والجواب عن الأول أن ذلك الاستثناء مجاز بدليل أنه يقبح أن

المسألة الثانية في الجمع المنكر

يقال رأيت الإنسان إلا المؤمنين ولو كان حقيقة لاطرد ويمكن أن يقال إن الخسران لما لزم كل الناس إلا المؤمنين جاز هذا الاستثناء وعن الثاني أن لام الجنس تفيد تعيين الماهية لا تعيين الكلية وقد عرفت أن نفس الماهية لا تقتضي الكلية وعن الثالث أن ذلك اعتبار مغاير للتمسك بنفس اللفظ ونحن لا ننكر ذلك والله أعلم المسألة الثانية الكلام في الجمع المنكر ينفرع على الكلام في أقل الجمع وقد اختلفوا فيه فذهب القاضي والأستاذ أبو اسحاق وجمع من الصحابة والتابعين إلى أن أقل الجمع اثنان وقال أبو حنيفة والشافعي رحمهما الله ثلاثة وهو المختار

لنا وجوه الأول أن أهل اللغة فصلوا بين التثنية والجمع كما فصلوا بين الواحد والجمع فكما فرقنا بين الواحد والجمع وجب أن نفرق بين التثنية والجمع الثاني أن صيغة الجمع تنعت بالثلاثة فما فوقها وبالعكس يقال جاءني رجال ثلاثة وثلاثة رجال ولا تنعت بالاثنين فلا يقال رجال اثنان ولا اثنان رجال الثالث أن أهل اللغة فصلوا بين ضمير التثنية وضمير الجمع فقالوا في الاثنين فعلا وفي الثلاثة فعلوا وفي الأمر الاثنين افعلا وفي الجمع افعلوا اجتجوا أبو بالقرآن والخبر والمعقول أما القرآن فبقوله تعالى وكنا لحكمهم شاهدين والمراد داود وسليمان

وبقوله تعالى إذ تسوروا المحراب وكانا اثنين لقوله تعالى خصمان وبقوله إذ دخلوا على داوود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان وبقوله عز وجل في قصة موسى وهارون إنا معكم مستمعون وبقوله تعالى حكاية عن يعقوب عسى الله أن يأتيني بهم جميعا والمراد يوسف وأخوه وبقوله تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا وبقوله تعالى إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وأما الخبر فقوله ص الاثنان فما فوقهما جماعة

وأما المعقول فهو أن معنى الاجتماع حاصل في الاثنين والجواب عن الأول أنه تعالى كنى عن المتحاكمين مضافا إلى كنايته عن الحاكم عليهما فإن المصدر قد يضاف إلى المفعول وإذا اعتبرنا المتحاكمين مع الحاكم كانوا ثلاثة وأما قوله تعالى إذ تسوروا المحراب مع قوله خصمان فجوابه أن الخصم في اللغة للواحد والجمع كالضيف يقال هذا خصمي وهؤلاء خصمي وهذا ضيفي وهؤلاء ضيفي قال الله تعالى إن هؤلاء ضيفي

وهو الجواب عن التمسك بقوله تعالى هذان خصمان اختصموا وقوله ففزع منهم وأما قوله تعالى إنا معكم مستمعون فالمراد موسى وهارون وفرعون وأما قوله تعالى عسى الله أن يأتيني بهم جميعا فالمراد به يوسف وأخوه والأخ الثالث الذي قال فلن أبرح الآرض حتى يأذن لي أبي وقوله تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فكل طائفة جمع وأما قوله تعالى فقد صغت قلوبكما فجوابه أنه قد يطلق اسم القلب على الميل الموجود في القلب فيقال للمنافق إنه ذو لسانين وذو وجهين وذو قلبين ويقال للذي لا يميل إلا إلى الشئ الواحد له قلب واحد ولسان واحد ولما خالفتا أمر الرسول ص ونمتا أو بأمر مارية وقع في قلبيهما دواع مختلفة وأفكار متباينة فصح أن يكون المراد من القلوب هده الدواعي وإذا صح ذلك وجب حمل اللفظ عليها لأن القلب لا يوصف بالصغو) وإنما يوصف الميل به

المسألة الثالثة الجمع المنكر يحمل على أقل الجمع

وأما الحديث فهو محمول على إدراك فضيلة الجماعة وقيل إنه ص نهى عن السفر إلا في جماعة ثم بين أن الاثنين فما قوقهما عبد جماعة في جواز السفر وأما المعقول فجوابه أن البحث ما وقع عما تفيده لفظة الجمع بل عما يتناوله لفظ الرجال والمسلمين عليه فأين أحدهما من الآخر والله أعلم المسألة الثالثة الجمع المنكر يحمل عندنا على أقل الجمع وهو الثلاثة خلافا للجبائي فإنه قال يحمل على الاستغراق

لنا أن لفظ رجال يمكن نعته بأي جمع شئنا فيقال رجال ثلاثة وأربعة وخمسة فمفهوم قولك رجال يمكن جعله مورد التقسيم لهذه الأقسام والمورد للتقسيم بالأقسام يكون مغايرا لكل واحد من تلك الأقسام وغير مستلزم لها فاللفظ الدال على ذلك المورد لا يكون له إشعار بتلك الأقسام فلا يكون دالا عليها وأما الثلاثة فهي مما لابد منها فثبت أنها تفيد الثلاثة فقظ احتج الجبائي بأن حمله على الاستغراق حمل له على جميع حقائقه وذلك أولى من حمله على بعض حقائقه

المسألة الرابعة في قوله تعالى {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة}

والجواب أن مسمى هذا الجمع الثلاثة من غير بيان عدم الزائد ووجوده ولا شك أنه قدر مشترك بين الثلاثة فقط وبين الآربعة وما فوقها وقد بينا أن اللفظ الدال على ما به الاشتراك بين أنواع لا دلالة فيه البتة على شئ من تلك الأنواع فضلا عن أن يكون حقيقة فيها فبطل قوله إن حمل هذا اللفظ على الاستغراق يقتضي حمله على جميع حقاقه أبي والله أعلم المسألة الرابعة قوله تعالى لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة لا يقتضي نفي الاستواء في جميع الأمور حتى في القصاص لوجهين الأول أن نفي الاستواء أعم من نفي الاستواء من كل الوجوه أو من بعضها والدال على القدر المشترك بين القسمين لا إشعار فيه بهما الثاني أنه إما أن يكفي في إطلاق لفظ المساواة الاستواء من بعض الوجوه أو لا بد فيه من الاستواء من كل الوجوه

والأول باطل وإلا لوجب إطلاق لفظ المتساويين على جميع الأشياء لأن كل شيئين فلا بد وأن يستويا في بعض الأمور من كونهما معلومين ومذكورين وموجودين وفي سلب ما عداهما عنهما ومتى صدق عليه المساوي وجب أن يكذب عليه غير المساوي لأنهما في العرف كالمتناقضين (فإن من قال هذا يساوي ذاك فمن أراد تكذيبه قال إنه لا يساويه والمتناقضان لا يصدقان معا فوجب أن لا يصدق على شيئين البته أنهما متساويان وغير متساويين ولما كان ذلك باطلا علمنا أنه يعتبر في المساواة المساواة من كل الوجوه وحينئذ يكفي في نفي المساواة نفي الاستواء من بعض الوجوه لأن نقيض الكلي هو الجزئي فإذن قولنا لا يستويان لا يفيد نفي الاستواء من جميع الوجوه والله أعلم

المسألة الخامسة في قول الله تعالى {يا أيها النبي} ونحوه

المسألة الخامسة إذا قال الله تعالى يا أيها النبي فهذا لا يتناول الأمة

المسألة السادسة في اللفظ الذي يتناول المذكر والمؤنث

وقال قوم ما يثبت في حقه يثبت في حق غيره إلا ما دل الدليل على أنه من خواصه وهؤلاء إن زعموا أن ذلك مستفاد من اللفظ فهو جهالة وإن زعموا أنه مستفاد من دليل آخر وهو قوله تعالى وما آاتكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وما يجري مجراه فهو خروج عن هذه المسألة لأن الحكم عنده إنما وجب على الأمة لا بمجرد الخطاب المتناول للنبي فقط بل بالدليل الآخر وإذا ثبت ذلك ثبت أيضا أن الخطاب المتناول بوضعه للأمة لا يتناول الرسول ص المسألة السادسة اللفظ الذي يتناول المذكر والمؤنث إما أن يكون مختصا بهما وهو كلفظ الرجال للذكور والنساء للإناث أو لا يكون وهو على قسمين أحدهما ما لا يتبين فيه تذكير ولا تأنيث كصيغة من وهذا يتناول الرجال والنساء ومنهم من أنكره لنا انعقاد الإجماع على إنه إذا قال من دخل الدار من أرقائي

فهو حر فهذا لا يتخصص بالعبيد وكذا لو أوصى بهذه الصيغة أو ربط بها توكيلا أو إذنا في قضية من القضايا احتجوا بقول العرب من منان منون منة منتان منات والجواب أن ذلك وإن كان جائزا إلا أنهم اتفقوا على أن الأصح استعمال لفظ من في الذكور والإناث القسم الثاني ما تتبين فيه علامات التذكير والتأنيث كقولنا قام قاما قاموا قامت قامتا قمن واتفقوا على أن خطاب الإناث لا يتناول الذكور واختلفوا في أن خطاب الذكور هل يتناول الإناث والحق لا لنا أن الجمع تضعيف الواحد وقولنا قام لا يتناول المؤنث فقولنا قاموا الذي هو تضعيف قولنا قام وجب أن لا يتناول المؤنث

المسألة السابعة المقتضي لا عموم له

احتجوا بأن أهل اللغة قالوا إذا اجتمع التذكير والتأنيث غلب التذكير والجواب ليس المراد ما ذكرتموه بل المراد أنه متى أراد مريد أن يعبر عن الفريقين بعبارة واحدة كان الواجب هو التذكير والله أعلم المسألة السابعة إذا لم يمكن إجراء الكلام على ظاهر إلا بإضمار شئ فيه ثم هناك أمور كثيرة يستقيم الكلام بإضمار أيها كان لم يجز إضمار جميعها وهذا هو المراد من قولنا المقتضي لا عموم له مثاله قوله عليه السلام رفع عن أمتي الخطأ والنسيان فهذا الكلام لا يمكن إجراؤه على ظاهره بل لابد وأن نقول المراد رفع عن أمتي حكم الخطأ ثم ذلك الحكم قد يكون في الدنيا كإيجاب الضمان وقد يكون في الآخرة كرفع التأثيم فنقول إنه لا يجوز إضمارهما لا معا

المسألة الثامنة في نحو قوله والله لا آكل

لنا أن الدليل ينفي جواز الإضمار خالفناه في الحكم الواحد لأجل الضرورة ولا ضرورة في غيره فيقى على الأصل وللمخالف أن يقول ليس إضمار أحد الحكمين بأولى من الآخر فإما أن لا تضمر حكما أصلا وهو غير جائز أو تضمر الكل وهو المطلوب المسألة الثامنة المشهور من قول فقهائنا أنه لو قال والله لا آكل فإنه يعم جميع المأكولات والعام يقبل التخصيص فلو نوى مأكولا دون مأكول صحت نيته وهو قول أبي يوسف

وعند أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يقبل التخصيص ونظر أبي حنيفة رحمه الله فيه دقيق وتقريره أن نية التخصيص لو صحت لصحت إما في الملفوظ أو في غيره والقسمان باطلان فبطلت تلك النية وإنما قلنا أنه لا يصح اعتبار نية التخصيص في الملفوظ لأن الملفوظ هو الأكل والأكل ماهية واحدة لأنها قدر مشترك بين أكل هذا الطعام وأكل ذلك الطعام وما به الاشتراك غير ما به الامتياز وغير مستلزم له فالأكل من حيث إنه أكل مغاير لقيد كونه هذا الأكل وذاك وغير مستلزم له والمذكور إنما هو الأكل من حيث هو أكل وهو بهذا الاعتبار ماهية واحدة والماهية من حيث إنها هي لا تقبل العدد فلا تقبل التخصيص بل الماهية إذا اقترنت بها العوارض الخارجية حتى صارت هذا أو ذاك تعددت فهناك صارت محتملة للتخصيص ولكنها قبل تلك العوارض لا تكون متعددة فلا تكون محتملة للتخصيص فالحاصل أن الملفوظ ليس إلا الماهية وهي غير قابلة للتخصيص فأما إذا أخذت الماهية مع قيود زائدة عليها تعددت وحينئذ

تصير محتملة للتخصيص لكن تلك الزوائد غير ملفوظة فالمجموع الحاصل منها ومن الماهية غير ملفوظ فيكون القابل لنية التخصيص شيئا غير ملفوظ وهذا هو القسم الثاني فنقول هذا القسم وأن كان جائزا عقلا إلا أنا نبطله بالدليل الشرعي فنقول إضافة ماهية الأكل إلى الخبز تارة وإلى اللحم أخرى إضافات تعرض لها بحسب اختلاف المفعول به وإضافتها إلى هذا اليوم وذلك وهذا الموضع وذاك إضافات عارضة لها بحسب اختلاف المفعول فيه ثم أجمعنا على أنه لو نوى التخصيص بالمكان والزمان لم يصح فكذا التخصيص بالمفعول به والجامع رعاية الاحتياط في تعظيم اليمين حجة أصحاب الشافعي رضي الله عنه أجمعنا على أنه لو قال إن أكلت أكلا أو غسلت غسلا صحت نية التخصيص فكذا إذا قال إن أكلت لأن الفعل مشتق من المصدر والمصدر موجود فيه

المسألة التاسعة في قول الشافعي "ترك الاستفصال.. إلخ"

والجواب أن المصدر هو الماهية وقد بينا أنها لا تحتمل التخصيص وأما قوله أكلت أكلا فهذا في الحقيقة ليس مصدرا لأنه يفيد أكلا واحدا منكرا والمصدر ماهية الأكل وقيد كونه واحدا منكرا ليس وصفا قائما به بل معناه أن القائل ما عينه والذي يكون متعينا في نفسه لكن القائل ما عينه فلا شك أنه قابل للتعيين فإذا نوى التعيين فقد نوى ما يحتمله اللفظ فهذا ما عندي في هذا الفصل المسألة التاسعة قال الشافعي رضي الله عنه ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال

مثاله أن ابن غيلان أسلم على عشر نسوة فقال عليه الصلاة والسلام أمسك أربعا وفارق سائرهن ولم يسأله عن كيفية ورود عقده عليهن في الجمع أو الترتيب فكان إطلاقه القول دالا على أنه لا فرق بين أن تتفق تلك العقود معا أو على الترتيب وهذا فيه نظر لاحتمال أنه ص عرف خصوص الحال فأجاب بناء

المسألة العاشرة في العطف على العام

على معرفته ولم يستفصل والله أعلم المسألة العاشرة العطف على العام لا يقتضي العموم لأن مقتضى العطف مطلق الجمع وذلك جائز بين العام والخاص قال الله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء وهذا عام وقوله تعالى وبعولتهن أحق بردهن خاص المسألة الحادية عشرة كل حكم يدل عليه بصيغة المخاطبة كقوله تعالى يأيها الذين

آمنوا يأيها الناس فهو خطاب مع الموجودين في عصر الرسول ص وذلك لا يتناول من يحدث بعدهم إلا بدليل منفصل يدل على أن حكم من يأتي بعد ذلك كحكم الحاضرين لأن الذين سيوجدون بعد ذلك ما كانوا موجودين في ذلك الوقت ومن لم يكن موجودا في ذلك الوقت لا يكون إنسانا ولا مؤمنا في ذلك الوقت ومن لا يكون كذلك لا يتناوله الخطاب المتناول للإنسان والمؤمن فإن قيل وما الذي يدل على العموم قلنا الحق أنه معلوم بالضرورو أن في دين محمد ص وذكروا فيه طريقين آخرين الأول التمسك بقوله تعالى وما أرسلناك إلا كافة للناس وقوله عليه السلام بعثت إلى الناس كافة وقوله بعثت إلى الأسود والأحمر

وقوله ص حكمي على الواحد حكمي على الجماعة الثاني أنه ص متى أراد اتخصيص على بين كما قال لأبي بردة بن نيار يجزئ عنك ولا يجزئ أحدا بعدك

وخص عبد الرحمن بن عوف بحل لبس الحرير فحيث لا يتبين التخصيص نعلم العموم

المسألة الثانية عشرة في نحو قول الصحابي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر

ولقائل أن يعترض على الأول بأن لفظ الناس والجماعة والأسود والأحمر لا يتناول إلا الموجود ين فيختص بالحاضرين وعلى الثاني بأن ذكر التخصيص إنما يحتاج إليه لو جرى لفظ يوهم العموم لكنا قلنا إن الخطاب مشافهة لا يحتمل أن يدخل فيه الذين سيوجدون بعد ذلك فلا حاجة فيه إلى بيان التخصيص المسألة الثانية عشرة قول الصحابي نهى رسول الله ص عن بيع الغرر لا يفيد العموم

لأن الحجة في المحكي لا في الحكاية والذي رآه الصحابي حتى روى النهي عنه يحتمل أن يكون خاصا بصورة واحدة وأن يكون عاما ومع الاحتمال لا يجوز القطع بالعموم وأيضا قول الصحاب قضى رسول الله ص بالشاهد واليمين لا

يفيد العموم وكذا القول فيما إذا قال الصحابي سمعت النبي ص يقول قضيت بالشفعة للجار لاحتمال كونه حكاية عن قضاء لجار

معروف وتكون الألف واللام للتعريف وقوله قضيت حكاية عن فعل معين ماض فأما قوله ص قضيت بالشفعة للجار وقول الراوي أنه ص قضى

المسألة الثالثة عشرة في نحو قول الراوي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الصلاتين في السفر

بالشفعة للجار فالاحتمال فيهما قائم ولكن جانب العموم أرجح المسألة الثالثة عشرة قول الراوي كان رسول الله ص يجمع بين الصلاتين في السفر

المسألة الرابعة عشرة في نحو قول الراوي صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الشفق

لا يقتضي العموم لأن لفظ كان لا يفيد إلا تقدم الفعل فأما التكرار فلا ومنهم من قال إنه يفيد التكرار في العرف لأنه لا يقال كان فلان يتهجد بالليل إذا تهجد مرة واحدة في عمره المسألة الرابعة عشرة إذا قال الراوي صلى ص بعد الشفق

فقال قائل الشفق شفقان الحمرة والبياض وأنا أحمله على وقوعه بعدهما جميعا فهذا خطأ لأن اللفظ المشترك لا يمكن حمله على مفهوميه معا كما تقدم أما المتواطئ فمثاله قول الراوي صلى رسول الله ص في الكعبة فلا يمكن أن يستدل به على جواز أداء الفرض في البيت لأنه

المسألة الخامسة عشرة المفهوم لا عموم له

إنما يعم لفظ الصلاة لا فعلها فذاك الواقع إن كان فرضا لم يكن نفلا وبالعكس فلا يدل على العموم المسألة الخامسة عشرة قال الغزالي رحمه الله المفهوم لا عموم له لأن العموم لفظ تتشابه دلالته بالإضافة إلى مسمياته ودلالة المفهوم ليست لفظية فلا يكون لها عموم والجواب إن كنت لا تسميه عموما لأنك لا تطلق لفظ العام إلا على الألفاظ فالنزاع لفظي وإن كنت تعني أنه لا يعرف منه انتفاء الحكم عن جميع ما عداه فباطل لأن البحث عن أن المفهوم هل له عموم أم لا فرع على أن المفهوم حجة ومتى ثبت كونه حجة لزم القطع بانتفاء الحكم عما عداه لأنه لو ثبت الحكم في غير المذكور لم يكن لتخصيصه بالذكر فائدة والله أعلم.

بسم الله الرحمن الرحيم جميع الحقوق محفوظة للناشر الطبعة الثالثة 1418 هـ / 1997 م حقوق الطبع محفوظة 1992 م. لا يسمع باعادة نشر هذا الكتاب أو أي جزء منه بأي شكل من الاشكال أو حفظه ونسخه في أي نظام ميكانيكي أو الكتروني يمكن من استرجاع الكتاب أو أي جزء منه. ولا يسمح باقتباس أي جزء من الكتاب أو ترجمته إلى أي لغة أخرى دون الحصول على إذن خطي مسبق من الناشر.

المحصول في علم أصول الفقه للامام الأصولي النظار المسفر فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي 544 - 606 هـ / 1149 هـ - 1209 م دراسة وتحقيق الدكتور طه جابر فياض العلواني الجزء الثالث مؤسسة الرسالة

بسم الله الرحمن الرحيم

القسم الثاني في الخصوص وفيه مسائل

القسم الثاني في الخصوص وفيه مسائل

المسألة الأولى في حد التخصيص

المسألة الأولى حد التخصيص على مذهبنا إخراج بعض ما تناوله الخطاب عنه وعند الواقفية إخراج بعض ما صح أن يتناوله الخطاب سواء كان الذي صح واقعا أم لم يكن واقعا وأما قولنا العام المخصوص فمعناه أنه استعمل في بعض ما وضع له وعند الواقفية أن المتكلم أراد به بعض ما يصلح له ذلك اللفظ دون البعض وأما الذي به يصير العام خاصا فهو قصد المتكلم لأنه إذا قصد بإطلاقه تعريف بعضما تناوله اللفظ أو بعض ما يصلح أن يتناوله على اختلاف المذهبين فقد خصه

المسألة الثانية في الفرق بين التخصيص

وأما المخصص للعموم فيقال على سبيل الحقيقة على شئ واحد وهو إرادة صاحب الكلام لأنها هي المؤثرة في إيقاع ذلك الكلام لإفادة البعض فإنه إذا جاز أن يرد الخطاب خاصا وجاز أن يرد عاما لم يترجح أحدهما على الآخر إلا بالإرادة ويقال بالمجاز على شيئين أحدهما من أقام الدلالة على كون العام مخصوصا في ذاته وثانيهما من اعتقد ذلك أو وصفه به كان ذلك الاعتقاد حقا أو باطلا المسألة الثانية في الفرق بين التخصيص والنسخ النسخ لا معنى له إلا تخصيص الحكم بزمان معين بطريق خاص فيكون الفرق بين التخصيص والنسخ فرق ما بين العام والخاص لكن

الناس اعتبروا في التخصيص أمورا لفظية أخرجوه لأجلها عن جنس النسخ وتلك الأمور خمس أحدها أن التخصيص لا يصح إلا فيما يتناوله اللفظ والنسخ قد يصح فيما علم بالدليل انه مراد وإن لم يتناوله اللفظ وثانيهما أن نسخ شريعة بشريعة أخرى يصح وتخصيص شريعة بشريعة أخرى لا يصح وثالثها أن النسخ رفع الحكم بعد ثبوته والتخصيص ليس كذلك ورابعها أن الناسخ أن يكون متراخيا والمخصص لا يجب أن يكون متراخيا سواء وجبت المقارنة أو لم تجب على اختلاف القولين وخامسها أن التخصيص قد يقع بخبر الواحد والقياس والنسخ لا يقع بهما وأما الفرق بين التخصيص والاستثناء فهو فرق ما بين العام والخاص عندي

المسألة الثالثة فيما يجوز تخصيصه وما لا يجوز

ومنهم من تكلف بينهما فروقا أحدها أن الاستثناء مع المستثنى منه كاللفظة الواحدة الدالة على شئ واحد فالسبعة مثلا لها اسمان سبعة وعشرة إلا ثلاثة والتخصيص ليس كذلك وثانيها أن التخصيص يثبت بقرائن الأحوال فإنه إذا قال رأيت الناس دلت القرينة على أنه ما رأى كلهم والاستثناء لا يحصل بالقرينة وثالثها أن التخصيص يجوز تأخيره لفظا والاستثناء لا يجوز فيه ذلك وهذه الوجوه متكلفة والحق أن التخصيص جنس تحته أنواع كالنسخ والاستثناء وغيرهما المسألة الثالثة فيما يجوز تخصيصه وما لا يجوز الذي يتناول الواحد لا يجوز تخصيصه لأن التخصيص عبارة عن أخراج البعض عن الكل والواحد لا يعقل ذلك فيه

المسألة الرابعة في جواز إطلاق لفظ العام وإرادة الخاص

وأما الذي يتناول أكثر من وا حد فعمومه إما من جهة اللفظ ويصح تطرق التخصيص إليه وإما من جهة المعنى وهو أمور ثلاثة أحدمها أن العلة الشرعية هل يجوز تخصيصها وسيأتي الكلام فيه في باب القياس إن شاء الله تعالى وثانيها مفهوم الموافقة كدلالة حرمة التأفيف على حرمة الضرب والتخصيص فيه جائز إذا لم يعد بالنقض على الملفوظ مثل تقييد الأم إذا فجرت وضرب الوالد إذا ارتد ولا يجوز إذا عاد بالنقض عليه وثالثها مفهوم المخالفة فإنه يفيد في المسكوت عنه انتفاء مثل حكم المذكور ويجوز أن تقوم الدلالة على ثبوت مثل حكم المذكور لبعض المسكوت عنه المسألة الرابعة يجوز إطلاق اللفظ العام لإرادة الخاص أمرا كان أو خبرا خلافا لقوم

المسألة الخامسة في الغاية التي ينتهي تخصيص العموم

لنا الدليل على جوازه وقوعه في القرآن كقوله تعالى اقتلوا المشركين الله خالق كل شئ ويقال في العرف جاءني كل الناس والمراد أكثرهم احتجوا بأنه إذا أريد بالخبر العام بعضه أو هم الكذب ولو كان جواز حمله على التخصيص مانعا من كونه كذبا لما وجد في الدنيا كذب وجواز التخصيص في الأمر يوهم البداء والجواب إذا علمنا أن اللفظ في الأصل محتمل للتخصيص فقيام الدلالة على وقوعه لا يوجب الكذب ولا البداء والله أعلم المسألة الخامسة في الغاية التي لا يمكن أن ينتهي تخصيص العموم إلى أقل منها

اتفقوا في ألفاظ الاستفهام والمجازاة على جواز انتهائها في التخصيص إلى الواحد واختلفوا في الجمع المعرف بالألف واللام فزعم القفال أنه لا يجوز تخصيصه بما هو أقل من الثلاثة ومنهم من جوز انتهائه إلى الواحد ومنع أبو الحسين من ذلك في جميع ألفاظ العموم وأوجب أن يراد بها كثرة وإن لم يعلم قدرها إلا الله أن يستعمل في حق الواحد على سبيل التعظيم والإبانة فإن ذلك الواحد يجري مجرى الكثير وهو الأصح أما أنه لا بد من بقاء الكثرة فلأن الرجل لو قال أكلت كل ما في الدار من الرمان وكان فيها ألف وكان قد أكل رمانة واحدة أو ثلاثة عابه أهل اللغة ولو قال كل من دخل داري أكرمته ثم قال أردت به زيدا وحده عابه أهل اللغة احتج من جوز ذلك بأن استعمال العام في غير الاستغراق استعمال له في غير ما وضع له فليس جواز استعماله في البعض أولى منه في البعض الآخر فوجب

المسألة السادسة في العام إذا دخله التخصيص هل يصير مجازا

جواز استعماله في جميع الأقسام إلى أن ينتهي إلى الواحد والجواب لا نسلم أنه ليس بعض المراتب أولى من بعض وتقريره ما ذكرناه وأما أنه يجوز استعماله في حق الواحد على سبيل التعظيم فلقوله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وقوله فقدرنا فنعم القادرون المسألة السادسة اختلفوا في أن العام الذي دخله التخصيص هل هو مجاز أم لا فقال قوم من الفقهاء إنه لا يصير مجازا كيف كان التخصيص وقال أبو علي وأبو هاشم يصير مجازا كيف كان التخصيص ومنهم من فصل وذكر فيه وجوها والمختار قول أبي الحسين رحمه الله وهو أن القرينة المخصصة إن استقلت بنفسها صارت مجازا وإلا فلا تقريره أن القرينة المخصصة المستقلة ضربان عقلية ولفظية

أما العقلية فكالدلالة قال الدالة على أن غير القادر غير مراد بالخطاب بالعبادات وأما اللفظية فيجو أن يقول المتكلم بالعام أردت به البعض الفلاني وفي هذين القسمين يكون العموم مجازا والدليل عليه أن اللفظ موضوع في اللغة للاستغراق فإذا استعمل هو بعينه في البعض فقد صار اللفظ مستعملا في جزء مسماه لقرينة مخصصة وذلك هو المجاز فان قلت لم لا يجوز أن يقال لفظ العموم وحده حقيقة في الاستغراق ومع القرينة المخصصة حقيقة في الخصوص قلت فتح هذا الباب يفضي إلى أن لا يوجد في الدنيا مجاز أصلا لأنه لا لفظ إلا ويمكن أن يقال إنه وحده حقيقة في كذا ومع القرينة حقيقة في المعنى الذي جعل مجازا عنه والكلام في ان العام المخصوص بقرينة مستقلة بنفسها هل هو مجاز أم لا فرع على ثبوت أصل المجاز

وأما إن كانت القرينة لا تستقل بنفسها نحو الاستثناء والشرط والتقييد بالصفة كقول القائل جاءني بنو أسد الطوال فها هنا لا يصير مجازا والدليل عليه أن لفظ العموم حال انضمام الشرط أو الصفة أو الاستثناء إليه لا يفيد البعض لأنه لو أفاده لما بقي شئ يفيده الشرط أو الصفة أو الاستثناء وإذا لم يغد البعض استحال أن يقال إنه مجاز في إفادة البعض بل المجموع الحاصل من لفظ العموم ولفظ الشرط أو الصفة أو الاستثناء دليل على ذلك البعض وإفادة ذلك المجموع لذلك البعض حقيقة تنبيه إذا قال الله تعالى أقتلوا المشركين فقال النبي ص في الحال إلا زيدا فهذا تخصيص بدليل متصل أو منفصل فيه احتمال

المسألة السابعة في جواز التمسك بالعام المخصوص

المسألة السابعة يجوز التمسك بالعام المخصوص وهو قول الفقهاء وقال عيسى بن أبان وأبو ثور لا يجوز مطلقا ومنهم من فصل فذكر الكرخي أن المخصوص بدليل متصل يجوز التمسك به والمخصوص بدليل منفصل لا يجوز التمسك به والمختار أنه لو خص تخصيصا مجملا لا يجوز التمسك به وإلا جاز مثال التخصص المجمل كما إذا قال الله تعالى أقتلوا المشركين ثم قال لم أرد بعضهم لنا وجوه الأول أن اللفظ العام كان متناولا للكل فكونه حجة في كل واحد من أقسام ذلك الكل إما أن يكون موقوفا على كونه حجة في القسم الآخر أو على كونه حجة في الكل أو لا يتوقف على واحد من هذين القسمين

والأول باطل لأنه إن كان كونه حجة في كل واحد من تلك الأقسام مشروطا بكونه حجة في القسم الآخر لزم الدور وإن افتقر كونه حجة في هذا القسم إلى كونه حجة في ذلك القسم ولا ينعكس فحينئذ يكون كونه حجة في ذلك القسم يصح أن يبقى بدون كونه حجة في هذا القسم فيكون العام المخصوص حجة في ذلك القسم هذا مع أنا نعلم بالضرورة أن نسبة اللفظ إلى كل الأقسام على السوية فلم يكن جعل البعض مشروطا بالآخر أولى من العكس والقسم الثاني أيضا باطل لأن كونه حجة في الكل يتوقف على كونه حجة في كل واحد من تلك الأقسام لأن الكل لا يتحقق إلا عند تحقق جميع الأفراد فلو توقف كونه حجة في البعض على كونه حجة في الكل لزم الدور وهو محال ولما بطل القسمان ثبت أن كونه حجة في ذلك البعض لا يتوقف على كونه حجة في البعض الآخر ولا على كونه حجة في الكل فإذن هو حجة في ذلك البعض سواء ثبت كونه في البعض الآخر أو في الكل أو لم يثبت ذلك فثبت ان العام المخصوص حجة الثاني هو أن المقتضى لثبوت الحكم في غير محل التخصيص قائم

والمعارض الموجود لا يصلح معارضا فوجب ثبوت الحكم في غير محل التخصيص إنما قلنا إن المقتضي قائم وذلك لأن المقتضى هو اللفظ الدال على ثبوت الحكم وصيغة العموم دالة على ثبوت الحكم في كل الصور والدال على ثبوت الحكم فكل الصور دال على ثبوته في محل التخصيص وفي غير محل التخصيص فثبت أن المقتضى لثبوت الحكم في غير صورة التخصيص قائم وأما أن المعارض الموجود لا يصلح أن يكون معارضا فلأن المعارض إنما هو بيان أن الحكم غير ثابت في هذه الصورة المعينة ولا يلزم من عدم الحكم في هذه الصورة المعينة عدمه في الصورة الآخرى فبيان عدم الحكم في هذه الصورة لا يكون منافيا لثبوت الحكم في الصورة الأخرى ثبت أن المقتضي قائم والمانع مفقود فوجب ثبوت الحكم الثالث أن عليا كر الله وجهه تعلق في الجمع بين الأختين في الملك بقوله تعالى أو ما ملكت أيمانكم مع أنه مخصوص بالبنت والأخت ولم

ينكر عليه أحد من الصحابة فكان إجماعا

المسألة الثامنة أقوال العلماء في الاستقصاء في طلب المخصص

احتجوا بأن العام المخصوص لا يمكن إجراؤه على ظاهره فيجب صرفه عن الظاهر وحينئذ لا يكون حمله على بعض المحامل اولى من بعض فيصير مجملا قلنا لا نسلم أنه ليس البعض بأولى من البعض بل عندنا يجب حمله على الباقي والله أعلم المسألة الثامنة قال ابن سريج لا يجوز التمسك بالعام ما لم يستقص في طلب المخصص فإذا لم يوجد ذلك المخصص فحينئذ يجوز التمسك به في إثبات الحكم وقال الصيرفي يجوز التمسك به ابتداء ما لم تظهر دلالة مخصصة واحتج الصيرفي بأمرين أحدهما لو لم يجز التمسك بالعام إلا بعد طلب أنه هل وجد مخصص أم لا لما جاز التمسك بالحقيقة إلا بعد طلب أنه هل وجد ما يقتضي صرف اللفظ عن

الحقيقة إلى المجاز وهذا باطل فذاك مثله بيان الملازمة أنه لو لم يجز التمسك بالعام إلا بعد طلب المخصص لكان ذلك لأجل الاحتراز عن الخطأ المحتمل وهذا المعنى قائم في التمسك بحقيقة اللفظ فيجب اشتراكهما في الحكم بيان أن التمسك بالحقيقة لا يتوقف على طلب ما يوجب العدول إلى المجاز هو أن ذلك غير واجب في العرف بدليل أنهم يحملون الألفاظ على ظواهرها من غير بحث عن أنه هل وجد ما يوجب العدول أم لا وإذا وجب ذلك في العرف وجب أيضا في الشرع لقوله ص ما رأه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وثانيهما أن الأصل عدم التخصيص وهذا يوجب ظن عدم المخصص فيكفي في إثبات ظن الحكم

واحتج ابن سريج أن بتقدير قيام المخصص لا يكون العموم حجة في صورة التخصيص فقبل البحث عن وجود المخصص يجوز أن يكون العموم حجة وأن لا يكون والأصل أن لا يكون حجة إبقاء للشئ على حكم الأصل والجواب أن ظن كونه حجة أقوى من ظن كونه غير حجة لأن إجراءه على العموم أولى من حمله على التخصيص ولما ظهر هذا القدر من التفاوت كفى ذلك في ثبوت الظن فرع إذا قلنا يجب نفي المخصص فذاك مما لا سبيل إليه إلا بأن يجتهد في الطلب ثم لا يجد لكن الاستدلال بعدم الوجد ان على عدم الوجود لا يورث إلا الظن الضعيف والله أعلم

القسم الثالث القول فيما يقتضي تخصيص العموم في الأدلة المتصلة

القسم الثالث فيما يقتضي تخصيص العموم والكلام في هذا القسم يقع في أطراف أربعة أحدها الأدلة المتصلة المخصصة وثانيها الأدلة المنفصلة المخصصة وثالثها بناء العام على الخاص ورابعها ما يظن أنه من مخصصات العموم وليس كذلك القول في الأدلة المتصلة وفيه أربعة أبواب الباب الأول في الاستثناء وفيه مسائل

المسألة الأولى الاستثناء إخراج بعض الجملة من الجملة بلفظ إلا أو ما أقيم مقامه أو يقال ما لا يدخل في الكلام إلا لإخراج بعضه بلفظه ولا يستقل بنفسه والدليل على صحة هذا التعريف أن الذي يخرج بعض الجملة عنها إما أن يكون معنويا كدلالة العقل والقياس وهذا خارج عن هذا التعريف وإما أن يكون لفظيا وهو إما أن يكون منفصلا فيكون مستقلا بالدلالة وإلا كان لغوا وهذا أيضا خارج عن هذا الحد أو متصلا وهو إما التقييد بالصفة أو الشرط أو الاستثناء أو الغاية إما التقييد بالصفة فالذي خرج لم يتناوله لفظ التقييد بالصفة لأنك إذا قلت أكرمني بنو تميم الطوال خرج منهم القصار ولفظ الطوال

لم يتناول القصار بخلاف قلولنا عن أكرمني بنو تميم إلا زيدا من فإن الخارج وهو زيد تناولته صيغة الاستثناء وهذا هو الاحتراز عن التقييد بالشرط وأما التقييد بالغاية فالغاية قد تكون داخلة كما في قوله تعالى إلى المرافق بخلاف الاستثناء فثبت أن التعريف المذكور للاستثناء منطبق عليه المسألة الثانية يجب أن يكون الاستثناء متصلا بالمستثنى منه عادة واحترزنا بقولنا عادة عما إذا طال الكلام فإن ذلك لا يمنع من اتصال الاستثناء وكذلك قطع الكلام بالنفس والسعال لا يمنع من اتصاله به وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه جوز الاستثناء المنفصل وهذه الرواية إن صحت فلعل المراد منها ما إذا نوى الاستثناء متصلا بالكلام ثم أظهر نيته بعده فإنه يدين فيما بينه وبين الله تعالى فيما نواه

لنا وجهان الأول لو جاز تأخير الاستثناء لما استقر شئ من العقود من الطلاق والعتاق ولم يتحقق الحنث أصلا لجواز أن يرد عليه الاستثناء فيغير حكمه الثاني نعلم بالضرورة أن من قال لوكيله اليوم بع داري من أي شخص كان ثم قال بعد غد إلا من زيد فإن أهل العرف لا يجعلون الاستثناء عائدا إلى ما تقدم احتجوا بأنه يجوز تأخير النسخ والتخصيص فكذا الاستثناء والجواب أنه يبطل بالشرط وخبر المبتدأ ثم نطالبهم بالجامع والله أعلم

المسألة الثالثة استثناء الشئ من غير جنسه باطل على سبيل الحقيقة وجائز على سبيل المجاز والدليل الأول أن الاستثناء من غير الجنس الأول لو صح لصم إما من اللفظ أو من المعنى والأول باطل لأن اللفظ الدال على الشئ فقط غير داعلى ما يخالف جنس مسماه واللفظ إذا لم يدل على شئ لا يحتاج إلى صارف يصرفه عنه والثاني أيضا باطل لأنه لو جاز حمل اللفظ على المعنى المشترك بين

مسما وبين المستثنى ليصح الاستثناء لجاز استثناء كل شئ من كل شئ لأن كل شيئين لا بد وأن يشتركا في بعض الوجوه فإذا حمل المستثنى على ذلك المشترك صح الاستثناء ولما علمنا أن العرب لم يصححوا استثناء كل شئ من كل شئ علمنا بطلان هذا القسم احتجوا بالقرآن والشعر والمعقول

أما القرآن فخمس آيات إحداها قوله عز وجل وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ وثانيها قوله تعالى فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس وهو ما كان منهم بل كان من الجن وثالثها قوله تعالى لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ورابعها قوله تعالى مالهم به من علم إلا اتباع الظن والظن ليس من جنس العلم وخامسها قوله تعالى لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما والسلام ليس من جنس اللغو

وأما الشعر فقوله وبلدة ليس بها أنيس * إلا اليعافير والا العيس في

وقول النابغة وما بالدار من أحد إلا أواري * والأواري ليس من جنس الأحد وقفت فيها أصيلانا أسائلها * عيت جوابا وما بالربع من أحد إلا أوارى لأيا من أبينها * والنؤى كالحوض بالمطلومة بن الجلد

وأما المعقول فهو أن الاستثناء تارة يقع عما يدل اللفظ عليه دلالة المطابقة أو التضمن وتارة عما يدل عليه دلالة الالتزام فإذا قال لفلان علي الف دينار إلا ثوبا فمعناه إلا قيمة ثوب والجواب أما قوله تعالى وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ فجوابه أن إلا ها هنا بمعنى لكن أو يقال وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا إذا أخطأ فغلب على ظنه أنه ليس من المؤمنين إما بأن يختلط بالكفار فيطن الرجل أنه منهم أو بأن يراه من بعيد فيظنه صيدا أو حجرا وأما قوله تعالى إلا إبليس فقيل إنه كان من الملائكة ولابد من الدلالة على أن كونه من الجن ينفي كونه من الملائكة سلمنا أنه ليس من الملائكة لكن إنما حسن الاستثناء لأنه كان مأمورا بالسجود كما أن الملائكة كانوا مأمورين بذلك فكأنه قال فسجد

المأمورون بالسجود إلا إبليس وأما قوله تعالى إلا أن تكون تجارة إلا اتباع الظن فقد اتفقت النحاة على أنه ليس باستثناء ثفسره البصريون بقولهم ولكن اتباع الظن والكوفيون بقولهم سوى اتباع الظن والجواب عن الشعر أن الأنيس سواء فسرناه بالمؤنس هذه أو بالمبصر أمكن إدخال اليعافير والعيس فيه

وعن الثالث أنه لو صح الاستثناء من المعنى لزم صحة استثناء كل شئ من كل شئ على ما بيناه والله أعلم المسألة الرابعة أجمعوا على فساد الاستثناء المستغرق ثم من الناس من قال شرط المستثنى أن لا يكون أكثر أكثر مما بقي بل يجب أن يكون مساويا أو أقل وقال القاضي بل شرطه أن لا يكون أكثر ولا مساويا سنة بل أقل ويدل على فساد القولين أن الفقهاء أجمعوا على أن من قال لفلان علي عشرة إلا تسعة يلزمه واحد ولولا أن هذا الاستثناء صحيح لغة وشرعا وإلا لمكن كذلك ويدل على فساد اقول الثاني خاصة قوله تعالى إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين وقال حكاية عن إبليس لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين فلو كان المستثنى أقل من المستثنى منه لزم في أتباع إبليس وفي المخلصين أن يكون كل واحد

منهما أقل من الآخر وذلك محال حجة القاضي رحمه الله أن المقتضى لفساد الاستثناء قائم وما لأجله ترك العمل به في الأقل غير موجود في المساوي والأكثر فوجب أن يفسد الاستثناء في المساوي والأكثر بيان مقتضى الفساد أن الاستثناء بعد المستثنى منه إنكار بعد الإقرار وإنه غير مقبول بيان الفارق أن الشئ القليل يكون في معرض النسيان لقلة التفات النفس إليه والكثير يكون متذكرا محفوظا لكثرة التفات القلب إليه فإذا أقر بالعشرة فربما كانت تلك العشرة بنقصان شئ قليل وإن كانت تامة لكنه أدى منها شيئا قليلا ثم إنه نسي ذلك القدر لقلته فلا جرم أقر بالعشرة الكاملة ثم إنه بعد الإقرار تذكر ذلك القدر فوجب أن يكون متمكنا من استدراكه فلأجل هذا شرعنا استثناء الأقل من الأكثر ولم يوجد هذا المعنى في استثناء المثل أو الأكثر لما ذكرنا أن الكثرة مظنة الذكر وإذا ظهر الفارق بقي المقتضي سليما عن المعارض والجواب عندنا أن الاستثناء مع المستثنى منه كاللفظ الواحد الدال على ذلك

القدر وعلى هذا الفرض يسقط ما ذكرتم والله أعلم المسألة الخامسة الاستثناء من الإثبات نفي ومن النفي إثبات مثال الأول قوله تعالى فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ومثال الثاني قوله تعالى إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك وزعم أبو حنيفة رحمه الله إن الاستثناء من النفي لا يكون إثباتا قال لأن بين الحكم بالنفي وبين الحكم بالإثبات واسطة وهي عدم الحكم فمقتضى الاستثناء بقاء المستثنى غير محكوم عليه لا بالنفي ولا بالإثبات لنا لو لم يكن الاستثناء في النفي إثباتا لما كان قولنا لا إله إلا الله موجبا ثبوت الإلهية لله جل جلاله بل كان معناه نفي الإلهية عمرو عن غيره وأما ثبوت الإلهية له فلا ولو كان كذلك لما تم الإسلام ولما كان ذلك باطلا علمنا أنه يفيد الإثبات احتج أبو حنيفة رحمه الله بقوله ص لا نكاح إلا بولي ولا

صلاة إلا بطهور ولم يلزم منه تحقق النكاح عند حضور الولي ولا تحقق الصلاة عند حضور الوضوء بل يدل على عدم صحتهما عند عدم هذين الشرطين والله أعلم

المسألة السادسة الاستثناآت إذا تعددت فإن كان البعض معطوفا على البعض بحرف العطف كان الكل عائدا إلى المستثنى منه كقولك لفلان عندي عشرة إلا أربعة وإلا خمسة وإن لم يكن كذلك فالاستثناء الثاني إن كان أكثر من الأول أمساويا له عاد إلى الأول كقوله لفلان علي عشرة إلا أربعة إلا خمسة وإن كان أقل من الأول كقولك لفلان علي عشرة إلا خمسة إلا أربعة فالاستثناء الثاني إما أن يكون عائدا إلى الاستثناء الأول فقط أو إلى المستثنى منه فقط أو إليهما معا أولاإلى أحد منهما والأول هو الحق والثاني باطل لأن القريب إن لم يكن أولى من البعيد فلا أقل من المساواة والثالث أيضا باطل لوجهين أحدهما أن المستثنى منه مع الاستثناء ألأول لا بد وأن يكون أحدهما نفيا والآخر إثباتا فالاستثناء الثاني لو عاد إليهما معا والاستثناء من النفي إثبات

ومن الإثبات نفي فيكون الاستثناء الثاني قد نفى عن أحد الأمرين السابقين عليه ما أثبته للآخر فينجبر النقصان بالزيادة ويبقى ما كان حاصلا قبل الاستثناء الثاني فيصير الاستثناء الثاني لغوا وثانيهما أن الاستثناء الثاني لو رجع إلى الاستثناء الأول والمستثنى منه معا لزم أن يكون نفيا وإثباتا معا وهو محال فإن قلت النفي والإثبات إنما يتنافيان لو رجعا إلى شئ واحد من وجه واحد فأما عند رجوعهما إلى شيئين فلا يتنافيان قلت لنفرض قبل أنه قال علي عشرة إلا اثنين إلا واحدا فالاستثناء الثاني لما رجع إلى المستثنى منه أخرج منه درهما آخر ولما رجع إلى الاستثناء الأول اقتضى ذلك إثبات ذلك الدرهم المستثنى منه فيكون ذلك الاستثناء نفيا وإثباتا من المستثنى منه وهو محال أما الرابع وهو أن لا يرجع الاستثناء الثاني إلى الاستثناء الأول ولا إلى المستثنى منه فهو باطل بالاتفاق

المسألة السابعة الاستثناء المذكور عقيب جمل كثيرة هل يعود إليها باسرها أم لا مذهب الشافعي رضي الله عنه وأصحابه عوده إلى الكل ومذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله عليه وأصحابه اختصاصه بالجملة الأخيرة وذهب القاضي منا والمرتضى من الشيعة إلى التوقف إلا أن المرتضى توقف للاشتراك والقاضي لم يقطع بذلك أيضا ومنهم من فصل القول فيه وذكروا وجوها وأدخلها في التحقيق ما قيل إن الجملتين من الكلام إما أن يكونا من نوع واحد أو يكونا من نوعين فإن كان الأول فإما أن تكون إحدى الجملتين متعلقة بالأخرى أو لا تكون كذلك

فإن كان الثاني فإما أن يكونا مختلفي الاسم والحكم أو متفقي الاسم مختلفي الحكم أو مختلفي الاسم متفقي الحكم فالأول كقولك أطعم ربيعة واخلع على مضر إلا الطوال والأظهر ها هنا اختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة لأن الظاهر أنه لم ينتقل من الجملة المستقلة بنفسها إلى جملة أخرى مستقلة بنفسها إلا وقد تم غرضه من الجملة الأولى ولو كان الاستثناء راجعا إلى جميع الجمل لم يكن قد تم مقصوده من الجملة الأولى وأما الثاني فكقولنا أطعم ربيعة واخلع على ربيعة إلا الطوال وأما الثالث فكقولنا أطعم ربيعة وأطعم مضر إلا الطوال والحكم هاهنا أيضا كما ذكرنا لأن كل واحدة من الجملتين مستقلة فالظاهر أنه لم ينتقل من إحداهما إلا وقد تم غرضه بالكلية منها وأما إن كانت إحدى الجملتين متعلقة بالأخرى فإما أن يكون حكم الأولى مضمرا في الثانية كقوله أكرم ربيعة ومضر الطوال أو اسم الأولى مضمرا يحيى في الثانية كقوله أكرم ربيعة واخلع عليهم إلا الطوال

فالاستثناء في هذين القسمين راجع إلى الجملتين لأن الثانية لا تستقل إلا مع الأولى فوجب رجوع حكم الاستثناء إليهما وأما إن كانت الجملتان نوعين من الكلام فإما أن تكون القضية واحدة أو مختلفة فإن كانت مختلفه فهو كقولنا أكرم ربعة والعلماء هم المتكلمون إلا أهل البلدة الفلانية فالاستثناء فيه يرجع إلى ما يليه لاستقلال كل واحدة من تلك الجملتين بنفسها وأما إن كانت القضية واحدة فهو كقوله تعالى والذين يرمون المحصنات فالقضية واحدة وأنواع الكلام مختلفة فالجملة الأولى أمر والثانية نهي والثالثة خبر فالاستثناء فيها يرجع إلى الجملة الأخيرة لاستقلال كل واحدة في تلك الجمل بنفسها والإنصاف أن هذا التقسيم حق لكنا إذا أردنا المناظرة اخترنا التوقف لا بمعنى دعوى الاشتراك بل بمعنى أنا لا نعلم حكمه في اللغة ماذا وهذا هو اختيار القاضي

واحتج الشافعي رضي الله عنه بوجوه أولها أن الشرط متى تعقب جملا عاد إلى الكل فكذا الاستثناء والجامع أن كل واحد منهمم لا يستقل بنفسه وأيضا فمعناهما واحد لأن قوله تعالى في آية القذف إلا الذين تابوا جار مجرى قوله وأولئك هم الفاسقون إن لم يتوبوا ويقرب من هذا الدليل قولهم أجمعنا على أن الاستثناء بمشيئة الله تعالى عائد إلى كل الجمل فالاستثناء بغير المشيئة يجب ان يكون كذلك وثانيها أن حرف العطف يصير الجمل المعطوف بعضها على بعض في حكم الجملة الواحدة لأنه لا فرق بين أن تقول رأيت بكر بن خالد وبكر بن عمرو وبين أن تقول رأيت البكرين وإذا كان الاستثناء الواقع عقيب الجملة الواحدة راجعا إليها فكذا ما صار بحكم العطف كالجملة الواحدة

وثالثها أنه تعالى لو قال فاجلدوهم ثمانين جلدة إلا الذين تابوا ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا إلا الذين تابوا وأولئك هم الفاسقون (إلا الذين تابوا) لكان ركيكا جدا فبتقدير أن يريد الاستثناء عن كل الجمل لا طريق له إلى ذلك إلا بذكر الاستثناء عقيب الجملة الأخيرة ففي هذه الصورة يكون الاستثناء راجعا إلى كل الجمل والأصل في الكلام الحقيقة وإذا ثبت كونه حقيقة في هذه الصورة كان كذلك في سائر الصور دفعا للاشتراك ورابعها لو قال لفلان علي خمسة وخمسة إلا سبعة كان الاستثناء ها هنا عائدا إلى الجملتين والأصل في الكلام الحقيقة وإذا ثبت ذلك في هذه الصورة فكذا في غيرها دفعا للاشتراك

واحتج أبو حنيفة رحمة الله عليه بوجوه أحدها أن الدليل ينفي اعتبار الاستثناء تركنا العمل به في الجملة الواحدة فيبقى العمل بالباقي في سائر الجمل بيان النافي أن الاستثناء يقتضي إزالة العموم عن ظاهره وهو خلاف الأصل بيان الفارق أن الاستثناء لا استقلال له بالدلالة على الحكم فلا بد من تعليقه بشئ لئلا يصير لغوا وتعليقه بالجملة الواحدة يكفي في خروجه عن اللغوية فحاجة إلى تعليقه بسائر الجمل وإذا ثبت النافي والفارق ثبت إنه لا يجوز عوده إلى الجمل الكثيرة والخصم قال به فصار محجوجا يبقى أن يقال لم خصصتموه بالجملة الأخيرة فتقول هذا تفريع قولنا ولنا فيه وجهان الوجه الأول اتفاق أهل اللغة على أن للقرب تأثيرا في هذا المعنى ثم يدل عليه أمور أربعة الأول اتفاق أهل اللغة البصريين على أنه إذا اجتمع على المعمول الواحد عاملان فإعمال الأقرب أولى

الثاني أنهم قالوا في ضرب زيد عمروا وضربته إن هذه الهاء بأن ترجع إلى عمرو المضروب أولى من أن ترجع إلى زيد الضارب للقرب الثالث أنهم قالو في قولنا ضربت سلمى سعدى إنه ليس في إعراب اللفظ ولا في معناه ما يجعل أحدهما بالفاعلية اولى من الآخر فاعتبروا المجاورة فقالوا الذي يلي الفعل أولى بالفاعلية الرابع أنهم قالوا في قولهم أعطى زيد عمروا بكرا أنه لما احتمل أن يكون وكل واحد من عمر وبكر مفعولا أول وليس في اللفظ ما يقتضي الترجيح وجب اعتبار القرب الوجه الثاني أن كل من صرف الاستثناء إلى جملة واحدة خصصه بالجملة الأخيرة فصرفه إلى غيرها خرق للإجماع فهذا تمام هذه الحجة وثانيهما أن الاستثناء المذكور عقيب الجمل لو رجع إلى جميعها لم يخل إما أن يضمر مع كل جملة استثناء يعقبها أولا يضمر ذلك بل الاستثناء المصرح به في آخر الجمل هو الراجع إلى جميعها

والأول باطل لأن الإضمار على خلاف الأصل فلا يصار إليه إلا لضرورة ولا ضرورة ها هنا والثاني أيضا باطل لأن العامل في نصب ما بعد حرف الاستثناء هو ما قبله من فعل أو تقدير فعل فإذا فرضنا رجوع ذلك الاستثناء إلى كل الجمل كان العامل في نصب المستثنى أكثر من واحد لكن لا يجوز أن يعمل عاملان في إعراب واحد دأما أولا فلأن سيبويه نص عليه وقوله حجة وأما ثانيا فلأنه يجتمع على الأثر الواحد مؤثران مستقلان وهو محال وثالثها أن الاستثناء من الاستثناء مختص بما يليه فكذا في سائر الصور دفعا للاشتراك عن الوضع ورابعها أن الجمل إذا كان كل واحد منها مستقلا بنفسه فالظاهر أنه لم ينتقل عن واحد منها إلى غيره إلا إذا تم غرضه منه لأنه كما أن السكوت يدل على استكمال الغرض المطلوب من الكلام فكذا الشروع في كلام آخر لا تعلق له بالأول يدل على استكمال الغرض من ذلك الأول إذا ثبت هذا فلو حكمنا برجوع الاستثناء ألى كل الجمل المتقدمة

نقض ذلك قولنا إنه لما انتقل عن الكلام الأول تم غرضه واحتج الشريف المرتضى على الاشتراك بوجوه أحدها أن القائل اذا قال اضرب غلماني وأكرم جيراني إلا واحدا جاز أن يستفهم المخاطب هل أراد استثناء الواحد من الجملتين أو من الجملة الواحدة والاستفهام دليل الاشتراك وثانيها أنا وجدنا الاستثناء في القرآن والعربية تارة عائدا إلى كل الجمل وأخرى مختصا بالأخيرة وظاهر الاستعمال دليل الحقيقة فوجب الاشتراك وثالثها أن القائل إذا قال ضربت غلماني وأكرمت جيراني قائما أو في الدار أو يوم الجمعة احتمل فيما ذكره من الحال والظرفين أن يكون المتعلق به جميع الآفعال وأن يكون ما هو أقرب والعلم باحتمال الأمرين من مذهب

أهل اللغة ضروري فإذا صح ذلك في الحال والظرفين صح أيضا في الاستثناء والجامع أن كواحد منهما فضلة تأتي بعد تمام الكلام فهذا مجموع أدلة القاطعين أما أدلة الشافعية فالجواب عن الأول أن نمنع الحكم في الأصل وبتقدير تسليمه فنطالب الرحمن بالجامع قوله إنهما يشتركان في عدم الاستقلال واقتضاء التخصيص قلنا لا يلزم من اشتراك شيئين في بعض الوجوه اشتراكهما في كل الاحكام قوله ثانيا معنى الشرط والاستثناء واحد قلنا إن ادعيتم أنه لا فرق بينهما أصلا كان قياس أحدهما على الآخر قياسا للشئ على نفسه وإن سلمتم الفرق طالبناكم بالجامع وبهذين الجوابين نجيب عن الاستدلال بمشيئة الله تعالى والجواب عن الثاني أنكم إن ادعيتم أنه لا فرق بين الجملة الواحدة وبين الجمل المعطوف بعضها على بعض كان قياس أحدهما على الآخر قياسا للشئ على نفسه وإن سلمتم الفرق طالبناكم بالجامع

انه الثالث أنه يمكن رعاية الاختصار بذكر الاستثناء الواحد عقيب الجمل مع التنبيه على ما يقتضي عوده إلى الكل وذلك لا يقدح في الفصاحة وعن الرابع أن هناك إنما رجع إلى الجملتين لأنه لا بد من اعتبار كلام العاقل ولما تعذر رجوعه إلى الجملتين وجب رجوعه إليهما وهذه الضرورة غير حاصلة في سائر المواضع وأما أدلة الحنفية فالجواب عن الآول من وجهين أحدهما أنه ينتقض بالاستثناء بمشيئة الله تعالى وبالشرط فإن ذلك غير مستقل بنفسه مع أنهما يعودان إلى كل الجمل عندهم فإن قلت الفرق هو أن الشرط وأن تأخر صورة فهو متقدم معنى وإذا كان متقدما معنى صار كل ما جاء بعده مشروطا به وأما الاستثناء بالمشيئة فإنه يقتضي صيرورة الكلام بأسره موقوفا فلا يختص بالبعض دون البعض قلت لا نسلم أن الشرط يجب أن يكون مقدما على الكل بل يجوز أن يكون مقدما على الجملة الأخيرة وإن سلمنا ذلك فلا نسلم أن التقدم يقتضي الرجوع إلى الكل بل لعله يكون مختصا بما يليه

وأما الاستثناء بالمشيئة فلم لا يجوز أن لا يقتضي كون الكل موقوفا بل يختص ذلك بالجملة الأخيرة والأصوب للحنفية أن يمنعوا هذين الإلزامين حتى يتم دليلهم ثانيهما أنا لا نسلم أن الاستثناء على خلاف الأصل قوله لأنه يوجب صرف العموم عن ظاهره قلنا لا نسلم لأنا بينا في مسألة ان العام المخصوص بالاستثناء لا يكون مجازا وأن لفظ العموم مع لفظ الاستثناء يصير كاللفظ الواحد الدال على ما بقي بعد الاستثناء وعلى هذا التقدير لا يكون الاستثناء على خلاف الأصل وعن الثاني أنا لا نسلم إنه لا يجوز أن يجتمع على المعمول الواحد عاملان ونص سيبويه على إنه لا يجوز معارض بنص الكسائي على أنه يجوز وقوله يجتمع على الأثر الواحد مؤثران مستقلان فجوابه أن العوامل الإعرابية معرفات لا مؤثرات واجتماع المعرفين على الواحد غير ممتنع

وعن الثالث أن الاستثناء من الاستثناء لو عاد إليه وإلى المستثنى معا لزم الفسادان المذكوران فيما تقدم وذلك غير حاصل في الاستثناء من الجمل وعن الرابع أن نقول ما تريدون بقولكم إنه لم ينتقل عن إحدى الجملتين إلى غيرها إلابعد فراغه من الأولى إن عنيتم به أنه لم ينتقل منها إلى غيرها إلا بعد فراغه من جميع أحكام الآولى فهذا ممنوع بل هو أول المسألة لأن عندنا من جملة أحكامها ذلك الاستثناء الذي ذكرتموه في آخر الجمل وإن عنيتم شيئا آخر فاذكروه لننظر فيه وأما أدلة الشريف المرتضى فالجواب عن الأول والثاني منها ما تقدم في باب العموم وعن الثالث أنا لا نسلم التوقف في الحال والظرفين بل نخصهما بالجملة الأخيرة على قول أبي حنيفة رحمه الله أو بالكل على قول الشافعي رضي الله عنه

سلمنا التوقف لكن لا على سبيل الاشتراك بل على سبيل أنا لا ندري أن الحق ما هو عند أهل اللغه فإن تمسك على الاشتراك بالاستفهام والاستعمال كان ذلك منه عودا إلى الطريقتين الأوليين سلمناه فلم قلتم أنه يجب أن يكون الأمر كذلك في الاستثناء قوله الجامع هو كون كل واحد من هذه الثلاثة فضلة تأتي بعد تمام الكلام قلنا الاشتراك من بعض الوجوه لا يقتضي التساوي من جميع الوجوه والله أعلم

الباب الثاني في التخصيص بالشرط

الباب الثاني في التخصيص بالشرط وفيه مسائل المسألة الأولى الشرط هو الذي يقف عليه المؤثر في تأثيره لا في ذاته ولا ترد عليه

العلة لأنها نفس المؤثر والشئ لا يقف على نفسه ولا جزء العلة ولا شرط ذاتها لأن العلة تقف عليه في ذاتها ثم الشرط قد يكون عقليا وهو معلوم وقد يكون شرعيا فهذا هو الشرط الشرعي وهو كالإحصان فإنه شرط اقتضاء الزنا لوجوب الرجم المسألة الثانية صيغة الشرط إن وإذا وهما بعد الاشتراك في كون كل واحد منهما صيغة الشرط يفترقان في أن إن تدخل على المحتمل لا على المتحقق وإذا تدخل عليهما تقول أنت طالق إذا احمر البسر وإن

دخلت الدار فالأول محقق والثاني محتمل ولا تقول أنت طالق إن احمر البسر إلا إذا لم يتيقن ذلك المسألة الثالثة في ان المشروط متى يحصل وذلك يستدعي مقدمة وهي أن الشرط على أقسام ثلاثة أحدها الذي يستحيل أن يدخل في الوجود إلا دفعة واحدة بتمامه سواء كان ذلك لأنه في نفسه واحد لا تركيب فيه أو إن كان مركبا لكن يستحيل أن يدخل شئ من أجزائه في الوجود إلا مع الاخر ثانيا ما يستحى أن يدخل بجميع اجرائه في الوجود كالكلام والحركة فإن المتكلم بلفظة يكون حينما وجد الحرف الأول منها لا يكون الثاني حاصلا وحين حصل الثاني صار الأول فانيا وثالثها ما يصح أن يدخل في الوجود تارة بمجموعه وتارة بتعاقب أجزائه

ثم نقول على هذه التقديرات الثلاثة فالشرط إما عدمها وإما وجودها فإن كان الشرط عدمها حصل الحكم في الآقسام الثلاثة في أول زمان عدمها وإن كان الشرط وجودها فنقول أما في القسم الأول فالحكم يحصل مقارنا لأول زمان وجود الشرط وأما في القسم الثاني فإنه يحصل عند حصول آخر جزء من أجزاء الشرط في الوجود لأنه ليس لذلك المجموع وجود في التحقيق بل أهل العرف يحكمون عليه بالوجود وإنما يحكمون عليه بذلك عند دخول آخر جزء من أجزائه في الوجود والحكم كان معلقا على وجوده فوجب أن يحصل الحكم في ذلك الوقت وأما في القسم الثالث فنقول وجوده حقيقة إنما يتحقق عند دخول جميع أجزائه في الوجود دفعة واحدة لكنا في القسم الثاني عدلنا عن هذه الحقيقة للضرورة وهي مفقودة في هذا القسم فوجب اعتبار الحقيقة حتى إنه إن حصل مجمو أجزائها دفعة واحدة ترتب الجزاء عليه وإلا فلا

هذا مقتضى البحث الأصولي اللهم إلا إذا قام دليل شرعي على العدول عنه المسألة الرابعة الشرطان إذا دخلا على جزاء فإن كانا شرطين على الجمع لم يحصل المشروط إلا عند حصولهما معا وهو كقوله إن دخلت الدار وكلمت زيدا فأنت طالق ولو رتب عليهما جزاءين كان كل واحد من الشرطين معتبرا في كل واحد من الجزاءين لا على التوزيع بل على سبيل الجمع وإن كانا على سبيل البدل كان كل واحد منهما وحده كافيا في الحكم كقولك إن دخلت الدار أوكلمت زيدا المسألة الخامسة الشرط الواحد إذا دخل على مشروطين فإما أن يدخل عليهما على سبيل الجمع أو على سبيل البدل فالأول كقولك إن زنيت جلدتك ونفيتك ومقتضاه حصولهما معا والثاني كقولك إن زنيت جلدتك أو نفيتك ومقتضاه أحدهما مع

أن التعيين فيه إلى القائل والله أعلم المسألة السادسة اختلفوا في أن الشرط الداخل على الجمل هل يرجع حكمه إليها بالكلية فاتفق الإمامان الشافعي وأبو حنيفة رحمة الله عليهما على رجوعه إلى الكل وذهب بعض الأدباء إلى أنه يختص بالجملة التي تليه حتى إنه إن كان متأخرا اختص بالجملة الأخيرة وإن كان متقدما اختص بالجملة الأولى والمختار التوقف كما في مسألة الاستثناء المسألة السابعة اتفقوا على وجوب اتصال الشرط بالكلام ودليله ما مر في الاستثناء واتفقوا على أنه يحسن التقييد بشرط أن يكون الخارج أكثر من الباقي وإن اختلفوا فيه في الاستثناء

المسألة الثامنة لا نزاع في جواز تقديم الشرط وتأخيره إنما النزاع في الأولى ويشبه أن يكون الأولى هو التقديم خلافا للقراء لنا أن الشرط متقدم في الرتبة على الجزاء لأنه شرط تأثير المؤثر فيه وما يستحق التقديم طبعا يستحق التقديم وضعا والله أعلم

الباب الثالث في التخصيص بالغاية والصفة

روى الباب الثالث في تخصيص العام بالغاية والصفة وفيه فصلان الفصل الأول في تقييد العام بالغاية وفيه أبحاث البحث الأول أن غاية الشئ نهايته وطرفه ومقطعه الثاني ألفاظها وهي حتى وإلى كقوله تعالى ولا تقربوهن

حتى يطهرن وقوله وأيديكم إلى المرافق الثالث التقييد بالغاية يقتضي أن يكون الحكم فيما وراء الغاية بخلاف الحكم فيما قبلها لأن الحكم لو بقي فيما وراء الغاية لم يكن العام منقطعا فلم تكن الغاية غاية والأولى أن يقال الغاية إما أن تكون منفصلة عن ذي الغاية بمفصل معلوم كما في قوله تعالى ثم أتموا الصيام إلى الليل أو لا تكون كذلك كقوله تعالى فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق فإن المرفق غير منفصل عن اليد بمفصل محسوس أما القسم الأول فيجب أن يكون حكم ما بعد الغاية بخلاف حكم ما قبله لأن انفصال أحدهما عن الآخر معلوم بالحس

وأما الثاني فلا يجب أن يكون حكم ما بعده بخلاف ما قبله لأنه لما لم يكن المرفق منفصلا عن اليد بمفصل معلوم معين لم يكن تعيين بعض المفاصل لذلك أولى من بعض فوجب من ها هنا دخول ما بعده فيما قبله الرابع يجوز اجتماع الغايتين كما لو قيل لا تقربوهن حتى يطهرن وحتى يغتسلن فها هنا الغاية في الحقيقة هي الأخيرة وعبر عن الأول به لقربه منها واتصاله بها

الفصل الثاني في تقييد العام بالصفة والصفة إما أن تكون مذكورة عقيب شئ واحد كقولنا رقبة مؤمنه ولا شك في عودها إليه أو عقيب شيئين وها هنا إما أن يكون أحدهما متعلقا بالآخر كقولك أكرم العرب والعجم المؤمنين فها هنا الصفة تكون عائدة إليهما وأما إن لا تكون كذلك كقولك أكرم العلماء وجالس الفقهاء الزهاد فها هنا الصفة عائدة بين إلى الجملة الأخيرة وأن كان للبحث فيه مجال كما في الاستثناء والشرط والله أعلم

القول في التخصيص بالأدلة المنفصلة

القول في تخصيص العام بالأدلة المنفصلة فنقول تخصيص العام إما أن يكون بالعقل أو بالحس أو بالدلائل السمعية وهو على وجهين تخصيص المقطوع بالمقطوع وتخصيص المقطوع بالمظنون فلنعقد أهل في كل واحد فصلا

الفصل الأول في التخصيص بالعقل

الفصل الأول في تخصيص العموم بالعقل هذا قد يكون بضرورة العقل كقوله تعالى الله خالق كل شئ فإنا نعلم بالضرورة أنه ليس خالقا لنفسه وبنظر العقل كقوله تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا فإنا نخصص الصبي والمجنون لعدم الفهم في حقهما ومنهم من نازع في تخصيص العموم بدليل العقل والأشبه عندي أنه لا خلاف في المعنى بل في اللفظ أما أنه لا خلاف في المعنى فلأن اللفظ لما دل على ثبوت الحكم في جميع الصور والعقل منع من ثبوته في بعض الصور فإما أن نحكم بصحة مقتضى العقل والنقل فيلزم صدق النقيضين وهو محال أو نرجح النقل على العقل وهو محال لأن العقل أصل النقل

فالقدح في العقل قدح في أصل النقل والقدح في الأصل لتصحيح الفرع يوجب القدح فيهما معا وأما أن نرجح حكم العقل على مقتضى العمو وهذا هو مرادنا من تخصيص العموم بالعقل وأما البحث اللفظي فهو أن العقل هل يسمى مخصصا أم لا فنقول إن أردنا بالمخصص الأمر الذي يؤثر في اختصاص اللفظ العام ببعض مسمياته فالعقل غير مخصص لأن المقتضي لذلك الاختصاص هو الإرادة القائمة بالمتكلم والعقل يكون دليلا على تحقق تلك الإرادة فالعقل يكون دليل المخصص لا نفس المخصص ولكن على هذا التفسير وجب أن لا يكون الكتاب مخصصا للكتاب ولا السنة للسنة لأن المؤثر في ذلك التخصيص هو الإرادة لا تلك الآلفاظ فإن قيل لو جاز التخصيص بالعقل فهل يجوز النسخ به قلنا نعم لأن من سقطت رجلاه سقط عنه فرض غسل الرجلين وذلك إنما عرف بالعقل

الفصل الثاني في التخصيص بالحس

الفصل الثاني في التخصيص بالحس وهو كما في قوله تعالى وأوتيت من كل شئ فإنه لم يكن شئ من السماء والعرش والكرسي في يدها

الفصل الثالث في تخصيص المقطوع بالمقطوع

الفصل الثالث في تخصيص المقطوع بالمقطوع وفيه مسائل المسألة الأولى في تخصيص الكتاب بالكتاب وهو جائز خلافا لبعض أهل الظاهر لنا إن وقوعه دليل جوازه لأن قوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء مع قوله تعالى وأولات الآحمال حديث أجلهن أن يضعن حملهن وكذلك قوله تعالى ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن مع قوله تعالى والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب لا يخلو إما ان نجمع بين دلالة العام على عمومه والخاص على خصوصه وذلك محال وإما أن نرجح أحدهما على الآخر وحينئذ زوال الزائل إن كان على سبيل التخصيص فقد حصل الغرض

وإن كان بالنسخ فقد حصل الغرض أيضالآن كل من جوز نسخ الكتاب بالكتاب جوز تخصيصه به أيضا احتجوا بقوله تعالى لتبين للناس ما نزل إليهم فوض البيان إلى الرسول عليه الصلاة والسلا فوجب أن لا يحصل البيان إلا بقوله والجواب أنه معارض بقوله تعالى ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ ولأن تلاوة النبي ص آية التخصيص بيان منه له والله أعلم المسألة الثانية في تخصيص السنة المتواترة بالسنة المتواترة وهو جائز أيضا لأن العام والخاص مهما اجتمعا فإما أن يعمل بمقتضاهما أو يترك العمل بهما أو يرجح العام على الخاص وهذه الثلاثة باطلة بالإجماع فلم يبق إلا تقديم الخاص على العام المسألة الثالثة تخصيص الكتاب بالسنة المتواترة قولا كان أو فعلا جائز للدليل الذي مر وأيضا قد وقع ذلك أما بالقول فلأنهم خصصوا عموم قوله تعالى يوصيكم الله في

أولادكم بقوله ص القاتل لا يرث وقوله ص لا يتوارث أهل ملتين

وأما بالفعل عند فلأنهم خصصوا قوله تعالى الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة بما تواتر عنه ص من رجم المحصن وأيضا تخصيص السنة المتواترة بالكتاب جائز

وعن بعض فقهائنا إنه لا يجوز ودليله التقسيم الذي مر المسألة الرابعة في تخصيص الكتاب والسنة المتواترة بالإجماع وهو جائز لأنه واقع فإنهم خصصوا آية الإرث بالإجماع على أن العبد لا يرث وخصصوا آية الجلد بالإجماع على أن العبد كالأمة في تنصيف الحد وأما تخصيص الإجماع بالكتاب والسنة المتواترة ف إنه غير جائز للإجماع ولأن إجماعهم على الحكم العام مع سبق المخصص خطأ والإجماع على الخطأ لا يجوز المسألة الخامسة في أن تخصيص الكتاب والسنة المتواترة بفعل الرسول ص هل هو جائز أم لا والتحقيق فيه أن اللفظ العام إما أن يكون متناولا للرسول ص أو لا يكون متناولا له فإن كان متناولا له كان ذلك الفعل مخصصا لذلك العموم في حقه وهل يكون مخصصا للعموم في حق غيره فنقول

إن دل دليل على أن حكم غيره كحكمه في الكل مطلقا أو في الكل إلا مخصه الدليل أو في تلك الواقعة كان ذلك تخصيصا في حق غيره ولكن المخصص للعموم لا يكون ذلك الفعل وحده بل الفعل مع ذلك الدليل وإن لم يكن كذلك لم يجز تخصيص ذلك العام في حق غيره وأما إن كان اللفظ العام غير متناول للرسول عليه السلام بل للأمة فقط فإن قام الدليل على أن حكم الأمة مثل حكم النبي ص صار العام مخصوصا بمجموع فعل الرسول عليه السلام مع ذلك الدليل وإلا فلا واحتج من منع هذا التخصيص مطلقا بأن المخصص للعام هو الدليل الذي دل على وجوب متابعته وهو قولتعالى فاتبعوه وذلك اعم من العام الذي يدل على بعض الأشياء فقط فالتخصيص بالفعل يكون تقديما للعام على الخاص وهو غير جائز والجواب أن المخصص ليس مجرد قوله تعالى فاتبعوه بل هو مع ذلك الفعل ومجموعهما أخص من العام الذي ندعي تخصيصه بالفعل المسألة السادسة من فعل ما يخالف مقتضى العموم بحضر الرسول ص فلم ينكره

عليه فعدم الإنكار من الرسول ص قاطع في تخصيص العام في حق ذلك الفاعل أما في حق غيره فإن ثبت أن حكمه ص في الواحد حكمه في الكل كان ذلك التقرير تخصيصا في حق الكل وإلا فلا والله أعلم

الفصل الرابع في تخصيص المقطوع بالمظنون

الفصل الرابع في تخصيص المقطوع بالمظنون وفيه مسائل المسألة الأولى يجوز تخصيص الكتاب بخبر الواحد عندنا وهو قول الشافعي وأبي حنيفة ومالك رحمهم الله وقال قوم لا يجوز أصلا وقال عيسى بن أبان إن كان قد خص قبل ذلك بدليل مقطوع به جاز وإلا فلا وقال الكرخي إن كان قد خص بدليل منفصل صار مجازا فيجوز ذلك وإن خص بدليل متصل أو لم يخص أصلا لم يجز وأما القاضي أبو بكر رحمه الله إنه اختار التوقف

لنا أن العموم وخبر الواحد دليلان متعارضان وخبر الواحد أخص من العموم فوجب تقديمه على العموم إنما قلنا إنهما دليلان لأن العموم دليل بالاتفاق وأما خبر الواحد فهو ايضا دليل لأن العمل به يتضمن دفع ضرر مظنون فكان العمل به واجبا فكان دليلا وإذا ثبت ذلك وجب تقديمه على العموم لأن تقديم العموم عليه يفضي إلى إلغائه بالكلية أما تقديمه على العموم فلا يفضي إلى إلغاء العموم بالكلية فكان ذلك أولى كما في سائر المخصصات وأما جمهور الآصحاب فقالوا أجمعت الصحابة على تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد وبينوه بخمس صور إحداها أنهم خصصوا قوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم بما رواه الصديق رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال نحن معاشر الأنبياء لا نورث

وثانيها خصصوا عموم قوله تعالى فإن كن نساء فوق لأنه اثنتين فلهن ثلثا ما ترك بخبر محمد بن مسلمة والمغيرة بن شعبة أنه ص جعل للجدة السدس لأن المتوفاة إذا خلفت زوجا وبنتين وجدة فللزوج الربع

ثلاثة وللبنين الثلثان ثمانية وللجدة السدس اثنان عالت المسألة إلى ثلاثة عشر وثمانية من ثلاثة عشر أقل من ثلثي التركة وثالثها أنهم خصصوا قوله تعالى وأحل الله البيع بخبر أبي سعيد في المنع من المنع من بيع الدرهم بالدرهمين

ورابعها خصصوا قوله تعالى اقتلوا المشركين بخبر عبد الرحمن بن عوف في المجوس سنوا بهم سنة أهل الكتاب وخامسها خصصوا قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم بخبر أبي هريرة في المنع من نكاح المرأة على عمتها وخالتها وبنت أخيها وبنت أختها

ولقائل أن يقول هل أجمعت الصحابة على تخصيص هذه العمومات في هذه الصور أو ما أجمعت فإن قلتم ما أجمعوا فقد سقط دليلكم وإن قلتم أجمعوا فلم لا يجوز أن يقال المخصص لهذه العمومات ذلك الإجماع فان قلت لا بد لذلك الإجماع من مستند هو هذه الأخبار إذ رب إجماع خفي مستنده لاستغنائهم بالإجماع عنه

سلمنا أن ذلك المستند هو هذه الأخبار لكن لعل هذه الأخبار كانت متواترة عندهم ثم صارت آحادا عندنا واحتج المانعون بالإجماع والخبر والمعقول أما الإجماع فهو أن عمر رضي الله عن رد خبر فاطمة بنت قيس وقال لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها نسيت أو كذبت وأما الخبر فما روي أنه ص قال إذا روي عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فاقبلوه وإن خالفه فردوه والخبر الذي يخصص

الكتاب على مخالفة الكتاب فوجب رده وأما المعقول فوجهان الأول أن الكتاب مقطوع به وخبر الواحد مظنون والمقطوع أولى من المظنون والثاني ان النسخ تخصيص في الأزمان والتخصيص تخصيص في الأعيان فنقول لو جاز التخصيص بخبر الواحد في الأعيان لكان لأجل أن تخصيص العام أولى من إلغاء الخاص وهذا المعنى قائم في النسخ فكان يلزم جواز النسخ بخبر الواحد ولما لم يجز ذلك علمنا أن ذلك أيضا غير جائز والجواب عن الأول أنا لا ندعي تخصيص العموم بكل ما جاء من أخبار الآحاد حتى يكون ذلك علينا وإنما نجوزه بالخبر الذي لا يكون راويه متهما بالكذب والنسيان وهذا الشرط ما كان حاصلا هنا لأن عمر رضي الله عنه قدح في روايتها بذلك فلم يكن قادحا في غرضنا بل هو بأن يكون حجة لنا أولى وذلك لأن عمر رضي الله عنه بين أن روايتها إنما صارت مردودة لكون الراوي غير مأمون من الكذب والنسيان ولو كان خبر الواحد المقتضي لتخصيص

الكتاب مردودا كيف ماكان لما كان لذلك التعليل وجه وعن الثاني أن ما ذكرتموه يقتضي أن لا يجوز تخصيص الكتاب بالسنة المتواترة فإن قلتم إن ما يقتضي تخصيص الكتاب لا يكون على خلافه قلنا في مسألتنا ذلك بعينه وعن الثالث أن البراءة الأصلية يقينية ثم إنا نتركها بخبر الواحد فبطل قولكم إن المقطوع لا يترك بالمظنون ثم نقول لا نسلم حصول التفاوت وبيانه من وجهين الأول أن الكتاب مقطوع في متنه مظنون في دلالته والخبر مظنون في دلالته فلم قلتم إنه حصل التفاوت بينهما على هذا التقدير الثاني أن الدليل القاطع لما دل على وجوب العمل بالخبر المظنون لم يكن وجوب العمل مظنونا لأن تقدير ذلك أن الله تعالى قال مهما حصل في قلبكم ظن صدق الراوي فاقطعوا أن حكمي ذلك فإذا وجدنا ذلك الظن واستدللنا به على الحكم كنا قاطعين بالحكم وإذا كان كذلك فلم قلتم إن التفاوت حاصل على هذا التقدير وعن الرابع أن الأصوليين اعتمدوا في الجواب على حرف واحد وهو أن العقل ليس يأبى ذلك وإنما فصلنا بينهما لإجماع الصحابة على الفصل بينهما فقبلوا خبر الواحد في التخصيص وردوه في النسخ

وهذا الجواب ضعيف لأنا بينا أن الذي عولوا عليه في أنهم قبلوا خبر الواحد في التخصيص ضعيف وإذا ثبت ذلك فنقول ثبت بما ذكرنا أن القياس يقتضي أنه لو قبل خبر الواحد في التخصيص لوجب قبوله في النسخ وثبت بالاتفاق أنهم ما قبلوه في النسخ فوجب أن يقال أنهم ما قبلوه في التخصيص أيضا ضروة العمل بالدليل والجواب الصحيح لا يحصل إلا بذكر الفرق بينهما وهو أن التخصيص أهون من النسخ ولا يلزم من تأثير الشئ في الأضعف تأثيره في الآقوى أخبرنا والله أعلم تنبيه فأما قول عيسى بن أبان والكرخي فمبنيان على حرف واحد وهو أن العام المخصوص عند عيسى مجاز والعام المخصوص بالدليل المنفصل مجاز عند الكرخي وإذا صار مجازا صارت دلالته مظنونة ومتنه مقطوعا وخبر الواحد متنه مظنو ودلالته مقطوعة فيحصل التعادل فأما قبل ذلك فإنه حقيقة في العموم فيكون قاطعا في متنه وفي دلالته فلا يجوز أن يرجح عليه المظنون فهذا هو مأخذهم والكلام عليه هو ما تقدم والله أعلم

المسألة الثانية يجوز تخصيص عموم الكتاب والسنة المتواترة بالقياس وهو قول الشافعي وأبي حنيفة ومالك وأبي الحسين البصري والأشعري وأبي هاشم أخيرا ومنهم من منع منه مطلقا وهو قول الجبائي وأبي هاشم أولا ومنهم من فصل ثم ذكروا فيه وجوها أربعة الأول قول عيسى بن أبان أن تطرق التخصيص إلى العموم جاز وإلا فلا والثاني قول الكرخي وهو أنه إن خص بدليل منفصل جاز وإلا فلا والثالث قول كثير من فقهائنا ومنهم ابن سريج يجوز بالقياس الجلي دون الخفي ثم اختلفوا في تفسير الجلي والخفي على ثلاثة أوجه أحدها أن الجلي هو قياس المعنى والخفي هو قياس الشبه وثانيها أن الجلي هو مثل قوله ص لا يقضي القاضي وهو غضبان وتعليل ذلك بما يدهش العقل عن إتمام

الفكر حتى يتعدى إلى الجائع والحاقن وثالثها قول أبي سعيد الاصطخري وهو أن الجلي هو الذي إذا قضى القاضي بخلافة ينتقض قضاؤه والرابع قول الغزالي رحمه الله وهو أن العام والقياس إن تفاوتا في إفادة الظن رجحنا الأقوى وإن تعادلا توقفنا وأما القاضي أبي بكر وأمام الحرمين فقد ذهبا إلى الوقف قال إمام الحرمين والقول بالوقف يشارك القول بالتخصيص من وجه ويباينه من وجه أما المشاركة فلأن المطلوب من تخصيص العام بالقياس إسقاط الاحتجاج بالعام والوقف يشاركه فيه

وأما المباينة فهي أن القائل بالتخصيص يحكم بمقتضى القياس والواقف لا يحكم به تنبيه نسبة قياس الكتاب إلى عموم الكتاب كنسبة قياس الخبر المتواتر إلى عموم الخبر المتواتر وكنسبة قياس خبر الواحد إلى عموم خبر الواحد والخلاف جار في الكل وكذا القول في قياس الخبر المتواتر بالنسبة إلى عموم الكتاب وبالعكس أما قياس خبر الواحد إذا عارضه عموم الكتاب أو السنة المتواترة وجب أن يكون تجويزه أبعد لنا أن العموم والقياس دليلان متعارضان والقياس خاص فوجب تقديمه أما ان العموم دليل فبالاتفاق وأما أن القياس دليل فلأن العمل به دفع ضرر مظنون فكان العمل به واجبا وسيأتي تقرير هذه الدلالة في باب القياس إن شاء الله تعالى وإذا ثبت ذلك فالتقرير ما تقدم في المسألة الأولى واحتج المانعون بأمور

أحدها أن الحكم المدلول عليه بالعموم معلوم والحكم المدلول عليه بالقياس مظنون والمعلوم راجح على المظنون وثانيها أن القياس فرع النص فلو خصصنا العموم بالقياس لقدمنا الفرع على الأصل وإنه غير جائز وثالثها أن حديث معاذ دل

على أنه لا يجوز الاجتهاد إلا بعد فقد ذلك الحكم في الكتاب والسنة وذلك يمنع من تخصيص النص بالقياس ورابعها أن الأمة مجمعة على أن من شرط القياس أن لا يرده النص وإذا كان العموم مخالفا له فقد رده

وخامسها أنه لو جاز التخصيص بالقياس لجاز النسخ به وقد تقدم تقريره والجواب عن الأول ما تقدم وعن الثاني أن القياس المخصص للنص يكون فرعا لنص آخر وحينئذ يزول السؤال فإن قلت لما كان القياس فرعا لنص آخر فك مقدمة لا بد منها في دلالة النص على الحكم كانت معتبرة في الجانبين وأما المقدمات التي لا بد منها في دلالة القياس فهي مختصة بجانب القياس فقط فإذن إثبات الحكم بالقياس يتوقف على مقدما أكثر وبالعموم على مقدمات أقل فكان إثبات الحكم بالعموم أظهر من إثباته بالقياس والأقوى لا يصير مرجوحا بالأضعف قلت قد تكون دلالة بعض العمومات على مدلوله أقوى وأقل مقدمات من دلالة عموم آخر على مدلوله وعند هذا يظهر الحق ما قاله الغزالي رحمه الله وهو أن دلالة العموم المخصوص على مدلوله إذا افتقرت إلى مقدمات كثيرة ودلالة

العموم الذي هو أصل القياس إذا افتقرت إلى مقدمات قليلة بحيث تكون تلك المقدمات المعتبرة في القياس معادلة لمقدمات قليلة بحيث تكون تلك المقدمات مع المقدمات المعتبرة في القياس معادلة لمقدمات العموم المخصوص أو أقل جاز وحينئذ لا يتوجه ما قالوه وعن الثالث أن حديث معاذ إن اقتضى إنه لا يجوز تخصيص الكتاب والسنة بالقياس فليقتض أن لا يجوز تخصيص الكتاب بالسنة المتواترة ولا شك في فساد ذلك وعن الرابع أن نقول مالذي تريد بقولك شرط القياس أن لا يدفعه النص إن أردتم أن شرطه أن لا يكون رافعا لكل ما اقتضاه النص فحق وإن أردتم أن لا يكون رافعا لشئ مما اقتضاه النص فهو عين المتنازع وعن الخامس ما تقدم في المسألة الأولى المسألة الثالثة إذا قلنا المفهوم حجة فلا شك أن دلالته أضعف من دلالة المنطوق فهل يجوز تخصيص العام به

مثاله إذا ورد عام في إيجاب الزكاة في الغنم ثم قال الشارع في سائمة الغنم زكافهذا مفهومه يقتضي تخصيص ذلك العام ولقائل أن يقول إنما رجحنا الخاص على العام لأن دلالة الخاص على ما تحته أقوى من دلالة العام على ذلك الخاص والأقوى راجح وأما ها هنا فلا نسلم أن دلالة المفهوم على مدلوله أقوى من دلالة العام على ذلك الخاص بل الظاهر أنه أضعف وإذا كان كذلك كان تخصيص العام بالمفهوم ترجيحا للأضعف على الأقوى وأنه لا يجوز والله أعلم

القول في بناء العام على الخاص

القول في بناء العام على الخاص روي عن رسول الله ص خبران خاص وعام وهما كالمتنافيين فإما أن نعلم تاريخهما أو لا نعلم فإن علمنا التاريخ فإما أن نعلم مقارنتهما أو نعلم تراخي أحدهما عن الآخر فإن علمنا مقارنتهما نحو أن يقول في الخيل زكاة ويقول عقيبه ليس في الذكور من الخيل زكاة فالواجب أن يكون الخاص مخصصا للعام ومنهم من قال بل ذلك القدر من العام يصير معارضا للخاص لنا وجوه الأول أن الخاص أقوى دلالة على ما يتناوله من العام والأقوى راجح فالخاص راجج بيان الأول أن العام يجوز إطلاقه من غير أرادة ذلك الخاص أما

ذلك الخاص فلا يجوز إطلاقه من غير أرادة ذلك الخاص فثبت أنه أقوى الثاني أن السيد إذا قال لعبده اشتر كل ما في السوق من اللحم ثم قال عقيبه لا تشتر لحم البقر فهم منه إخراج لحم البقر من كلامه الأول الثالث إن إجراء العام على عمومه إلغاء للخاص واعتبار الخاص لا يوجب إلغاء واحد منهما فكان ذلك أولى فإن قلت هلا حملتم قوله في الخيل زكاة على التطوع وقوله لا زكاة في الذكور من الخيل على نفي الوجوب وهذا وإن كان مجازا لكن التخصيص أيضا مجاز فلم كان مجازكم أولى من مجازنا لو قلت إنا نفرض الكلام فيما إذا قال أوجبت الزكاة في الخيل ثم قال لاأوجبها في الذكور من الخيل ولأن قوله في الخيل زكاة يقتضي وجوبها في الإناث والذكور فلو حملناه على التطوع لكنا قد عدلنا باللفظ عن ظاهره في الإناث لدليل لا يتناول الإناث وليس كذلك إذا أخرجنا الذكور في قوله في الخيل زكاة لأنا نكون قد أخرجنا من العام شيئا لدليل يتناوله واقتضى إخراجه

أما إذا علمنا تأخير الخاص عن العام فإن ورد الخاص قبل حضور وقت العمل بالعام كان ذلك بيانا للتخصيص ويجوز ذلك عند من يجوز تأخير بيان العام ولا يجوز عند المانعين منه وإن ورد الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام كان ذلك نسخا وبيانا لمراد المتكلم فيما بعد دون ما قبل لأن البيان لا يتأخر عن وقت الحاجة أما إن كان العام متأخرا عن الخاص فعند الشافعي وأبي الحسين البصري أن العام يبتى يكوعلى الخاص وهو المختار وعند أبي حنيفة والقاضي عبد الجبار بن احمد أن العام المتأخر ينسخ الخاص المتقدم وتوقف ابن القاص فيه

لنا وجوه الأول الخاص أقوى دلالة على ما يتناوله من العام والأقوى راجح فالخاص راجح الثاني إن إجراء العام على عمومه يوجب إلغاء الخاص واعتبار الخاص لا يوجب إلغاء واحد منهما فكان أولى واحتج أبو حنيفة وأصحابه رحمهم الله بأمور أحدها ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال كنا نأخذ بالأحدث فالأحدث

فإذا كان العام متأخرا كان أحدث فوجب الأخذ به وثانيها لفظان تعارضا وعلم التاريخ بينهما فوجب تسليط الأخير على السابق كما لو كان الأخير خاصا واحترزنا بقولنا لفظان عن العام الذي يخصه العقل فإنا هناك سلطنا المتقدم وثالثها أن اللفظ العام في تناوله لآحاد ما دخل تحته يجري مجرى ألفاظ خاصة كل واحد منها يتناول واحدا فقط من تلك الآحاد لأن قوله تعالى اقتلوا المشركين قائم مقام قوله اقتلوا زيدا المشرك اقتلوا عمرا أقتلوا خالدا ولو قال ذلك بعد ما قال لا تقتلوا زيدا كان الثاني ناسخا واحتج ابن القاص على التوقف بأن هذين الخطابين كل واحد منهما أعم من الآخر من وجه وأخص من

وجه آخر لأنه إذا قال لا تقلوا اليهود ثم قال بعده اقتلوا المشركين فقوله لا تقتلوا اليهود أخص من قوله اقتلوا المشركين من حيث إن اليهودي أخص من المشرك وأعم منه من حيث إنه دخل في المتقدم من الأوقات ما لم يدخل في المتأخر وهو ما بين زمان ورود المتقدم والمتأخر فظهر أن الخاص المتقدم أعم في الأزمان وأخص في الأعيان والعام المتأخر بالعكس فكل واحد منهما أعم من الآخر من وجه وأخص من وجه آخر وإذا ثبت ذلك وجب التوقف والرجوع إلى الترجيح كما في كل خطابين هذا شأنهما والجواب عن الأول أن هذا قول الصحابي فيكون ضعيف الدلالة فنخصه بما إذا كان الأحدث هو الخاص

وعن الثاني أن الفرق ما ذكرنا من أن الخاص أقوى من العام فوجب تقديمه عليه ولأنا لو لم نسلط الخاص المتأخر على العام المتقدم لزم إلغاء الخاص أما لو لم نسلط العام المتأخر على الخاص المتقدم فلا يلزم ذلك فظهر الفرق وعن الثالث أنه إذا كان اللفظ عاما احتمل التخصيص وليس كذلك إذا كان خاصا ولهذا لو كان قوله لا تقتلوا اليهود مقارنا لقوله اقتلوا المشركين لخصه ولو قارن المفصل لناقضه ولم يخصه لأن الخاص لا يحتمل التخصيص وأما الذي تمسك به ابن القاص فهو ضعيف لأنه فرض الخاص المتقدم نهيا فلا جرم عم الأزمان وفرض العام المتأخر أمرا فلا جرم لم يعم الآزمان فصح له ما ادعاه من كون الخاص أعم من العام من هذا الوجه أما لو فرضنا الخاص المتقدم أمرا والعام المتأخر نهيا فإنه لا يستقيم

كلامه لأن الخاص المتقدم لا شك أنه خاص في الأعيان وهو أيضا خاص في الأزمان لا الأمر لا يفيد التكرار أما العام المتأخر فإذا فرضناه نهيا كان أعم من المتقدم في الأعيان بالاتفاق وفي الأزمان أيضا لأن الأمر لا يتناول كل الأزمان بل يتناول زمانا واحدا فها هنا المتأخر أعم من المتقدم من كل الوجوه فبطل ما قالوه والله أعلم أما إذا لم يعرف التاريخ بينهما فعند الشافعي رضي الله عنه أن الخاص منهما يخص العام وعند أبي حنيفة رضي الله عنه يتوقف فيهما ويرجع إلى غيرهما أو إلى ما يرجح أحدهما على الآخر وهذا سديد على أصله لأن الخاص دائر بين أن يكون منسوخا وبين أن يكون مخصصا وناسخا مقبولا وناسخا مردودا وعند حصول التردد يجب التوقف واعتمد أصحابنا فيه على وجهين أحدهما أنه ليس للخاص مع العام إلا أن يقارنه أو يتقدمه أو يتأخر عنه

وقد ثبت تخصيص العام بالخاص عندنا على التقديرات الثلاثة فعند الجهل بالتاريخ يكون الحكم أيضا كذلك وهذا ضعيف لأن الخاص المتأخر عن العام إن ورد قبل حضور وقت العمل بالعام كان تخصيصا وإن ورد بعده كان نسخا وعلى هذا نقول إن كان العام والخاص مقطوعين أو مظنونين أو العام مظنونا والخاص مقطوعا وجب ترجح الخاص على العام لأن الخاص دائر بين أن يكون ناسخا أو مخصصا وعلى التقدير ين فالخاص مقدم في هذه الصورة أما إذا كان العام مقطوعا به والخاص مظنونا فبتقدير أن يكون الخاص مخصصا وجب العمل به لأن تخصيص الكتاب بخبر الواحد جائز لكن بتقدير أن يكون ناسخا لم يجب العمل به لأن نسخ الكتاب بخبر الواحد لا يجوز فالحاصل أن الخاص دائر بين أن يكون مخصصا وبين أن يكون ناسخا مقبولا وبين أن يكون ناسخا مردودا

وإذا كان كذلك لم يجب تقديم الخاص على العام مطلقا الثاني أن العموم بالقياس مطلقا فلأن يخص بخبر الواحد أولى وهو ضعيف لأن القياس يقتضي أصلا يقاس عليه فذلك الأصل إن كان متقدما على العام لم يجز القياس عليه عندنا وكذا القول إذا لم يعرف تقدمه وتأخره لا يجوز القياس عليه والمعتمد أن فقهاء الأمصار في هذه الأعصار يخصصون أعم الخبرين بأخصهما مع فقد علمهم بالتاريخ فإن قلت إن ابن عمر رضي الله عنهما لم يخص قوله تعالى وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم بقوله ص لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان

وعنه أيضا لما سئل عن نكاح النصرانية حرمه محتجا بقوله تعالى ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن وجعل هذا العام رافعا لقوله تعالى والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب مع خصوصه

قلت ادعينا إجماع أهل هذه الأعصار ويحتمل أن يكون ابن عمر امتنع من ذلك الدليل تنبيه إن الحنفية لما اعتقدوا أن الواجب في مثل هذا العام والخاص إما التوقف وإما الترجيح ذكر عيسى بن أبان ثلاثة أوجه في الترجيح أحدها اتفاق الآمة على العمل بأحدها وثانيها عمل أكثر الأمة بأحد الخبرين وعيبهم على من لم يعمل به كعملهم

بخبر أبي سعيد وعيبهم علي ابن عباس حين نفى الربا في النقدين

وثالثها أن تكون الرواية لأحدهما أشهر وزاد أبو عبد الله البصري وجهين آخرين أحدهما أن يتضمن أحد الخبرين حكما شرعيا وثانيهما أن يكون أحد الخبرين بيانا للآخر بالاتفاق كاتفاقهم على أن قوله ص لاقطع إلا في ثمن المجن بيان لآية السرقة

قال أبو الحسين البصري رحمه الله هذه الأمور أمارة لتأخر أحد

الخبرين لأن الخبر لو كان متقدما منسوخا لما اتفقت الأمة على استعماله ولا عابوا من ترك استعماله ولما كان نقله أشهر ولما أجمعوا على كونه بيانا لناسخه وكون الحكم غير شرعي يقتضي كون الخبر الذي تضمنه مصاحبا للعقل وأن الخبر المتضمن للحكم الشرعي متأخر وهذا الوجه ضعيف والله أعلم

القول فيما ظن أنه ليس كذلك

القول فيما ظن أنه من مخصصات العموم مع أنه ليس كذلك وفيه مسائل المسألة الأولى الخطاب الذي يرد جوابا عن سؤال سائل إما أن لا يكون مستقلا بنفسه أو يكون والأول على قسمين لأن عدم استقلاله إما أن يكون لأمر يرجع إليه كقوله ص وقد سئل عن بيع الرطب بالتمر أينقص أذا جف قالوا نعم قال فلا إذن

وإما أن يكون لأمر يرجع إلى العادة كقوله والله لا آكل في جواب من يقول كل عندي لأن هذا الجواب مستقل بنفسه غير أن العرف اقتضى عدم استقلاله حتى صار مفتقرا إلى السبب الذي خرج عليه والقسم الثاني على ثلاثة أنواع لآن الجواب إما أن يكون أخص أو مساويا أو أعم والأعم إما ان يكون أعم مما سئل عنه كقوله ص لما سئل عن بئربضاعة الماء طهور لا ينجسه شئ

أو يكون أعم في غير ما سئل عنه كقوله ص وقد سئل عن ماء البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته

إذا عرفت هذه الأقسام فنقول أما الجواب الذي لا يستقل بنفسه فإنه يفيد مع سببه فيكون السبب موجودا في كلام المجيب تقديرا وإلا لم يفد ولو أن المتكلم أتى بالسبب في كلامه فقال والله لا آكل عندك لكان اليمين مقصورا على الأكل عنده وأما الجواب المستقل المساوي فلا إشكال فيه وأما الأخص فهو جائز بثلاث شرائط أحدها أن يكون فيما خرج عن الجواب تنبيه على ما لم يخرج منه وثانيها أن يكون السائل من أهل الاجتهاد وثالثها أن لا تفوت المصلحة باشتغال السائل بالاجتهاد وبدون هذه الشرائط لا يجوزو أما إذا كان الجواب أعم في غير ما سئل مع عنه فلا شبهة في أنه يجري على عمومه

أما إذا كان الجواب أعم مما سئل عنه فالحق أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب خلافا للمزني وأبو ثور فإنهما زعما أن خصوص السبب يكون مخصصا لعموم اللفظ قال إمام الحرمين وهو الذي صح عن الشافعي رضي الله عنه لنا وجهان الأول أن المقتضى للعموم قائم وهو اللفظ الموضوع للعموم والمعارض الموجود وهو خصوص السبب لا يصلح معارضا لأنه لا منافاة بين عموم اللفظ وخصوص السبب فإن الشارع لو صرح وقال يجب عليكم أن تحملوا اللفظ العام على عمومه عمومه وأن لا تخصصوه سعيد بخصوص سببه كان ذلك جائزا والعلم بجوازه ضروري الثاني أن الأمة مجمعة على أن آية اللعان والظهار والسرقة وغيرها إنما نزلت في أقوام معينين مع أن الأمة عمموا حكمها ولم يقل أحد أن ذلك التعميم خلاف الأصل واحتج المخالف بأن المراد من ذلك الخطاب إما بيان ما وقع السؤال عنه أو غيره

فإن كان الأول وجب أن لا يزاد عليه وذلك يقتضي أن يتخصص بتخصص السبب وإن كان الثاني وجب أن لا يتأخر ذلك البيان عن تلك الواقعة والجواب أن ما ذكروه يقتضي أن يكون ذلك الحكم مقصورا على ذلك السائل وفي ذلك الزمان والمكان والهيئة وأيضا فلم لا يجوز أن يكون ذلك السؤال الخاص اقتضى ذلك البيان العام لا بد على امتناعه من دليل والله أعلم تنبيه هذا العام وإن كان حجة في موضع السؤال وفي غيره إلا أن دلالته على موضع السؤال أقوى منها على غير ذلك الموضع وهذا يصلح أن يكون من المرجحات والله أعلم المسألة الثانية الحق إنه لا يجوز تخصيص العموم بمذهب الراوي وهو قول الشافعي

رضي الله عنه لأنه قال إن كان الراوي حمل الخبر على أحد محمليه صرت إلى قوله وإن ترك الظاهر لم أصر إلى قوله خلافا لعيسى بن أبان ومثاله خبر أبي هريرة في أن الإناء يغسل من ولوغ الكلب سبعا فإنه خص ذلك بمذهب أبي هريرة في أنه يغسل ثلاثا ومنهم من فصل فقال إن وجد خبر يقتضي تخصيصه أو وجد في الأصول ما يقتضي ذلك لم يخص الخبر بمذهبه وإلا خص بمذهبه لنا أن مخالفة الراوي تحتمل أقساما ثلاثة طرفين وواسطة

أما طرف الإفراط فهو أن يقال الراوي عالم بالضرورة أنه ص أراد بذلك العام الخاص إما لخبر آخر قاط يقتضي ذلك أو لشئ من قرائن الأحوال وهذا الاحتمال يعارضه أنه لو كان كذلك لوجب على الراوي أن يبين ذلك إزالة للتهمة عن نفسه وللشبهة وأما طرف التفريط فهو أن يقال إنه ترك العموم بمجرد الهوى وهو معارض بما أن الظاهر من عدالته خلافه وأما الوسط فهو أنه خالفه بدليل ظنه أقوى منه إما محتكل قد أو قياس وذلك الظن يحتمل أن يكون خطأ ويحتمل أن يكون صوابا وإذا تعارضت الاحتمالات في مخالفة الراوي وجب تساقطها والرجوع إلى العموم

واحتج المخالف بأن مخالفة الراوي إن كانت لا عن طريق كان ذلك قادحا في عدالته فالقدح في عدالته قدح في متن الخبر وإن كانت عن طريق فذلك الطريق إما محتمل أو قاطع ولو كان الدليل محمتلا لذكره إزالة للتهمة عن نفسه والشبهة عن غيره ولما بطل ذلك تعين القطع والجواب أن إظهاره لذلك الدليل المحتمل إنما يجب عليه مع من ناظره فلعله لم تتفق تلك المناظرة سلمنا أنه ذكره لكن لعله لم ينقل أو نقل لكنه لم يشتهر والله أعلم المسألة الثالثة الحق أنه لا يجوز تخصيص العام بذكر بعضه خلافا لأبي ثور مثاله قوله ص أيما إهاب دبغ فقد طهر قال المراد جلد الشاة

لأنه قال صلى الله عليه وسلم في جلد شاة ميمونة دباغها طهورها

لنا أن المخصص للعام لا بد وأن يكون بينه وبين العام منافاة ولا منافاة بين كل الشئ وبعضه لأن الكل محتاج إلى البعض والمحتاج إليه لا ينافي المحتاج احتج المخالف بأن تخصيص الشئ بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداه فتخصيص الخاص بالذكر يدل على نفي الحكم عن غيره وذلك يقتضي تخصيص العام والجواب أنا لا نقول بدليل الخطاب سلمناه لكن التمسك بظاهر العموم أولى من التمسك بالمفهوم على ما تقدم المسألة الرابعة اختلفوا في التخصيص بالعادات والحق أن نقول العادات إما أن يعلم من حالها أنها كانت حاصلة في زمان الرسول ص وأنه ص ما كان يمنعهم منها أو يعلم أنها ما كانت حاصلة

أو لا يعلم واحد من هذين الأمرين فإن كان الأول صح التخصيص بها لكن المخصص في الحقيقة هو تقرير الرسول ص عليها وإن كان الثاني لم يجز التخصيص بها لأن أفعال الناس لا تكون حجة على الشرع بل لو أجمعوا عليه لصح التخصيص بها لكن المخصص حينئذ هو الإجماع لا العادة وإن كان الثالث كان محمتلا للقسمين الأولين ومع احتمال كونه غير مخصص لا يجوز القطع بذلك والله أعلم المسألة الخامسة كونه مخاطبا هل يقتضي خروجه عن الخطاب العام أما في الخبر فلا لقوله تعالى وهو بكل شئ عليم لأن اللفظ عام ولا مانع من الدخول وأما في الأمر الذي جعل جزاء كقوله من دخل داري فأكرمه فيشبه أن يكون كونه أمرا قرينة مخصصة والله أعلم

المسألة السادسة الخطاب المتناول لما يندرج فيه النبي ص والأمة كقوله يا أيها الناس يا أيها الذين آمنوا عام في حقهما ومنهم من خصصه بالأمة قال لأن منصب الرسول ص يقتضي إفراده بالذكر وهو باطل لأن اللفظ عام ولا مانع من دخول الرسول ص فيه وقال الصيرفي كل خطاب لم يصدر بأمر الرسول عليه الصلاة والسلام بتبليغه ولكن ورد مطلقا فالرسول ص مخاطب به كغيره وكل ما كان مصدرا بأمر الرسول بتبليغه فذلك لا يتناوله كقوله قل يا أيها الناس المسألة السابعة الخطاب المتناول لما يندرج فيه الحر والعبد والمسلم والكافر لا يخرج عنه العبد والكافر

أما العبد فلأن اللفظ عام وقيام المانع الذي يوجب التخصيص خلاف الأصل وهذا القدر يوجب دخول العبد فيه بل العبادة التي تترتب على المالكية لا تتحقق في حق العبد لأن العبد ليس له صلاحية المالكية فأما فيما عداه فهو داخل فيه فإن قلت المانع من ذلك هو ما ثبت من وجوب خدمته لسيده في كل وقت يستخدمه فيه وذلك يمنعه من العبادات في هذه الأوقات فإن قلتم إنما يلزمه خدمة سيده لو فرغ من العبادات فنقول لم كان تخصيص الدليل الدال على وجوب خدمة السيد بما دل على وجوب العبادة أولى من تخصيص ما دل على وجوب العبادة بما دل على وجوب خدمة السيد قلت ما دل على وجوب خدمة السيد في حكم العام وما دل على وجوب العبادات في حكم الخاص لأن كل عبادة يتناولها لفظ مخصوص كآية

الصلاة وآية الصيام والخاص متقدم على العام وأما بيان أن كونه كافرا لا يخرجه عن العموم فقد ثبت في باب أن الكفار مخاطبون بالشرائع والله أعلم السمألة الثامنة قصد المتكلم بخطابه إلى المدح أو إلى الذم لا يوجب تخصيص العام ومنع بعض فقهائنا من عموم قوله تعالى والذين يكنزون الذهب والفضة وأبطلوا التعلق به في ثبوت الزكاة في الحلي وقالوا القصد به إلحاق الذم بمن يكنز الذهب والفضة وليس القصد به العموم والجواب أنا فهمنا الذم من الآية لدلالة اللفظ عليه واللفظ دل على العموم

فوجب إثباته وليست دلالتها على الذم مانعة من دلالتها على العموم المسألة التاسعة عطف الخاص على العام لا يقتضي تخصيص العام مثاله أن اصحابنا لما احتجوا على أن المسلم لا يقتل بالذمي بقوله ص لا يقتل مؤمن بكافر قالت الحنفية إنه ص عطف عليه قوله ولا ذو عهد في عهده فيكون معناه ولا ذو عهد في عهده بكافر ثم إن الكافر الذي لا يقتل ذو العهد به هو الحربي فيجب أن يكون

الكافر الذي لا يقتل به المسلم هو الحربي تسوية بين المعطوف والمعطوف عليه والكلام عليه يقع في مقامين الأول أنا لا نسلم أن قوله ص ولا ذو عهد في عهده معناه ولا ذو عهد في عهده بكافر بيانه أن قوله ص ولاذو عهد في عهده كلام تام وإذا كان كذلك لم يجز إضمار تلك الزيادة إنما قلنا أنكلام تام لأنه قال ولا يقتل ذو عهد لكان من الجائز أن يتوهم منه متوهم أن من وجد منه العهد ثم خرج عن عهده فإنه لا يجوز قتله فلما قال في عهده علمنا أن هذا النهي مختص بكونه في العهد وإذا ثبت أن هذا القدر كلام تام لم يجز إضمار تلك الزيادة لأن الإضمار على خلاف الأصل فلا يصار إليه إلا لضرورة

سلمنا أن قوله ص ولا ذو عهد في عهده معناه ولا ذو عهد في عهده بكافر لكن لا نسلم أن هذا الكافر لما كان هو الحربي وجب أن يكون المراد بقوله لا يقتل مؤمن بكافر هو الحربي بيانه أن مقتضى العطف مطلق الاشتراك لا الاشتراك من كل الوجوه وإذا كان كذلك لم يجب ما قالوه والله أعلم المسألة العاشرة اختلفوا في أن العموم إذا تعقبه استثناء أو تقييد بصفة أو حكم وكان ذلك لا يتأتى إلا في بعض ما يتناوله هل يجب أن يكون المراد بذلك العموم ذلك البعض فقط أم لا

مثال الاستثناء قوله تعالى لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ثم قال عز وجل وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون فاستثنى العفو وعلقه بكناية راجعة إلى النساء ومعلوم أن العفو لا يصح إلا من المالكات لأمورهن دون الصغيرة والمجنونة فهل يجب أن يقال الصغيرة والمجنونة غير مرادة بلفظ النساء في أول الكلام مثال التقييد بالصفة قوله تعالى يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ثم قال لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا يعني الرغبة في مراجعتهن ومعلوم أن ذلك لا يتأتى في البائنة ومثال التقييد بحكم آخر قوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ثم قال وبعولتهن أحق بردهن في ذلك وهذا أيضا لا يتأتى في البائن إذا عرفت هذا فنقول

ذهب القاضي عبد الجبار إلى أنه لا يجب تخصيص ذلك العموم بتلك الأشياء ومنهم من قطع بالتخصيص ومنهم من توقف وهو المختار والدليل عليه أن ظاهر العموم المتقدم يقتضي الاستغراق وظاهر الكناية يقتضي الرجوع إلى كل ما تقدم لأن الكناية يجب رجوعها إلى المذكور المتقدم والمذكور المتقدم في الآية الأولى وهو المطلقات لا بعضهن ألا ترى أن الإنسان إذا قال من دخل الدار من عبيدي ضربته إلا أن يتوبوا انصرف ذلك إلى جميع العبيد وجرى مجرى أن يقول إلا أن يتوب عبيدي الداخلون في الدار وإذا ثبت ذلك فليست رعاية ظاهر العموم أولى من رعاية ظاهر الكناية فوجب التوقف والله أعلم

القسم الرابع في حمل المطلق على المقيد

القسم الرابع من كتاب العموم والخصوص في حمل المطلق على المقيد وفيه مسائل المسألة الأولى المطلق والمقيد إذا وردا فإما أن يكون حكم أحدهما مخالفا لحكم الآخر أو لا يكون والأول مثل أن يقول الشارع آتوا الزكاة وأعتقوا رقبة مؤمنة ولا نزاع في أنه لا يحمل المطلق على المقيد ها هنا لأنه لا تعلق بينهما أصلا

وأما الثاني فلا يخلو إما ان يكون السبب واحدا أو يكون هناك سببان متماثلان أو مختلفان وكل واحد من هذه الثلاثة فإما أن يكون الخطاب الوارد فيه أمرا أو نهيا فهذه أقسام ستة فلنتكلم فيها أما إذا كان السبب واحدا وجب حمل المطلق على المقيد لأن المطلق جزء من المقيد والآتي بالكل آت بالجزء لا محالة فالآتي بالمقيد يكون عاملا بالدليلين والآتي بغير ذلك المقيد لا يكون عاملا بالدليلين بل يكون تاركا لأحدهما والعمل بالدليلين عند إمكان العمل بهما أولى من الإتيان بأحدهما وإهمال الآخر فإن قيل لا نسلم أن المطلق جزء من المقيد بيانه أن الإطلاق والتقييد ضدان والضدان لا يجتمعان سلمنا ذلك لكن المطلق له عند عدم التقييد حكم وهو تمكن المكلف من الإتيان بأي فرد شاء من أفراد تلك الحقيقة والتقييد ينافي هذه المكنة فليس تقييد المطلق أولى من حمل المقيد على الندب وعليكم الترجيح

والجواب أما أن المطلق جزء من المقيد فلأنا بينا أن المراد من المطلق نفس الحقيقة والمقيد عبارة عن الحقيقة مع قيد زائد ولا شك أن الإطلاق أحد أجزاء الحقيقة المقيدة قوله الإطلاق والتقييد ضدان قلنا إن عنيت بالإطلاق كون اللفظ دالا على الحقيقة من حيث هي هي مع حذف جميع القيود السلبية والإيجابية فلا نسلم أن ذلك ينافي التقييد على ما بيناه وإن عنيت بالإطلاق كون اللفظة دالة على الحقيقة الخالية عن جميع القيود فنحن لا نريد بالإطلاق ذلك بل الأول وفرق بين الحقيقة بشرط لا وبين الحقيقة بلا شرط فإن عدم الشرط غير شرط العدم وأيضا فشرط الخلو عن جميع القيود غير معقول لأن هذا الخلو قيد قوله المطلق له بشرط عدم التقييد حكم وهو التمكن من الإتيان بأي فرد شاء من أفراد تلك الحقيقة

قلنا هذا الحكم غير مدلول عليه لفظا والتقييد مدلول عليه لفظا فهو أولى بالرعاية وأما فجانب النهي فهو أن يقول لا تعتق رقبة ثم يقول لا تعتق رقبة كافرة والأمر فيه قريب مما مر المسألة الثانية اختلفوا في الحكمين المتماثلين إذا أطلق أحدهما وقيد الآخر وسببهما مختلف مثاله تقييد الرقبة في كفارة القتل بالإيمان وإطلاقها في كفارة الظهار وفيه ثلاثة مذاهب اثنان طرفان والثالث هو الوسط أما الطرفان فأحدهما قول من يقول من أصحابنا تقييد أحدهما يقتضي تقييد الآخر لفظا وثانيهما قول كافة الحنفية إنه لا يجوز تقييد هذا المطلق بطريق ما البتة

وثالثها القول المعتدل وهو مذهب المحققين منا أنه يجوز تقييد المطلق بالقياس على ذلك المقيد ولا ندعي وجوب هذا القياس بل ندعي أنه إن حصل القياس الصحيح ثبت التقييد وإلا فلا واعلم أن صحة هذا القول إنما تثبت إذا أفسدنا القولين الأولين أما الأول فضعيف جدا لأن الشارع لو قال أوجبت في كفارة القتل رقبة مؤمنة وأوجبت في كفارة الظهار رقبة كيف كانت لم يكن أحد الكلامين مناقضا للآخر فعلمنا أن تقييد أحدهما لا يقتضي تقييد الآخر لفظا احتجوا بأن القرآن كالكلمة الواحدة وبأن الشهادة لما قيدت بالعدالة مرة واحدة وأطلقت في سائر الصور حملنا المطلق على المقيد فكذا ها هنا

والجواب عن الأول أن القرآن كالكلمة الواحدة في أنه لا يتناقض لا في كل شئ وإلا وجب أن يتقيد كل عام ومطلق بكل خاص ومقيد وعن الثاني أنا إنما قيدنا بالإجماع وأما القول الثاني فضعيف لأن دليل القياس وهو أن العمل به دفع للضرر المظنون عام في كل الصور شبهة المخالف أن قوله أعتق رقبة يقتضي تمكين المكلف من إعتاق أي رقبة شاء من رقاب الدنيا فلو دل القياس على أنه لا يجزيه إلا المؤمنة لكان القياس دليلا على زوال تلك المكنة الثابتة بالنص فيكون القياس ناسخا وأنه خلاف الأصل والجواب هذا لا يتم على مذهبكم لأنكم اعتبرتم سلامة الرقبة عن كثير من العيوب فإن كان اشتراط الإيمان نسخا فكذا نفي تلك العيوب يكون نسخا

وأيضا فقوله أعتق رقبة لا يزيد في الدلالة على اللفظ العام وإذا جاز التخصيص العام بالقياس فلأن يجوز هذا التخصيص به أولى تنبيه إذا أطلق الحكم في موضع وقيد مثله في موضعين بقيدين متضادين كيف يكون حكمه مثاله قضاء رمضان الوارد مطلقا في قوله تعالى فعدة من أيام أخر وصوم التمتع الوارد مقيدا بالتفريق في قوله تعالى فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم وصوم كفارة الظهار الوارد مقيدا بالتتابع في قوله عز وجل فصيام شهرين متتابعين اختلفوا فيه على حسب ما مر في المسألة السلفة فمن زعم أن المطلق يتقيد بالمقيد لفظا ترك المطلق ها هنا على إطلاقه لأنه ليس تقييده بأحدهما أولى من تقييده بالآخر ومن حمل المطلق على المقيد لقياس حمله ها هنا على ما كان القياس عليه والله أعلم

النوع الرابع في المجمل والمبين وفيه مقدمة وثلاثة أقسام

النوع الرابع في المجمل والمبين وفيه مقدمة وثلاثة أقسام أما المقدمة ففي تفسير الألفاظ المستعملة في هذا الباب وهي سبعة الأول البيان وهو في أصل اللغة اسم مصدر مشتق من التبيين يقال بين يبين تبيينا وبيانا كما يقال كلم يكلم تكليما وكلاما واذن يؤذن تأذينا وأذانا فالمبين يفرق بين الشئ وبين ميشاكله فلهذا قيل

البيان عبارة عن الدلالة يقال بين فلان كذا بيانا حسنا إذا ذكر الدلالة عليه ويدخل فيه الدليل العقلي وفي اصطلاح الفقهاء هو الذي دل على المراد بخطاب لا يستقل بنفسه في الدلالة على المراد والثاني المبين وله معنيان أحدهما ما احتاج الى البيان وقد ورد عليه بيانه والثاني الخطاب المبتدأ المستغني عن البيان الثالث المفسر وله معنيان أحدهما ما احتاج الى التفسير وقد ورد عليه تفسيره وثانيهما الكلام المبتدأ المستغني عن التفسير لوضوحه في نفسه

الرابع النص وهو كلام تظهر إفادته لمعناه ولا يتناول أكثر منه واحترزنا بقولنا كلام عن أمرين أحدهما أن أدلة العقول والأفعال لا تسمى نصوصا وثانيهما أن المجمل مع البيان لا يسمى نصا لأن قولنا نص عبارة عن خطاب واحد دون ما يقرن به ولأن البيان قد يكون غير القول والنص لا يكون الا قولا واحترزنا بقولنا تظهر إفادته لمعناه عن المجمل فان قلت أليس قد يقال نص الله تعالى على وجوب الصلاة وإن كان قوله أقيموا الصلاة مجملا قلت إنه ليس نصا إلا في إفادة الوجوب وهو فيها ليس بمجمل واحترزنا بقولنا ولا يتناول أكثر منه عن قولهم اضرب عبيدي لأن الرجل إذا قال لغيره إضرب عبيدي لم يقل أحد إنه نص على ضرب زيد من عبيده لأنه لا يفيده على التعيين ويقال إنه نص على ضرب جملة عبيده لأنه لا يفيد سواهم

الخامس الظاهر وهو ما لا يفتقر في إفادته لمعناه الى غيره سواء أفاده وحده أو أفاده مع غيره وب هذا القيد الأخير يمتاز عن النص امتياز العام عن الخاص وكنا قد قلنا في باب اللغات إن النص هو اللفظ الذي لا يمكن استعماله في غير معناه الواحد والظاهر هو الذي يحتمل غيره احتمالا مرجوحا ولا منافاة بين التعريفين

السادس المجمل وهو في عرف الفقهاء ما أفاد شيئا من جملة أشياء هو متعين في نفسه واللفظ لا يعينه ولا يلزم عليه قولك اضرب رجلا لأن هذا اللفظ أفاد ضرب رجل وهو ليس بمتعين في نفسه فأي رجل ضربته جاز وليس كذلك اسم القرء لأنه يفيد إما الطهر وحده وإما الحيض وحده واللفظ لا يعينه وقول الله تعالى أقيموا الصلاة يفيد وجوب فعل متعين في نفسه غير متعين بحسب اللفظ السابع المؤول والتأويل عبارة عن احتمال يعضده دليل يصير به أغلب على الظن من المعنى الذي دل عليه الظاهر

وأما المحكم والمتشابه فقد مر تفسيرهما في باب اللغات والله أعلم

القسم الأول في المجمل

القسم الأول في المجمل وفيه مسائل المسألة الأولى في أقسام المجمل الدليل الشرعي إما أن يكون أصلا أو مستنبطا منه والأصل إما أن يكون لفظا أو فعلا أما اللفظ فإما أن يحكم عليه بالإجمال حال كونه مستعملا في موضوعه أوحال كونه مستعملا في بعض موضوعه أو حال كونه مستعملا لا في موضوعه ولا في بعض موضوعه أما القسم الأول فذاك هو أن يكون اللفظ محتملا لمعان كثيرة فلم يكن حمله على بعضها أولى من الباقي

ثم تناول اللفظ لتلك المعاني إما بحسب معنى واحد مشترك بين الكل وهو المتواطئ كقوله تعالى وآتوا حقه يوم حصاده أولا بحسب معنى واحد وهو المشترك كلفظ القرء وأما القسم الثاني وهو أن يحكم عليه بالإجمال حال كونه مستعملا في بعض موضوعه فهو كالعام المخصوص بصفة مجملة أو استثناء مجمل أو بدليل منفصل مجهول مثال الصفة قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم فإنه تعالى لو اقتصر على ذلك لم يفتقر فيه إلى بيان فلما قيده بقوله محصنين ولم ندر ما الإحصان لم نعرف ما أبيح لنا ومثال الاستثناء قوله تعالى أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم

ومثال الدليل المنفصل المجهول كما إذا قال الرسول ص في قوله تعالى اقتلوا المشركين المراد بعضهم لا كلهم وأما القسم الثالث وهو أن يحكم عليه بالإجمال حال كونه مستعملا لا في موضوعه ولا في بعض موضوعه فهو ضربان أحدهما الأسماء الشرعية والآخر غيرها مثال الأول كما إذا أمرنا الشرع بالصلاة ونحن وفي لا نعلم انتقال هذا الاسم إلى هذه الأفعال احتجنا فيه إلى بيان والثاني الأسماء التي دلت الأدلة على إنه لا يجوز حملها على حقائقها وليس بعض مجازاتها أولى من بعض بحسب اللفظ فلا بد من البيان أما الفعل فإن مجرد وقوعه لا يدل على وجه وقوعه إلا أنه قد يقترن به ما يدل على الوجه الذي وقع عليه وحينئذ يستغنى عن البيان وقد لا يقترن به ذلك فيكون مجملا مثال الأول إذا رأينا الرسول عليه الصلاة والسلام مواظبا على الإتيان بالسجودين علمنا أن ذلك من أفعال الصلاة

المسألة الثانية في جواز ورود المجمل في كلام الله وكلام رسوله

مثال الثاني أن يقوم من الركعة الثانية ولا يجلس قدر التشهد جوزنا أن يكون قد سها فيه وأن يكون قد تعمد ذلك ليدلنا على جواز ترك هذه الجلسة وأما المستنبط من الأصل فهو القياس ولا يتصور فيه الإجمال والله أعلم المسألة الثانية يجوز ورود المجمل في كلام الله تعالى وكلام رسول الله ص والدليل عليه وقوعه في الآيات المتلوة واحتج المنكر بأن الكلام إما أن يذكر للإفهام أو لا للإفهام والثاني عبث غير جائز على الله تعالى

والأول إما أن يكون قد قرن بالمجمل ما يبينه أو لم يفعل ذلك والأول تطويل من غير فائدة لأن التنصيص عليه أسهل وأدخل في الفصاحة من ذكره باللفظ المجمل ثم بيان ذلك المجمل بلفظ آخر وأيضا فيجوز أن يصل الإنسان إلى ذلك المجمل قبل وصوله إلى ذلك البيان فيكون سببا للحيرة وإنه غير جائز والثاني باطل لأنه إذا أراد الإفهام مع أن اللفظ لا يدل عليه وليس معه ما يدل عليه كان تكليفا بما لا يطاق وإنه غير جائز والجواب أن هذا الكلام ساقط عنا لأن عندنا يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد وعند المعتزلة فلا يبعد أن يكون في ذكره باللفظ المجمل ثم إرداف ذلك المجمل بالبيان مصلحة لا يطلع عليها ومع الاحتمال لا يبقى القطع والله أعلم

القول في أمر ظن أنها من المجملات وليست كذلك وفيه مسائل المسألة الأولى ذهب الكرخي إلى أن التحليل والتحريم المضافين إلى الأعيان كقوله تعالى حرمت عليكم أمهاتكم يقتضي الإجمال وعندنا أنه يفيد بحسب العرف تحريم الفعل المطلوب من تلك الذات فيفهم من قوله حرمت عليكم أمهاتكم تحريم الاستمتاع ومن قوله حرمت عليكم الميتة تحريم الأكل لأن هذه الأفعال هي الأفعال المطلوبة في هذه الأعيان

والحاصل أنا نسلم كونه مجازا في اللغة لكنه حقيقة في العرف لنا وجوه الأول أن الذي يسبق إلى الفهم من قول القائل هذا طعام حرام تحريم أكله ومقوله هذه المرأة حرام تحريم وطئها ومبادرة الفهم دليل الحقيقة وثانيها ماروي أنص قال لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها فدل هذا على أن تحريم الشحوم أفاد تحريم كل أنواع التصرف وإلا لم يتوجه الذم عليهم في البيع

وثالثها أن المفهوم من قولنا فلان يملك الدار قدرته على التصرف فيها بالسكنى والبيع ومن قولنا فلان يملك الجارية قدرته على التصرف فيها بالبيع والوطء والاستخدام وإذا جاز أن تتخلف فائدة الملك على هذا النحو جاز مثله في التحريم والتحليل احتج الكرخي بأن هذه الأعيان غير مقدورة لنا لو كانت معدومة فكيف إذا كانت موجودة فإذن لا يمكن إجراء اللفظ على ظاهره بل المراد تحريم فعل من الأفعال المتعلقة بتلك الأعيان وذلك الفعل غير مذكور وليس إضمار بعضها أولى من بعض فإما أن نضمر الكل وهو محال لأنه إضمار من غير حاجة وهو غير جائز أو نتوقف في الكل وهو المطلوب وايضا فالآية لو دلت على تحريم فعل معين لوجب أن يتعين ذلك الفعل في كل المواضع وليس كذلك لأن المراد بقوله تعالى حرمت عليكم أمهاتكم حرمة الاستمتاع وبقوله حرمت عليكم الميتة حرمة الأكل

والجواب لا نزاع في أنه لا يمكن إضافة التحريم إلى الأعيان لكن قوله ليس إضمار بعض الأحكام أولى من بعض ممنوع فإن العرف يقتضي إضافة ذلك التحريم إلى الفعل المطلوب منه والله أعلم المسألة الثانية ذهب بعض الحنفية إلى إن قوله تعالى وامسحوا برؤوسكم مجمل لأنه يحتمل مسح جميع الرأس ومسح بعضه وإذا ظهر الاحتمال يثبت الإجمال وقال آخرون لو خلينا واللفظ لمسحنا كل جميع الرأس لأن الباء للإلصاق 3 وقال ابن جني لا فرق في اللغة بين أن تقول مسحت بالرأس وبين أن تقول مسحت الرأس لأن الرأس اسم للعضو بتمامه فوجب مسحه بتمامه

وقال بعض الشافعية إنها للتبعيض فهو يفيد مسح بعض الرأس وقال آخرون لا إجمال فيه لأن لفظ المسح مستعمل في مسح الكل بالاتفاق وفي مسح البعض كما يقال مسحت يدي بالمنديل ومسحت يدي برأس اليتيم وإن كان إنما مسحها ببعض الرأس والأصل عدم الاشتراك فوجب جعله حقيقة في القدر المشترك بين مسح الكل ومسح البعض فقط وذلك هو مماسة جزء من اليد جزءا من الرأس فثبت أن اللفظ ما دل إلا عليه فكان الآتي به عاملا باللفظ وحينئذ لا يتحقق الإجمال ويكفي في العمل به مسح أقل جزء من الرأس وهو قول الشافعي رضي الله عنه

المسألة الثالثة اختلفوا في حرف النفي إذا دخل على الفعل كقوله لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ولا عمل لمن لا نية له فقال أبو عبد الله البصري إنه مجمل لأن ذات الصلاة والعمل موجودة فلا يمكن صرف النفي إليها فوجب صرفه إلى حكم آخر وليس البعض أولى من البعض فإماأن يحمل على الكل وهو إضمار من غير ضرورة ولأنه قد يفضي إلى التناقض لأنا لو حملناه على نفي الصحة ونفي الكمال معا وفي نفي الكمال ثبوت الصحة فيلزم التناقض أولا يحمل على شئ من الأحكام بل يتوقف وهذا هو الإجمال ومن الناس من فصل وقال هذا النفي إما أن يكون داخلا على

مسمى شرعي أو على مسمى حقيقي فإن كان الأول فلا إجمال لأن الصلاة اسم شرعي والشرع أخبر عن انتفاء ذلك المسمى عند انتفاء الوصف المخصوص فإن قلت يقال هذه الصلاة فاسدة فدل على بقاء المسمى مع الفساد وقال ص دعي الصلاة أيام أقرائك قلت التوفيق بين الدليلين أن نصرف ذلك إلى المسمى الشرعي وهذا إلى المسمى اللغوي ومن هذا الباب قوله لا نكاح إلا بولي ولا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل أما إن كان المسمى حقيقيا فإما أن يكون له حكم واحد أو أكثر من حكم واحد

والأول كقولنا لا شهادة لمجلود في قذف لأنه لا يمكن صرف النفي إلى ذات الشهادة لأنها قد وجدت فلا بد من صرف النفي إلى حكمها وليس لها إلا حكم واحد وهو الجواز لأن الشهادة إذا كانت فيما كانت ندبنا إلى ستره لم يكن لإقامتها مدخل في الفضيلة كقولنا لا إقرار لمن أقر بالزنا مرة واحدة لأن الأولى له أن يستر ذلك على نفسه فإذن لا حكم له إلا الجواز واذا لم يكن له إلا هذا الحكم الواحد انصرف النفي إليه فصح التعلق به أما إذا كان له حكمان الفضيلة والجواز فلم يكن صرفه إلى أحدهما أولى من الآخر فيتعين الإجمال هذا قول الأكثرين ولقائل أن يقول لكن صرفه إلى الجوا أولى من صرفه إلى الفضيلة لوجوه أحدها أن المدلول عليه باللفظ نفي الذات والدال على نفي الذات دال على نفي جميع الصفات لاستحالة بقاء الصفة مع عدم الذات فإذن قوله لا عمل يدل على نفي الذات وعلى نفي الصحة

ونفي الكمال ترك العمل به في الذات فوجب أن يبقى معملا به في الباقي فإن قلت اللفظ لم يدل على نفي الصحة بالمطابقة وإنما دل عليها بالالتزام ضرورة أنه يلزم من انتفاء الذات انتفاء الصفة ودلالة الالتزام تابعة لدلالة المطابقة التي هي الأصل فها هنا لما لم توجد دلالة المطابقة التي هي الأصل فكيف تبقى دلالة الالتزام التي هي الفرع وأيضا فقد جاء هذا اللفظ لنفي الفضيلة فقط والأصل في الكلام الحقيقة والجواب عن الأول إنه لا نزاع في أن دلالة هذا اللفظ على نفي الصفة تابعة لدلالته على نفي الذات لكن بعد استقرار تلك الدلالة صار اللفظ كالعام بالنسبة إليها بأسرها

فإذا خص عنها في بعض الأمور وهو الذات وجب أن يبقى معمولا به في الباقي وعن الثاني أنا بينا أن اللفظ عام بالنسبة إلى نفي الذات ونفي الصفات ثم تارة يختص بالنسبة إلى الذات فقط وحينئذ يفيد نفي بقية الأحكام وتارة يختص بالنسبة إلى الذات والصحة فيبقى معمولا به في الباقي وهو نفي الفضيلة وثانيها هو أن المشابهة بين المعدوم وبين ما لا يصح أتم من المشابهة بين المعدوم وبين ما يوجد ويصح ولا يفضل والمشابهة إحدى أسباب المجاز فكان حمل اللفظ على نفي الصحة أولى وثالثها أن الخلل الحاصل في الذات عند عدم الصحة أشد من الخلل الحاصل فيها عند بقاء الصحة وعدم الفضيلة وإطلاق اسم العدم على المختل أولى من إطلاقه على غير المختل سلمنا أنه لا يجوز حمل النفي على هذه الأحكام ولا يجوز حمله على نفي الذات فلم قلت إنه مجمل

بيانه أن قولنا هذا الشئ لفلان معناه يعود نفعه إليه وقولنا لا عمل لمن لا نية له معناه نفعه إليه وهذا يقتضي نفي الصحة لأنه لو صح ذلك العمل لعاد نفعه إليه واللفظ دل على نقيضه والله أعلم المسألة الرابعة قال بعضهم آية السرقة مجملة في اليد وفي القطع أما اليد فلأنه يطلق اسم اليد على هذا العضو من أصل المنكب وعليه من الزند وعليه من الكوع وعليه من أصول الأنامل وأما القطع فلأنه قد يراد به الشق فقط كما يقال برى فلان قلمه فقطع يده وقد يراد به الإبانة والجواب عن الأول أن اسم اليد موضوع لهذا العضو من المنكب ولا يتناول الكف

وحده لأنه لا يقال قطعت يد فلان بالكلية إذا قطعت من الكف وعن الثاني أن القطع في اللغة الإبانة فأذا أضيف إلى شئ أفاد إبانة ذلك الشئ والشق إذا حصل في الجلد فقد حصلت الإبانة في تلك الأجزاء بلى أطلق اسم اليد عليه على سبيل إطلاق اسم الكل على الجزء فيكون المجاز ها هنا في لفظ اليد لا في لفظ القطع والله أعلم المسألة الخامسة قيل في قوله عليه الصلاة والسلام رفع عن أمتي الخطأ والنسيان إنه مجمل لأن نفس الخطأ غير مرفوع فلا بد من صرفه إلى الحكم فيلزم الإجمال على ما تقدم تقريره والأقرب أنه ليس بمجمل لأن المولى إذا قال لعبده رفعت عنك الخطأ كان ذلك في العرف منصرفا إلى نفي المؤاخذة بذلك الفعل فكذا قال الرسول ص لأمته مثل هذا القول وجب أن ينصرف إلى ما يتوقع مؤاخذته لأمته به وهو الأحكام الشرعية فكأنه قال رفعت عنكم الأحكام الشرعية من الخطأ والله أعلم

القسم الثاني في المبين

القسم الثاني في المبين وفيه مسائل المسألة الأولى في أقسام المبين الخطاب الذي يكفي نفسه في إفادة معناه إما أن يكون لأمر يرجع إلى وضع اللغة أو لا يكون كذلك والأول كقوله تعالى أن الله بكل شئ عليم أما الثاني فإما أن يكون بيانه على سبيل التعليل أولا على سبيل التعليل اما التعليل فضربان أحدهما أن يكون الحكم بالمسكوت عنه أولى من الحكم بالمنطوق به كما في قوله تعالى فلا تقل لهما أف

وثانيهما كما في قوله ص إنها من الطوافين عليكم والطوافات وأما الذي لا يكون تعليلا فضربان أحدهما أن الأمر بالشئ أمر بما لا يتم إلا به وثانيهما أن يظهر في العقل تعذر إجراء الخطاب على ظاهره ويكون هناك أمر يكون حمل الخطاب عليه أولى من حمله على غيره كما في قوله تعالى واسأل القرية فهذه أقسام المبين والله أعلم

المسألة الثانية في أقسام البيانات أعلم أن بيان المجمل إما أن يقع بالقول أو بالفعل أو بالترك أما بالقول فظاهر وأما بالفعل فإما أن يكون الدال على البيان شيئا يحصل بالمواضعة أو شيئا تتبعه المواضعة أو شيئا يتبع المواضعة فالأول هو الكتاب وعقد الأصابع فأما الكتابة فقد يقع بها البيان من الله تعالى بما كتب في اللوح المحفوظ ومن الرسول ص بما كتب إلى عماله وأما عقد الأصابع فقد بين به الرسول ص إذ قال الشهر هكذا وهكذا وحبس في الثالثة أصبعه

وهذا الباب يستحيل على الله تعالى لاستحالة الجوارح عليه

وأما القسم الثاني وهو الذي تتبعه المواضعة فهو الإشارة لأن المواضعة مفتقرة إليها وهي غير مفتقرة إلى المواضعة وإلا لافتقرت إلى إشارة أخرى ولزم التسلسل وهو محال وقد بين الرسول ص بالإشارة وذلك حين أشار إلى الحرير بيده وقال هذا حرام على ذكور أمت حل لإناثها وأما القسم الثالث وهو الذي يكون تابعا للمواضعة فهو كما اذا قال

الرسول ص هذا الفعل بيان لهذه الآية أو يقول صلوا كما رأيتموني أصلي واعلم أنه لا يعلم كون الفعل بيانا للمجمل إلا بأحد أمور ثلاثة أحدها أن يعلم ذلك بالضرورة من قصده وثانيها أن يعلم بالدليل اللفظي وهو أن يقول هذا الفعل بيان لهذا المجمل أو يقول أقوالا يلزم من مجموعها ذلك وثالثها بالدليل العقلي وهو أن يذكر المجمل وقت الحاجة إلى العمل به ثم يفعل فعلا يصلح أن يكون بيانا له ولا يفعل شيئا آخر فيعلم أن ذلك الفعل بيان للمجمل وإلا فقد أخر البيان عن وقت الحاجة وأنه لا يجوز

وأما الترك فاعلم أن الفعل يبين الصفة ولا يدل على وجوبها وترك الفعل يبين نفي وجوبه وذلك على أربعة أضرب أحدها أن يقول من الركعة الثانية إلى الثالثة ويمضي على صلاته فيعلم أن هذا التشهد ليس بشرط في صحة الصلاة وإلا لم تصح مع عدم شرط الصحة ويدل على أنه ليس بواجب أنه ص لا يجوز أن يتعمد ترك الواجب وثانيها أن يسكت عن بيان حكم الحادثة فيعلم أنه ليس فيه حكم شرعي وثالثها أن يكون ظاهر الخطاب متناولا له ولأمته على سواء فإذا ترك الفعل دل على أنه كان مخصوصا من الخطاب ولم يلزمه ما لزم أمته ورابعها أن يتركه بعد فعله إياه فيعلم أنه قد نسخ عنه ثم ينظر فإن كان حكم الأمة حكمه نسخ عنهم أيضا وإلا كان حكمهم بخلاف حكمه والله أعلم

المسألة الثالثة الحق أن الفعل قد يكون بيانا خلافا لقوم لنا أن الخصم إما أن يقول إنه لا يصح وقوع البيان بالفعل أو يقول إنه يصح عقلا لكن لا يجوفي الحكمة والأول ضربان أحدهما أن يقال إن الفعل لا يؤثر في وقوع اليقين أصلا والآخر أن يقال إنه لا يؤثر في ذلك إلا مع غيره هو أن يقول الرسول ص هذا الفعل بيان لهذا الكلام والأول باطل لأن فعل الرسول ص للصلاة والحج فلا أدل عليهما من صفته لهما فإنه ليس الخبر كالمعاينة ولهذا بين الرسول ص الحج والصلاة وقال خذوا عني مناسككم وقال صلوا كما رأيتموني أصلي

وبين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الوضوء بفعلهم وأما الثاني وهو أن لا يقع البيان بالفعل وحده عند قيام الدليل على أن ذلك الفعل بيان لذلك المجمل فهذا مما لا خلاف فيه إلا أن المبين هو الفعل لأنه هو المتضمن لصفة الفعل وإنما القول لتعليق الفعل الواقع بيانا على المجمل وأما القسم الثاني وهو أنه غير جائز في الحكمة فهو لا يستقيم على أصلنا لأن الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ثم إن سلمنا هذا الأصل لكنه يمتنع أن يعلم الله تعالى من المكلف أن بيان المجمل بهذا الطريق أصلح له

احتج المخالف بأن الفعل يطول فيلزم تأخير البيان والجواب أن القول قد يكون أطول لأن وصف أفعال الصلاة وتروكها منه على الاستقصاء أطول من الإتيان بركعة واحدة فجوابكم جوابنا والله أعلم المسألة الرابعة في أن القول هل يقدم على الفعل في كونه بيانا القول والفعل إذا وردا فإما أن يكونا متطابقين أو متنافيين فإكانا متطابقين وعلم تقدم أحدهما على الآخر فالأول بيان والثاني تأكيد لأن الأول قد حصل التعريف به فلا حاجة إلى الثاني وإن لم يعلم تقدم أحدهما على الآخر حكم على الجملة بأن الأول منهما بيان والثاني تأكيد وإن كانا متنافيين كقوله ص من قرن الحج إلى العمرة فليطف لهما طوافا واحدا مع ما روي عنه ص أنه قرن فطاف طوافين وسعى

سعيين فالقول هو المقدم في كونه بيانا لأنه بيان بنفسه

والفعل لا يدل حتى يعرف ذلك إما بالضرورة أو بالاستدلال بدليل قولي أو عقلي فإذا لم يعقل ذلك لم يثبت كون الفعل بيانا والله أعلم المسألة الخامسة في: البيان كالمبين هذا الباب يشتمل على شيئين أحدهما هل البيان كالمبين في القوة والآخر هل هو كالمبين في الحكم أما الأول فقال الكرخي المبين إذا كان لفظا معلوما وجب كون بيانه مثله وإلا لم يقبل والحق أنه يجوز أن يكون البيان والمبين معلومين وأن يكونا مظنونين أن يكون المبين معلوما وبيانه مظنونا كما جاز تخصيص القرآن بخبر الواحد والقياس وأما الآخر فهو أنه هل إذا كان المبين واجبا كان بيانه واجبا كذلك قال به قوم فإن أرادوا به أن المبين إذا كان واجبا فبيانه بيان لصفة شئ واجب فصحيح وإن أرادوا به أنه يدل على الوجوب كما يدل المبين فغير صحيح

لأن البيان إنما يتضمن صفة المبين وليس يتضمن لفظا يفيد الوجوب إلا ترى أن صورة الصلاة ندبا واجبا صورة واحدة وإن أرادوا أنه إذا كان المبين واجبا كان بيانه واجبا على الرسول ص واذا لم يكن الفعل المبين واجبا لم يكن بيانه واجبا على الرسول ص فباطل لأن بيان المجمل واجب سواء تضمن فعلا واجبا أو لم يتضمن وإلا كان تكليفا بمالا يطاق والله أعلم

القسم الثالث في وقت البيان

القسم الثالث في وقت البيان وفيه مسائل المسألة الأولى القائلون بأنه لا يجوز تكليف ما لا يطاق اتفقوا على أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة لأن التكليف به مع عدم الطريق إلى العلم به تكليف بمالا يطاق والإشكالات التي ذكرناها في أن تكليف الساهي غير جائز قائمة ها هنا والجواب واحد المسألة الثانية اختلفوا في جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب الخطاب المحتاج إلى البيان ضربان

أحدهما ما له ظاهر قد استعمل في خلافه والثاني لاظاهر له كالأسماء المتواطئة والمشتركة والأول أقسام أحدها تأخير بيان التخصيص وثانيها تأخير بيان النسخ وثالثها تأخير بيان الأسماء الشرعية ورابعها تأخير بيان اسم النكرة إذ أراد به شيئا معينا إذا عرفت ذلك فنقول مذهبنا أنه يجوز تأخير البيان إلى وقت الحاجة في كل هذه الأقسام وأما المعتزلة فأكثر من تقدم أبا الحسين رحمه الله اتفقوا على المنع من تأخير البيان في كل هذه الأقسام إلا في النسخ فإنهم جوزوا تأخير بيانه وأما أبو الحسين فإنه منع من تأخير البيان فيما له ظاهر قد استعمل في خلافه وزعم أن البيان الإجمالي كاف فيه وهو أن يقول عند الخطاب اعلموا أن هذا العموم مخصوص وأن هذا الحكم سينسخ بعد ذلك وأما البيان التفصيلي فإنه يجوز تأخيره وأما الذي لا يكون له ظاهر مثل الألفاظ المتواطئة والمشتركة فقد جوز فيه تأخير البيان إلى وقت الحاجة

وهذا التفصيل ذكره كثير من فقهاء أصحابنا كأبي بكر القفال وأبي اسحاق المروزي وأبي بكر الدقاق واعلم أن الكلام في هذه المسألة يقع في مقامين أحدهما أن يستدل في الجملة على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب وثانيهما أن يستدل على جواز ذلك في كل واحدة من الصور المذكورة أما المقام الآول فالدليل عليه قوله تعالى إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه وثم في اللغة للتراخي وهو المطلوب فإن قيل لا نسلم أن كلمة ثم للتراخي فقط بل قد تجئ بمعنى الواو كقوله تعالى ثم آتينا موسى الكتاب ثم كان من الذين آمنوا ثم الله شهيد سلمنا ذلك لكن لا نسلم أن المراد بالبيان في هذه الآية البيان الذي

اختلفنا فيه وهو بيان المجمل والعموم فلم لا يجوز أن يكون المراد به إظهاره بالتنزيل غاية ما في الباب أن يقال هذا مخالفة الظاهر لكن نقول يلزم من حفظ هذا الظاهر مخالفة ظاهر آخر وهو أن الضمير الذي في قوله ثم إن علينا بيانه راجع إلى جميع المذكور وهو القرآن ومعلوم أن جميعه لا يحتاج إلى البيان فليس حفظ أحد الظاهرين بأولى من الآخر وعليكم الترجيح سلمنا أن المراد من البيان ذلك لكن لم لا يجوز أن يكون المراد به تأخير البيان التفصيلي وذلك عند أبي الحسين جائز سلمنا أن المراد مطلق البيان لكن لم لا يجوز أن يكون المراد من قوله تعالى إن علينا جمعه وقرآنه هو أن يجمعه في اللوح المحفوظ ثم إنه بعد ذلك ينزله على الرسول ص ويبينه له وذلك متراخ عن الجمع سلمنا أن البيان مذكرتموه غير لكن الآية تدل على وجوب تأخير البيان وذلك ما لم يقل به أحد فما دلت عليه الآية لا تقولون به وما تقولون به

وهو الجواز لم تدل الآية عليه فبطل الاستدلال والجواب أما أن كلمة ثم للتراخي فذلك متواتر عند أهل اللغة والآيات التي تلوتموها المراد هناك التأخير في الحكم قوله لم لا يجوز أن يكون المراد من البيان إظهاره بالتنزيل قلنا لأن قوله فإذا قرأناه فاتبع قرآنه أمر للنبي ص باتباع قرآنه وإنما يكون مأمورا بذلك بعد نزوله عليه فإنه قبل ذلك لا يكون عالما به فكيف يمكنه اتباع قرآنه فثبت أن المراد من قوله فإذا قرأناه هو الإنزال ثم إنه تعالى حكم بتأخير البيان عن ذلك وذلك يقتضي تأخير البيان عن وقت الإنزال وإذا كان كذلك وجب أن لا يكون المراد من البيان هو الإنزال لاستحالة كون الشئ سابق على نفسه سلمنا أنه يمكن ما ذكروه ولكنه خلاف الظاهر قوله يلزم من مخالفة المحافظة على هذا الظاهر احتياج القرآن جميعه إلى البيان

قلنا لا نسلم فإن لفظ القرآن يتناول كله وبعضه بدليل أنه لو حلف أن لا يقرأ القرآن ولا يمسه فقرأ آية أو لمس آية فإنه يحنث في يمينه سلمنا أن لفظ القرآن ليس حقيقة في البعض لكن إطلاق اسم الكل على البعض أسهل من إطلاق لفظ البيان على التنزيل لأن الكل مستلزم للجزء والبيان غير مستلزم للتنزيل قوله نحمله على البيان التفصيلي قلنا اللفظ مطلق فتقييده خلاف الظاهر قوله لم لا يجوزأن يكون المراد من الجمع جمعه في اللوح المحفوظ قلنا لما بينا أنه تعالى أخر البيان عن القراءة التي يجب على النبي عليه الصلاة والسلام متابعتها وذلك يستدعي تأخير البيان عن وقت الإنزال قوله هذا يقتضي وجوب تأخير البيان قلنا ونحن نقول به فإن قلت الضمير عائد إلى كل القرآن فيجب تأخير بيان الكل وذلك لم يقل به أحد

قلت قد تقدم بيان أن الضمير غير عائد إلى الكل والله أعلم أما الذي يدل على كل واحدة من الصور التي ذكرناها فنقول الدليل على أنه يجوز تأخير البيان في النكرة أن الله تعالى أمر بني إسرائيل بذبح بقرة موصوفة غير منكرة ثم أنه لم يبينها لهم حتى سألوا سؤالا بعد سؤال إنما قلنا إنه لم يرد بقرة منكرة لوجهين الأول أن قوله تعالى ادع لنا ربك يبين لنا ما هي وما لونها وقول الله تعالى إنها بقرة لا فارض ولا بكر إنها بقرة صفراء إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ينصرف إلى ما أمروا بذبحه من قبل وهذه الكنايات تدل على أن المأمور به ما كان ذبح بقرة منكرة بذبح بقرة معينة الثاني أن الصفات المذكورة في الجواب عن السؤال الثاني إما ان يقال إنها صفات البقرة التي أمروا بذبحها أو لا أو صفات بقرة وجبت عليهم عند ذلك السؤال وانتسخ ما كان واجبا عليهم قبل ذلك والأول هو المطلوب والثاني يقتضي أن يقع الاكتفاء بالصفات المذكورة آخرا وأن لا يجب حصول الصفات المذكورة قبل ذلك ولما

أجمع المسلمون على أن تلك الصفات بأسرها كانت معتبرة علمنا فساد هذا القسم فإن قيل لا يجوز التمسك بهذه الآية لأن الوقت الذي أمروا فيه بذبح البقرة كانوا محتاجين إلى ذبحها فلو أخر الله البيان لكان ذلك تأخيرا للبيان عن وقت الحاجة وأنه لا يجوز فإذن ما تقتضيه الآية لا تقولون به وما تقولون به لا تقتضيه الآية نزلنا عن هذا المقام لكن لا نسم أن المأمور به كان ذبح بقرة موصوفة بل ذبح بقرة كيف كانت فلما سألوا تغيرت المصلحة ووجبت عليهم بقرة أخرى وأما الكنايات فلا نسلم عودها إلى البقرة ولم لا يجوز أن يقال إنها كنايات عن القصة والشأن وهذه طريقة مشهورة عند العرب سلمنا أن هذه الكنايات تقتضي كون البقرة المأمور بها موصوفة لكن ها هنا ما يدل على كونها منكرة وهو من ثلاثة أوجه الأول أن قوله تعالى إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة أمر بذبح بقرة مطلقة وذلك يقتضي سقوط التكليف بذبح بقرة أي بقرة كانت وذلك يقتضي أن يكون اعتبار الصفة بعد ذلك تكليفا جديدا

الثاني لو كان المراد ذبح بقرة معينة لما استحقوا التعنيف على طلب البيان بل كانوا يستحقون المدح عليه فلما عنفهم اللتعالى في قوله فذبحوها وما كادوا يفعلون علمنا تقصيرهم في الإتيان بما أمروا به أولا وذلك إنما يكون لو كان المأمور به أولا ذبح بقرة منكرة الثالث ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لو ذبحوا أية بقرة أرادوا لأجزأت عنهم لكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم

سلمنا أن المأمور به ذبح بقر معينة موصوفة لكن لم لا يجوز أن يقال البيان التام قد تقدم لكنهم لم يتبينوا لبلادتهم فاستكشفوا طلبا للزيادة فحكى الله تعالى ذلك سلمنا أن البيان التام لم يتقدم فلم لا يجوز أن يقال إن موسى عليه السلام كان قد أعلمهم بأن البقرة ليست مطلقة بل معينة فطلبوا البيان التفصيلي فالحاصل أن البيان الإجمالي كان مقارنا والبيان التفصيلي كان متأخرا وهو جائز عند أبي الحسين رحمه الله والجواب قوله الآية تقتضي تأخير البيان عن وقت الحاجة قلنا لا نسلم لأن ذلك إنما يلزم لو كان الأمر مقتضيا للفور لكنا لا نقول به قوله الكنايات عائدة إلى القصة والشأن قلنا هذا باطل لوجوه

أحدها أن هذه الكنايات لو كانت عائدة إلى القصة والشأن لكان الذي يبقى بعد ذلك غير مقيد لأنه لا فائدة في قوله بقرة صفراء بل لا بد من إضمار شئ آخر وذلك خلاف الأصل أما إذا جعلنا الكنايات الذي عائد إلى المأمور به أولا لم يلزم هذا المحذور وثانيها أن الحكم برجوع الكنايات إلى القصة والشأن خلاف الأصل لأن الكناية يجب عودها إلى شئ جرى ذكره والقصة والشأن لم يجر ذكرهما فلا يجوز عود الكناية إليهما لكنا خالفنا هذا الدليل للضرورة في بعض المواضع فيبقى فيما عداه على الأصل وثالثها أن الضمير في قوله تعالى ما لونها وماهي لا شك أنه عائد إلى البقرة المأمور بها فوجب أن يكون الضمير في قوله إنها بقرة صفراء عائدا إلى تلك البقرة وإلا لم يكن الجواب مطابقا للسؤال قوله إن قوله تعالى إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة أمر بذبح بقرة مطلقة

قلنا هب أن ظاهره يفيد الإطلاق ونحن نسلمه لكنا نقول المراد كاغير الظاهر مع أنه تعالى ما بينه فما قلتموه لا يضرنا قوله لو كان ذلك لطلب البيان لما استحقوا التعنيف بقوله وما كادوا يفعلون قلنا إن قوله تعالى وما كادوا يفعلون ليس فيه دلالة على أنهم فرطوا في أول القصة أو أنهم كادوا يفرطون بعد استكمال البيان بل اللفظ محتمل لكل واحد منهما فنحمله على الأخير وهو أنهم لما وقفوا على تمام البيان توقفوا عند ذلك وما كادوا يفعلون قوله نقل عن ابن عباس أنه قال شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم قلنا هذا من أخبار الآحاد ومع تقدير الصحة فلا يصلح معارضا لنص الكتاب قوله لم لا يجوز أن يقال كان البيان حاصلا لكنهم لم يتبينوا قلنا لوجهين الآول أنهم كانوا يلتمسون البيان ولكان البيان حاصلا لما التمسوه بل كانوا يطلبون التفهيم

الثاني أن فقد التبيين عن حضور هذا البيان متعذر ها هنا لأن ذلك البيان ليس إلا وصف تلك البقر والعاقل العارف باللغة إذا سمع تلك الأوصاف استحال أن لا يعرفها قوله كانوا يطلبون البيان التفصيلي قلنا لو كان كذلك لذكره الله تعالى أزالة للتهمة أما الدليل على جواز تأخير بيان المخصص فالنقل أما النقل فهو أن الله تعالى لما أنزل قوله إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم قال ابن الزبعري قد عبدت الملائكة وعبد المسيح فهؤلاء حصب جهنم فتأخر بيان ذلك حتى أنزل الله تعالى قوله إن الذين سبقت لهم منا الحسنى فإن قيل لا نسلم أن قوله تعالى وما تعبدون من دون الله يندرج فيه الملائكة والمسيح وبيانه من وجهين الأول

أن كلمة ما لما لا يعقل فلا يدخلها المسيح والملائكة الثاني أن قوله تعالى إنكم وما تعبدون خطاب مع العرب وهم ما كانوا يعبدون المسيح والملائكة بل كانوا يعبدون الأوثان سلمنا ذلك لكن تخصيص العام بدليل العقل جائز وها هنادل العقل على خروج الملائكة والمسيح فإنه لا يجوز تعذيب المسيح بجرم الغير وهذا الدليل كان حاضرا في عقولهم ثم نقول المسألة علمية وهذا خبر واحد فلا يجوز إثباتها به سلمنا صحة الرواية لكن الرسول عليه السلام إنما سكت انتظارا لنزول الوحي عليه في تأكيد البيان العقلي واللفظي والجواب لا نسلم أن صيغة ما مختصة بغير العقلاء والدليل عليه وجوه أحدها قوله تعالى وما خلق الذكر والأنثى والسماء وما بناها ولا أنتم عابدون ما أعبد

وثانيها اتفاق أهل اللغة على ورود ما بمعنى الذي وكلمة الذي متناولة للعقلاء فكلمة ما أيضا كذلك وثالثها أن ابن الزبعري كان من الفصحاء فلولا أن كلمة ما تتناول المسيح والملائكة وإلا لما أورده نقضا على الآية ورابعها أن الرسول ص لم يرد عليه ذلك بل سكت وتوقف إلى نزول الوحي ولو كان ذلك خطأ في اللغة لما سكت الرسول ص عن تخطئته وخامسها أنه يقال ما في ملكي فهو صدقة وما في بطن جاريتي فهو حر وهو يتناول الإنسان وسادسها اأنها لو كانت مختصة بغير من يعلم لما كان لقوله تعالى من دون الله فائدة لأنه إنما يحتاج إلى الاحتراز حيث يصلح الاندراج قوله الخطاب كان مع العرب وهم ما كانوا يعبدون الملائكة والمسيح

قلنا الرواية المشهورة أنه قد كان من العرب من يعبد الملائكة والمسيح وقد ذكر الواحدي وغيره ذلك في سبب نزول هذه الآية ولأن هذه الآية لو كانت خطابا مع عبدة الأوثان فقط لما جاز توقف النبي ص عن تخطئة السائل قوله كل أحد يعلم أن تعذيب الرجل بجرم الغير لا يجوز قلت نعم لكن ألا يصح دخول الشبهة في أأولئك المعبودين كانوا راضين بذلك أم لا وعند ذلك يصح السؤال قوله هذه الرواية من باب الآحاد قلنا لا نسلم فإن المفسرين اتفقوا على ذكرها في سبب نزول هذه الآية وذلك يدل على الإجماع سلمنا أنه من الآحاد لكنا بينا أن التمسك بالأدلة اللفظية أينما كان لا يفيد إلا الظن ورواية الآحاد صالحة لذلك والله أعلم وأما المعقول فمن وجهين

أحدهما وهو أن نقول لأبي علي وأبي هاشم لو لم يجز تأخير بيان التخصيص في الأعيان لما جاز تأخير بيان التخصيص في الأزمان لكن جاز هذا فجاز ذلك بيان الملازمة أنه لو لم يجز تأخير بيان المخصص في الأعيان لكان ذلك لأن تأخيره يوهم العموم وهو جهل وهذا المعنى قائم في تأخير المخصص في الآزمان فعدم الجواز هناك يقتضي عدم الجواز ها هنا فإن قيل الفرق من وجهين الأول أن الخطاب المطلق معلوم أن حكمه مرتفع لعلمنا بانقطاع سبب التكليف وليس كذلك المخصوص وثانيهما أن احتمال النسخ في المستقبل لا يمنع المكلف في الحال من العمل أما أن احتمال التخصيص في الحال يمنعه من العمل لأنه لا يدرى أنه هل هو مندرج تحت الخطاب أم لا والجواب عن الأول

أن الله تعالى لو قال لنا صلوكل يوم جمعة لاقتضى ظاهره الدوام فإذا خرج منه ما بعد الموت للدلالة بقي الباقي على ظاهره فإن جاز أن يكون حكم الخطاب مرتفعا مع الحياة والتمكن ولا يدل البتة على ذلك وإن كان ظاهر الخطاب يتناوله جاز مثله في العموم وعن الثاني أن الفرق الذي ذكرتموه إنما يظهر لو أخر الله تعالى البيان عن وقت الحاجة أما إذا أخره عن وقت الخطاب لا عن وقت الحاجة لم يجب على المكلف الاستغال لأن بالفعفلا حاجة في ذلك الوقت إلى تمييز المكلف به غن غيره كما لا حاجة هناك إلى تمييز وقت التكليف عن غيره الدليل الثاني أجمعنا على أنه يجوز أن يأمر الله تعالى المكلفين بالأفعال مع أن كل واحد منهم يجوز أن يموت قبل وقت الفعل فلا يكون مرادا بالخطاب وفي ذلك تشكيك فيمن أريد بالخطاب وهذا هو تخصيص ولم يتقدم بيانه

واحتج أبو الحسين رحمه الله على المنع من تأخير بيان ماله ظاهر اذا استعمل في غيره بوجهين الأول أن العموم خطاب لنا في الحال بالإجماع والمخاطب إما أن لا يقصد إفهامنا في الحال أو يقصد ذلك والأول باطل لوجوه أحدها إنه إن لم يقصد إفهامنا انتقض كونه مخاطبا لأن المعقول من قولنا إنه مخاطب لنا أنه قد وجه الخطاب نحونا ولا معنى لذلك إلا أنه قصد إفهامنا وثانيها أنه لو لم يقصد إفهامنا في الحال مع أن ظاهره يقتضي كونه خطابا لنا في الحال لكان قد أغرانا بأن نعتقد أنه قد قصد إفهامنا في الحال فيكون قد قصد أن نجهل لأن من خاطب قوما بلغتهم فقد أغراهم بأن يعتقدوا فيه أنه قد عنى ما عنوه وثالثها أنه لو لم يقصد إفهامنا لكان عبثا لأن الفائدة في الخطاب إفهام المخاطب ورابعها أنه لو جاز أن لا يقصد إفهامنا بالخطاب جازت مخاطبة العربي

بالزنجية وهو لا يحسنها إذا كان غير واجب إفهام المخاطبين بل ذلك أولى بالجواز لأن الزنجية ليس لها ظاهر عند وقد العربي يدعوه إلى اعتقاد معناه ولو جازت مخاطبة العربي بالزنجية وبين له بعد مدة جازت مخاطبة النائم وبين له بعد مدة ان يقصد الإنسان بالتصويت والتصفيق شيئا يبينه بعد مدة فإن قلت خطا ب الزنج لا يفهم منه العربي شيئا فلم يجز أن يخاطبوا به وليس كذلك خطاب العربي بالمجمل لأن العربي يفهم منه شيئا ما لأن قول الله تعالى وأقيموا الصلاة قد فهم منه الأمر بشئ وإن لم يعرف ما هو قلت فإن جاز أن يكون اسم الصلاة واقعا على الدعاء ويريد الله به غيره ولا يبين لنا جاز أن يكون ظاهر قوله تعالى أقيموا للأمر ولا يستعمله في الأمر ولا يبين لنا ذلك وفي ذلك مساواته لخطاب الزنج لأنا لا نفهم منه شيئا أصلا وأما القسم الثاني وهو أنه أراد إفهامنا في الحال فلا يخلو إما أن يريد أن يفهم أن مراده ظاهره أو غير ظاهره

فإن أراد الآول فقد أراد منا الجهل وإن أراد الثاني فقد أراد منا مالا سبيل إليه ثم قال أبو الحسين وهذه الدلالة تتناول العام المستعمل في الخصوص والمطلق المفيد للتكرار المنسوخ والأسماء والنقولة إلى الشريعة والنكرة إذا أريد بها شئ معين لأن الكل مستعمل في خلاف ظاهره الثاني لو جاز أن يريد بالعموم الخصوص ولا يبين لنا ذلك في الحال ولا يشعرنا بأنه بخلافه لم يكن لنا طريق إلى معرفة وقت الفعل الذي يقف وجوب البيان عليه لأنه لو قيل لنا صلوا غدا جوزنا أن يكون المراد بقوله غدا بعد غد وما بعده أبدا لأن كل ذلك يسمى غدا مجازا ولا يبينه لنافلا يقف وجوب البيان على غاية وفيه تعذر علمنا بالمراد بالخطاب

فإن قلت إذا بين في غد صفة العبادة ثم قال افعلوها الآن علمنا أنه يجب فعلها في ذلك الوقت قلت لا يصح لكم ذلك لأنه يجوز أن يكون عنى بقوله الآن وقتا متراخيا حتى على طريق المجاز ولا يبينه لنا في الحال كما جاز مثله في سائر الألفاظ والجواب عن الآول من حيث المعارضة ومن حيث الجواب اما المعارضة فمن ثلاثة أوجه أحدها أن العموم خطاب لنا في الحال مع إنه لا يجوز اعتقاد استغراقه عند سماعه بل لا بد من أن نفتش الأدلة السمعية والعقلية فننظر هل فيها ما يخصه أم لا فإن لو يوجد فيها ما يخصه + قضى بعمومه وفي زمان التوقف الخطاب بالعموم قائم مقامه مع إنه لا يجوز اعتقاد ظاهره فانتقض قولكم أجاب أبو الحسين رحمه الله عنه بأن من لم يجوز أن يسمع الكلف العام دون الخاص لا يلزمه هذا السؤال ومن جوز ذلك فله أن يجيب عن

السؤال بأن ما يعلمه المكلف من كثرة الأدلة والسنن يجوز معه أن يكون فيها ما يدل على أن المراد بالخطاب غير ظاهره فيصير ذلك كالإشعار بالتخصيص والجواب أما أنه لا يجوز أن يسمع المكلف العام دون الخاص فهذا المذهب باطل عندك وتخريج النقض بالمذهب الباطل باطل وأما قوله علمه بكثرة السنن كالإشعار بالتخصيص قلنا فإذا جوزت أن يكون تجويزه لقيام المخصص في الحال مانعا له من اعتقاد الاستغراق في الحال فلم لا يجوز أن يكون تجويزه لحدوث المخصص في ثاني الحال مانعا له من اعتقاد الاستغراق في الحال فهذا أول المسألة وثانيها أجمعنا على أنه يجوز تأخير بيان المخصص بزمان قصير وأن تعطف جملة من الكلام على جملة أخرى ثم تبين الجملة الأولى عقيب الثانية وأن يبين المخصص بالكلام الطويل وهذه الصور الثلاثة نقض على ما ذكره

فإن قلت أنا لا نجوز تأخير البيان إلا مقدار ما لا ينقطع عن السامع توقع شرط يرد على الكلام وإنما نجوز البيان بالطويل من القول أو الفعل إذا لم يتم البيان إلا بهما وإذا لم يتم إلا كذلك لم يكن فيه تأخير البيان قلت إن ظاهر لفظ العموم يفيد الاستغراق فحال ما سمع ذلك اللفظ يتوجه عليه التقسيم الذي ذكره أبو الحسين من أنه إما أن يكون غرض المخاطب به الإفهام أو لا يكون غرضه الإفهام والثاني باطل فتعين الأول فإما أن يكون غرضه إفهام ما أشعر به الظاهر فيكون مريدا للجهل أو غيره فيكون طالبا ما لا سبيل إليه فإن قلت تجويز السامع أن يأتي المتكلم بعد ذلك الكلام بشرط أو استثناء يمنعه من حمل هذا اللفظ على ظاهره قلت فلم لا يجوز أن يقال في مسألتنا تجويز السامع أن يأتي المتكلم حال إلزام التكليف بدليل مخصص يمنعه من حمل اللفظ على ظاهره وهذا أول المسألة وثالثها أنا نجوز أن يأمر الله تعالى المكلفين بالأفعال مع أن كل واحد

منهم يجوز أن يموت قبل وقت الفعل فلا يكون مرادا بالخطاب وفي ذلك شككنا فيمن أريد بالخطاب وهذا تخصيص لم يتقدم بيانه البتة ورابعها أن غير أبي الحسين من المعتزلة اتفقوا على جواز تأخير بيان النسخ إجمالا وتفصيلا وحينئذ ينتقض دليلهم به لأن اللفظ إذا أفاد الدوام مع أن الدوام غير مراد فإن أراد ظاهره فقد أراد الجهل وإن أراد غير ظاهره فقد أراد ما لاسبيل إليه وما يذكرونه من الفرق فقد ذكرناه وأجبنا عنه وأما من حيث الجواب فمن وجهين الأول أن نقول ما المراد من قولك المخاطب إما أن يكون غرضه إفهامنا أو لا يكون غرضه ذلك إن عنيت بالإفهام إفادة القطع واليقين فليس غرضه ذلك بل غرضه منه الإفهام بمعنى إفادة الاعتقاد الراجح والظن الغالب الغالب مع تجويز نقيضه فلم قلت إنه على هذا التقدير يكون عابثا ويكون مغريا بالجهل

وبهذا الجواب يظهر الفرق بين ما إذا كان الغرض ذلك وبين خطاب العربي بالزنجية لأن هناك لا يمكن أن يكون الغرض إفادة الاعتقاد الراجح فإنه لا يفهم منه شيئا وإن عنيت به أن غرضه إفادة الاعتقاد الراجح كيف كان أعني القدر المشترك بين الاعتقاد الراجح المانع من النقيض وبين الاعتقاد الراجح المجوز للنقيض فهذا مسلم ولكن هذا القدر لا يمنع من ورود المخصص لأنه لو امتنع لكان ذلك الاعتقاد مانعا من النقيض مع أنا فرضناه غير مانع منه ثم الذي يدل على أن الغرض من الخطاب إفادة أصل الاعتقاد الراجح لاإفادة تعالى الاعتقاد الراجح المانع من النقيض هو أن دلالة الأدلة اللفظية تتوقف على كون النحو واللغة والتصريف منقولا بالتواتر على عدم الاشتراك والمجاز والتخصيص والنسخ والإضمار والنقل والتقديم والتأخير وعدم المعارض العقلي والنقلي وكل هذه المقدمات طني وما يتوقف على الظني أولى أن يكون ظنيا فثبت أن الدلائل اللفظية لا تفيد إلا الاعتقاد الراجح وهذا القدر لا ينافيه احتمال ورود المخصص بعده

ومما يحقق ذلك أن الغيم الرطب في الشتاء يفيد ظن نزول المطر ثم قد لا يوجد في بعض الأوقات ثم لا يكون هذ العدم قادحا في ذلك الظن وإلا لتوقف تحقق ذلك الظن على انتفاء هذا العدم فحينئذ يكون ذلك الظن قطعا لا ظنا هذا خلف فكذا ها هنا اللفظ العام لا يفيد إلا ظن الاستغراق وهذا القدر لا يمنع من حدوث المخصص والله أعلم الوجه الثاني في الجواب أن اللفظ العام إن وجد مع المخصص دل المجموع الحاصل منه ومن ذلك المخصص على الخاص وإن وجد خاليا عن المخصص دل هو مع عدم المخصص على الاستغراق وذلك متردد بين هاتين الحالتين على السواء فهو بالنسبة إلى هاتين الحالتين كاللفظ المشترك بالنسبة إلى مفهوماته والمتواطئ بالنسبة إلى جزئياته فكما أنه يجوز عند أبي الحسين ورود اللفظ المشترك والمتواطئ خاليا عن البيان لأنه يفيد أن المراد أحد تلك المسميات فكذا ها هنا اللفظ العام قبل العلم بأنه وجد معه المخصص أو عدم نعلم أن المراد إما العموم أو الخصوص ونعلم أن هذا اللفظ إن وجد معه المخصص أفاد الخاص وإن وجد معه عدم المخصص أفاد العام فلا فرق بينه وبين المشترك فكما جاز تأخير البيان هناك جاز ها هنا

فإن قلت هذا عود إلى القول بأن هذه الصيغة مشتركة بين العموم والخصوص ونحن الآن في التفريغ على أنها للعموم فقط قلت لا نسلم أن هذا عود إلى القول بالاشتراك وذلك ل أنا نسلم أنها وحدها موضوعة للاستغراق وبهذا الكلام انفصلنا عن القائلين بالاشتراك لكنا نقول لا نزاع في حسن ورود المخصص ولا نزاع في أنه عند ورود المخصص لا يفيد إلا الخاص فإذا شككنا في وجود المخصص وعدمه لزمنا أن نشك في أنه هل يفيد الاستغراق أم لا لأن الشك في الشرط شك في المشروط فأين هذا القول من مذهب القائلين بالاشتراك والجواب عن الثاني أن اللفظ وإن كان محتملا إ أنه قد يوجد من القرائن ما يفيد القطع بأن المراد من اللفظ ظاهره وعلى هذا التقدير يزول السؤال فإن لم يوجد شئ من هذه القرائن وحضر الوقت الذي دل ظاهر الصيغة على أنه وقت العمل وجب عليه العمل لأن الظن قائم مقام العلم في اقتضاء وجوب العمل في الحال ولكنه لا يقوم مقامه فيما لا يتعلق به العمل فظن كون اللفظ دالا على وجوب العمل في الحال يكفي في القطع بوجوب العمل في الحال ولكن ظن عدم المخصص لا يكفي في القطع بعدم المخصص فظهر الفرق والله أعلم

المسألة الثالثة وأما الخطاب الذي لا ظاهر له وهو الاسم المشترك كالقرء بين الطهر والحيض فإن له ظاهرا من وجه دون وجه أما الوجه الذي يكن ظاهرا فيه فهو أنه يفيد أن المتكلم لم يرد شيئا غير الطهر وغير الحيض وأنه أراد إما هذا وإما هذا فمن فإن هذا الوجه لا يحتاج إلى بيان وأما الوجه الذي يكون غير ظاهر فهو أنه لا يفيد أي الأمرين إرادة المتكلم الطهر أو الحيض ولا يجب أن يقترن به بيان في الحال والدليل عليه أن الاسم المشترك يفيد أن المراد إما هذا وإما هذا من غير تعيين وهذا القدر يصلح أن يراد تعريفه لأن الإنسان قد يقول لغيره لي إليك حاجة مهمة أوصيك بها ولا يكون غرضه في الحال إلا الإعلام بهذه الجملة وقد يقول رأيت رجلا في موضع كذا وهو يكره وقوف السامع على عينه أو يكره وقوفه عليه من جهته ولهذا وضع في اللغة ألفاظ مهمة كما وضعت ألفاظ لمعان معينة قال الله تعالى ورسلا لم نقصصهم عليك فيضاعفه له أضعافا كثيرة وأيضا

فقد يحسن من الملك أن يدعو بعض عماله فيقول له قد وليتك البلد الفلاني فاخرج إليه في غد وأنا أكتب إليك بتفصيل ما تعمله ويحسن من أحدنا أن يقول لغلامه أنا آمرك أن تخرج إلى السوق يوم الجمعة وتبتاع ما أبينه لك يوم الجمعة ويكون القصد بذلك التأهب لقضاء الحاجة والعزم عليها وهذا هو نظير ما اخترناه من تأخير بيان المجمل وإذا كان كذلك ثبت أنه يجوز إطلاق اللفظ المشترك من غير بيان التعيين فإن قلت الغرض من التكليف هو الفعل والعلم والاعتقاد تابعان وهذا الإبهام يخل بالتمكين من الفعل قلت الغرض من التكليف قبل الوقت هو العلم لا الفعل ف أما في وقت الحاجة فالغرض هو الفعل وهناك يجب البيان احتجوا بأنه لو حسنت المخاطبة بالاسم المشترك من غير بيان في الحال لحسنت مخاطبة العربي بالزنجية مع القدرة عل مخاطبته بالعربية

ولا يبين له في الحال والجامع أن السامع لا يعرف مراد المتكملم عمر بهما على حقيقته فإن قلت الفرق أن العربي لا يفهم من الزنجية شيئا وها هنا يفهم أن المراد أحد معنيي الاسم قلت إما أن تعتبروا في حسن الخطاب حصول العلم بكمال المراد أو تكتفوا بمعرفة المراد من بعض الوجوه والأول يقتضي امتناع تأخير بيان المجمل والثاني يوجب حسن مخاطبة العربي بالزنجية لأن العربي إذ عرف لغة الزنجي المخاطب له علم أنه قد أراد بخطابه شيئا ما إما الأمر وإما النهي وإما غيرهما والجواب أن المعتبر في حسن الخطاب أن يتمكن السامع من أن يعرف به ما أفاده الخطاب وهذا التمكن حاصل في الاسم المشترك لأنه موضوع لأحد هذين المعنيين والراجع فهم ذلك منه بخلاف العربي فإنه لا يتمكن

من أن يعرف ما وضع له خطاب الزنج فوضح الفرق والله أعلم المسألة الرابعة يجوز أن يؤخر الرسول عليه السلام تبليغ ما يوحى إليه إلى وقت الحاجة وقال قوم يجب تقديمه عليه لنا أن في المشاهد قد يكون تقديم الإعلام على حضور وقت العمل قبيحا وقد يكون ترك التقديم قبيحا وقد يكون بحيث يجوز الأمران وإذا كان كذلك لم يمتنع أن يعلم الله تعالى اختلاف مصلحة المكلفين في تقديم الإعلام وفي تركه فيلزم ان لا يكون التقديم واجبا على الإطلاق احتجوا بقوله تعالى يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك والأمر للفور والجواب لا نسلم أنه للفور سلمناه لكن المراد بذلك هو القرآن لأنه هو الذي يطلق عليه القول بأنه منزل من الله تعالى والله أعلم

القسم الرابع في المبين له

القسم الرابع في المبين له وفيه مسائل المسألة الأولى الخطاب المحتاج إلى البيان يجب بيانه لمن أراد الله إفهامه دون من لم يرد أن يفهمه أما الأول فلأنه لو لم يبينه له لكان قد كلفه ما لا سبيل له إلى العلم به وأما الثاني فلأنه لا تعلق له بذلك الخطاب فلا يجب بيانه له ثم الذين أراد الله منهم فهم خطابه ضربان أحدهما أراد منهم فعل ما تضمنه الخطاب إن كان ما تضمنه الخطاب فعلا

والآخر لم يرد منهم الفعل والأولون هم العلماء وقد أراد الله تعالى أن يفهموا مراده بآية الصلاة وأن يفعلوها والآخرون هم العلماء في أحكام الحيض فقد أريد منهم فهم الخطاب ولم يرد منهم فعل ما تضمنه الخطاب والذين لم يرد الله تعالى أن يفهموا مراده ولم يوجب ذلك عليهم ضربان أحدهما لم يرد منهم أن يفعلوا ما تضمنه الخطاب والآخر أراد منهم الفعل والأولون هم أمتنا مع الكتب السالفة لأن الله تعال ما أراد أن يفهموا مراده بها ولا أن يفعلوا مقتضاها والآخر هو النساء في أحكام الحيض لأن الله تعالى أراد منهن التزام أحكام الحيض بشرط أن يفتيهن المفتي ولم يوجب

المسألة الثانية في إسماع المكلف العام من غير إسماعه المخصص

عليهن فهم المراد بالخطاب لأنه لم يوجب عليهن سماع أخبار الحيض فضلا عن بيان مجملها وتخصيص عامها المسألة الثانية يجوز من الله تعالى إن يسمع المكلف العام من غير أن يسمعه ما يخصصه وهو قول النظام وأبي هاشم والفقهاء وقال أبو الهذيل والجبائي لا يجوز ذلك في العام المخصوص بدليل السمع وإن جاز أن يسمعه المخصوص بأدلة العقل وأن لم يعلم السامع أن في العقل ما يدل على تخصيصه لنا ثلاثة أوجه

الأول أن ذلك قد وقع كثيرا لأن كثيرا من الصحابة سمعوا قوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم مع أنهم لم يسمعوا قوله ص نحن معاشر الأنبياء لا نورث وسمعوا قوله تعالى اقتلوا المشركين مع أنهم لم يسمعوا قوله ص سنوا بهم سنة أهل الكتاب إلى زمان عمر رضي الله عنه الثاني أجمعنا على جواز خطابه بالعام المخصوص بالعقل من غير أن يخطر بباله ذلك المخصص فوجب أن يجوز خطابه بالعام المخصوص بالسمع من غير أن يسمعه ذلك المخصص والجامع كونه في الصورتين متمكنا من معرفة المراد الثالث أن الواحد منا كثيرا ما يسمع الألفاظ العامة المخصوصة قبل مخصصاتها النبي وإنكاره مكابرة في الضروريات احتجوا بأمور أحدها أن إسماع العام دون إسماع المخصص إغراء بالجهل

وثانيها أن العام لا يدل على مراد المخاطب بإسماعه وحدة كخطاب العربي بالزنجية وثالثها أن دلالة العام مشروطة بعدم المخصص فلو جاز سماع العام دون سماع المخصص لما جاز الاستدلال بشئ من العمومات إلا بعد الطواف في الدنيا وسؤال كل علماء الوقت أنه هل وجد له مخصص وذلك يفضي إلى سقوط العمومات والجواب عن الأول أن الإغراء غير حاصل لما قدمنا من أنه يفيد ظن العموم لا القطع به وبه خرج الجواب عن الثاني وعن الثالث أن كون اللفظ حقيقة في الاستغراق مجازا في غيره يفيد ظن الاستغراق والظن حجة في العمليات والله أعلم

الكلام في الأفعال

الكلام في الأفعال وفيه مسائل المسألة الاولى اختلفت الأمة في عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على قولين أحدهما قول من ذهب إلى إنه لا يجوز أن يقع منهم ذنب صغيرا كان أو كبيرا لا عمدا ولا سهوا ولا من جهة التأويل وهو قول الشيعة والآخر قول من ذهب إلى جوازه عليهم ثم اختلفوا فيما يجوز من ذلك وما لا يجوز والاختلاف في هذا الباب يرجع إلى أقسام أربعة أحدها ما يقع في باب الاعتقاد وقد اتفقوا على أنه لا يجوز أن يقع منهم الكفر

وقالت الفضيلية من الخوارج إنه قد وقعت منهم ذنوب وكل ذنب عندهم كفر وشرك وأجازت الشيعة إظهار الكفر على سبيل التقية فأما الاعتقاد الخطأ الذي لا يبلغ الكفر مثل أن يعتقد مثلا أن الأعراض باقية ولا يكون كذلك فمنهم من أباه لكونه منفرا ومنهم من جوزه وثانيها باب التبليغ واتفقوا على إنه لا يجوز عليهم التغيير وإلا لزال الوثوق بقولهم وقال قوم يجوز ذلك من جهة السهو وثالثها ما يتعلق بالفتوى واتفقوا أيضا على أنه لا يجوز عليهم الخطأ فيه

وجوزه قوم على سبيل السهو ورابعها ما يتعلق بأفعالهم واختلفت الأمة فيه على أربعة أقوال أحدها قول من جوز عليهم الكبائر عمدا وهؤلاء منهم من قال بوقوع هذا الجائز وهم الحشوية وقال القاضي أبو بكر هذا وإن جاز عقلا ولكن السمع منع من وقوعه وثانيها أنه لا يجوز أن يرتكبوا كبيرة ولا صغيرة عمدا لكن يجوز أن يأتوا بها على جهة التأويل وهو قول الجبائي

وثالثها أنه لا يجوز ذلك لا عمدا ولا من جهة التأويل لكن على سبيل السهو وهم مؤاخذون بما يقع منهم على هذه الجهة وإن كان موضوعا عن أمتهم لأن معرفتهم أقوى فيقدرون على التحفظ عما لا يتأتى لغيرهم ورابعها إنه لا يجوز أن يرتكبوا كبيرة وأنه قد وقعت منهم صغائر على جهة العمد والخطأ والتأويل إلا ما ينفر كالكذب وإن والتطفيف وهو قول أكثر المعتزلة والذي نقول به أنه لم يقع منهم ذنب على سبيل القصد لا صغيرا ولا كبيرا أما السهو فقد يقع منهم لكن بشرط أن يتذكروه في الحال وينبهوا غيرهم على أن ذلك كان سهوا وقد سيقت هذه المسألة في علم الكلام ومن أراد الاستقصاء فعليه بكتابنا في عصمة الأنبياء والله أعلم

المسألة الثانية في دلالة فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم المجرد

المسألة الثانية اختلفوا في أن فعل الرسول ص بمجرده هل يدل على حكم في حقنا أم لا على أربعة أقوال أحدها أنه للوجوب وهو قول ابن سريج وأبي سعيد الاصطخري وأبي علي بن خيران

وثانيها أنه للندب ونسب ذلك إلى الشافعي رضي الله عنه وثالثها أنه للإباحة وهو قول مالك رحمه الله ورابعها يتوقف في الكل وهو قول الصيرفي وأكثر المعتزلة وهو المختار لنا أنا إن جوزنا الذنب عليه جوزنا في ذلك الفعل أن يكون ذنبا له ولنا وحينئذ لا يجوز لنا فعله وإن لم نجوز الذنب عليه جوزنا كونه مباحا ومندوبا وواجبا وبتقدير أن يكون واجبا جوزنا أن يكون ذلك من خواصه وأن لا يكون ومع احتمال هذه الأقسام امتنع الجزم بواحد منها واحتج القائلون بالوجوب بالقرآن والإجماع والمعقول أما القرآن فسبع آيات

إحداها قوله تعالى فليحذر الذين يخالفون عن أمره والأمر حقيقة في الفعل على ما تقدم بيانه والتحذير عن مخالفة فعله يقتضي وجوب موافقة فعله وثانيتها قوله تعالى لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وهذا مجراه مجرى الوعيد فيمن ترك التأسي به ولا معنى للتأسي به إلا أن يفعل الإنسان مثل فعله وثالثتها قوله تعالى واتبعوه وظاهر الأمر للوجوب والمتابعة هي الإتيان بمثل فعله

ورابعتها قوله تعالى قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني دلت الآية على أن محبة الله مستلزمة للمتابعة لكن المحبة واجبة بالإجماع ولازم الواجب واجب فمتابعته واجبة وخامستها قوله تعالى وما آتاكم الرسول فخذوه فإذا فعل فقد آتانا بالفعل فوجب علينا أن نأخذه وسادستها قوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول دلت الآية بإطلاقها على وجوب طاعة الرسول والآتي بمثل فعل الغير أجل أن ذلك الغير فعله طائع لذلك الغير فوجب أن يكون ذلك واجبا وسابعتها أن قوله تعالى فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها بين أنه تعالى إنما زوجه بها ليكون حكم أمته مساويا لحكمه في ذلك وهذا هو المطلوب

وأما الإجماع فلأن الصحابة رضي الله عنهم بأجمعهم اختلفوا في الغسل من التقاء الختانين فقالت عائشة رضي الله عنها فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا فرجعوا إلى ذلك وإجماعهم على الرجوع حجة وهو المطلوب وإنما كان لفعل رسول الله ص فقد أجمعوا ها هنا على أن مجرد الفعل للوجوب

ولأنهم واصلوا الصيام لما واصل وخلعوا نعالهم في الصلاة لما خلع وأمرهم عام الحديبية بالتحلل بالحلق فتوقفوا فشكا إلى أم سلمة

فقالت أخرج إليهم واحلق واذبح ففعل فذبحوا وحلقوا متسارعين

ولأنه خلع خاتمه فخلعوا ولأن عمر رضي الله عنه كان يقبل الحجر الأسود ويقول إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله ص يقبلك لما قبلتك وأنه عليه الصلاة والسلام قال في جواب مسأل أم سلمة عن قبلة

الصائم ألا أخبرته كما أنني أقبل وأنا صائم وأما المعقول فمن وجهين الأول أن الاحتياط يقتضي حمل الشئ على أعظم مراتبه وأعظم مراتب فعل الرسول ص أن يكون واجبا عليه وعلى أمته فوجب حمله عليه بيان الأول أن الاحتياط يتضمن دفع ضرر الخوف عن النفس بالكلية ودفع الضرر عن النفس واجب بيان الثاني أن أعظم مراتب الفعل أن يكون واجبا على الكل الثاني أنه لا نزاع في وجوب تعظيم الرسول ص في الجملة وإيجاب الإتيان بمثل فعله تعظيم له بدليل العرف والتعظيمان هو يشتركان في قدر من المناسبة فيجمع بينهما بالقدر المشترك فيكون ورود الشرع بإيجاب ذلك

التعظيم يقتضي وروده بأن يجب على الأمة الإتيان بمثل فعله والجواب عن الأول لا نسلم أن لفظ الأمر حقيقة في الفعل على ما تقدم سلمناه لكنه بالإجماع أيضا حقيقة في القول فليس حمله على ذلك بأولى من حمله على هذا سلمناه لكن ها هنا ما يمنع من حمله على الفعل وهو من وجهين الأول أن تقدم ذكر الدعاء وذكر المخالفة يمنع منه فإن الإنسان إذا قال لعبده لا تجعدعائي كدعاء غيري واحذر مخالفة أمري فهم منه أنه أراد بالأمر القول الثاني وهو أنه قد أريد به القول بالإجماع فلا يجوز حمله على الفعل لأن اللفظ المشترك لا يجوز حمله على معنييه سلمناه لكن الهاء راجعة إلى الله تعالى لأنه أقرب المذكورين فإن قلت القصد هو الحث على اتباع الرسول ص لأنه تعالى قال لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا فحث بذلك

على الرجوع إلى أقواله وأفعاله ثم عقب ذلك بقوله فليحذر الذين يخالفون عن أمره فعلمنا أنه بعث بذلك على التزام ما كان دعا إليه من الرجوع إلى أمر النبي عليه الصلاة والسلام وأيضا فلم لا يجوز الحكم بصرف الكناية إلى الله تعالى والرسول ص قلت الجواب عن الأول أن صرف هذا الضمير إلى الله تعالى مؤكد لهذا الغرض أيضا لأنه لما حث على الرجوع إلى أقوال الرسول وأفعاله ثم حذر عن مخالفة أمر الله تعالى كان ذلك تأكيدا لما هو المقصود من متابعة الرسول ص وعن الثاني أن الهاء كناية عن واحد فلا يجوز عوده إلى الله تعالى والى الرسول معا سلمنا عود الضمير إلى الرسول فلم قلت إن عدم الإتيان بمثل فعله مخالفة لفعله فإن قلت يدل عليه أمران الأول أن المخالفة ضد الموافقة لكن موافقة فعل الغير هو أن تفعل مثل فعله فمخالفته هو أن لا تفعل مثل فعله

الثاني وهو أن المعقول من المختلفين هما اللذان لا يقوم أحدهما مقام الآخر والعدم والوجود لا يقوم أحدهما مقام الآخر بوجه أصلا فكانا في غاية المخالفة فثبت إن عدم الإتيان بمثل فعله مخالف للإتيان بمثل فعله من كل الوجوه قلت هب أنها في أصل الوضع كذلك لكنها في عرف الشرع ليست كذلك ولهذا لا يسمى إخلال الحائض بالصلاة مخالفة للمسلمين بل هي عبارة عن عدم الإتيان بمثل فعله إذا كان الإتيان به واجبا وعلى هذا لا يسمى ترك مثل فعل النبي ص مخالفة إلا إذا دل فعله على الوجوب فإذا أثبتنا ذلك بهذا الدليل لزم الدور وهو محال والواجب عن الثاني لم قلت إن الإتيان بمثل فعل الغير مطلقا يكون تأسيا به بل عندنا كما يشترط في التأسي المساواة في الصورة يشترط فيه

المساواة في الكيفية حتى أنه لو صام واجبا فتطوعنا بالصوم لم نكن متأسين به وعلى هذا لا يكون مطلق فعل الرسول عليه الصلاة والسلام سببا للوجوب في حقنا لأن فعله قدلا يكون واجبا فيكون فعلنا إياه على سبيل الوجوب قادحا في التأسي وتمام الأسئلة سيأتي في المسألة الآتية إن شاء الله تعالى والجواب عن الثالث أن قوله واتبعوه إما أن لا يفيد العموم أو يفيده فإن كان الأول سقط التمسك به وإن كان الثاني فبتقدير أن يكون ذلك الفعل واجبا عليه وعلينا وجب أن نعتقد فيه أيضا هذا الاعتقاد والحكم بالوجوب يناقضه فوجب أن لا يتحقق وهذا هو الجواب وسلم عن التمسك بقوله تعالى فاتبعوني والجواب عن الخامس لا نسلم أن قوله تعالى ما آتاكم الرسول فخذوه يتناول الفعل ويدل عليه وجهان

الأول أن قوله تعالى وما نهاكم عنه فانتهوا يدل على أنه عنى بقوله ما آتاكم ما أمركم الثاني أن الإتيان إنما يتأتى في القول لأنا نحفظه وبامتثاله إن يصير كأننا أخذناه فيصير كأنه ص أعطاناه والجواب عن السادس أن الطاعة هي الإتيان بالمأمور أو بالمراد على اختلاف المذهبين فلم قلت إن مجرد فعل الرسول ص يدل على أنا أمرنا بمثله أو أريد منا مثله وهذا هو أول المسألة والجواب عن الإجماع من وجوه الأول أن هذه أخبار آحاد فلا تفيد العلم ولهم أن يقولوا هب أنها تفيد الظن لكن لما حصل ظن كونه دليلا

ترتب عليه ظن ثبوت الحكم فيكون العمل به دافعا لضرر مظنون فيكون واجبا وتقرير هذه الطريقة سيجئ إن شاء الله تعالى في مسألة القياس الثاني أن أكثر هذه الأخبار واردة في الصلاة والحج فلعله ص كان قد بين لهم أن شرعه وشرعهم سواء في هذه الأمور قال ص صلوا كما رأيتموني أصلي وعليه خرج مسألة التقاء الختانين وقال خذوا عني مناسككم وعليه خرج تقبيل عمر للحجر الأسود وقال هذا وضوئي ووضوء الآنبياء من قبلي وأما الوصال فإنهم ظنوا لما أمرهم بالصوم واشتغل معهم به أنه قصد بفعله بيان الواجب ففعلوا فرد عليهم ظنهم وأنكر عليهم الموافقة وأما خلع النعل فلا نعلم أنهم فعلوا ذلك واجبا وأيضا لا يمتنع أن يكونوا لما رأوه قد خلع نعله مع تقدم قوله تعالى

خذوا زينتكم عند كل مسجد ظنوا أن خلعها مأمور به غير مباح لأنه لو كان مباحا لما ترك به المسنون في الصلاة على أنه ص قال لهم لم خلعتم نعالكم فقالوا لأنك خلعت نعلك فقال إن جبريل أخبرني أن فيها أذى فبين بهذا أنه ينبغي أن يعرفوا الوجه الذي أوقع عليه فعله ثم يتبعونه وأما خلع الخاتم فهو مباح فلما خلع أحبوا موافقته لاعتقادهم وجوب ذلك عليهم والجواب عن الوجه الأول من المعقول أن الاحتياط إنما يصار إليه إذا خلا عن الضرر قطعا وها هنا ليس كذلك لاحتمال أن يكون ذلك الفعل حراما على الأمة وإذا احتمل الأمران لم يكن المصير إلى الوجوب احتياطا وعن الثاني إن ترك الإتيان بمثل ما يأتي به الملك العظيم قد يكون تعظيما ولذلك يقبح من العبد أن يفعل كل ما يفعل سيده واحتج القائلون بالندب بالقرآن والإجماع والمعقول أما القرآن فقوله تعالى لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ولو كان التأسي واجبا لقال عليكم فلما قال لكم دل على عدم

الوجوب ولما أثبت الأسوة الحسنة دل على رجحان جانب الفعل على جانب الترك فلم يكن مباحا وأما الإجماع فهو أنا رأينا أهل الأعصار متطابقين على الاقتداء في الأفعال بالنبي ص وذلك يدل على انعقا الإجماع على أنه يفيد الندب وأما المعقول فهو إن فعله عليه الصلاة والسلام إما أن يكون راجح العدم أو مساوى العدم أو مرجوح العدم والأول باطل لما ثبت أنه لا يوجمنه الذنب والثاني باطل ظاهرا لأن الاشتغال به عبث والعبث مزجور عنه بقوله تعالى أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا فتعين الثالث وهو أن يكون مرجوح العدم ثم إنا لما تأملنا أفعاله وجدنا بعضها مندوبا وبعضها واجبا والقدر المشترك هو رجحان جانب الوجود وعدم الوجوب ثابت بمقتضى الأصل فأثبتنا الرجحان مع عدم الوجوب والجواب عن الأول ما تقدم أن التأسي في إيقاع الفعل على الوجه الذي أوقعه عليه فلوا

كان فعله واجبا أو مباحا وفعلناه مندوبا لما حصل التأسي وعن الثاني أنا لا نسلم أنهم استدلوا بمجرد الفعل فلعلهم وجدوا مع الفعل قرائن أخرى وعن الثالث لا نسلم أن فعل المباح عبث لأن العبث هو الخالي عن الغرض فإذا حصلت في المباح منفعة ما لم يكن عبثا بل من حيث حصول النفع به خرج عن العبث فلم قلتم بأنه خلا عن الغرض ثم حصول الغرض في التأسي بالنبي ص ومتابعته في أفعاله بين فلا يعد من أقسام العبث والله أعلم واحتج القائلون بالإباحة بأنه لما ثبت أنه لا يجوز صدور الذنب منه ثبت أن فعله لا بد أن يكون إما مباحا أو مندوبا أو واجبا وهذه الأقسام الثلاثة مشتركة في رفع الحرج عن الفعل فأما رجحان جانب الفعل فلم يثبت على وجوده دليل لأن الكلام فيه

المسألة الثالثة في أقوال العلماء في وجوب التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم

وثبت على عدمه لأن دليل هذا الرجحان كان معدوما والأصل في كل شئ بقاؤه على ما كان فثبت بهذأنه لا حرج في فعله قطعا ولا رجحان في فعله ظاهرا فهذا الدليل يقتضي في كل أفعاله أن يكون مباحا ترك العمل به في الأفعال التي علم كونها واجبة أو مندوبة فيبقى معمولا به في الباقي وإذا ثبت كونه مباحا ظاهرا وجب أن يكون في حقنا كذلك للآية الدالة على وجوب التأسي ترك العمل به فيما كان من خواصه فيبقى معمولا به في الباقي والجواب هب أنه في حقه كذلك فلم يجب أن يكون في حق غيره كذلك والله أعلم المسألة الثالثة قال جماهير الفقهاء والمعتزلة التأسي به واجب ومعناه أنا إذا علمنا أن الرسول ص فعل فعلا على وجه الوجوب فقد تعبدنا أن نفعله على وجه الوجوب

وإن علمنا أنه تنفل به كنا متعبدين بالتنفل به وإن علمنا أنه فعله على وجه الإباحة كنا متعبدين باعتقاد إباحته لنا وجاز لنا أن نفعله وقال أبو علي بن خلاد من المعتزلة نحن متعبدون بالتأسي به في العبادات دون غيرها كالمناكحات إلا والمعاملات ومن الناس من أنكر ذلك في الكل واحتج أبو الحسين بالقرآن والإجماع أما القرآن فقوله تعالى لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة والتأسي بالغير في أفعاله هو أن يفعل على الوجه الذي فعل ذلك الغير ولم يفرق الله تعالى بين أفعال الرسول ص إذا كانت مباحة أو لم تكن مباحة

وقوله تعالى واتبعوه أمر بالاتباع فيجب وأما الإجماع فهو أن السلف رجعوا إلى أزواجه في قبلة الصائم وفي أن من أصبح جنبا لم يفسد صومه وفي تزوج النبي ص ميمونة وهو حرام وذلك يدل على أن أفعاله لا بد من أن يمتثل فيها طريقه

ولقائل أن يقول على الدليل الأول الآية تقتضي التأسي به مرة واحدة كما أن قول القائل لغيره لك في الدار ثوب حسن يفيد ثوبا واحدا فإن قلت هذا إن ثبت تم غرضنا من التعبد بالتأسي به ص في الجملة وأيضا فالآية تفيد إطلاق كون النبي ص أسوة حسنة لنا ولا يطلق وصف الإنسان بأنه أسوة حسنة إذا لم يجز لزيد لزيد أن يتبعه إلا في فعل واحد وإنما يطلق ذلك إذا كان ذلك الإنسان قدوة لزيد يقتدي به في الأمور كلها إلا ما خصه الدليل قلت الجواب عن الأول أن أحدا لا ينازع في التأسي به ص في الجملة لأنه لما قال صلوا كما رأيتموني أصلي وخذوا عني مناسككم فقد أجمعوا على وقوع التأسي به ها هنا والآية ما دلت إلا على المرة الواحدة فكان التأسي به ص في هذه الصورة كافيا في العمل بالآية لا سيما والآية إنما وردت على صيغة الاخبار عما مضى وذلك يكفي فيه وقوع التأسي به فيما مضى والجواب عن الثاني إنك إن أردت به أنه لا يصح إطلاق اسم الأسوة عليه إلا إذا

كان أسوة في كل شئ فهذا فيه ممنوع ثم الذي يدل على فساده وجهان الأول أن من تعلم من إنسان نوعا واحدا من العلم يقال له إن لك في فلان أسوة حسنة الثاني وهو أن يقال لك في فلان أسوة حسنة في كل شئ ويقال لك من فلان أسوة حسنة في هذا الشدون ذاك ولو اقتضى اللفظ العموم لكان الأول تكريرا والثاني نقضا وإن أردت أن يصح إطلاق اسم الأسوة إذا كان أسوة في بعض الأشياء فهذا مسلم ولكنه ص عندنا أسوة لنا في أقواله وفي كثير من أفعاله التي أمرنا بالاقتداء به فيها كقوله ص صلوا كما رأيتموني أصلي وخذوا عني مناسككم والجواب عن الحجة الثانية ان قوله تعالى واتبعوه مطلق في الاتباع فلا يفيد العموم في كل شئ من الاتباعات صلى والأمر لا يقتضي التكرار فلا يفيد العموم في كل الأزمنة

فإن قلت ترتيب الحكم على الاسم يشعر بأن المسمى علة لذلك الحكم فماهية المتابعة علة للأمر بها قلت فعلى هذا لو قال السيد لعبده اسقني يلزم أن يكون أمرا له بجميع أنواع السقي في كل الأزمنة ولو قال له قم يلزم أن يكون أمرا له بجميع أنواع القيام في كل الأزمنة وفي هذه الأمثلة كثرة وما ذكرناه كاف في إفساد ما قالوا والله أعلم وأما الإجماع فقد سبق الكلام عليه والله أعلم

القسم الثاني في التفريع على وجوب التأسي

القسم الثاني في التفريع على وجوب التأسي المسألة الأولى لما عرفت أن التأسي مطابقة فعل المتأسى وقال به على الوجه الذي وقع فعله عليه وجب معرفة الوجه الذي يقع عليه فعل الرسول ص وهو ثلاثة الإباحة والندب والوجوب أما الإباحة فتعرف بطرق أربعة أحدها أن ينص الرسول ص على أنه مباح وثانيها أن يقع امتثالا لآية دالة على الإباحة وثالثها أن يقع بيانا لآية دالة على الإباحة

ورابعها أنه لما ثبت أنه لا يذنب ثبت أنه لا حرج عليه في ذلك الفعل ولا في تركه وانتفى الوجوب والندب بالبقاء على الأصل فحينئذ يعرف كونه مباحا وأما الندب أنه فيعرف بتلك الثلاثة الأول مع أربعة أخرى أحدها أن يعلم من قصده ص أنه قصد القربة بذلك الفعل فيعلم أنه راجح الوجود ثم نعرف انتقاء الوجوب وهو بحكم الاستصحاب فيثبت الندب وثانيها أن ينص على أنه كان مخيرا بين ما فعل وبين فعل ما ثبت أنه ندب لأن التخيير لا يقع بين الندب وبين ما ليس بندب

وثالثها أن يقع قضاء لعبادة كانت مندوبة ورابعها أن يداوم على الفعل ثم يخل به من غير نسخ فتكون إدامته عليه الصلاة والسلام دليلا على كونه طاعة وإخلاله به من غير نسخ دليلا على عدم الوجوب وأما الوجوب فيعرف بتلك الثلاثة الأول مع خمسة أخرى أحدها الدلالة على أنه كان مخيرا بينه وبين فعل آخر قد ثبت وجوبه لأن التخيير لا يقع بين الواجب وبين مال ليس بواجب وثانيها أن يكون قضاء لعبادة قد ثبت وجوبها وثالثها أن يكون وقوعه مع أمارة قد تقرر في الشريعة أنها أمارة الوجوب كالصلاة بأذان وإقامة

ورابعها أن يكون جزاء لشرط فوجب كفعل ما وجب بالنذر وخامسها أن يكولو لم يكن واجبا لم يجز كالجمع بين ركوعين في صلاة الكسوف المسألة الثانية في الفعل إذا عارضه معارض منه ص فهو إما أن يكون قولا أو فعلا أما القول فإما أن يعلم أن المتقدم هو القول أو الفعل أو لا يعلم واحد منهما أما القسم الأول وهو أن يكون المتقدم هو القول فالفعل المعارض له إما أن يحصل عقيبه أو متراخيا عنه

فإن كان متعقبا فإما أن يكون القول متناولا له خاصة أو لأمته خاصة أوله ولهم معا لا يجوز أن يتناوله خاصة إلا على قول من يجوز نسخ الشئ قبل حضور وقته وإن تناول أمته خاصة وجب المصير إلى القول دون الفعل وإلا كان القول لغو ولا يلغو الفعل لأن حكمه ثابت في الرسول ص وإن كان الخطاب يعمه وإياهم دل فعله على أنه مخصوص من القول وأمته داخلة فيه لا محالة وأن كان الفعل متراخيا عن القول فإن كان القول عاما لنا وله صار مقتضاه منسوخا عنا وعنه وإن تناوله دونه كان نسخا عنا دونه لأن القول لم يتناوله وإن تناوله دوننا كان منسوخا عنه دوننا ثم يلزمنا مثل فعله لوجوب التأسي به القسم الثاني أن يكون المتقدم هو الفعل فالقول المعارض له إما أن يحصل عقيبه أو متراخيا عنه فإن كان متعقبا فإما أن يكون القول متناولا له خاصة أو لأمته خاصة أو عاما فيه وفيهم فإن كان متناولا له خاصة وقد كان الفعل المتقدم دالا على لزوم مثله لكل مكلف في المستقبل فيصير ذلك القول المختص به مخصصا له عن ذلك العموم

وإن كان متناولا لأمته خاصة دل على أن حكم الفعل مختص به دون أمته وإن كان عاما فيه وفيهم دل على سقوط حكم الفعل عنه وعنهم وأما إن كان القول متراخيا عن الفعل فإن كان متناولا له ولأمته فيكون القول ناسخا لحكم الفعل عنه وعن أمته وإن كان يتناول أمته دونه فيكون منسوخا عنهم دونه وإن كان يتناوله دون أمته فيكون منسوخا عنه دون أمته القسم الثالث إذا لم يعلم تقدم أحدهما على الآخر فها هنا يقدم القول على الفعل ويدل عليه وجهان الأول أن القول أقوى من الفعل والأقوى راجح وإنما قلنا أن القول أقوى لأن دلالة القول تستغني عن الفعل ودلالة الفعل لا تستغني عن القول والمستغنى أقوى من المحتاج

والثاني أنا نقطع بأن القول قد تناولنا وأما الفعل فبتقدير أن يتأخر كان متناولا لنا وبتقدير أن يتقدم لا يتناولنا فكون القول متناولا لنا معلوم وكون الفعل متناولا لنا مشكوك والمعلوم مقدم على المشكوك فرع نهى رسول الله ص عن استقبال القبلة واستدبارها في قضاء الحاجة صلى الله عليه وسلم ثم جلس في البيوت لقضاء الحاجة مستقبل بيت المقدس

فعند الشافعي رضي الله عنه أن نهيه مخصوص بفعله في الصحراء حتى يجوز استقبال القبلة واستدبارها في البيوت لكل أحد

وعند الكرخي رحمه الله يجب إجراء النهي على إطلاقه في الصحراء والبنيان فكان ذلك من خواص الرسول ص وتوقف القاضي عبد الجبار في المسألة حجة الشافعي رضي الله عنه أن النهي عام ومجموع الدليل الذي يوجب علينا أن نفعل مثل ما فعل الرسول عليه الصلاة والسلام مع كونه مستقبل القبلة في البنيان عند قضاء الحاجة أخص من ذلك النهي والخاص مقدم على العام فوجب القول بالتخصيص والله أعلم أما إذا كان المعارض للفعل فعلا آخر فذلك على وجهين الأول أن يفعل الرسول ص فعلا يعلم بالدليل أن غيره مكلف به ثم نراه بعد ذلك قد أقر بعض الناس على فعل ضده فنعلم أنه خارج منه الثاني إذا علمنا أن ذلك الفعل إنما يلزم أمثاله الرسول ص في مثل

تلك الأوقات ما لم يرد دليل ناسخ لم يفعل عليه الصلاة والسلام ضده في مثل ذلك الوقت فنعلم أنه كان قد نسخ عنه تنبيه التخصيص والنسخ في الحقيقة إنما لحقا ما دل على أن ذلك الفعل لازم لغيره وأنه لازم له في مستقبل الأوقات وإنما يقال إن ذلك الفعل قد لحقه النسخ بمعنى أنه قد زال التعبد بمثله وأن التخصيص قد لحقه على معنى أن بعض المكلفين لا يلزمه مثله والله أعلم

القسم الثالث في تعبد الرسول صلى الله عليه وسلم بشرع من قبله

القسم الثالث في أن الرسول ص هل كان متعبدا بشرع من قبله وفيه بحثان البحث الأول أنه قبل النبوة هل كان متعبدا بشرع من قبله أثبته قوم ونفاه آخرون وتوقف فيه ثالث احتج المنكرون بأمرين الأول أنه لو كان متعبدا بشرع أحد لوجب عليه الرجوع إلى علماء تلك الشريعة والاستفتاء منهم والأخذ بقولهم ولو كان كذلك لاشتهر ولنقل بالتواتر قياسا على سائر أحواله فحيث لم ينقل علمنا أنه ما كان متعبدا بشرعهم

الثاني أنه لو كان على ملة قوم لافتخر به أولئك القوم ولنسبوه إذا إلى أنفسهم ولاشتهر ذلك فإن قلت ولو لم يكن متعبدا بشرع أحد لاشتهر ذلك قلت الفرق أن قومه ما كانوا على شرع أحد فبقاؤه لا على شرع البتة لا يكون شيئا بخلاف العادة فلا تتوفر الدواعي على نقله أما كونه على شرع لما كان بخلاف عادة قومة فوجب أن ينقل احتج المثبتون بأمرين الأول أن دعوة من تقدمه كانت عامة فوجب دخوله فيها الثاني أنه كان يركب البهيمة ويأكل اللحم ويطوف بالبيت والجواب عن الأول أنا لا نسلم عموم دعوة من تقدمه

سلمناه لكن لا نسلم وصول تلك الدعوة إليه بطريق يوجب العلم أو الظن الغالب وهذا هو المراد من زمان الفترة وعن الثاني أن نقول أما ركوب البهائم فهو حسن في العقل إذا كان طريقا إلى حفظها بالعلف وغيره وأما أكله لحم المذكى فحسن أيضا لأنه ليس فيه مضرة على حيوان وأما طوافه بالبيت فبتقدير ثبوته لا يجب لو فعله من غير شرع أن يكون حراما البحث الثاني في حاله عليه السلام بعد النبوة قال جمهور المعتزلة وكثير من الفقهاء أنه لم يكن متعبدا بشرع أحد

وقال قوم من الفقهاء بل كان متعبدا بذلك إلا ما استثنا الدليل الناسخ ثم اختلفوا فقال قوم كان متعبدا بشرع إبراهيم وقيل بشرع موسى وقيل بشرع عيسى واعلم أن من قال إنه كان متعبدا بشرع من قبله إما أن يريد به أن الله تعالى كان يوحي إليه بمثل تلك الأحكام التي أمر بها من قبله أو يريد أن الله تعالى أمره باقتباس الأحكام من كتبهم فإن قالوا بالأول فإما أن يقولوا به في كل شرعه أو في بعضه والأول معلوم البطلان بالضرورة لأن شرعنا يخالف شرع من قبلنا في كثير من الأمور والثاني مسلم ولكن ذلك لا يقتضي إطلاق القول بأنه كان متعبدا بشرع غيره لأن ذلك يوهم التبعية وأنه ص ما كان تبعا لغيره بل كان أصلا في شرعه وأما الاحتمال الثاني وهو حقيقة المسألة فيدل على بطلانه وجوه

الأول لو كان متعبدا بشرع أحد لوجب أن يرجع في أحكام الحوادث إلى شرعه وأن لا يتوقف إلنزول الوحي لكنه لم يفعل ذلك لوجهين الأول أنه لو فعل لاشتهر والثاني أن عمر رضي الله عنه طالع ورقة من التوراة فغضب رسول الله عليه الصلاة والسلام وقال لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي ولما لم يكن كذلك علمنا أنه لم يكن متعبدا بشرع أحد فإن قيل الملازمة ممنوعة لاحتمال أن يقال إنه ص علم في تلك الصور أنه غير متعبد فيها بشرع من قبله فلا جرم توقف فيها على نزول الوحي أو لأنه عليه الصلاة والسلام علم خلو شرعهم عن حكم تلك الوقائع فانتظر الوحي أو لأن احكام تلك الشرائع إن كانت منقولة بالتواتر فلا يحتاج في

معرفتها إلى الرجوع إليهم وإلى كتبهم وإن كانت منقولة بالآحاد لم يجز قبولها لأن أولئك الرواة كانوا كفارا ورواية الكافر غير مقبولة سلمنا الملازمة لكن قد ثبت رجوعه إلى التوراة في الرجم لما احتكم إليه اليهود والجواب قوله إنما لم يرجع إليها لأنه عليه الصلاة والسلام علم أنه غير متعبد فيها بشرع من قبله قلنا فلما لم يرجع في شئ من الوقائع إليهم وجب أن يكون ذلك لأنه علم أنه غير متعبد في شئ منها بشرع من قبله

قوله إنما لم يرجع إليها لعلمه بخلو كتبهم عن تلك الوقائع قلنا العلم بخلو كتبهم عنها لا يحصل إلا بالطلب الشديد والبحث الكثير فكان يجب أن يقع منه ذلك البحث والطلب قوله ذلك الحكم إما أن يكون منقولا بالتواتر أو بالآحاد قلنا يجوز أن يكون متن الدليل متواترا إلا أنه لا بد في العلم بدلالته على المطلوب من نظر كثير وبحث دقيق فكان يجب اشتغال النبي عليه الصلاة والسلام بالنظر في كتبهم والبحث عن كيفية دلالتها على الأحكام قوله إنه رجع في الرجم إلى التوراة قلنا لم يكن رجوعه إليها رجوع مثبت للشرع بها والدليل عليه أمور أحدها أنه لم يرجع إليها في غير الرجم وثانيها أن التوراة محرفة عنده فكيف يعتمد عليها وثالثها أن من أخبره بوجود الرجم في التوراة لم يكن ممن يقع العلم بخبره فثبت أن رجوعه إليها كان ليقرر عليهم أن ذلك الحكم كما أنه ثابت في شرعه فهو أيضا ثابت في شرعهم وأنهم أنكروه كذبا وعنادا

الحجة الثانية أنه عليه السلام لو كان متعبدا بشرع من قبله لوجب على علماء الأعصار أن يرجعوا في الوقائع إلى شرع من قبله ضرورة أن التأسي به واجب وحيث لم يفعلوا ذلك البتة عمنا بطلان ذلك الحجة الثالثة أنه عليه الصلاة والسلام صوب معاذا في حكمه باجتهاد نفسه إذا عدم حكم الحادثة في الكتاب والسنة ولو كان متعبدا بحكم التوراة كما تعبد بحكم الكتاب لم يكن له العمل باجتهاد نفسه حتى ينظر في التوراة والإنجيل فإن قلت إن رسول الله ص لم يصوب معاذا في العمل بالاجتهاد إلا إذا عدمه في الكتاب والتوراة كتاب ولأنه لم يذكر التوراة لأن في

القرآن آيات دالة على الرجوع إليها كما أنه لم يذكر الإجماع لهذا السبب قلت الجواب عن الآول من وجهين الأول أنه لا يفهم من إطلاق الكتاب إلا القرآن فلا يحمل على غير إلا بدليل الثاني أنه لم يعهد من معاذ قط تعلم التوراة والإنجيل والعناية بتميز المحرف منها عن غيره كما عهد منه تعلم القرآن وبه ظهر الجواب عن الثاني الحجة الرابعة لو كانت تلك الكتب حجة علينا لكان حفظها من فروض الكفايات كما في القرآن والأخبار ولرجعوا إليها في مواضع اختلافهم حيث أشكل عليهم كمسألة العول وميراث الجد والمفوضة وبيع أم الولد وحد الشرب والربا في غير النسيئة ودية الجنين فقال والرد بالعيب بعد الوطء والتقاء الختانين وغير ذلك من الأحكام ولما لم ينقل عن واحد منهم مع طول أعمارهم وكثرة وقائعهم واختلافاتهم مراجعة التوراة لا سيما وقد أسلم من أحبارهم من تقوم

الحجة بقولهم كعبد الله بن سلام وكعب ووهب وغيرهم ولا يجوز القياس إلا بعد اليأس من الكتاب وكيف يحصل اليأس قبل العلم دل على أنه ليس بحجة احتجوا بأمور أحدها قوله تعالى إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون وثانيها قوله تعالى فبهداهم اقتده أمره أن يقتدي بهم

وثالثها قوله تعالى إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ورابعها قوله تعالى أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وخامسها قوله تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والجواب عن الأول أن قوله يحكم بها النبيون لا يمكن إجراؤه على ظاهره لأن جميع النبيين لم يحكموا بجميع ما في التوراة وذلك معلوم بالضرورة فوجب إما تخصيص الحكم وهو أن كل النبيين حكموا ببعضه وذلك لا يضرنا فإن نبينا حكم بما فيه من معرفة الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله أو تخصيص النبيين وهو أن النبيين حكموا بكل ما فيه وذلك لا يضرنا وعن الثاني أنه تعالى أمر بأن يقتدى بهدي مضاف إلى كلهم وهداهم الذي اتفقوا عليه هو الأصول دون ما وقع فيه النسخ

وعن الثالث أنه يقتضي تشبيه الوحي بالوحي لا تشبيه الموحى به بالموحى به وعن الرابع أن الملة محمولة على الأصول دون الفروع ويدل عليه أمور أحدها أنه يقال ملة الشافعي وأبي حنيفة واحد وإن كان مذهبهما في كثير من الشرعيات مختلفا وثانيها قوله بعد هذه الآية وما كان من المشركين وثالثها أن شريعة ابراهيم عليه السلام قد اندرست وعن الخامس أن الآية تقتضي أنه وصى محمدا عليه الصلاة والسلام بالذي وصى به نوحا عليه السلام من أن يقيسوا الدين ولا يتفرقوا فيه وأمرهم بإقامة الدين لا يدل على اتفاق دينهما كما أن أمر الإثنين أن يقوما بحقوق الله

تعالى لا يدل على أن الحق على أحدهما مثل الحق على الآخر وعلى أن الآية تدل على أنه تعبد محمدا بما وصى به نوحا عليهما السلام والله أعلم

الكلام في الناسخ والمنسوخ

الكلام في الناسخ والمنسوخ وهو مرتب على أقسام القسم الأول في حقيقة النسخ وفيه مسائل

المسألة الأولى في بيان معنى النسخ

المسألة الأولى النسخ في أصل اللغة بمعنى إبطال الشئ وقال القفال إنه للنقل والتحويل

لنا إنه يقال نسخت الريح آثار القوم إذا أعدمتها ونسخت الشمس الظل إذا أعدمته ثنا لأنه قد لا يحصل الظل في مكان آخر فيظن أنه انتقل إليه والأصل في الكلام الحقيقة وإذا ثبت كون اللفظ حقيقة في الإبطال وجب أن يكون حقيقة في النقل دفعا للاشتراك فإن قيل وصفهم الريح بأنها ناسخة للآثار والشمس بأنها ناسخة للظل مجاز لأن المزيل للآثار والظل هو الله تعالى وإذا كان ذلك مجازا امتنع الاستدلال به على كون اللفظ حقيقة في مدلوله ثم نعارض ما ذكرتموه ونقول بل النسخ هو النقل والتحويل ومنه نسخ الكتاب إلى كتاب آخر كأنك تنقله إليه أو تنقل حكايته ومنه تناسخ وتناسخ القرون قرنا بعد قرن وتناسخ المواريث إنما هو التحويل من واحد إلى آخر بدلا عن الأول فوجب أن يكون اللفظ حقيقة في النقل ويلزم أن لا يكون حقيقة في الإزالة دفعا للاشتراك وعليكم الترجيح

والجواب عن الأول من وجهين أحدهما إنه لا يمتنع أن يكون الله تعالى هو الناسخ لذلك من حيث فعل الشمس والريح المؤثرين في تلك الإزالة ويكونان أيضا ناسخين لكونهما مختصين بذلك التأثير وثانيهما أن أهل اللغة إنما أخطأوا في إضافة النسخ إلى الشمس والريح فهب أنه كذلك لكن متمسكنا إطلاقهم لفظ النسخ على الإزالة لا إسنادهم هذا الفعل إلى الريح والشمس وعن الثاني أن النقل أخص من الزوال لأنه حيث وجد النقل فقد عدمت صفة وحصلت صفة أخرى فإذن مطلق العدم أعم من عدم يحصل عقيبه شئ آخر وإذا دار اللفظ بين العام والخاص كان جعله حقيقة في العام أولى من جعله حقيقة في خاص على ما تقدم تقريره في كتاب الغات والله أعلم

المسألة الثانية في حد النسخ

المسألة الثانية في حد النسخ في اصطلاح العلماء الذي ذكره القاضي أبو بكر وارتضاه الغزالي رحمهما الله أنه الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه وإنما آثرنا لفظ الخطاب على لفظ النص ليكون شاملا اللفظ والفحوى والمفهوم وكل دليل اذ يجوز النسخ بجميع ذلك وإنما قلنا على ارتفاع الحكم الثابت ليتناول الأمر والنهي والخبر وجميع أنواع الحكم وإنما قلنا بالخطاب المتقدم لأن ابتداء ايجاب العبادات في الشرع يزيل حكم العقل من براءة الذمة ولا يسمى نسخا لأنه لم يزل حكم الخطاب وإنما قلنا لولاه لكان ثابتا لأن حقيقة النسخ الرفع وهو إنما يكون رافعا إذا كان المتقدم بحيث لولا طريانه لبقي

وإنما قلنا مع تراخيه عنه لأن لو اتصل به لكان بيانا لمدة هذه العبادة لا نسخا ولقائل أن يقول هذا الحد مختل من وجوه أحدها أن الخطاب الدال على ارتفاع الحكم المتقدم ناسخ للحكم الأول وليس بنسخ إذ النسخ هو نفس الارتفاع وفرق بين الرافع وبين نفس الارتفاع فجعل الرافع عين الارتفاع خطأ وثانيها أن تقييد ذلك بالخطاب خطأ لأن الناسخ قد يكون فعلا لا قولا فإنه صلى الله عليه وسلم إذا فعل فعلا وعلمنا بالضرورة أنه قصد به رفع بعض ما كان ثابتا فذلك يكون ناسخا مع أنه ليس بخطاب فإن قلت الناسفي الحقيقة هو الخطاب الدال على وجوب متابعته عليه السلام في أفعاله قلت لقدرنا إنه لم يرد أمر زائد يدل على وجوب متابعته في أفعاله ثم أنه عليه الصلاة والسلام فعل فعلا ووجد هناك من القرائن

ما أفاد العلم الضروري بأن غرضه عليه الصلاة والسلام ازالة الحكم الذي كان ثابتا فإنه يكون ناسخا بالاجماع مع أنه لم يوجد الخطاب في هذه الصورة أصلا وثالثها أن الأمة إذا اختلفت على قولين فسوغت للعامي تقليد كل واحدة من الطائفتين ثم أجمعت بعد ذلك على أحد القولين فهذا الاجماع خطاب وهو ناسخ لجواز الأخذ بكلا القولين فقد وجد ها هنا خطاب دال على ارتفاع حكم خطاب مع أن الحق أن الاجماع لا ينسخ ولا ينسخ به ويمكن جوابه بأنا ذكرنا حد النسخ مطلقا لا حد النسخ الجائز في الشرع ورابعها أن كون النسخ رفعا باطل وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى

وخامسها أن قوله بالخطاب المتقدم خطأ لأن الحكم الأول لو ثبت بفعل النبي صلى الله عليه وسلم لا بقوله ل كان الذي يرفعه ناسخا له فهذا ما في هذا الحد والأولى أن يقال النسخ طريق شرعي يدل على أن مثل الحكم الذي كان ثابتا بطريق شرعي لا يوجد بعد ذلك مع تراخيه عنه على وجلولاه ل كان ثابتا فقولنا طريق شرعي نعني به القدر المشترك بين القول الصادر عن الله تعالى وعن رسوله عليه الصلاة والسلام والفعل المنقول عنهما ويخرج عن اتفاق الأمة على أحد القولين لأن ذلك ليس بطريق شرعي على هذا التفسير ولا يلزم أن يكون الشرع ناسخا لحكم العقل لأن العقل ليس بطريق شرعي

ولا يلزم أن يكون العجز ناسخا لحكم شرعي لأن العجز ليس بطريق شرعي ولا يلزم تقييد الحكم بغاية أو شرط أو استثناء لأن ذلك غير متراخ ولا يلزم ما إذا أمر نا الله تعالى بفعل واحد ثم نهانا عن مثله لأنه لو لم يكن هذا النهي لم يكن مثل حكم الأمر ثابتا

المسألة الثالثة هل النسخ رفع أو بيان

المسألة الثالثة قال القاضي أبو بكر رحمه الله النسخ رفع ومعناه أن خطاب الله تعالى تعلق بالفعل بحيث لولا طريان الناسخ لبقي الا أنه زال لطريان الناسخ وقال الأستاذ أبو اسحاق رحمه الله إنه بيان ومعناه أن الخطاب الأول انتهى بذاته في ذلك الوقت ثم حصل بعده حكم آخر والمثال الكاشف عن حقيقة هذه المسألة أن من قال ببقاء الأعراض قال الضد الباقي يبقى لولا طريان الطارئ ثم إن الطارئ يكون مزيلا لذلك الباقي ومن قال بأنها لا تبقى قال الضد الأول ينتهي بذاته ويحصل ضده بعد ذلك من غير أن يكون للضد الطارئ أثر في ازالة ما قبله لأن الزائل بذاته لا يحتاج الى مزيل واذا ظهر هذا التمثيل عادت الدلائل المذكورة في تلك المسألة الى هذه المسألة نفيا واثباتا فنقول

احتج المنكرون للرفع بوجوه الحجة الأولى أنه ليس زوال الباقي بطريان الطارئ أولى من اندفاع الطارئ لأجل بقاء الباقي فإما أن يوجدا معا وهو محال بالضرورة أو بعد ما معا وهو محال لأن علة عدم كل واحد منهما وجود الآخر فلو عد ما معا لوجدا معا وذلك محال فإن قلت لم لا يجوز أن يقال الحادث أقوى من الباقي لحدوثه قلت هذا باطل لوجهين أحدهما أن الباقي إما أن يحصل له أمر زائد على ما كان حاصلا له حال حدوثه أو لا يحصل

فإن كان الأول كان ذلك الزائد حادثا فذلك الزائد لحدوثه يكون مساويا للضد الطارئ في القوة واذا استويا في القوة امتنع رجحان أحدهما على الآخر واذا امتنع عدم كيفية الباقي امتنع عدم ذلك الباقي لا محالة وإن كان الثاني وهو أن لا يحصل للباقي أمر زائد على ما كان حاصلا له حال الحدوث لزم أن تكون قوة الباقي مساوية لقوة الحادث وحينئذ يبطل الرجحان وثانيهما أن الشئ حال حدوثه كما يمتنع عدمه فالباقي حال بقائه لا بد له من سبب لكونه ممكنا وهو مع السبب يمتنع عدمه فإذا امتنع العدم عليهما استويا في القوة فيمتنع الرجحان الحجة الثانية هي أن طريا الحكم الطارئ مشروط بزوال المتقدم فلو كان زوال المتقدم معللا بطريان الطارئ لزوم الدور وهو محال الحجة الثالثة أن الطارئ إما أن يطرأ حال كون الحكم الأول معدوما أو موجودا فإن كان الأول استحال أن يؤثر في عدمه لأن إعدام المعدوم محال

وإن كان الثاني فقد وجد مع وجود الأول وإذا وجدا معا لم يكن بينهما منافاة وإذا لم يمكن بينهما منافاة لم يكن أحدهما رافعا للآخر فإن قلت لم لا يجوز أن يكون ذلك كالكسر مع الانكسار قلت الانكسار عبارة عن زوال تلك التأليفات عن اجزاء ذلك الجسم والتأليفات أعراض غير باقية فلا يكون للكسر أثر في إزالتها الحجة الرابعة هي أن كلام الله تعالى قديم والقديم لا يجوز رفعه فإن قلت المرفوع تعلق الخطاب قلت الخطاب إما أن يكون أمرا ثبوتيا أو لا يكون فإلم يكن أمرا ثبوتيا استحال رفعه وإزالته وإن كان أمرا ثبوتيا فهو إما أن يكون حادثا أو قديما فإن كان حادثا لزم كونه تعالى محلا للحوادث وإن كان قديما لزم عدم القديم وهو محال وأعلم أن هذه الوجوه كما أنها قوية في نفسها فهي أقوى لزوما على القاضي رحمه الله لأنه هو الذي عول عليها في امتناع إعدام الضد بالضد

والقول بكون النسخ رفعا عين القول بإعدام الضد بالضد فيكون لزوم هذه الأدلة عليه أقوى واحتج إمام الحرمين رحمه الله على فساد الرفع بوجه آخر وهو أن علم الله تعالى إما أن يكون متعلقا باستمرار هذا الحكم أبدا أو يكون متعلقا بأنه لا يبقى إلا إلى الوقت الفلاني فإن كان الأول استحال نسخه وإلا لزم انقلاب العلم جهلا وهو محال والثاني يقتضي بطلان القول بالرفع لأن الله تعالى إذ علم أن ذلك الحكم لا يبقى إلا إلى ذالله الوقت استحال وجود ذلك الحكم بعذ ذلك وإلا لزم انقلاب العلم جهلا وإذا كان ممتنع الوجود بعد

ذلك استحال أن يقع زوال بمزيل لأن الواجب لذاته يمتنع أن يكون واجبا لغيره ولقائل أن يقول لم لا يجوز أن يقال علم الله تعالى إن ذلك الحكم لا يبقى إلى ذلك الوقت لطريان الناسخ لا لذاته وإذا علم الله تعالى أنه يزول ذلك الحكم في ذلك الوقت لطريان ذلك الناسخ لم يكن ذلك قادحا في تعليل زواله بالنسخ ويزيده تقريرا أن يقال أن الله تعالى كان يعلم أن العالم يوجد في الوقت الفلاني فيكون وجوده في ذلك الوقت واجبا ولم يكن ذلك الوجوب قادحا في افتقاره إلى المؤثر لإنه لما علم الله تعالى أنه يوجد في ذلك الوقت بذلك المؤثر لم يكن الوجوب على هذا الوجه قادحا في افتقاره إلى المؤثر فكذا ها هنا

واحتج القائلون بالرفع بأمرين أولهما أن النسخ في اللغة عبارة عن الإزالة فوجب أن يكون في الشرع أيضا كذلك لأن الأصل عدم التغيير ولأننا ذكرنا في باب نفي الألفاظ الشرعية ما يدل على عدم التغيير وثانيهما أن الخطاب كان متعلقا بالفعل فذلك التعلق يمتنع أن يكون عدمه لذاته وإلا لزم أن لا يوجد وإن لم يكن لذاته فلا بد من مزيل ولا مزيل إلا الناسخ والجواب عن الأول أنه تمسك بمجرد اللفظ وهو لا يعارض الدلائل العقلية وعن الثاني أن كلام الله تعالى القديم كان متعلقا من الأزل إلى الأبد باقتضاء الفعل إلى ذالله الوقت المعين والمشروط بالشئ عدم عند عدم الشرط فلا يفتقر زواله إلى مزيل آخر والله أعلم

المسألة الرابعة في جواز النسخ ووقوعه

المسألة الرابعة النسخ عندنا جائز عقلا وواقع سمعا خلافا لليهود فإن منهم من أنكره عقلا ومنهم من جوزه عقلا لكنه منع منه سمعا ويروى عن بعض المسلمين إنكار النسخ لنا وجهان الأول أن الدلالة القاطعة دلت على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام ونبوته لا تصح إلا مع القول بنسخ شرع من قبله فوجب القطع بالنسخ الثاني أن الأمة مجمعة على وقوع النسخ

ولنا على اليهود إلزامان به الأول جاء في التوراة أن الله تعالى قال لنوح عليه السلام عند خروجه من الفلك إني قد جعلت كل دابة مأكلا لك ولذريتك وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب ما خلا الدم فلا تأكلوه ثم قد حرم الله تعالى على موسى عليه السلام وعلى بني إسرائيل كثيرا من الحيوانات الثاني كان آدم عليه السلام يزوج الأخ من الأخت وقد حرم الله ذلك على موسى عليه السلام ولقائل أن يقول لا نسلم أن نبوة محمد عليه الصلاة والسلام لا تصح إلا مع القول بالنسخ لأن من الجائز أن يقال إن موسى وعيسى عليهما السلام أمرا الناس بشرعهما إلى زمان ظهور شرع محمد عليه الصلاة والسلام ثم بعد ذلك أمر الناس باتباع شرع محمد عليه الصلاة والسلام فعند ظهور شرع محمد عليه الصلاة والسلام زال التكليف بشرع موسى وعيسى عليهما السلام ووقع التكليف بشرع محمد عليه السلام لكنه

لا يكون نسخا بل يكون جاريا مجرى قوله تعالى ثم أتموا الصيام إلى الليل والمسلمون الذين أنكروا وقوع النسخ بنوا مذهبهم على هذا الحرف وقالوا قد ثبت في القرآن أن موسى وعيسى عليهما السلام بشرا في التوراة والإنجيل بمبعث محمد ص وأنه عند ظهوره يجب الرجوع إلى شرعه وإذا كان الأمر كذلك امتنع تحقق النسخ وهكذا جواب اليهود عن الإلزامين الذين أوردناهما عليهم وأما ادعاء الإجماع فكيف يصح بعد ما صح وقوع الخلاف فيه

والمعتمد في المسألة قوله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها وجه الاستدلال به أن جواز التمسك بالقرآن إما أن يتوقف على صحة النسخ أو لا يتوقف فإن توقف عاد الأمر إلى أن نبوة محمد ص لا تصح إلا مع القول بالنسخ وقد صحت نبوته فوجب القول بصحة النسخ

وإن لم نتوقف عليه فحييئذ هذا يصح الاستدلال بهذه الآية على النسخ واحتج منكرو النسخ عقلا بأن الفعل الواحد إما أن يكون حسنا أو قبيحا فإن كان حسنا كان النهي عنه نهيا عن الحسن وإن كان قبيحا كان الأمر به أمرا بالقبيح وعلى كلا التقديرين يلزم إما الجهل وإما السفه واحتج المنكرون شرعا بوجهين الأول هو أن الله تعالى لما بين شرع موسى عليه السلام فاللفظ الدال عليه إما أن يقال إنه دل على دوام شرعه أو ما دل عليه فإن كان الأول فإما أن يكون قد ضم الله تعالى إليه ما يدل على أنه سينسخه أو لم يضم إليه ذلك فإن كان الأول فهو باطل من وجهين الأول أن التنصيص على اللفظ الدال على الدوام مع التنصيص على أنه لا يدوم جمع بين كلامين متناقضين وإنه عبث وسفه

الثاني أن يكون على هذا التقدير قد بين الله تعالى لموسى عليه السلام أن شرعه سيصير منسوخا فإذا نقل شرعه وجب أن ينقل هذه الكيفية أما أولا فلأنه لو جاز أينقل أصل الشرع بدون هذه الكيفية جاز في شرعنا أيضا ذلك وحينئذ لا يكون لنا طريق إلى القطع بأن شرعنا غير منسوخ وأما ثانيا فلأن ذلك من الوقائع العظيمة التي تتوفر الدواعي على نقلها وما كان كذلك وجب اشتهاره وإلا فلعل القرآن عورض ولم ينقل ولعل محمدا عليه الصلاة والسلام غير هذا الشرع عن هذا الوضع ولم ينقل وإذا ثبت وجوب نقل هذه الكيفية بالتواتر وجب أن يكون العلم بتلك الكيفية كالعلم باصل الشرع حتى يكون علمنا بأن موسى عليه السلام نص على أن شرعه سيصير منسوخا كعلمنا بأصل شرعه ولو كان كذلك لعلم الكل بالضرورة أن من دين موسى عليه السلام أن شرعه سيصير منسوخا ولو كان ذلك ضروريا لاستحال منازعة الجمع العظيم فيه وحيث نازعوا فيه دل ذلك على أنه عليه السلام ما نص على هذه الكيفية

وأما القسم الثاني وهو أن الله تعالى ذكر لفظا يدل على الدوام ولم يضم إليه ما يدل على أنه سيصير منسوخا فنقول على هذا التقدير وجب أن لا يصير منسوخا وإلا لزمت محالات أحدها أن ذكر اللفظ الدال على الدوام مع أنه لا دوام تلبيس وهو غير جائز وثانيها إن جوزنا ذلك لم يكن لنا طريق إلى العلم بأن شرعنا لا يصير منسوخا لأن أقصى ما في الباب أن يقول الشرع هذه الشريعة دائمة ولا تصير منسوخة قط البته ولكن إذا رأينا مثل هذا مع عدم الدوام في بعض الصور زال الوثوق عنه في كل الصور وثالثها أنه مع تجويز مخالفة الظاهر لا يبقى وثوق بوعده ووعيده وكل بياناته فإن قلت عرفناه بالإجماع أو بالتواتر قلت أما الإجماع فلا يعرف كونه دليلا إلا بآية أو خبر ولا تتم دلالة الآية والخبر إلا بإجراء اللفظ على ظاهره فإذا جوزنا خلافه لا يبقى دليل الإجماع موثوقا به

وأما التواتر فكذلك لأن غايته أن نعلم أن الرسول عليه السلام قال هذه الألفاظ لكن لعله أراد شيئا يخالف ظواهرها وأما القسم الثالث وهو أن يقال إنه بين شرع موسى عليه السلام بلفظ لا يدل على الدوام البته فنقول مثل هذا لا يقتضي الفعل إلا مرة واحدة على ما ثبت أن الأمر لا يفيد التكرار ومثله لا يحتاج إلى النسخ بل لا يقبل النسخ البته الثاني قالوا ثبت بالتواتر إن موسى عليه السلام قال تمسكوا بالسبت أبدا وقال تمسكوا بالسبت ما دامت السموات والأرض والتواتر حجة بالاتفاق

والجواب عن الأول أن نقول لم لا يجوزأن يكون ذلك الفعل مصلحة في وقت ومفسدة في وقت آخر فيأمر به في الوقت الذي علم أنه مصلحة فيه وينهى عنه في الوقت الذي علم أنه مفسده فيه كما لا يمتنع أن يعلم فيما لا يزال أن إمراض زيد وفقره مصلحة له في وقت وصحته وغناه مصلحة له في وقت آخر فيمرضه ثم ويفقره حين يعلم أن ذلك مصلحة يغنيه ويصحه رسول حين يعلم أن ذلك مصلحة كما لا يمتنع أن يعلم الإنسان أن الرفق مصلحة ابنه وعبده اليوم والعنف مصلحته في غد فيأمر عبده بالرفق به في اليوم وبالعنف به في الغد والجواب عن الثاني أن نقول اتفق المسلمون على أنه تعالى بين شرع موسى عليه السلام بلفظ يدل على الدوام واختلفوا في أنه هل ذكر معه ما يدل على أنه سيصير منسوخا فقال أبو الحسين البصري رحمه الله يجب ذلك في الجملة وإلا كان تلبيسا

وقال جماهير أصحابنا وجماهير المعتزلة لا يجب ذلك وقد مر توجيه المذهبين في مسألة تأخير البيان عن وقت الخطاب ونحن نأتي بالجواب عن هذه الشبهة تفريعا على كل واحد من هذين المذهبين أما على قول أبي الحسين من أنه لا بد من البيان فنقول لم لا يجوز أن يقال إنه تعالى بين في تلك الشريعة أنها ستصير منسوخة لكن لم ينقله أهل التواتر فلا جرم لم يشتهر ذلك كما اشتهر أصل الشرع فإن قلت لما بين الله تعالى أصل ذلك الشرع وأوصله إلى أهل التواتر فهل أوصل ذلك المخصص إلى أهل التواتر أم لا فإن قلت أوصله إلى أهل التواتر فإما أن يجوز على أهل التواتر أن يخلوا بنقله أو لا يجوز فإن جاز على الشارع أن لا يوصل ذلك المخصص إلى أهل التواتر أو أنه أوصله إليهم لكنهم أخلوا بنقله جاز مثله في كل شرع فكيف تقطعون مع هذا التجويز بدوام شرعكم فلعلها وإن ولا كانت بحيث ستصير منسوخة إلا أن الله تعالى ما بين ذلك أو أن بينه لكن أهل التواتر أخلوا بنقله أيضا فلعل محمدا عليه الصلاة والسلام نسخ

الصلوات الخمس وصوم رمضان ولم ينقل ذلك ولما بطل هذان الاحتمالان ثبت أنه تعالى بين ذلك المخصص لأهل التواتر وأن أهل التواتر ما أخلوا بنقله وحينئذ يعود السؤال قلت الإشكال إنما يلزم لو ثبت أنه حصل من اليهود في كل عصر ما بلغ مبلغ التواتر وذلك ممنوع فإنهم انقطعوا في زمان بخت نصر فلا جرم انقطعت الحجة بقولهم بخلاف شرعنا فإنهم كانوا في جميع الأعصار بالغين مبلغ التواتر وأما الجواب على قول أصحابنا رحمة الله عليهم فهو أن المخصص لم يكن مذكورا في زمان موسى عليه السلام قوله هذا تلبيس قلنا سبق الجواب عنه في مسألة تأخير البيان عن وقت الخطاب والله أعلم

والجواب عن الثالث أنا لا نعلم إن موسى عليه السلام قال ذلك لأن نقل التوراة منقطع بحادث بخت نصر سلمنا صحة هذا النقل لكن لفظ التأبيد في التورا قد جاء للمبالغة دون الدوام في صور إحداها قوله في العبد إنه يستخدم ست سنين ثم يعتق في السابعة فإن أبى العتق فلتثقب أذنه ويستخدم أبدا

وثانيها قيل في البقرة التي أمروا بذبحها يكون ذلك سنة أبدا ثم انقطع التعبد بذلك عندهم وثالثها أمروا في قصة دم الفصح بأن يذبحوا الجمل ويأكلوا لحمه ملهوجا ولا يكسروا منه عظما ويكون لهم هذا سنة ابدا ثم زال التعبد بذلك ورابعها قال في السفر الثاني قربوا إلي كل يوم خروفين خروفا غدوة وخروفا عشية قربانا دائما لاحقبكم ففي هذه الصور وجدت ألفاظ التأبيد ولم تدل على الدوام فكذا ما ذكرتموه والله أعلم

المسألة الخامسة في نسخ القرآن

المسألة الخامسة اتفقت الأمة على جواز نسخ القرآن وقال أبو مسلم بن بحر الأصفهاني لا يجوز لنا وجوه أحدها أن الله تعالى أمر المتوفى عنها زوجها بالاعتداد حولا وذلك في قوله تعالى والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر كما في قوله تعالى والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا قال أبو مسلم الاعتداد بالحول ما زال بالكلية لأنها لو كانت حاملا ومدة حملها حول كامل لكانت عدتها حولا كاملا وإذا بقي هذا الحكم في بعض الصور كان ذلك تخصيصا لا نسخا

والجواب أن عدة الحامل تنقضي بوضع الحمل سواء حصل وضع الحمل لسنة أو أقل أو أكثر فجعل السنة مدة العدة يكون زائلا بالكلية وثانيها أمر الله تعالى بتقديم الصدقة بين يدي نجوى الرسول بقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ثم نسخ ذلك قال أبو مسلم إنما زال ذلك لزوال سببه لأن سبب التعبد بها أن يمتاز المنافقون من حيث لا يتصدقون عن المؤمنين فلما حصل هذا الغرض سقط التعبد بالصدقة والجواب لو كان كذلك لكان كل من لم يتصدق منافقا لكنه باطل لأنه روي أنه لم يتصدق غير علي بن أبي طالب رضي الله عنه

ويدل عليه أيضا قوله تعالى فإذا لم تفعلوا وتاب الله عليكم وثالثها أن الله تعالى أمر بثبات الواحد للعشرة بقوله تعالى إيكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ثم نسخ ذلك بقوله تعالى الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين ورابعها قوله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها قال أبو مسلم النسخ هو الإزالة والمراد من هذه الآية ازالة القرآن من اللوح المحفوظ والجواب أن إزالة القرآن من اللوح المحفوظ لا تختص ببعض القرآن وهذا النص مختص ببعضه وخامسها قوله تعالى سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا

عليها ثم أزالهم عنها بقوله فول وجهك شطر المسجد الحرام قال أبو مسلم حكم تلك القبلة ما زال بالكلية لجواز التوجه اليها عند الإشكال ومع العلم إذا كان هناك عدو والجواب أن على ما ذكرته أنت لا فرق بين بيت المقدس وسائر الجهات فالخصوصية التي لها امتاز بيت المقدس عن سائر الجهات قد بطلت بالكلية فيكون نسخا وسادسها قوله تعالى وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر والتبديل يشتمل على رفع وإثبات والمرفوع إما التلاوة وإما الحكم وكيف ما كان فهو رفع ونسخ فإن قلت لم لا يجوز أن يكون المراد به أن الله تعالى أنزل

المسألة السادسة في نسخ الشيء قبل مضي وقته

أحدى الآيتين بدلا عن الأخرى فيكون النازل بدلا عما لم ينزل قلت جعل المعدوم مبدلا غير جائز واحتج أبو مسلم بأن الله تعالى وصف كتابه بأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فلو نسخ لكان قد أتاه الباطل وجوابه المراد أن هذا الكتاب لم يتقدمه من كتب الله تعالى ما يبطله ولا يأتيه من بعده ما يبطله والله أعلم المسألة السادسة اختلفوا في نسخ الشئ قبل مضي وقت فعله مثاله إذا قال الله تعالى لنا صبيحة يومنا صلوا عند غروب الشمس ركعتين بطهارة ثم لم قال عند الظهر لا تصللوا حدثنا عند غروب الشمس

ركعتين بطهارة فهذا عندنا جائز خلافا للمعتزلة وكثير من الفقهاء لنا أن الله تعالى أمر ابراهيم عليه السلام بذبح ولده إسماعيل عليهما السلام ثم نسخ ذلك قبل وقت الذبح فإن قيل لا نسلم ان إبراهيم عليه السلام كان مأمورا بالذبح بل لعله كان مأمورا بمقدمات الذبح من الإضجاع وأخذ المدية مع الظن الغالب بكونه مأمورا بالذبح ولهذا قال قد صدقت الرؤيا ولو كان قد فعل بمعنى ما أمر به لكان قد صدق بعض الرؤيا فإن قلت الدليل عليه ثلاثة أوجه أحدها قوله تعالى إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر فقوله ما تؤمر لا بد وأن يكون عائدا إلى شئ والمذكور ها هنا قوله أني أذبحك فوجب صرفه إليه

وثانيها قوله تعالى إن هذا لهو البلاء المبين ومقدمات الذبح لا توصف بأنها بلاء مبين وثالثها قوله تعالى وفديناه بذبح عظيم ولو لم يكن مأمورا بالذبح لما احتاج إلى الفداء قلت الجواب عن الأول أن الرؤيا لا تدل على كونه مأمورا بذلك وأما قوله افعل ما تؤمر فإنما يفيد الأمر في المستقبل فلا ينصرف إلى ما مضى من رؤياه في المنام وعن الثاني أن إضجاع الابن وأخذ المدية مع غلبة الظن بأنه مأمور بالذبح بلاء مبين وعن الثالث أنه إنما فدى بالذبح بسبب ما كان بتوقعه من الأمر بالذبح سلمنا أنه أمر بالذبح لكن لا نسلم أنه نسخ ذلك وبيانه من وجهين

الأول أنه كلما قطع موضعا من الحلق وتعداه إلى غيره أوصل الله تعالى ما تقدم قطعه فإن قلت حقيقة الذبح قطع مكان مخصوص تبطل معه الحياة قلت بطلان الحياة ليس جزءا من مسمى الذبح لأنه يقال قد ذبح هذا الحيوان وإن لم يمت بعد الثاني قيل إنه أمر بالذبح وإن الله تعالى جعل على عنقه صفيحة من حديد فكان إذا أمر إبراهيم عليه السلام السكين لم يقطع شيئا من الحلق سلمنا سلامة دليلكم لكنه معارض بدليل آخر وهو أن ذلك يقتضي كون الشخص الواحد مأمورا منهيا عن فعل واحد في وقت واحد على وجه واحد وذلك محال فالمؤدي إليه محال بيان أنه يلزم ذلك ثلاثة أوجه

أحدها أن المسألة مفروضة في هذا الموضع فإنه لما أمر بكرة بركعتين من الصلاة عند غروب الشمس ثم نهى وقت الظهر عن ركعتين من الصلاة عند غروب الشمس فقد تعلق الأمر والنهي بشئ واحد في وقت واحد من وجه واحد حتى لو لم يتحقق شرط من هذه الشرائط لم تكن هي المسألة التي تنازعنا فيها وثانيها أن قوله صلوا عند غيبوبة الشمس غير موضوع إلا للأمر بالصلاة في ذلك الوقت لغة وشرعا وقوله لا تصلوا عند غيبوبة الشمس غير موضوع إلا للنهي عن الصلاة في ذلك الوقت لغة وشرعا وثالثها هو أن النهي لو تعلق بغير ما تعلق به الأمر لكان لا يخلو إما ان يكون المنهي عنه أمرا يلزم من الانتهاء عنه وقوع الخلل في متعلق الأمر أو لا يلزم ذلك

فإن كان الأول كان المتأخر رافعا المتقدم استلزاما فيلزم توارد الأمر ابن والنهي على شئ واحد في وقت واحد من وجه واحد وإن كان الثاني لم يكن ذلك هي المسألة التي تنازعنا فيها لأنا توافقنا على أن الأمر بالشئ لا يمنع من النهي عن شئ آخر لا يلزم من الانتهاء عنه الإخلال بذلك المأمور بيان أن ذلك محال أن ذلك الفعل في ذلك الوقت لا بد وأن يكون إما حسنا وإما قبيحا وكيفما كان فإما أن يقال المكلف ما كان عالما بحاله ثم بدا له ذلك فلذلك اختلف الأمر والنهي وذلك محال لاستحالة البداء على الله تعالى وإما أن يقال أنه كان عالما بحاله فيلزم منه إما الأمر بالقبيح أو النهي عن الحسن وذلك أيضا محال والجواب الدليل على أنه كان مأمورا بالذبح أنه لو لم يكن مأمورا به بل كان مأمورا بمجرد المقدمات وهو قد أتى بتمام تلك المقدمات فوجب أن يحتاج معها إلى الفدية لأن الآتي بالمأمور به يجب خروجه عن

العهدة والخارج عن العهدة لا يحتاج إلى الفداء فبحث وقعت الحاجة إليه علمنا أنه لم يدخل تمام المأمور به في الوجود وهذا هو الجواب عن قوله كلما قطع موضعا من الحلق وتعداه إلى غيره وصل الله تعالى ما تقدم قطعه لأن على هذا التقدير يكون كل المأمور به داخلا في الوجود فوجب أن لا يحتاج معه إلى الفداء وأما قوله تعالى قد صدقت الرؤيا فغير دال على أنه أتى بكل المأمور به بل يدل على أنه عليه السلام صدقها وعزم على الإتيان بها فأما أنه فعلها بتمامها فليس في الآية دلالة عليه قوله أن الله تعالى جعل على عنقه صفيحة من حديد قلنا إن اعترفتم بأنه كان مأمورا بنفس الذبح لم يجز ذلك على قولكم وإلا فهو تكليف مالا يطاق وإن قلتم إنه كان مأمورا بالمقدمات فهو عود إلى السؤال الأول وأما المعارضة فالجواب عنها من وجهين الأول وهو الذي يحسم المنازعة أنها مبنية على القول بالحسن والقبح ونحن لا نقول به

الثاني سلمنا ذلك ولكنا نقول كما يحسن الأمر بالشئ والنهي عن الشئ لحكمة تتولد من المامور به والمنهي عنه فقد يحسنان أيضا لحكمة تتولد من نفس الأمر والنهي فإن السيد قد يقول لعبده إذهب إلى القرية غدا راجلا ويكون غرضه من ذلك حصول الرياضة له في الحال وعزمه على أداء ذلك الفعل وتوطين النفس عليه مع علمه بأنه سيرفع عنه غدا ذلك التكليف وإذا ثبت هذا فنقول ألأمر بالفعل إنما يحسن إذا كان المأمور به منشأ المصلحة والأمر به أيضا منشأ المصلحة فأما إذا كان المأمور به منشأ المصلحة لكن الأمر به لا يكون منشأ المصلحة لم يكن الأمر به حسنا وعند هذا يظهر الجواب عما قالوه لأنه حين أمر بالفعل كان المأمور به منشأ المصلحة وكان الأمر به أيضا منشأ المصلحة فلا جرم حسن الأمر به وفي الوقت الثاني بقي المأمور به منشأ المصلحة لكن ما بقي الأمر به منشأ المصلحة فلا جرم حسن النهي عنه

المسألة السابعة في نسخ الشئ لا إلى بدل

فإن قلت لما بقي الفعل منشأ المصلحة كما كان فالنهي عنه يكون منعا عن منشأ المصلحة وذلك غير جائز قلت إنه يكفي في المنع عن الشئ اشتماله على جهة واحد من جهات المفسدة فها هنا المأمور به وإن بقي منشأ المصلحة إلا أن الأمر به والحث عليه لما صار منشأ المفسدة كان الأمر به وان كان حسنا نظرا إلى المأمور به لكنه قبيح نظرا إلى نفس الأمر وذلك كاف في قبحه والله أعلم المسألة السابعة يجوز نسخ الشئ لا إلى بدل خلافا لقوم

المسألة الثامنة في نسخ الشئ إلى ما هو أثقل منه

لنا أنه نسخ تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول عليه الصلاة والسلام لا إلى بدل احتجوا بقوله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها والجواب أن نسخ الآية يفيد نسخ لفظها ولهذا قال نأت بخير منها أو مثلها فليس لنسخ الحكم ذكر في الآية سلمنا أن المراد نسخ الحكم لكن لم لا يجوز أن يقال إن نفي ذلك الحكم وإسقاط التعبد به خير من ثبوته في ذلك الوقت والله أعلم المسألة الثامنة يجوز نسخ الشئ إلى ما هو أثقل منه خلافا لبعض أهل الظاهر لنا أن المسلمين سموا إزالة التخيير بين الصوم والفدية بتعيين الصوم

نسخا وهو أشق وإزالة الحبس في البيوت إلى الجلد والرجم نسخا وأمر الصحابة بترك القتال ثم أمرهم بنصب القتال من التشديد بثبات الواحد للعشرة وحرم الخمر ونكاح المتعة بعد إطلاقهما ونسخ جواز تأخير الصلاة عند الخوف إلى إيجابها في أثناء القتال ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان وكانت الصلاة ركعتين عند قوم فنسخت بأربع في الحضر احتجوا بقوله تعالى نأت بخير منها والخير ما هو أخف علينا وبقوله تعالى يرد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر والجواب عن الأول أن نقول بل الخير ما هو أكثر ثوابا وأصلح لنا في المعاد وإن كان أثقل في الحال وعن الثاني أنه محمول على اليسر في الآخرة حتى لا يتطرق إليها تخصيصات غير محصورة

المسألة التاسعة في نسخ التلاوة دون الحكم وبالعكس

المسألة التاسعة يجوز نسخ التلاوة دون الحكم وبالعكس لأن التلاوة والحكم عبادتان منفصلتان وكل ما كاكذلك فإنه غير مستبعد في العقل أن يصيرا معا مفسدتين أو أن يصير أحدهما مفسدة دون الآخر وتكون الفائدة في بقاء التلاوة دون الحكم ما يحصل من العلم بأن اللتعالى أزال مثل هذا الحكم رحمة منه على عباده وقد نسخ الله تعالى الحكم دون التلاوة في قوله تعالى متاعا إلى الحول غير إخراج بقوله تعالى يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا والتلاوة دون الحكم فيما يروى من قوله الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله

وعن أنس رضي الله عنه أنه نزل في قتلى بئر معونة بلغوا إخواننا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا

وعن أبي بكرضي الله عنه كنا نقرأ في القران لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم والحكم والتلاوة معا وهو ما يروى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كان فيما أنزل الله تعالى عشر رضعات محرمات فنسخن بخمس وروي أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة

المسألة العاشرة في نسخ الخبر

المسألة العاشرة الخبر إما أن يكون خبرا عما لا يجوز تغيره كقولنا العالم محدث وذلك لا يتطرق إليه النسخ أو عما يجوز تغيره وهو إما أن يكون ماضيا أو مستقبلا والمستقبل إما أن يكون وعدا أو وعيدا أو خبرا قوله عن حكم كالخبر عوجوب الحج ويجوز النسخ في الكل وقال أبو علي وأبو هاشم لا يجوز النسخ في شئ منه وهو قول أكثر المتقدمين

لنا أن الخبر إذا كان عن أمر ماض كقوله عمرت نوحا ألف سنة جاز أن يبين من بعده أنه أراد ألف سنة إلا خمسين عاما وإن كان خبرا مستقبلا وكان وعدا أو وعيدا كقلوه لأعذبن الزاني أبدا فيجوز أن يبين من بعد أنه أراد ألف سنة وإن كان خبرا عن حكم الفعل في المستقبل كان الخبر كالأمر في تناوله للأوقات المستقبلة فيصح إطلاق الكل مع أن المراد بعض ما تناوله بموضوعه فثبت أن حكم النسخ في الخبر كهو في الأمر احتجوا بوجهين الأول إن دخول النسخ في الخبر يوهم أنه كان كاذبا والثاني أنه لو جاز نسخ الخبر لجاز أن يقول أهلك الله عادا ثم يقول

ما أهلكهم ومعلوم أنه لو قال ذلك كان كذبا والجواب عن الأول أن دخول النسخ على الأمر يوهم البداء أيضا فإن قالوا لا يوهم لأن النهي إنما دل على أن الأمر لم يتناول ذلك الوقت قلنا وها هنا أيضا لا يوهم الكذب لأن الناسخ يدل على أن الخبر ما تناول تلك الصورة وعن الثاني أن إهلاكهم غير متكرر لإنهم لا يهلكون إلا مرة واحدة فقط فقوله ما أهلكهم رفع لتلك المر فيلزم الكذب وأما إن أراد بقوله ما أهلكهم أنه ما أهلك بعضهم كان ذلك تخصيص بالأشخاص لا بالأزمان فلم يكن نسخا والله أعلم

المسألة الحادية عشرة في نسخ ما اقترن بلفظ التأبيد

المسألة الحادية عشرة إذا قال الله تعالى افعلوا هذا الفعل أبدا يجوز نسخه خلافا لقوم لنا وجهان الأول أن لفظ التأبيد في تناوله لجميع الأزمان المستقبلة كلفظ العموم في تناوله لجميع الأعيان فإذا جاز أحد التخصيصين فكذا الثاني والجامع هو الحكمة الداعية إلى جواز التخصيص الثاني أن شرط النسخ أن يرد على ما أمر به على سبيل الدوام والتأبيد لا

يدل إلا على الدوام فكان التأبيد شرطا لإمكان النسخ وشرط الشئ لا ينافيه احتجوا بأمرين الأول أن قوله أفعلوا أبدا قائم مقام قوله افعلوا في هذا الوقت وفي ذلك وذاك إلى أن يذكر الأوقات كلها ولو ذكر على هذا الوجه لم يجز النسخ فكذا إذا ذكر بلفظ التأبيد الثاني لو جاز نسخ ما ورد بلفظ التأبيد لم يكن لنا طريق إلى العلم بدوام التكليف والجواب عن الأول أن ذلك يمنع من النسخ كله لأن المنسوخ لا بد من كونه لفظا يفيد الدوام إما بصريحه وإما بمعناه ثم إنه ينتقض بأنه يجوز أن يقال جاءني الناس إلا زيدا ولا يجوز جائني زيد وعمر وبكر وما جاءني زيد ثم الفرق ما حققناه في مسألة أن للعموم صيغة

وعن الثاني أن لفظ التأبيد يفيد ظن الاستمرار لكن القطع به لا يحصل إلا من القرائن والله أعلم

القسم الثاني في الناسخ والمنسوخ

القسم الثاني في الناسخ والمنسوخ وفيه مسائل المسألة الأولى نسخ السنة بالسنة يقع على أربعة أوجه الأول نسخ السنة المقطوعة بالسنة المقطوعة والثاني نسخ خبر الواحد بخبر الواحد كقوله عليه الصلاة والسلام كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها وقال في شارب الخمر فإن شربها

الرابعة فاقتلوه ثم حمل إليه من شربها الرابعة فلم يقتله والثالث نسخ خبر الواحد بالخبر المقطوع ولا شك فيه

والرابع نسخ الخبر المتواتر وهو جائز في العقل غير واقع في السمع عند الأكثرين خلافا لبعض أهل الظاهر لنا أن الصحابة رضي الله عنهم كانت تترك خبر الواحد إذا رفع حكم الكتاب قال عمر رضي الله عنه لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت وهذا الاستدلال ضعيف لأنا نقول هب أن هذا الحديث دل على أنهم ما قبلوا ذلك الخبر في نسخ المتواتر فكيف يدل على إجماعهم على أنهم ما قبلوا خبرا من أخبار الآحاد في نسخ المتواتر واحتج اهل الظاهر بوجوه الأول أنه جاز تخصيص المتواتر بالآحاد فجاز نسخه به والجامع دفع الضرر المظنون

الثاني أن خبر الواحد دليل من أدلة الشرع فإذا صار معارضا لحكم المتواتر وجب تقديم المتأخر قياسا على سائر الأدلة الثالث أن نسخ الكتاب وقع بأخبار الآحاد من وجوه أحدها قوله تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه الآية منسوخ بما روي بالآحاد أن النبي ص نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وثانيها قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم منسوخ بما روي بالآحاد أن

النبي ص قال لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها وثالثها قوله تعالى كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف منسوخ بما روي بالآحاد من قوله عليه الصلاة والسلام لا وصية لوارث

ورابعها أن الجمع بين وضع الحمل والمدة منسوخ بأحد الأجلين وإذا ثبت نسخ الكتاب بخبر الواحد وجب جواز نسخ الخبر المتواتر لأنه لا قائل بالفرق الرابع أن أهل قبا قبلوا نسخ القبلة بخبر الواحد ولم ينكر الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك

الخامس أنه عليه الصلاة والسلام كان ينفذ آحاد الولاة إلى الأطراف وكانوا يبلغون الناسخ والمنسوخ والجواب عن الأول أن الفرق بين النسخ والتخصيص واقع بإجماع الصحابة رضي الله عنهم وللخصم أن يمنع وجود هذا الإجماع كما سبق وعن الثاني أن المتواتر مقطوع في متنه والآحاد ليس كذلك فلم لا يجوز أن يكون هذا التفاوت مانعا من ترجيح خبر الواحد وأما الآيات فقوله تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلي

محرما إنما يتناول الموحى إليه إلى تلك الغاية ولا يتناول ما بعد ذلك فلم يكن النهي الوارد بعده نسخا وعن الثانية أنا إنما خصصنا قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم بقوله عليه الصلاة والسلام لا تنكح المرأة على عمتها لتلقي الأمة هذا الحديث بالقبول وأيضا غير ممتنع أن يكون الخبر مقارنا فقبلوه مخصصا لا ناسخا وعن الثالثة أنه يجوز أن يصدر الإجماع عن خبر ثم لا ينقل ذلك الخبر أصلا استغناء بالإجماع عنه وإذا جاز ذلك فالأولى أن يجوز أن يصدر إجماعهم عن خبر ثم يضعف نقله استغناء بالإجماع عنه وإذا كان كذلك لم يمتنع أن يكون هذا الخبر مقطوعا به عندهم ثم يضعف نقله لإجماعهم على العمل بموجبه وهذا هو الجواب أيضا عن الرابعة

المسألة الثانية في نسخ السنة بالقرآن

والجواب عن الحجة الرابعة لعل رسول الله عليه الصلاة والسلام أخبرهم بذلك قبل وقوع الواقعة فلهذا قبلوا خبر الواحد أو لعله انضم إليه من القرائن ما أفاد العلم نحو كون المسجد قريبا من الرسول عليه الصلاة والسلام وارتفاع الضجة في ذلك والجواب عن الحجة الخامسة أنا سنبين ضعفها في باب خبر الواحد إن شاء الله تعالى المسألة الثانية قال الأكثرون يجوز نسخ الكتاب ودليله ما ذكرناه في الر على أبي مسلم الأصفهاني بقي ها هنا أمران

احدهما أنه يجوز نسخ السنة بالقرآن وهو أيضا واقع وقال الشافعي رضي الله عنه لا يجوز احتج المثبتون بأمور أحدها أن التوجه إلى بيت المقدس كان واجبا في الابتداء بالسنة لأنه ليس في القرآن ما يتوهم كونه دليللا له عليه إلا قوله تعالى فأينما تولوا فثم وجه الله وذلك لا يدل عليه لأنها تقتضي التخيير بين الجهات ولقائل أن يقول لم لا يجوز أن يقال التوجه إلى بيت المقدس وقع في الأصل بالكتاب إلا أنه نسخت تلاوته كما نسخ حكمه فإنه لا دليل يمنع من هذا التجويز سلمنا أن التوجه إلى بيت المقدس وقع بالسنة فلم لا يجوز أن يقال وقع نسخه أيضا بالسنة وليس من حيث ثبت التوجه إلى الكعبة بالكتاب ما يوجب أن يكون التحويل عن بيت المقدس بالكتاب لأن الظاهر أنه حول عن بيت المقدس ثم أمر بالتوجه إلى الكعبة ولهذا كان يقلب وجهه في السماء لالوجه سوى أنه قد حول عن الجهة التي كان يتوجه إليها وينتظر ما

يؤمر به من بعد فأمر بالتوجه إلى الكعبة فإن لم يكن ذلك هو الظاهر فهو مجوز وهذا كاف في المنع من من الاستدلال وثانيها قوله تعالى فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وهو نسخ تحريم المباشرة وليس لتحريم في القرآن وثالثها نسخ صوم يوم عاشوراء بصوم رمضان وكان صوم عاشوراء ثابتا بالسنة ورابعها صلاة الخوف وردت في القرآن ناسخة لما ثبت بالسنة من جواز تأخيرها إلى انجلاء القتال حتى قال عليه الصلاة والسلام يوم الخندق حشى الله قبورهم نارا لحبسهم عن الصلاة

وخامسها قوله تعالى فلا ترجعوهن إلى الكفار نسخ لما قرره رسول الله ص من العهد والصلح واعلم أن السؤالين المذكورين واردان في الكل ومن الجهال من قدح في هذين السؤالين وقال لا حاجة بنا إلى تقدير سنة خافية مندرسة ولا ضرورة فلم نقدرهما ذلك وهذا جهل عظيم لأن المستدل لا بد له من تصحيح مقدماته بالدلالة فإذا عجز عنها لم يتم دليله واحتج الشافعي رضي الله عنه بقوله تعالى لتبين للناس ما نزل

إليهم وهذا يدل على أن كلامه بيان للقرآن والناسخ بيان للمنسوخ فلو كان القرآن ناسخا للسنة لكان القرآن بيانا للسنة فيلزم كون كل واحد منهما بيانا للآخر والجواب ليس في قوله تعالى لتبين للناس ما نزل إليهم دليل على أنه لا يتكلم إلا بالبيان كما أنك إذا قلت إذا دخلت الدار لا أسلم على زيد ليس فيه أنك لا تفعل فعلا آخر سلمنا أن السنة كلها بيان لكن البيان هو الإبلاغ وحمله على هذا أولى لأنه عام في كل القرآن أما حمله على بيان المراد فهو تخصيص ببعض ما أنزل وهو ما كان مجملا أو عاما مخصوصا وحمل اللفظ على ما يطابق الظاهر أولى من حمله على ما يوجب ترك الظاهر والله أعلم

المسألة الثالثة في نسخ القرآن بالسنة المتواترة

المسألة الثالثة نسخ الكتاب بالسنة المتواترة جائز وواقع وقال الشافعي رضي الله عنه لم يقع احتج المثبتون بصورتين أحداها أنه كان الواجب على الزانية الحبس في البيوت لقوله تعالى فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت ثم أن الله تعالى نسخ ذلك بآية الجلد ثم إنه ص نسخ الجلد بالرجم

فإن قلت بل نسخ ذلك بما كان قرآنا وهو قوله الشيخ والشيخة إذ زنيا فارجموهما البته قلت إن ذلك لم يكن قرآنا ويدل عليه أن عمر رضي الله عنه قال لولا أن يقول الناس إن عمر زاد في كتاب الله شيئا لألحقت ذلك بالمصحف ولو كان ذلك قرآنا في الحال أو كان ثم نسخ لما قال ذلك ولقائل أن يقول لما نسخ الله تعالى تلاوته وحكم بإخراجه من المصحف كفى ذلك فصحة قول عمر رضي الله عنه ولم يلزم منه القطع بأنه لم يكن البتة قرآنا وثانيها نسخ الوصية للأقربين بقوله عليه السلام لا وصية لوارث لأن آية المواريث لا تمنع الوصية إذ الجمع ممكن وهذا ضعيف لأن كون الميراث حقا للوارث يمنعه من صرفه إلى الوصية فثبت أن آية الميراث مانعة من الوصية ولأن قوله ص لا وصية

لوارث خبر واحد إذ لو قلنا إنه كان متواترا لوجب أن يكون الآن متواترا لأنه خبر في واقعة مهمة تتوفر الدواعي على نقله وما كان كذلك وجب بقاؤه متواترا وحيث لم يبق الآن متواترا علمنا أنه ما كان متواترا في الأصل فالقول بأن الآية صارت منسوخة به يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد وإنه غير جائز بالإجماع واحتج الشافعي رضي الله عنه بأمور الأول قوله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها والاستدلال من وجوه أربعة أحدها أنه تعالى أخبر أن ما ينسخه من الآيات يأت بخير منه وذلك يفيد أنه تعالى يأتي بما هو من جنسه كما إذا قال للإنسان ما أخذ منك من ثوب آتك بخير منه أنه يأتيه بثوب من جنسه خير منه وأذا ثبت أنه لا بد وأن يكون من جنسه فجنس القرآن قرآن وثانيها أن قوله تعالى نأت بخير منها يفيد أنه هو المتفرد بالإتيان

بذلك الخير وذلك هو القرآن الذي هو كلام الله تعالى دون السنة التي يأتي بها الرسول عليه السلام وثالثها أن قولتعالى نأت بخير منها يفيد أن المأتي به خير من الآية والسنة لا تكون خيرا من القرآن ورابعها أنه تعالى قال ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير دل على أن الذي يأتي بخير منها هو المختص بالقدرة على إنزاله وهذا هو القرآن دون غير الثاني قوله تعالى لتبين للناس ما نزل إليهم فوصفه بأنه مبين للقرآن ونسخ العبادة رفعها ورفعها ضد بيانها الثالث قوله تعالى وإذا بدلنا آية مكان آية أخبر تعالى بأنه هو الذي يبدل الآية بالآية الرابع أنه تعالى حكى عن المشركين أنهم قالوا عند تبديل الآية بالآية إنما أنت مفتر ثم إنه تعالى أزال هذا الإبهام بقوله قل نزله روح

القدس من ربك وهذا يقتضي أن ما لم ينزله روح القدس من ربه لا يكون مزيلا للإبهام الخامس قوله تعالى قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي وهذا يدل على أن القرآن لا تنسخه السنة السادس أن ذلك يوجب التهمة والنفرة والجواب عن الوجوه التي تمسكوا بها في الآية الأولى بوجه عام ثم بما يخص كل واحد من تلك الوجوه أما العام فهو أن قوله تعالى نأت بخير منها ليس فيه أن ذلك الخير يجب أن يكون ناسخا بل لا يمتنع أن يكون ذلك الخير شيئا مغايرا للناسخ يحصل بعد حصول النسخ والذي يدل على تحقق هذا الاحتمال أن هذه الآية صريحة في أن الإتيان بذلك الخير مرتب على نسخ

الآية الأولى فلو كان نستلك الآية مرتبا على الإتيان بذلك الخير لزم ترتب كل واحد منهما على الآخر وهو دور وأما الوجوه الخاصة فالجواب عن الأول لا نسلم أن ذلك الخير لا بوأن يكون من جنس الآية المنسوخة فليس تعلقهم بالمثال الذي ذكروه أولى من مثاآخر وهو أن يقول القائل من يلقني بحمد وثناء جميل محمد ألقه بخير منه في أنه لا يقتضي أن الذي يلقاه به من جنس الحمد والثناء أو من قبيل المنحة والعطاء وعن الثاني وهو أن قوله نأت بخير منها يفيد أنه هو المتفرد بالإتيان بذلك الخير أن نقول المراد بالإتيان شرع الحكم وإلزامه والسنة في ذلك كالقرآن في أن المثبت لهما هو الله تعالى وعن الثالث وهو قوله السنة لا تكون خيرا من القرآن أن نقول

إذا كان المراد بالخير الأصلح في التكليف والأنفع في الثواب لم يمتنع أن يكون مضمون السنة خيرا من مضمون الآية وعن الرابع أن النسخ رفع الحكم سواظهر ذلك بالقرآن أو بالسنة وعلى التقديرين فالله تعالى هو المتفرد به والجواب عن الحجة الثانية أن النسخ لا ينافي البيان لأنه تخصيص للحكم بالأزمان كما أن التخصيص تخصيص للحكم بالأعيان والجواب عن الحجة الثالثة أن الناسخ سواء كان قرآنا أو خبرا فالمبدل في الحقيقة هو الله تعالى والجواب عن الحجة الرابعة أن من يتهم الرسول عليه الصلاة والسلام فإنما يتهمه لأنه يشك

المسألة الرابعة في نسخ الإجماع

في نبوته ومن تكن هذه حاله فالنبي عليه الصلاة والسلام مفتر عنده سواء نسخ الكتاب بالكتاب أو بالسنة والمزيل لهذه التهمة التمسك بمعجزاته والجواب عن الحجة الخامسة وهي قوله تعالى ائت بقرآن غير هذا أو بدله إنه يدل على أنه عليه الصلاة والسلام لا ينسخ إلا بوحي ولا يدل على أن الوحي لا يكون إلا قرآنا والجواب عن الحجة السادسة أن النفرة زائلة بالدليل الدال على أنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى والله أعلم المسألة الرابعة في كون الإجماع منسوخا وناسخا الإجماع إنما ينعقد دليلا بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام لأنه ما دام عليه الصلاة والسلام حيا لم ينعقد الإجماع من دونه لأنه ص سيد المؤمنين ومتى وجد قوله عليه الصلاة والسلام فلا عبرة بقول غيره

فإذن الإجماع إنما ينعقد دليلا بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام إذا ثبت هذا فنقول لو انتسخ الإجماع لكان انتساخه إما بالكتاب أو بالسنة أو بالإجماع أو بالقياس الكل باطل أما بالكتاب والسنة فلأنه لا يخلو إما أن يقال إنهما كانا موجودين وقت انعقاد ذلك الإجماع أو ما كانا موجودين في ذلك الوقت فإن كانا موجودين مع أن الأمة حكمت على خلافهما كانت الأمة مجمعة على الخطأ ذاهبة عن الحق وإنه غير جائز وإن لم يكونا موجودين استحال حدوثهما بعد ذلك لاستحالة أن يحدث كتاب أو سنة بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام وأما بالإجماع فلأن انعقاد هذا الإجماع الثاني إما أن يكون لا عن دليل

أو عن دليل فإن لم يكن عن دليل كان ذلك إجماعا على الخطأ وإنه غير جائز وإن كان عن دليل عاد التقسيم الأول من أن يقال إن ذلك الدليل أما أن يكون حال انعقاد الإجماع الأول أو حدث بعده وقد بينا فساد هذين القسمين فإن قلت أليس أن الأمة إذا اختلفت على قولين فقد جوزت للعامي أن يأخذ بأيهما شاء ثم إذا اتفقت بعذ ذلك على أحدهما فقد منعت العامي من الأخذ بذلك القول الثاني فها هنا الإجماع الثاني ناسخ لحكم الإجماع الأول قلت الأمة إنما جوز ت للعامي الأخذ بأي القولين شاء بشرط أن لا يحصل الإجماع على أحد القولين فكان الإجماع الأول مشروطا بهذا الشرط فإذا وجد الإجماع فقد زال شرط الإجماع الأول فانتفى الإجماع الأول لانتفاء شرطه لا لأن الثاني نسخه

وأما بالقياس فلأن شرط صحة القياس عدم الإجماع فإذا وجد الإجماع لم يكن القياس صحيحا فلم يجز نسخه به وأما كون الإجماع ناسخا فقد جوزه عيسى بن أبان والحق أنه لا يجوز لنا أن المنسوخ بالإجماع إما أن يكون نصا أو إجماعا أو قياسا والأول يقتضي وقوع الإجماع على خلاف النص وخلاف النص خطأ والإجماع لا يكون خطأ والثاني أيضا باطل لأن الإجماع المتأخر إما أن يقتضي أن الإجماع الأول حين وقع وقع خطأ أو يقتضي أنه كان صوابا ولكن إلى هذه الغاية والأول باطل لأن الإجماع لا يكون خطأ ولو جاز ذلك لما كان المنسوخ به أولى من الناسخ وإن كان صوابا حين وقع ولكن كان مؤقتا فلا يخلو ذلك الإجماع المتقدم المفيد للحكم المؤقت من أن يكون مطلقا أو مؤقتا فإن كان مطلقا استحال أن يفيد الحكم مؤقتا

المسألة الخامسة في نسخ القياس

وإن كان مؤقتا إلى غاية فذلك الإجماع ينتهي عند حصول تلك الغاية بنفسه فلا يكون الإجماع المتأخر رافعا له والثالث باطل لأن هذه المسألة لا تتصور إلا إذا اقتضي القياس حكما ثم أجمعوا على خلاف حكم ذلك القياس فحينئذ يزول حكم ذلك القياس بعد ثبوته لتراخي الإجماع عنه وهذا محال لأن شرط صحة القياس عدم الإجماع فإذا وجد الإجماع فقد زال شرط صحة القياس وزوال الحكم لزوال شرطه لا يكون نسخا المسألة الخامسة في كون القياس منسوخا وناسخا أما كونه منسوخا فنقول نسخ القياس إما أن يكون في زمان حياة الرسول عليه الصلاة والسلام أو بعد وفاته فإن كان حال حياته فلا يمتنع رفعه بالنص أو بالإجماع أو بالقياس أما بالنص فبأن ينص الرسول عليه الصلاة والسلام في الفرع على خلاف الحكم الذي يقتضيه القياس بعد استقرار التعبد بالقياس

وأما بالإجماع فلأنه إذا اختلفت الأمة على قولين قياسا ثم أجمعوا على أحد القولين كان إجماعهم على أحد القولين رافعا لحكم القياس الذي اقتضاه القول الآخر وأما بالقياس فبأن ينص في صورة على خلاف ذلك الحكم ويجعله معللا بعلة موجودة في ذلك الفرع وتكون أمارة عليتها أقوى من أمارة علية الوصف للحكم الأول في الأصل الأول ويكون كل ذلك بعد استقرار التعبد بالقياس الأول وأما بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام فإنه يجوز نسخه في المعنى وإن كان ذلك لا يسمى نسخا في اللفظ أما بالنص فكما إذا اجتهد إنسان في طلب النصوص ثم لم يظفر بشئ أصلا ثم اجتهد فحرم شيئا بقياس ثم ظفر بعذ ذلك بنص أو إجماع أو قياس أقوى من القياس الأول على خلافه فإن قلنا كل مجتهد مصيب كان هذا الوجدان ناسخا لحكم القياس

المسألة السادسة في نسخ الفحوى

الأول لكنه لا يسمى ناسخا لأن القياس إنما يكون معمولا به بشرط أن لا يعارضه شئ من ذلك وإن قلنا المصيب واحد لم يكن القياس الأول متعبدا به فلم يكن النص الذي وجده أخرا ناسخا لذلك القياس وأما كون القياس ناسخا فهو إما أن ينسخ كتابا أو سنة أو إجماعا أو قياسا والأقسام الثلاثة الأول باطلة بالإجماع وأما الرابع وهو كونه ناسخا لقياس آخر فقد تقدم القول فيه والله أعلم المسألة السادسة في كون الفحوى منسوخا وناسخا أما كونه منسوخا فقد اتفقوا على جواز نسخ الأصل والفحوى معا وأما نسخ الأصل وحده فإنه يقتضي نسخ الفحوى لأن الفحوى تبع الأصل وإذا زال المتبوع زال التبع لا محالة وأما نسخ الفحوى مع بقاء الأصل فاختيار أبي الحسين رحمه الله إنه لا يجوز قال لأن فحوى القول لا يرتفع مبقاء الأصل إلا

وينتقض الغرض لأنه إذا حرم علينا التأفيف على سبيل الإعظام للأبوين كانت إباحة ضربهما نقضا للغرض وأما كونه ناسخا فمتفق عليه لأن دلالته إن كانت لفظية فلا كلام وإن كانت عقلية فهي يقينية فتقتضي النسخ لا محالة والله أعلم

القسم الثالث فيما ظن أنه ناسخ وليس كذلك

القسم الثالث فيما ظن أنه ناسخ وليس كذلك وفيه مسائل المسألة الأولى اتفق العلماء على أن زيادة عبادة على العبادات لا يكون نسخا للعبادات ولا زيادة صلاة على الصلوات وإنما جعل أهل العراق زيادة صلاة على الصلوات الخمس نسخا لقوله تعالى حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين لأنه يجعل ما كان وسطى غير وسطى فقيل لهم ينبغي أن تكون زياردة إلى عبادة على آخر العبادات نسخا لأنه يجعل العبادة الأخيرة غير أخيرة ولو كان عدد كل الواجبات قبل الزيادة عشرة فبعد الزيادة لا يبقى ذلك فيكون نسخا أما الزيادة التي لا تكون كذلك فقد اختلفوا فيها

فمذهب الشافعي رضي الله عنه أنها ليست نسخا وهو قول أبي علي وأبي هاشم وقالت الحنفية إنها نسخ ومنهم من فصل ونذكر فيه وجهين أحدهما أن النص إن أفاد من جهة دليل الخطاب أو الشرط خلاف ما أفادته الزيادة كانت الزيادة نسخا وإلا فلا وثانيهما قول القاضي عبد الجبار إن كانت الزيادة قد غيرت المزيد عليه تغييرا شديدا حتى صار المزيد عليه لو فعل بعد الزيادة على حد ما كان يفعل قبلها كان وجوده كعدمه ووجب استئنافه فإنه يكون نسخا نحو زيادة ركعة على ركعتين وإن كان المزيد عليه لو فعل على حد ماكان يفعل قبل الزيادة صح فعله واعتد به ولم يلزم استئناف فعله وإنما يلزم أيضم إليه غيره

لم يكن نسخا نحو زيادة التغريب على الجلد وزيادة عشرين على حد القذف واعلم أن لأبي الحسين البصري رحمه الله طريقة في هذه المسألة هي أحسن من كل ما قيل فيها فقال النظر في هذه المسألة يتعلق بأمور ثلاثة أحدها أن الزيادة على النص هل تقتضي زوال أمر أم لا والحق أنه يقتضيه لأن إثبات كل شئ أقل من أن يقتضي زوال عدمه الذي كان وثانيها أن هذه الإزالة هل تسمى نسخا والحق أن الذي يزول بسبب هذه الزيادة إن كان حكما شرعيا وكانت الزيادة متراخية عنه سميت تلك الإزالة نسخا وإن كان حكما عقليا وهو البراءة الأصلية لم تسم تلك الإزالة نسخا وثالثها أنه هل تجوز الزيادة على النص بخبر الواحد والقياس أم لا

والحق أنه إن كان الزائل حكم العقل وهو البراءة الأصلية جاز ذلك إلا أن يمنع منه مانع خارجي كما لو قيل خبر الواحد لا يكون حجة فيما تعم به البلوى والقياس لا يكون حجة في الحدود والكفارات إلا أن هده الموانع لا تعلق لها بالنسخ من حيث هو نسخ وأما إن كان الحكم الزائل شرعيا فلينظر في دليل الزيادة فإن كان بحيث يجوز أن يكون ناسخا لدليل الحكم الزائل جاز إثبات الزيادة وإلا فلا فهذا حظ البحث الأصولي ولنحقق كان ذلك في المسائل الفقهية المفرعة على هذا الأصل وهي ثمانية الحكم الأول زيادة التغريب أو زيادة عشرين على جلد ثمانين لا يزيل إلا نفي وجوب ما زاد على الثمانين وهذا النفي غير معلوم بالشرع لأن إيجاب الثمانين قدر مشترك بين إيجاب الثمانين مع نفي الزائد وبين إيجابه مع ثبوت الزيادة وما به الاشتراك لا اشعار له بما به الامتياز فإيجاب الثمانين لا اشعار له ألبتة بالزائد لا نفيا ولا إثباتا إلا أن نفي الزيادة معلوم بالعقل فإن البراءة الأصلية معلومة بالعقل ولم ينقلنا عنه دليل شرعي

وإذا كان ذلك حكما عقليا جاز قبول خبر الواحد والقياس فيه إلا أن يمنع مانع سوى النسخ وأما كون الثمانين وحدها مجزية وكونها وحدها كمال الحد وتعليق رد الشهادة عليها فكل ذلك تابع لنفي وجوب الزيادة فلما كان ذلك النفي معلوما بالعقل جاز قبول خبر الواحد والقياس فيه فكما أن الفروض لو كانت خمسا لتوقف على أدائها الخروج عن عهدة التكليف وقبول الشهادة فلو زيد فيها شئ آخر لتوقف الخروج عن عهدة التكليف وقبول الشهادة على أداء ذلك المجموع مع أنه يجوز إثباته بخبر الواحد والقياس فكذا ها هنا أما لو قال الله تعالى الثمانون كمال الحد وعليها وحدها يتعلق رد الشهادة لم نقبل في الزيادة ها هنا خبر الواحد والقياس لأن نفي وجوب الزيادة ثبت بدليل شرعي متواتر وأيضا لو كان إيجاب الثمانين يقتضي على سبيل المفهوم نفي الزائد وثبت أن مفهوم المتواتر لا يجوز نسخه بخبر الواحد والقياس لكنا لا نثبت ذلك بخبر الواحد والقياس

الحكم الثاني تقييد الرقبة بالإيمان هو في معنى التخصيص لأنه يخرج عتق الكافرة من الخطاب فإن كان المقتضي لهذا التقييد خبر واحد أو قياسا وكان متراخيا لم يقبل لأن عموم الكتاب أجاز عتق الكافرة فتأخير حظر عتقها في الكفارة هو النسخ بعينه فلم يقبل فيه خبر واحد ولا قياس وإن كانا متقارنين فهو تخصيص والتخصيص بخبر الواحد والقياس يجوز الحكم الثالث إذا قطعت يد السارق وإحدى رجليه ثم سرق فإباحة قطع رجله الأخرى رفع لحظر قطعها وذلك الحظر إنما ثبت بالعقل فجاز رفعه بخبر الواحد والقياس ولم يسم نسخا الحكم الرابع إذا أمرنا الله تعالى بفعل أو قال هو واجب عليكم ثم خيرنا بين

فعله وبين فعل آخر فهذا التخيير يكون نسخا لحظر ترك ما أوجبه علينا إلا أن حظر تركه كان معلوما بالبقاء على حكم العقل وذلك لأن قوله أوجبت عليكم هذا الفعل يقتضي أن للإخلال به تأثيرا في استحقاق الذم وهذا لا يمنع من أن يقوم مقامه واجب آخر وإنما نعلم أن غيره لا يقوم مقامه لأن الأصل أن غيره غير واجب ولو كان واجبا بالشرع لدل عليه دليل شرعي فصار علمنا بنفي وجوبه موقوفا على أن الأصل نفي وجوبه مع نفي دليل شرعي فالمثبت لوجوبه إنما رفع حكما عقليا فجاز أن يثبته بقياس أو خبر واحد مثال ذلك أن يوجب الله تعالى علينا غسل الرجلين ثم يخيرنا بينه وبين المسح على الخفين وكذلك إذا خيرنا الله تعالى بين شيئين ثم أثبت معهما ثالثا فأما إذا قال الله تعالى هذا الفعل واجب وحده أو قال لا يقوم غيره مقامه فإن إثبات بدل له فيما بعد رافع لما علمناه بدليل شرعي لأن قوله هذا واجب وحده صريح في نفي وجوب غيره

فالمثبت لغيره رافع لحكم شرعي فلم يجز كونه خبر واحد ولا قياسا فأما قوله تعالى واستشهدو شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان فهو تخيير بين استشهاد رجلين أو رجل وامرأتين والحكم بالشاهد واليمين زيادة في التخيير وقد بينا أن الزيادة في التخيير ليس بنسخ يمنع من قبول خبر الواحد والقياس فيه ومن قال الحكم بالشاهد واليمين نسخ لهذه الآية يلزمه أن يكون الوضوء بالنبيذ نسخا لقوله تعالى فلم تجدوا ماء فتيمموا الحكم الخامس إذا كانت الصلاة ركعتين فقط فزيد عليها ركعة أخرى قبل التشهد فإن ذلك يكون ناسخا لوجوب التشهد عقيب الركعتين وذلك حكم شرعي معلوم بطريقة معلومة فلا يثبت بخبر واحد ولا قياس وليس ذلك نسخا للركعتين لأن النسخ لا يتناول الأفعال ولا هو نسخ لوجوبهما فإنه ثابت ولا هو نسخ لإجزائهما لأنهما مجزيتان

أبو وإنما كانتا مجزيتين أو من دون رفعة أخرى والآن لا يجزيان إلا مع ركعة أخرى وذلك تابع لوجوب ضم ركعة أخرى ووجوب ركعة أخرى ليس يرفع إلا نفي وجوبها ونفي وجوبها إنما حصل بالعقل فلم يمتنع من هذه الجهة إن يقبل فيه خبر الواحد والقياس وأما إذا زيدت الركعة بعد التشهد وقبل التحلل فإنه يكون نسخا لوجوب التحلل بالتسليم أو يكون ناسخا لكونه ندبا وذلك حكم شرعي معلوم فلم يجز إن يقبل فيه خبر الواحد ولا القياس فأما كونه ناسخا للركعتين أو لوجوبهما أو لإجزائهما فالقول فيه ما ذكرناه الآن الحكم السادس زيادة غسل عضو في الطهارة ليس بنسخ لإجزائها ولا لوجوبها وإنما هو رفع لنفي وجوب غسل ذلك العضو وذلك النفي معلوم بالعقل وكذا زيادة شرط آخر في الصلاة لا يقتضي نسخ وجوب الصلاة فأما كون الصلاة غير مجزية بعد زيادة الشرط الثاني فهو تابع لوجوب ذلك الشرط وإجزاؤها تابع وجوبه ونفي وجوبه لم يعلم بالشرع فكذلك لنفي ما يتبعه فجاز قبول خبر الواحد والقياس فيه

هذا إن لم نكن قد علمنا نفي وجوب هذه الأشياء من دين النبي عليه الصلاة والسلام باضطرار فأما إن علمناه باضطرار فقد صار معلوما بالشرع مقطوعا به فلم يجز بخبر الواحد والقياس الحكم السابع قوله تعالى ثم أتموا الصيام إلى الليل فإنه يفيد كون أول الليل طرفا وغاية للصيام كما يفيده لو قال تعالى آخر الصيام وغايته الليل لأن لفظة إلى موضوعة للغاية فإيجاب الصوم إلى غيبوبة الشفق يخرج أوله عن أن يكون طرفا مع أن الخطاب يفيده وفي ذلك كونه حقيقة فلا يقبل فيه خبر واحد ولا قياس لأن نفي وجوب صوم أول الليل معلوم بدليل قاطع أما لو قال صوموا النهار ثم جاء الخبر بإتمام الصوم إلى غيبوبة الشفق لم يكن ذلك نسخا لأن الخبر لم يثبت ما نفاه النص لأن النص لم يتعرض لليل وإنما نفينا الصوم بالليل لأن الأصل أن لا صوم وقامت الدلالة في النهار خاصة على وجوب الصوم فبقي الليل على حكم العقل

المسألة الثانية في النقصان من العبادة

الحكم الثامن لو قال الله تعالى صلوا إن كنتم متطهرين فإنه لا يمتنع أن يقبل خبر الواحد والقياس في إثبات شرط آخر للصلاة لأن إثبات بدل الشرط لا يخرجه عن أن يكون شرطا إذ لا يمتنع أن يكون للحكم شرطان وليس كذلك إثبات صوم جزء من الليل لأن ذلك يخرج أول الليل من أن يكون له غاية وأما نفي كون الشرط الآخر شرطا فلم يعلم إلا بالعقل فلم يكن رفعه رفعا لحكم شرعي والله أعلم المسألة الثانية شك في أن النقصان من العبادة نسخ لما أسقط ولا شك في أن مالا تتوقف عليه صحة العبادة لا يكون نسخه نسخا للعبادة كما لو قال أوجبت الصلاة والزكاة ثم قال نسخت الزكاة أما الذي تتوقف صحة العبادة عليه فذلك قد يكون جزءا من ماهية العبادة وقد يكون خارجا عنها واختلفوا فيه

فقال الكرخي نقصان ما تتوقف العبادة عليه سواء كان جزءا أو خارجا لا يقتضي نسخ العبادة وهو المختار وقال القاضي عبد الجبار نقصان الجزء يقتضي نسخ الباقي ونقصان الشرط المنفصل لا يقتضي نسخ الباقي فنقول الدليل عليه أن نسخ أحد الجزأين لا يقتضي نسخ الجزء الآخر وذلك لأن الدليل المقتضي للكل كان متناولا للجزأين فخروج أحد الجزأين لا يقتضي خروج الجزء الآخر كسائر أدلة التخصيص واحتجوا بأن نقصان الركعة من الصلاة يقتضي رفع وجوب تأخير التشهد ونفي إجزائها من دون الركعة لأن قبل النسخ ما كان تجوز الصلاة من دون هذه الركعة وأيضا إن كانت الركعة لما نسخت أوحبت) علينا أن نخلي الصلاة منها فقد ارتفع إجزاء الصلاة إذا فعلناها مع الركعة المنسوخة وإجزاء الصلاة مع الركعة قد يكون حكما شرعيا فجاز أن يكون رفعه نسخا

والجواب أن هذه احكام للركعة الباقية مغايرة لذاتها فكان نسخها مغايرا لنسخ تلك الذات وأما نقصان الشرط المنفصل من العبادة فلا يقتضي نسخ العبادة لأنهما عبادتان فإذا نسخ إحداهما لدليل مقصور عليها لم يجز نسخ الآخرى فعلى هذا نسخ الوضوء لا يكون نسخا للصلاة بل نفي الإجزاء مع فقد الطهارة قد زال وذلك لأن الصلاة ما كانت تجزئ بلا طهارة فإذا نسخ وجوب الطهارة صارت مجزية وارتفع نفي إجزائها فإن أراد الإنسان بقوله إن نسخ الوضوء يقتضي نسخ الصلاة هذا المعنى فصحيح لكن الكلام موهم لأن إطلاق القول بأالصلاة منسوخة هو أنه قد خرجت عن الوجوب أو عن أن تكون عبادة والله أعلم

القسم الرابع في الطريق الذي يعرف به كون الناسخ ناسخا والمنسوخ منسوخا

القسم الرابع في الطريق الذي به يعرف كون الناسخ ناسخا والمنسوخ منسوخا قد يعلم عبد ذلك باللفظ تارة وبغيره اخرى أما اللفظ فهو أن يوجد لفظ النسخ أما بأن يقول هذا منسوخ أو يقول ذاك ينسخ هذا وأما غير اللفظ فهو أن يأتي بنقيض الحكم الأول أو بضده مع العلم بالتاريخ مثال النقيض قوله تعالى الآن خفف الله عنكم فإنه نسخ لثبات الواحد للعشرة لأن التخفيف نفي للثقل المذكور ومثال الضد التحويل من قبلة إلى أخرى لأن التوجه إلى

الكعبة ضد التوجه إلى بيت المقدس وأما التاريخ فقد يعلم باللفظ أو بغيره أما اللفظ فكما إذا قال أحد الخبرين قبل الآخر وأما غير اللفظ فعلى وجوه أحدها أن يقول هذا الخبر ورد سنة كذا وهذا في سنة كذا وثانيها أن يعلق أحدهما على زمان معلوم التقدم والآخر بالعكس كما لو قال كان هذا في غزاة بدر والآخر في غزاة أحد وهذه الآية نزلت قبل الهجرة والأخرى بعدها وثالثها أن يروي أحدهما رجل متقدم الصحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويروي الآخر رجل متأخر الصحبة وانقطعت صحبة الأول للرسول عليه السلام عند ابتداء الآخر بصحبته فهذا يقتضي أن يكون خبر الأول متقدما

أما لو دامت صحبة المتقدم مع الرسول عليه الصلاة والسلام لم يصح هذا الاستدلال ويتفرع على هذا الأصل مسائل مسألة قال القاضي عبد الجبار الصحابي إذا قال في أحد الخبرين

المتواترين إنه كان قبل الآخر قبل ذلك وإن لم يقبل قوله في نسخ المعلوم كما تقبل شهادة الشاهدين في الإحصان الذي يترتب عليه الرجم وإن لم يقبل في إثبات الرجم وكما يقبل قول القابلة في الولد إنه من إحدى المرأتين وإن كان يترتب على ذلك ثبوت نسب الولد من صاحب الفراش مع أن شهادة المرأة لا تقبل في ثبوت النسب قال أبو الحسين رحمه الله هذا يقتضي الجواز العقلي في قبول خبر الواحد في تاريخ الناسخ ولا يقتضي وقوعه إلا إذا تبين أنه يلزم من ثبوت أحد الحكمين ثبوت الآخر مسألة اذا قال الصحابي كان هذا الحكم ثم نسخ كقولهم إن خبر الماء

المتواترين إنه كان قبل الآخر قبل ذلك وإن لم يقبل قوله في نسخ المعلوم كما تقبل شهادة الشاهدين في الإحصان الذي يترتب عليه الرجم وإن لم يقبل في إثبات الرجم وكما يقبل قول القابلة في الولد إنه من إحدى المرأتين وإن كان يترتب على ذلك ثبوت نسب الولد من صاحب الفراش مع أن شهادة المرأة لا تقبل في ثبوت النسب قال أبو الحسين رحمه الله هذا يقتضي الجواز العقلي في قبول خبر الواحد في تاريخ الناسخ ولا يقتضي وقوعه إلا إذا تبين أنه يلزم من ثبوت أحد الحكمين ثبوت الآخر مسألة اذا قال الصحابي كان هذا الحكم ثم نسخ كقولهم إن خبر الماء

من الماء نسخ بخبر التقاء الختانين لم يكن ذلك حجة لأنه يجوز أن يكون قاله اجتهادا فلا يلزمنا وعن الكرخي أن الراوي إذا عين الناسخ فقال هذا نسخ هذا جاز أن يكون قاله اجتهادا فلا يجب الرجوع إليه وإلم يعين الناسخ بل قال هذا منسوخ وجب قبوله لأنه لولا ظهور النسخ فيه لما أطلق النسخ اطلاقا وهذا ضعيف فلعله قاله لقوة ظنه في أن الأمر كذلك وإن كان قد أخطأ فيه والله أعلم بالصواب وبهذا انتهي المجلد الاول من المخطوطات التي تم تحقيق الكتاب عليها بحسب تقسيم المصنف ومن نقلوا عنه.

بسم الله الرحمن الرحيم جميع الحقوق محفوظة للناشر الطبعة الثالثة 1418 هـ / 1997 م

المحصول في علم أصول الفقه للامام الاصولي النظار المفسر فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي 544 - 606 هـ / 1149 - 1209 م دراسة وتحقيق الدكتور طه جابر فياض العلواني الجزء الرابع مؤسسة الرسالة

بسم الله الرحمن الرحيم

نموذج لورقة الغلاف من نسخة دار الكتب المصرية أصول والتي رمزنا لها ب (س)

نموذج للورقة الاولى من نسخة دار الكتب المصرية أصول والتي رمزنا لها ب (س) .

نموذج الورقة الاخيرة من نسخة دار الكتب المصرية أصول والتي رمزنا لها ب (س) .

نموذج من الورقة التي تبدأ بها نسخة سوهاج والتي رمزنا لها ب (ج) .

نموذج الورقة الثانية من النسخة سوهاج التي رمزنا لها ب (ج) وتلاحظ آثار الرطوبة عليها.

نموذج من الورقة الاخيرة من النسخة سوهاج والتي رمزنا لها ب (ج) ويلاحظ عليها تاريخ النسخ واسم الناسخ.

مقدمة المحقق

المقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله واصحابه ومن تبعه، واهتدي بهديه الى يوم الدين، اما بعد: فقد انعم الله - تعالى - بفضله ومنه باتمام طبع الجزء الاول باقسامه الثلاثة وها نحن نتبعه بالجزء الثاني، وذلك تنفيذا لتوجيهات معالي مدير الجامعة الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي - الذي حرص - حفظه الله ان يقدم الكتاب كاملا بجميع اقسامه باقرب فرصته وابهي حلة ليكون في متناول ايدي الباحثين. فسارعت - مستعينا - بالله تعالى - مستمدا منه - جل شأنه - العون والتوفيق لاعداده وانجازه. وهذا الجزء - من الكتاب قد اشتمل على: 1 - كتاب الاجماع وقد رتبه الامام المصنف في سبعة اقسام، وفي كل قسم مجموعة من المسائل. فالقسم الأول في اصل الاجماع، والقسم الثاني: فيما أخرج من الاجماع وهو منه، والقسم الثالث: فيما ادخل في الاجماع وليس منه، والقسم الرابع: فيما يصدر عنه الاجماع والقسم لاخامس: في المجمعين والقسم السادس: فيما عليه ينعقد الاجماع، والقسم السابع: في حكم الاجماع.

2 - الكلام في الأخبار: وهو مرتب على مقدمة وثلاثة أقسام: وقد اشتملت المقدمة على خمس مسائل. وأما القسم الأول فهو في ثلاثة ابواب ادرج تحت كل باب مجموعة من المسائل. وأما القسم الثاني فقد رتب القول فيه على اقسام وفصول ضمن كل قسم وفصل مجموعة من المسائل وكذلك فعل في القسم الثالث. 3 - الكلام في القياس: وهو في مقدمة واقسام ثلاثة: ضمن المقدمة عددا من المسائل وادرج تحت كل قسم مجموعة من الابواب والفصول تناول فيها مباحث القياس كلها، وهذا القسم من الجزء اطول اقسامه واوسعها. 4 - الكلام في التعادل والترجيح، وهو مرتب على أربعة أقسام في كل قسم مجموعة من المسائل المندرجة تحته. 5 - الكلام في الاجتهاد: وقد رتبه في اربعة اركان. 6 - الكلام في المفتي والمستفتي: وقد جعله في ثلاثة اقسام. 7 - الكلام فيما اختلف فيه لا مجتهدون من أدلة الشرع وفيه احدى عشرة مسألة بالفراغ منها تم الكتاب. واما النسخ - التي حققناه عليها - فهي سبع نسخ بدلا من الستة التي حققنا الجزء الاول عليها، فقد اضفنا نسختين: اولاهما: نسخة دار الكتب المصرية رقم اصول الفقه، وهي نسخة كاملة للجزء الثاني - وحده - كتبت بخط معتاد اوراقها سبع وسبعون ومائة ورقة وابعادها (22 * 5، 16 سم) .

فرغ من نسخها سنة خمس وخمسين وستمائة هجرية. ناسخها: عبد الواحد بن أبي طالب النعجواني. وعليها تملكا وتواقيع منها الظاهر ومنها المطموس (يمكن ملاحظتها في نموذج صورة الورقة الاولى) . وقد رمزنا بالحرف (س) . والثانية: نسخة (سوهاج) برقم اصول، وهي اقدم النسخ - التي اطلعنا عليها - حيث فرغ من سنخها سنة تسع وستمائة - بعد وفاة الامام المصنف بثلاث سنوات وهي نسخة مكتبوبة بخط معتاد، وقد بلغت اوراقها تسعا وعشرين ومائتي ورقة. وابعادها (16 * 26 سم) . وفيها نقص من اولها يقرب من ثماني ورقات حيث تبدأ في الكلام على حجية الاجماع كما يلاحظ في صورة الورقة الاولى منها. وقد وصلت الى مكتبة جامعة الامام صورة عن نسخة (جستربتي) وهي اقدم النسخ التي اطلعنا عليها، حيث فرغ من نسخها سنة هـ - اي قبل وفاة المؤلف بثماني سنوات وبها نقص في الجزء الاول من الكتاب من اوله حتى (النظر الخامس) لكن هذا لا نقص لا يقلل كثيرا من قيمة هذه النسخة واهميتها. ولقد بادرنا لتصوير نسخة عنها استفندنا منها فيما لم يكن قد طبع من الجزء الثاني، وسنستفيد منها كلها إن شاء الله في الطبعة القادمة للكتاب. وبعد: فهذا كتاب (المحصول في علم اصول الفقه) نقدمه - لاول مرة - كاملا وبجميع اجزائه لطلاب العلم والباحثين محققا ومرتبا ليكون في متناول ايدي اهل العلم بعد مرور ثمانية قرون على تأليفه. واني لارجو ان اكون قد وفقت في وضع بنية هامة في بناء صرح ثقافتنا الاسلامية وعلوم شريعتنا الغراء بتقديم هذا الكتاب.

والله - تعالى - اسأل ان يتقبل هذا العمل بقبول حسن - وان يجعله خالصا لوجهه الكريم، وان يحقق به النفع المأمول. انه سميع مجيب. د. طه جابر فياض العلواني

المحصول في علم اصول الفقه للاما الاصولي النظار المفسر فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي 544 - 606 هـ / 1149 - 1209 م دراسة وتحقيق الدكتور جابر فياض العلواني الجزء الرابع

الكلام في الإجماع

بسم الله الرحمن الرحيم الكلام في الإجماع هو مرتب على سبعة اقسام

القسم الأول في أصل الإجماع

القسم الأول في أصل الإجماع المسألة الأولى الإجماع يقال بالاشتراك على معنيين أحدهما العزم قال الله تعالى فأجمعوا أمركم وقال عليه الصلاة والسلام لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل

وثانيهما الاتفاق يقال أجمع الرجل إذا صار ذا جمع كما يقال ألبن وأتمر إذا صار ذا لبن وذا تمر فقولنا اجمعوا على كذا أي صاروا ذوي جمع عليه وأما في اصطلاح العلماء فهو عبارة عن اتفاق أهل الحل والعقد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أمر من الأمور ونعني ب الاتفاق الاشتراك إما في الاعتقاد أو القول أو الفعل أو إذا أطبق بعضهم على الاعتقاد وبعضهم على القول أو الفعل الدالين على الإعتقاد ونعني بأهل الحل والعقد المجتهدين في الأحكام الشرعية وإنما قلنا على أمر من الأمور ليكون متناولا للعقليات والشرعيات واللغويات

المسألة الثانية في بيان إمكان وقوع الإجماع، والمذاهب فيه وفي نقله

عليه المسألة الثانية من الناس من زعم أن اتفاقهم على الحكم الواحد الذي لا يكون معلوما بالضرورة محال كما أن أتفاقهم في الساعة الواحدة على المأكول الواحد والتكلم بالكلمة الواحدة محال وربما قال بعضهم كما أن اختلاف العلماء في الضروريات محال فكذا اتفاقهم في النظريات محال والجواب أن الاتفاق إنما يمتنع فيما يتساوى فيه الاحتمال كالمأكول المعين والكلمة المعينة

أما عند الرجحان وذلك عند قيام الدلالة أو الأمارة الظاهرة فذلك غير ممتنع وذلك كاتفاق الجمع العظيم على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم واتفاق الشافعية والحنفية مع كثرتهما على قوليهما مع أن أكثر أقوالهما صادر عن الأمارة ومن الناس من سلم إمكان هذا الاتفاق في نفسه لكنه قال لا طريق لنا إلى العلم بحصوله لأن العلم بالأشياء إما أن يكون وجدانيا أو لا يكون أما الوجداني فكما يجد كل واحد منا من نفسه من جوعه وعطشه ولذته وألمه إلى غير ذلك ولا شك أن العلم بحصول اتفاق أمه محمد صلى الله عليه وسلم ليس من هذا الباب وأما الذي لا يكون وجدانيا فقد اتفقوا على أن الطريق إلى معرفته إما الحس وإما الخبر وإما النظر العقلي أما النظر العقلي فلا مجال له في أن الشخص الفلاني قال بهذا القول أو لم يقل به بقي أن يكون الطريق إليه إما الحس وإما الخبر لكن من المعلوم أن الإحساس بكلام الغير أو الإخبار عن كلامه لا يمكن إلا بعد معرفته فإذن العلم باتفاق الأمة لا يحصل إلا بعد معرفة كل واحد من الأمة لكن ذلك متعذر قطعا فمن الذي يعرف جميع الناس الذين هم بالشرق والغرب وكيف الأمان من وجود إنسان في مطمورة لا خبر عندنا منه فإنا إذا أنصفنا علمنا أن الذين بالشرق لا خبر عندهم من أحد من علماء

الغرب فضلا عن العلم بكل واحد منهم على التفصيل وبكيفية مذاهبه وأيضا فبتقدير العلم بكل واحد من علماء العالم لا يمكننا معرفة اتفاقهم لأنه لا يمكن ذلك إلا بالرجوع إلى كل واحد منهم وذلك لا يفيد حصول الاتفاق لاحتمال أن بعضهم أفتى بذلك على خلاف اعتقاده تقية أو خوفا أو لأسباب أخرى مخفية عنا وايضا فبتقدير أن نرجع إلى كل واحد منهم ونعلم أن كل واحد منهم أفتى بذلك من صميم قلبه فهو لا يفيد حصول الإجماع لاحتمال أن علماء بلدة إذا أفتوا بحكم فعند الإرتحال عن بلدهم والذهاب إلى البلدة الأخرى رجعوا عن ذلك الحكم قبل فتوى أهل البلدة الأخرى بذلك وعلى هذا التقدير لا يحصل الاتفاق لأنا لو قدرنا أن الأمة انقسمت إلى قسمين وأحد القسمين أفتى بحكم والآخر أفتى بنقيضه ثم انقلب المثبت نافيا والنافي مثبتا لم يحصل الإجماع وإذا كان كذلك فمع قيام هذا الاحتمال كيف يحصل اليقين بحصول الإجماع بل ها هنا مقام اخر وهو أن أهل العلم بأسرهم لو اجتمعوا في موضع واحد ورفعوا أصواتهم دفعة واحدة وقالوا أفتينا بهذا الحكم

فهذا مع امتناع وقوعه لا يفيد العلم بالإجماع لاحتمال أن يكون بعضهم كان مخالفا فيه فخاف من مخالفة ذلك الجمع العظيم أو خاف ذلك الملك الذي أحضرهم أو أنه أظهر المخالفة لكن خفى صوته فيما بين أصواتهم فثبت أن معرفة الإجماع ممتنعة فان قلت ما ذكرتموه باطل بصور إحداها أنا نعلم بالضرورة أن المسلمين معترفون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبوجوب الصلوات الخمس ونعلم اتفاق أصحاب الشافعي على القول ببطلان البيع الفاسد واتفاق الحنفية على القول بانعقاد وإن كانت الوجوه التي ذكرتموها بأسرها حاصلة ها هنا وثانيها أنا نعلم ان الغالب على أهل الروم النصرانية وعلى بلاد الفرس الإسلام وإن كنا ما لقينا كل واحد من هذه البلاد ولا كل واحد من ساكنيها وثالثها أن السلطان العظيم يمكنه أن يجمع الناس في موضع واحد بحيث يمكن معرفة اتفاقهم واختلافهم

قلت أما قوله نعلم بالضرورة اتفاق المسلمين على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم قلت إن كنت تعني بالمسلمين المعترفين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فقولك نعلم اتفاق المسلمين على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم يجرى مجرى أن يقال نعلم اتفاق القائلين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وإن كنت تعني به شيئا آخر غير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فلا نسلم أنا نقطع أن القائل بذلك قائل بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولا نسلم أيضا أنا نقطع بأن كل من قال نبوة محمد صلى الله عليه وسلم قال بوجوب الصلوات الخمس وصوم رمضان وإن كنا نعترف بحصول الظن والذي يدل عليه أن الانسان قبل الإحاطة بالمقالات الغربية والمذاهب النادرة يعتقد اعتقادا جازما أن كل المسلمين يعترفون أن ما بين الدفتين كلام الله عز وجل ثم إذا فتش عن المقالات الغربية وجد في ذلك اختلافا شديدا نحو ما يروى عن ابن مسعود أنه أنكر كون الفاتحة والمعوذتين والمعوذتين من القرآن

ويروى عن الميمونية قوم من الخوارج أنهم أنكروا كون سورة يوسف من القرآن ويروى عن كثير من قدماء الروافض أن هذا القرآن الذي عندنا ليس هو ذلك الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بل غير وبدل ونقص عنه وزيد فيه وإذا كان كذلك علمنا أنا وإن اعتقدنا في الشئ أنه مجمع عليه

اعتقادا قويا لكن ذلك الاعتقاد لا يبلغ حد العلم ولا يرتفع عن درجة الظن قوله نعلم استيلاء بعض المذاهب على بعض البلاد قلنا علمنا ذلك بخبر التواتر وفرق بين معرفة حال الأكثر وبين معرفة حال الكل لأن من دخل بلدا ورأى شعائر الإسلام في جميع المحلات والسكك ظاهرة علم بالضرورة أن الغالب على أهل تلك المدينة الاسلام فإما أن يعلم قطعا أنه ليس في البلدة أحد إلا مسلم ظاهرا وباطنا فذلك مما لا سبيل إليه ألبتة والعلم بامتناعه ضروري قوله السلطان العظيم يمكنه جمع علماء العالم في موضع واحد قلنا هذا السلطان المستولي على جميع معمورة العالم مما لم يوجد إلى الآن وبتقدير وجودة فكيف يمكن القطع بأنه لم ينفلت منه أحد في أقصى الشرق الغرب او اقصى فإن ذلك الملك ليس بعلام أبي الغيوب وبتقدير أن لا ينفلت منه أحد فكيف يمكن القطع بأن الكل أفتوا بذلك الحكم طائعين راغبين غير مكرهين ولا مجبرين والإنصاف انه لا طريق لنا إلى معرفة حصول الإجماع الا في زمان

المسألة الثالثة في حجية الإجماع

الصحابة حيث كان المؤمنين قليلين يمكن معرفتهم بأسرهم على التفضيل المسألة الثالثة إجماع أمه محمد صلى الله عليه وسلم حجة خلافا للنظام والشيعة والخوارج لنا وجوه الأول قول تعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير

سبيل المؤمنين الآية جمع الله تعالى بين مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد فلو كان اتباع غير سبيل المؤمنين مباحا لما جمع بينه وبين المحظور كما لا يجوز أن يقال إن زنيت وشربت الماء عاقبتك فثبت أن متابعة غير سبيل المؤمنين محظورة ومتابعة غير سبيل المؤمنين عبارة عن متابعة قول أو فتوى غير قولهم وفتواهم وإذا كانت تلك محظورة وجب أن تكون متابعة قولهم وفتواهم واجبة ضرورة أنه لا خروج من القسمين فإن قيل لا نسلم أن متابعة غير سبيل المؤمنين محظورة على الاطلاق ولم لا يجوز أن يكون كونها محظورة مشروطا بمشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا تكون محظورة بدون هذا الشرط خرج على هذا قوله إن زنيت وشربت الماء عاقبتك لأن شرب الماء غير محظور لا مطلقا ولا بشرط الزنا فإن قلت إذا كان اتباع غير سبيل المؤمنين حراما عند حصول المشاقة وجب أن يكون اتباع سبيل المؤمنين واجبا عند حصول المشاقة لأنه لا

خروج عن القسمين لكن ذلك باطل لأن المشاقة ليست عبارة عن المعصية كيف كانت وإلا لكان كل من عصى الرسول صلى الله عليه وسلم مشاقا له بل هي عبارة عن الكفر به وتكذيبه وإذا كان كذلك لزم وجوب العمل بالإجماع عند تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام وذلك باطل لأن العلم بصحة الإجماع متوقف على العلم بالنبوة فايجاب العمل به حال عدم العلم بالنبوة يكون تكليفا بالجمع بين الضدين وهو محال قلت لا نسلم أنه إذا كان اتباع غير سبيل المؤمنين حراما عند المشاقة كان اتباع سبيل المؤمنين واجبا عند المشاقة لأن بين القسمين ثالثا وهو عدم الاتباع أصلا سلمنا أنه يلزم وجوب اتباع سبيل المؤمنين عند المشاقة لكن لا نسلم أنه ممتنع قوله المشاقة لا تحصل إلا عند الكفر به وإيجاب العمل بالإجماع عند حصول الكفر محال قلنا لا نسلم أن المشاقة لا تحصل إلا مع الكفر بيانه أن المشاقة مشتقة من كون أحد الشخصين في شق وكون الآخر في الشق الآخر وذلك يكفي فيه أصل المخالفة سواء بلغ حد الكفر

أو لم يبلغه سلمنا أن المشاقة لا تحصل إلا عند الكفر فلم قلت إن حصول الكفر ينافي تمكن العمل بالاجماع بيانه أن الكفر بالرسول صلى الله عليه وسلم كما يكون بالجهل بكونه صادقا فقد يكون أيضا بأمور أخر كشد الزنار ولبس الغيار وإلقاء المصحف في القاذورات والاستخفاف بالنبي صلى الله عليه وسلم مع الاعتراف بكونه نبيا وإنكار نبوته باللسان مع العلم بكونه نبيا وشئ من هذه الأنواع من الكفر لا ينافي العلم بوجوب الإجماع سلمنا هذه المنافاة فلم قلت إنها مانعة من التكليف بيانه أن الله تعالى كلف أبا لهب بالإيمان ومن الإيمان تصديق الله تعالى في كل ما أخبر عنه ومما أخبر عنه أنه لا يؤمن فيكون أبو لهب مكلفا بأن يؤمن بأنه لا يؤمن وذلك متعذر وهذ التوجيه ظاهر أيضا في قوله تعالى إن الذين كفروا سواء عليهم أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون وإن أؤلئك الذي أخبر الله عنهم بهذا الخبر كانوا مكلفين بالإيمان فكانوا مكلفين بتصديق هذه الآية وباقي التقرير ظاهر

سلمنا أن هذه الآية تقتضي المنع من متابعة غير سبيل المؤمنين لا بشرط مشاقة الرسول لكن بشرط تبين الهدى أولا بهذا الشرط الأول مسلم والثاني ممنوع بيانه أنه تعالى ذكر مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم وشرط فيها تبين الهدى ثم عطف عليها اتباع غير سبيل المؤمنين فوجب أن يكون تبين الهدى شرطا في التوعد على اتباع غير سبيل المؤمنين لأن ما كان شرطا في المعطوف عليه يجب أن يكون شرطا في المعطوف واللام في الهدى للاستغراق فيلزم أن لا يحصل التوعد على اتباع غير سبيل المؤمنين إلا عند تبين جميع أنواع الهدى ومن جملة أنواع الهدى ذلك الدليل الذي لأجله ذهب أهل الإجماع إلى ذكر الحكم وعلى هذا التقدير لا يبقى للتمسك بالإجماع فائدة وأيضا فالإنسان إذا قال لغيره إذا تبين لك صدق فلان فاتبعه فهم منه تبين صدق قوله بشئ غير قوله فكذا ها هنا يجب أن يكون تبين صحة إجماعهم بشئ وراء إجماعهم وإذا كنا لا نتمسك بالإجماع

إلا بعد دليل منفصل على صحة ما أجمعوا عليه لم يبق للتمسك بالإجماع أثر وفائدة سلمنا انها تقتضي المنع من متابعة غير سبيل المؤمنين ولكن عن متابعة كل ما كان غير سبيل المؤمنين أو عن متابعة بعض ما كان كذلك الأول ممنوع وبتقدير التسليم فالاستدلال ساقط أما المنع فلأن لفظ الغير ولفظ السبيل كل واحد منهما لفظ منفرد فلا يفيد العموم وأما أن بتقدير التسليم فالاستدلال ساقط لأنه يصير معنى الآية أن كل من اتبع كل ما كان مغايرا لكل ما كان سبيل المؤمنين يستحق العقاب وهذا يقتضي أن يكون المتبع لبعض ما غاير سبيل المؤمنين مستحقا للعقاب والثاني مسلم ونقول بموجبه فإن عندنا يحرم بعض ما غاير بعض سبيل المؤمنين أو بعض ما غاير كل سبيل المؤمنين أو كل ما غاير بعض سبيل المؤمنين وهو السبيل الذي صاروا به مؤمنين والذي يغايره هو الكفر بالله تعالى وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا التأويل متعين لوجهين أحدهما أنا إذا قلنا لا تتبع غير سبيل الصالحين فهم منه المنع من متابعة

غير سبيل الصالحين فيما به صاروا غير صالحين ولا يفهم منه المنع من متابعة سبيل غير الصالحين في كل شئ حتى في الأكل والشرب وثانيهما أن الآية نزلت في رجل ارتد وذلك يدل على أن الغرض منها المنع من الكفر سلمنا حظر اتباع غير سبيلهم مطلقا لكن لفظ السبيل حقيقة في الطريق الذي يحصل فيه المشي وهو غير مراد ها هنا بالاتفاق فصار الظاهر متروكا فلا بد من صرفه إلى المجاز وليس البعض أولى من البعض فتبقى الآية مجملة وأيضا فإنه لا يمكن جعله مجازا عن اتفاق الآمة على الحكم لأنه لا مناسبة ألبتة بين الطريق المسلوك وبين اتفاق أمه محمد صلى الله عليه وسلم على شئ من الأحكام وشرط حسن التجوز حصول المناسبة سلمنا أنه يجوز جعله مجازا عن ذلك الاتفاق لكن يجوز أيضا جعله مجازا عن الدليل الذي لأجله اتفقوا على ذلك الحكم فإنهم إذا أجمعوا على الشئ فإما أن يكون ذلك الإجماع عن استدلال أو لا عن استدلال فإن كان عن استدلال فقد حصل لهم سبيلان الفتوى والاستدلال فلم كان حمل الآية على الفتوى أولى من حملها على الاستدلال على الفتوى

بل هذا أولى فإن بين الدليل الذي يدل على ثبوت الحكم وبين الطريق الذي يحصل فيه المشي مشابهة فإنه كما أن الحركة البدنية في الطريق المسلوك توصل البدن إلى المطلوب فكذا الحركة الذهنية في مقدمات ذلك الدليل توصل الذهن إلى المطلوب والمشابهة إحدى جهات حسن المجاز وإذا كان كذلك كانت الآية تقتضي إيجاب اتباعهم في سلوك الطريق الذي لأجله اتفقوا على الحكم ويرجع حاصله إلى إيجاب الاستدلال بما استدلوا به على ذلك الحكم وحينئذ يخرج الإجماع عن كونه حجة وأما إن كان إجماعهم لا عن استدلال والقول لا عن استدلال خطأ فيلزم إجماعهم على الخطأ وذلك يقدح في صحة الإجماع سلمنا دلالة الآية على تحريم متابعة غير قولهم لكن لا نسلم أن كلمة من للعموم وأن لفظ المؤمنين لعموم فإنا لو حملناه على للعموم لزم تطرف التخصيص إلى الآية لعدم دخول العوام والمجانين والنساء والصبيان في الإجماع سلمنا ذلك لكن لم قلت إنه يلزم من حظر اتباع غير سبيلهم وجوب اتباع سبيلهم

بيانه أن لفظ غير وإن كان يستعمل في الاستثناء لكنهم أجمعوا على أنه في الأصل للصفة وإذا كان كذلك كان بين اتباع غير سبيل المؤمنين وبين اتباع سبيلهم قسم ثالث وهو ترك الاتباع فإن قلت ترك متابعة سبيل المؤمنين غير سبيل المؤمنين فمن ترك متابعة سبيلهم فقد اتبع غير سبيلهم قلت لم لا يجوز أن يقال الشرط في كون الإنسان متابعا لغيره كونه آتيا بمثل فعل الغير لأجل أن ذلك الغير أتى به فمن ترك متابعة سبيل المؤمنين وهو إنما تركه لأجل أن غير المؤمنين تركوه كان متبعا في ذلك سبيل غير المؤمنين أما من تركه لأن الدليل دل عنده على وجوب ذلك الترك أو لأنه لما لم يدل شئ على متابعة المؤمنين تركه على الأصل لم يكن ها هنا متبعا لأحد فلا يدخل تحت الوعيد سلمنا دلالة الآية على وجوب متابعة سبيل المؤمنين لكن في كل الأمور أو في بعضها الأول ممنوع لوجوه

أحدها أن المؤمنين إذا اتفقوا على فعل شئ من المباحات فلو وجب اتباع سبيلهم في كل الأمور لزم التناقض لأنه يجب عليهم فعله من حيث إنهم فعلوه ولا يجب ذلك لحكمهم بأنه غير واجب وثانيها أن أهل الإجماع قبل اتفاقهم على ذلك الحكم كانوا متوقفين في المسألة غير جازمين بالحكم بل كانوا جازمين بأنه يجوز البحث عنها ويجوز الحكم لكل أحد بما أدى إليه اجتهاده ثم إنهم بعد الإجماع قطعوا بذلك الحكم فلو وجب متابعتهم في كل ما يقولونه لزم اتباعهم في النقيضين وهو محال فإن قلت الإجماع الأول على تجويز التوقف وطلب الدلالة والحكم بما أدى إليه الاجتهاد ما كان مطلقا بل كان بشرط عدم الاتفاق على حكم واحد فإذا حصل الاتفاق زال شرط الإجماع فزال بزواله قلت المفهوم من عدم حصول الإجماع حصول الخلاف فلو شرطنا تجويز الخلاف بعدم الإجماع لزم أن يكون تجويز وجود الشئ مشروطا بوجوده وأيضا ف لو جاز في أحد الإجماعين أن يكون مشروطا بشرط جاز أيضا في الإجماع الثاني والثالث ويلزم منه أن لا يستقر شئ من الإجماعات

وثالثها أن اتفاق المجمعين على ما أجمعوا عليه إما أن لا يكون عن استدلال أو يكون عن استدلال والأول باطل لأن القول بغير استدلال خطأ بالإجماع فلو اتفق أهل الإجماع عليه كانوا مجمعين على الخطأ وذلك يقدح في كون الإجماع حجة وإذا كان الثاني فذلك الدليل إما الإجماع أو غيره والأول باطل لأن الإجماع إما أن يكون نفس حكمهم أو نتيجة حكمهم والدليل على الحكم متقدم على الحكم والثاني يقتضي أن يكون سبيل المؤمنين إثبات ذلك الحكم بغير الإجماع فيكون إثباته بالإجماع اتباعا لغير سبيلهم فوجب أن لا يجوز فظهر أنا لو حملنا الآية على اقتضاء متابعة المؤمنين في كل الأمور لزم التناقض وإذا بطل ذلك وجب حملها على اقتضاء المتابعة في بعض الأمور وحينئذ نقول بموجبه ونحمله على الإيمان بالله تعالى ورسوله ثم الذي يؤكد هذا الاحتمال وجوه أحدها أن القائل إذا قال اتبع سبيل الصالحين فهم منه الأمر باتباعهم فيما به صاروا صالحين فكذا ها هنا

وثانيها أنا إذا حملنا الآية على ذلك كان ذلك السبيل حاصلا في الحال ولو حملناه على إجماعهم على الحكم الشرعي كان ذلك مما سيصير سبيلا في المستقبل لأنه لا يوجد إلا بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام فالحمل على الأول إولى وثالثها أن السلطان إذا قال ومن يشاقق وزيري من الجند ولم يتبع سبيل فلان ويشير به إلى اقوام متظاهرين في طاعة الوزير عاقبتهم فإنه انما يعنى بالسبيل المذكور سبيلهم في طاعة الوزير دون سائر السبل سلمنا دلالة الآية على وجوب المتابعة في كل الأمور لكنها تدل على وجوب متابعة بعض المؤمنين أو كلهم الأول باطل لأن لفظ المؤمنين جمع فيفيد الاستغراق ولأن إجماع البعض غير معتبر بالإجماع ولأن أقوال الفرق متناقضة والثاني مسلم ولكن كل المؤمنين هم الذين يوجدون إلى قيام الساعة فلا يكون الموجودون في العصر كل المؤمنين فلا يكون إجماعهم إجماع كل المؤمنين فإن قلت المؤمنون هم المصدقون وهم الموجودون وأما الذين لم

يوجدوا بعد فليسوا بمؤمنين قلت إذا وجد أهل العصر الثاني ففي العصر الثاني لا يصح القول بأن أهل العصر الأول هم كل المؤمنين فلا يكون اجماع أهل العصر الأول عند حصول أهل العصر الثاني قولا لكل المؤمنين فلا يكون اجماع أهل العصر الأول حجة على أهل العصر الثاني سلمنا أن أهل العصر هم كل المؤمنين لكن الآية إنما نزلت في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم فتكون الآية مختصة بمؤمني ذلك الوقت وهذا يقتضي أن يكون إجماعهم حجة لكن التمسك بالإجماع إنما ينفع بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فما لم يثبت أن الذين كانوا موجودين عند نزول هذه الآية بقوا بأسرهم إلى ما بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه اتفقت كلمتهم على الحكم الواحد لم تدل هذه الآية على صحة ذلك الإجماع ولكن ذلك غير معلوم في شئ من الإجماعات الموجودة في المسائل بل المعلوم خلافه لأن كثيرا منهم مات زمان حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فسقط الاستدلال بهذه الآية سلمنا دلالاتها على وجوب متابعة مؤمني كل عصر لكن المراد متابعة كل مؤمني ذلك العصر أو بعضهم الأول باطل وإلا لاعتبر في الإجماع قول العوام بل الأطفال والمجانين

والثاني نقول به لأن عندنا يجب في كل عصر متابعة بعض من كان فيه من المؤمنين وهو الإمام المعصوم سلمنا أن المراد متابعة جميع مؤمني العصر لكن الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب وهو أمر غائب عنا فكيف يعلم في المجمعين كونهم مصدقين بقلوبهم لاحتمال أنهم وإن كانوا مصدقين باللسان لكنهم كفرة بالقلب وإذا جهلنا ذلك جهلنا كونهم مؤمنين وإذا كان الواجب علينا اتباع المؤمنين فمتى جهلنا كونهم مؤمنين لم يجب علينا اتباعهم وهو أيضا لازم على المعتزلة القائلين بأن المؤمن هو المتسحق للثواب لأن ذلك غير معلوم أيضا وأيضا فالأمة متى أجمعت لم نعلم كونهم مستحقين للثواب إلا بعد العلم بكونهم محقين في ذلك الحكم إذ لو لم نعلم ذلك لجوزنا كونهم مخطئين وأن يكون خطؤهم كثيرا يخرجهم عن استحقاق الثواب واسم الايمان فإذن إنما نعرف كون المجمعين مؤمنين إذا عرفنا أن ذلك الحكم صواب فلو استفدنا العلم بكونه صوابا من إجماعهم لزم الدور فإن قلت لم لا يجوز أن يكون المراد من المؤمنين المصدقين باللسان كما في قوله تعالى ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن قلت لا شك أن إطلاق اسم المؤمنين على المصدقين باللسان

دون القلب مجاز فإذا جاز لكم حمل الآية على هذا المجاز فلم لا يجوز لنا حملها على مجاز آخر وهو أن نقول المراد إيجاب متابعة السبيل الذي من شأنه أن يكون سبيلا للمؤمنين كما إذا قيل اتبع سبيل الصالحين لا يراد به وجوب اتباع سبيل من يعتقد فيه كونه صالحا بل وجوب اتباع السبيل الذي يجب أن يكون سبيلا للصالحين سلمنا دلالة الآية على كون الإجماع حجة لكن دلالة قطيعة أم ظنية الأول ممنوع والثاني مسلم لكن المسألة قطعية فلا يجوز التمسك فيها بالدلائل الظنية بيانه ما تقدم في كتاب اللغات أن التمسك بالدلائل اللفظية لا يفيد اليقين ألبتة فإن قلت أنا نجعل هذه المسألة ظنية قلت إن أحدا من الأمة لم يقل إن الإجماع المنعقد بصريح القول دليل ظني بل كلهم نفوا ذلك فإن منهم من نفى كونه دليلا أصلا ومنهم من جعله دليلا قاطعا فلو أثبتناه دليلا ظنيا لكان هذا تخطئه لكل الأمة وذلك يقدح في الإجماع

والعجب من الفقهاء أنهم أثبتوا الإجماع بعمومات الآيات والأخبار وأجمعوا على أن المنكر لما تدل عليه هذه العمومات لا يكفر ولا يفسق إذا كان ذلك الإنكار لتأويل ثم يقولون الحكم الذي دل عليه الإجماع مقطوع به ومخالفه كافر أو فاسق فكأنهم قد جعلوا الفرع أقوى من الأصل وذلك غفلة عظيمة سلمنا دلالة هذه الآية على أن الإجماع حجة لكنها معارضة بالكتاب والسنة والمعقول أما الكتاب فكل ما فيه منع لكل الأمة من القول الباطل والفعل الباطل كقوله عز وجل وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل والنهي عن الشئ لا يجوز إلا إذا كان المنهي عنه متصورا وأما السنة فكثيرة

أحدها قصة معاذ وأنه لم يجر فيها ذكر الإجماع ولو كان ذلك مدركا شرعيا لما جاز الإخلال بذكره عند اشتداد الحاجة إليه لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز وثانيها قوله عليه الصلاة والسلام لا تقوم الساعة إلا على شرار أمتي وثالثها قوله عليه السلام لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ورابعها قوله عليه الصلاة والسلام أن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينترعه (من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء

جهالا فسئلوا فافتوا بغير علم فضلوا وأضلوا وخامسها قوله عليه الصلاة والسلام تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإنها أول ما ينسى وسادسها قوله عليه الصلاة والسلام من أشراط الساعة أن يرتفع العلم ويكثر الجهل

وهذه الأحاديث بأسرها تدل على خلو الزمان عمن يقوم بالواجبات وأما المعقول فمن وجهين الأول أن كل واحد من الأمة جاز الخطأ عليه فوجب جوازه على الكل كما أنه لو كان كل واحد من الزنج أسود كان الكل سودا الثاني أن ذلك الإجماع إما أن يكون لدلالة أو لأمارة أو لا لدلالة ولا لأمارة فإن كان لدلالة فالواقعة التي أجمع عليها كل علماء العلم تكون واقعة عظيمة ومثل هذه الواقعة مما تتوفر الدواعي على نقل الدليل القاطع الذي لأجله أجمعوا فكان ينبغي اشتهار تلك الدلالة وحينئذ لا تبقى للتمسك بالإجماع فائدة وإن كان لأمارة فهو محال لأن الأمارات يختلف حال الناس فيها فيستحيل اتفاق الخلق على مقتضاها ولأن في الأمة من لم يقل بكون الأمارة حجة فلا يمكن اتفاقهم لأجل الأمارة على حكم وإن كان لا لدلالة ولا لأمارة كان ذلك خطأ فادحا في الإجماع ولو اتفقوا عليه لكانوا متفقين على الباطل وذلك قادح في الإجماع

والجواب قوله الآية تقتضي التوعد على اتباع غير سبيل المؤمنين بشرط المشاقة قلنا هذا باطل لأن المغلق على الشرط إن لم يكن عدما عند عدم الشرط فقد حصل غرضنا وإن كان عدما عند عدم الشرط فلو كان التوعد على اتباع غير سبيل المؤمنين مشروطا بالمشاقة ل كان عند عدم المشاقة اتباع غير سبيل المؤمنين جائزا مطلقا وهذا باطل لأن مخالفة الإجماع إن لم تكن خطأ لكن لا شك في أنه لا يكون صوابا مطلقا فبطل ما ذكروه قوله تحريم اتباع غير سبيل المؤمنين مشروط بتبين الهدى قلنا لا نسلم لأن تبين الهدى شرط في الوعيد عند المشاقة لا عند اتباع غير سبيل المؤمنين ولا نسلم إنه يلزم من العطف اشتراك إحدى الجملتين بما كانت الجملة الأخرى مشروطه به سلمنا أن العطف يقتضي الاشتراك في الاشتراط لكن الهدى الذي نتبينه شرطا في حصول الوعيد عند مشاقة الرسول هو الدليل الدال على التوحيد والنبوة لا الدليل الدال على أحكام الفروع وإذا لم يكن تبين

الدليل على مسائل الفروع شرطا في لحوق الوعيد على مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم وجب أن لا يكون ذلك شرطا أيضا في لحوق الوعيد على اتباع غير سبيل المؤمنين وإلا لم تكن الجملة الثانية مشروطة بالشرط المعتبر في الجملة الأولى بل بشرط لم يدل عليه الدليل أصلا سلمنا أن مقتضى العطف ما ذكرتموه لكن معنا دليل يمنع منه من وجهين الأول أن هذه الآية خرجت مخرج المدح للمؤمنين وتمييزهم عن غيرهم ولو حملناه على ما ذكره السائل لبطل ذلك ألا ترى أن اليهود والنصارى إذا عرفنا أن قولا من أقاويلهم هدى فإنه يلزمنا أن نقول بمثله مع أنه لا تبعية لهم فيه الثاني أن اتباع المؤمنين هو الرجوع إلى قولهم لأجل أنهم كانوا هـ لا لأنه صح ذلك بالدليل ألا ترى أنا لا نكون متبعين لليهود والنصارى في قولنا بإثبات الصانع ونبوة موسى وعيسى عليهما السلام وإن شاركناهم في ذلك الاعتقاد لأجل أنا لم نذهب إلى ذلك لأجل قولهم قوله لفظ الغير والسبيل ليس للجمع فلا يقتضي تحريم كل ما كان غيرا لكل ما كان سبيلا للمؤمنين قلنا العموم حاصل من حيث اللفظ ومن حيث الإيماء

أما اللفظ فلوجهين الأول أن القائل إذا قال من دخل غير داري ضربته فهم منه العموم بدليل صحة الاستثناء لكل واحد من الدور المغايرة لداره الثاني أنا لو حملنا الآية على سبيل واحد مع أنه غير مذكور صارت الآية مجملة ولو حملناها على العموم لم يلزم ذلك وحمل كلام الله عز وجل على ما هو أكثر فائدة أولى لا سيما إذا كانت هذه اللفظة إنما تستعمل في العرف لإفادة العموم أما الإيماء فلما سيأتي في باب القياس إن شاء الله عز وجل أن ترتيب الحكم على الاسم مشعر بكون المسمى علة لذلك الحكم فكانت عله التهديد كونه اتباعا لغير سبيل المؤمنين فيلزم عموم الحكم لعموم هذا المقتضي قوله إذا حملناه على الكل سقط الاستدلال قلنا ذلك إنما يلزم لو حملناه على الكل من حيث هو كل أما لو حملناه على كل واحد لم يلزم ذلك ولا شك أنه هو المتبادر إلى الفهم لأن من قال من دخل غير دارى فله كذا لا يفهم منه أنه أراد به من دخل جميع الدور المغايره لداره قوله المراد منه المنع من متابعة غير سبيل المؤمنين فيما به صاروا غير

مؤمنين وهو الكفر قلنا لا نسلم بل الأصل اجراء الكلام على عمومه وايضا فلأنة لا معنى لمشاقة الرسول الا اتباع سبيل المؤمنين فيما به صاروا غير مؤمنين فلو حملنا قوله ويتبع غير سبيل المؤمنين على ذلك لزم التكرار قوله نزلت في رجل ارتد قلنا تقدم بيان أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب قوله السبيل هو الطريق الذي يحصل المشي فيه قلنا لا نسلم لقوله تعالى قل هذه سبيلي وقوله ادع إلى سبيل ربك سلمناه لكنا نعلم بالضرورة أن ذلك غير مراد ها هنا ولا نزاع في أن أهل اللغة يطلقون لفظ السبيل على ما يختاره الإنسان لنفسه في القول والعمل وإذا كان ذلك مجازا ظاهرا وجب حمل اللفظ عليه لأن الأصل عدم المجاز الآخر

وحينئذ يحمل اللفظ على هذا المعنى إلى أن يذكر الخصم دليلا معارضا وبه نجيب عن قولهم لا مناسبة بين الأتفاق على الحكم وبين الطريق الذي يحصل المشي فيه قوله لم لا يجوز أن يكون المراد وجوب متابعتهم في الاستدلال بالدليل الذي لأجله أثبتوا ذلك الحكم قلنا هب أن الأمر كذلك ولكن لما أمر الله تعالى باتباع سبيلهم في الاستدلال بدليلهم ثبت أن كل ما اتفقوا عليه صواب وأيضا فمن أثبت الحكم لدليل لم يكن متبعا لغيره قوله لم قلت إن لفظة من والمؤمنين للعموم قلنا لما تقدم في باب العموم قوله لم قلت إنه يلزم من حظر اتباع غير سبيلهم وجوب اتباع سبيلهم قلت لأنه يفهم في العرف من قول القائل لا تتبع غير سبيل الصالحين الأمر بمتابعة سبيل الصالحين حتى لو قال لا تتبع غير سبيل الصالحين ولا تتبع سبيلهم أيضا لكان ذلك ركيكا بلى لو قال لا تتبع سبيل غير الصالحين فإنه لا يفهم منه الأمر بمتابعة سبيلهم ولذلك

لا يستقبح أن يقال لا تتبع سبيل غير الصالحين ولا سبيلهم وبالجملة فالفرق معلوم بالضرورة في العرف بين قولنا لا تتبع غير سبيل الصالحين وبين قولنا لا تتبع سبيل غير الصالحين قوله يجب اتباع سبيل المؤمنين في كل الأمور أو في بعضها قلنا بل في كلها ولذلك يصح الاستثناء لأنه لما ثبت النهي عن متابعة كل ما هو غير سبيل المؤمنين وثبت أنه لا واسطة بينها وبين اتباع سبيل المؤمنين لزم أن يكون اتباع سبيل المؤمنين واجبا في كل شئ قوله يلزم وجوب اتباعهم في فعل المباحات قلنا هب أن هذه الصورة مخصوصة للضرورة التي ذكرتموها فتبقى حجة فيما عداها قوله الناس قبل حصول الإجماع كانوا مجمعين على التوقف في الحكم وطلب الدليل قلنا الإجماع على ذلك مشروط بأن لا يحصل الاتفاق قوله عدم الإجماع هو الاختلاف فيلزم أن يكون جواز الاختلاف مشروطا بوقوع الاختلاف قلنا هب أنه كذلك فأي محال يلزم منه قوله لو جاز أن يكون هذا الاجماع مشروطا لجاز مثله في سائر الإجماعات قلنا ذلك جائز ولكن أهل الإجماع حذفوا هذا الشرط عند

حصول الاتفاق على الحكم ولم يحذفوه عند الاتفاق على جواز الاختلاف قوله أهل الإجماع أثبتوا ذلك الحكم بغير الإجماع وإثباته بالإجماع مغاير لسبيل المؤمنين قلنا لما أثبتوا الحكم بدليل سوى الإجماع فقد فعلوا أمرين أحدهما أنهم أثبتوا ذلك الحكم بدليل والآخر أنهم تسمكوا بغير الاجماع والآية لما دلت على وجوب متابعتهم في كل الأمور كانت متناولة للصورتين إلا أنه ترك العمل بمقتضى الآية في إحدى الصورتين لانعقاد الإجماع على أنه لا يجب علينا الاستدلال بما استدل به أهل الإجماع فبقى العمل بها في الباقي قوله إذا قال اتبع سبيل الصالحين فهم منه إيجاب اتباع سبيلهم فيما به صاروا صالحين قلنا لا نسلم لأن سبيل الصالح شئ مضاف إلى الصالح

والمضاف إلى الشئ خارج عنه والصلاح جزء من ماهية الصالح وداخل فيها والخارج عن الشئ لا يكون نفس الداخل فيه سلمنا لكن المتابعة في الصلاح ممكنة أما في الإيمان فلا لأنه لا يحصل بالتقليد وقد بينا أن الاتباع هو الإتيان بمثل فعل الغير لأجل أن ذلك الغير فعله قوله إذا حملناه على الإيمان كان ذلك السبيل حاصلا في الحال ولو حملناه على الإجماع لم يكن حاصلا في الحال قلنا لما دللنا على إنه لا يجوز حمله على الإيمان وجب حمله على ذلك غايته أنه يفضي إلى المجاز لكنه مجاز سائغ لأن تسمية الشئ باسم ما يؤول إليه مشهور قوله السلطان إذا قال ومن يشاقق وزيري ويتبع غير سبيل فلان ويعني به المطيعين لذلك الوزير فهم منه أنه أراد بذلك سبيلهم في طاعته قلنا لا نسلم فإن اللفظ يقتضي العموم وما ذكرتموه قرينة عرفية تقتضي الخصوص والدلالة اللفظية راجحة على القرينة العرفية قوله المراد إيجاب اتباع كل المؤمنين أو بعضهم قلنا الكل قوله كل المؤمنين هم الذين يوجدون إلى قيام الساعة

قلنا هذا مدفوع لوجهين الأول أن جميع المؤمنين هم الذين دخلوا في الوجود لأن المؤمن هو المتصف بالإيمان والمتصف بالإيمان يجب ان يكون موجودا وما س يوجد في المستقبل ولم يوجد في الحال فهو غير موجود قوله الموجودون في العصر الأول لا يصدق عليهم في العصر الثاني أنهم كل المؤمنين قلنا لكن لما صدق عليهم في العصر الأول أنهم كل المؤمنين وهم في العصر الأول اتفقوا على أنه لا يجوز لأحد من سائر الأعصار مخالفتهم وجب أن يكون ذلك الحكم منهم صدقا في العصر الأول فإذا ثبت في العصر الأول أن ذلك الحكم حق في كل الأعصار ثبت ذلك في كل الأعصار إذ لو لم يكن حقا في العصر الثاني لما صدق في العصر الأول أنه حق في كل الأعصار مع أنا فرضنا أن ذلك حق الثاني إن الله عز وجل علق العقاب على مخالفة كل المؤمنين زجرا عن مخالفتهم وترغيبا في الأخذ بقولهم فلا يجوز أن يكون المراد جميع المؤمنين إلى قيام الساعة لأنه لا فائدة في التمسك بقولهم بعد قيام الساعة قوله إذا كان المراد من المؤمنين الموجودين في ذلك العصر كانت

الآية دالة على أن إجماع الموجودين في وقت نزول الآية حجة قلنا لا يجوز أن يكون مراد الله تعالى إيجاب اتباع مؤمني ذلك العصر لأن قول المؤمنين حال حياة الرسول صلى الله عليه وسلم إن كان مطابقا لقوله كانت الحجة في قوله لا في قولهم فيصير قولهم لغوا ولما بطل ذلك ثبت أن المراد إيجاب العمل بقول المؤمنين في أي عصر كان قوله المراد كل مؤمني العصر أو بعضهم قلنا ظاهره الكل إلا ما أخرجه الدليل المنفصل وهم العوام والأطفال والمجانين فبقى غيرهم وهم جمهور العلماء داخلا تحت الآية قوله نحمله على الإمام المعصوم قلنا هذا باطل لأن الوعيد على مخالفة المؤمنين فحمله على الواحد ترك للظاهر قوله المراد بالمؤمن المصدق في الباطن وهو غير معلوم الوجود قلنا المؤمن في اللغة هو المصدق باللسان فوجب حمله عليه إلى قيام المعارض والذي يدل عليه أنه تعالى لما أوجب علينا اتباع سبيلهم فلابد وأن نكون متمكنين من معرفتهم والاطلاع على الأحوال الباطنة ممتنع فوجب حمله على التصديق باللسان قوله لم لا يجوز أن يكون المراد إيجاب اتباع السبيل الذي من شأنه

أن يكون سبيلا للمؤمنين قلنا هذا عدول عن الظاهر من غير ضرورة قوله هذه الدلالة ظنية فلا يجوز إثبات الحكم القطعي بها قلنا عندنا أن هذه المسألة ظنية ولا نسلم انعقاد الإجماع عن أنها ليست ظنية قوله أعطيتم الفرع من القوة ما ليس للأصل قلنا نحن لا نقول بتكفير مخالف الإجماع ولا بتفسيقه ولا نقطع أيضا به وكيف وهو عندنا ظني قوله هذه الدلالة معارضة بالآيات الدالة على النهي عن الباطل قلنا لا نسلم أن ذلك النهي خطاب مع الكل بل خطاب مع كل واحد منهم والفرق بين الكل وبين كل واحد منهم معلوم ونحن إنما ندعي عصمة الكل لا عصمة كل واحد سلمنا كونه خطابا للكل لكن النهي لا يقتضي إمكان المنهى عنه من من! كل وجه لأن الله عز وجل ينهى المؤمن عن الكفر مع علمه بأنه لا يفعله وما علم أنه لا يوجد فهو محال الوجود وأما حديث معاذ فهو إنما ترك ذكر الإجماع لأنه لا يكون حجة في زمان

حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وأما قوله صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة إلا على شرار أمتي فهو يدل على حصول الشرار في ذلك الوقت فأما أن يكونوا بأسرهم شرارا فلا وكذا القول في سائر الحديث وأما قوله صلى الله عليه وسلم لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ففي صحته كلام سلمناه لكن لعلة خطاب مع قوم مخصوصين قوله جاز الخطأ على كل واحد فيجوز على الكل قلنا لا نسلم أن حكم المجموع مساو لحكم الآحاد والمثال الذي ذكره يدل على أن ذلك قد يكون كذلك ولا يدل على أنه لابد وأن يكون كذلك سلمنا أن حكم المجموع مساو لحكم الآحاد ولكن عندنا يجوز الخطأ على الكل أيضا لكن ليس كل ما جاز وقع والله تعالى لما أخبر عنهم أن ذلك لا يقع علمنا أنهم لا يتفقون على الخطأ قوله اتفاقهم إما أن يكون لدلالة أو لأمارة

قلنا لم لا يجوز أن يكون لدلالة إلا أنهم ما نقلوها اكتفاء منهم بالإجماع فإنه متى حصل الدليل الواحد كان الثاني غير محتاج إليه والله أعلم المسلك الثاني التمسك بقوله عز وجل وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس الله تعالى أخبر عن كون هذه الأمة وسطا والوسط من كل شئ خياره فيكون الله عز وجل قد أخبر عن خيرية هذه الأمة فلو أقدموا على شئ من المحظورات لما اتصفوا بالخيرية وإذا ثبت أنهم لا يقدمون على شئ من المحظورات وجب أن يكون قولهم حجة فإن قيل الآية متروكة الظاهر لأن وصف الأمة بالعدالة يقتضي اتصاف كل واحد منهم بها وخلاف ذلك معلوم بالضرورة فلا بد من حملها على البعض ونحن نحملها على الأئمة المعصومين سلمنا أنها ليست متروكة الظاهر لكن لا نسلم أن الوسط من كل شئ خياره ويدل عليه وجهان الأول أن عدالة الرجل عبارة عن أداء الواجبات واجتناب المحرمات وهذا من فعل الرجل وقد أخبر الله تعالى أنه جعلهم وسطا فاقتضى ذلك أن

كونهم وسطا من فعله تعالى وذلك يقتضي أن يكون ذلك غير عدالتهم التي ليست من فعل الله تعالى الثاني أن الوسط اسم لما يكون متوسطا بين شيئين فجعله حقيقة في العدل يقتضي الاشتراك وهو خلاف الأصل سلمنا أن الوسط من كل شئ خياره فلم قلتم أن خبر الله تعالى عن خيرية قوم يقتضي اجتنابهم عن كل المحظورات ولم لا يجوز أن يقال إنه يكفي فيه اجتنباهم ما عن الكبائر فأما عن الصغائر فلا وإذا كان كذلك فيحتمل أن الذي أجمعوا عليه وإن كان خطأ لكنه من الصغائر فلا يقدح ذلك في خيريتهم ومما يؤكد هذا الاحتمال أنه تعالى حكم بكونهم عدولا ليكونوا شهداء على الناس وفعل الصغائر لا يمنع الشهادة سلمنا اجتنابهم عن الصغائر والكبائر ولكن الله تعالى بين أن أتصافهم بذلك إنما كان لكونهم شهداء على الناس ومعلوم أن هذه الشهادة إنما تكون في الآخرة فيلزم وجوب تحقق عدالتهم هناك لأن عدالة الشهود إنما تعتبر حالة الأداء لا حالة التحمل وذلك مما لا نزاع فيه لأن الأمة تصير معصومة في الآخرة فلم قلتم إنهم في الدنيا كذلك سلمنا وجوب كونهم عدولا في الدنيا لكن المخاطبين بهذا الخطاب هم

الذين كانوا موجودين عند نزول هذه الآية لأن الخطاب مع من لم يوجد بعد محال وإذا كان كذلك فهذا يقتضي عدالة أولئك الذين كانوا موجودين في ذلك الوقت ولا يقتضي عدالة غيرهم فهذه الآية تدل على أن إجماع أولئك حق فيجب أن لا نتمسك بالإجماع إلا إذا علمنا حصول قول كل أولئك فيه لكن ذلك يقضي حصول العلم بأعيانهم والعلم ببقاءهم لا إلى ما بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ولما كان ذلك مفقودا تعذر التمسك بشئ من الإجماعات والجواب قوله الآية متروكة الظاهر قلنا لا نسلم قوله لأنها تقتضي كون كل واحد منهم عدلا قلنا لما ثبت إنه لا يجوز إجراؤها على الظاهر وجب أن يكون المراد منه امتناع خلو هذه الأمة من! العدول قوله تحمله على الإمام المعصوم قلنا قوله وكذلك جعلناكم أمة وسطا صيغة جمع فحمله على

الواحد خلاف الظاهر قوله لم قلت إن الوسط في كل شئ خياره قلنا للآية والخبر والشعر والنقل والمعنى أما الآية فقوله عز وجل قال أوسطهم أي أعدلهم وأما الخبر فقوله صلى الله عليه وسلم خير الأمور أوسطها أي أعدلها

وقيل كان النبي صلى الله عليه وسلم أوسط قريش نسبا وقال عليه السلام عليكم بالنمط الأوسط

وأما الشعر فقوله هموا وسط يرضى الأنام بحكمهم وأما النقل فقال الجوهري في الصحاح وكذلك جعلناكم أمة وسطا أي عدولا وأما المعني فلأن الوسط حقيقة في البعد عن الطرفين فالشئ

الذي يكون بعيدا عن طرفي الإفراط والتفريط الذين هما رديان أن كان متوسطا فكان فضيلة ولهذا سمي الفاضل في كل شئ وسطا قوله عدالتهم من فعلهم لا من فعل الله تعالى قلنا هذا ممنوع على مذهبنا قوله لم قلت إن إخبار الله تعالى عن عدالتهم يقتضي اجتنابهم عن الصغائر قلنا من الناس من قال لا صغير على الإطلاق بل كل ذنب فهو صغير بالنسبة إلى ما فوقه كبير بالنسبة إلى ما تحته فسقط عنه هذا السؤال وأما من اعترف بذلك فجوابه أن الله تعالى عالم بالباطن والظاهر فلا يجوز أن يحكم بعدالة أحد وصحة شهادته إلا والمخبر عنه مطابق للخبر فلما أطلق الله تعالى القول بعدالتهم وجب أن يكونوا عدولا في كل شئ بخلاف شهود الحاكم حيث تجوز شهادتهم وأن جاز عليهم الصغائر لأنه لا سبيل للحاكم إلى معرفة الباطن فلا جرم اكتفى بالظاهر قوله الغرض من هذه العدالة أداء الشهادة في الآخرة وذلك يوجب

عدالتهم في الآخرة لا في الدنيا قلنا لو كان المراد صيرورتهم عدولا في الآخرة لقال سنجعلكم أمة وسطا ولأن جميع الأمم عدول في الآخرة فلا يبقى في الآية تخصيص لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الفضيلة قوله المخاطب بهذ الخطاب هم الذين كانوا موجودين عند نزول هذه الآية قلنا مر الجواب عن مثل هذا السؤال في المسلك الأول والله أعلم وأحكم المسلك الثالث قوله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ولام الجنس تقتضي الاستغراق فدل على أنهم أمروا بكل معروف ونهوا عن كل منكر فلو أجمعوا على خطأ قولا لكان قد أجمعوا على منكر قولا ولو كانوا كذلك لكانوا آمرين بالمنكر ناهين عن المعروف وهو يناقض مدلول الآية فإن قيل الآية متروكة الظاهر لأن قوله كنتم خير أمة خطاب معهم وهو يقتضي اتصاف كل واحد منهم بهذا الوصف والمعلوم خلافة فثبت أنه لا يمكن إجراؤها على ظاهرها فنحملها على أن المراد

من الأمة بعضهم وعندنا أن ذلك البعض هو الإمام المعصوم سلمنا أنه يمكن إجراء الآية على ظاهرها لكن لا نسلم أنهم كانوا يأمرون بكل معروف لما مر في باب العموم أن المفرد المعرف لا يفيد الاستغراق سلمنا العموم لكن الآية تقتضي اتصافهم بالأمر بالمعروف في الماضي أو الحاضر الأول مسلم والثاني ممنوع فلم قلتم بأنهم بقوا على هذه الصفة في الحال فإن قلت لأن هذه الآية خرجت مخرج المدح لهم في الحال ولا يجوز أن يمدح إنسان في الحال بما فعله من قبل إذا عدل عنه إلى ضده فإن الناهي عن المنكر إذا صار آمرا به استحق الذم قلت لا نسلم أن هذه الآية خرجت مخرج المدح ولم لا يجوز أن يقال ليس فيها إلا بيان أن هذه الأمة كانوا قبل ذلك خيرا من سائر الأمم ومجرد الإخبار لا يقتضي المدح سلمنا دلالتها على المدح لكن لم لا يجوز أن يدمح على الإنسان

في الحال بما صدر عنه في الماضي وإن كان يستحق الذم في الحال بما صدر عنه في الحال فإن عندنا الجمع بين استحقاق الذم والمدح غير ممتنع على ما ثبت في مسألة الاحتياط سلمنا دلالة الآية على حصول هذا الوصف في الحال لكن قوله عز وجل كنتم خير أمة صريح في أن هذا الوصف إنما حصل لهم في الزمان الماضي ومفهومه يدل على عدم حصوله في الحال سلمنا دلالة الآية على اتصافهم بتلك الصفة في الحال ف لم لا يجوز خروجهم عنها بعد ذلك فإنه لا نزاع في أنه يحسن مدح الإنسان بما له من الصفات في الحال وإن كان يعلم زوالها في المستقبل فإن قلت ف يلزم أن يكون إجماعهم حجة في ذلك الزمان قلت هب أنه كذلك لكنا لا نقطع على شئ من الإجماعات بإنه حصل في ذلك الزمان واذا وقع الشك في الكل خرج الكل عن كونه حجة سلمنا اتصافهم بهذا الوصف في الماضي والحال والمستقبل لكن الآية خطاب مع الموجودين في ذلك الوقت فيكون إجماعهم حجة أما

إجماع غيرهم فلا يكون حجة على ما مر من تقرير هذا السؤال في المسلكين الأولين والجواب قوله الآية متروكة الظاهر قلنا لا نسلم قوله لأنها تقتضي أن يكون كل واحد منهم آمرا بالمروف وليس كذلك قلنا المخاطب بقوله تعالى كنتم خير أمة ليس كل واحد من الأمة أما أولا فلأنه تعالى وصف المخاطب بهذا الخطاب بكونه خير أمة فلو كان المخاطب بهذا الخطاب كل واحد من الأمة لزم وصف كل واحد من الأمة بأنه خير أمة وذلك غير جائز لأن الشخص الواحد لا يوصف بأنه أمه إلا على سبيل المجاز كما في قوله تعالى إن إبراهيم كان أمة بدليل أن المتبادر إلى الفهم من قوله حكمت الأمة بكذا المجموع وأما ثانيا فلأنه يلزم في كل واحد أن يكون خير أمة أخرجت للناس وإن كان كل واحد خير أمة وجب أن يكون كل واحد خيرا من صاحبه ولما بطل ذلك ثبت أن المجموع هو المخاطب بهذ الخطاب وهو

يجري مجرى قول الملك لعسكره أنتم خير عسكر في الدينا تفتحون القلاع وتكسرون الجيوش فإن هذا الكلام لا يفهم منه أن الملك وصف كل واحد من آحاد العسكر بذلك بل إنه وصف المجموع بذلك بمعنى أن في العسكر من هو كذلك فكذا ها هنا وصف الله تعالى مجموع الأمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمعنى أن منهم من هو كذلك وحمله على الإمام المعصوم غير جائز لأنه واحد ولفظ الأمة لفظ الجمع قوله المفرد المعرف لا يفيد الاستغراق قلنا كثير من الناس ذهب إلى أنه يقتضيه وأيضا فلفظ المعرف لو لم نحمله على الاستغراق لوجب حمله على الماهية ويكفي في العمل به ثبوته في صورة واحدة فيكون معناه أنهم أمروا بمعروف واحد ونهوا عن منكر واحد وهذا القدر حاصل في سائر الأمم لأن كل واحد منهم قد كان آمرا بمعروف واحد وهو الدين الذي قبله وناهيا عن منكر واحد وهو الكفر الذي رده وحينئذ لا يثبت بذلك كون هذه الأمة خيرا من سائر الأمم لكن الله تعالى ذكره لبيان ذلك الحكم فعلمنا أنه وجب حمله على الاستغراق

تحصيلا للغرض فإنا لو لم نحمله على الاستغراق ولا نحمله على الماهية كان ذلك مخالفا للغة قوله الآية تقتضي الاتصاف بهذا الوصف في الماضي أو الحاضر قلنا بل في الحاضر لأن قوله تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر لا يتناول الماضي قولة لفظة كنتم تدل على الماضي قلنا لا نسلم ل أن قوله كنتم إما أن تكون ناقصة أو زائدة أو تامة فإن كنت ناقصة فنقول إنه وان أفاد تقدم كونهم كذلك لكن قوله تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر يقتضي كونهم كذلك في المستقبل ودلالة قوله تعالى كنتم على تقدم هذا الوصف لا يمنع من حصوله في المستقبل فتبقى دلالة قوله تأمرون بالمعروف على كونهم كذلك في المستقبل سليمة عن المعارض وأما الوجهان الآخران فالاستدلال معهما ظاهر

قوله لم قلت إنهم يكونون في الزمان المستقبل كذلك على هذه الصفة قلنا لأن صيغة المضارع بالنسبة إلى الحال والاستقبال كاللفظ العام فوجب تناولها لهما معا قوله هذه الآية خطاب مع الحاضرين قلنا مر الجواب عنه في المسلك الأول والله أعلم المسلك الرابع التمسك بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته لا تجتمع على خطأ والكلام ها هنا يقع في موضعين أحدهما إثبات متن الخبر والثاني كيفية الاستدلال به أما الأول فللناس فيه طرق ثلاثة الفريق الأول ادعاء الضرورة في تواتر معنى هذا الخبر قالوا لأنه نقل هذا المعنى بألفاظ مختلفة بلغت حد التواتر

الأول روي عنه عليه الصلاة والسلام انه قال أمتي لا تجتمع على خطأ الثاني ما رأه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن الثالث لا تجتمع أمتي على ضلالة الرابع يد الله على الجماعة رواه ابن عمر رضي الله عنهما الخامس سألت ربي أن لا تجتمع أمتي على الضلالة فأعطيتها السادس لم يكن الله ليجمع أمتي على الضلالة وروى ولا على خطأ وروي عن الحسن البصري وابن أبي ليلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال

الخبر وكان الحسن يقول إذا حدثني أربعة من الصحابة تركتهم وقلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الخبر من مراسليه السابع عليكم بالسواد الأعظم وذلك جماعة الأمة لأن كل من دونهم فالأمة بأسرها أعظم منه الثامن أبو سعيد مرفوعا يد الله على الجماعة ولا نبالي بشذوذ من شذ التاسع من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الاسلام عن عنقه العاشر من خرج من الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية

الحادي عشر أبو أمامة مرفوعا لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خالفهم الثاني عشر عمران بن الحصين مرفوعا لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق حتى يقاتلها الدجال الثالث عشر قام ابن عمر في الناس خطيبا وقال إن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى يأتي أمر الله الرابع عشر ثلاث لا يغل عليهن قلب المؤمن إخلاص العمل لله والنصح لأئمة المسلمين ولزوم الجماعة فإن دعوتهم تحيط من ورائهم رواه جبير بن مطعم وجابر الخامس عشر من سره أن يسكن بحبوحه الله الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد خطب به رسول الله صلى الله عليه وسلم وخطب به أيضا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في جماعة من

الصحابة رضي الله عنهم السادس عشر لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من ناوأهم إلى يوم القيامة السابع عشر ثوبان مرفوعا لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله الثامن عشر أنس وقوم آخرون عنه عليه الصلاة والسلام ستفترق أمتي كذا وكذا فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة قيل ومن تلك الفرقة قال هي الجماعة وهذه الأخبار كلها مشتركة في الدلالة على معنى واحد وهو أن الأمة بأسرها لا تتفق على الخطأ وإذا اشتركت الأخبار الكثيرة في الدلالة على شئ واحد ثم إن كل واحد من تلك الأخبار يرويه جمع كثير صار ذلك المعنى مرويا بالتواتر من جهة المعنى

الطريق الثاني الاستدلال وهو من وجهين أحدهما أن هذه الأخبار لو صحت لثبت بها أصل عظيم مقدم على الكتاب والسنة وما هذا شأنه كانت الدواعي متوفرة على البحث عنه بأقصى الوجوه أما الأولياء فلتصحح قال هذا الأصل العظيم بها وأما الأعداء فلدفع مثل هذا الأصل العظيم فلو كان في متنها خلل لاستحال ذهولهم عنه مع شدة بحثهم عنه وطلبهم له فلما لم يقدر أحد على الطعن فيها علمنا صحتها وثانيهما أنه قد ظهر من التابعين إجماعهم على أن الإجماع حجة وظهر منهم استدلالهم على ذلك بهذه الأخبار والاستقراء دل على أن أمتنا لا يجمعون على موجب خبر لأجل ذلك الخبر إلا ويكونون قاطعين بصحة ذلك الخبر فهذا يدل على قطعهم بصحة هذا الخبر

الطريق الثالث أنا نسلم أن هذه الأخبار من باب الآحاد وندعي الظن بصحتها وذلك مما لا يمكن النزاع فيه ثم نقول إنها تدل على أن الإجماع حجة فيحصل حينئذ ظن أن الإجماع حجة وإذا كان كذلك وجب العمل به لأن دفع الضرر المظنون واجب وهذا الطريق أجود الطرق فنقول أما الطريق الأول وهو ادعاء التواتر فبعيد فإنا لا نسلم بلوغ مجموع هذه الأخبار إلى حد التواتر لأن العشرين بل الآلف لا يكون متواترا لأنه ليس يستبعد في العرف إقدام عشرين إنسانا على الكذب في واقعة معينة بعبارات مختلفة وبالجملة فهم مطالبون بإقامة الدلالة على أن مجموع هذه الروايات يستحيل صدوره عن الكذب سلمنا حصول القطع بهذه الأخبار في الجملة لكنكم إما أن تدعوا القطع بلفظها أو بمعناها أما القطع بلفظها فهو أن يقال إنا وإن جوزنا في كل واحد من هذه الأحاديث أن يكون كذبا إلا أنا نقطع بأن مجموعها يستحيل أن يكون كذبا بل لا بد أن يكون بعضها صحيحا

وأما القطع بمعناها فهو أن يقال أن هذه الألفاظ على اختلافهما مشتركة في إفادة معنى واحد فذلك المشترك يصير مرويا بكل هذه الألفاظ فيصير ذلك المشترك منقولا بالتواتر فنقول إن أردتم الأول فهو مسلم لكن المقصود لا يتم إلا إذا بينتم أن كل واحد من هذه الألفاظ يدل على أن الإجماع حجة دلالة قاطعة إذ لو وجد فيها ما يدل على المطلوب لا على هذا الوجه لم يحصل الغرض لأن الذي ثبت عندكم ليس إلا صحه أحد هذه الأخبار فيحتمل أن يكون الصحيح هو ذلك الخبر الذي لا يدل دلالة قاطعة على حقية الإجماع لكنا نرى المستدلين بهذه الأخبار بعد فراغهم من تصحيح المتن يتمسكون بواحد منها على التعيين كقوله عليه الصلاة والسلام لا تجتمع أمتي على خطأ ويبالغون فيه سؤالا وجوابا ومعلوم أنه باطل وأما إن أردتم الثاني فنقول ذلك المعنى المشترك بين الأخبار إما أن يكون هو أن الإجماع حجة أو معنى يلزم منه كون الإجماع حجة فإن كان الأول فقد ادعيتم أنه نقل نقلا متواترا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الإجماع حجة ومعلوم أن ذلك باطل وإلا لكان العلم بكون الإجماع حجة جاريا مجرى العلم بغزوة بدر وأحد ولما وقع الخلاف فيه

وأيضا فإنا نراكم بعد الفراغ من تصحيح متن هذه الأخبار تتمسكون بلفظ خبر واحد وتوردون عن عليه الأسئلة والأجوبة ولو كان ذلك منقولا على سبيل التواتر لكان ذلك الاستدلال عبثا وبهذا يظهر الفرق بين علمنا بشجاعة علي وسخاوة حاتم بسبب الأخبار المتفرقة وبين هذه المسألة فإنا بعد سماع تلك الأخبار المتفرقة لا نحتاج إلى الاستدلال ببعض تلك الأخبار على شجاعة علي بل يحصل العلم الضروري بذلك أما ها هنا فقد سلمتم أن بعد سماع هذه الأخبار نفتقر إلى الاستدلال ببعضها على هذا المطلوب فعلمنا أن كون الإجماع حجة ليس جزءا من مفهوم هذه الألفاظ وإن ادعتيم من أن هذه الأخبار دالة على معنى مشترك بين كلها وذلك المعنى يقتضي كون الإجماع حجة فلا بد من الإشارة إلى ذلك المعنى ثم من إقامة الدليل على أنه يلزم من ذلك المشترك كون الإجماع حجة وأنتم ما فعلتم ذلك فإن قلت القدر المشترك بين هذه الأخبار تعظيم أمر هذه الأمة وبعدها عن الخطأ وما يجري هذا المجرى قلت تدعون التواتر في مطلق التعظيم أو في تعظيم ينافي إقدامهم

على الخطأ في شئ ما الأول مسلم ولا يفيد الغرض والثاني إدعاء للتواتر في نفس كون الإجماع حجة وقد تقدم إبطاله وأما الطريق الثاني وهو الاستدلال فضعيف قوله لو كانت هذه الأحاديث ضعيفة لطعنوا فيها قلت وقد طعنوا فيها بأنها من الآحاد فإن قلت إن أحدا من الصحابة والتابعين لم يقل إنها من الآحاد بل اتفقوا على أنها متواترة سلمنا أنهم طعنوا فيها من هذا الوجه لكن كان يجب أن يطعنوا فيها على سبيل التفصيل قلت الجواب عن الأول إن النقل عن المؤمنين أنهم جعلوها من باب التواتر ثبت بالتواتر أو بالآحاد

الأول يقتضي كونها متواترة عندنا لأنه متى كان الخبر متواترا وصح عندكم بالتواتر كونها متواترة عندهم لزم كونها متواترة عندكم لكنكم في هذا المقام سلمتم أنها ليست كذلك والثاني يقتضي أن تكون هذه الأخبار من الآحاد لأن كونها متواترة عن الصحابة والتابعين لما لم يثبت عندنا إلا بالآحاد كانت عندنا من باب الآحاد لأن استواء الطرفين والواسطة معتبر في التواتر وعن الثاني أن نقول ليس كل من لا يعلم صحته وجب أن يعلم فساده فالصحابة والتابعون ما عرفوا صحة هذه الأخبار ولا فسادها بل ظنوا صحتها فلا يجب عليهم في هذه الحالة أن يطعنوا فيها على سبيل التفصيل وأما الوجه الثاني في الاستدلال وهو قوله الصحابة والتابعون اجمعوا على صحة الإجماع وانما اجمعوا على صحته لهذا الأخبار وعادة امتنا انهم لا يجمعون على موجب خبر لأجل ذلك الخبر إلا وكان الخبر مقطوعا به

قلنا المقدمات الثلاثة ممنوعة فلا نسلم إجماع الصحابة والتابعين على صحة الإجماع سلمناه لكن لا نسلم أنهم إنما ذهبوا إلى ذلك لأجل هذه الأخبار بل إنما قالوا به لأجل الآيات فإن ادعوا التواتر في هذين المقامين كان ذلك مكابرة فإن تلك الأخبار أظهر بكثير من ادعاء هذين المقامين ولما لم يدعوا التواتر في تلك الأخبار فلأن لا يجوز ادعاؤه في هذين المقامين كان أولى سلمنا هما لكن لا نسلم أن عادتهم جارية بأنهم لا يجمعون على موجب خبر لأجل ذلك الخبر إلا وقد قطعوا بصحته ألا ترى أن الصحابة أجمعوا على حكم المجوس بخبر عبد الرحمن وأجمعوا على أن المرأة لا تنكح على عمتها ولا خالتها بخبر واحد وبالجملة فهم مطالبون بالدلالة على هذه العادة التي ادعوها فثبت بما ذكرنا ضعف هذه الوجوه وثبت أن الصحيح هو الطريق الثالث وهو أن نجعلها من أخبار الآحاد

وعلى هذا لا نحتاج إلى تكثيرها بل كل واحد منها يكفي في الاستدلال المقام الثاني في كيفية الاستدلال التمسك بقوله صلى الله عليه وسلم لا تجتمع أمتي على خطأ فإن قيل إن كان المراد بقوله أمتي كل من يؤمن به إلى يوم القيامة خرج الإجماع عن كونه حجة وإن كان المراد به الموجودين وقت نزول ذلك الخبر دل ذلك على أن إجماعهم حجة لكنا إنما نعرف إجماعهم إذا عرفناهم بأعيانهم وعرفنا بقاءهم إلى ما بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك غير معلوم فحينئذ يخرج الإجماع عن كونه حجة سلمنا أن المراد بالأمة أهل كل عصر لكن لم قلت إن هذه اللفظة تدل على نفي الخطأ عنهم لاحتمال أن قوله لا تجتمع أمتي على خطأ جاء بسكون العين على أن يكون ذلك نهيا منه صلى الله عليه وسلم لأمته عن أن يجتمعوا على خطأ فاشتبه ذلك على الراوي فنقله مرفوعا على أن يكون خبرا

سلمنا كونه خبرا لكن لم قلت إنه يدل على نفي الخطأ بأسره عنهم ولا نسلم أن النكرة في النفي تعم وإذا كان كذلك فإما أن نحمله على نفي السهو أن نفي الكفر جمعا بينه وبين الحديث المروي في هذا الباب وهو قوله صلى الله عليه وسلم أمتي لا تجتمع على ضلالة سلمنا كون الأمة مصيبين في كل أقوالهم وأفعالهم فلم لا يجوز مخالفتهم فإن المجتهد قد يكون مصيبا مع أن المجتهد الآخر يكون متمكنا من مخالفته والجواب أما السؤال الأول فمدفوع بسائر الأحاديث الواردة في هذا الباب وهي قوله صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق وقوله ما رأه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وقوله من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الاسلام من عنقه قوله لعل هذا الحديث ورد على صيغة النهي قلنا عدالة الراوي تفيد ظن صحة تلك الرواية ومطلوبنا ها هنا الظن وإلا لو فتحنا هذا الباب لا نسد باب الاستدلال بأكثر النصوص

ثم إنه مدفوع بسائر الأحاديث وأما أن النكرة في النفي تعم فقد تقدم بيانه في باب العموم قوله نحمله نفي السهو قلنا اجتماع الجمع العظيم على عدم السهو ممتنع ف لا يمكن ذكره في معرض التعظيم ولأنه لا يكون في تخصيص أمته بذلك فضيلة قوله نحمله على نفي الكفر كقوله صلى الله عليه وسلم لا تجتمع أمتي على ضلالة قلنا كل حديث مستقل بنفسه ولأن الضلال لا يقتضي الكفر قال الله تعالى ووجدك ضالا فهدى وقال فعلتها إذن وأنا من الضالين قوله هب أن الأمة مصيبون في إجماعهم فلم لا تجوز مخالفتهم قلت لأن الأمة على قولين منهم من قال إن الإجماع حجة لا تجوز مخالفته

ومنهم من قال أنه ليس بحجة فلو قلنا إنه حجة تجوز مخالفتها لكان قولا خارجا عن أقول الأمة فلو كان الحق ذلك لكانت الأمة متفقين على الخطأ وذلك باطل بالحديث المسلك الخامس دليل العقل وهو الذي عول عليه إمام الحرمين رحمه الله فقال إجماع الخلق العظيم على الحكم الواحد يستحيل أن يكون إلا لدلالة أو أمارة فإن كان لدلالة فقد كشف الإجماع عن وجود تلك الدلالة فيكون خلاف الإجماع خلافا لتلك الدلالة وإن كان لأمارة فقد رأينا التابعين قاطعين بالمنع عن مخالفة هذا الإجماع فلولا اطلاعهم على دلالة قاطعة مانعة من مخالفة هذا الإجماع وإلا لاستحال اتفاقهم على المنع من مخالفته وهذه الدلالة ضعيفة جدا لاحتمال أن يقال إنهم قد اتفقوا على الحكم لا لدلالة ولا لأمارة بل لشبهة وكم من المبطلين من

المسألة الرابعة في موقف الشيعة من حجية الإجماع

كثرتهم وتفرقهم في الشرق والغرب قد اتفقت كلمتهم لأجل الشبهة سلمنا الحصر فلم لا يجوز أن يكون لأمارة تفيد الظن قوله رأينا الصحابة مجمعين على المنع من مخالفة هذا الإجماع وذلك يدل على اطلاعهم على دليل قاطع مانع من مخالفة هذا الإجماع قلنا لا نسلم اتفاق الصحابة على ذلك سلمناه لكنك لما جوزت حصول الإجماع لأجل الأمارة فلعلهم أجمعوا على المنع من مخالفة الإجماع الصادر عن الأمارة لأمارة أخرى فإن قلت إنهم لا يتعصبون في الإجماع الصادر عن الأمارة وقد تعصبوا في هذا الإجماع فدل على أن هذا الإجماع ما كان عن أمارة قلت إذا سلمت إنهم لا يتعصبون في الإجماع الصادر عن الأمارة ف قد بطل قولك إنهم منعوا من مخالفة هذا الإجماع المسألة الرابعة أما الشيعة فقد استدلوا على أن الإجماع حجة بأن زمان التكليف لا يخلو عن الإمام المعصوم ومتى كان كذلك كان الإجماع حجة

بيان الأول يتوقف على إثبات أمرين الأول أنه لا بد من الإمام والدليل عليه أن الإمام لطف وكل لطف واجب فالإمام واجب وإنما قلنا أن الإمام لطف لأنا نعلم أن الخلق إذا كان لهم رئيس قاهر يمنعهم عن القبائح ويحثهم على الواجبات كان حالهم في الإتيان بالواجب والاجتناب عن القبيح أتم من حالهم إذا لم يكن لهم هذا الرئيس والعلم بذلك بعد استقراء العادة ضروري وإنما قلنا إن اللطف واجب لوجهين الأول أن اللطف كالتمكين في كونه إزاحة لعذر المكلف فإذا كان التمكين واجبا فكذا اللطف إنما قلنا إن اللطف كالتمكين لأنه يثبت في الشاهد أن أحدنا إذا دعا غيره إلى طعام وكان غرضه نفع ذلك الغير وبقي على ذلك الغرض إلى وقت التناول ولم يبدله وعلم أنه متى تواضع له فإنه يتناول طعامه ومتى لم يفعل ذلك لم يتناوله فإنه تركه التواضع في هذه الحال يجرى مجرى رد الباب عليه والعلم به ضروري الثاني أن المكلف لو لم يجب عليه فعل اللطف لم يقبح منه فعل المفسدة

أيضا لأنه لا فرق في العقل بين فعل ما يختار المكلف عنده القبيح وبين ترك ما يخل المكلف عنده بالواجب فثبت إن اللطف واجب وثبت أنه لا بد في زمان التكليف من الإمام الثاني أن ذلك الإمام يجب أن يكون معصوما والدليل عليه أنه إنما احتاج الخلق إلى الإمام لصحة القبيح عليهم فلو تحققت هذه الصحة في الأمام لافتقر الإمام إلى إمام اخر ولزم التسلسل وهو محال فثبت أنه يجب أن يكون معصوما وثبت أنه لا بد في زمان التكليف من إمام معصوم وإذا ثبت هذا وجب كون الإجماع حجة لأنه مهما اتفق العلماء على حكم فلا بد وأن يوجد في أثناء قولهم قول ذلك المعصوم لأنه أحد

العلماء بل هو سيدهم وإلا لم يكن ذلك قولا لكل الأمة وقول المعصوم حق فإذن إجماع الأمة يكشف عن قول المعصوم الذي هو حق فلا جرم قلنا الإجماع حجة قالوا وظهر بهذا أن العلم بكون الإجماع حجة لا يتوقف على العلم بالنبوة أصلا وأن إجماع كل الأمم حجة كما أن إجماع أمتنا حجة والسؤال عليه أنا لا نسلم أنه لا بد من إمام ولا نسلم أنه لطف ولا نسلم أن الخلق إذا كان لهم رئيس يمنعهم عن القبائح ويحثهم على الطاعات كانوا أقرب إليها مما إذا لم يكن لهم هذا الرئيس بيانه أنكم تزعمون إن الله عز وجل ما أخلى العالم قط من رئيس فقولكم وجدنا متى خلا عن الرئيس حصلت المفاسد باطل لأنكم إذا لم تجدوا العالم خاليا عنه قط ف كيف يمكنكم أن تقولوا إنا وجدنا العالم متى خلا عن الإمام حصلت المفاسد بل الذي جربناه أنه متى كان الإمام في الخوف والتقية حصلت المفاسد لكنكم لا توجبون ظهوره

وقوته فالذي تريدونه من أن ظهور المفسدة عند عدمه أزيد مما وجدتموه عند خوفه وتستره شئ ما جربتموه والذي جربتموه وهو ظهور المفسدة عند ضعفه وخوفه فأنتم لا تقولون به فظهر فساد قولكم سلمنا إمكان هذه التجربة لكنا نقول تدعون اندفاع هذه المفاسد بوجود الرئيس كيف كان أو بوجود الرئيس القاهر الأول ممنوع فلا بد من الدلالة واستقراء العرف لا يشهد لهم البتة لأن الخلق إنما ينزجرون من السلطان القاهر فأما السلطان الضعيف فلا بل الشخص الذي لا يرى ولا يعرف ولا يظهر منه في الدنيا أثر ولا خبر فإنه لا يحصل بسببه انزجار عن القبائح ولا رغبة في الطاعات فلم قلتم إن مثل هذا الإمام يكون لطفا وإن أرددتم في الثاني فهو مسلم لكنكم لا توجبونه فالحاصل أن الذي عرف بالاستقراء كونه لطفا أنتم لا توجبونه والذي توجبونه لا يعرف بالاستقراء كونه لطفا

فإن قلت نحن الآن في إثبات وجوب أصل الإمام فأما البحث عن كيفية فذاك يتعلق بالفضل ونحن الآن لا نتكلم فيه ثم السبب في تستره ظاهر وهو أن الإمام لو أزيل عنه الخوف لظهر ولزجر بن الناس عن القبائح ورغبهم في الطاعات فحيث أخافوه كان الذنب من قبلهم قلت إنكم ادعيتم وجوب نصب الإمام كيف كان سواء كان ظاهرا أو مخفيا ودللتم على وجوبه بكونه لطفا ودللتم على كونه لطفا بتفاوت حال الخلق معه في الطاعات والمعاصي فلا بد من إثبات هذه المقدمة عند وجود الإمام كيف كان الإمام حتى يمكن الاستدلال به على وجود الأمام كيف كان ونحن نمنع ذلك فإن تمسكتم باستقراء أحوال العالم قلنا ذلك التفاوت إنما يحصل من الإمام القاهر وأنت محتاج إلى بيان حصول التفاوت من وجود الإمام كيف كان فما لم تشتغلوا بإثبات هذه المقدمة لا يتم دليلكم فأي نفع لكم ها هنا في أن تذكروا السبب في غيبته وخوفه سلمنا أن نصب الإمام يقتضي تفاوت حال الخلق من الوجه الذي ذكرتموه لكنه متى يجب نصبه إذا خلا عن جميع جهات القبح أو إذا لم يخل

الأول مسلم ولكن دليلكم لا يتم إلا إذا أقمتم الدلالة على خلوه عن جميع جهات المفسدة وأنتم ما فعلتم ذلك والثاني ممنوع لأن بتقدير اشتماله على جهة واحدة من جهات القبح لا يجوز نصبه لأنه يكفي في كون الشئ قبيحا اشتماله على جهة من جهات القبح ولا يكفي في حسنه اشتماله على جهة واحدة من جهات الحسن ما لم يعرف انفكاكه عن كل جهات القبح فإن قلت ما ذكرته مدفوع من أربعة أوجه أحدها أنه لو جاز القدح في كون الإمام لطفا بما ذكرته جاز القدح في كون معرفة الله تعالى لطفا بذلك لأن الذي يمكننا في بيان أن معرفة الله تعالى لطف هو أنها باعثة على أداء الواجبات والاحتراز عن القبائح العقلية فأما بيان خلوها عن جميع جهات القبح فمما لو يوجبه أحد فلو قدح هذا في كون الإمامة لطفا لقدح في كونه معرفة الله تعالى لطفا وثانيها أن ما ذكرته يفضي إلى تعذر القطع بوجوب شئ على الله تعالى

لكونه لطفا لأنه لا شئ يدعى كونه لطفا إلا والاحتمال المذكور قائم فيه وثالثها أنه لا دليل على اشتمال الإمامة على جهة قبح وما لا دليل عليه وجب نفيه ورابعها أن جهات القبح محصورة وهي كون الفعل كذبا وظلما وجهلا وغيرها من الجهات وهي بأسرها زائلة عن الإمامة فوجب القطع ينفي اشتمالها على جهة من جهات القبح قلنا أما الأول فغير لازم لأن هذا الاحتمال الذي ذكرناه في الإمامة إن كان بعينه قائما في المعرفة من غير فرق وجب الجواب عنه في الموضعين ولا يلزم من تعذر الجواب عنه في الصورتين الحكم بسقوطه من غير جواب وإن حصل الفرق بين الصورتين بطل ما ذكرتموه ثم إن الفرق أن معرفة الله عز وجل من الألطاف التي يجب علينا فعلها فإذا علمنا اشتمال المعرفة على جهة مصلحة ولم نعلم اشتمالها على جهة مفسدة غلب على ظننا كونها لطفا والظن في حقنا قائم مقام

العلم في اقتضاء العمل فإنه كما يقبح الجلوس تحت الجدار المائل الذي يعلم سقوطه كذلك يقبح إذا ظن ذلك فلا جرم وجب علينا فعل المعرفة أما الإمامة فهي من الألطاف التي توجبونها على الله عز وجل ولا يكفي في الإيجاب على الله تعالى ظن كونها لطفا لأنه عز وجل عالم بجميع المعلومات فما لم يثبت خلو الفعل عن جميع جهات القبح لا يمكن إيجابه على الله عز وجل فظهر الفرق وعن الثاني أنا لا نقول في فعل معين إنه لطف فيكون واجبا على الله عز وجل لأن الاحتمال المذكور قائم فيه بل نقول الذي يكون لطفا في نفسه فإنه يجب فعله على الله عز وجل وذلك لا يقدح فيه الاحتمال المذكور وعن الثالث أن نقول ما المراد من قولك ما لا دليل عليه وجب نفيه إن عنيت به أن ما لا يعلم عليه دليل وجب نفيه فهذا باطل وإلا وجب على العوام نفي أكثر الأشياء لعدم علمهم بأدلتها

وإن عنيت أن ما لا يوجد دليل عليه في نفس الأمر في نفس الآمر! وجب نفيه فهذا أيضا ممنوع وبتقدير التسليم لكن لا نسلم أنه لم يوجد عليه دليل فلعله وجد وأنتم لا تعلمونه فإن قلت سبرت وبحثت فما وجدت قلت أقم الدلالة على أن عدم الوجدان يدل على عدم الوجود وعن الرابع أن صوم أول يوم من شوال لم يشتمل على كونه ظلما وجهلا وكذبا مع أنه قبيح فجوز ها هنا مثله وبالجملة فالتقسيم الذي يكون حجة هو المنحصر أما غيره فلا سلمنا أنه لا بد في القدح في كونه لطفا من تعيين جهة المفسدة لكن ها هنا جهتان أحداهما أن نصب الإمام يقتضي كون المكلف تاركا للقبيح لا لكونه قبيحا بل للخوف من الإمام

وإما عند عدم الإمام فالمكلف إنما يتركه لقبحه لا للخوف من الإمام فإن قلت هذا باطل بترتب العقاب على فعل القبيح فإنه يقتضي أن يكون المكلف تاركا للقبيح لا لقبحه بل للخوف من العقاب قلت أنا سائل فيكفيني أن أقول لم لا يجوز أن تكون هذه الجهة مفسدة مانعة وعليك الدلالة على أنها ليست كذلك ولا يلزم من قولنا ترتيب العقاب عليه لا يقتضي هذه الجهة من المفسدة أن يكون نصب الإمام غير مقتض لها لاحتمال أن يكون حال كل واحدة منهما بخلاف حال الآخر والذي يحقق ذلك أن ترتيب العقاب على فعل القبيح لا يعلم إلا بالشرع فقبل ورود الشرع يجوز أن تكون فيه مفسدة من هذه الجهة فلما ورد الشرع به علمنا أنه لا مفسدة فيه من هذه الجهة لأن الشرع لا يأتي بالمفسدة فنظيره في مسألتنا أن تقولوا يجوز قبل ورود الشرع أن يكون نصب الإمام مفسدة من هذه الجهة فلما ورد الشرع به علمنا أنه لم يكن مفسدة من هذه الجهة لكن على هذا التقدير يصير وجوب الإمامة شرعيا

وثانيهما أن يقال فعل الطاعة وترك المعصية عند عدم الإمام أشق منهما عند وجوده فيكون نصب الإمام سببا لنقصان الثواب من هذا الوجه وبتقدير هذا الاحتمال فلا نسلم أنه يحسن نصب الإمام فضلا عن وجوبه سلمنا أن الإمام لطف لكن في كل الأزمنة أو في بعضها الأول ممنوع والثاني مسلم بيانه أن من الجائز أن يتفق في بعض الأزمنة وجود قوم يستنكفون عن طاعة الغير ويعلم الله تعالى منهم أنه متى نصب لهم رئيسا قصدوه بالقتل وإثاره الفتن العظيمة وإذا لم ينصب لهم رئيسا فإنهم لا يقدمون على القبائح ولا يتركون الواجبات فيكون نصب الرئيس في ذلك الوقت مفسدة ثم هذا وإن كان نادرا إلا أنه لا زمان إلا ويجوز أن يكون هو ذلك الزمان النادر وحينئذ لا يمكن الجزم بوجوب نصب الإمام في شئ من الأزمنة

فإن قلت هذا مدفوع من وجهين الأول إن الاستنكاف إنما يكون عن الرئيس المعين وليس الكلام الآن فيه بل في مطلق الرئيس الثاني أن هذه مفسدة نادرة والمفاسد الحاصلة عند عدم الإمام غالبة وإذا تعارض الغالب والنادر كان الغالب أولى بالدفع قلت الجواب عن الأول أنه كما يتفق الاستنكاف عن طاعة رئيس معين فقد يتفق الاستنكاف عن طاعة مطلق الرئيس وأيضا فإذا سلمتم أن الاستنكاف قد يقع عن طاعة الرئيس المعين فيكون نصب ذلك المعين مفسدة ثم إذا لم يمكن تحصيل المطلق إلا في ذلك المعين كما هو قولكم في الإمامة في أشخاص معينين كان ذلك المطلق أيضا مفسدة وعن الثاني هب أن الزمان الذي يقع فيه ذلك الاحتمال نادر إلا أن كل زمان لما

احتمل أن يكون هو ذلك النادر لم يمكنا القطع بوجوب نصبه في شئ من الأزمنة سلمنا أن الإمامة لطف في كل الأزمنة لكنها لطف يقوم غيرها مقامها أو لا يقوم الأول مسلم ولكن لما قام غيرها مقامها لم يمكن الجزم بوجوبها على التعين والثاني ممنوع فلا بد من الدلالة عليه ثم إنا نبين إمكان البدل على الإجمال تبرعا فنقول إنكم توجبون عصمة الإمام ولسيت عصمة الإمام بإمام اخر معصوم وإلا وقع التسلسل فإذن له شئ سوى الإمام وقع لطفا في الاحتراز عن القبائح وأداء الواجبات وإذا ثبت ذلك في الجملة فلم لا يجوز أن يحصل للأمة لطف قائم مقام الإمام وحينئذ لا يكون نصب الإمام واجبا عينا سلمنا كون الإمام لطفا على التعين لكن في المصالح الدنيوية أو الدينية

الأول مسلم والثاني ممنوع بيانه أن ما ذكرتموه من منفعة وجود الأمام ليس إلا في حصول نظام العالم واندفاع الهرج والمرج وذلك كله مصلحة دنيوية وتحصيل الأصلح في الدنيا غير واجب على الله تعالى فما يكون لطفا فيه أولى أن لا يجب أو في إقامة الصلوات وأخذ الزكوات وذلك كله مصالح شرعية فما يكون لطفا فيه لا يجب وجوده عقلا وإن ادعيتم كونه لطفا في شئ آخر وراء ذلك فهو ممنوع فإن قلت الإمام لطف في المصالح الدينية العقلية لأنه إذا زجرهم عن القبائح وأمرهم بالواجبات العقلية مرة بعد أخرى تمرنت نفوسهم عليها وإذا تمرنت نفوسهم عليها تركوا القبائح لقبحها وأتوا بالواجبات لوجه وجوبها وذلك مصلحة دينية قلت لا نسلم تفاوت حال الخلق بسبب وجود الإمام في هذا المعنى فإن بوجود الإمام ربما وقعت أحوال القلوب على ما ذكرتموه وربما صارت بالضد من ذلك لأنهم إذا أبغضوه بقلوبهم وعاندته نفوسهم ازدادت المفسدة وربما أقدموا على الأفعال والتروك لمحض الخوف منه وبالجملة فالتفاوت الحاصل في أحوال الخلق إنما يظهر فيما عددناه من المصالح الدنيوية أو فيما عددناه من المصالح الشرعية

فأما فيما تعدونه من المصالح الدينية العقلية فهذا التفاوت ممنوع فيه فإن الاحتمالات متعارضة فيها سلمنا أنه لطف فلم قلتم إن كل لطف واجب قوله في الوجه الأول فعل اللطف جار مجرى التمكين قلنا هذا قياس وقد بينا أنه لا يفيد اليقين ثم نقول لا نسلم أن فعل اللطف جار مجرى التمكين قوله من قدم الطعام إلى إنسان وأراد منه تناوله إلى اخره قلنا لا نسلم أن ترك التواضع في تلك الحالة يقدح في تلك الإرادة على الإطلاق بيانه أن الإرادات مختلفة فقد يريد الإنسان من غيره أن يتناول طعامه إرادة في الغاية حتى يقرر مع نفسه أنه يفعل كل ما يعلم أن ذلك الضيف لا يتناول طعامه إلا عند فعله وقد تكون الإرادة لا إلى ذلك الحد كمن يقول أريد أن تأكل طعامي لكن لا إلى حيث أنك لو لم تأكل طعامي إلا عند تقبيلي هذه رجلك فعلته بل إرادة دون ذلك إذا لبث هذا فنقول الإرادة إن كانت على الوجه الأول كان ترك التواضع قادحا في تحققها لكن لو كانت على الوجه الثاني لم يلزم من عدم التواضع عدمها

إذا ثبت هذا فنقول لم قلت أن الله عز وجل أراد من المكلفين فعل الطاعات والاجتناب عن القبائح إرادة على الوجه الأول حتى يلزمه فعل اللطف بيانه أن التكليف تفضل وإحسان والمتفضل لا يجب عليه أن يأتي بجميع مراتب التفضل قوله في الوجه الثاني أن ترك اللطف كفعل المفسدة قلنا إنه قياس فلا يفيد اليقين لاحتمال أن ما به وقع التغاير يكون شرطا أو مانعا ثم نقول الفرق أن فعل المفسدة إضرار وترك اللطف ترك للإنفاع سنة وليس يلزم من قبح الإضرار قبح ترك الإنفاع فإنه يقبح منا الإضرار بالغير ولا يقبح ترك إنفاعه عمرو سلمنا أنه يجب فعل اللطف لكن يجب فعل اللطف المحصل أو فعل اللطف المقرب الأول مسلم والثاني ممنوع فلم قلتم إن الإمام لطف محصل

بيانه أنه لا يمكن القطع بأنه عند وجود الإمام يقدم الإنسان على الطاعة ويحترز عن المعصية لا محالة بل الذي يمكن ادعاوه قبل أن الإنسان عند وجود الإمام يكون أقرب إلى الطاعة وأبعد عن المعصية فيكون الإمام لطفا مقربا وإذا كان كذلك فلم قلت بوجوبه على الله تعالى وخرج على هذه المسألة مسألة الضيف فإن المضيف إنما يجب عليه التواضع للضيف إذا علم أنه لو تواضع له لأجابه إلى المقصود أو ظن ذلك فأما إذا علم قطعا أنه لا يجيب به إليه فلا نسلم أنه يحسن منه فعل ذلك التواضع فضلا عن الوجوب وعلى هذا لا يبعد أن يوجد زمان علم الله أن نصب الإمام في ذلك الزمان لا يكون لهم لطفا محصلا فلم قلت يجب على الله عز وجل نصب الإمام في ذلك الزمان سلمنا أن اللطف واجب مطلقا لكن متى إذا أمكن فعله أو إذا لم يمكن الأول مسلم والثاني ممنوع

بيانه إذا علم الله عز وجل أن كل من خلقه في ذلك الزمان فإنه يكون كافرا أو فاسقا فحينئذ لا يكون خلق المعصوم في ذلك الزمان مقدورا له وإذا كان كذلك فلم قلت أنه لا يحسن التكليف في هذه الحالة وإذا حسن هذا التكليف جوزنا في كل زمان أن يكون هو ذلك الزمان فلا يمكننا القطع بوجوب الإمام في شئ من الأزمنة وخرج عليه مسألة الضيف فإن هناك إنما يجب عليه التواضع إذا كان ذلك التواضع مقدورا له فأما إذا لم يكن مقدورا له لم يتوقف التماس المضيف تناول الطعام على فعل التواضع بل حسن ذلك الالتماس بدون التواضع سلمنا كل ما ذكرتموه ولكنه بناء على التحسين والتقبيح العقليين وإنه باطل على ما ثبت في الكتب الكلامية فهذا هو الاعتراض على مقدمات دليلهم على الترتيب ثم نقول دليلكم منقوض بصور

إحداها أنه لو كان القضاة والأمراء والجيوش معصومين لكان حال الخلق في الاجتناب عن القبائح أقرب مما إذا لم يكن كذلك وثانيتها أنه لو وجد في كل بلد امام معصوم وثالثتها لو كان الإمام عالما بالغيوب وقادرا على التصرف في الشرق والغرب والسماء والأرض ورابعتها لو كان بحيث لو شاء لاختفى يحيى عن الاعين ولطار الرحمن مع الملائكة فإن خوف المكلفين ها هنا يشتد منه لأن كل أحد يقول لعله معي وإن كنت لا أراه فكان انزجاره عن القبيح أشد ولا خلاص عن هذه الإلزامات إلا بأحد أمرين الأول أن يقال إن هذه الأشياء وإن حصلت فيها هذه المنافع لكن علم الله تعالى فيها وجه مفسدة لا نعلمه نحن ولذلك لم يجب على الله تعالى فعلها الثاني أن يقال إنها وإن كانت خالية عن جميع جهات المفسدة لكن لا

يجب على الله تعالى فعلها ثم أن كل واحد من هذين الاحتمالين قائم فيما ذكروه فيبطل به أصل دليلهم سلمنا أنه لا بد من الإمام فلم قلت إنه معصوم قوله ولو لم يكن معصوما لافتقر إلى لطف اخر قلنا نعم لكن لم لا يجوز أن يكون ذلك اللطف هو الأمة فإنا قبل قيام الدلالة على أن الإجماع حجة نجوز كونه حجة وذلك التجويز يكفينا في ذلك المقام لأنهم هم المستدلون فيكفينا أن نقول لم لا يجوز أن يكون الإمام لطفا لكل واحد من آحاد الأمة ويكون مجموع الأمة لطفا للإمام فعليهم إقامة الدليل على أنه لا يجوز أن يكون مجموع الأمة معصوما ومعلوم أنه لا يكفي في ذلك قدحهم في أدلتنا على أن الإجماع حجة سلمنا كونه معصوما فلم قلت إن الإجماع يشتمل على قوله وتقريره ما بيناه في أول الباب أن العلم باتفاق كل الناس بحيث

يقطع بأنه لم يشد واحد منهم في الشرق والغرب متعذر لا سبيل اليه سلمنا وجود قوله لكن لا نسلم أن قوله صواب لأن عندهم يجوز أن يفتي الإمام بالكفر والبدعة على سبيل التقية والخوف ويحلف بالله تعالى والأيمان التي لا مخرج منها أن الأمر كذلك وإذا كان كذلك فلعله لما رأى أهل العالم متفقين على ذلك القول خاف من مخالفتهم فأظهر الموافقة على ذلك الباطل كيف وعندهم قد أظهر علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع جميع رهط الهاشميين والأمويين والأنصار التقية خوفا من أبي بكر ومن عمر رضي الله عنهما مع قلة أنصارهما وكان وأعوانهما فإذا جاز الخوف والتقية في هذه الصورة فكيف لا يخاف الرجل الواحد جميع أهل العالم عند اتفاقهم على الباطل

سلمنا أنه افتى به عن اعتقاد فلم لا يجوز أن يكون ذلك خطأ

من باب الصغائر وعند ذلك يحتاجون إلى إقامة الدلالة على أنه لا تجوز الصغيرة على الأئمة فإن عولوا فيه على حديث التنفير فهو ضعيف لأن العجز الشديد والفتوى بالكفر والفسق وإباحة الدماء والفروج مع الأيمان الغليظة أدخل في باب التنفير من وقوع الصغيرة فإذا جاز أن لا يكون منزها عنه فلم لا يجوز أن لا يكون منزها عن الصغيرة فهذا ما على هذه الطريقة من الاعتراضات ومن أحاط بها تمكن من القدح في جميع مذاهب الشيعة أصولا وفووعا روى! لأن أصولهم في الإمامة مبنية على هذه القاعدة ومذاهبهم في فروع الشريعة مبنية على التمسك بهذا الإجماع والله أعلم

القسم الثاني فيما أخرج من الإجماع وهو منه

القسم الثاني فيما أخرج من الإجماع وهو منه المسألة الأولى كل مسألة فالحكم فيها إما أن يكون بالإيجاب الكلي أو بالسلب الكلي أوبالإيجاب في البعض والسلب في البعض فهذه احتمالات ثلاثة لا مزيد عليها فإذا اختلف أهل العصر الأول على قولين من هذه الثلاثة فهل لمن بعدهم أن يذكروا الثالث الأكثرون منعوه وأهل الظاهر جوزوه

والحق أن إحداث القول الثالث إما أن يلزم منه الخروج عما أجمعوا عليه أو لا يلزم فإن كان الأول لم يجز إحداث القول الثالث مثاله الأمة اختلفت في الجد مع الأخ على قولين منهم من جعل المال كله للحد ومنهم من قال إنه يقاسم الأخ فالقول الثالث وهو صرف المال كله إلى الأخ غير جائز لأن أهل العصر الأول القائلين بالقولين الأولين اتفقوا على أن للجد قسطا من المال فالقول بصرف المال كله إلى الأخ يبطل ذلك

وأما الثاني فإن إحداث القول الثالث فيه جائز لأن المحذور مخالفة الإجماع أو القول بما يلزم منه مخالفته فأما إذا لم يكن إحداث القول كذلك وجب جوازه واحتج المانعون بأمرين أحدهما أن الأمة لما اختلفت على قولين فقد أوجب كل واحد من الفريقين الأخذ إما بقوله أو بقول صاحبه وتجويز القول الثالث يبطل ذلك فإن قلت إنهم إنما أوجبوا ذلك بشرط أن لا يظهر وجه ثالث فإذا ظهر فقد زال شرط ذلك الإجماع قلت لو جوزنا هذا الاحتمال لجوزنا أن يقال إنما أوجبوا التمسك بالإجماع على القول الواحد بشرط أن لا يظهر وجه القول الثاني فإذا ظهر فقد زال شرط ذلك الإجماع فيجوز الخلاف وثانيهما أن الذهاب إلى القول الثالث إنما يجوز لو أمكن كونه حقا ولا يمكن كونه حقا إلا عند كون الأولين باطلين ضرورة أن الحق واحد وحينئذ يلزم إجماع الأمة على الباطل

المسألة الثانية إذا لم تفصل الأمة بين مسألتين، فهل لمن بعدهم الفصل بينهما

والجواب عن الأول أن ايجاب الأخذ بأحد ذينك القولين مشروط بأن لا يظهر الثالث قوله لو جاز ذلك لجاز مثله في القول الواحد قلنا إنه جائز لكنهم منعوا من اعتباره فليس لنا أن نتحكم عليهم بوجوب التسوية وعن الثاني أن هذا الإشكال غير وارد على القول بأن كل مجتهد مصيب فإنه لا يلزم من حقية أحد الأقسام فساد الباقي وأما على القول بأن المصيب واحد فلا يلزم من التمكن من إظهار القول الثالث كونه حقا لأن المجتهد قد تمكن من العمل بالإجتهاد الخطأ والله أعلم المسألة الثانية الأمة إذا لم تفصل بين مسألتين فهل لمن بعدهم أن يفصل بينهما واعلم أن هذا يقع على وجهين أحدهما أن يقولوا لا فصل بين هاتين المسألتين في كل الأحكام أو في

الحكم الفلاني والآخر أن لا ينصوا على ذلك لكن ما كان فيهم من فرق بينهما أما القسم الأول فإنه لا يجوز الفصل بينهما ثم إنه على ثلاثة أقسام أحدها أن تحكم الأمة في المسألتين بحكم واحد إما ب التحليل أو بالتحريم وثانيها أن يحكم بعض الأمة فيهما بالتحريم والبعض الآخر بالتحليل وثالثها أن لا ينقل الينا عنهم حكم فيهما ففي هذه الصورة الثالثة متى دل الدليل في إحدى المسألتين على تحليل أو تحريم وجب أن يكون الحال في الأخرى كذلك وأما القسم الثاني فقيل فيه إن علم أن طريقة الحكم في المسألتين واحدة فذلك جار مجرى أن يقولوا لا فصل بينهما فمن فصل بينهما فقد خالف ما اعتقدوه

مثاله من ورث العمة ورث الخالة ومن منع إحداهما منع الأخرى وإنما جمعوا بينهما من حيث انتظمهما حكم ذوي الأرحام فهذا مما لا يسوغ خلافهم فيه بتفريق ما جمعوا بينهما إلا أن هذا الاجماع متأخر عن سائر الإجماعات في القوة وأما إن لم يكن كذلك فالحق جواز الفرق لمن بعدهم لأنه لا يكون بذلك مخالفا لما أجمعوا عليه لا في حكم ولا في علة حكم ولأنه لو امتنع الفرق لكان من وافق الشافعي رضي الله عنه في مسألة لدليل وجب عليه أن يوافقه في كل المسائل احتج المانعون من الفصل مطلقا بوجهين

الأول أن الأمة إذا قال نصفها بالحرمة في المسألتين وقال النصف الآخر بالحل فيهما فقد اتفقوا على أنه لا فصل بين المسألتين فيكون الفصل بينهما رد للإجماع الثاني أن الأمة إذا اختلفت على قولين في مسألتين فقد أوجبت كل واحدة من الطائفتين على الأخرى أن تقول بقولها أو بقول الطائفة الأخرى وحظرت ما سوى ذلك وذلك يمنع من الفرق بين المسألتين والجواب عن الأول إنكم إن عنيتم بقولكم اتفقوا على أنه لا فصل بينهما أنهم نصوا على استوائهما في الحكم أو هما مستويان في علة الحكم فليس كذلك لأن النزاع ليس ها هنا وإن عنيتم به أن كل من قال بأحدى المسألتين فقد قال أيضا بالأخرى فلم قلتم أن ذلك يمنع من الفصل فإن هذا أول المسألة وعن الثاني أنهم إنما أوجبوا ذلك بشرط أن لا يفرق بعض المجتهدين بين

المسألتين فإن أدعوا أنه لا التفات إلى هذا الشرط فهذا عين المتازع ولم فيه ومن الناس من جوز الفصل مطلقا استدلالا بعمل ابن سيرين في زوج وأبوين أن للام ثلث ما يبقى وقال في امرأة وأبوين للام ثلث المال فقال في إحداهما بقول ابن عباس وفي الأخرى بقول عامة الصحابة والثوري قال الجماع ناسيا يفطر والأكل ناسيا لا يفطر وفرق بين المسألتين مع أنه جمعتهما طريقة واحدة والله أعلم

المسألة الثالثة في جواز حصول الإتفاق بعد الخلاف

المسألة الثالثة يجوز حصول الاتفاق بعد الخلاف وقال الصيرفي لا يجوز لنا إجماع الصحابة على إمامة ابي بكر رضي الله عنه بعد اختلافهم فيها

واتفاق التابعين على المنع من بيع أمهات الأولاد بعد اختلاف الصحابة فيه احتج الخصم بأن أهل العصر الأول اتفقوا على جواز الأخذ بأي

القولين كان إذا أدى الاجتهاد إليه فلو أجمعوا على أحد القولين وجب أن يكون الإجماعان صوابا ويكون المتأخر ناسخا للمتقدم لكن ذلك باطل على ما مر في باب النسخ ولأنه لو جاز ذلك لجاز أن يتفق أهل عصر على قول ويتفق أهل عصر ثان على خلافه والجواب أن الإجماع على الأخذ بأي القولين شاء مشروط بعدم الاتفاق فإذا حصل الاتفاق زال شرط الإجماع فزال لزوال شرطه قوله لو جاز ذلك لجاز مثله عند الاتفاق قلنا مر الجواب عنه في المسألة الأولى والله أعلم

المسألة الرابعة في اتفاق أهل العصر الثاني على أحد قولي أهل العصر الأول

المسألة الرابعة إذا اتفق أهل العصر الثاني على أحد قولي أهل العصر الأول كان ذلك اجماعا لا تجوز مخالفته خلافا لكثير من المتكلمين وكثير من فقهاء الشافعية والحنفية لنا أن ما أجمع عليه أهل العصر الثاني سبيل المؤمنين فيجب اتباعه لقوله عز وجل ويتبع غير سبيل المؤمنين ولأنه إجماع حدث بعد ما لم يكن فيكون حجة كما إذا حدث بعد تردد

أهل الإجماع فيه حال التفكر واعلم أن هذا المقيس عليه ينقض على المخالف أكثر أدلته احتجوا بأمور أحدها قوله عز وجل فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول أوجب الرد إلى كتاب الله تعالى عند التنازع وهو حاصل لأن حصول الأتفاق في الحال لا ينافي ما تقدم من الاختلاف فوجب فيه الرد إلى كتاب الله تعالى وثانيها قوله صلى الله عليه وسلم أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ظاهره يقتضي جواز الأخذ بقول كل واحد من الصحابة ولم يفصل بين ما يكون بعده إجماع أو لا يكون وثالثها أن في ضمن اختلاف أهل العصر الأول الاتفاق على جواز الأخذ بأيهما أريد فلو انعقد إجماع في العصر الثاني لتدافع الإجماعان

ورابعها لو كان قولهم إذا اتفقوا بعد الاختلاف حجة لكان قول إحدى الطائفتين إذا ماتت الأخرى حجة وفيه كون قولهم حجة بالموت وخامسها لو كان اتفاق أهل العصر الثاني حجة لكانوا قد صاروا إليه لدليل وذلك باطل لأنه لو وجد ذلك الدليل لما خفى على أهل العصر الأول وسادسها أن أهل العصر الثاني بعض الأمة فلا يكون اتفاقفهم بين وحدهم إجماعا وسابعها أنه قد ثبت أن أهل العصر الأول إذا اختلفوا على قولين لم يجز لمن بعدهم إحداث قول ثالث وأهل العصر الأول لما اختلفوا لم يكن القطع بذلك الحكم قولا لواحد منهم فيكون القطع بذلك إحداثا لقول ثالث وإنه غير جائز وثامنها أن الصحابة في الحادثة التي اختلفوا فيها كالأحياء ألا ترى أنه تحفظ في ذلك أقوالهم ويحتج لها وعليها وإذا لم ينعقد الإجماع مع تلك الأقوال حال حياة القائلين بها وجب أيضا أن لا ينعقد حال وفاتهم

وتاسعها أن هذا الإجماع لو كان حجة لوجب ترك القول الآخر ولكان إذا حكم به حاكم ثم انعقد الإجماع على خلافه وجب نقضه لكونه واقعا على مضادة دليل قاطع لكن ذلك باطل لأن أهل العصر الأول اتفقوا على نفوذ هذا القضاء فنقضه يكون على خلاف الإجماع الجواب عن الأول أن التعلق بالإجماع رد إلى الله والرسول ولأن أهل العصر الثاني إذا اتفقوا فهم ليسوا بمتنازعين أهل فلم يجب عليهم الرد إلى كتاب الله لأن المعلق بالشرط عدم عند عدم شرطه وعن الثاني أنه مخصوص بتوقف الصحابة في الحكم حال الاستدلال مع أنه لا يجوز الاقتداء به في ذلك بعد انعقاد الإجماع فوجب تخصيص محل النزاع عنه والجامع ما تقدم وعن الثالث ما مر غير مرة أن ذلك الإجماع مشروط

ثم إنه منقوض باتفاقهم حال الاستدلال على التوقف وتجويز الأخذ بأي قول ساق الدليل إليه ولأنكم اذا جوزتم أن لا يكون اتفاق أهل العصر الثاني حجة فلم لا يجوز أن لا يكون اتفاق أهل العصر الأول حجة إذ ليس أحد الاتفاقين حديث اولى من الآخر واذا لم يكن الاتفاق الأول حجة لم يلزم من حصول الاتفاق الثاني ما ذكرتموه من المحذور فثبت أن هذه الحجة متناقضة وعن الرابع أنا نتبين بموت إحدى الطائفتين أن قول الطائفة الأخرى حجة لاندراج قولهم تحت أدلة الإجماع لا ان الموت نفسه هو الحجة وعن الخامس أنه لا يجوز أن يخفى ذلك الدليل على كلهم لكن يجوز خفاوه عند على بعضهم عن السادس أنه لو كان أهل العصر الثاني بعض الأمة لوجب أن لا يكون اتفاقهم

الذي لا يكون مسبوقا بالخلاف حجة وهذا يقتضي أن لا يكون الحجة إجماع الصحابة فقط بل إجماع الذين كانوا موجودين عند ظهور أدلة الإجماع وهذا القائل لا يقول بهذه المذاهب وعن السابع أنه لا يجوز إحداث قول ثالث إذا كان الإجماع منعقدا على عدم جوازه مطلقا أما إذا كان مشروطا بشرط جاز ذلك عند عدم ذلك الشرط كما ذكرنا أنهم حال الاستدلال مطبقون على جواز التوقف وعدم القطع مع أن ذلك لا ينافي اتفاقهم على القطع بعده وعن الثامن قوله أقوال الصحابة باقية بعد وفاتهم إن عنى بذلك كونها مانعة من انعقاد الإجماع فهذا عين النزاع وإن عنى به علمنا بأنهم ذكروا هذه الأقول فلم قلت إن ذلك ينفي انعقاد الإجماع وان عنيتم ثالثا فبينوه

المسألة الخامسة أهل العصر إذا انقسموا إلى قسمين فمات أحدهما

وعن التاسع أنا لا ننقض ذلك الحكم لأنه صار مقطوعا به في زمان عدم هذا الإجماع ونحن إنما ننقض الحكم الذي حكم به القاضي إذا وقع ذلك الحكم في زمان قيام الدلالة القاطعة على فساده والله أعلم المسألة الخامسة أهل العصر إذا انقسموا إلى قسمين ثم مات أحد القسمين صار قول الباقين إجماعا لأن بالموت ظهر اندراج قول ذلك القسم وحده تحت أدلة الإجماع وكذا القول إذا انقسموا إلى قسمين ثم كفر أحدهما فإنه يصير القول

المسألة السادسة أهل العصر إذا اختلفوا على قولين ثم رجعوا إلى أحدهما

الثاني حجة والله أعلم المسألة السادسة أهل العصر إذا اختلفوا على قولين ثم رجعوا إلى أحد ذينك القولين هل يكون ذلك إجماعا أما من قال بانعقاد الإجماع في المسألتين السابقتين فقوله به ها هنا أولى ونثبت هذه الأولوية من وجهين أحدهما أن في المسألتين السابقتين لقائل أن يقول المجمعون ليسوا كل الأمة فلا يكون اتفاقهم قولا لكل الأمة فلا يكون حجة وأما ها هنا فهذه الشبهة زائلة لأن الذين اتفقوا هم بعينهم الذين اختلفوا فكان المجمعون كل الأمة وثانيهما أن في المسألتين السابقتين ما صار القول الثاني مرجوعا عنه أصلا

وها هنا صار كذلك وأما المنكرون لانعقاد الإجماع هناك فقد اختلفوا ها هنا فأما من اعتبر انقراض العصر فإنه جوز ذلك قال لأن الانقراض لما كان شرطا في الإجماع وهم لم ينقرضوا على ذلك الخلاف فلم يحصل الإجماع على جواز الخلاف فلم يكن الاتفاق حاصلا بعد الإجماع على جواز الخلاف وأما من لم يعتبر الانقراض فقد اختلفوا فمنهم من أحال وقوعه ومنهم من جوزه وزعم أنه لا يكون حجة ومنهم من جعله إجماعا يحرم خلافه وهو المختار لنا ما تقدم من أن الصحابة رضوان الله عليهم اختلفوا في الإمامة ثم اتفقوا بعد ذلك عليها وإذا ثبت وقوعه وجب أن يكون حجة لقوله عز وجل ويتبع غير سبيل المؤمنين والشبه التي يذكرونها ها هنا هي التي مرت والله أعلم

المسألة السابعة انقراض العصر واختلافهم في اعتباره وعدمه

المسألة السابعة انقراض العصر غير معتبر عندنا في الإجماع خلافا لبعض الفقهاء والمتكلمين منهم الأستاذ أبو بكر بن فورك لنا قوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا وصفهم بالخيرية وإجماعهم لا على الصواب يقدح في وصفهم بالخيرية وأيضا فقوله صلى الله عليه وسلم لا تجتمع أمتي على الخطأ ينافي إجماعهم على الخطأ ولو في لحظة واحدة ومما تمسكوا به في المسألة أنا لو اعتبرنا الانقراض لم ينعقد إجماع لأنه قد حدث من التابعين في زمن الصحابة قوم من أهل الاجتهاد فيجوز لهم مخالفة الصحابة لأن العصر لم ينقرض ثم الكلام في هذا العصر كالكلام في العصر الأول فوجب أن لا يستقر إجماع أبدا فإن قلت لم لا يجوز أن يكون المعتبر انقراض عصر من كان مجتهدا

عند حدوث الحادثة لا من يتجدد بعد ذلك فلا يلزم اعتبار عصر التابعين إذا حدث فيهم مجتهد بعد حد وث الحادثة قلت بتقدير أن يحدث في التابعين واحد من أهل الاجتهاد قبل انقراض عصر من كان مجتهدا عند حدوث الحادثة من الصحابة ففي ذلك الوقت إجماع الصحابة غير منعقد فوجب أن يجوز للتابعي مخالفتهم وكذلك يحدث في تابعي التابعين قبل انقراض عصر من كان مجتهدا من التابعين وهلم جرا إلى زماننا فيلزم ان لا ينعقد الإجماع على ذلك التقدير ثم إنا نجوز هذا الاحتمال في كل الإجماعات ولا نعلم عدمه فوجب أن لا ينعقد شئ من الإجماعات واحتج المخالف بأمور أحدها أن عليا رضي الله عنه سئل عن بيع أمهات الأولاد فقال قد كان

رأيي ورأي عمر أن لا يبعن ثم رأيت بيعهن فقال له عبيدة السلماني رأيك في الجماعة أحب الينا من رأيك وحدك فدل قول عبيدة عن أن الإجماع كان حاصلا مع أن عليا رضي الله عنه خالفه وثانيها أن الصديق كان يرى التسوية في القسم ولم يخالفه أحد في زمانه ثم خالفه عمر بعد ذلك

وثالثها أن الناس ما داموا في الحياة يكونون في التفحص والتأمل فلا يستقر الاجماع ورابعها قوله تعالى لتكونوا شهداء على الناس ومذهبكم! يقتضي أن يكونوا شهداء على أنفسهم أيضا وخامسها أن قول المجمعين لا يزيد على قول النبي صلى الله عليه وسلم فإذا كانت وفاة النبي صلى الله عليه وأله وسلم شرطا في استقرار الحجة من قوله فلأن يعتبر ذلك في قول أهل الاجماع أولى والجواب عن الأول أن قول السلماني رأيك في الجماعة دل على أن المنع من بيعهن كان رأي جماعة ولم يدل على أنه كان رأي كل الأمة وإنما أراد أن ينضم قول علي الى قول عمر رضي الله عنهما لأنه رجح قول الأكثر على قول الأقل وعن الثاني أنا لا نسلم انعقاد الإجماع على فعل أبي بكر رضي الله عنه بل نقل

المسألة الثامنة في اعتبار الانقراض في الإجماع السكوتي

أن عمر رضي الله عنه نازعه فيه وعن الثالث أنهم إن أرادوا بنفي الاستقرار أنه لا يحصل الاتفاق فهو باطل لأن كلامنا في أنه لو حصل لكان حجة وإن أرادوا به أنه بعد حصوله لا يكون حجة فهو عين النزاع وعن الرابع أن كونهم شهداء على الناس لا ينافي شهادتهم على أنفسهم وعن الخامس أنه جمع بين الموضعين من غير دليل وبالله التوفيق المسألة الثامنة اختلفوا في أنا لو جوزنا انعقاد الإجماع عن السكوت فهل يعتبر فيه الإنقراض ذهب كثير ممن لم يعتبر الانقراض في الإجماع القولي إلى اعتباره ها هنا لأن سكوته يمكن أن يكون للتفكر في حكم تلك الحادثة فأما إذا مات عليه علمنا حينئذ أن سكوته كان رضى وهذا ضعيف لأن السكوت إن دل على الرضا وجب أن يحصل ذلك قبل الموت وإن لم يدل عليه لم يحصل ذلك أيضا بالموت لاحتمال أنه مات على ما كان عليه قبل الموت والله أعلم

المسألة التاسعة في حجية الإجماع المروي بطريق الآحاد

المسألة التاسعة الإجماع المروي بطريق الآحاد حجة خلافا لأكثر الناس لنا أن ظن وجوب العمل به حاصل فوجب العمل به دفعا للضرر المظنون ولأن الإجماع نوع من الحجة فيجوز التمسك بمظنونه كما يجوز بمعلومه قياسا على السنة ولأنا بينا أن أصل الإجماع قاعدة ظنية فكيف القول في تفاصيله

القسم الثالث فيما أدخل في الإجماع وليس منه

القسم الثالث فيما أدخل في الإجماع وليس منه المسألة الأولى إذا قال بعض أهل العصر قولا وكان الباقون حاضرين لكنهم سكتوا وما انكروه فمذهب الشافعي رضي الله عنه وهو الحق أنه ليس بإجماع ولا حجة وقال الجبائي إنه إجماع وحجة بعد انقراض العصر وقال أبو هاشم ليس بإجماع ولكنة حجة وقال أبو علي بن أبي هريرة إن كان هذا القول من حاكم لم يكن إجماعا ولا حجة وإن لم يكن من حاكم كان إجماعا وحجة لنا أن السكوت يحتمل وجوها أخر سوى الرضى وهي ثمانية أحدها أن يكون في باطنه مانع من إظهار القول وقد تظهر عليه قرائن السخط

وثانيها ربما رآه قولا سائغا أدى اجتهاده إليه وإن لم يكن موافقا عليه وثالثها أن يعتقد أن كل مجتهد مصيب فلا يرى الإنكار فرضا أصلا ورابعها ربما أراد الإنكار ولكنه ينتهز فرصة التمكن منه ولا يرى المبادرة إليه مصلحة وخامسها أنه لو أنكر لم يلتفت إليه ولحقه بسبب ذلك ذل كما قال ابن عباس في سكوته عن العول هبته وكان والله مهيبا

وسادسها ربما كان في مهلة النظر وسابعها ربما سكت لظنه أن غيره يقوم مقامه في ذلك الإنكار وإن كان قد غلط فيه وثامنها ربما رأى ذلك الخطأ من الصغائر فلم ينكره وإذا احتمل السكوت هذه الجهات كما احتمل الرضى علمنا أنه لا يدل على الرضا لا قطعا ولا ظاهرا وهذا معنى قول الشافعي رحمه الله لا ينسب الى ساكت قول واحتج الجبائي بأن العادة جارية بأن الناس إذا تفكروا في مسألة زمانا طويلا

واعتقدوا خلاف ما انتشر من القول أظهروه إذا لم تكن هناك تقية ولو كانت هناك تقية لظهرت واشتهرت فيما بين الناس فلما لم يظهر سبب التقية ولم يظهر الخلاف علمنا حصول الموافقة وجوابه ما بينا أن وراء الرضى احتمالات أخرى واحتج أبو هاشم بأن الناس في كل عصر يحتجون بالقول المنتشر في الصحابة إذا لم يعرف له مخالف وجوابه أن ذلك ممنوع واحتج أبو علي بن أبي هريرة بأن هذا القول أن كان من حاكم لم يدل سكوت الباقين على الإجماع لأن الواحد منا قد يحضر مجالس الحكام فيجدهم يحكمون بخلاف مذهبه وما يعتقده ثم لا ينكر عليهم وإن كان من غير الحاكم كان إجماعا وهو ضعيف لأن عدم الإنكار إنما يكون بعد استقرار المذهب وأما حال الطلب فالخصم لا يسلم جواز السكوت إلا عن الرضى سواء كان

مع الحاكم أو مع غيره والله أعلم

المسألة الثانية في قول الصحابي إذا لم يعرف له مخالف

المسألة الثانية اختلفوا فيما إذا قال بعض الصحابة قولا ولم يعرف له مخالف والحق أن هذا القول إما أن يكون مما تعم به البلوى أولا يكون فإن كان الأول ولم ينتشر ذلك القول فيهم فلا بد وأن يكون لهم في تلك المسألة قول إما موافق أو مخالف ولكنه لم يظهر ف يجرى ذلك مجرى قول البعض بحضرة الباقين وسكوت الباقين عنه وإن كان الثاني لم يكن إجماعا ولا حجة لاحتمال ذهول البعض عنه وبهذا التقدير لا يكون للذاهلين فيه قول فلا يكون الإجماع حاصلا المسألة الثالثة إذا استدل أهل العصر بدليل أو ذكروا تأويلا ثم استدل أهل العصر الثاني بدليل آخر أو ذكروا تأويلا آخر فقد اتفقوا على أنه لا يجوز إبطال التأويل القديم لأنه لو كان ذلك باطلا وكانوا ذاهلين عن التأويل الجديد الذي هو الحق لكانوا مطبقين على الخطأ وهو غير جائز

وأما التأويل الجديد فإن لزم من ثبوته القدح في التأويل القديم لم يصح كما إذا اتفقوا على تفسير اللفظ المشترك بأحد معنييه ثم جاء من بعدهم وفسره بمعناه الثاني لم يجز ذلك لأنا قد دللنا على أن اللفظ الواحد لا يجوز استعماله لإفادة معنييه جميعا فصحة هذا التأويل الجديد تقتضي فساد القديم وإنه غير جائز أو يقال إنه تعالى تكلم بتلك اللفظه مرتين وهو باطل لانعقاد الإجماع على ضده وإما اذا لم يلزم من صحة التأويل الجديد فساد التأويل القديم جاز ذلك والدليل عليه أن الناس يستخرجون في كل عصر أدلة وتأويلات جديدة ولم ينكر عليهم أحد فكان ذلك إجماعا وللمانع أن يحتج بأمور أولها أن الدليل الجديد مغاير لسبيل المؤمنين فوجب أن يكون محظورا لقوله تعالى ويتبع غير سبيل المؤمنين وثاينها أن قوله تعالى كنتم خير أمة خطاب مشافهة فلا يتناول إلا أهل العصر الأول

ثم قوله تأمرون بالمعروف يقتضي كونهم آمرين بكل معروف فكل ما لم يأمروا به ولم يذكروه وجب أن لا يكون معروفا فكان منكرا وثالثها أن الدليل الثاني والتأويل الثاني لو كان صحيحا لما جاز ذهول الصحابة مع تقدمهم في العلم عنه والجواب عن الأول أن قوله ويتبع غير سبيل المؤمنين خرج مخرج الذم فيختص بمن اتبع ما نفاه المؤمنون لأن ما لم يتكلم فيه المؤمنون بنفي ولا بإثبات لا يقال فيه إنه اتباع لغير سبيل المؤمنين وأيضا فالحكم بفساد ذلك الدليل ما كان سبيلا للمؤمين فوجب كونه باطلا وعن الثاني أن قوله وتنهون عن المنكر يقتضي نهيهم عن كل المنكرات فكل ما لم ينهوا عنه وجب أن لا يكون منكرا لكنهم ما نهوا عن هذا الدليل الجديد فوجب أن لا يكون منكرا وعن الثالث أنه لا استبعاد في أنهم اكتفوا بالدليل الواحد والتأويل الواحد وتركوا

المسألة الرابعة في إجماع أهل المدينة

طلب الزيادة والله أعلم المسألة الرابعة قال مالك إجماع أهل المدينة وحدها حجة وقال الباقون ليس كذلك حجة مالك قوله صلى الله عليه وسلم إن المدينة لتنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد والخطأ خبث فكان منفيا عنهم فإن قيل وجد في الخبر ما يقتضي كونه مردودا لأن ظاهره أن كل

من خرج عنها فإنه من الخبث الذي تنفيه المدينة وذلك باطل لأنه قد خرج منها الطيبون كعلي وعبد الله رضي الله عنهما بل ذكروا ثلاثمائة ونيفا من الصحابة الذين انتقلوا إلى العراق وهم أمثل من الذين بقوا فيها كأبي هريرة وأمثاله سلمنا سلامته عن هذا الطعن لكنه من أخبار الآحاد فلا يجوز التمسك به في مسألة علمية سلمنا صحة متنه لكن لم لا يجوز أن يكون ذلك محمولا على من خرج منها لكراهية المقام بها مع أن في المقام بها بركة عظيمة بسبب جوار الرسول وجوار مسجده صلى الله عليه وآله وسلم ومع ما ورد من الثناء الكثير على المقيمين بها لأن الكاره للمقام بها مع هذه الأحوال لا بد وأن يكون ضعيف الدين ومن كان كذلك فهو خبث

سلمنا أن المراد كونها نافية للقول الباطل لكن قوله لتنفي خبثها ليس فيه صيغة عموم سلمناه لكن لم لا يجوز تخصيص هذا القول بزمانه ويكون المراد بالخبث الكفار ثم إنه معارض بأمور ثلاثه الأول أن الذي دل على كون الإجماع حجة وارد بلفظين لفظ المؤمنين في آية المشاقة ولفظ الأمة في غيرها وهاتان اللفظتان غير مخصوصتين ببلدة دون بلدة فوجب اعتبار الكل الثاني أن الأماكن لا تؤثر في كون الأقول حجة الثالث أن القول به يودي إلى المحال لأن من كان ساكن المدينة كان قوله حجة فإذا خرج منها لا يكون قوله حجة ومن كان قوله حجة في مكان كان قوله حجة في كل مكان كالرسول صلى الله عليه وسلم والجواب قوله يقتضي أن كل من خرج من المدينة فهو خبث

قلنا لا نسلم لأن الخبر يقتضي أن كل ما كان خبثا فإن المدينة تخرجه وهذا لا يقتضي أن كل ما تخرجه المدينة فهو خبث قوله إنه خبر واحد فلا يجوز التمسك به في العلميات قلنا لا نسلم أن هذه المسألة علمية بل لما ثبت بهذا الخبر ظن أن اجماع أهل المدينة حجة والعمل بالظن واجب وجب العمل به قوله نحمله على من كره المقام بالمدينة قلنا تقييد المطلق خلاف الأصل ولو جاز ذلك لجاز في قوله ويتبع غير سبيل المؤمنين وفي قوله عليه الصلاة والسلام لا تجتمع أمتي على خطأ حمله على بعض الصور ولما كان جواب الجمهور أن تخصيص العام وتقييد المطلق خلاف الأصل وأنه لا يجوز القول به من غير ضرورة فكذا ها هنا قوله ليس في قوله لتنفى خبثها صيغة عموم قلنا لا نسلم فإن الحقيقة لا تنتفي إلا عند انتفاء جميع أفرادها فلولا انتفاء جميع أفراد الخبث عن المدينة وإلا لما صح القول بأنها تنفى الخبث قوله لم لا يجوز تخصيصه بزمانه

قلنا لأن التخصيص خلاف الأصل قوله الأدلة على أن الإجماع حجة غير مختصة بقوم دون قوم قلنا تلك الأدلة لا تقتضي أن إجماع أهل المدينة حجة ولكنها لا تبطل ذلك فإذا أثبتناه بدليل منفصل لم يلزمنا محذور قوله لا أثر للمكان قلنا لا استبعاد في أن يخص الله تعالى أهل بلدة معينة بالعصمة كما أنه لا استبعاد في أن يخص تعالى أهل زمان معين بالعصمة فإنه تعالى خص أمتنا بالعصمة من بين سائر الأمم بلى العقل لا يدل على ذلك وإنما الرجوع فيه إلى السمع قوله من كان قوله حجة في مكان كان حجة في كل مكان كالنبي صلى الله عليه وسلم قلنا هذا قياس طردي في مقابلة النص فكان باطلا والله أعلم فهذا تقرير قول مالك رحمه الله وليس بمستبعد كما اعتقد هو وجمهور أهل الأصول والله أعلم

المسألة الخامسة في إجماع العترة

المسألة الخامسة إجماع العترة وحدها ليس بحجة خلافا للزيدية والإمامية

لنا أن عليا رضي الله عنه خالفه الصحابة في كثير من المسائل ولم يقل لأحد ممن خالفه إن قولي حجة فلا تخالفني احتجوا بالآية والخبر والمعنى أما الآية فقوله تعالى إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا والخطأ رجس فيجب أن يكونوا مطهرين عنه وأما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي

وأما المعنى فإن أهل البيت مهبط الوحي والنبي صلى الله عليه وسلم منهم وفيهم فالخطأ عليهم أبعد والجواب عن الأول أن ظاهر الآية في أزواجه صلى الله عليه وسلم لأن ما قبلها وما بعدها خطاب معهن لأنه تعالى قال وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ويجرى هذا المجرى قول الواحد لابنه تعلم وأطعني إنما أريد لك الخير ومعلوم أن هذا القول لا يتناول إلا ابنه فكذا هاهنا فإن قلت هذا باطل من وجوه أحدها أنه لو أرادهن لقال إنما يريد الله ليذهب عنكن الرجس وثانيها أن أهل البيت علي وفاطمة والحسن والحسين رضوان الله عليهم لأنه

لما نزلت هذه الآية لف الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم كساء وقال هو أهل بيتي وثالثها أن كلمة إنما للحصر فهي تدل على إنه تعالى ما أراد أن يزيل الرجس عن احد ألا عن أهل البيت وهذا غير جائز لأنه تعالى أراد زوال الرجس عن الكل وإذا تعذر حمله على ظاهره وجب حمله على زوال بعض الرجس عنهم لأن ذكر السبب لإرادة المسبب جائز وزوال الرجس هو العصمة فإذن هذه الآية تدل على عصمة أهل البيت وكل من قال ذلك زعم أن المراد به علي وفاطمة والحسن والحسين لا غير فلو حملناه على غيرهم كان ذلك قولا ثالثا

قلت الجواب عن الأول أن التذكير لا يمنع من إرادتهن بالخطاب وإنما يمنع من القصر عليهن وعن الثاني أنه معارض بما يروى عن أم سلمة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ألست من أهل البيت فقال بلى إن شاء الله ولأن لفظ أهل البيت حقيقة فيهن لغة فكان تخصيصه ببعض الناس خلاف الأصل وعن الثالث لا نسلم دلالة الآية على زوال كل رجس لأن المفرد المعرف لا يفيد العموم والجواب عن التمسك بالخبر أنه من باب الآحاد وعند الإمامية لا يجوز العمل به فضلا عن العلم فإن قلت بل هو صيح! قطعا لأن الأمة اتفقت على قبوله بعضهم للاستدلال به على أن إجماع العترة حجة وبعضهم للاستدلال به على فضيلتهم قلت قد تقدم أن هذا لا يفيد القطع بالصحة سلمنا صحة الخبر لكنه يقتضي وجوب التمسك بالكتاب والعترة وذلك مسلم فلم قلتم إن قول العترة وحدها حجة

المسألة السادسة في إجماع الأئمة الأربعة

(و) الجواب عن التمسك بالمعنى انه باطل بزوجاته صلى الله عليه وسلم فإنهن شاهدن اكثر احواله مع ان قولهن ليس وحده بحجة المسألة السادسة إجماع الأئمة الأربعة وحدهم ليس بحجة وحكى أبو بكر الرازي أن أبا حازم القاضي كان يقول إجماع الخلفاء الأربعة حجة ولهذا لم يعتد بخلاف زيد بن ثابت في توريث ذوي الأرحام وحكم برد أموال حصلت في بيت مال المعتضد إلى ذوي الأرحام وقبل المعتضد فتياه وأنفذ قضاءه وكتب به إلى الآفاق

ومن الناس من جعل إجماع الشيخين حجة واحتج أبو حازم بقوله عليه الصلاة والسلام عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجد واحتج الباقون بقوله عليه الصلاة والسلام اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر ولما لم يكن الاقتداء بهما حال اختلافهما وجب ذلك حال اتفاقهما

والجواب أنه معارض بقوله صلى الله عليه وسلم أصحابي كالنجوم بأيهم أقتديهم لأنه اهتديتم مع أن قول كل واحد من الصحابة وحده ليس بحجة

المسألة السابعة في إجماع الصحابة مع مخالفة من أدركهم من التابعين

المسألة السابعة إجماع الصحابة مع مخالفة من أدركهم من التابعين ليس بحجة خلافا لبعضم لنا لو كان قول التابعي باطلا لما جاز رجوع الصحابة إليه لكنهم قد رجعوا إليه عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن فريضة فقال سلوها سعيد بن جبير فإنه أعلم به وعن أنس رضي الله عنه ربما سئل عن شئ فقال سلوا مولانا الحسن فإنه سمع وسمعنا وحفظ ونسينا وسئل ابن عباس عن النذر بذبح الولد فأشار إلى مسروق فأتاه

السائل بجوابه فتابعه عليه وفي أمثال هذه الروايات كثرة واحتج المخالف بالآية والخبر والأثر أما الآية فقوله تعالى لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ولن يرضى عنهم إلا إذا كانوا غير مقدمين على فعل شئ من المحظورات ومتى كذلك كان قولهم حجة أما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام لو أنفق غيرهم ملأ الأرض ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه وذلك يدل على أن التابعي إذا خالف

فالحق ليس مع التابعي بل معهم وأما الأثر فهو أن عائشة رضي الله عنها أنكرت على ابي سلمة بن عبد الرحمن خلافه على ابن عباس في عدة المتوفى عنها زوجها وهي حامل وقالت فروج يصيح مع الديكة

المسألة الثامنة الإجماع مع مخالفة المخطئين في مسائل الأصول

والجواب عن الأول أن الآية مختصة بأهل بيعة الرضوان وبالاتفاق لا اختصاص لهم بالإجماع وعن الخبر أنه يلزم منه أن الصحابي الواحد إذا قال نقيض قول التابعي أن نقطع بأن الحق قول الصحابي وعن الأثر أن إنكارها على أبي سلمة لعله كان لأنه خالف بعد الإجماع أو في مسألة قطعية أو لأنه خالف قبل أن كان أهلا للاجتهاد أو لأنه أساء الأدب في المناظرة ولأن قول عائشة رضي الله عنهما ليس بحجة المسألة الثامنة اختلفوا في انعقاد الإجماع مع مخالفة المخطئين من أهل القبلة في مسائل الأصول فإن لم نكفرهم اعتبرنا قولهم لأنهم اذا كانوا من المؤمنين ومن الأمة كان قول من عداهم قول بعض المؤمنين فلا يكون حجة وإن كفرناهم انعقد الإجماع بدونهم لكن لا يجوز التمسك بإجماعنا عن كفرهم في تلك المسائل لأنه إنما ثبت خروجهم عن الإجماع بعد ثبوت كفرهم في تلك المسائل فلو أثبتنا كفرهم فيها بإجماعنا وحدنا لزم الدور

المسألة التاسعة الإجماع مع مخالفة الواحد الواحد والإثنين

واعلم أن قول العصاه من أهل القبلة معتبر في الإجماع لأن من مذهبنا أن المعصية لا تزيل اسم الإيمان فيكون قول من عداهم قول بعض المؤمنين فلا يكون حجة المسألة التاسعة الإجماع لا يتم مع مخالفة الواحد والإثنين خلافا لأبي الحسين الخياط من المعتزلة ومحمد بن جرير الطبري وأبي بكر الرازي لنا أن جمع الصحابة أجمعوا على ترك قتال مانعي الزكاة وخالفهم فيه أبو بكر رضي الله عنه وحده فيه ولم يقل أحد إن خلافه غير معتد به بل لما ناظروه رجعوا إلى قوله وكذلك ابن عباس وابن مسعود خالفا كل الصحابة في المسائل

الفرائض وخلافهما باق إلى الآن واحتج المخالف بأمور أحدها أن لفضي المؤمنين والأمة يتناولهم مع خروج الواحد والإثنين منهم كما يقال في البقرة إنها سوداء وإن كانت فيها شعرات بيض وكما يقال للزنجي إنه أسود مع بياض حدقته وأسنانه وثانيها قوله عليه الصلاة والسلام عليكم بالسواد الأعظم وقوله الشيطان مع الواحد وهذا يقتضي أن الواحد المنفرد بقوله مخطئ وثالثها أن الإجماع حجة على المخالف فلو لم يكن في العصر مخالف لم يتحقق هذا المعنى ورابعها أن الصحابة أنكرت على ابن عباس خلافة للباقين في الصرف

وخامسها أن المسلمين اعتمدوا في خلافة أبي بكر رضي الله عنه على الإجماع مع مخالفة سعد وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وسادسها أن في رواية الأخبار يحضل الترجيح بكثرة العدد فكذا في أقوال المجتهدين وسابعها أن تفاق الجمع على الكذب ممتنع عادة واتفاق الجمع القليل على ذلك غير ممتنع فإذا اتفقت الأمة على الحكم الواحد إلا الواحد منهم أو الإثنين كان ذلك الجمع العظيم قد أخبروا عن أنفسهم بكونهم مؤمنين وذلك لا يحتمل الكذب وأما الواحد والإثنان لما أخبروا عن أنفسهم بكونهم مؤمنين فذلك يحتمل الكذب وإذا كان كذلك كان ما اتفق عليه الكل سوى الواحد والإثنين هو سبيل المؤمنين قطعا فوجب أن يكون حجة وثامنها لو اعتبرنا مخالفة الواحد والإثنين لم ينعقد الإجماع قطعا لأنه لا

يمكننا أن ندعي في شئ من الإجماعات أنه ليس هناك واحد أو اثنان يخالفون فيه والجواب عن الأول أن ألفاظ العموم لا تتناول الأكثر على سبيل الحقيقة في اللغة لأنه يجوز أن يقال لما عدا الواحد من الأمة ليسوا كل الأمة ويصح استثناوه أخبرنا عنهم وعن الثاني أن السواد الأعظم كل الأمة لأن من عدا الكل فالكل أعظم منه ولولا ما ذكرناه لدخل تحته النصف من الأمة إذا زاد على النصف الآخر بواحد وأما قوله عليه الصلاة والسلام الشيطان مع الواحد فذلك لا يقتضي أن يكون مع كل واحد وإلا لم يكن قول الرسول صلى الله عليه وسلم وحده حجة وعن الثالث أنه حجة على المخالف الذي يوجد بعد ذلك ولو كان الأمر كما ذكرتم لوجب في كل إجماع أن يكون فيه مخالف شاذ

المسألة العاشرة الإجماع إذا لم يحصل فيه قول من كان متمكنا من الاجتهاد

وعن الرابع أن الصحابة ما أنكروا علي ابن عباس مخالفته للإجماع بل مخالفته خبر أبي سعيد رضي الله عنهما وعن الخامس أن الإمامة لا يعتبر في انعقادها حصول الإجماع بل البيعة كافية وعن السادس لم قلتم إن الحال في الإجماع كالحال في الرواية فلو كان كذلك لحصل الإجماع بقول الواحد والإثنين كالرواية وعن السابع أنا وإن عرفنا في ذلك الجمع كونهم مؤمنين لكنا لا ندري أنهم كل المؤمنين فلا جرم لم يجب علينا أن نحكم بقولهم وعن الثامن أنا إنما نتمسك بالإجماع حيث يمكننا العلم بذلك كما في زمان الصحابة رضي الله عنهم المسألة العاشرة الإجماع إذا لم يحصل فيه قول من كان متمكنا من الاجتهاد وإن لم يكن مشهورا له لم يكن حجة لأن قول من عداه قول بعض المؤمنين فلا يندرج تحت أدلة الإجماع والله أعلم

القسم الرابع فيما يصدر عنه الإجماع

القسم الرابع فيما يصدر عنه الإجماع المسألة الأولى لا يجوز حصول الإجماع إلا عن دلالة أو أمارة وقال قوم يجوز صدوره عن التبخيت

لنا أن القول في الدين بغير دلالة أو أمارة خطأ فلو اتفقوا عليه لكانوا مجمعين على الخطأ وذلك يقدح في الإجماع احتج المخالف بأمرين الأول أنه لو لم ينعقد الإجماع إلا عن دليل لكان ذلك الدليل هو الحجة ولا يبقى في الإجماع فائدة الثاني أن الإجماع لا عن الدلالة ولا عن الأمارة قد وقع كإجماعهم على بيع المراضاة وأجرة الحمام

المسألة الثانية في اختلافهم في وقوع الإجماع عن الأمارة

والجواب عن الأول أن ذلك يقتضي أن لا يصدر الإجماع عن دلالة ولا عن أمارة ألبتة وأنتم لا تقولون به ولأن فائدة الإجماع أنه يكشف عن وجود دليل في المسألة من غير حاجة إلى معرفة ذلك الدليل والبحث عن كيفية دلالته على المدلول وعن الثاني أن الصور التي ذكرتموها غايتكم أن تقولوا لم ينقل إلينا فيها دليل ولا أمارة ولا يمكنكم القطع بأنهما ما كانا موجودين فلعلها كانا موجودين لكن تركوا نقلهما للاستغناء بالإجماع عنهما المسألة الثانية القائلون بأنه لا ينعقد الإجماع إلا عن طريق اتفقوا على جواز وقوعه عن الدلالة والحق عندنا جواز وقوعه عن الأمارة أيضا وقال ابن جرير الطبري لو ذلك غير ممكن

ومنهم من سلم الإمكان ومنع الوقوع ومنهم من قال الأمارة إن كانت جلية جاز وإلا فلا لنا أن ذلك قد وقع روي عن عمر رضي الله عنه أنه شاور الصحابة في حد الشارب فقال علي رضي الله عنه إذا شرب سكر واذا سكر هذى وإذا هذى افترى وحد المفتري ثمانون وقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه هذا حد وأقل الحد ثمانون فإن قلت لعلهم أجمعوا على تبليغ الحد ثمانين لنص استغنوا بالاجماع عن نقله

قلت هذا جائز لو لم ينصوا على فزعهم إلى الإجتهاد في هذه المسألة وأيضا أثبتوا إمامة ابي بكر رضي الله عنه بالقياس على تقديم النبي صلى الله عليه وسلم إياه

في الصلاة ثم أجمعوا عليها واحتج المخالف بأمور أحدها أن الأمة على كثرتها واختلاف دواعيها لا يجوزأن تجمعها الأمارة مع خفائها كما لا يجوز اتفاقهم في الساعة الواحدة على أكل الزبيب الأسود والتكلم باللفظة الواحدة وهذا بخلاف إجماعهم على مقتضى الدليل والشبهة لأن الدلالة قوية والشبهة تجري مجرى الدلالة عند من صار إليها وبخلاف اجتماع الخلق العظيم في الأعياد لأن الداعي إليه ظاهر وثانيها من الأمة من يعتقد بطلان الحكم بالأمارة وذلك يصرفه عن الحكم بها وثالثها أن ذلك يفضي إلى اجتماع أحكام متنافية لأن الحكم الصادر عن الاجتهاد لا يفسق مخالفة وتجوز مخالفته ولا يقطع عليه ولا على تعلقه بالأمارة والحكم المجمع عليه بالعكس في هذه الأمور فلو صدر ال إجماع عن الإجتهاد لاجتمع النقيضان فيه

المسألة الثالثة في الإجماع الموافق لمقتضى خبر

والجواب عن الأول أنه منقوض باتفاق أصحاب الشافعي وأبي حنيفة رحمهما الله على قوليهما وعن الثاني أن الخلاف في صحة القياس حادث ولأنه يجوز أن تشتبه الأمارة بالدلالة فيثبت الحكم بالأمارة على اعتقاد أنه أثبته بالدلالة ولأنه ينتقض بالعموم وخبر الواحد فإنه يجوز صدور الإجماع عنهما مع وقوع الخلاف فيهما وعن الثالث أن تلك الأحكام المرتبة على الاجتهاد مشروطة بأن لا تصير المسألة إجماعية فإذا صارت إجماعية فقد زال الشرط فتزول تلك الأحكام والله أعلم المسألة الثالثة قال أبو عبد الله البصري الإجماع الموافق لمقتضى خبر يدل على أن ذلك الإجماع لأجل ذلك الخبر والحق أنه غير واجب لأن قيام الدلائل الكثيرة على المدلول الواحد جائز فلعلهم أثبتوا مقتضى الخبر بدليل اخر سواه والله أعلم

القسم الخامس في المجمعين

القسم الخامس في المجمعين قبل الخوض في المسائل لا بد من مقدمة وهي أن الخطأ جائز عقلا على هذه الأمة كجوازه على سائر الأمم لكن الأدلة السمعية منعت منه وهي واردة بلفظين أحدها لفظ المؤمنين في آية المشاقة والآخر لفظ الأمة في سائر الآيات والخبر فأما لفظ المؤمنين فقد مر في باب العموم أنه للاستغراق وأما لفظ الأمة فإنه يتناول كافة الأمة فعلى هذا يجب أن يكون المعتبر قوق كل المؤمنين وقول كل الأمة فإن خرج البعض فلا بد من دليل منفصل

المسألة الأولى لا يعتبر في الإجماع اتفاق الأمة في جميع الأعصار

وإن اكتفينا بالبعض لم يمكن إثباته بهذه الأدلة بل لا بد من دليل اخر إلا أن هذه الأدلة كما لا تقتضي ذلك الحكم في البعض لا تمنع من ثبوته في البعض لأن ما يدل على ثبوت حكم في الكل لا يمنع من ثبوته في البعض ولا يلزم من انتفاء دليل معين انتفاء المدلول المسألة الأولى لا يعتبر في الإجماع اتفاق الأمة من وقت الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة لأن الذي دل على الإجماع دل على وجوب الاستدلال به وذلك الاستدلال إما أن يكون قبل يوم القيامة وهو محال على التقدير الذي قالوه لجواز أن يحدث بعد ذلك قوم آخرون أو بعده وهو باطل لأنه لا حاجة في ذلك الوقت إلى الاستدلال المسألة الثانية لا عبرة في الإجماع بقول الخارجين عن الملة لأن آية المشاقة دالة على وجوب اتباع المؤمنين وسائر الأدلة دالة على وجوب اتباع الأمة والمفهوم من الأمة في عرف شرعنا الذين قبلوا دين الرسول صلى الله عليه وسلم المسألة الثالثة لا عبرة بقول العوام خلافا للقاضي أبي بكر رحمه الله

لنا وجوه أحدها أن العالم إذا قال قولا وخالفه العامي فلا شك أن قول العامي حكم في الدين بغير دلالة ولا أماره فيكون خطأ فلو كان قول العالم أيضا خطأ لكانت الأمة بأسرها مخطئة في مسألة واحد وإن كان ذلك الخطأ من وجهين ولكنه غير جائز وثانيها إن العصمة من الخطأ لا تتصور إلا في حق من تتصور في حقه الإصابة والعامي لا يتصور في حقه ذلك لأن القول في الدين بغير طريق غير صواب وثالثها أن خواص الصحابة رضي الله عنهم وعوامهم أجمعوا على أنه لا عبرة بقول العوام في هذا الباب ورابعها أن العامي ليس من أهل الاجتهاد فلا عبرة بقوله كالصبي والمجنون احتج المخالف بأن أدلة الإجماع تقتضي متابعة الكل والجواب إيجاب متابعة الكل لا يقتضي أن لا يجب إلا متابعة الكل والأدلة

المسألة الرابعة المعتبر في إجماع أهل كل فن أهل الاجتهاد فيه

التي ذكرناها تقتضي وجوب متابعة العلماء فوجب القول به المسألة الرابعة المعتبر بالإجماع في كل فن أهل الاجتهاد في ذلك الفن وإن لم يكونوا من أهل الاجتهاد في غيره مثلا العبرة بالاجماع في مسائل الكلام بالمتكلمين وفي مسائل الفقه بالمتمكنين يكون من الاجتهاد في مسائل الفقه فلا عبرة بالمتكلم في الفقه ولا بالفقيه في الكلام بل من يتمكن من الاجتهاد في الفرائض دون المناسك يعتبر وفاقه وخلافه في الفرائض دون المناسك ولا عبرة أيضا بالفقيه الحافظ للأحكام والمذاهب إذا لم يكن متمكنا من الاجتهاد والدليل على هذه المسائل أن هؤلاء كالعوام فيما لا يتمكنون من الاجتهاد فيه فلا يكون بقولهم عبرة أما الأصولي المتمكن من الاجتهاد إذا لم يكن حافظا للأحكام فالحق أن خلافه معتبر خلافا لقوم والدليل عليه أنه متمكن من الاجتهاد الذي هو الطريق إلى التمييز بين الحق والباطل فوجب أن يكون قوله معتبرا قياسا على غيره

المسألة الخامسة لا يعتبر بلوغ المجمعين حد التواتر

المسألة الخامسة لا يعتبر في المجمعين بلوغهم إلى حد التواتر لأن الآيات والأخبار دالة على عصمة الأمة والمؤمنين فلو بلغوا والعياذ بالله إلى الشخص الواحد كان مندرجا تحت تلك الدلالة فكان قوله حجة فأما من أثبت الإجماع بالعقل من حيث إن اتفاقهم يكشف عن وجود الدليل فيعتبر فيه بلوغ المجمعين حد التواتر لكنه باطل عندنا على ما مر المسألة السادسة إجماع غير الصحابة حجة خلافا لأهل الظاهر لنا إن التابعين إذا اجمعوا كان قولهم سبيلا للمؤمنين فيجب اتباعه بالآية فإن قلت الآية إنما دلت على وجوب اتباع سبيل المؤمنين الذين كانوا حاضرين عند نزول الآية لأنهم كانوا هم المؤمنين أما الذين سيوجدون بعد ذلك فلا يصدق عليهم في ذلك الوقت أنهم مؤمنون قلت فهذا يقتضي أنه لو مات من أؤلئك الحاضرين واحد أن لا ينعقد

الإجماع بعد ذلك لكن كثيرا منهم مات قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وإن لم نقطع بذلك لكن لا يمكننا القطع ببقائهم بعد وفاته فيكون الشك فيه شكا في انعقاد الإجماع احتج المخالف بأمور أحدها أن أدلة الإجماع لا تتناول إلا الصحابة فلا يجوز القطع بأن إجماع غيرهم حجة بيان الأول أن قوله عز وجل وكذلك جعلناكم أمة وسطا وقوله كنتم خير أمة أخرجت للناس لا شك أنه خطاب مواجهة فلا يتناول إلا الحاضرين وأما قوله عز وجل ويتبع غير سبيل المؤمنين فكذلك لأن من سيوجد بعد ذلك لا يصدق عليه في الحال اسم المؤمنين فالآية لا تتناول إلا من كان مؤمنا حال نزولها وكذا القول في قوله صلى الله عليه وسلم أمتي لا تجتمع على خطأ وإذا ثبت أن هذه الأدلة لا تتناول إلا الصحابة وثبت أنه لا طريق إلى

إثبات الإجماع إلا هذه الأدلة وجب أن لا يكون إجماع غير الصحابة حجة وثانيها أن أهل العصر الثاني لو أجمعوا لكان إجماعهم إما أن يكون لقياس أو لنص والأول باطل لأن القياس ليس بحجة عند الكل فلا يجوز أن يكون طريقا إلى صدور الإجماع من لكل فيبقى الثاني وهو أنهم إنما أجمعوا من جهة النص والنص إنما وصل إليهم من الصحابة فكان إجماع الصحابة على ذلك الحكم لأجل ذلك النص أولى فلما لم يوجد إجماعهم علمنا عدم ذلك النص وثالثها أنه لا بد في الإجماع من اتفاق الكل والعلم باتفاق الكل لا يحصل إلا عند مشاهدة الكل مع العلم بأنه ليس هناك أحد سواهم وذلك لا يتأتى إلا في الجمع المحصور كما في زمان الصحابة أما في سائر الأزمنة فمع كثرة المسلمين وتفرقهم في مشارق الأرض ومغاربها يستحيل أن يعرف أتفاقهم على شئ من الأشياء ورابعها أن الصحابة أجمعوا على أن كل مسألة لا تكون مجمعا عليها فأنه يجوز الاجتهاد فيها فالمسألة التي لا تكون مجمعا عليها بين الصحابة تكون

محلا للاجتهاد بإجماع الصحابة فلو أجمع التابعون عليها لخرجت عن أن تكون محلا للإجتهاد وذلك يفضي إلى تناقض الإجماعين وخامسها أن الصحابة إذا اختلفت على قولين ثم أجمع التابعون على أحدهما لا يصير القول الثاني مهجورا كما تقدمت هذه المسألة وإذا كان كذلك فنقول المسألة التي أجمع التابعون عليها يحتمل أن يكون لواحد من الصحابة فيها قول يخالف قول التابعين مع أن ذلك القول لم ينقل إلينا ومع هذا الاحتمال لا يثبت الإجماع فإن قلت لو فتحنا هذا الباب لزم أن لا يبقى شئ من النصوص دليلا على شئ من الأحكام لاحتمال طريان النسخ والتخصيص قلت الفرق أن حصول إجماع التابعين مشروط بأن لا يكون لأحد من الصحابة قول يخالف قولهم فالشك فيه شك في شرط يتوقف ثبوت الإجماع عليه فيكون ذلك شكا في حدوث الإجماع والأصل بقاؤه على العدم وأما في مسألة الإلزام ف اللفظ بظاهره يقتضي العموم والشك إنما وقع في طريان المزيل والأصل عدم طريانه فظهر الفرق والجواب عن الأول أن الذي ذكرتموه يقتضي أنه لما مات واحد من أولئك الحاضرين أن

لا يبقى إجماع الباقين حجة وذلك يقضي إلى سقوط العمل بالإجماع وهم لا يقولون به وعن الثاني أنه يحتمل أن تكون تلك الواقعة ما وقعت في زمن الصحابة فلم يتفحصوا عما يمكن الاستدلال به عليها ثم إنها وقعت في زمن التابعين فتفحصو مع عن الأدلة فوجودا بعض ما نقلته الصحابة دليلا عليه وعن الثالث أن حاصل ما ذكرتموه راجع إلى تعذر حصول الإجماع في غير زمان الصحابة وهذا لا نزاع فيه إنما النزاع في أنه لو حصل كان حجة وعن الرابع ما مر من الجواب عنه غير مرة وعن الخامس أنه يلزمكم أن لا يكون إجماع الصحابة حجة لاحتمال أن يكون الصحابي الذي مات قبل وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام له فيه قول والله أعلم

القسم السادس فيما عليه ينعقد الإجماع

القسم السادس فيما عليه ينعقد الإجماع المسألة الأولى كل ما لا يتوقف العلم بكون الإجماع حجة على العلم به أمكن إثباته بالإجماع وعلى هذا لا يمكن إثبات الصانع وكونه تعالى قادرا عالما بكل المعلومات وإثبات النبوه بالإجماع أما حدوث العالم فيمكن إثباته به لأنه يمكننا إثبات الصانع بحدوث الأعراض ثم نعرف صحة النبوة ثم نعرف به الإجماع ثم نعرف به حدوث الأجسام وأيضا يمكن التمسك به في أن الله عز وجل واحد لأننا قبل العلم بكونه واحدا يمكننا أن نعلم صحة الإجماع المسألة الثانية اختلفوا في أن الإجماع في الآراء والحروب هل هو حجة

المسألة الثالثة هل يجوز انقسام الأمة إلى قسمين كل منهما مخطيء في جانب؟

منهم من أنكر ومنهم من قال إنه حجة بعد استقراء الرأي وأما قبله فلا والحق أنه حجة مطلقا لأن أدلة الإجماع غير مختصة ببعض الصور المسألة الثالثة هل يجوز أن تنقسم الأمة إلى قسمين وأحد القسمين مخطئون في مسألة والقسم الآخر مخطئون في مسألة أخرى مثل إجماع شطر الأمة على أن القاتل لا يرث والعبد يرث وإجماع الشطر الآخر على أن القاتل يرث والعبد لا يرث والأكثرون على أنه غير جائز لأن خطأهم في مسألتين لا يخرجهم عن أن يكونوا قد اتفقوا على الخطأ وهو منفي عنهم ومنهم من جوزه وقال لأن الخطأ ممتنع على كل الأمة لا على بعض الأمة والمخطئون سعيد في كل واحدة من المسألتين بعض الأمة المسألة الرابعة لا يجوز اتفاق الأمة على الكفر

المسألة الخامسة في جواز اشتراك الأمة في عدم العلم بما لم يكلفوا به

وحكى عن قوم أنه يجوز أن ترتد الأمة لأنها إذا فعلت ذلك لم يكونوا مؤمنين ولا سبيلهم سبيل المؤمنين وإذا كذبت الرسول خرجت من أن تكون من أمته وجه القول الأول أن الله عز وجل أوجب اتباع سبيل المؤمنين واتباع سبيلهم مشروط بوجود سبيلهم وما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب هذا إذا حملنا لفظ المؤمنين على الإيمان بالقلب أما إذا حملناه على التصديق باللسان ظهر أن الآية دالة على أن المصدقين في الظاهر لا يجوز إجماعهم على الخطأ ذلك يؤمننا من إجماعهم على الكفر المسألة الخامسة يجوز اشتراك الأمة في عدم العلم بما لم يكلفوا به لأن عدم العلم بذلك الشئ إذا كان صوابا لم يلزم من إجماعهم عليه محذور وللمخالف أن يقول لو اجمعوا على عدم العلم بذلك الشئ

لكان عدم العلم به سبيلا للمؤمنين فكان يجب اتباعهم فيه حتى يحرم تحصيل العلم به

القسم السابع في حكم الإجماع

القسم السابع في حكم الإجماع المسألة الأولى جاحد الحكم المجمع عليه لا يكفر خلاف لبعض الفقهاء

المسألة الثانية في الإجماع الصادر عن اجتهاد

لنا أن أدلة أصل الإجماع ليست مفيدة للعلم فما تفرع عليها أولى أن لا يفيد العلم بل غايته الظن ومنكر المظنون لا يكفر بالإجماع وايضا فبتقدير أن يكون أصل كون الإجماع حجة معلوما لا مظنونا لكن العلم به غير داخل في ماهية الاسلام وإلا لكان من الواجب على الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يحكم بإسلام أحد حتى يعرفه أن الإجماع حجة ولما لم يفعل ذلك بل لم يذكر هذه المسألة صريحا طول عمره صلى الله عليه وسلم علمنا أن العلم به ليس داخلا في ماهية الإسلام وإذا لم يكن العلم بأصل الإجماع معتبرا في الإسلام وجب أن لا يكون العلم بتفاريعه داخلا فيه المسألة الثانية الإجماع الصادر عن الاجتهاد حجة خلافا للحاكم صاحب المختصر

المسألة الثالثة في انعقاد الإجماع بعد إجماع على خلافه

لنا أنهم لما أجمعوا على ذلك الحكم صار سبيلا لهم فوجب اتباعه للآية فإن قلت ومن سبيلهم إثباته بالاجتهاد وجواز القول بخلافه إذا لاح اجتهاد اخر قلت ومن سبيلهم إثباته بطريق كيف كان فأما تعينه فقد أجمعوا على أنه غير معتبر وعن الثاني أن تجويزهم القول بخلافة حاصل لا مطلقا بل بشرط أن لا يحصل الأتفاق المسألة الثالثة اختلفوا في أنه هل يجوز انعقاد الإجماع بعد إجماع على خلافه ذهب أبو عبد الله البصري إلى جوازه لأنه لا امتناع في إجماع الأمة على قول شرط أن لا يطرأ عليه إجماع اخر ولكن أهل الإجماع لما اتفقوا على أن كل ما أجمعوا عليه فإنه واجب العمل به في كل الأعصار فلا جرم أمنا من وقوع هذا الجائز وذهب الأكثرون إلى أنه غير جائز لأنه يكون أحدهما خطأ لا محالة وإجماعهم على الخطأ غير جائز

المسألة الرابعة فيما إذا عارض الإجماع الحديث

والقول الأول عندنا أولى المسألة الرابعة إذا أجمعوا على شئ وعارضه قول الرسول صلى الله عليه وسلم فإما أن يعلم أن قصد النبي صلى الله عليه وسلم بكلامه ما هو ظاهره وقصد أهل الإجماع بكلامهم ما هو ظاهره أو يعلم أحدهما دون الثاني أو لا يعلم واحد منهما والأول غير جائز لامتناع تناقض الأدلة وإن كان الثاني قدمنا ما علم ظهوره وإن كان الثالث فإن كان أحدهما أخص من الآخر خصصنا الأعم بالأخص توفيقا بين الدليلين بقدر الإمكان وإن لم يكن كذلك تعارضا لأنا نقطع بأن النبي صلى الله عليه وسلم والأمة أراد أحدهما بكلامه غير ظاهرة لكنا لا نعلم أيهما كذلك فلا جرم يتساقطان والله أعلم

الكلام في الأخبار

الكلام في الأخبار وهو مرتب على مقدمه وقسمين

المقدمة

أما المقدمة ففيها مسائل المسألة الأولى لفظ الخبر حقيقة في القول المخصوص وقد يستعمل في غير القول كقول الشاعر

تخبرني العينان ما القلب كاتم وكقول المعري نبي من الغربان ليس على شرع يخبرنا أن الشعوب إلى صدع وكقولهم خبر الغراب بكذا لكنه مجاز فيه بدليل أن من وصف

المسألة الثانية في حده اصطلاحا

غيره بأنه مخبر أو أخبر لم يسبق إلى فهم السامع إلا القول المسألة الثانية ذكروا في حده أمورا ثلاثة أحدها أنه الذي يدخله الصدق أو الكذب وثانيها أنه الذي يحتمل التصديق أو التكذيب وثالثها ما ذكره أبو الحسين البصري وهو أنه كلام يفيد بنفسه إضافة أمر من الأمور إلى أمر من الأمور نفيا أو إثباتا قال واحترزنا بقولنا بنفسه عن الأمر فإنه يفيد وجوب الفعل لكن لا بنفسه لأن ماهية الأمر استدعاء الفعل والصيغة لا تفيد إلا هذا القدر ثم إنها تفيد كون الفعل واجبا تبعا لذلك وكذا القول في دلالة النهي على قبح الفعل فأما قولنا هذا الفعل واجب أو قبيح فإنه يفيد بصريحه تعلق الوجوب أو القبح بالفعل وأعلم أن هذه التعريفات ردية أما الأول فلان الصدق والكذب نوعان تحت الخبر والجنس جزء

من ماهية النوع وأعرف منها فإذن لا يمكن تعريف الصدق والكذب إلا بالخبر فلو عرفنا الخبر بهما لزم الدور واعترضوا عليه أيضا من ثلاثة أوجه أحدها أن كلمة أو للترديد وهو ينافي التعريف ولا يمكن إسقاطها هاهنا لأن الخبر الواحد لا يكون صدقا وكذبا معا وثانيها ان كلام الله عز وجل لا يدخله الكذب فكان خارجا عن هذا التعريف وثالثها أن من قال محمد ومسيلمة صادقان فإن هذا خبر مع أنه ليس بصدق ولا كذب ويمكن أن يجاب عن الأول بأن المعرف لماهية الخبر أمر واحد وهم إمكان تطرق أحد هذين الوصفين إليه وذلك لا ترديد فيه وعن الثاني أن المعتبر إمكان تطرق أحد هذين الوصفين إليه وخبر الله تعالى كذلك لأنه صدق

وعن الثالث أن قوله محمد ومسيلمة صادقان خبران وإن كانا في اللفظ خبرا واحدا لأنه يفيد إضافة الصدق إلى محمد عليه الصلاة والسلام والى مسيلمة وأحد الخبرين صادق والثاني كاذب سلمنا أنه خبر واحد لكنه كاذب لأنه يقتضي إضافة الصدق إليهما معا وليس الأمر كذلك فكان كذبا لا محالة وأما التعريف الثاني فالاعتراض عليه أن التصديق والتكذيب عبارة عن الإخبار عن كون الخبر صدقا وكذا فقولنا الخبر ما يدخله التصديق والتكذيب جار مجرى أن يقال الخبر هو الذي يجوز الإخبار عنه بأنه صدق أو كذب فيكون هذا تعريفا للخبر بالخبر وبالصدق والكذب والأول هو تعريف الشئ بنفسه والثاني تعريف الشئ بما لا يعرف إلا به وأما الثالث فالاعتراض عليه من ثلاثة أوجه

أحدها أن وجود الشئ عند أبي الحسين عين ذاته فإذا قلنا إن السواد موجود فهو خبر مع أنه إضافة شئ إلى شئ اخر فإن قلت السؤال إنما يلزم أن لو قال إضافة أمر إلى أمر اخر وإنه لم يقل ذلك بل قال إضافة أمر إلى أمر وهذا أعم من قولنا إضافة أمر إلى أمر اخر وايضا فقولنا السواد موجود معناه أن المسمى بلفظ السواد مسمى بلفظ الموجود قلت الجواب عن الأول أن الإضافة مشعرة بالتغاير إذ لو لم يكن ذلك معتبرا لدخل اللفظ المفرد في الحد وعن الثاني أن موضع الإلزام ليس هو الإخبار عن التسمية بل عن وجوده وحصوله في نفسه ومعلوم أن من تصور ماهية المثلث أمكنه أن يشك في أنه هل هو موجود أم لا فموضع الإلزام ها هنا لا هناك وثانيها أنا إذا قلنا الحيوان الناطق يمشي فقولنا الحيوان الناطق

يقتضي نسبة الناطق إلى الحيوان مع أنه ليس بخبر لأن الفرق بين النعت والخبر معلوم بالضرورة فإن قلت أزيد في الحد قيدا اخر فاقول إنه الذي يقتضي نسبة أمر إلى أمر بحيث يتم معنى الكلام والنعت ليس كذلك قلت إن عنيتم بكون الكلام تاما إفادته لمفهومه فذاك حاصل في النعت مع المنعوت لأن قول القائل الحيوان الناظق بكر يفيد معناه بتمامه وإن عنيتم به إفادته لتمام الخبر لم يعقل ذلك إلا بعد تعقل الخبر فإذا عرفتم به الخبر لزم الدور وإن عنيتم به معنى ثالثا فاذكروه وثالثها أن قولنا نفيا وإثباتا يقتضي الدور لأن النفي هو الإخبار عن عدم الشئ والإثبات هو الإخبار عن وجوده فتعريف الخبر بهما دور واذا بطلت هذه التعريفات فالحق عندنا أن تصور ماهية الخبر غني عن الحد والرسم لدليلين الأول أن كل أحد يعلم بالضرورة معنى قولنا إنه موجود وإنه ليس بمعدوم وأن الشئ الواحد لا يكون موجودا ومعدوما ومطلق الخبر جزء

من الخبر الخاص والعلم بالكل موقوف على العلم بالجزء فلو كان تصور مطلق ماهية الخبر موقوفا على الاكتساب لكان تصور الخبر الخاص أولى أن يكون كذلك فكان يجب أن لا يكون فهم هذه الأخبار ضروريا ولما لم يكن كذلك علمنا صحة ما ذكرناه والثاني أن كل أحد يعلم بالضرورة الموضع الذي يحسن فيه الخبر ويميزه عن الموضع الذي يحسن فيه الأمر ولولا أن هذه الحقائق متصورة تصورا بديهيا وإلا لم يكن الأمر كذلك فإن قلت الخبر نوع من أنواع الألفاظ والألفاظ ليست تصوراتها بديهية فكيف قلت إن ماهية الخبر متصورة تصورا بديهيا قلت حكم الذهن بين أمرين بأن أحدهما له الآخر أو ليس له الآخر معقول واحد لا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة وكل أحد يدركه من نفسه ويجد التفرقة بينه وبين سائر أحواله النفسانية من ألمه ولذته وجوعه وعطشه وإذا ثبت هذا فنقول إن كان المراد من الخبر هو الحكم الذهني فلا شك أن تصوره في الجملة بديهي مركوز في فطرة العقل وإن كان المراد منه اللفظة الدالة على هذه الماهية فالاشكال غير وارد أيضا لأن مطلق اللفظ الدال على المعنى البديهي التصور يكون أيضا بديهي التصور

المسألة الثالثة هل لا بد في الخبر من الإرادة؟

المسألة الثالثة قيل لا بد في الخبر من الإرادة لأن هذه الصيغة قد تجي ولا تكون خبرا إما لصدورها عن الساهي والحاكي أو لأن المراد منها الأمر مجازا كما في قوله تعالى والجروح قصاص وإذا كانت الصيغة صالحة للدلالة على الخبرية وعلى غيرها لم ينصرف الى أحد الأمرين دون الآخر إلا لمرجح وهو الإرادة أو الداعي والكلام في هذا الأصل قد تقدم في أول باب الأمر وأيضا فلا معنى لكون الصيغة خبرا إلا أن المتلفظ تلفظ بها وكان مقصودة تعريف الغير ثبوت المخبر به للمخبر عنه أو سلبه عنه وزعم أبو علي وأبو هاشم أن الصيغة حال كونها خبرا صفة معللة بتلك الإرادة وإبطاله أيضا قد مضى في أول باب الأمر المسألة الرابعة إذا قال القائل العالم حادث فمدلول هذا الكلام حكمه بثبوت

المسألة الخامسة في أن الخبر إما يكون صدقا أو كذبا

الحدوث للعالم لا نفس ثبوت الحدوث للعالم إذ لو كان مدلوله نفس ثبوت الحدوث للعالم لكان حيثما وجد قولنا العالم محدث كان العالم محدثا لا محالة فوجب أن لا يكون الكذب خبرا ولما بطل ذلك علمنا أن مدلول الصيغة هو الحكم بالنسبة لا نفس النسبة بقي ها هنا البحث عن ماهية الحكم فإنه لا يجوز أن يكون المراد منه الاعتقاد لإن الإنسان قد يخبر عما لا يعتقد فيه ألبته لأن من لا يعتقد أن زيدا في الدار يمكنه والحالة هذه أن يقول زيد في الدار ولا يجوز أن يكون المراد منه الإرادة لأن الإخبار قد يكون عن الواجب والممتنع مع أن الإرادة يمتنع تعلقها به فلم يبق إلا أن يكون الحكم الذهني أمرا مغايرا لجنس الاعتقادات والقصود وذلك هو كلام النفس الذي لا يقول به أحد إلا أصحابنا المسألة الخامسة اتفق الأكثرون على أن الخبر لا بد وأن يكون إما صدقا وإما كذبا خلافا للجاحظ

والحق أن المسألة لفظية لأنا نعلم بالبديهة أن كل خبر فإما أن يكون مطابقا للمخبر عنه أو لا يكون فإن أريد بالصدق الخبر المطابق كيف كان وبالكذب الخبر الغير المطابق كيف كان وجب القطع بأنه لا واسطة بين الصدق والكذب وإن أريد بالصدق ما يكون مطابقا مع أن المخبر يكون عالما بأنه غير مطابق كان هناك قسم ثالث بالضرورة وهو الخبر الذي لا يعلم قائله أنه مطابق أم لا فثبت أن المسألة لفظية فنقول للجاحظ أن يحتج على قوله بالنص والمعقول أما النص فقوله تعالى حكاية عن الكفار أفترى على الله كذبا أم به جنة جعلوا إخباره عن نبوة نفسه إما كذبا وإما جنونا مع أنهم كانوا يعتقدون أنه ليس برسول الله على التقديرين وهذا يقتضي أن يكون إخباره عن نبوة نفسه حال جنونه مع أنه ليس نبي عندهم لا يكون كذبا لأن

المجعول في مقابلة الكذب لا يكون كذبا وأما المعقول فمن وجهين الأول أن من غلب على ظنه أن زيدا في الدار فأخبر عن كونه في الدار ثم ظهر أنه ما كان كذلك لم يقل أحد إنه كذب في هذا الخبر الثاني أن أكثر العمومات والمطلقات مخصصة ومقيدة فلو كان الخبر الذي لا يطابق المخبر كذبا لتطرق الكذب إلى كلام الشارع واحتج الجمهور باتفاق الأمة على تكذيب اليهود والنصارى في كفرياتهم مع أنا نعلم أن فيهم من لا يعلم فساد تلك المذاهب ويمكن أن يجاب عنه بأن أدلة الإسلام لما كانت جلية قوية كان حالهم شبيها بحال من أخبر عن الشئ مع العلم بفساده تنبيه واعلم أن الخبر إما أن يقطع بكونه صدقا أو بكونه كذبا أو لا يقطع بواحد منهما فلا جرم رتبنا هذا الكتاب على قسمين القسم الأول في الخبر المقطوع به وهو إما أن يكون صدقا أو كذبا أما الصدق فطريق هذا القطع إما أن يكون هو التواتر أو غيره ونحن نتكلم أولا في التواتر ثم في سائر الطرق المفيدة للقطع ثم في الطرق التي يظن أنها تفيد القطع وإن لم تكن كذلك

الباب الأول في التواتر

الباب الأول في التواتر المسألة الأولى التواتر في أصل اللغة عبارة عن مجئ الواحد بعد الواحد بفترة بينهما مأخوذ من قوله تعالى ثم أرسلنا رسلنا تترا أي رسولا بعد رسول بفترة بينهما فكذا التواتر في المخبرين المراد به مجيئهم على غير الاتصال وأما في اصطلاح العلماء فهو خبر أقوام بلغوا في الكثرة إلى حيث حصل العلم بقولهم المسألة الثانية أكثر العلماء اتفقوا على أن أمثال هذه الأخبار قد تفيد العلم سواء أكان إخبارا على أمور موجودة في زماننا كالإخبار عن البلدان الغايبة قد أو عن أمور ماضية كالإخبار عن وجود الأنبياء والملوك الذي كانوا في القرون الماضية

وحكي عن السمنية أن خبر التواتر عن الأمور الموجودة في زماننا لا يفيد العلم اليقيني ألبتة بل الحاصل منه الظن الغالب القوي ومنهم من سلم أن خبر التواتر عن الأمور الموجودة في زماننا يفيد العلم لكن الخبر عن الأمور الماضية في القرون الحالية لا يفيد العلم ألبتة لنا أنا نجد أنفسنا جازمة ساكنة بوجود البلاد الغائبة والأشخاص الماضية جزما خاليا عن التردد جاريا مجرى جزمنا بوجود المشاهدات فيكون المنكر لها كالمنكر للمشاهدات فلا يستحق المكالمة قال الخصم أنا لا أنكر وجود الظن الغالب القوي الذي لا يكاد يتميز عند الأكثرين عن اليقين التام لكن الكلام في أنه هل حصل اليقين أو لا والذي يدل على أن الحاصل ليس بيقين وجهان الأول أنا إذا عرضنا على عقولنا أن الواحد نصف الإثنين وعرضنا على

عقولنا وجود جالينوس وفلان وفلان عند هذه الأخبار المتواترة وجدنا الجزم الأول أقوى وآكد من الجزم الثاني وقيام التفاوت يدل على احتمال تطرق النقيض إلى الاعتقاد الثاني وقيام هذا الاحتمال فيه كيف كان يخرجه عن كونه يقينا الثاني أن جزمي بوجود هذه المخبرات وفي ليس أقوى من جزمي بأن ولدي الذي أراه في هذه الساعة هو الذي رأيته بالأمس ثم هذا الجزم ليس بيقين لأنه يجوز أن يوجد شخص مساو لولدي في الشخص والصورة من كل الوجوه إما لأن القادر المختار خلقه أو لأن شيئا من التشكلات الفلكية يقتضي وجوده عند منكري القادر فثبت أن هذا الجزم ليس بيقين بل ظن فكذلك الجزم الحاصل عقيب خبر التواتر فإذا قلت لو جوزنا أن يكون هذا الشخص الذي أراه الآن غير الذي رأيته بالأمس أدى ذلك إلى الشك في المشاهدات قوله لعل القادر خلق مثله أو الشكل الغريب الفلكي اقتضاه قلنا بل ها هنا قام برهان مانع منه وهو أن الله تعالى لو فعل ذلك لأفضى إلى اشتباه الشخص وذلك تلبيس وهو على الله تعالى محال

المسألة الثالثة العلم الحاصل بالتواتر ضروري

قلنا لا نسلم أن تجويزه يفضي إلى الشك في المشاهدات لأن المشاهد هو وجود هذا الذي أراه الآن فأما أن هذا هو الذي رأيته بالأمس فهو غير مشاهد فلا يلزم من تطرق الشك إلى هذا المعنى تطرقه إلى المشاهدات وأما البرهان الذي ذكره على امتناع هذا الاحتمال فلا يدفع الإلزام لأن هذا الجزم لو كان بناء على ذلك البرهان لكان الجاهل بذلك البرهان خاليا عن ذلك الجزم لكن العوام لا يعرفون هذا البرهان فيجب أن لا يحصل لهم ذلك الجزم والجواب أن هذا تشكيك في الضروريات فلا يستحق الجواب كما أن شبه منكري المشاهدات لا تستحق الجواب لمثل هذا السبب المسألة الثالثة العلم الحاصل عقيب خبر التواتر ضروري وهو قول الجمهور خلافا

لأبي الحسين البصري والكعبي من المعتزلة ولإمام الحرمين والغزالي منا

وأما الشريف المرتضى من الشيعة فإنه كان متوقفا فيه لنا لو كان ذلك العلم نظريا لما حصل لمن لا يكون من أهل النظر كالصبيان والبله ولما حصل ذلك لهم علمنا أنه ليس بنظري اعترض أبو الحسين والمرتضى على هذا الوجه بكلام واحد وهو أن النظر في ذلك ليس إلا ترتيب العلوم بأحوال المخبرين وهذا القدر حاصل للعامة والمراهقين لأنه قد حصل في عقولهم علوم كثيرة وهم يستنتجون كل من تركيبها علوما آخر سلمنا أن ما ذكرته يدل على قولك لكن معنا ما يبطله من ثلاثة أوجه

الأول ما ذكره أبو الحسين البصري وهو أن الاستدلال عبارة عن ترتيب علوم أو ظنون يتوصل بها إلى علوم أو ظنون وكل اعتقاد توقف وجوده على ترتيب اعتقادات أخر فهو استدلالي والعلم الواقع بالتواتر هذا سبيله لأنا لا نعلم وجود ما أخبرنا أهل التواتر عنه إلا إذا علمنا أنه لا داعي للمخبرين إلى الكذب ولا لبس في المخبر عنه وأنه متى كان كذلك استحال كون الخبر كذبا وإذا بطل كونه كذبا ثبت كونه صدقا فالسامع لخبر التواتر ما لم يتقرر عنده كل واحدة من هذه المقدمات لم يحصل له العلم فكان ذلك العلم استدلاليا الثاني أن العلم الحاصل بالخبر المتواتر لو كان ضروريا لكنا مضطرين إليه بحيث لا يمكننا الانفكاك عنه ولو كان كذلك لعلمنا بالضرورة كوننا عالمين على سبيل الاضطرار بذلك وكان ينبغي أن يعلم بالضرورة كل عاقل كون هذا العلم ضروريا كما في سائر العلوم الضرورية ولما لم يكن كذلك علمنا أن هذا العلم ليس بضروري الثالث ذكره الكعبي وهو أنه لو جاز أن يعلم ما غاب عن الحس

المسألة الرابعة في عدم احتمال خبر التواتر غير الصدق

بالضرورة لجاز أن يعلم المحسوس بالاستدلال ولما بطل هذا بطل الأول والجواب قوله ذلك الاستدلال سهل يتأتى من كل أحد قلنا سنبين ان شاء الله تعالى في فصل مفرد أن ذلك الاستدلال غامض جدا وهو الجواب بعينه عن المعارضة الأولى وعن الثاني أن كون العلم ضروريا كيقية للعلم ويجوز أن يكون أصل الشئ معلوما وتكون كيفيته مجهولة وعن الثالث أنه لا بد من الجامع المسألة الرابعة استدل أبو الحسين البصري على أن خبر أهل التواتر صدق وقال لو كان كذبا لكان المخبرون إما أن يكونوا ذكروه مع علمهم بكونه كذبا أو لا مع علمهم بكونه كذبا والقسمان باطلان فبطل كونه كذبا فتعين كونه

صدقا فكان مفيدا للعلم إنما قلنا إنه لا يجوز أن يذكره المخبرون مع علمهم بكونه كذبا لأنهم على هذا التقدير إما أن يكونوا قصدوا فعل الكذب لغرض ومرجح أو لا لغرض ومرجح والثاني محال أما أولا فلان الفعل لا يحصل في وقت دون وقت إلا لمرجح وإلا لزم ترجح أحد الطرفين على الآخر من غير مرجح وهو محال وأما ثانيا فلان كونه كذبا جهة قبح وجهة القبح صارفة عن الفعل ومع حصول الصارف القوي عن الفعل يستحيل حصول الفعل إلا لداع أقوى من ذلك الصارف وأما القسم الأول وهو أنهم قصدوا فعل الكذب لغرض فذلك الغرض إما نفس كونه كذبا أو شئ أخر والأول باطل لأن كونه كذبا جهة صرف لا جهة دعاء والثاني باطل لأن ذلك الغرض إما أن يكون دينيا أو دنيويا وعلى التقديرين فإما أن يكون رغبة أو رهبة وعلى التقديرات فإما أن يقال كلهم كذبوا لداع واحد من هذه

الأقسام أو يقال فعله بعضهم لبعض هذه الدواعي وبعضهم للبعض الآخر وعلى كل التقديرات فإما أن تحصل تلك الدواعي بالتراسل أو لا بالتراسل والأقسام كلها باطلة أما إنه لا يجوز أن يكون للدين فلان قبح الكذب متفق عليه سواء كان ذلك بالعقل أو بالشرع فكان ذلك صارفا دينيا لا داعيا دينيا وأما الرغبة الدنيوية فقد تكون رجاء عوض على الكذب أو لأجل أن يسمع غيره شيئا غريبا وإن كان لا أصل له والأول باطل لأن كثيرا من الناس لا يرضى بالعوض الكثير في مقابلة الكذب وإن احتاج إليه وكذا القول في القسم الثاني وأما الرهبة فهي لا تكون إلا من السلطان لكن السلطان لا يقدر على أن يجمع الجمع العظيم على الكذب ألا ترى أن السلطان لا يمكنه ذلك في جميع أهل بغداد لأنه لا يعلم كل واحد منهم حتى يجعله مضطرا إلى ذلك الكذب ولأن السلطان كثيرا ما يخوف الناس عن التحدث بكلام مع أنهم آخر الأمر يقولونه حتى يصير مشهورا بينهم ولأنا نعلم في كثير من الأمور إنه لا غرض للسلطان في أن يخبر عنه بالكذب ولا يجوز أيضا أن يقال الجماعة العظيمة كذبوا بعضهم للرغبة وبعضهم للرهبة وبعضهم للتدين لأن كلامنا في جماعة عظيمة أبعاضها

جماعات عظيمة يمتنع تساوي أجزائها في قوة هذه الدواعي وأما القسم الثاني وهو أنهم كذبوا مع أنهم لم يعلموا كونهم كاذبين فذاك لا يمكن إلا إذا اشتبه عليهم الشئ بغيره والاشتباه في الضروريات باطل وشرط خبر التواتر أن يكون واقعا عما علم وجوده بالضرورة وهذا إذا أخبر المخبرون عن المشاهدة وأما ما توسط بين من أخبرنا وبين من شاهد ذلك واسطة واحدة أو وسائط فإنه لا يحصل العلم بخبرهم إلا إذا علمنا كون الوسائط متصفين بالصفات المعتبرة في أهل التواتر وذلك إنما يعلم بطريقين الأول أن يكون أهل التواتر الذين رأيناهم أخبروا أن أولئك الذين مضوا كانوا مستجمعين للشرائط المعتبرة في أهل التواتر والثاني أن كل ما ظهر بعد خفاء وقوى بعد ضعف فلا بد وأن يشتهر فيما بين الناس حدوثه ووقت حدثوه فإن مقالة الجهمية والكرامية لما حدثت

بعد أن لم تكن لا جرم اشتهر في ما بين الناس وقت حدوثها فلما لم يظهر شئ من ذلك علمنا أن الأمر كان كذلك في كل الأزمنة هذا تمام الاستدلال والاعتراض عليه أن يقال لأبي الحسين إما أن يكون غرضك من هذا الاستدلال ظنا قويا بكون الخبر صدقا فذلك مسلم أو اليقين فلا نسلم أن ما ذكرته يفيد اليقين لأن التقسيم المفضي إلى اليقين يجب أن يكون دائرا بين النفي والاثبات ثم نبين فساد كل قسم سوى المطلوب بدليل قاطع وهذا الذي ذكره أبو الحسين ليس كذلك فلنبين هذه الأشياء فنقول لم لا يجوز أن يقال كذبوا لا لغرض قوله الفعل بدون المرجح محال قلنا هذا لا يتم على مذهبك لأنه يقتضي الجبر وأنت لا تقول به بيان أنه يقتضى الجبر أن قادرية العبد صالحة للفعل والترك وإلا لزم الجبر فلو لم يترجح أحد الطرفين إلا لمرجح فذاك المرجح إن كان من فعل العبد عاد

الطلب من أنه لم فعل مرجح أحد الطرفين دون الآخر وإن كان ذلك لمرجح اخر من فعله لزم التسلسل أو ينتهي إلى مرجح ليس من فعله فعند حصول ذلك المرجح الذي ليس من فعله إما أن يكون ترتب أثره عليه واجبا أو لا يكون واجبا فإن كان الأول لزم الجبر وإن كان الثاني فهو باطل وبتقدير صحته فالإلزام عليك وارد أما أنه باطل فلأنه إذا لم يجب ترتب أثره عليه جاز حينئذ أن لا يترتب عليه في بعض الأوقات ذلك الأثر وجاز في وقت آخر أن يترتب إذ لو لم يجز ذلك أصلا لما كان ذلك مرجحا تاما وكلامنا في المرجح التام وإذا كان كذلك فترتب الأثر عليه في أحد الوقتين دون الوقت الآخر إما أن يكون لمزية يختص بها ذلك الوقت دون الوقت الثاني وإما لا يكون كذلك فإن كان الأول فقبل حصولك * تلك المزية ما كان المرجح التام حاصلا لكنا قد فرضناه حاصلا هذا خلف ثم إننا ننقل الكلام إلى تلك المزية فنبين أنها من فعل الله عز وجل وبعد حصولها فإن وجب ترتب الأثر عليها لزم الجبر وإن لم يجب افتقر إلى مزية أخرى لا إلي نهاية وهو محال وأما إن لم يكن ترتب الأثر على ذلك المرجح في ذلك الوقت لأجل

حصول مزية في ذلك الوقت دون سائر الأوقات كانت نسبة تلك المزية إلى زماني ترتب الأثر عليه ولا ترتبه عليه على السواء ولا مرجح ولا مخصص ألبته فيكون اختصاص ذلك الوقت بترتب ذلك الأثر على ذلك المرجح دون الوقت الثاني يكون ترجيحا لأحد طرفي الممكن المساوي على الآخر من غير مرجح وهو محال وقد بان بهذا أنه ما لم يحصل للعبد مرجح من قبل الغير يمتنع أن يكون فاعلا وإذا حصل المرجح وجب أن يكون فاعلا وهذا هو الجبر وأما بتقدير أن لا يجب ذلك فالإشكال وارد لأن عند حصول مرجح الوجود إذا جاز أن لا يوجد الوجود كان اللاوجود فلا واقعا لا عن مرجح أصلا وإذا جوزت ذلك بطل قولك الفعل لا يقع إلا عن الداعي فلم لا يجوز في أهل التواتر أن يكذبوا لا لداع وأما قوله ثانيا كونه كذبا جهة صرف لا جهة دعاء قلنا هذا بناءا على أن الكذب قبيح لكونه كذبا وقد مر الكلام في إبطاله في أول الكتاب سلمناه لكن عند حصول الصارف لو وجب الترك لزم الجبر وأنت لا تقول به

وإن لم يجب فقد جوزت عند حصول الصارف أن لا يقع العدم وجواز أن لا يقع العدم يقتضي جواز أن يقع الوجود فقد جوزت مع الصارف عن الفعل أن يوجد الفعل فلم يلزم من كون الكذب جهة صرف امتناع أن يوجد الكذب سلمنا أنه لا بد من داع فلم لا يجوز أن يوجد فيه شهوة متعلقة بالكذب لكونه كذبا ومتى كان كذلك أقدم العاقل على الكذب لا لغرض آخر سوى كونه كذبا فإن قلت إنه من المحال أن يشتهي العاقل الكذب لمجرد كونه كذبا وإن سلمنا جوازه لكن في حق الواحد والإثنين أما في حق الجمع العظيم فمحال وهذا كما أنه جاز على كل واحد منهم وحده أن يأكل في الساعة المعينة من اليوم المعين طعاما واحدا لكن لا يجوز اتفاق الكل عليه قلت الجواب عن الأول أنا لا نسلم امتناع ذلك فما الدليل عليه وكيف ونرى جمعا اعتادوا الكذب بحيث لا يصبرون عنه وإن كانوا يعلمون أن ذلك يضرهم عاجلا أو اجلا وإذا كان كذلك علمنا أن دعوى الضرورة باطلة

وعن الثاني نسلم أن استقراء العادة يفيد ظنا قويا بأن الخلق العظيم لا يتفقون على أكل طعام معين في زمان معين لكن لا نسلم حصول اليقين التام بذلك كيف وذلك جائز على كل واحد منهم وصدوره من كل واحد منهم لا يمنع صدوره عن الباقي فيكون صدوره عن كلهم كصدوره عن كل واحد منهم ومع هذه الحجة اليقينية على الجوار كيف تدعى ضرورة الامتناع سلمنا أنه لا بد من غرض سوى كونه كذبا فلم قلت إن ذلك الغرض إما أن يكون دينيا أو دنيويا أو رغبة او رهبه منه وما الدليل القاطع على الحصر سلمناه فلم لا يجوز أن يكون دينيا قوله حرمة الكذب متفق عليها قلنا مطلقا لا نسلم فإن كثيرا من الناس يعتقد أن الكذب المفضى إلى حصول مصلحة في الدين جائز ولذلك نرى جمعا من الزهاد وضعوا أشياء كثيرة من الأحاديث في فضائل الأوقات وزعموا أن غرضهم منه حمل الناس على العبادات وإذا كان كذلك فلعلهم اتفقوا على الكذب لما أنهم اعتقدوا فيه حصول مصلحة دينية وإن كان الأمر بخلاف ما تخيلوه سلمنا أنه ليس الغرض دينيا فلم لا يجوز أن يكون لرغبة دنيوية قوله الرغبة إما أخذ المال أو إسماع الغير كلاما غريبا

قلنا أين الدليل على الحصر ثم اين الدليل القاطع على فساد هذين القسمين قوله الجماعات العظيمة لا يشتركون في الرغبة إلى الكذب لأجل هذين الغرضين قلنا إن أدعيت الظن القوي فلا نزاع وإن ادعيت الجزم المانع من النقيض فما الدليل عليه فإنه إذا جاز ذلك في العشرة أو المائة ولم يكن ثبوت هذا الحكم للبعض مانعا من ثبوته للباقي فلم قلت إنه يمتنع كون الكل كذلك والذي يؤكده أنا لو قدرنا أن أهل بلدة علموا أن أهل سائر البلاد لو عرفوا ما في بلدهم من الوباء العام لتركوا الذهاب إلى بلدهم ولو تركوا ذلك لاختلت المعيشة في تلك البلدة وقدرنا أن أهل تلك البلدة كانوا علماء حكماء جاز في مثل هذه الصورة أن يتطابقوا على الكذب وإن كانوا كثيرين جدا فثبت بهذا إمكان اتفاق الخلق العظيم على الكذب لأجل الرغبة سلمنا ذلك فلم لا يجوز أن يكون للرهبة قوله السلطان لا يمكنه إسكات الكل قلنا إن أدعيت الظن القوي فمسلم وإن ادعيت اليقين فما الدليل

عليه فإنه إذا جاز إسكات الألف والألفين رهبة فلم لا يجوز إسكات الكل وما الضابط فيما يجوز وفيما لا يجوز فإن قلت أجد العلم ضروري بذلك من غير دلالة قلنا هذا الاعتقاد ليس أقوى من الاعتقاد الحاصل بوجود محمد وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام فلم لا تدعون الضرورة في ذلك حتى تتخلصوا عن مثل هذه الدلالات الضعيفة سلمنا ذلك فلم لا يجوز أن يقال إنهم كذبوا لدواع مختلفة بعضهم للرغبة وبعضهم للرهبة وبعضهم بالمراسلة وبعضهم بالمشافهة قوله الكلام في جماعة عظيمة بعضها جماعات عظيمة قلنا إما أن يكون من شرط أهل التواتر أن يكون أبعاضهم بالغين حد التواتر أو ليس من شرطهم ذلك والأول باطل وإلا لزم أن يكون كل واحد من أبعاض تلك الأبعاض كذلك ولزم التسلسل والثاني حق ونحن نفرض الكلام فيما إذا كان الأمر كذلك وحينئذ يبطل ما ذكروه سلمنا أنهم ما كذبوا عمدا فلم لا يجوز أن يقال كذبوا سهوا لأن الأمر اشتبه عليهم والاشتباه حاصل في المحسوسات بدليل العقل والنقل أما العقل فمن وجهين

الأول أن الله تعالى قادر على أن يخلق شخصا اخر مثل زيد في شكله وفي تخطيطه وبهذا التقدير لا يبقى اعتمادا على التواتر لجواز أن يكونوا قد رأوا امثل زيد فظنوه زيدا ومما يؤكد ذلك أن الأجسام المعدنية والنباتية قد تتشابه بحيث يعسر تمييز بعضها عن بعض وكذلك الحيوانا: لا سيما البرية والجبلية قد تبلغ مشابهة بعضها بعض إلى حد يعسر التمييز وإذا كان كذلك فلم لا يجوز مثله في الناس غايته أنه نادر ولكن الندرة لا تمنع الاحتمال فإن قلت أن حكمته تعالى تمنعه من خلق شخص مثل زيد لما فيه من التلبيس قلت قد سبق جوابه الثاني أن غلط الناظر أمر مشهور فإن الإنسان قد يرى المتحرك ساكنا وبالعكس وذلك يقتضي حصول اللبس في الحسيات وأما النقل فمن وجهين

الأول أن المسيح عليه السلام شبه بغيره فإن قلت هذا لا يلزم من وجوه أحدها أن ذلك كان في زمان عيسى عليه السلام وخرق العادة جائز في زمان الأنبياء دون سائر الأزمنة وثانيها أن المصلوب تتغير خلقته وشكله فيكون الاشتباه أكثر وأما المباشرون لذلك العمل فكانوا قليلين فيجوز عليهم الكذب عمدا وثالثها أنهم نظروا إليه من بعيد وذلك مظنة الاشتباه قلت الجواب عن الأول أنه لو جاز ذلك في زمان الأنبياء لجاز مثله في سائر أزمنة الأنبياء وحينذ لا يمكننا القطع بأن الذي أوجب الصلوات الخمس هو المصطفى صلى الله عليه وسلم لجواز أن يكون شخصا اخر شبه به وأيضا فلم لا يجوز انخراق العادات في هذا الزمان ككرامات غير الأولياء فان

منعوها قلنا هذا لا يستقيم على قول أبي الحسين فإنه لا يمنعها ولأن بتقدير امتناعها فليس ذلك الامتناع معلوما إلا بالبرهان فقبل العلم بذلك البرهان يكون التجويز قائما والعلم بصحة خبر التواتر موقوف على فساد هذا الاحتمال فوجب أن لا يحصل العلم بخبر التواتر لم لمن يعرف بالدليل امتناع الكرامات وعن الثاني أن التغير إنما يكون بعد الصلب والموت فأما حال الصلب فلا وعندكم أن الاشتباه حصل حال الصلب لأنهم لو ميزوا بين ذلك الشخص وبين المسيح عليه السلام لما صلبوا ذلك الشخص وعن الثالث أن الذين مارسوا الصلب كانوا قريبين منه وناظرين إليه ولأن النصاري يروون بالتواتر أنه بقي بعد الصلب وقبل الموت مدة طويلة بحيث رآه الجمع العظيم في بياض النهار وذلك يبطل قولكم الوجه الثاني روي ان جبريل عليه السلام جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي

وأن الملائكة يوم بدر تشكلوا بأشكال الأدميين الوجه الثالث أن الإنسان ربما يتشبح أحمد له عند الخوف الشديد أو الغضب الشديد أو الفكر الشديد صورة لا وجود لها في الخارج وكل ذلك مما يؤكد احتمال الاشتباه سلمنا صحة دليلكم في التواتر عن الأمور الموجودة فلم قلتم إن خبر التواتر عن الأمور الماضية في القرون الحالية قد وجدت هذه الشروط في كل الطبقات الماضية قوله في الوجه الأول أهل التواتر في زماننا قد أخبرونا بأن أولئك الذين مضوا كانوا موصوفين بصفات أهل التواتر قلنا هذا بهت صريح لأن الذين أخبرونا ما أخبرنا كل واحد منهم أن الذين أخبروه كانوا بصفة أهل التواتر وأن الذين أخبروا كل واحد ممن أخبره كانوا كذلك بل الذي يمكن ادعاؤه عليهم أنهم سمعوا هذا الخبر من

أناس كثيرين فأما أن يدعى عليهم ما ذكرتموه فبهت لأن أكثر الفقهاء والنحاة لا يتصورون هذه الدعوى على وجهها فضلا عن العوام فضلا عن أن يقال إنهم علموا ذلك بالضرورة قوله لو كان حادثا لظهر زمان حدوثه قلنا لا نسلم أن كل مقالة ظهرت بعد الخفاء فلا بد وأن يشتهر فيما بين الخلق حدوث ظهورها ووقت ظهورها لجواز أن يضع الرجل الواحد مقالة ثم إنه يذكرها لجماعة قليلين ثم كل واحد من أولئك يذكر ذلك الخبر لجماعة أخرى من غير أن يسنده إلى القائل الآول إلى أن يشتهر ذلك الخبر جدا مع أن كل واحد منهم لا يعرف حدوث تلك المقالة ولا زمان حدوثها وبهذا الطريق تحدث الأراجيف بين الناس وبالجملة فعليهم إقامة الدلالة على فساد هذا الاحتمال ثم الذي يفيد القطع بصحة ما ذكرنا أن الوقائع الكبار التي وقعت لعظماء الملوك الذين كانوا قبل الإسلام بل كيفية وقائع نوح وإدريس وموسى وعيسى عليهم السلام لم ينقل شئ منها إلينا نقل الآحاد فضلا عن التواتر مع كونها من الأمور العظام فعلمنا أن وصول الأخبار إلينا غير واجب فإن قلت ذلك لتطاول مدتها أو لعدم الداعي إلى نقلها قلت فلا بد من ضبط طول المدة وقصرها

وأيضا فيلزم أن لا يكون خبر التواتر بوجود نوح وإبراهيم وإدريس وغيرهم مفيدا للعلم لأنه لا يفيد ما لم يثبت استواء الطرفين والواسطة في نقل الرواة وذلك لا يثبت إلا بأنه لو كان موضوعا لاشتهر الواضع وزمان الوضع فإذا لم يجب ذلك عند تطاول المدة لم يفد ذلك الخبر العلم سلمنا أن ما ذكرته يدل على أن خبر التواتر يفيد العلم لكن معنا ما يبطله من وجوه الأول لو أفاد خبر التواتر العلم لأفاد إما علما ضروريا أو نظريا والقسمان باطلان فالقول بالإفادة باطل إنما قلنا إنه لا يفيد علما ضروريا لأن العلم الضروري هو الذي لا يلزم من وقع الشك في غيره من القضايا وقوعه فيه وها هنا يلزم من وقوع الشك في غير هذه القضية وقوعه فيها لأنا لو جوزنا أن يكذبوا لا لغرض أو لغرض من رهبة أو رغبة أو لوقوع التباس فإن مع استحضار الشك في هذه المقدمات لم يمكن الجزم بأن الأمر كما أخبروا عنه وإذا كان كذلك لم يكن هذا العلم ضروريا ولا جائز أن يكون نظريا لأن النظر في الدليل لا يتأتى للصبيان

والمجانين فكان يجب أن لا يحصل لهم العلم لكن الاعتقاد الذي في هذا الباب للعقلاء لا يزيد في القوة على قوة اعتقاد الصبيان والبله فإذا لم يكن اعتقادهم علما فكذا اعتقاد العقلاء الثاني أن كون التواتر مفيدا للعلم يتوقف على عدم تطرق اللبس إلى الخبر على ما مر بيانه لكن اللبس يتطرق إليه على ما مر فوجب أن لا يفيد العلم الثالث لو حصل العلم عقيب التواتر لحصل إما مع الجواز أو مع الوجوب فإن حصل مع جواز أن لا يحصل امتنع القطع بحصوله فلا يمكن القطع بأن التواتر يفيد العلم لا محالة بل يجري حصول العلم عقيب خبر التواتر مجرى حصوله عند سماع صرير الباب ونعيق الغراب وإن حصل مع الوجوب فالمستلزم بعد إما قول كل واحد أو قول المجموع الأول باطل أما أولا فلأنا نعلم بالضرورة أن قول الواحد لا يفيد العلم وأما ثانيا فلأن قول كل واحد منهم إذا كان مستقلا بالاستلزام فإن وجدت الأقوال دفعة لزم أن يجتمع على الأثر الواحد مؤثرات مستقلة بالتأثير وهو محال

وإن وجدت على التعاقب فإذا حصل الأثر بالسابق استحال حصول ذلك الأثر بعينه باللاحق لامتناع ايجاد الموجود واستحال أيضا حصول مثله باللاحق لاستحالة الجمع بين المثلين فيلزم أن يبقى اللاحق خاليا عن التأثير فتكون العلة القطعية منفكة عن المعلول وهو محال ولا جائز أن يكون المؤثر قول المجموع أما أولا فلأن قول كل واحد إن بقي عند الإجتماع كما كان عند الانفراد ولم يحدث عند الاجتماع أمر زائد ألبته فكما لم يكن الاستلزام حاصلا عند الانفراد وجب أن لا يحصل عند الاجتماع وإن حدث أمر ما إما بزوال أو بالحدوث فإن كان المقتضي لذلك الحدوث قول كل واحد عاد المحذور المذكور وإن كان المجموع عاد التقسيم المذكور وإن كان لحدوث أمر آخر لزم التسلسل وأما ثانيا وهو أن المستلزمية نقيض اللامستلزمية يقول التي هي أمر عدمي فكانت المستلزمية أمرا ثبوتيا فإن كان الموصوف بها هو المجموع لزم حلول الصفة الواحدة في الأشياء الكثيرة وهو محال

وأما ثالثا فلأن التواتر في الأكثر إنما يكون بورود الخبر عقيب الخبر وإذا كان كذلك كان عند حصول كل واحد منهما حال وجود الثاني معدوما فلا يكون للمجموع وجود في زمان أصلا فيستحيل أن يكون المؤثر هو المجموع لأن الشئ ما لم يوجد في نفسه لا يقتضي وجود غيره وأما رابعا وهو الكلام المشهور في هذا المسألة أن قول كل واحد لما لم يكن مؤثرا وجب أن يكون قول الكل غير مؤثر كما أن كل واحد من الزنج لما لم يكن أبيض استحال كون الكل أبيض الوجه الرابع في استحالة أن يكون خبر التواتر مستلزما للعلم لأن المستلزم إما آحاد الحروف وهو باطل أو المجموع وهو محال لأن المجموع لا وجود له وما لا وجود له استحال أن يستلزم شيئا اخر فإن قلت الموجب هو الحرف الأخير بشرط وجود سائر الحروف قبله أو بشرط مسبوقية الحرف الأخير بسائر الحروف قلت الشرط لا بد من حصوله حال حصول المشروط والحروف السابقة غير حاصلة حال حصول الحرف الأخير

وعن الثاني أن مسبوقية الشئ بغيره لا تكون صفة وإلا كانت صفة حادثة فتكون مسبوقتيها الذي بالغير صفة أخرى ولزم التسلسل وإذا كانت المسبوقية أمرا عدميا استحال أن يكون جزء العلة أو شرطها أما الذين سلموا أن خبر التواتر عن الأمور الموجودة يفيد العلم لكنهم منعوا من كون التواتر عن الأمور الماضية مفيدا للعلم فقد احتجوا بأن التواتر عن الأمور الماضية وقع عن أمور باطلة فوجب أن لا يكون حجة بيان الأول أن اليهود والنصارى

والمجوس والمانوية على كثرة كل فرقة منهم وتفرقهم في الشرق والغرب يخبرون عن أمور هي باطلة قطعا عند المسلمين وذلك يقتضي القدح في التواتر فإن قلت شرط التواتر استواء الطرفين الواسطة وهو غير حاصل في هذه الفرق لأن اليهود قل عددهم في زمان بختنصر والنصاري كانوا قليلين في الابتداء وكذا القول في المجوس والمانوية قلت صدقتم حيث قلتم لا بد من استواء الطرفين والواسطة لكن الطريق إليه إما العقل أو النقل أو ما هو مركب منهما والعقل المحض لا يكفي

وأما النقل فإما من الواحد أو من الجمع وقول الواحد إنما يفيد لو كان معصوما وهو مفقود في زماننا وأما الجمع فهو أن يقال إن أهل التواتر في زماننا على كثرتهم يخبرون إنهم كانوا كذلك أبدا لكن كما أن أهل الإسلام يدعون ذلك فهذه الفرق الأخرى تدعي ذلك فليس تصديق إحداهما وتكذيب الأخرى أولى من العكس وأما المركب منهما فهو أن يقال لو كان خبرا موضوعا لعرفنا أن الأمر كذلك وقد عرفت ضعف هذه الطريقة ثم إن جميع هذه الفرق يصححون قولهم بمثل هذه الطريقة فليس قبول أحد القولين أولى من الآخر فإما الذي يقال إن بختنصر قتل اليهود حتى لم يبق منهم عدد أهل التواتر قلنا هذا محال لأن الأمة العظيمة المتفرقة في الشرق والغرب يستحيل قتلها إلى هذا الحد وأما النصارى فلو لم يكونوا بالغين في أول الأمر إلى حد التواتر لم يكن شرعه حجة إلى زمان ظهور محمد صلى الله عليه وسلم لكنه باطل باتفاق المسلمين

وها هنا وجوه أخر من المعارضات مذكورة في كتاب النهاية فهذا تمام الاعتراضات واعلم أن بعض هذه الأسئلة والمعارضات لا شك أن فسادها أظهر من صحتها لكن ذلك إنما يكفي في ادعاء الظن القوي لا في ادعاء اليقين التام وكان غرضنا من الإطناب في هذه الأسئلة إن الذي قاله أبو الحسين من أن الاستدلال بخبر النوادر على صدق المخبرين أمر سهل هين مقرر في عقول البله والصبيان ليس بصواب بل لما فتحنا باب المناظرة دق الكلام ولا يتم المقصود إلا بالجواب القاطع عن كل هذه الإشكالات وذلك لو أمكن فإنما يمكن بعد تدقيقات في النظر عظيمة ومن البين لكل عاقل أن علمه بوجود مكة ومحمد صلى الله عليه وسلم اظهر من علمه بصحة هذه الدلالة وإبطال ما فيها من الأقسام سوى القسم المطلوب وبناء الواضح على الخفي غير جائز فظهر أن الحق ما ذهبنا اليه من أن هذا العلم ضروري وحينئذ لا نحتاج إلى الخوض في الجواب عن هذه الأسئلة لأن

المسألة الخامسة في شرائط التواتر

التشكيك في الضروريات لا يستحق الجواب المسألة الخامسة في شرائط التواتر اعلم أن هذه الأخبار التي نعلم مخبرها باضطرار الحجة علينا فيها هو العلم ولا حاجة بنا إلى اعتبار حال المخبرين بل يجب أن يعتبر السامع حال نفسه فإذا حصل له العلم بمخبر تلك الأخبار صار محجوجا بها وإلا فالحجة عنه زائلة ثم إنه بعد وقوع العلم بمخبر خبرهم صح أن نبحث عن أحوالهم فنقول لو لم يكونوا على هذه الصفة لما وقع لنا العلم بخبرهم وأعلم أن ها هنا أمور معتبرة في كون التواتر مفيدا للعلم وأمورا ظن أنها معتبرة مع أنها في الحقيقة غير معتبرة أما القسم الأول فنقول إن تلك الأمور إما أن تكون راجعة إلى السامعين أو إلى المخبرين أما الأمور الراجعة إلى السامعين فأمران الأول أن لا يكون السامع عالما بما أخبر به اضطرارا لأن تحصيل الحاصل محال وتحصيل مثل الحاصل أيضا محال وتحصيل التقوية أيضا محال لأن العلم الضروري أيضا يستحيل أن يصير أقوى مما كان مثاله إن كان العلم حاصلا بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان لم

يكن للاخبار عنه تأثير في العلم به والثاني قال الشريف المرتضي يجب أن لا يكون السامع قد سيق بشبهة أو تقليد إلى اعتقاد نفى موجب الخبر وهذا الشرط إنما اعتبره الشريف لأن عنده الخبر عن النص على إمامة علي رضي الله عنه متواتر ثم لم يحصل العلم به لبعض السامعين فقال ذلك لأنهم اعتقدوا نفي النص لشبهة واحتج عليه بأن حصول العلم عقيب خبر التواتر إذا كان بالعادة جاز أن يختلف ذلك باختلاف الأحوال فيحصل للسامع إذا لم يكن قد اعتقد نقيض ذلك الحكم قبل ذلك الحكم ولا يحصل له إذا اعتقد ذلك فإن قلت يلزمكم عليه أن تجوزوا صدق من أخبركم بأنه لم يعلم وجود البلدان الكبار والحوادث العظام بالأخبار المتواترة لأجل شبهة اعتقدها في نفي تلك الأشياء قلت أنه لا داعي يدعو العقلاء إلى سبق اعتقاد نفي هذه الأمور ولا شبهة في نفي تلك الأشياء أصلا أما ما يرجع إلى المخبرين فأمران

الأول أن يكونوا مضطرين إلى ما أخبروا عنه لأن غير الضروري يجوز دخول الالتباس فيه فلا جرم لا يحصل العلم به ولذلك فإن المسلمين يخبرون اليهود بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولا يحصل لهم العلم بها الثاني العدد وفيه مسائل المسألة الأولى قال القاضي أبو بكر اعلم أن قول الأربعة لا يفيد العلم أصلا وأتوقف في قول الخمسة واحتج عليه بأنه لو وقع العلم بخبر أربعة صادقين لوقع بخبر كل أربعة صادقين وهذا باطل فذاك مثله بيان الملازمة أنه لو وقع العلم بقول أربعة ولا يقع بقول مثلهم مع تساوي الأحوال والقائلين والسامعين في جميع الشروط لم يمتنع أن تخبرنا قافلة الحاج بوجود مكة فنعرفها ثم هم بأعيانهم يخبروننا بوجود المدينة فلا نعرفها ولما لم يجز ذلك صح قولنا وإنما قلنا إن العلم لا يحصل بخبر كل أربعة لأنه لو وقع العلم بخبر

كل أربعة إذا كانوا صادقين لكان يجب إذا شهد أربعة انهم شاهدوا فلانا على الزنا أن يستغنى القاضي عن التزكية لأنهم إذا كانوا صادقين وجب أن يحصل له العلم بقولهم وحينئذ يستغنى عن التزكية وإن لم يحصل له العلم بقولهم قطع بكونهم كاذبين قطعا وحينئذ يسغنى لأن أيضا عن التزكية ولما لم يكن كذلك بل أجمعوا على وجوب إقامة الحد وإن لم يضطر القاضي إلى صدقهم علمنا أن العلم لا يحصل بخبر الأربعة فإن قيل الملازمة ممنوعة قوله لو وقع العلم بخبر أربعة صادقين ولا يقع بخبر أربعة صادقين اخرين لزم كذا وكذا قلنا لم قلت إنه يلزم ذلك بيانه أن العلم بمخبر الأخبار حاصل عن فعل الله تعالى عندكم

وإذا كان كذلك جاز منه تعالى أن يخلق ذلك العلم عند خبر أربعة ولا يخلقه عند خبر أربعة أخرى ولا تجري العادة في ذلك على طريقة واحدة وإن كانت العادة في أخبار الجماعات العظيمة جارية على طريقة واحدة كما أن التكرار على البيت الواحد ألف مرة سبب لحفظه في العادة المطردة وأما تكراره مرتين أو ثلاثا فقد يكون سببا لحفظه وقد لا يكون والعادة فيه مختلفة سلمنا أنه يلزم من اطراد العادة في شئ اطرادها في مثله فلم قلت يلزم من حصول العلم عند رواية أربعة حصوله عند شهادة أربعة بيانه أن الشهادة وإن كانت خبرا في المعنى لكن لفظ الشهادة مخالف للفظ الخبر الذي ليس بشهادة فلم لا يجوز أن يجري الله تعالى عادته بفعل العلم الضروري عند الخبر الذي ليس فيه لفظ الشهادة ولا يفعله عند لفظ الشهادة وإن كان الكل خبرا سلمنا أن التفاوت بين لفظ الشهادة وبين لفظ الخبر الذي ليس بشهادة غير معتبر فلم لا يجوز أن يقال لما كان من شرط الشهادة أن يجتمع المخبرون عند الشهادة وذلك الاجتماع يوهم الاتفاق على

الكذب فلا جرم لم يفد العلم بخلاف الرواية سلمنا أن ما ذكرته يوجب الجزم بأن قول الأربعة لا يفيد العلم لكنه يوجب الجزم بأن قول الخمسة لا يفيد أيضا لأن قول الخمسة لو أمكن أن يفيد فإذا شهدوا فإن كانوا صادقين وجب أن يفيد العلم الضروري وإن لم يحصل العلم بصدقهم وجب القطع بكذبهم فهذا يقتضي أن تكون الخمسة كالأربعة في القطع بأنها لا تفيد سلمنا ذلك لكن يلزمكم أن تقطعوا بأن عدد أهل القسامة لا يفيد العلم لعين ما تقدم ذكره في الخمسة

والجواب أما الأسئة وقد الثلاثة الأولى فواردة ولا جواب عنها وأما المعارضة بقول الخمسة فالجواب أنه لا يمتنع أن يقع العلم بخبر خمسة والحاكم إنما لم يعلم صدق هؤلاء الخمسة وإن وجب عليه إقامة الحد لجواز أن يكون أربعة منهم شاهدوا ذلك والخامس ما شاهده فلزم إقامة الحد بقول أربعة منهم وإن لم يعرفهم بأعيانهم وكان الخامس كاذبا فلا جرم وجب عليه البحث عن أحوالهم وهذا بخلاف الأربعة فإنه إذا لم يحصل العلم بقولهم وجب أن يكون واحد منهم كاذبا وبهذا التقدير تسقط الحجة بقولهم ولزم على الحاكم رد قولهم وإقامة الحد عليهم فظهر الفرق واعلم أن هذا الجواب يقتضي القطع بكذب واحد من الخمسة أو القطع بأن قول الخمسة لا يفيد العلم أصلا أو القول بأنه لا يلزم من كون قول الخمسة مفيدا للعلم أن يكون قول كل خمسة مفيدا للعلم قوله يلزمكم أن تقطعوا بأنه لا يقع العلم بخبر أهل القسامة

قلنا أهل العراق يقولون يحلف خمسون من المدعى عليهم كل واحد منهم على أنه ما قتل ولا عرف قاتلا فكل واحد منهم يخبر عن غير ما يخبر عنه الآخر وعند الشافعي رضي الله عنه يحلف خمسون من المدعين كل واحد منهم بحسب ظنه فخبر كل واحد منهم غير خبر الآخر المسألة الثانية الحق أن العدد الذي يفيد قولهم العلم غير معلوم فإنه لا عدد يفرض إلا وهو غير مستبعد في العقل صدور الكذب عنهم وإن الناقص عنهم بواحد أو الزائد عليهم بواحد لا يتميز عنهم في جواز الإقدام على الكذب ومنهم من اعتبر فيه عددا معينا وذكروا وجوها أحدها الاثنا عشر لقوله تعالى وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا

وثانيها العشرون وهو قول أبي الهذيل قال لقوله تعالى إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين أوجب الجهاد على العشرين وإنما خصهم بالجهاد لأنهم إذا أخبروا حصل العلم بصدقهم وثالثها الأربعون لقوله تعالى حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين نزلت في الأربعين ورابعها السبعون لقول تعالى واختار موسى قومه سبعين رجلا

وخامسها ثلاثمائة وبضعة عشر عدد أهل بدر وسادسها عدد بيعة الرضوان واعلم أن كل ذلك تقييدات لا تعلق للمسألة بها

فإن قلت إذا جعلتم العلم معرفا لكمال العدد تعذر عليكم الاستدلال به على الخصم قلت إنا لا نستدل ألبتة على حصول العلم بالخبر المتواتر بل المرجع فيه إلى الوجدان كما تقدم بيانه فهذه هي الشرائط المعتبرة في خبر التواتر إذا أخبر المخبرون عن المشاهدة فأما إذا نقلوا عن قوم اخرين فالواجب حصول هذه الشرائط في كل تلك الطبقات ويعبر عن ذلك بوجوب استواء الطرفين والواسطة وأما القسم الثاني وهي الشرائط التي اعتبرها قوم مع انها غير معتبرة فأربعة الأول أن لا يحصرهم عدد ولا يحويهم بلد وهو باطل لأن اهل الجامع لو أخبروا عن سقوط المؤذن عن المنارة فيما بين الخلق لكان إخبارهم مفيدا للعلم الثاني أن لا يكونوا على دين واحد وهذا شرط اعتبره اليهود وهو باطل لأن

التهمة لو حصلت لم يحصل العلم سواء كانوا على دين واحد أو على أديان وإن ارتفعت حصل العلم كيف كانوا الثالث أن لا يكونوا من نسب واحد ولا من بلد واحد والقول فيه ما تقدم الرابع شرط ابن الرواندي وجود المعصوم في المخبرين لئلا يتفقوا على الكذب وهو باطل لأن المفيد حينئذ قول المعصوم لا خير أهل التواتر المسألة الثالثة في خبر التواتر من جهة المعنى مثاله أن يروي واحد أن حاتما وهب عشرة من العبيد واخبر اخر أنه وهب خمسة من الإبل وأخبر اخر أنه وهب عشرين ثوبا ولا يزال يروي كل واحد منهم من هذا الخبر شيئا فهذه الأخبار تدل على سخاوة حاتم من وجهين

الأول أن هذه الجزئيات مشتركة في كلي واحد وهو كونه سخيا والراوي للجزئي بالمطابقة راو للكلي المشترك فيه بالتصمت علي فإذا بلغوا حد التواتر صار ذلك الكلي مرويا بالتواتر الثاني أن نقول هؤلاء الرواة بأسرهم لم يكذبوا بل لا بد وأن يكون الواحد منهم صادقا وإذا كان كذلك فقد صدق جزئي واحد من هذه الجزئيات المروية ومتى صدق واحد منها ثبت كونه سخيا والوجه الأول أقوى لأن المرة الواحدة لا تثبت السخاوة

الباب الثاني فيما عدا التواتر من الطرق الدالة على كون الخبر صدقا

الباب الثاني فيما عدا التواتر من الطرق الدالة على كون الخبر صدقا

القول في الطرق الصحيحة

القول في الطرق الصحيحة وهي ثمانية الأول الخبر الذي عرف وجود مخبره بالضرورة الثاني الخبر الذي عرف وجود مخبره بالاستدلال الثالث خبر الله تعالى صدق باتفاق أرباب الملل والأديان ولكنهم اختلفوا في الدلالة عليه بحسب اختلافهم في مسألتي الحسن والقبح والمخلوق أما أصحابنا فقد قال الغزالي رحمه الله يدل عليه دليلات أقواهما إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم عن امتناع الكذب على الله تعالى والثاني أن كلامه تعالى قائم بذاته ويستحيل الكذب في كلام النفس على من يستحيل عليه الجهل إذ الخبر يقوم بالنفس على وفق العلم والجهل على الله تعالى محال

ولقائل أن يعترض على الأول بأن العلم بصدق الرسول موقوف على دلالة المعجزة على صدقه صلى الله عليه وسلم وذلك إنما كان لأن المعجز قائم مقام التصديق بالقول وإذا كان صدق الرسول صلى الله عليه وسلم مستفادا من تصديق الله تعالى إياه وذلك إنما يدل أن لو ثبت أن الله صادق إذا لو جاز الكذب عليه لم يلزم من تصديقه للنبي صلى الله عليه وسلم كونه صادقا فإذن العلم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم موقوف على العلم بصدق الله تعالى فلو استفدنا العلم بصدق الله تعالى من صدق الرسول صلى الله عليه وسلم للزم الدور فان قلت لا نسلم أن دلالة تصديق الله تعالى للرسول على كونه صادقا يتوقف على العلم بكون الله تعالى صادقا لأن قوله للشخص المعين أنت رسولي جار مجرى قول الرجل لغيره أنت وكيلي فإن هذه الصيغة وإن كانت إخبارا في الأصل لكنها إنشاء في المعنى والإنشاء لا يتطرق إليه التصديق والتكذيب وإذا كان كذلك فقول الله تعالى للرجل المعين أنت رسولي يدل على رسالته سواء قدر أن الله تعالى صادق أو لم يقدر ذلك وعلى هذا ينقطع الدور قلت هب أن قوله في حق الرسول المعين إنه رسولي إنشاء

ليس يحتمل الصدق والكذب لكن الإنشاء تأثيره في الأحكام الوضعية لا في الأمور الحقيقية وإذا كان كذلك لم يلزم من قول الله تعالى له أنت رسولي أن يكون الرسول صادقا في كل ما يقول لأن كون ذلك الرجل صادقا أمر حقيقي والأمور الحقيقية لا تختلف باختلاف الجعل الشرعي فإذن لا طريق إلى معرفة كون الرسول صادقا فيما يخبر عنه إلا من قبل كون الله تعالى صادقا وحينئذ يلزم الدور وعلى الثاني أن البحث في أصول الفقه غير متعلق بالكلام القائم بذات الله تعالى الذي ليس بحرف ولا صوت بل عن الكلام المسموع الذي هو الأصوات المقطعة وإذا كان كذلك لم يلزم من كون الكلام القائم بذاته تعالى صدقا كون هذا المسموع صدقا فلعمنا حتى أن هذه الحجة مغالطة وأيضا يقال لم قلت إن الكلام القائم بذاته تعالى صدق قوله لأنه تعالى ليس بجاهل ومن لا يكون جاهلا استحال أن يخبر بالكلام النفساني خبرا كاذبا قلنا هذه القضية غير بديهية فما البرهان وأما المعتزلة فهم ظنوا أن هذا البحث ظاهر على قواعدهم فقالوا الكذب قبيح والله تعالى لا يفعل القبيح

والاعتراض أن نقول إن البحث عن أن الله تعالى لا يصح عليه الكذب يجب أن يكون مسبوقا بالبحث عن ماهية الكذب لأن التصديق مسبوق بالتصور فنقول أما أن يكون المراد من الكذب الكلام الذي لا يكون مطابقا للمخبر عنه في الظاهر سواء كان بحيث لو أضمر فيه زيادة أو نقصان أو تغيير صح وإما أن يكون المراد منه الكلام الذي لا يكون مطابقا للمخبر عنه في الظاهر ولا يمكن أن يضمر فيه ما عنده يصير مطابقا فإن أردتم بالكذب المعنى الأول لم يمكنكم أن تحكموا بقبحه وبأنه لا يجوز ذلك على الله تعالى لأن أكثر العمومات في كتاب الله مخصوص وإذا كان كذلك لم يكن ظاهر العموم مطابقا للمخبر عنه وكذا الحذف والإضمار واقعان باتفاق أهل الإسلام في كتاب الله تعالى حتى إنه حاصل في أوله فإن الناس اختلفوا في معنى بسم الله الرحمن الرحيم فمنهم من قدم المضمر وهو الأمر أو الخبر ومنهم من أخره وكذا الحمد لله رب العالمين قالوا معناه قولوا الحمد لله

فالإضمار متفق عليه ولأن المعتزلة اتفقوا على حسن المعاريض على أنه لا معنى لها إلا الخبر الذي يكون ظاهره كذبا ولكنه عند إضمار شرط خاص وقيد خاص يكون صدقا وإذا كان كذلك ثبت إنه لا يمكن تفسير الكذب الممتنع على الله تعالى بالوجه الأول وأما التفسير الثاني فنقول نسلم أنه قبيح بتقدير الوقوع ولكنه غير ممكن الوجود لأنه لا خبر يفرض كونه كذبا إلا وهو بحال متى أضمرنا فيه زيادة أو نقصانا صار صدقا وعلى هذا التقدير يرتفع الأمان عن جميع ظواهر الكتاب والسنة فان قلت لو كان مراد الله غير ظواهرها لوجب أن يبينها وإلا كان ذلك تلبيسا وهو غير جائز ولأنا لو جوزنا ذلك لم يكن في كلام الله تعالى فائدة فيكون عبثا وهو غير جائز قلت الجواب عن الأول ما الذي تريد بكونه تلبيسا إن عنيت به أنه تعالى فعلا يحتمل إلا التجهيل والتلبيس فهذا غير لازم لأنه تعالى لما قرر في عقول المكلفين أن اللفظ المطلق جائز أن يذكر ويراد به المقيد بقيد غير مذكور معه ثم أكد ذلك بأن

بين للمكلف وقوع ذلك في أكثر الآيات والأخبار فلو قطع المكلف بمقتضى الظاهر كان وقوع المكلف في ذلك الجهل من قبل نفسه لا من قبل الله تعالى حيث قطع لا في موضع القطع وهذا كما يقال في إنزل المتشابهات فإنها وإن كانت موهمة للجهل إلا أنها لما لم تكن متعينة لظواهرها تعالى بل كان فيها احتمال لغير تلك الظواهر الباطلة لا جرم كان القطع بذلك تقصيرا من المكلف لا تلبيسا من الله تعالى وعن الثاني أنا لو ساعدنا على أنه لا بد لله تعالى في كل فعل من غرض معين لكن لم قلت إنه لا غرض من تلك الظواهر إلا منهم معانيها الظاهرة أليس أنه ليس الغرض من إنزال المتشابهات فهم ظواهرها بل الغرض من إنزالها أمور أخرى فلم لا يجوز أن يكون الأمر ها هنا كذلك فإن قلت جواز إنزال المتشابهات مشروط بأن يكون الدليل قائما على امتناع ما أشعر به ظاهر اللفظ فما لم يتحقق هذا الشرط لم يكن إنزال المتشابهات جائزا قلت لا شك أن إنزال المتشابه غير مشروط بأن يكون الدليل المبطل للظاهر معلوما للسامع بل هو مشروط بأن يكون ذلك الدليل موجودا في نفسه سواء علمه السامع لذلك المتشابه أو لم يعلمه

وإذا كان كذلك فما لم يعلم السامع أنه ليس في نفس الأمر دليل مبطل لذلك الظاهر لا يمكنه إجراؤه على ظاهره ثم لا يكفي في العلم بعدم الدلل فإن العقلي المبطل للظاهر عدم العلم بهذا الدليل المبطل لأنا بينا في الكتب الكلامية أنه لا يلزم من عدم العلم بالشئ العلم بعدم الشئ إذا كان كذلك فلا ظاهر نسمعه إلا ويجوز أن يكون هناك دليل عقلي أو نقلي يمنع من حمله على ظاهره وإذا كان هذا التجويز قائما لم يقع الوثوق بشئ من الظواهر على مذهب المعتزلة ألبتة ولما بينا ضعف هذه الطرق فالذي نعول عليه في المسألة أن الصادق أكمل من الكاذب والعلم به ضروري فلو كان الله جده وتقدست اسماؤه كاذبا لكان الواحد منا حال كونه صادقا أكمل وأفضل من الله تعالى وذلك معلوم البطلان بالضرورة فوجب القطع بكون الله تعالى صادقا وهو المطلوب الرابع خبر الرسول صلى الله عليه وسلم قال الغزالي رحمه الله دليل صدقه دلالة المعجزة على صدقه مع استحالة ظهور على يد الكذابين لأن ذلك لو كان ممكنا لعجز الله تعالى عن تصديق رسله

ولقائل أن يقول اذا كان يلزم من اقتدار الله تعالى على إظهار المعجز على يد الكاذب عجزه تعالى عن تصديق الرسول فكذا يلزم من الحكم بعدم اقتداره عليه عجزه فلم كان نفي أحد العجزين عنه أولى من الآخر وأيضا إذا فرضنا أن الله تعالى قادر على إقامة المعجزة على يد الكاذب فمع هذا الفرض إما أن يكون تصديق الرسول ممكنا أو لا يكون فإن أمكن بطل قوله إنه يلزم من قدرة الله تعالى على إظهار المعجز على يد الكاذب عجزه عن تصديق الرسول وإن لم يكن ذلك ممكنا لم يلزم إنما يتحقق عما يصح أن يكون مقدورا في نفسه ألا ترى أن الله لا يوصف بالعجز عن خلق نفسه وأيضا فإذا استحال يقدر الله تعالى على تصديق رسله إلا استحال منه إظهار المعجزة على يد الكاذب وجب أن ينظر أولا أن ذلك هل هو محال أم لا وإن لا يستدل باقتداره على تصديق الرسل على عدم قدرته على إظهاره على يد الكاذب لأن ذلك تصحيح الأصل بالفرع وهو دور وأيضا إذا تأملنا علمنا أن ذلك غير ممتنع لأن قلب العصا حية لما كان

مقدورا لله تعالى وممكنا في نفسه لم يقبح من الله تعالى فعله في شئ من الأوقات وبشئ من الجهات فبأن قال زيد كاذبا أنا رسول الله يستحيل أن ينقلب الممكن ممتنعا والمقدور معجوزا سلمنا ذلك لكن المعجز يدل على كونه صادقا في ادعاء الرسالة فقط أو على صدقه في كل ما أخبر عنه الأول مسلم والثاني ممنوع بيانه أن يكون إذا ادعى الرسالة وأقام المعجز كان المعجز دالا على صدقه فيما ادعاه وهو كونه رسولا لا على صدقه في غير ما ادعاه فإن الرسول ما ادعى كونه صادقا في جميع الأمور أو لا يعلم أنه ادعى الصدق في كل الأمور فإذن هذا المطلوب لا يتم إلا بإقامة الدلالة على أنه ادعى كونه صادقا في جميع ما يخبر عنه ثم أقام المعجزة عليه وذلك لا يكفي فيه قيام المعجز على ادعاء الرسالة وكيف والعلماء اختلفوا في جواز الصغائر على الأنبياء بل جوز بعضهم الكبائر عليهم واتفقوا على جواز السهو والنسيان بل الصواب أن يقال إن ظهر المعجز عقيب ادعاء الصدق في كل ما

يخبر عنه وجب الجزم بتصديقه في الكل وإلا ففي القدر المدعى فقط الخامس خبر كل الأمة عن الشئ يجب أن يكون صدقا لقيام الدلالة على أن الإجماع حجة السادس خبر الجمع العظيم عن الصفات القائمة بقلوبهم من الشهوة والنفرة لا يجوز أن يكون كذبا وأيضا الجمع العظيم البالغ إلى حد التواتر إذا أخبر واحد منهم عن شئ غير ما أخبر عنه صاحه عمر! فلا بد وأن يقع فيها ما يكون صدقا ولذلك نقطع بأن الأخبار المروية عنه صلى الله عليه وسلم على سبيل الآحاد ما هو قوله وان كنا لا نعرف ذلك بعينه السابع اختلفوا في أن القرائن هل تدل على صدق الخبر أم لا فذهب النظام وإمام الحرمين والغزالي إليه والباقون أنكروه احتج المنكرون بأمور أولها أن الخبر مع القرائن التي يذكرها النظام لو أفاد العلم لما جاز انكشافه عن الباطل لكن قد ينكشف عنه لأنا قد علمنا أن الخبر عن موت

إنسان مع القرائن التي يذكرها النظام من البكاء عليه والصراخ وإحضار الجنازة والأكفان قد ينكشف عن الباطل فيقال انه أغمى عليه أو لحقته سكتة أو أظهر ذلك ليعتقد السلطان موته فلا يقتله فثبت أن هذه القرائن لا تفيد العلم الثاني لو كانت القرائن هي المفيدة للعلم لجاز أن لا يقع العلم عند خبر التواتر لعدم تلك القرائن ولما لم يجز ذلك بطل قوله الثالث لو وجب العلم عند خبر واحد لوجب ذلك عند خبر كل واحد كما أن الخبر المتواتر لما اقتضاه في موضع اقتضاه في كل موضع والجواب عن الأول أن الذي ذكرتموه لا يدل إلا على أن ذلك القدر من القرائن لا يفيد العلم ولا يلزم منه أن لا يحصل العلم بشئ من القرائن لأن القدح في صورة خاصة لا يقتضي القدح في كل الصور وعن الثاني أن النظام يلتزم ويقول خبر التواتر ما لم تحصل فيه القرائن لم يفد العلم ومن تلك القرائن أن يعلم أنه ما جمعهم جامع من رغبة أو رهبة أو التباس

سلمنا ذلك لكن لا يلزم من قولنا القرائن تفيد العلم قولنا إنها هي المفيدة وبتقدير أن تكون هي المفيدة فلم قلت يجوز انفكاك خبر التواتر عنها وعن الثالث أن خبر الواحد إنما يفيد العلم لا لذاته فقط بل بمجموع القرائن فمتى حصل ذلك المجموع مع أي خبر كان أفاد العلم وأيضا فالعلم الحاصل عقيب خبر التواتر عندكم حاصل بالعادة فيجوز أيضا أن يكون حصوله عقيب القرائن بالعادة وإذا كان كذلك جاز أن تكون هذه العادة مختلفة وإن كانت مطردة في التواتر والمختار أن القرينة قد تفيد العلم إلا القرائن لا تفي العبارات بوصفها فقد تحصل أمور يعلم بالضرورة عند العلم بها كون الشخص خجلا أو وجلا مع أنا لو حاولنا التعبير عن جميع تلك الأمور لعجزنا عنه والإنسان إذا أخبر عن كونه عطشانا فقد يظهر على وجهه ولسانه من أمارات العطش ما يفيد العلم بكونه صادقا والمريض إذا أخبر عن ألم في بعض أعضائه مع أنه يصيح وترى عليه علامات ذلك الألم ثم إن الطبيب يعالجه بعلاج لو لم يكن المريض صادقا في قوله لكان ذلك العلاج قاتلا له فها هنا يحصل العلم بصدقه وبالجملة فكل من استقرأ العرف عرف أن مستند اليقين في الأخبار ليس إلا القرائن فثبت إن الذي قاله النظام حق

القول في الطرق الفاسدة

القول في الطرق الفاسدة وهي خمسة الأول إذا أخبر واحد بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم عن شئ والرسول ترك الإنكار عليه قال بعضهم ذلك يدل على كون ذلك الخبر صدقا والحق أن يقال ذلك الخبر إما أن يكون خبرا عن أمر يتعلق بالدين أو بالدنيا فإن كان عن الدين فسكوته عليه الصلاة والسلام عن الإنكار يدل على صدقه لكن بشرطين أحدهما أن لا يكون قد تقدم بيان ذلك الحكم والثاني أن يجوز تغير ذلك الحكم عما بينه فيما قبل وإنما وجب اعتبار هذين الشرطين لأن بيان الحكم لو تقدم وأمنا عدم تغيره كان فيما سبق من البيان ما يغني عن استئناف البيان ولهذا لا يلزمه عليه الصلاة والسلام تجديد الإنكار حالا بعد حال على الكفار

وأما القسم الثاني وهو الخبر عن أمر متعلق بالدنيا فسكوته عليه الصلاة والسلام يدل على الصدق بأحد شرطين أحدهما أن يستشهد بالنبي صلى الله عليه وسلم ويدعي عليه علمه بالمخبر عنه وثانيهما أن يعلم الحاضرون علم النبي صلى الله عليه وسلم بتلك القصة ففي كل واحد من هذين الوجهين يجب صدق الخبر إذ سكوت الرسول صلى الله عليه وسلم ها هنا يوهم التصديق فلو كان المخبر كاذبا لكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أوهم تصديقه وأنه غير جائز وأما إذا علمنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلم المخبر عنه أو جوزنا ذلك لم يلزم حينئذ من السكوت عن التكذيب حصول التصديق لأنه عليه الصلاة والسلام يجوز سكوته لاحتمال كونه متوقفا في الأمر الثاني قالوا إذا أخبر الواحد بحضرة جماعة كثيرة عن شئ بحيث لو كان كذبا لما سكتوا عن التكذيب كان ذلك دليلا على صدقه فيه لأنهم إما أن يكونوا سكتوا مع علمهم بكذبه أو لا مع علمهم بكذبه والأول باطل لأن الداعي إلى التكذيب قائم والصارف زائل ومع

حصول هذين الشرطين يجب الفعل فلما لم يوجب دل على أنهم لم يعلموا كذبه وإنما قلنا إن الداعي حاصل لأن من استشهد على خبر كذب فأراد الصبر على التكذيب وجد من نفسه مشقة على ذلك الصبر وذلك يدل على حصول الداعي وأما زوال الصارف فإن ذلك الصارف إما رغبة أو رهبة والجمع العظيم لا يعمهم من الرغبة أو الرهبة ما يحملهم على كتمان ما يعلمونه ولهذا لا يجتمعون على كتمان الرخص والغلاء العظيمين فأما القسم الثاني وهو أن يقال سكتوا لعدم علمهم بكذب القائل فباطل لأنه يبعد عن الجمع العظيم أن لا يطلع واحد منهم عليه واعلم أن هذا الطريق لا يفيد اليقين بل الظن لأنه لا يمكنا القطع بامتناع اشتراك الجماعة الذين حضروا في رغبة أو رهبة مانعة من السكوت وإن سلمناه لكن لا يستبعد غفلة الحاضرين عن معرفة كونه كذبا إذ ربما لم يتعلق لهم به غرض فلم يبحثوا عنه الثالث زعم أبو هاشم والكرخي وتلميذهما أبو عبد الله البصري أن الإجماع على العمل بموجب الخبر يدل على صحة الخبر وهذا باطل من وجهين أحدهما أن عمل كل الأمة بموجب الخبر لا يتوقف على قطعهم بصحة ذلك

الخبر فوجب أن لا يدل على صحة ذلك الخبر أما الأول فلأن العمل بخبر الواحد واجب في حق الكل فلا يكون عملهم به متوقفا على القطع به وأما الثاني فلأنه لما لم يتوقف عليه لم يلزم من ثبوته ثبوته الثاني أن علمهم بمقتضى ذلك الخبر يجوز أن يكون لدليل اخر لاحتمال قيام الأدلة الكثيرة على المدلول الواحد واحتجوا بأن المعلوم من عادة السلف فيما لم يقطعوا بصحته أن يرد مدلوله بعضهم ويقبله الآخرون والجواب هذه العادة ممنوعة بدليل اتفاقهم على حكم المجوس بخبر عبد الرحمن الرابع قال بضع الزيدية بقاء النقل مع ترفر النبي الدواعي على إبطاله الدواعي على إبطاله يدل على صحة الخبر كخبر الغدير والمنزلة فإنه

سلم نقلهما في زمان بني أمية مع توفر دواعيهم على ابطالهما وهذا أيضا ليس بشئ لاحتمال أنه كان من باب الآحاد أولا ثم اشتهر فيما بين الناس بحيث عجز العدو عن إخفائه ولأن الصوارف من جهة بني أمية وإن حصلت لكن الدواعي من جهة الشيعة حصلت ولأن الناس إذا منعوا من إفشاء فضيلة إنسان كانت محبتهم له وحرصهم على ذكر مناقبه أشد مما إذا لم يمنعوا الخامس اعتمد كثير من الفقهاء والمتكلمين في تصحيح خبر الإجماع وأمثاله بأن الأمة فيه على قولين منهم من احتج به ومنهم من اشتغل بتأويله وذلك يدل على اتفاقهم على قبوله وهو ضعيف أيضا لاحتمال أن يقال إنهم قبلوه كما يقبل خبر الواحد ويمكن أن يجاب عنه بأن خبر الواحد يقبل في العمليات لا في العلميات وهذه المسألة علمية فلما قبلوا هذا الخبر فيها دل ذلك على اعتقادهم في صحته والجواب لا نسلم أن كل الأمة قبلوه بل كل من لم يحتج به في الإجماع طعن

فيه بأنه من باب الآحاد فلا يجوز التمسك به في مسألة علمية بل هب أنهم ما طعنوا فيه على التفصيل لكن لا يلزم من عدم الطعن من جهة واحدة عدم الطعن مطلقا

الباب الثالث في الخبر الذي يقطع بكونه كذبا

الباب الثالث في الخبر الذي يقطع بكونه كذبا وهو أربعة الأول الخبر الذي ينافي مخبره وجود ما علم بالضرورة سواء كان المعلوم بالضرورة حسيا أو وجدانيا أو بديهيا ومن هذا الباب قول القائل الذي لم يكذب قط أنا كاذب فهذا الخبر كذب لأن المخبر عنه بكونه كاذبا إما أن تكون الأخبار التي وجدت قبل هذا الخبر أو هذا الخبر والأول باطل لأن تلك الأخبار ما كانت كذبا فإخباره عن نفسه بكونه كاذبا فيها كذب والثاني باطل لأن الخبر عن الشئ يتأخر في الرتبة عن المخبر عنه فإن جعلنا الخبر عين المخبر عنه لزم تأخر الشئ عن نفسه في الرتبة وهو محال الثاني الخبر الذي يكون مخبره على خلاف الدليل القاطع ثم ذلك الخبر إما أن يحتمل تأويلا صحيحا أو لا يحتمله فإن احتمله فإما أن يحتمل تأويلا قريبا أو تأويلا متعسفا فإن كان قريبا جاز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد تكلم به لإرادة ذلك

المعنى كما في متشابهات الكتاب وإن كان متعسفا حكم إما بكذبه وإما بأنه كان معه زيادة أو نقصان يصح الكلام معه مع أنه لم ينقل وكذا القول فيما لا يقبل التأويل الثالث وهو في الحقيقة داخل تحت القسم الثاني الأمر الذي لو وجد لتوفرت الدواعي على نقله على سبيل التواتر إما لتعلق الدين به كأصول الشرع أو لغرابته كسقوط المؤذن من المنارة أو لهما جميعا كالمعجزات ومتى لم يوجد ذلك دل على كذبه والخلاف فيه مع الشيعة فإنهم جوزوا في مثل هذا الشئ أن لا يظهر لأجل الخوف والتقية لنا لو جوزنا ذلك لجوزنا أن يكون بين البصرة وبين بغداد بلدة أعظم منهما مع أن الناس ما أخبروا عنها ولجوزنا أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أوجب عشر صلوات لكن الأمة ما نقلت إلا خمسة ولما كان ذلك باطلا فكذا ما أدى إليه فإن قيل هذا الكلام ظلم لأن العلم بعدم هذه الأمور إما أن يكون متوقفا على العلم بأنه لو كان لوجب نقله أو لا يكون متوقفا عليه فإن كان الأول وجب أن يكون الشاك في الأصل شاكا في هذه الفروع لكن الناس كما يعلمون بالضرورة وجود بغداد والبصرة يعلمون بالضرورة عدم بلدة بينهما أكبر منهما والعلم الضروري لا يكون متوقفا على العلم النظري

وإن كان الثاني فحينئذ العلم بعدم هذه البلدة غير متوقف على العلم بأنها لو كانت لنقلت فلا يلزم من عدم هذا عدم ذاك سلمنا توقف العلم بعدم هذه الأمور على العلم بأنها لو كانت لنقلت لكن ما ذكرتموه مثال واحد ولا يلزم من حصول الحكم في مثال واحد على وفق قولكم حصوله في كل الصور على وفق قولكم فإن قستم سائر الصور على هذه الصورة فقد بينا أن القياس لا يفيد اليقين لاحتمال أن يكون ما به فارق الأصل الفرع شرطا في الأصل أو مانعا في الفرع ثم الذي يبين أن الأمر ليس كذلك في كل الصور أمور أحدها أن إفراد الإقامة وتثنيتها من أظهر الأمور وأجلاها ثم إن ذلك لم ينقل بالتواتر وثانيها القول في هيئآت الصلاة من رفع اليدين والجهر بالتسمية كل ذلك أمور ظاهرة مع أنها لم تنقل نقلا متواترا وثالثها انشقاق القمر

وتسبيح الحصى وإشباع الخلق الكثير من الطعام القليل

ونبوع الماء من بين الأصابع أمور عظيمة ثم إنها لم تنقل بالتواتر فإن قلت ذلك لأنهم استغنوا بنقل القرآن عن نقلها قلت لا نسلم حصول الاستغناء بنقل القرآن لأن كون القرآن معجزا أمر لا يعرف إلا بدقيق النظر والعلم بكون هذه الأشياء معجزات علم ضروري فكيف يقوم أحدهما مقام الآخر فلأن قلتم لا نزاع في حصول التفاوت من هذه الجهة ولكن لما كان القرآن دليلا قاطعا جاز أن يصير ظهوره واشتهاره سببا لفتور الدواعي عن نقل سائر المعجزات وإن كانت أظهر من القرآن فنقول لم لا يجوز أن يقال إن دلالة قوله تعالى إنما وليكم الله ورسوله

ودلالة خبر الغدير والمنزلة على إمامة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وإن كانت خفية إلا أن ذلك صار سببا لفتور الدواعي عن نقل النص الجلي ورابعها أن أقاصيص الأنبياء المتقدمين والملوك الماضين ما نقلت نقلا متواترا وهو يقدح في قولكم والجواب قوله العلم بعدم الواقعة العظيمة أما أن يتوقف على العلم بأنها لو كانت لنقلت أو لا يتوقف قلنا يتوقف عليه قوله العلم بعدم بلدة بين البصرة وبغداد أكبر منهما علم ضروري وهذه القاعدة نظرية والضروري لا يستفاد من النظري

قلنا لا نسلم أنه ضروري ولذلك فإن كل من ادعى نفي هذه البلدة إذا قيل له كيف عرفت عدمها فلا بد وأن يقول لأنها لو كانت موجودة لاشتهر خبرها كما اشتهر خبر بغداد والبصرة فعلمنا أن ذلك العدم مستفاد من هذا الأصل قوله ما ذكرته مثال واحد قلنا لم نذكر ذلك المثال لاختصاص دليلنا به بل للتنبيه على القاعدة الكلية قوله ينتقض بالإقامة قلنا اختلف أصحابنا في الجواب عنه على وجهين الأول وهو قول القاضي أبي بكر لعل المؤذن كان ينفرد مرة ويثنى أخرى فإن قلت فكان يجب أن ينقل بالتواتر كونه كذلك قلت يحتمل أن الراوي روى بعض ما رأى وأهمل الباقي لاعتقاده أن التساهل في مثل هذا الباب سهل ولا يتعلق به غرض أصلا في الدين نفيا وإثباتا والثاني لعلهم عرفوا أن هذه المسألة من الفروع التي لا يوجب الخطأ فيها كفرا ولا بدعة فلذلك تساهلوا فيها ولما تساهلوا فيها نسوا ما شاهدوه لا سيما وكانوا مشتغلين بالحروب العظيمة والذين شاهدوها في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم

قتلوا وقلوا فصارت الرواية من باب الآحاد وأما اختلافهم في الجهر بالتسمية فعنه أيضا جوابان الأول لعل فعله فيه كان مختلفا الثاني أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا ابتدأ بالقراءة أخفى صوته ثم يعلو صوته على التدريج وعلى هذا التقدير يجوز أن يسمع جهره بالتسمية القريب دون البعيد وأما سائر المعجزات قلنا لعل الذين شاهدوا تلك الأشياء كانوا قليلين فلا جرم ما حصل النقل المتواتر فأما الذين سمعوا النص الجلي في الإمامة فان كانوا قليلين صارت الرواية من الآحاد فلا تكون حجة قطعية وإن كانوا بالغين حد التواتر وجب ظهور النقل وأما أقاصيص سائر الأنبياء فإنما لم تنقل بالتواتر لأنه لا يتعلق بروايتها غرض أصلي في الدين بخلاف النص الجلي في الإمامة الرابع الخبر الذي يروي في وقت قد استقرت فيه الأخبار فإذا فتش عنه فلم يوجد في بطون الكتب ولا في صدور الرواة علم أنه لا أصل له وأما في عصر الصحابة حين لم تكن قد استقرت الأخبار فإنه يجوز أن

مسألة في وقوع الكذب في بعض أخبار الآحاد

يروي أحدهم ما لم يوجد عند غيره مسألة في أن الأخبار المروية عن الرسول صلى الله عليه وسلم بالآحاد قد وقع فيها ما يكون كذبا ثم في بيان الداعي إلى وضع الكذب عليه فهما مقامان أما المقام الأول فالذي يدل عليه وجوه أحدها ما روي عنه عليه الصلاة والسلام سيكذب علي فهذا الخبر إن

كان صدقا فلا بد من أن يكذب عليه وإن كان كذبا فقد كذب عليه أيضا وثانيها أنه قد حصل في الأخبار ما لا يجوز نسبته الى الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يقبل التأويل وإذا كان كذلك وجب القطع بكونه كذبا وثالثها ما روي عن شعبة أن نصف الحديث كذب

مسألة في بيان أسباب الكذب في الحديث

وأما المقام الثاني وهو سبب الكذب فاعلم أن ذلك إما أن يكون من جهة السلف أو من جهة الخلف أما السلف فهم منزهون عن تعمد الكذب إلا أنه لو وقع لوقع ذلك لوقع على وجوه أحدها أن يكون الراوي يرى نقل الخبر بالمعنى فيبدل مكان اللفظ اخر لا يطابقه في معناه وهو يرى أنه يقوم مقامه وثانيها أنهم لا يكتبون الحديث في الغالب فإذا قدم العهد فربما نسي اللفظ فأبدل به لفظا اخر وهو يرى أن ذلك اللفظ هو المسموع وربما نسي زيادة يصح بها الخبر وثالثها ربما أدرك الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يروي متن الخبر ولم يذكر إسناده إلى غيره فيظن أن الخبر من جهته صلى الله عليه وسلم ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يستأنف الحديث إذا أحس بداخل ليكمل له ومن ذلك ما وري أنه عليه الصلاة والسلام قال الشؤم في ثلاثة المرأة والدار والفرس فقالت عائشة رضي الله عنها إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك حكاية عن غيره

ورابعها أنه ربما خرج الحديث على سبب وهو مقصور عليه ويصح معناه به وما هذا سبيله ينبغي أن يروى مع سببه فإذا لم يعرف سببه أوهم الخطأ كما روى أنه عليه الصلاة والسلام قال التاجر فاجر فقالت عائشة رضي الله عنها إنما قال ذلك في تاجر دلس وخامسها ما روي أن أبا هريرة كان يروي أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم وكعب يروي أخبار

اليهود والسامعون ربما ألبس عليهم ذلك فرووا في الخبر أنهم سمعوا من أبي هريرة وإنما سمعوا من كعب وأما سبب الكذب في الأخبار من جهة الخلف فوجوه أحدها أن الملاحدة وضعوا الأباطيل ونسبوها إلى الرسول عليه الصلاة

والسلام تنفيرا للعقلاء منه كما يروي ذلك عن عبد الكريم بن أبي العوجا وثانيها ما قيل إن الإمامية يسندون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كل ما صح عندهم عن بعض أئمتهم قالوا لأن جعفر بن محمد قال حدثني أبي وحدثني جدي وحديث أبي وجدي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا حرج عليكم إذا سمعتم مني حديثا أن تقولوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

مسألة في عدالة الصحابة

وثالثها أن يكون الراوي يرى جواز الكذب المؤدي إلى صلاح الأمة فإن من مذهب الكرامية أنه إذا صح المذهب جاز وضع الأخبار فيه لأن ذلك سبب لترويج الحق فوجب أن يكون جائزا ورابعها الرغبة كما وضعوا في ابتداء دولة بني العباس أخبارا في النص على إمامة العباس وولده مسألة في تعديل الصحابة رضي الله عنهم مذهبنا إن الأصل فيهم العدالة إلا عند ظهور المعارض للكتاب والسنة أما الكتاب فقوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا وقوله تعالى لقد رضي الله عن المؤمنين وقوله تعالى والسابقون الأولون وأما السنة فقوله عليه الصلاة والسلام أصحابي كالنجوم بأيهم

أقتديتم اهتديتم وقوله ولا تسبوا أصحابي وقوله لو أنفق أحدكم ملأ الأرض ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه وقوله خير الناس قرني وقد بلغ إبراهيم النظام في الطعن فيهم على ما نقله الجاحظ عنه في كتاب الفتيا ونحن نذكر ذلك مجملا ومفصلا أما مجملا فإنه روي من طعن بعضهم في بعض أخبارا كثيرة يأتي تفصيلها وقال النظام رأينا بعض الصحابة يقدح في البعض وذلك يقتضي توجه القدح إما في القادح إن كان كاذبا وإما في المقدوح فيه إن كان القادح صادقا بيان المقام الأول من وجوه أقال عمران بن الحصين والله لو أردت لحدثت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام يومين متتابعين فإني سمعت كما سمعوا وشاهدت كما شاهدوا ولكنهم يحدثون أحاديث ما هي كما يقولون وأخاف أن يشبه لي كما شبه لهم

ب عن حذيفة أنه يحلف لعثمان بن عفان على أشياء بالله أنه ما

قالها وقد سمعناه قالها فقلنا له فيه فقال إني اشتري ديني بعضه ببعض

مخافة أن يذهب كله ج بن عباس رضي الله عنهما بلغه أن ابن عمر رضي الله عنهما يروي أن الميت ليعذب ببكاء أهله قال ذهل أبو عبد الرحمن إنما مر النبي عليه الصلاة والسلام بيهودي يبكي على ميت فقال إنه ليبكي عليه وإنه ليعذب

د ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي عليه الصلاة والسلام قال في الضب كل لا آكله ولا أحله ولا أحرمه فقال زيد الأصم قلت لابن عباس إن ناسا يقولون أنه عليه الصلاة والسلام قال في الضب كل لا آكله ولا أحله

ولا أحرمه قال بئس ما قلتم ما بعث الله النبي محللا ولا محرما هـ عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على قليب بدر فقال هل وجدتم ما وعد ربكم حقا ثم قال إنهم الآن يسمعون ما أقول فذكروه لعائشة رضي الله عنها فقالت لا بل قال إنهم ليعلمون أن الذي كنت

أقول لهم هو الحق قال النظام وهذا هو التكذيب ولما روت فاطمة بنت قيس أن زوجي طلقني ثلاثا ولم يجعل لي رسول الله عليه الصلاة والسلام سكنى ولا نفقة فقال عمر لا نقبل قول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت وقالت عائشة رضي الله عنها يا فاطمة قد قتلت الناس ومعلوم أنها كانت من المهاجرات مع أنها عند عمر وعائشة رضي الله عنهما كاذبة ز أراد وأن عمر رضي الله عنه ضرب أبي موسى رضي الله عنه في خبر الاستيذان حتى شهد له أبو سعيد الخدري ح كان على رضي الله عنه يستحلف الرواة فلو كانوا غير متهمين لما استحلفهم فإن عليا أعلم بهم منا

طحميد كما بن عبد الرحمن الحميري بعث أبن أخ له إلى الكوفة وقال سل علي بن أبي طالب عن الحديث الذي رواه عنه أهل الكوفة في البصرة فإن كان حقا فخبرنا عنه فأتى الكوفة فلقى الحسن بن علي رضي الله عنهما فأخبره الخبر فقال له الحسن أرجع إلى عمك وقل له قال أمير المؤمنين يعني أباه إذا حدثتكم عن رسول الله فإني لن أكذ ب على الله ولا على رسوله وإذا حدثتكم برأيي فإنما أنا رجل محارب ويروي عنه هذا المعنى بروايات قال عمرو بن عبيد الله وهاشم الأوقص يرى أن

قوله أمرت أن أقاتل الناس أو القاسطين أو المارقين من ذلك وقوله في ذي الثدية ما كذبت ولا كذبت فإنما ربما كان الشئ عنده حقا فيقول إن الرسول أمرني به لأن الرسول كان آمرا بكل حق

ى ورويتم هو عن أبي سعيد الخدري وجابر وأنس رضي الله عنهم قال وذكر سنة مائة أنه لا يبقى على ظهرها نفس منفوسة ثم يروي أن عليا رضي الله عنه قال لأبي مسعود إنك تفتي الناس قال أجل وأخبرهم أن الأخير شر قال فأخبرني ما سمعت منه قال سمعته يقول لا يأتي على الناس مائة سنة وعلى الأرض عين تطرف فقال علي أخطأت وأخطأ في أول فتواك إنما قال ذلك لمن حضره يومئذ وهل

الرجاء الا بعد مائة يا أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال عليه الصلاة والسلام الشمس والقمر نوران مكوران في النار يوم القيامة قال الحسن ما ذنبهما قال أبو هريرة أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

وهذا من الحسن رد على أبي هريرة يب قال علي لعمر رضي الله عنهما في قصة الجنين إن كان هذا جهد رأيهم فقد قصروا وإن كانوا قاربوك فقد غشوك وهذا من علي رضي الله عنه حكم بجواز اللبس يج أبو الأشعث قال كنا في غزاة وعلينا معاوية رضي الله عنه فأصبنا ذهبا وفضة فأمر معاوية رجلا ببيعها للناس في أعطياتهم فتسارع الناس

فيها فقام عبادة بن الصامت رضي الله عنه فنهاهم فردوها فأتى الرجل معاوية فشكا إليه فقام معاوية خطيبا فقال ما بال رجال يحدثون عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أحاديث قد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه فقام عبادة واعاد القصة ثم قال والله لنحدثن عن رسول الله عليه الصلاة والسلام وإن كره معاوية أو قال وأن رغم ما أبالي أن لا أصحبه في جنده ليلة سوداء فهذا يدل إما على كذب عبادة أو كذب معاوية ولو كذبنا معاوية لكذبنا وسلم أصحاب صفين كالمغيرة عنه وغيره

وعلى أن معاوية لو كان كذابا لما ولاه عمر وعثمان على الناس يد إن أبا موسى قام على منبر الكوفة لما بلغه أن عليا رضي الله عنه أقبل يريد البصرة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال يا أهل الكوفة والله ما أعلم واليا أحرص على صلاح الرعية مني والله لقد منعتكم حقا كان لكم بيمين كاذبة فأستغفر الله منها

وهذا إقرار منه على نفسه باليمين الكاذبة يه روى أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يوم السقيفة أنه عليه الصلاة والسلام قال الأئمة من قريش ثم رويتم أشياء ثلاثة تناقضه أحدها قول عمر رضي الله عنه في آخر حياته لو كان سالم حيا لما تخالجني فيه شك وسالم مولى أمرأة من الأنصار وهي حازت ميراثه

وثانيها أنه عليه الصلاة والسلام قال اسمع وأطع ولو كان عبد حبشيا وثالثها قوله عليه الصلاة والسلام لو كنت مستخلفا من هذه الأمة أحدا من غير مشورة لاستخلفت ابن أم عبد يو لما روى أبو هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال إن المرأة والكلب والحمار يقطعن الصلاة مشت عائشة رضي الله عنها في خف

واحدة وقالت لأخشن أبا هريرة فإني ربما رأيت الرسول عليه الصلاة والسلام وسط السرير وأنا على السرير بينه وبين القبلة يز روى أبو هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال إن الميت على من غسله الغسل وعلى من حمله الوضوء فبلغ ذلك عائشة رضي الله عنها فقالت أنجاس موتاكم

يح عن ابراهيم أن عليا رضي الله عنه بلغه أن أبا هريرة يبتدئ بميامينه في الوضوء وفي اللباس فدعا بماء فتوضأ وبدأ بمياسيره وقال لأخالفن أبا هريرة يط إن أصحاب عبد الله لما بلغهم خبر أبي هريرة من قام من منامه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا قالوا إن أبا هريرة مكثار فكيف نصنع بالمهراس ك لما قال أبو هريرة حدثني خليلي قال له علي رضي الله عنه متى كان خليلك

وقال عمرو بن عبيد الله كأنه ما سمع قوله عليه الصلاة والسلام لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا كا لما روى أبو هريرة من أصبح جنبا فلا صوم له أرسل مروان في ذلك إلى عائشة وحفصة رضي الله عنهما فقالتا كان النبي عليه الصلاة والسلام يصبح جنبا ثم يصوم فقال للرسول اذهب إلى أبي هريرة فأخبره بذلك فقال أبو هريرة أخبرني بذلك الفضل بن عباس قال النظام والاستدلال به من ثلاثة أوجه

أحدها أنه استشهد ميتا وثانيها أنه لو لم يكن متهما فيه لما سألوا غيره وثالثها أن عائشة وحفصة رضي الله عنهما كذبتاه كب ولما روى أبو سعيد الخدري خبر الربا قال ابن عباس نحن أعلم بهذا وفينا نزلت آية الربا فقال الخدري أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول لي ما تقول والله لا يظلني وإياك سقف بيت وهذا تكاذب بين ابن عباس وأبي سعيد كج لما قدم ابن عباس البصرة سمع الناس يتحدثون عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم فكتب إليه فقال أبو موسى لا أعرف منها حديثا

كد روى أن عمر رضي الله عنه كان إذا ولي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعمال وشيعهم قال لهم عند الوداع أقلوا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال النظام فلولا التهمة لما جاز المنع من العلم كه رووا عن سهل بن أبي خيثمة في القسامة ثم إن عبد الرحمن بن عبيد قال والله ما كان الحديث كما حدث سهل ولقد وهم وإنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل خبير إن قتيلا وجد في أو ديتكم فدوه فكتبوا يحلفون بالله ما قتلوه فواده رسول الله من عنده

وقال محمد بن اسحاق سمعت عمرو بن شعيب في المسجد الحرام يحلف بالله الذي لا إله إلا هو أن حديث سهل ليس كما حدث كو قال أصحاب الشعبي إنك لا ترى طلاق المكره قال أنتم تكذبون علي وأنا حي فكيف لا تكذبون على إبراهيم وقد مات

كز قال ابن أبي ملكية ألا تعجب حدثني عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت أهللت بعمرة وقال القاسم إنها قالت بحجة كح قال صدقة بن يسار سمعت أنه عليه الصلاة والسلام قال في الذي يسافر وحده وفي الإثنين شيطان وشيطانان إن فلقيت القاسم بن محمد فسألته فقال كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث البريد وحده وكان النبي

وصاحبه وحدهما فهذا من القاسم تكذيب بهذا الخبر كط كان أبن سيرين يعيب الحسن في التفسير وكان الحسن يعيبه في التعبير ويقول كأنه من ولد يعقوب

ل ابن عباس رضي الله عنهما الحجر الأسود من الجنة وكان أشد بياضا من الثلج حتي سودته خطايا أهل الشرك فسئل ابن الحنفية عن الحجر وقيل ابن عباس يقول هو من الجنة فقال هو من بعض الأودية قال النظام لو كان كفر أهل الجاهلية يسود الحجر لكان إسلام المؤمنين يبيضه ولأن الحجارة قد تكون سوادء وبيضاء فلو كان ذلك السواد من الكفر لوجب أن يكون سوادها بخلاف سائر الأحجار ليحصل التمييز ولأنه لو كان كذلك لاشتهر ذلك لأنه من الوقائع العجيبة كالطير الأبابيل لا روى أبو سعيد الخدري أنه لا هجرة بعد الفتح لكن جهاد ونية فقال له مروان كذبت وعنده رافع ابن خديج وزيد بن ثابت وهما

قاعدان على سريره فقال أبو سعيد لو شاء هذان لعرفاك إلا ولكن هذا يخاف أن تنزعه عن عرافة قومه وهذا يخشى أن تنزعه عن الصدقة فسكتا فرفع مروان عليه الدرة فلما رأيا ذلك قالا صدق لب عطاء بن أبي رباح قيل له روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال سبق الكتاب الخفين قال كذب أنا رأيت ابن عباس يمسح على الخفين لج قال أيوب لسعيد بن جبير إن جابر بن زيد يقول إذا زوج السيد العبد فالطلاق بيد السيد قال كذب جابر لد قال عروة لابن عباس أضللت الناس يا ابن عباس قال وما ذاك يا عروة قال تأمرنا بالعمرة في هذه الأيام وليست فيها عمرة قال أفلا تسأل أمك عن هذا فإنها قد شهدته قال عروة فإن أبا بكر وعمر كانا لا يفعلانه قال هذا الذي أضلكم أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدثونني فيه عن أبي بكر وعمر فقال عروة أبو بكر وعمر كانا أتبع لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلم بها منك وهذا تكذيب من عروة لابن عباس

له رويتم عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال أي سماء تضلني! وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأي ثم رويتم أنه سئل عن الكلالة فقال أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان قال النظام وهذان الأثران متناقضان ثم رويتم أن عمر رضي الله عنه قال إني لأستحيي أن أخالف أبا بكر قال النظام فإن كان عمر استقبح مخالفة أبي بكر فلم خالفه في سائر المسائل فإنه قد خالفه في الجد وفي أهل الردة وقسمة الغنائم ثم إن النظام قدح في ابن مسعود رضي الله عنه خاصة من وجوه آزعم أنه رأى القمر انشق وهذا كذب ظاهر لأن الله تعالى ما شق القمر له وحده وإنما يشقه آية للعالمين فكيف لم يعرف ذلك غيره ولم يؤرخ الناس به ولم يذكره شاعر ولم يسلم عنده كافر ولم يحتج به مسلم

على ملحد ب أنكر ابن مسعود كون المعوذتين من القرآن فكأنه ما شاهد قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم لهما ولم يهتدء صلى إلى ما فيهما من فصاحة المعجزة أو لم يصدق جماعة الأمة في كونهما من القرآن فإن كانت تلك الجماعة ليست حجة عليه فأولى أن لا تكون حجة علينا فنحن معذورون في أن لا نقبل قولهم ج إختار المسلمون قراءة زيد وهو خالف الكل ولم يقرأ بها د لما صلى عثمان رضي الله عنه بمنى أربعا عابه فقيل له فيه فقال الخلاف شر والفرقة شر ثم إنه عمل بالفرقة في أمور كثيرة هـ وما زال يقدح القول في عثمان ويسر القول فيه منذ اختار قراءة زيد ورأى أناسا من الزط فقال هؤلاء أشبه من رأيت بالجن ليلة الجن ثم قال علقمة قلت لابن مسعود أكنت مع النبي عليه الصلاة والسلام ليلة الجن فقال ما شهدها منا أحد

ز سأله عمر رضي الله عنه عن شئ من الصرف فقال لا بأس به فقال عمر رضي الله عنه لكني أكرهه فقال قد كرهته إذ كرهته فرجع عن قول إلى قول بغير دليل قال النظام فقد ثبت قدح بعضهم في البعض فإن صدق القادح فقد توجه العيب وإن كذب فكذلك أما الخوارج فقد طعنوا في الصحابة رضي الله عنهم ولعن مبغضيهم من وجوه أحدها قالوا رأيناهم قبلوا خبر الواحد على مناقضة كتاب الله تعالى وذلك

يوجب القطع بفساد ذلك الخبر والطعن في العامل به بيانه أن الله تعالى ذكر أنواع المعاصي من الكفر والقتل والسرقة فلما ذكر الزنا استقصى الكلام فيه فإنه تعالى نهى عنه فقال ولا تقربوا الزنا ثم أوعد عليه بالنار كما صنع وبجميع المعاصي ثم ذكر الجلد ثم خصه بإحضار المسلمين وبالنهي عن رحمته والرأفة عليه بقوله ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ثم جعل على من رمى مسلما بالزنا ثمانين جلدة ولم يجعل ذلك على من رماه بالقتل ولا بالكفر وهما أعظم ثم قال ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون ثم ذكر من رمى به زوجته وبين هناك أحكام اللعان وقال والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك ثم خصه بأن جعل الشهود عليه أربعا فمع هذه المبالغة العظيمة كيف يجوز إهمال ما هو أجل أحكامها وأعظم مراتبها وهو الرجم ثم أنه تعالى ذكر آيات صريخة وقال في نفي الرجم أحدها قوله الزانية والزاني فاجلدوا وهذا صريح في وجوب الجلد على كل الزناة وصريح في نفي الرجم

وثانيها قوله فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب والرجم لا نصف له وثالثها وهو الدلالة العقيلة أن الرجم لو كان مشروعا لوجب أن ينقل نقلا متواترا لأنه من الوقائع العظيمة فحيث لم ينقل دل على أنه غير مشروع ثم أنهم قبلوا خبر الواحد في الرجم مع كونه على مناقضة هذه الأدلة الشرعية والعقلية فكان الطعن متوجها قطعا وثانيها رويتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرج يوما على أصحابه وهم يكتبون أحاديث من أحاديثه فقال ما هذه الكتب أكتابا أنه مع كتاب الله تعالى يوشك أن يقبض الله تعالى بكتابه فلا يدع في قلب ولا رق منه شيئا إلا أذهبه ورويتم أيضا أنه قال إذا حدثتم بحديث فاعرضوه على كتاب الله

تعالى فإن وافقه فاقبلوه وإلا فردوه ثم إنكم مع ذلك جوزتم المسح على الخفين مع صريح قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة وقلتم يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ويحرم نكاح المرأة على عمتها وخالتها وبنت أخيها وأختها مع قوله تعالى وأحل لكم ما وراءه ذلكم وكيف يجلد العبد القاذف أربعين مع قوله تعالى والذين يرمون المحصنات ولم يذكر حرا ولا عبدا وكيف يجلد العبد على الزنا خمسين وإنما ذكر الله تعالى الإماء دون العبيد فقال فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب وكيف رددتم شهادة العبد مع قوله تعالى وأشهدوا ذوي عدل منكم ومع قوله ممن ترضون من الشهداء وكيف منعتم من إمامة غير القرشي مع قوله أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم

وثالثها ما يروى من شتم بعضهم بعضا ولنذكر من ذلك حكايات الحكاية الأولى حكى ابن داب في مجادلات قريش قال اجتمع عند معاوية عمرو بن العاص وعتبة بن أبي سفيان والوليد بن عقبة والمغيرة بن شعبة ثم أحضروا الحسن بن علي رضي الله عنهم ليسبوه وهو فلما حضر تكلم عمرو بن العاصى وذكر عليا رضى الله عنه ولم يترك

شئ من المساوئ الا ذكر فيه وفيما قال إن عليا شتم أبا بكر وشارك في دم عثمان إلى أن قال اعلم أنك وأباك من شر قريش ثم خطب كل واحد منهم بمساوئ علي والحسن رضي الله عنهما ومقابحهما صلى الله عليه وسلم ونسبوا عليا إلى قتل عثمان ونسبوا الحسن إلى الجهل والحمق فلما ال الأمر إلى الحسن رضي الله عنه خطب ثم بدأ يشتم معاوية رضي الله عنه وطول فيه إلى قال له إنك كنت ذات يوم تسوق بأبيك ويقود به أخوك هذا القاعد وذلك بعدما عمي أبو سفيان فلعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمل وراكبه وسائقه وقائده فكان أبوك الراكب وأخوك القائد وأنت السائق ثم قال لعمرو بن العاص إنما أنت سبة كما أنت فأمك زانية اختصم فيك خمسة نفر من قريش كلهم يدعي عليك أنك أبنه فغلب عليك جزار قريش من الأمهم حسبا وأقلهم منصبا وأعظمهم لعنة ما أنت إلا شانئ محمد فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم إن شانئك هو الأبتر ثم هجوت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعين قافية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم إني لا أحسن الشعر فالعنه بكل قافية لعنة وأما أنت يا ابن أبي معيط فوالله ما ألومك أن تبغض عليا وقد جلدك في الخمر وفي الزنا وقتل أباك صبرا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر وسماه الله

تعالى في عشر آيات مؤمنا وسماك فاسقا وأنت فاسقا وأنت علج من أهل النورية أما أنت يا عتبة فما أنت بحصيف إذا فأجيبك ولا عاقل فأعاتبك فقال وأما وعدك إياي بالقتل فهلا قتلت الذي وجدت في فراشك مع أهلك وأما أنت يا مغيرة بن شعبة فمثلك مثل البعوضة إذ قالت للنخلة استمسكي فإني عليك نازلة فقالت النخلة والله ما شعرت بوقوعك أي علي وأما زعمك أنه قتل عثمان فلعمري لو قتل عثمان ما كنت منه في شئ وإنك لكاذب قال الخوارج فهذه المشاتمة العظيمة المتناهية التي دارت بينهم تدل على أنهم ما كانوا يمسكون ألسنتهم عن القذف والقدح في الدين والعرض وذلك بوجب القدح العظيم في احدى الطائفتين

الحكاية الثانية أن عثمان رضي الله عنه أخر عن عائشة رضي الله عنها بعض أرزاقها فغضبت ثم قالت يا عثمان أكلت أمانتك وضيعت الرعية وسلطت عليهم الأشرار من أهل بيتك والله لولا الصلوات الخمس لمشى إليك أقوام ذوو بصائر يذبحونك كما يذبح الجمل فقال عثمان رضي الله عنه ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط الآية فكانت عائشة رضي الله عنها تحرض عليه جهدها وطاقتها وتقول أيها الناس هذا قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبل وقد بليت سنته اقتلوا نعثلا قتل الله نعثلا ثم إن عائشة ذهبت إلى مكة فلما قضت حجها وقربت من المدينة أخبرت بقتل عثمان فقالت ثم ماذا فقالوا بايع الناس علي بن أبي طالب فقالت عائشة قتل عثمان والله مظلوما وأنا طالبة بدمه والله ليوم من عثمان خير من علي الدهر كله فقال لها عبيد بن أم كلاب ولم تقولين ذلك فوالله ما أظن أن بين

السماء والأرض أحدا في هذا اليوم أكرم على الله من علي بن أبي طالب فلم تكرهين ولايته ألم تكوني تحرضين الناس على قتله فقلت اقتلوا النعثل ثنا فقد كفر فقالت عائشة لقد قلت ذلك ثم رجعت عما قلت وذلك أنكم أسلمتموه حتى إذا جعلتموه في القبضة قتلتموه والله لأطلبن بدمه فقال عبيد بن أم كلاب هذا والله تخليط يا أم المؤمنين

الحكاية الثالثة الخصومة العظيمة التي كانت بين عبد الله بن مسعود وأبي ذر وعمار وبين عثمان والخصومة التي كانت بين عبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت رضي الله عنهم حتى آل الأمر إلى الضرب والنفي عن البلد واللعن وكل ذلك يقتضي توجه القدح إلى عدالة بعضهم الحكاية الرابعة مقتل عثمان رضي الله عنه والجمل وصفين

ثم قالت الخوارج رأينا هؤلاء المحدثين يجرحون الراوي بأدنى سبب ثم إنهم مع علمهم بهذه القوادح العظيمة يقبلون روايات الصحابة ويعملون بروايات القادح والمقدوح به فيه وهذا ليس من الدين في شئ بل هؤلاء المحدثون أتباع كل من عز وعبيد كل من غلب ويروون لأهل كل دولة في ملكهم فإن انقضت دولتهم تركوهم ومما رواه الكل أن إماما سيكون منهم وأنه سيملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا فروت الحسينية ذلك لنفسها وروت العباسية لنفسها حتى سموا ولد المنصور مهديا وحتى روت الأموية مثل ذلك في السفياني وسموا سليمان بن عبد الملك مهديا وحتى روت اليمانية في الأصغر القحطاني

إلى أن خرج ابن الأشعث على ذلك الطمع تارة ويزيد بن الملهب أخرى ورابعها قالوا أنا نعلم بالضرورة أن الرسول صلى الله عليه وسلم متى كان يشرع في الكلام فالصحابة ما كانوا يكتبون كلامه من أوله إلى آخره لفظا وإنما كانوا يسمعونه ثم يخرجون من عنده وربما رووا ذلك الكلام بعد ثلاثين سنة ومن المعلوم أن العلماء الذين تعودوا تلقف الكلام ومارسوه هذا وتمرنوا عليه لو سمعوا كلاما قليلا مرة واحدة فأرادوا إعادته في تلك الساعة بتلك الألفاظ من غير تقديم ولا تأخير لعجزوا عنه فكيف الكلام الطويل بعد المدة المتطاولة من غير تكرار ولا كتابة

ومن أنصف قطع بأن هذه الأخبار التي رووها ليس شئ من ألفاظها لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم ثم من يعيد الكلام بعد هذه ال مدة لا يمكنه أن يعيد معناه بتمامه فإن الإنسان مظنة النسيان بل لا يعيد الا بعضه وإذا كان كذلك لزم القطع بسقوط الحجة عن هذه الألفاظ لا سيما وقد جربناهم فرأيناهم يذكرون الكلام الواحد في الواقعة الواحدة بروايات كثيرة مع زيادات ونقصانات ثم وأحسن الأحوال في ذلك أن نحمل ما قلناه من عدم حفظ الألفاظ وتغيير التقديم والتأخير بسبب طول المدة وكل ذلك يوجب القدح في هذه الأخبار والجواب اعلم أن اعتماد أصحابنا في هذا الباب على حجة واحدة وهي أن آيات القرآن دالة على سلامة أحوال الصحابة وبراءتهم من المطاعن وإذا كان كذلك وجب علينا أن نحسن الظن بهم إلى أن يقوم دليل قاطع

على الطعن فيهم وأما هذه المطاعن التي ذكرتموها فمروية رسول بالآحاد فإن فسدت رواية الآحاد فسدت هذه المطاعن وإن صحت فسدت هذه المطاعن أيضا فعلى كل التقديرات هذه المطاعن مدفوعة فيبقى الأصل الذي ذكرناه سليما وأما طعن الخوارج فهو بناء على أن تخصيص الكتاب بخبر الواحد لا يجوز وقد تقدم القول فيه وأما قولهم أن الظاهر أن هذه الألفاظ ليست ألفاظ الرسول عليه الصلاة والسلام قلت لما ثبت الظاهر من حال الراوي العدالة وقد أخبر بأنها ألفاظ الرسول صلى الله عليه وسلم وجب تصديقه فيه ظاهرا والله أعلم

القسم الثاني في الخبر الذي لا يقطع بكونه صدقا أو كذبا

القسم الثاني في الخبر الذي لا يقطع بكونه صدقا أو كذبا وفيه أبواب

الباب الأول في حجية خبر الآحاد

الباب الأول في إقامة الدليل على أنه حجة في الشرع اختلف الناس فيه فالأكثرون جوزوا التعبد به عقلا والأقلون منعوا منه عقلا أما المجوزون فمنهم من قال وقع التعبد به ومنهم من قال لم يقع التعبد به والذين قالوا وقع التعبد به اتفقوا عى أن الدليل السمعي دل عليه واختلفوا في ان الدليل العقلي هل دل عليه فذهب القفال وابن سريج منا وأبو الحسين البصري من المعتزلة إلى أن دليل العقل دل على وقوع التعبد به أما الجمهور منا ومن المعتزلة كأبي علي وأبي هاشم والقاضي عبد الجبار فقد اتفقوا على أن دليل التعبد به السمع فقط وهو قول أبي جعفر الطوسي من الإمامية

أما الذين قالوا لم يرد التعبد به فهم فرق ثلاث الأولى أنه لم يوجد ما يدل على كونه حجة فوجب القطع بأنه ليس بحجة والثانية أنه جاء في الأدلة السمعية ما يدل على أنه ليس بحجة والثالثة أن الدليل العقلي قائم على امتناع العمل به ثم إن الخصوم بأسرهم اتفقوا على جواز العمل بالخبر الذي لا تعلم صحته كما في الفتوى وفي الشهادة وفي الأمور الدنيوية لنا النص والإجماع والسنة المتواترة والقياس والمعقول أما النص فوجهان الأول قوله تعالى فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين وجه الاستدلال أن الله تعالى أوجب الحذر بإخبار الطائفة والطائفة ها هنا عدد لا يفيد قولهم العلم ومتى وجب الحذر باخبار عدد لا يفيد قولهم العلم فقد وجب العمل بالخبر الذي لا نقطع بصحته وإنما قلنا إنه أوجب الحذر عند إخبار الطائفة لأنه أوجب الحذر بإنذار الطائفة والإنذار هو الإخبار وانما قلنا أنه أوجب الحذر بإنذار الطائفة لقوله تعالى

ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون وكلمه لعل للترجي وذلك في حق الله تعالى محال وإذا تعذر حمله على ظاهره وجب حمله على المجاز وذلك لأن المترجي طالب للشئ فإذا كان الطلب لازما للترجي وجب حمل هذا اللفظ على الطلب فيلزم أن يكون الله طالبا للحذر وطلب الله تعالى هو الأمر فثبت أن الله تعالى أمر بالحذر عند انذار الطائفة وإنما قلنا إن الإنذار هو الإخبار لأنه عبارة عن الخبر المخوف والخبر داخل في الخبر المخوف فثبت أن الله تعالى أوجب الحذر عند إخبار الطائفة وإنما قلنا إن الطائفة ها هنا عدد لا يفيد قولهم العلم لأن كل ثلاثة فرقة والله تعالى أوجب على كل فرقة أن تخرج منها طائفة والطائفة من الثلاثة واحد أو اثنان وقول الواحد أو الإثنين لا يفيد العلم وإنما قلنا أنه تعالى لما أوجب الحذر عند خبر العدد الذي لا يفيد قولهم العلم وجب العمل بذلك الخبر لأن قوما إذا فعلوا فعلا وروي الراوي لهم خبرا يقتضي المنع من ذلك الفعل فإما أن يجب عليهم تركه عند سماع ذلك الخبر أو لا يجب فإن وجب فهو المراد من وجوب العمل بمقتضى ذلك الخبر وإذا ثبت وجوب العمل بمقتضى ذلك الخبر في هذه الصورة وجب العمل به في سائر الصور ضرورة أن لا قائل بالفرق

وإن لم يجب الترك لم يجب الحذر وذلك ينافي ما دلت الآية عليه من وجوب الحذر فإن قيل لا نسلم أنه تعالى أوجب الحذر عند انذار الطائفة وأما قوله تعالى لعلهم يحذرون قلنا سلمتم أنه لا يمكن حمله على ظاهره فلم قلتم إنه يجب حمله على ذلك المجاز ولم لا يجوز حمله على مجاز اخر لا بد فيه من الدليل سلمنا وجوب الحذر عند الإنذار لكن لا نسلم أن الإنذار هو الإخبار فإن الإنذار من جنس التخويف فنحن نحمل الآية على التخويف الحاصل من الفتوى بل هذا أولى لأنه أوجب التفقه لأجل الإنذار والتفقه إنما يحتاج إليه في الفتوى لا في الرواية فإن قلت الحمل على الفتوى متعذر لوجهين الأول أنا لو حملناه على الفتوى لاختص لفظ القوم بغير المجتهدين لأن المجتهد لا يجوز له العمل بفتوى المجتهد لكن التقييد غير جائز لأن الآية مطلقة في وجوب إنذار القوم سواء كانوا مجتهدين أو لم يكونوا كذلك أما لو حلمناه ولا على رواية الخبر لا يلزمنا ذلك لأن الخبر كما يروي لغير

المجتهد فقد يروي أيضا للمجتهد والثاني أن من شرب النبيذ فروى إنسان خبرا يدل على أن شاربة في النار فقد أخبره بخبر مخوف ولا معنى للإنذار إلا ذلك فصح وقوع اسم الإنذار على الرواية ثم بعد ذلك نقول لا يخلو إما ان لا يقع اسم الإنذار على الفتوى أو يقع فإن لم يقع فقد حصل الغرض من أن المراد من الانذار الرواية لا الفتوي وإن وقع لم يجز جعله حقيقة فيهما دفعا للاشتراك فوجب جعله حقيقة في القدر المشترك وهو الخبر المخوف وعلى هذا التقدير يكون متناولا للرواية والفتوى جميعا وذلك مما لا يضرنا قلت الجواب عن الأول أنه كما يلزم من حمل الإنذار على الفتوى تخصيص لفظ القوم بغير المجتهد يلزم من حمله على الرواية تخصيص لفظ القوم بالمجتهد لإجماعنا على أنه لا يجوز للعامي أن يستدل بالحديث فالتقييد لازم عليكم كما أنه لازم علينا فعليكم الترجيح ثم أنه معنا لأن غير المجتهد أكثر من المجتهد والتقييد كلما كان أقل كان أولى

وعن الثاني أنه إذا كان المراد من الإنذار القدر المشترك بين الفتوى والرواية والمأمور به إذا كان مشتركا فيه بين صور كثيرة كفى في الوفاء بمقتضى الأمر الاتيان بصورة واحدة من تلك الصور لأنه إذا كان المطلوب إدخال القدر المشترك بين الفتوى والرواية في الوجود وذلك المشترك يحصل في الفتوى فالقول بكون الفتوى حجة يكفي في العمل بمقتضى النص فلا تبقى للنص دلالة على وجوب العمل بالرواية سلمنا أن المراد من الانذار رواية الخبر فقط لكن لم لا يجوز أن يكون المراد رواية أخبار الأولين وكيفية ما فعل الله تعالى بهم لأن سماع أخبارهم يقتضي الاعتبار على ما قال الله تعالى لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب أو يكون المراد منه التنبيه على وجوب النظر والاستدلال سلمنا أن الآية تقتضي وجوب الحذر عند خبر الطائفة فلم قلت إن الطائفة اسم لعدد لا يفيد قولهم العلم قوله لأن كل ثلاثة فرقة والخارج من الثلاثة واحد أو اثنان قلنا لا نسلم أن كل ثلاثة فرقة فما الدليل ثم إن الذي يدل على بطلانه وجهان الأول أنه يقال الشافعية فرقة واحدة لا فرق ولو كان كل ثلاثة فرقة لما

كان الشافعية واحدة بل فرقا الثاني أنه تعالى أوجب على كل فرقة أن تخرج منها طائفة للتفقه ولو كان كل ثلاثة فرقة لوجب أن يخرج من كل ثلاثة واحد وذلك باطل بالاتفاق سلمنا إن الطائفة اسم لعدد لا يفيد قولهم العلم فلم قلت إنه يقتضي وجوب الحذر بقول عدد لا يفيد قولهم العلم بيانه أن الطائفة عندكم اسم للواحد أو الإثنين وقوله ولينذوا قومهم ض مير جمع وأقل الجمع ثلاثة على ما تقدم فإذن قوله ولينذروا ليس عائدا إلى كل واحد من تلك الطوائف بل إلى مجموعها فلم قلت إن مجموع تلك الطوائف ما بلغوا حد التواتر سلمنا أن الآية تقتضي وجوب الحذر عند خبر من لا يفيد قولهم العلم فلم قلت إنها تقتضي وجوب العمل بذلك الخبر فإنا إنما نوجب عليهم ذلك الترك للاحتياط حتى أنه لو كان عاميا وجب عليه الرجوع إلى

المفتي فإن أذن له جاز له العود اليه وإن كان مجتهدا نظر في سائر الأدلة فإن وجد فيها ما يقتضي المنع من ذلك الفعل امتنع منه وإلا جاز له العود إليه والجواب قوله لم قلت إنه يفيد وجوب الحذر قلنا لثلاثة أوجه الأول أنه لا يجوز حمله على ظاهره فوجب حمله على الأمر به قوله لم قلت ليس ها هنا مجاز اخر قلت لأن الأصل عدم المجاز فإذا وجد هذا المجاز الواحد فالظاهر عدم سائر المجازات الثاني أن قوله تعالى لعلهم يحذرون يقتضي إمكان تحقق الحذر في حقهم والحذر هو التوقي من المضرة والفعل الذي يقتضي خبر الواحد المنع منه قد لا يكون مضرا في الدنيا فلا بد وأن يكون مضرا في الآخرة وإلا لم يكن الحذر ممكنا ولا معنى لمضره لم الآخرة إلا العقاب فإذا كان هو بحال يحذر عنه وجب أن يكون بحال يترتب العقاب على فعله ولا معنى لقولنا خبر الواحد حجة إلا هذا القدر

الثالث أن قوله تعالى لعلهم يحذرون إن لم يقتض وجوب الحذر فلا أقل من أن يقتضي حسن الحذر وذلك يقتضي جواز العمل بخبر الواحد والخصم ينكره فصار محجوجا به قوله لم لا يجوز أن يكون المراد الفتوى قلنا للوجهين المذكورين أحدهما أنا لو حملناه على الفتوى لزم تخصيص القوم بغير المجتهد قوله ولو حملناه على الرواية لزم تخصيصه بالمجتهد قلنا لا نسلم فإن الخبر كما يروي للمجتهد فقد يروى لغير المجتهد بلى لا يجوز لغير المجتهد أن يتمسك به ولكن ينتفع به من وجوه أخر منها أنه ينزجر عن فعله ويصير ذلك داعيا له إلى الرجوع إلى المفتي وربما بحث عنه واطلع على معناه الوجه الثاني انا نحمله على القدر المشترك قوله يكفي في العمل به ثبوته في صورة واحدة قلنا الجواب عنه من وجهين

الأول أنه رتب وجوب الحذر على مسمى الإنذار الذي هو القدر المشترك فوجب كون هذا القدر المشترك علة للحكم فوجب أن يكون الحكم ثابتا أينما ثبت هذا المسمى والثاني أن قبل ورود هذه الآية إما أن يقال كان الأمر بقبول الفتوى واردا أو ما كان واردا فإن كان واردا لم يجز حمل هذه الآية عليه وإلا كان ذلك تكريرا من غير فائدة وإن قلنا إنه ما كان واردا وجب حمله على الأمر بالصورتين وإلا تطرق الإجمال إلى الآية وهو خلاف الأصل قوله لم لا يجوز أن يكون المراد من الانذار رواية أخبار الأولين قلنا الجواب عنه كما تقدم على السؤال الأول قوله لم قلت كل ثلاثة فرقة قلنا لأن الفرقة في أصل اللغة فعلة من فرق أو فرق كالقطعة من قطع أو قطع وكل شئ حصل الفرق أو التفريق فيه كان فرقة كما أن كل ما حصل القطع أو التقطيع فيه كان قطعة ولذلك من شق الخشبة يقال فرقها فرقا

وإذا كان كذلك فالفرقة في اللغة تقع على كل واحد من الأشخاص حقيقة إلا أنا خصصناها في هذه الآية بالثلاثة حتى يمكن خروج الطائفة عنها فوجب أن تبقى حقيقة في الثلاثة قوله أصحاب الشافعي رضي الله عنه فرقة واحدة قلنا ذلك لأنهم بحسب المذهب امتازوا عن غيرهم فلأجل هذا الافتراق سموا فرقة واحدة أما بحسب الشخص فهم فرق قوله إن الله تعالى أوجب على كل فرقة أن تخرج منها طائفة للتفقه ولا يجب ذلك على كل ثلاثة قلنا ترك العمل به في حق هذا الحكم فيبقى معمولا به في الباقي قوله لم لا يجوز أن يكون المراد أن ينذر مجموع الطوائف قومهم قلنا هذا باطل لقوله إذا رجعوا إليهم لأنه لا يجوز أن يقال فلان رجع إلى ذلك الموضع إلا بعد أن كان فيه ومعلوم أن الطائفة من كل فرقة ما كانت في غير تلك الفرقة ولا يمكن أن يقال كل طائفة ترجع إلى كل الفرق بل إنما يمكن رجوعها إلى فرقتها الخاصة قوله الضمير في قوله ولينذروا ليس ضمير الواحد والإثنين قلنا هذا لا يضرنا لأنه تعالى قابل مجموع الطوائف بمجموع

القوم فيتوزع البعض على البعض قوله لم قلت إنه يدل على وجوب الترك بذلك الخبر قلنا لما تقدم قوله يجب عليه الترك في الحال ليستفتى إن كان عاميا وليتأمل إن كان مجتهدا قلنا هذا باطل لأن العامي لا يجوز له الإقدام على الفعل إلا بعد أن يعلم أولا جواز ذلك الفعل من جهة المفتي ومتى علم الفتوى لم يجب عليه الاستفتاء مرة أخرى وأما المجتهد فإن كان خبر الواحد حجة عليه فهو المطلوب وإن لم يكن دليلا لم يجب عليه التوقف لانعقاد الإجماع على أن الذي لا يكون دليلا لا يمنعه عن فعل ما ثبت له جواز فعله بدليل متقدم المسلك الثاني لو وجب في خبر الواحد إن لا يقبل لما كان كون خبر الفاسق غير مقبول معللا بكونه فاسقا لكنه معلل به فلم يجب في خبر الواحد إن لا يقبل فإذا

لم يجب أن لا يقبل جاز قبوله في الجملة وهو المقصود بيان الملازمة أن كون الراوي الواحد واحدا أمر لازم لشخصه المعين يمنع خلوه عنه عقلا وأما كونه فاسقا فهو وصف عرضي يطرى ويزول واذا اجتمع في المحل وصفان أحدهما لازم والآخر عرضي مفارق وكان كل واحد منهما مستقلا باقتضاء الحكم كان الحكم لا محالة مضافا إلى اللازم لأنه كان حاصلا قبل حصول المفارق وموجبا لذلك الحكم وحين جاء المفارق كان ذلك الحكم حاصلا بسبب ذلك اللازم وتحصيل الحاصل مرة أخرى محال فيستحيل إسناد ذلك الحكم إلى ذلك المفارق مثاله يستحيل أن يقال الميت لا يكتب لعدم الدواة والقلم عنده لأن الموت لما كان وصفا لازما مستقلا بامتناع صدور الكتابة عنه لم يجز تعليل امتناع الكتابة بالوصف العرضي وهو عدم الدواة والقلم وإنما قلنا إنه معلل به لقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أمر بالتثبت مرتبا على كونه فاسقا والحكم المرتب على الوصف المشتق المناسب يقتضي كونه معللا بما منه الاشتقاق ولا شك في أن الفسق يناسب عدم القبول فثبت بما ذكرنا أن خبر الواحد لو

وجب أن لا يقبل لامتنع تعليل أن لا يقبل خبر الفاسق بكونه فاسقا وثبت أنه معلل به فخبر الواحد لا يجب أن لا يقبل فهو إذن مقبول في الجملة ومن الناس من تمسك بالآية على وجه آخر وهو أنه تعالى أمر بالتثبت بشرط أن يكون الخبر صادرا عن الفاسق والمشروط بالشئ عدم عند عدم الشرط فوجب أن لا يجب التثبت إذا لم يوجد مجئ الفاسق فإذا جاء غير الفاسق ولم يتثبت فإما أن يجزم بالرد وهو باطل وإلا كان خبر العدل أسوأ حالا من خبر الفاسق وهو باطل بالإجماع فيجب القبول وهو المطلوب المسلك الثالث السنة المتواترة وهو ما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يبعث رسله إلى القبائل لتعليم الأحكام مع أن كل واحد من أولئك الرسل ما كانوا بالغين حد التواتر واعترض أبو الحسين البصري على هذه الدلالة بسؤال واقع فقال كان يبعثهم إلى القبائل للفتوى أو لرواية الخبر الأول مسلم والثاني ممنوع

بيانه أن العوام في القبائل كانوا أكثر من المجتهدين فكانت حاجتهم إلى الفتوى أشد من حاجتهم إلى من يروى لهم الخبر ليحتجوا به وبالجملة هب أن هذا الاحتمال ليس أظهر لكن لا بد من قيام الدلالة على قطع هذا الإحتمال ليتم الاستدلال المسلك الرابع الإجماع العمل بخبر الواحد الذي لا يقطع بصحته مجمع عليه بين الصحابة فيكون العمل به حقا إنما قلنا إنه مجمع عليه بين الصحابة لأن بعض الصحابة عمل بالخبر الذي لا يقطع بصحته ولم ينقل عن أحد منهم إنكار على فاعله

وذلك يقتضي حصول الإجماع وإنما قلنا إن بعض الصحابة عمل به لوجهين الأول وهو أنه روى بالتواتر أن يوم السقيفة لما احتج أبو بكر رضي الله عنه على الأنصار بقوله عليه الصلاة والسلام الأئمة من قريش مع أنه مخصص لعموم قوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم قبلوه ولم ينكر عليه أحد ولم يقل له أحد كيف تحتج علينا بخبر لا نقطع بصحته فلما لم يقل أحد منهم ذلك علمنا أن ذلك كان كالأصل المقرر عندهم الثاني الاستدلال بأمور لا ندعي التواتر في كل واحد منها بل في مجموعها وتقريره أن نبين أن الصحابة عملوا على وفق خبر الواحد ثم نبين أنهم إنما عملوا به لا بغيره أما المقام الأول فبيانه من وجوه الأول رجوع الصحابة إلى خبر الصديق في قوله عليه الصلاة والسلام

الأنبياء يدفنون حيث يموتون وفي قوله الأئمة من قريش وفي قوله نحن معاشر الأنبياء لا نورث وإلى كتابه في معرفة نصب الزكوات ومقاديرها الثاني روي أن أبا بكر رضي الله عنه رجع في توريث الجدة إلى خبر المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة ونقل عنه أيضا أنه قضى بقضية بين أثنين فأخبره بلال أنه عليه الصلاة والسلام قضى فيها بخلاف قضاءه فرجع اليه الثالث روي أن عمر رضي الله عنه كان يجعل في الأصابع نصف الدية ويفصل بينها فيجعل في الخنصر ستة وفي البصر تسعة وفي الوسطى والسبابة عشرة عشرة وفي الأبهام خمسة عشر فلما روي له في كتاب

عمرو بن حزم أن في كل أصبع عشرة رجع عن رأيه الرابع وقال في الجنين رحم اله امرأ سمع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين شيئا فقام إليه حمل بن مالك فأخبره بأن الرسول عليه الصلاة والسلام قضى فيه بغرة فقال عمر لو لم نسمع هذا لقضينا فيه بغيره

الخامس أنه كان لا يرى ثوريث حدثنا المرأة من دية زوجها فأخبره الضحاك أنه عليه الصلاة والسلام كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها فرجع إليه السادس تظاهرت الرواية أن عمر قال في المجوس ما أدري ما أصنع بهم فقال عبد الرحمن بن عوف أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول سنوا بهم سنة أهل الكتاب فأخذ منهم الجزية وأقر هم على دينهم

السابع أنه ترك العمل برأيه في بلاد الطاعون بخبر عبد الرحمن الثامن روي عن عثمان أنه رجع إلى قول فريعة بنت مالك أخت أبي سعيد الخدري حين قالت جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أستأذنه بعد وفاة زوجي في موضع العدة فقال صلى الله عليه وسلم امكثي في بيتك حتى تنقضي عدتك

ولم ينكر عليها الخروج للاستفتاء فأخذ عثمان بروايتها في الحال وفي أن المتوفى عنها زوجها تعتد في منزل الزوج ولا تخرج ليلا وتخرج نهارا إن لم يكن لها من يقوم بأحوالها التاسع اشتهر عن علي رضي الله عنه أنه كان يحلف الراوي وقبل رواية أبي بكر رضي الله عنه من غير حلف وأيضا قبل رواية المقداد بن الأسود في حكم المذي العاشر رجوع الجماهير إلى قوم عائشة رضي الله عنها في وجوب الغسل من

التقاء الختانين الحادي عشر رجوع الصحابة في الربا إلى خبر أبي سعيد الثاني عشر قال ابن عمر كنا نخابر أربعين سنة ولا نرى به بأسا حتى روى لنا رافع بن خديج نهيه عليه الصلاة والسلام عن المخابرة الثالث عشر قال أنس كنت أسقي أبا عبيدة وأبا طلحة وأبي بن كعب إذا أتانا آت فقال حرمت الخمر فقال أبو طلحة قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها فقمت فكسرتها

الرابع عشر اشتهر عمل أهل قباء في التحول عن القبلة بخبر الواحد الخامس عشر قيل لابن عباس رضي الله عنهما إن فلان يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس موسى بني اسرائيل فقال ابن عباس كذب عدو الله أخبرني أبي بن كعب قال خطب بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر موسى والخضر بشئ يدل على أن موسى صاحب الخضر هو موسى بني اسرائيل السادس عشر عن أبي الدرداء أنه لما باع معاوية شيئا من أواني الذهب والفضة بأكثر

من وزنها قال أبو الدرداء سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنه فقال معاوية لا أرى به بأسا فقال أبو الدرداء من يعذرني من معاوية أخبره عن الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يخبرني عن رأيه لا أساكنك بأرض أبدا فهذه الأخبار قطرة من بحر هذا الباب ومن طالع كتب الأخبار وجد فيها من هذا الجنس ما لا حد له ولا حصر وكل واحد منها وإن لم يكن متواترا لكن القدر المشترك فيه بين الكل وهو العمل على وفق الخبر الذي لا تعلم صحته معلوم فصار ذلك متواترا في المعنى وأما المقام الثاني وهو أنهم انما عملوا على وفق هذه الأخبار لأجلها فبيانه من وجهين الأول لو لم يعلموا لأجلها بل لأمر آخر إما لاجتهاد تجدد لهم أو ذكروا شيئا سمعوه من الرسول عليه الصلاة والسلام لوجب من جهة العادة والدين أن يظهروا ذلك أما العادة فلأن الجمع العظيم إذا اشتد اهتمامهم بأمر قد التبس ثم زال اللبس عنهم فيه لدليل سمعوه أو لرأي حدث فيه فإنه لا بد لهم من إظهار ذلك الدليل والاستبشار بسبب الظفر به والتعجب من ذهاب ذلك عليهم فإن جاز في الواحد أن لا يظهر له ذلك لم يجز في الكل

أما الدين فلأن سكوتهم عن ذكر ذلك الدليل وعملهم عند الخبر بموجبه يوهم أنهم عملوا لأجله كما يدل عملهم بموجب اية سمعوها على أنهم عملوا لأجلها وايهام الباطل غير جائز كما أنه لو قال لهم قائل احكموا في هذه المسألة بمجرد شهوتي فتذكروا عند ذلك خبرا سمعوه من الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه لا يحسن من جهة الدين أن لا يبينوا أنهم إنما حكموا لذلك الدليل لا لشهوة ذلك القائل الثاني أن طلب أبي بكر من المغيرة رضي الله عنهما شاهدا في إرث الجدة دليل على أنه كان يرى أن الحكم متعلق بروايتهما ولأن عمر رضي الله عنه قال في الجنين لولا هذا لقضينا فيه برأينا وترك رأيه في دية الأصابع بالخبر الذي سمعه وصرح ابن عمر برجوعهم عن المخابرة بخبر رافع وصرحوا بأنهم رجعوا إلى وجوب الغسل بالتقاء الختانين لأجل قول عائشة رضي الله عنها فثبت بمجموع هذين المقامين إن بعض الصحابة عمل بالخبر الذي لم يعلم صدقه وأما بيان المقدمتين الباقيتين وهو أنه لم يظهر من أحد منهم الإنكار وأنه متى كان كذلك انعقد الإجماع فتقريره سيأتي إن شاء الله تعالى في مسألة القياس فإن قيل لا نسلم عمل بعض الصحابة على وفق الخبر الذي لم تعلم صحته

أما دعوى الضرورة فممنوعة قال المرتضى إن الضرورة لا يختص بها البعض مع المشاركة في طريقها والإمامية وكل مخالف في خبر الواحد من النظام وجماعة من شيوخ المتكلمين يخالفونهم فيما ادعوا فيه الضرورة مع الاختلاط بأهل الأخبار ويقسمون على انهم لا يعلمون ذلك ولا يظنونه فإن كذبتموهم ابن فعلتم ما لا يحسن وكلموكم قوله بمثله وأما الاستدلال فضعيف لأن الروايات التي ذكرتموها وإن بلغت المائة والمائتين فهي غير بالغة إلى حد التواتر فلا تفيد العلم ويرجع حاصله إلى إثبات خبر الواحد بخبر الواحد سلمنا صحة هذه الروايات لكن لا نسلم أنهم عملوا بتلك الأخبار ولم لا يجوز أن يقال إنهم لما سمعوا تلك الأخبار تذكروا دليلا دلهم على تلك الأحكام قوله لو كان كذلك لوجب إظهاره من جهة الدين والعادة قلنا لا نزاع في أن ما ذكرتموه هو الاحتمال الأظهر لكن القطع بوجوبه على كل حال ممنوع والمسألة قطعية فلا يجوز بناؤها على مقدمة ظنية سلمنا عمل بعض الصحابة بهذه الأخبار لكن لا نسلم سكوت الكل عن الإنكار فما الدليل عليه ثم نقول إنهم أنكروه في صور إحداها توقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوبل خبر ذي اليدين إلى أن شهد له أبو بكر

وعمر رضي الله عنهما وثانيها رد أبي بكر خبر المغيرة في توريث الجدة حتى أخبره محمد بن مسلمة وثالثها رد أبو بكر وعمر خبر عثمان فيما رواه من إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في رد الحكم بن أبي العاص حتى طالباه بمن يشهد معه به

ورابعها رد عمر رضي الله عنه خبر أبي موسى الأشعري حتى شهد له أبو سعيد الخدري وخامسها رد عمر خبر فاطمة بنت قيس

وسادسها رد علي خبر أبي سنان الأشجعي في قصة بروع بنت واشق وأيضا فقد ظهر عنه تحليف الرواة وسابعها رد عائشة خبر بن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه وثامنها أن عمر منع أبا هريرة من الرواية

سلمنا سكوتهم عن الإنكار لكن السكوت إنما يدل على الإجماع إذا صدر عن الرضا فلم قلت إن الأمر كذلك بل ها هنا احتمالات أخر سوى الرضا من التقية والخوف سلمنا إجماعهم على قبول الخبر الذي لا يعلم صحته لكن دل على أنهم قبلوا جميع أنواع الخبر الذي يكون كذلك أو على أنهم قبلوه في الجملة والأول ظاهر الفساد والثاني يقدح في غرضكم لأنهم لما اتفقوا على قبول نوع من أنواع الخبر الذي لا تعلم صحته لم يلزم من إجماعهم على قبول ذلك النوع إجماعهم على قبول سائر الأنواع لاحتمال أن يأمر الله تعالى بالعمل بذلك النوع دون النوع الآخر ثم إنه لما لم ينقل إلينا ذلك النوع الذي أجمعوا على قبوله لم يعرف ذلك النوع فإذن لا نوع من أنواع خبر الواحد إلا ولا يدري أنه هل هو ذلك النوع الذي أجمعوا على قبوله أو غيره وإذا كان كذلك وجب التوقف في الكل سلمنا أن النوع الذي أجمعوا على العمل به معلوم فلم قلت إنه لما جاز لهم العمل بخبر الواحد جاز لنا بيانه أن الصحابة كانوا قد شاهدوا الرسول عليه الصلاة والسلام وعرفوا

مجاري كلامه ومناهج أموره وإشاراته وعرفوا أحوال أولئك الرواة في العدالة وعدمها في الأفعال الموجبة للعدالة والأفعال المنافية لها وإذا كان كذلك كان ظنهم بصدق تلك الأخبار وعدالة الرواة أقوى من ظن من لم يشاهد النبي صلى الله عليه وسلم ألبته ولا سمع كلامه ولم يشاهد حال أولئك الرواة فلم يعرف عدالتهم ولا فسقهم إلا بالروايات المتباعدة والوسائط الكثيرة وإذا كان كذلك فلم قلت إن انعقاد الإجماع على قبول الخبر الذي لا يقطع بصحته عند حصول الظن القوي في صحته يوجب قبوله عندما لا يحصل ذلك الظن القوي فإن قلت أن كل من قال بقبول بعض هذه الأنواع في بعض الأزمنة قال بقبوله في كل نوع وفي كل زمان قلت هذه الحجة إنما تنفع في زمان التابعين وقد بينا في أول باب الإجماع أنه لا سبيل إلى القطع بهذا الإجماع لكثرة المسلمين وتفرقهم في الشرق والغرب والجواب إما دعوى الضرورة فلما مر تقريرها من أنه نقل إلينا بالتواتر حضور أبي بكر مع الأنصار يوم السقيفة وتمسكه عليهم بقوله عليه الصلاة والسلام الأئمة من قريش ولم ينكر عليه أحد

فأما قول المرتضى إن النظام وجمعا من شيوخ المعتزلة والقاشاني والإمامية ينكرون ذلك ويقسمون بالله إنهم لا يجدون علما ولا ظنا قلنا رواية المذاهب لا تجوز بالتشهي واليمين والنظام ما أنكر ذلك بل سلم إلا أنه قال إجماع الصحابة ليس بحجة على ما حكيناه قبل ذلك وكذا قول سائر شيوخ المعتزلة وأما الإمامية فالأخباريون له منهم مع أن كثرة الشيعة في قديم الزمان ما كانت إلا منهم فهم لا يعولون في أصول الدين فضلا عن فروعه إلا على الأخبار التي يروونها عن أئمتهم وأما الأصوليون فأبو جعفر الطوسي وافقنا على ذلك فلم يبق ممن ينكر العلم هذا إلا المرتضى مع قليل من أتباعه فلا يستبعد اتفاق مثل هذا الجمع على المكابرة في الضروريات ومما يحقق ذلك أنه قال إنهم يقسمون بالله على انهم لا يعلمون بل لا يظنون ونحن نعلم بالضرورة أن هذه الروايات وإن تقاصرت عن العلم إلا أنها ما تقاصرت عن الظن فعلمنا أن غرض المرتضى مما ذكر محض المكابرة

قوله لم لا يجوز أن يقال إنهم عند سماع هذه الأخبار تذكروا دليلا آخر قلنا لما ذكرنا أن الدين والعادة يوجبان إظهار ذلك الدليل قوله ما الدليل عليه قلنا الرجوع فيه إلى العرف فإنا نعلم بالضرورة أن الجمع العظيم إذا اشتبه عليهم أمر من الأمور ثم أنهم عند سماع شئ يوهم أنه هو الدليل تذكروا شيئا اخر هو الدليل حقيقة فإنه يستحيل اتفاقهم بأسرهم على السكوت عن ذكر ذلك الدليل ورفع ذلك الوهم الباطل قوله من الصحابة من رد خبر الواحد قلنا الجواب عنه من وجهين الأول أن الذين نقلتم عنهم أنهم لم يقبلوا خبر الواحد هم الذين نقلنا عنهم أنهم قبلوا فلا بد من التوفيق وما ذاك إلا أن يقال إنهم قبلوا خبر الواحد إذا كان مع شرائط مخصوصة وردوها عند عدم تلك الشرائط الثاني أن الروايات التي ذكرتموها كما دلت على ردهم خبر الواحد دلت على قبولهم خبر الإثنين والثلاثة ونحن لم ندع في هذا المقام إلا قبول الخبر الذي لا تقطع بصحته

فأما الأسئلة الثلاثة الأخيرة فالجواب عنها سيأتي في مسألة القياس إن شاء الله تعالى المسلك الخامس القياس أجمعوا على أن الخبر الذي لا يقطع بصحته مقبول في الفتوى والشهادات فوجب أن يكون مقبولا في الروايات والجامع تحصيل المصلحة المظنونة أو دفع المفسدة المظنونة بل الروايات أولى بالقبول من الفتوى لأن الفتوى لا تجوز إلا إذا سمع المفتي دليل ذلك الحكم وعرف كيفية الاستدلال به وذلك دقيق صعب يغلط فيه الأكثرون أما الرواية فلا يحتاج فيها إلا إلى السماع فإذن الرواية أحد أجزاء الفتوى فإذا كانت الفتوى مقبولة من الواحد فلأن تكون الرواية مقبولة كان أولى فإن قيل هذا قياس وأنه لا يفيد اليقين على ما تقدم ثم نقول الفرق بين الفتوى والشهادة وقبول خبر الواحد من وجهين الأول وهو أن العمل بخبر الواحد يقتضي صيرورة ذلك الحكم شرعا

عاما في حق كل الناس والعمل بالشهادة والفتوى ليس كذلك ولا يلزم من تجويز العمل بالظن الذي قد يخطئ وقد يصيب في حق الواحد تجويز العمل به في حق عامة الخلق الثاني العمل بالفتوى ضروري لأنه لا يمكن تكليف كل واحد في كل واقعة بالاجتهاد وكذا الشهادة ضرورية في الشرع لأجل تمييز المحق عن الباطل () أما العمل بخبر الواحد فغير ضروري لأنا إن وجدنا في المسألة دليلا قاطعا عملنا به وإلا رجعنا إلى البراءة الأصلية ولا يلزم من جواز العمل بالظن عند الضرورة جواز العمل به لا عند الضرورة وأنه قياس فاسد والجواب أما السؤال الأول فحق وأما الفرق الأول فملغي ذلك بشرعية أصل الفتوى فإنه أمر لكل باتباع الظن وأما الفرق الثاني فضعيف لأنه لا ضرورة في الرجوع إلى الشهادة والفتوى لإمكان الرجوع إلى البراءة الأصلية

المسلك السادس دليل العقل وهو أن العمل بخبر الواحد يقتضي دفع ضرر مظنون فكان العمل به واجبا بيان المقدمة الأولى أن الراوي العدل إذا أخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أمر بهذا الفعل حصل ظن أنه وجد الأمر وعندنا مقدمة يقينية أن مخالفة الأمر سبب لاستحاق محمد العقاب فحينئذ يحصل من ذلك الظن وذلك العلم ظن أنا لو تركنا قوله لصرنا مستحقين للعقاب فوجب أن يجب العمل به لأنه إذا حصل الظن الراجح والتجويز المرجوح فإما أن يجب العمل بهما وهو محال أو يجب تركهما وهو محال أو يجب ترجح المرجوح على الراجح وهو باطل بضرورة العقل او ترجيح الراجح على المرجوح وحينئذ يكون العمل بمقتضى خبر الواحد واجبا واعلم أن هذه الطريقة يتمسك بها في مسألة القياس ونستقصي إلى الكلام فيها سؤالا وجوابا إن شاء الله تعالى

وأما المنكرون فمنهم من عول على العقل ومنهم من عول على النقل أما العقل فمن وجوه أحدها لو جاز أن يقول الله تعالى مهما غلب على ظنكم صدق الراوي فاعملوا بمقتضى خبره جاز أن يقول الله تعالى أيضا مهما غلب على ظنكم صذق كان المدعي للرسالة فاقبلوا شرعه وأحكامه لأنا في كلتا الصورتين نكون عاملين بدليل قاطع وهو إيجاب الله تعالى علينا العمل بالظن أو إيجاب العقل علينا ذلك ولما لم يجز ذلك هناك فكذا ها هنا وثانيها لو جاز التعبد بأخبار الآحاد في الفروع لجاز التعبد بها في الأصول حتى يكتفي في معرفة الله تعالى بالظن وثالثها الشرعيات مصالح والخبر الذي يجوز كذبه لا يمكن التعويل عليه في تحصيل المصالح فإن قلت لم لا يجوز أن تكون المصلحة هي إيقاع ذلك الفعل المظنون قلت كون الفعل مصلحة إما أن يكون بسبب ذلك الظن أولا بسببة

والأول باطل لأنه لو جاز أن يوثر ظننا في صيرورة ما ليس بمصلحة مصلحة لجاز أن يؤثر ظننا بمجرد التشهي في ذلك حتى يحسن من الله تعالى أن يقول أطلقت لك في أن تحكم بمجرد التشهي من غير دليل ولا أمارة ومعلوم أنه باطل وأما الثاني فنقول إذا كان كون الفعل مصلحة ليس تابعا لظننا فيجوز أن يكون الظن مطابقا وأن لا يكون فيكون الإذن في العمل بالظن إذنا في فعل ما لا يجوز فعله وإنه غير جائز وأما المعولون أو على النقل فقد تمسكوا بقوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون إن الظن لا يغني من الحق شيئا والجواب عن الوجوه العقلية أنها منقوضة بالعمل بالظن في الفتوى والشهادة والأمور الدنيوية فان من أخبر أن هذا الطعام مسموم وحصل ظن صدقه فإنه لا يجوز تناوله ثم إنا نطالبهم فيها بالجامع العقلي اليقيني ثم ببيان امتناع الجامع

وأيضا ينتقض بتعويل) أهل العالم على الظن في أمر الأغذية والأشربة والعلاجات والأسفار والأرباح وأما التمسك بالآيات فسيأتي الجواب عنها في القياس إن شاء الله

الباب الثاني في شرائط العمل بالخبر الذي لا يقطع بكونه صدقا أو كذبا

الباب الثاني في شرائط العمل بهذه الأخبار وهذه الشرائط إما أن تكون معتبرة في المخبر أو المخبر عنه أو الخبر القسم الأول في المخبر وهو مرتب على فصول ثلاثة الفصل الأول في الأمور التي يجب وجودها حتى يحل للسامع أن يقبل روايته والضابط فيه كونه بحيث يكون اعتقاد صدقه راجحا على اعقاد عبد كذبه ثم نقول تلك الأمور خمسة الأول أن يكون عاقلا فإن المجنون والصبي غير المميز لا يمكنه الضبط والاحتراز عن الخلل والثاني أن يكون مكلفا وفيه مسألتان

المسألة الأولى في رواية الصبي

المسألة الأول رواية الصبي غير مقبولة لثلاثة أوجه الأول أن رواية الفاسق لا تقبل فأولى أن لا تقبل رواية الصبي فإن الفاسق يخاف الله تعالى والصبي لا يخاف الله تعالى ألبتة الثاني أنه لا يحصل الظن بقوله فلا يجوز العمل به كالخبر عن الأمور الدنيوية الثالث الصبي إن لم يكن مميزا لا يمكنه الاحتراز عن الخلل وإن كان مميزا علم أنه غير مكلف فلا يحترز عن الكذب فإن قلت أليس يقبل قوله في إخباره عن كونه متطهرا حتى يجوز الاقتداء به في الصلاة قلت ذلك لأن صحة صلاة المأموم غير موقوفة على صحة صلاة الإمام

المسألة الثانية في أداء ما تحمله الصبي بعد البلوغ

المسألة الثانية إذا كان صبيا عند التحمل بالغا عند الرواية قبلت روايته لوجوه أربعة الأول إجماع الصحابه فإنهم قبلوا رواية ابن عباس وابن الزبير والنعمان بن بشير رضي الله عنهم من غير فرق بين ما تحملوه قبل البلوغ أو بعده الثاني إجماع الكل على إحضار الصبيان مجالس الرواية الثالث أن إقدامه على الرواية عند الكبر يدل ظاهرا على ضبطه للحديث الذي سمعه حال الصغر الرابع أجمعنا على أنه تقبل منه الشهادة التي تحملها حال الصغر فكذا الرواية والجامع أنه حال الأداء مسلم عاقل بالغ يحترز من الكذب الشرط الثالث أن يكون مسلما

المسألة الأولى في رواية الكافر

وفيه مسألتان المسألة الأولى الكافر الذي لا يكون من أهل القبلة أجمعت الأمة على أنه لا تقبل روايته سواء علم من دينه المبالغة في الاحتراز عن الكذب أو لم يعلم المسألة الثانية المخالف من أهل القبلة إذا كفرناه كالمجسم وغيره هل تقبل روايته أم لا الحق أنه إن كان مذهبه جواز الكذب لم تقبل روايته وإلا قبلناها وهو قول أبي الحسين البصري وقال القاضي أبو بكر والقاضي عبد الجبار لا تقبل روايتهم لنا أن المقتضي للعمل به قائم ولا معارض فوجب العمل به بيان أن المقتضي قائم أن اعتقاده تحريم الكذب يزجره عن الإقدام عليه فيحصل ظن صدقه فيجب العمل به على ما بيناه وبيان أنه لا معارض أنهم أجمعوا على إن الكافر الذي ليس من أهل القبلة لا تقبل روايته وذلك الكفر منتف ها هنا

واحتج أبو الحسين بأن كثيرا من أصحاب الحديث قبلوا أخبار سلفنا كالحسن وقتادة وعمرو بن عبيد مع علمهم بمذهبهم وإكفارهم من يقول بقولهم واحتج المخالف بالنص والقياس أما النص فقوله تعالى إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أمر بالتثبت عند نبأ الفاسق وهذا كافر فوجب التثبت عند خبره وأما القياس فأجمعنا على إن الكافر الذي لا يكون من أهل القبلة لا تقبل روايته فكذا هذا الكافر والجامع أن قبول الرواية تنفيذ لقوله على كل المسلمين وهو منصب شريف والكفر يقتضي الإذلال وبينهما منافاة أقصى ما في الباب أن يقال هذا الكافر جاهل بكونه كافرا لكنه لا يصلح عذرا لأنه ضم إلى كفره جهلا اخر وذلك لا يوجب رجحان حاله على الكافر الأصلي والجواب عن الأول أن اسم الفاسق في عرف الشرع مختص بالمسلم المقدم

الشرط الرابع العدالة

على الكبيرة وعن الثاني الفرق بين الموضعين أن كفر الخارج عن الملة أعظم من كفر صاحب التأويل فقد رأينا الشرع فرق بينهما في أمور كثيرة مع ظهور الفرق لا يجوز الجمع الشرط الرابع العدالة وهي هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى

النوع الأول في أحكام العدالة

والمروءة جميعا حتى تحصل ثقة النفس بصدقه ويعتبر فيها الاجتناب عن الكبائر وعن بعض الصغائر كالتطفيف في الحبة وسرقة باقة من البقل وعن المباحاث عليه القادحة في المروءة كالأكل في الطريق والبول في الشارع وصحبة الأراذل والإفراط في المزاح والضابط فيه أن كل ما لا يؤمن معه جرأته على الكذب ترد به الرواية وما لا فلا ويتفرع على هذا نوعان من الكلام النوع الأول في أحكام العدالة وفيه مسائل المسألة الأولى الفاسق اذا أقدم على الفسق فإن علم كونه فسقا لم تقبل روايته بالإجماع وإن لم يعلم كونه فسقا فكونه فاسقا إما أن يكون مظنونا أو مقطوعا فإن كان مظنونا قبلت روايته بالاتفاق قال الشافعي رضي الله عنه أقبل شهادة الحنفي وأحده إذا شرب النبيذ

وإن كان مقطوعا به قبلت روايته أيضا قال الشافعي رضي الله عنه أقبل رواية أهل الأهواء إلا الخطابية من الرافضة لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم

المسألة الثانية في الكلام عن المخالف

وقال القاضي أبو بكر لا تقبل لنا أن ظن صدقه راجح والعمل بهذا الظن واجب والمعارض المجمع عليه منتف فوجب العمل به واحتج الخصم بأن منصب الرواية لا يليق بالفاسق أقصى ما في الباب أنه جهل فسقه ولكن جهله بفسقه فسق آخر فإذا منع أحد الفسقين من قبول الرواية فالفسقان أبي أولى بذلك المنع والجواب أنه إذا علم كونه فسقا دل إقدامه عليه على اجترائه على المعصية بخلاف ما إذا لم يعلم ذلك المسألة الثانية المخالف الذي لا نكفره ولكن ظهر عناده لا تقبل روايته لأن المعاند يكذب مع علمه بكونه كذبا وذلك يقتضي جرأته على الكذب فوجب أن لا تقبل روايته

المسألة الثالثة في رواية المجهول

المسألة الثالثة قال الشافعي رضي الله عنه رواية المجهول غير مقبولة بل لا بد فيه من خبرة ظاهرة والبحث عن سيرته وسريرته وقال أبو حنيفة رحمه الله وأصحابه يكفي في قبول الرواية الإسلام بشرط سلامة الظاهر عن الفسق

لنا أوجه الأول الدليل ينفي العمل بخبر الواحد لقوله تعالى إن الظن لا يغني من الحق شيئا خالفناه في حق من اختبرناه لأن الظن هناك أقوى فيبقى في المجهول على الأصل الثاني الدليل ينفي جواز العمل بخبر الواحد إلا إذا قطعنا بأن الراوي ليس بفاسق ترك العمل به فيما غلب على ظننا أنه ليس بفاسق بسبب كثرة الاختبار فيبقى فيما عداه على الأصل

بيان الثاني أن عدم الفسق شرط جواز الرواية فوجب أن يكون العلم به شرطا لجواز الرواية وإنما قلنا أن عدم الفسق شرط جواز الرواية لقوله تعالى إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا وهو صريح في المنع من قبول رواية الفاسق وإنما قلنا إن عدم الفسق لما كان شرطا لجواز الرواية وجب ان يكون العلم به شرطا لجواز الرواية لأن الجهل بالشرط يوجب الجهل بالمشروط وبيان الفارق أن العدالة أمر كامن في الباطن لا اطلاع عليه حقيقة بل الممكن فيه الاستدلال بالأفعال الظاهرة وذلك وإن لم يفد العلم لكنه يفيد الظن ثم الظن الحاصل بعد طول الاختبار أقوى من الظن الحاصل قبله

وإذا كان كذلك لم يلزم من مخالفة الدليل عند وجود المعارض القوي مخالفته عند وجود المعارض الضعيف الثالث أجمعنا على أنه لما كان الصبا والرق والكفر وكونه محدودا في القذف مانعا من الشهادة لا جرم اعتبر في قبول الشهادة العلم بعدم هذه الأشياء ظاهرا فوجب أن يكون الأمر كذلك في العدالة والجامع الاحتراز عن المفسدة المحتملة الرابع إجماع الصحابة رضي الله عنهم على رد رواية المجهول رد عمر رضي الله عنه خبر فاطمة بنت قيس وقال كيف نقبل قول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت ورد علي رضي الله عنه خبر الأشجعي في المفوضة وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يحلف الراوي ثم أن أحدا من الصحابة ما أظهر الإنكار على ردهم وذلك يقتضي حصول الإجماع

واحتج المخالف بأمور أحدها أنه يقبل قول المسلم في كون اللحم لحم المذكى وفي كون الماء في الحمام طاهرا وفي كون الجارية المبيعة رقيقة وفي كون المرأة غير مزوجة ولا معتدة وفي كونه على الوضوء إذا أم الناس وفي إخباره للأعمى عن القبلة فكذا ها هنا وثانيها أن الصحابة قبلت قول العبيد والصبيان والنسوان لأنهم عرفوهم لا بالاسلام وما عرفوهم بالفسق وثالثها أنه عليه الصلاة والسلام قبل شهادة الأعرابي على رؤية الهلال مع أنه لم يظهر منه إلا الإسلام

ورابعها قوله تعالى إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا والمعلق على شرط عدم عند عدم الشرط فما لم يعلم فسقه لم يجب التثبت والجواب عن الأول لم قلتم إنه لما قبل قول المجهول في تلك الصور قبل قوله في الرواية والفرق أن منصب الرواية أعلى من تلك المناصب فإن ألغوا هذه الزيادة بإيماء قوله عليه الصلاة والسلام نحن نحكم بالظاهر قلنا ترك العمل بهذا الإيماء في الكفر والحرية فكذا ها هنا وعن الثاني لا نسلم أن الصحابة قبلت قول المجاهيل فإن هذا هو نفس المسألة وعن الثالث لا نسلم أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يعرف من حال ذلك الأعرابي إلا مجرد الاسلام وعن الرابع لما وجب التوقف عند قيام المفسق وجب أن نعرف أنه في نفسه

النوع الثاني في طريق معرفة العدالة

هل هو فاسق أم لا حتى يمكننا أن نعرف أنه هل يجب التوقف في قوله أم لا النوع الثاني في طريق معرفة العدالة والجرح وهو أمران احدهما الاختبار وثانيهما التزكية والمقصود ها هنا بيان احكام التزكية والجرح وفيه مسائل المسألة الأولى شرط بعض المحدثين العدد في المزكي والجارح في الرواية والشهادة وقال القاضي أبو بكر لا يشترط العدد في تزكية الشاهد ولا في تزكية الراوي وإن كان الأحوط في الشهادة الاستظهار بعدد المزكي وقال قوم يشترط في الشهادة دون الرواية وهو الأظهر لأن العدالة التي تثبت بها الرواية لا تزيد على نفس الرواية وشرط الشئ لا يزيد

المسألة الثانية في ذكر سبب الجرح

على أصله فالإحصان يثبت بقول اثنين وإن لم يثبت الزنا إلا بقول اربعة وكذلك نقول تقبل تزكية العبد والمرأة في الرواية كما يقبل قولهما المسألة الثانية قال الشافعي رضي الله عنه يجب ذكر سبب الجرح دون التعديل لأنه قد يجرح بما لا يكون جارحا لاختلاف المذاهب فيه وأما العدالة فليس لها إلا سبب واحد وقال قوم يجب ذكر سبب التعديل دون الجرح لأن مطلق الجرح

المسألة الثالثة في تعارض الجرح والتعديل

يبطل الثقة ومطلق التعديل لا يحصل الثقة لتسارع الناس إلى الثناء على الظاهر فلا بد من سبب وقال قوم لا بد من السبب فيهما جميعا أخذا بمجامع كلام الفريقين وقال القاضي أبو بكر لا يجب ذكر السبب فيهما جميعا لأنه إن لم يكن بصيرا بهذا الشأن لم تصح تزكيته وإن كان بصيرا فلا معنى للسؤال والحق أن هذا يختلف باختلاف أحوال المزكي فإن علمنا كونه عالما بأسباب الجرح والتعديل اكتفينا بإطلاقه وإن علمنا عدالته في نفسه ولم نعرف اطلاعه على شرائط الجرح والتعديل استخبرناه (عن أسباب الجرح والتعديل المسألة الثالثة إذا تعارض الجرح والتعديل قدمنا الجرح لأنه اطلاع على زيادة لم يطلع عليها المعدل ولا نفاها

المسألة الرابعة في مراتب التزكية

فإن نفاها بطلت عدالة المزكي إذا النفي لا يعلم اللهم إلا إذا جرحه بقتل انسان فقال المعدل رأيته حيا فها هنا يتعارضان وعدد المعدل إذا زاد قيل إنه يقدم على الجارح وهو ضعيف لأن سبب تقديم الجرح اطلاع الجارح على زيادة فلا ينتفي ذلك بكثرة العدد المسألة الرابعة للتزكية مراتب أربعة أعلاها أن يحكم بشهادته والثانية أن يقول هو عدل لأني عرفت منه كيت وكيت فإن لم يذكر السبب وكان عارفا بشروط العدالة كفى والثالثة أن يروي عنه خبرا واختلفوا في كونه تعديلا والحق أنه إن عرف من عادته أو بصريح قوله أنه لا يستجيز الرواية إلا عن عدل كانت الرواية تعديلا وإلا فلا إذ من عادة أكثرهم الرواية عن كل من سمعوه ولو كلفوا الثناء عليهم سكتوا فإن قلت لو عرفه بالفسق ثم روى عنه كان غاشا في الدين

المسألة الخامسة في ترك الحكم بشهادة الراوي

قلت إنه لم يوجب على غيره العمل به بل قلت سمعت فلانا يقول كذا وصدق فيه ثم لعله لم يعرفه بالفسق ولا بالعدالة فروى ووكل البحث إلى من أراد القبول والرابعة العمل بالخبر إن أمكن حملة على الاحتياط أو على العمل بدليل اخر وافق الخبر فليس بتعديل وإن عرف يقينا أنه عمل بالخبر فهو تعديل إذ لو عمل بخبر غير العدل لفسق المسألة الخامسة ترك الحكم بشهادته لا يكون جرحا في روايته وذلك لأن الرواية والشهادة مشتركتان في هذه الشرائط الأربعة أعني العقل والتكليف والاسلام والعدالة واختصت الشهادة بأمور ستة هي غير معتبرة في الرواية وهي عدم القرابة والحرية والذكورة والبصر والعدد والعداوة والصداقة فهذه الستة توثر في الشهادة لا في الرواية لأن الولد له أن يروي عن

الشرط الخامس الضبط

والده بالإجماع والعبد له أن يروي أيضا والضرير له أن يروي أيضا ذلك لأن الصحابة رووا عن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم مع أنهم في حقهن كالضرير الشرط الخامس أن يكون الراوي بحيث لا يقع له الكذب والخطأ وذلك يستدعي حصول أمرين أحدهما أن يكون ضابطا والآخر أن لا يكون سهوه أكثر من ذكره ولا مساويا له أما ضبطه فلأنه إذا عرف بقلة الضبط لم تؤمن الزيادة والنقصان في حديثه ثم هذا على قسمين أحدهما أن يكون مختل الطبع جدا غير قادر على الحفظ أصلا ومثل هذا الإنسان لا يقبل خبره ألبتة والثاني أن يقدر على ضبط قصار الآحاديث دون طوالها وهذا الإنسان يقبل منه

ما عرف كونه قادرا على ضبطه دون ما لا يكون قادرا عليه أما إذا كان السهو غالبا عليه لم يقبل حديثه لأنه يترجح أنه سها في حديثه وأما إذا استوى الذكر والسهو لم يترجح أنه ما سها والفرق بين أن لا يكون ضابطا وبين أن يعرض له السهو أن من لا يضبط لا يحصل الحديث حال سماعه ومن يعرض له السهو قد يضبط الحديث حال سماعه وتحصيله إلا أنه قد يشذ عنه بعارض السهو فإن قلت لم لا يجوز أن يقبل حديثه لأنه لو لم يكن ضبطه أو ضبطه ثم سها عنه لم يروه مع عدالته قلت عدالته تمنع من الكذب والخطأ عمدا لا سهوا فجاز أن يتصور مع عدالته فيما لم يضبطه أنه ضبطه وانه لم يسه فيما سها عنه فوجب أن لا يقبل حديثه

الفصل الثاني فيما يجب توفره حتى تحل الرواية للراوي

الفصل الثاني في الأمور التي يجب ثبوتها حتى يحل للراوي أن يروي الخبر اعلم ان لذلك مراتب فأعلاها أن يعلم أنه قرأه على شيخه أو حدثه به ويتذكر ألفاظ قراءته ووقت ذلك فلا شبهة في أنه يجوز له روايته والأخذ به وثانيها أن يعلم أنه قرأ جميع ما في الكتاب أو حدثه به ولا يتذكر ألفاظ قراءته ولا وقت ذلك فيجوز له روايته لأنه عالم في الحال أنه سمعه وثالثها أن يعلم أنه لم يسمع ذلك الكتاب ولا يظن أيظا أنه سمعه أو يجوز الأمرين تجويزا على السوية فلا تجوز له روايته لأنه لا يجوز له أن يخبر بما يعلم أنه كاذب فيه أو ظان أو شاك فيه ورابعها أن لا يتذكر سماعه ولا قراءته لما فيه لكنه يظن ذلك لما يرى من

خطه وها هنا اختلفوا فيه فعند الشافعي رضي الله عنه تجوز له روايته وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وقال أبو حنيفة رحمه الله لا تجوز لنا الإجماع والمعقول أما الإجماع فهو أن الصحابة رضي الله عنهم كانت تعمل على كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو كتابه لعمرو بن حزم من غير أن يقال إن راويا روى ذلك الكتاب لهم وإنما علموا ذلك لأجل الخط وأنه منسوب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاز مثله في سائر الروايات وأما المعقول فلأن الظن حاصل ها هنا والعمل بالظن واجب احتج أبو حنيفة رحمه الله بأنه إذا لم يعلم السامع لم يؤمن الكذب جوابه أنه يروي بحسب الظن وذلك يكفي في وجوب العمل

فيما اختلف في اشتراطه في الراوي

الفصل الثالث فيما جعل شرطا في الراوي مع أنه غير معتبر والضابط في هذا الباب كل خصلة لا تقدح في غالب الظن بصحة الرواية ولم يعتبر الشرع تحقيقها تعبدا فإنها لا تمنع من قبول الخبر وفيه مسائل المسألة الأولى رواية العدل الواحد مقبولة خلافا للجبائي فإنه قال رواية العدلين مقبولة وأما خبر العدل الواحد فلا يكون مقبولا إلا إذا عضده ظاهر أو عمل بعض الصحابة أو اجتهاد أو يكون منتشرا فيهم وحكى عنه القاضي عبد الجبار أنه لم يقبل في الزنا إلا خبر أربعة كالشهادة عليه

لنا وجهان الأول إجماع الصحابة عمل أبو بكر على خبر بلال وعمل عمر على خبر حمل بن مالك وعلى خبر عبد الرحمن في المجوس وعمل علي على خبره المقداد وعملت الصحابة على خبر أبي سعيد في الربا وعملت على خبر رافع ابن خديج في المخابرة وعلى خبر عائشة في التقاء الختانين وكان علي يقبل خبر أبي بكر رضي الله عنهم اجمعين فإن قلت لعلهم قبلوا ما قبلوه لأن الاجتهاد عضده قلت إنهم كانوا يتركون اجتهادهم بهذه الأخبار وكانوا لا يرون بالمخابرة بأسا حتى روى لهم رافع بن خديج نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها الثاني أن العمل بخبر الواحد العدل يتضمن دفع ضرر مظنون فيكون واجبا احتج الخصم بأمور أحدها أنه عليه الصلاة والسلام لم يقبل خبر ذي اليدين حتى شهد له أبو بكر وعمر رضي الله عنهم وثانيها أن الصحابة إعتبرت العدد فإن أبا بكر لم يقبل خبر المغيرة في الجدة حتى رواه معه محمد بن مسلمة

ولم يعمل عمر علي خبر أبي موسى في الاسئذان حتى رواه أبو سعيد الخذري ورد خبر فاطمة بنت قيس ورد أبو بكر وعمر خبر عثمان رضي الله عنهم أجمعين في رد الحكم بن العاص وثالثها قياس الرواية على الشهادة بل أولى لأن الرواية تقتضي شرعا عاما والشهادة شرعا خاصا فإذا لم تقبل رواية الواحد في حق الإنسان الواحد فلأن لا تقبل في حق كل الأمة كان أولى ورابعها الدليل ينفي العمل بالخبر المظنون لقوله تعالى إن الظن لا يغني من الحق شيئا ترك العمل به في خبر العدلين والعدل الواحد ليس في معناه لأن الظن هناك أقوى مما ها هنا فوجب أن يبقى على الأصل والجواب عن الأول أن ذلك إن دل فإنما يدل على اعتبار ثلاثة أبي بكر وعمر وذي اليدين رضي الله عنهم ولأن التهمة كانت قائمة هناك لأنها كانت واقعة في محفل عظيم والواجب فيها الاشتهار

وعن الثاني أن بينا أنهم قبلوا خبر الواحد وها هنا اعتبروا العدد فلا بد من التوفيق فنقول ما ذكرناه من الروايات يدل على أن العدد ليس بشرط في أصل الرواية وما ذكروه دل على أنهم طلبوا العدد لقيام تهمة في تلك الصور وعن الثالث أنه منقوض بسائر الأمور التي هي معتبرة في الشهادة لا في الرواية كالحرية والذكورة والبصر وعدم القرابة عن الرابع لا نسلم أن قول الله تعالى إن الظن لا يغني من الحق شيئا يمنع من التعلق بخبر الواحد فإنا لما علمنا أن الله تعالى أمرنا بالتمسك كان تمسكنا به معلوما لا مظنونا المسألة الثانية زعم أكثر الحنفية أن راوي الأصل إذا لم يقبل الحديث قدح ذلك في رواية الفرع والمختار أن نقول راوي الفرع إما أن يكون

جازما بالرواية أو لا يكون فإن كان جازما فالأصل إما أن يكون جازما بفساد الحديث أو بصحته أو لا يجزم بواحد منهما فإن كان الأول فقد تعارضا فلا يقبل الحديث ولأن قبول الحديث من الفرع لا يمكن إلا بالقدح في الأصل وذلك يوجب القدح في الحديث وأما الثاني فلا نزاع في صحته وأما الثالث فإما أن يقول الأغلب على ظني أني ما رويته أو الأغلب أني رويته أو الأمران على السواء أو لا يقول شيئا من ذلك ويشبه أن يكون الخبر في كل هذه الأقسام مقبولا لأن الفرع جازم ولم يوجد في مقابلته جزم يعارضه فلا يسقط به الاستدلال وإما اذا لم يكن الفرع جازما بل يقول أظن أني سمعته منك فإن جزم الأصل بأني ما رويته لك تعين الرد وان قال اظن أني ما رويته لك تعارضا والأصل العدم وإن ذهب إلى سائر الأقسام فالأشبه قبوله والضابط أنه حيث يكون قول الأصل معادلا بقول الفرع

تعارضا وحيث ترجح أحدهما على الآخر فالمعتبر هو الراجح واحتج المانعون مطلقا بأن الدليل ينفي قبول خبر الواحد فالفناه ما فيما إذا لم يوجد هذا المعنى لأن الظن هناك فيبقى فيما عداه على الأصل والجواب ما تقدم المسألة الثالثة لا يشترط كون الراوي فقيها سواء كانت روايته موافقه للقياس أو مخالفة له خلافا لأبي حنيفة رحمه الله فيما يخالف القياس لنا الكتاب والسنه والعقل أما الكتاب فقوله تعالى إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا فوجب أن لا يجب التبين في غير الفاسق سواء كان عالما أو جاهلا

وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم نضر الله أمرءا سمع مقالتي فوعاها إلى قوله فرب حامل فقه ليس بفقيه وأما العقل فهو أن خبر العدل يفيد ظن الصدق فوجب العمل به لما تقدم من أن العمل بالظن واجب واحتج الخصم بوجهين الأول أن الدليل ينفي جواز العمل بخبر الواحد خالفناه إذا كان الراوي فقيها لأن الاعتماد على روايته أوثق الثاني أن الأصل أن لا يرد الخبر على مخالفة القياس والأصل أيضا

صدق الراوي فإذا تعارضا تساقطا ولم يجز التمسك بواحد منهما وأيضا فبتقدير صدق الراوي لا يلزم القطع بكون ذلك الخبر حجة لأنه إذا جرى حديث منافق عند الرسول صلى الله عليه وسلم فإذا جاء ذلك الرجل فقال الرسول صلى الله عليه وسلم اقتلوا الرجل علم الفقيه أن الألف واللام ها هنا ينصرف إلى المعهود والعامي ربما ظن أن المراد منه الاستغراق والجواب عن الأول ما مر وعن الثاني أن في التعارض تسليما بصحة أصل الخبر قوله يجوز أن يشتبه عليه المعهود بالاستغراق قلنا التمييز بين الأمرين لا يتوقف على الفقه بل كل من كانت له فطنه سليمة أمكنه التمييز بين الأمرين وأيضا فإن ذلك يقتضي اعتبار الفقه في رواة خبر التواتر

المسألة الرابعة إذا عرف منه التساهل في أمر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا خلاف في أنه لا يقبل خبره وأما إذا عرف منه التساهل في غير حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرف منه الاحتياط جدا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب قبول خبره على الرأي الأظهر لأنه يفيد الظن ولا معارض فوجب العمل به المسألة الخامس لا يعتبر في الراوي أن يكون عالما بالعربية وبمعنى الخبر لأن الحجة في لفظ الرسول عليه الصلاة والسلام والأعجمي والعامي يمكنهما حفظ اللفظ وكذلك يمكنهما حفظ القرآن ولا يعتبر أيضا أن يكون ذكرا أو حرا أو بصيرا وهو مجمع عليه المسألة السادسة تقبل رواية من لم يرو إلا خبرا واحدا فأما إذا أكثر من الروايات مع قلة مخالطته لأهل الحديث فإن

أمكن تحصيل ذلك القدر من الأخبار في ذلك القدر من الزمان قبلت أخباره وإلا توجه الطعن في الكل المسألة السابعة لا يجب كون الراوي معروف النسب بل إذا حصلت الشرائط المعتبرة المذكورة فيه قبل خبره وإن لم يعرف نسبه وأما إذا كان له اسمان وهو بأحدهما أشهر جازت الرواية عنه وأما اذا كان مترددا بينهما وهو بأحدهما مجروج وبالآخر معدل لم يقبل لأجل التردد

القسم الثاني في الأمور العائدة إلى المخبر عنه

القسم الثاني في البحث عن الأمور العائدة إلى المخبر عنه اعلم أن الشرط العائد إلى المخبر عنه في العمل بالخبر هو عدم دليل قاطع يعارضه والمعارض على وجهين أحدهما أن ينفي أحدهما ما أثبته الآخر على الحد الذي أثبته الآخر كما إذا قال في أحدهما ليصل فلان في الوقت الفلاني على الوجه الفلاني وينهى في الثاني عن ذلك الحد في ذلك الوقت وثانيهما أن يثبت أحدهما ضد ما أثبته الآخر على الحد الذي أثبته الآخر مثل أن يوجب عليه صلاة أخرى في عين ذلك الوقت في غير ذلك المكان والدليل القاطع ضربان عقلي وسمعي فإن كان المعارض عقليا نظرنا فإن كان خبر الواحد قابلا للتأويل كيف كان أولناه فلم نحكم برده

وإن لم يقبل التأويل قطعنا بفساده لأن الدالة العقلية غير محتملة للنقيض فإذا كان خبر الواحد غير محتمل للنقيض في دلالته وهو محتمل للنقيض في متنه قطعنا بوقوع ذلك المتحمل وإلا فقد وقع الكذب من الشرع وإنه غير جائز وأما أدلة السمع فثلاثه الكتاب والسنة المتواترة والإجماع وأعلم أنه لا يستحيل عقلا أن يقول الله تعالى أمرتكم بأن تعملوا بالكتاب والسنة المتواترة والإجماع بشرط أن لا يرد خبر واحد على مناقضته فإذا ورد ذلك فيكفيكم لا أن تعملوا بخبر الواحد لا بهذه الأدلة لكن الإجماع عرفنا أن هذا المحتمل لم يقع لأن الإجماع منعقد على أن الدليلين إذا استويا ثم اختص أحدهما بنوع قوة غير حاصل في الثاني فإنه يجب تقديم الراجح فها هنا هذه الأدلة الثلاثة لما كانت مساوية لخبر الواحد في الدلالة واختصت هذه الأدلة الثلاثة بمزيد قوة وهي بكونها قاطعة في متنها لا جرم وجب تقديمها على خبر الواحد وأما أن خبر الواحد هل يقتضي تخصيص عموم الكتاب والسنة المتواترة فقد تقدم القول فيه

القول في الشروط المختلف فيها

القول فيما ظن أنه شرط في هذا الباب وليس بشرط

المسألة الأولى في تعارض خبر الواحد والقياس

المسألة الأولى خبر الواحد إذا عارضه القياس فإما أن يكون خبر الواحد يقتضي تخصيص القياس أو القياس يقتضي تخصيص خبر الواحد وإما أن يتنافيا بالكلية فإن كان الأول فمن يجيز تخصيص العلة يجمع بينهما ومن لا يجيزه يجري هذا القسم مجرى ما إذا تنافيا بالكلية وإن كان الثاني كان ذلك تخصيصا لعموم خبر الواحد بالقياس وأنه جائز لأن تخصيص عموم الكتاب والسنة المتواترة بالقياس لما كان جائزا فها هنا أولى وأما الثالث وهو ما إذا كان كل واحد منهما مبطلا لكل مقتضيات الآخر فنقول ذلك القياس لا بد وأن يكون أصله قد ثبت بدليل وذلك الدليل إما أن يكون هو ذلك الخبر أو غيره فإن كان الأول فلا نزاع أن الخبر مقدم على القياس وإن كان الثاني فهذا يحتمل وجوها ثلاثة وذلك لأن القياس يستدعي أمورا ثلاثة

أحدها ثبوت حكم الأصل وثانيها كونه معللا بالعلة الفلانية وثالثها حصول تلك العلة في الفرع ثم لا يخلو كل واحد من هذه الثلاثة إما أن تكون قطعية أو ظنية أو بعضها قطعي وبعضها ظني فإن كان الأول كان القياس مقدما على خبر الواحد لا محالة لأن هذا القياس يقتضي القطع وخبر الواحد يقتضي الظن ومقتضى القطع مقدم على مقتضى الظن وإن كان الثاني كان الخبر لا محالة مقدما على القياس لأن الظن كلما كان أقل كان بالأعتبار أولى وإن كان الثالث فهذا يحتمل أقساما كثيرة ونحن نعين منها صورة واحدة وهي أن يكون دليل ثبوت الحكم في الأصل قطعيا إلا أن كونه معللا بالعلة المعينة ووجود تلك العلة في الفرع ظنيا فها هنا اختلفوا فعند الشافعي رضي الله عنه الخبر راجح وعند مالك رحمه الله القياس راجح

وقال عيسى بن أبان إن كان راوي الخبر ضابطا عالما وجب تقديم خبره على القياس وإلا كان في غير محل الاجتهاد وقال أبو الحسن البصري طريق ترجيح أحدهما على الآخر الاجتهاد فإن كانت أمارة القياس أقوى عنده من عدالة الراوي وجب المصير إليها وإلا فبالعكس ومن الناس من توقف فيه لنا وجوه الأول أن الصحابة كانوا يتركون اجتهادهم لخبر الواحد من ذلك قصة عمر رضي الله عنه في الجنين حتى قال كدنا نقضي فيه برأينا وفيه سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيضا ترك اجتهاده في المنع من توريث المرأة من ديه زوجها وأيضا قال أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا

وأيضا فإن أبا بكر رضي الله عنه نقض حكما حكم فيه برأيه لحديث سمعه من بلال فإن قلت إن أبن عباس رد خبر أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا استيقظ أحدكم من نومه حتى قال فما نصنع بمهراسنا قلت ظاهر هذا القول لا يقتضي رد الخبر وإنما هو وصف للمشقة في العمل بموجبه مع عظم المهراس سلمنا أنه ترك هذا الحديث لكن إنما تركه لأنه لا يمكن الأخذ به من حيث لا يمكن قلب المهراس على اليد فإن قلت ليس فيه تكليف ما لا يطاق لأنه كان يمكنهم غسل أيديهم من إناء اخر ثم ادخالها في المهراس قلت ومن أين يعلم أن قياس الأصول يقضي غسل اليدين من ذلك الإناء حتى يكون قد رد الخبر لذلك القياس الثاني أن قصة معاذ تقتضي تقديم الخبر على القياس الثالث أن التمسك بالخبر لا يتم إلا بثلاث مقدمات

إحداها ثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وثانيتها دلالته على الحكم وثالثها وجوب العمل به والمقدمة الأولى ظنية والثانية والثالثة يقينية وأما التمسك بالقياس فلا يتم إلا بخمسن أن مقدمات أحداها ثبوت حكم الأصل وثانيتها كونه معللا بالعلة الفلانية وثالثتها حصول تلك العلة في الفرع ورابعتها عدم المانع في الفرع عند من يجيز تخصيص العلة وخامستها وجوب العمل بمثل هذه الدلالة والمقدمة الأولى والخامسة يقينية

المسألة الثانية إذا عارض فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر

وأما الثانية والثالثة والرابعة فظنية وإذا كان كذلك كان العمل بالخبر أقل بالخبر أقل ظنا من العمل بالقياس فوجب أن يكون الخبر راجحا فإن قلت إذا كانت الأمارة الدالة على ثبوت الخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ضعيفة والإمارات الدالة على المقدمات الثلاثة الظنية في جانب القياس قوية بحيث يتعارض ما في أحد الجانبين من الكمية بما في الجانب الآخر من الكيفية فها هنا يتعين الاجتهاد والرجوع إلى الترجيح قلت لو خلينا والعقل لكان الأمر كما ذكرت إلا أن الدليلين الأولين منعا منه المسألة الثانية إذا روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه عمل بخلاف موجب الخبر فالخبر إما أن يكون متناولا للرسول صلى الله عليه وسلم أو غير متناول له فإن لم يتناوله لم يخل من أن يكون قد قامت الدلالة على أن حكمنا وحكمه صلى الله عليه وسلم فيه سواء أو لم تقم الدلالة على ذلك فإن لم يقم عليه دليل جاز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم مخصوصا بذلك الحكم وعلى هذا التقدير لا يكون بين فعله وبين الخبر تناف فلا يرد الخبر لأجله وإن قامت الدلالة على أن حكمه صلى الله عليه وسلم وحكمنا فيه سواء نظر في الخبرين فإن أمكن تخصيص أحدهما بالآخر فعل وإن لم يمكن كان أحدهما متواترا عمل بالتواتر

المسألة الثالثة إذا عمل أكثر الأمة بخلاف الخبر

وإن لم يكونا متواترين عمل فيهما بالترجيح المسألة الثالثة عمل أكثر الأمة بخلاف الخبر لا يوجب رده وعمل أكثر الأمة بموجب الخبر لا يوجب قبوله لأن أكثر الأمة بعض الأمة وقول بعض الأمة ليس بحجة إلا أن ذلك وإن لم يكن حجة فإنه من المرجحات المسألة الرابعة الحفاظ إذا خالفوا الراوي في بعض ذلك الخبر فقد اتفقوا على أن ذلك لا يقتضي المنع من قبول ما لم يخالفوه فيه لأن ظاهر حاله الصدق ولم يوجد معارض فوجب قبوله وأما القدر الذي خالفوه فيه فالأولى أن لا يقبل لأنه وإن جاز أن يكونوا سهوا وحفظ هو لكن الأقوى أنه سها وحفظوا هم لأن السهو على الواحد أجوز منه على الجماعة

المسألة الخامسة في عرض الخبر على الكتاب

المسألة الخامسة خبر الواحد إذا تكاملت شروط صحته هل يجب عرضه على الكتاب قال الشافعي رضي الله عنه لا يجب لأنه لا تتكامل شروطه إلا وهو غير مخالف للكتاب وعند عيسى بن أبان يجب عرضه عليه لقوله صلى الله عليه وسلم إذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله تعالى فإن وافقه فاقبلوه وإلا فردوه المسألة السادسة لا شبهة في أن الناسخ يجب أن يكون غير مقارن للكتاب فإن علم أن خبر الواحد غير مقارن للكتاب لم يقبل لما ثبت أن نسخ الكتاب بخبر الواحد لا يجوز وإن شك فيه قبل عند القاضي عبد الجبار قال لأن الصحابة رفعت بعض أحكام القرآن لأخبار الآحاد ولم تسأل هل كانت مقارنة أم لا

المسألة السابعة مخالفة مذهب الراوي لروايته

المسألة السابعة اختلفوا فيما إذا كان مذهب الراوي بخلاف روايته فالأول هو قول بعض الحنفية الراوي للحديث العام إذا خصه رجع إليه لأنه لما شاهد الرسول صلى الله عليه وسلم كان أعرف بمقاصده ولذلك حملوا رواية أبي هريرة فولوغ الكلب أنه يغسل سبعا على الندب لأن أبا هريرة كان يقتصر على الثلاث الثاني وهو قول الكرخي أن ظاهر الخبر أولى والثالث أنه إن كان تأويل الراوي بخلاف ظاهر الحديث رجع إلى الحديث وإن كان هو أحد محتملات الظاهر رجع إلى تأويله وهو ظاهر مذهب الشافعي رضي الله عنه والرابع وهو قول القاضي عبد الجبار إن لم يكن لمذهبه وتأويله وجه إلا أنه علم بالضرورة قصد النبي صلى الله عليه وسلم إليه وجب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوزنا أن يكون قد صار إليه لنص أو قياس وجب النظر في ذلك فإن اقتضى ما ذهب إليه صير إليه وإلا فلا وكذا إن كان الحديث مجملا وبينه الراوي كان بيانه أولى

المسألة الثامنة خبر الواحد إذا اقتضى علما أو عملا

حجة الشافعي رضي الله عنه أن المقتضى وهو ظاهر اللفظ قائم والمعارض الموجود وهو مخالفة الراوي لا يصلح أن يكون معارضا لاحتمال أن يكون قد تمسك في تلك المخالفة بما ظنه دليلا مع أنه لا يكون كذلك فإن قلت الظاهر من دينه أنه لا يخالف إلا لدليل قلت دينه يمنعه عن الخطأ عمدا لا سهوا وغلطا وليس ها هنا ظاهر يدل على أنه كان من العلم بحيث لا يعرض له ذلك الخطأ المسألة الثامنة خبر الواحد إما أن يقتضي علما أو عملا فإن اقتضى علما فإما أن يكون في الأدلة القاطعة ما يدل عليه أو لا يكون فإن كان الأول جاز قوله لأنه لا يمتنع أن يكون عليه الصلاة والسلام قاله واقتصر به على آحاد الناس واقتصر بغيرهم على الدليل الآخر وإن كان الثاني وجب رده سواء اقتضى مع العلم عملا أو لم يقتضه لأنه لما كان التكليف فيه بالعلم مع إنه ليس له صلاحية إفاده العلم كان

ذلك تكليفا بما لا يطاق اللهم إلا أن يقال لعله عليه الصلاة والسلام أوجب العلم به على من شافهه دون من لم يشافهه فإن ذلك جائز فأما إذا اقتضى عملا وكان البلوي به عاما فعندنا لا يجب رده وعند الحنفية يجب رده لنا وجوه أحدها عموم قوله تعالى ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم وقوله إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا وثانيها أن خبر الواحد العدل في هذا الباب يفيد ظن الصدق فيكون العمل دافعا لضرر مظنون فيكون واجبا وثالثها رجوع الصحابة إلى عائشة رضي الله عنها في التقاء الختانين مع أن ذلك مما تعم به البلوي

ورابعها أن البلوي عام بمعرفة أحكام القئ والرعاف والقهقهة في الصلاة ووجوب الوتر مع أنهم يقبلون خبر الواحد فيه وليس يعصمهم من ذلك أنه قد تواتر النقل بالوتر لأن وجوبها يعم به البلوي ولم يتواتر نقله واحتجوا بالإجماع والمعقول أما الإجماع فهو أن أبا بكر رد حديث المغيرة في الجدة ورد عمر خبر أبي موسى في الاسئذان وأما المعقول فهو أنه لو كان صحيحا لأشاعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولأوجب نقله على جهة التواتر مخافة أن لا يصل إلى من كلف به فلا يتمكن من العمل به ولو فعل ذلك لتوافرت على الدواعي إلى نقله على جهة التواتر والجواب عن الأول أنه أنما كان يجب ذلك الذي قلتم لو لم يقبلوا فيه إلا خبرا متواترا فأما إذا لم يقبلوا خبر الواحد وقبلوا خبر الأثنين فلا وقد قبلوا خبر الاثنين فيه فلم ينفعكم ذلك وعن الثاني أن ذلك يجب أن لو كان يتضمن علما أو أوجب العمل به على كل حال

فأما إذا أوجبه بشرط أن يبلغه فليس فيه تكليف ما لا طريق إليه ولو وجب ذلك فيما تعم به البلوي لوجب في غيره لجواز أن لا يصل إلى من كلف به فإن قلتم هناك إنه كلف العمل به بشرط أن يبلغه قيل لكم مثله فيما تعم به البلوى

القسم الثالث في الإخبار

القسم الثالث في الإخبار وفيه مسائل المسألة الأولى في كيفية ألفاظ الصحابة في نقل الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي على سبع مراتب المرتبة الأولى أن يقول الصحابي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا أو أخبرني رسول الله أو حدثني رسول الله أو شافهني رسول الله صلى الله عليه وسلم المرتبة الثانية أن يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا فهذا ظاهره النقل إذا صدر عن

الصحابي وليس نصا صريحا إذ قد يقول الواحد منا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمادا على ما نقل إليه وإن لم يسمعه منه صلى الله عليه وسلم إما إذا صدر عن غير الصحابي فليس ظاهره ذلك المرتبة الثالثة أن يقول أمر رسول الله بكذا أو نهى عن كذا وهذا يتطرق إليه الاحتمال الأول مع احتمال آخر وهو أن مذاهب الناس في صيغ الأوامر النواهي مشهورة فربما ظن ما ليس بأمر أمرا ولأجله اختلف الناس في أنه هل هو حجة أم لا والأكثرون على أنه حجة لأن الظاهر من حال الراوي أن لا يطلق هذا اللفظ إلا إذا تيقن مراد الرسول صلى الله عليه وسلم ولقائل أن يقول لم لا يكفي فيه الظن فإن قلت لأن هذه الصيغة حجة فلو أطلقه الراوي مع تجويزه خلافه لكان قد أوجب على الناس ما يجوز أن لا يكون واجبا عليهم وذلك يقدح في عدالته فنقول على هذا لا يمكنكم العلم بأن هذا الراوي ما اطلق هذه اللفظه إلا بعد علمه بمراد الرسول إلا إذا علمتم أنه حجة وأنتم إنما اثبتم كونه حجة بذلك فلزم الدور

وفي المسألة احتمال ثالث وهو أن قول الراوي أمر الرسول بكذا ليس فيه لفظ يدل على أنه أمر الكل أو البعض دائما أو غير دائم فلا يجوز الاستدلال به إلا إذا ضم إليه قوله عليه الصلاة والسلام حكمي على الواحد حكمي على الجماعة المرتبة الرابعة أن يقول الصحابي أمرنا بكذا أو أوجب كذا ونهينا عن كذا وأبيح كذا قال الشافعي رضي الله عنه أنه يفيد أن الآمر هو الرسول عليه الصلاة والسلام والكرخي خالف فيه لنا وجهان الأول أن من التزم طاعة رئيس فإنه متى قال أمرنا بكذا فهم منه أمر ذلك الرئيس ألا ترى أن الرجل من خدم السلطان إذا قال في دار السلطان أمرنا بكذا فهم كل أحد من كلامه أمر السلطان الثاني أن غرض الصحابي أن يعلمنا الشرع فيجب حمله على من صدر الشرع

عنه دون الأئمة دون والولاة فلا يحمل هذ القول على أمر الله تعالى لأن أمره تعالى ظاهر للكل لا نستفيده من قول الصحابي ولا على أمر جماعة الأمة لأن ذلك الصحابي من الأمة وهو لا يأمر نفسه المرتبة الخامسة أن يقول الصحابي من السنة كذا فهم منه سنة الرسول عليه الصلاة والسلام للوجهين المذكورين فإن قلت هذا غير واجب للخبر والعقل أما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها وعنى به سنة غيره وأما العقل فهو أن السنة مأخوذة من الاستنان وذلك غير مختص بشخص دون شخص

قلت لا يمتنع ما ذكرتموه بحسب اللغة ولكن بحسب الشرع يفيد ما قلنا المرتبة السادسة أن يقول الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال قوم يحتمل أن يقال إنه أخبره إنسان آخر عن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو لم يسمعه منه وقال اخرون بل الأظهر أنه سمعه منه المرتبة السابعة قوله الصحابي كنا نفعل كذا فالظاهر أنه قصد أن يعلمنا بهذا الكلام شرعا ولن يكون كذلك إلا وقد كانوا يفعلونه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه بذلك ومع أنه صلى الله عليه وسلم ما كان ينكر ذلك عليهم وهذا يقتضي كونه شرعا عاما فأما إذا قال الصحابي قولا لا مجال للاجتهاد فيه فحسن الظن به يقتضي أن يكون قاله عن طريق فإذا لم يمكن الاجتهاد فليس إلا السماع من النبي صلى الله عليه وسلم

المسألة الثانية في كيفية رواية غير الصحابي ومراتبها

المسألة الثانية في كيفية رواية غير الصحابي وهذا أيضا على سبع مراتب المرتبة الأولى أن يقول الراوي حدثني فلان أو أخبرني فلان أو سمعت فلانا فالسامع يلزمه العمل بهذا الخبر وأما أن السامع كيف يروي فنقول إن الراوي إن قصد إسماعه خاصة ذلك الكلام أو كان هو في جمع قصد الراوي إسماعهم فله أن يقول ها هنا أخبرني وسمعته يحدث عن فلان إما إن لم يقصد إسماعه لا على التفصيل ولا على الجملة فله أن يقول سمعته يحدث عن فلان لكن ليس له أن يقول أخبرني ولا حدثني لأنه لم يخبره ولم يحدثه المرتبة الثانية أن يقال للراوي هل سمعت هذا الحديث عن فلان فيقول نعم أو يقول بعد الفراغ من القراءة عليه الأمر كما قرئ على فها هنا العمل بالخبر لازم على السامع وله أيضا أن يقول حدثني أو أخبرني أو سمعت فلانا ألا ترى أنه لا فرق في الشهادة على البيع بين أن يقول البائع وبين أن يقرأ عليه

كتاب البيع فيقول الأمر كما قرئ علي المرتبة الثالثة أن يكتب إلى غيره بأني سمعت كذا من فلان فللمكتوب إليه أن يعمل بكتابه إذا علم أنه كتابه واذا ظن أنه خطه جاز له ذلك أيضا لكن ليس له أن يقول سمعت أو حدثني لأنه ما سمع ولا حدث بل يجوز أن يقول أخبرني لأن من كتب إلى غيره كتابا يعرفه فيه واقعة جاز له أن يقول أخبرني المرتبة الرابعة أن يقال له هل سمعت هذا الخبر فيشير برأسه أو بأصبعه فالإشارة ها هنا كالعبارة في وجوب العمل ولا يجوز أن يقول حدثني أو أخبرني أو سمعته لأنه ما سمع شيئا المرتبة الخامسة أن يقرأ عليه حدثك فلان فلا ينكر ولا يقر بعبارة ولا بإشارة

فها هنا إن غلب على الظن أنه ما سكت إلا لأن الأمر كما قرئ عليه وإلا كان ينكره لزم السامع العمل به لأنه حصل ظن أنه قول الرسول عليه الصلاة والسلام والعمل بالظن واجب واختلفوا في جواز الرواية فعامة الفقهاء والمحدثين جوزوه والمتكلمون أنكروه وقال بعض أصحاب الحديث ليس له إلا أن يقول أخبرني قراءة عليه وكذا الخلاف فيما لو قال القارئ للراوي بعد قراءة الحديث عليه أرويه عنك فقال نعم فالمتكلمون قالوا لا تجوز له الرواية عنه ها هنا أيضا حجة الفقهاء أن الإخبار في أصل اللغة لإفادة الخبر والعلم وهذا السكوت قد أفاد العلم بأن هذا المسموع كلام الرسول عليه الصلاة والسلام فوجب أن يكون إخبارا وأيضا فلا نزاع في أن لكل قوم من العلماء اصطلاحات مخصوصة يستعملونها في معان مخصوصة إما لأنهم نقلوها بحسب عرفهم إلى تلك المعاني أو لأنهم استعملوها فيها على سبيل التجوز ثم صار المجاز شائعا والحقيقة مغلوبة ولفظ أخبرني وحدثني ها هنا كذلك لأن هذا

السكوت شابه الإخبار في إفادة الظن والمشابهة إحدى أسباب المجاز وإذا كان هذا الاستعمال مجازا ثم استقر عرف المحدثين عليه صار ذلك كالاسم المنقول بعرف المحدثين أو كالمجاز الغالب وإذا ثبت ذلك وجب جواز استعماله قياسا على سائر الاصطلاحات حجة المتكلمين أنه لم يسمع من الراوي شيئا فقوله حدثني وأخبرني وسمعت كذب والجواب ما تقدم من أنه بعد هذا النقل العرفي لا نسلم أنه كذب المرتبة السادسة المناولة وهي أن يشير الشيخ إلى كتاب يعرف ما فيه فيقول قد سمعت ما في هذا الكتاب فإنه يكون بذلك محدثا ويكون لغيره أن يروي عنه سواء قال له أروه عني أو لم يقل له ذلك فأما إذا قال له حدث عني ما في هذا الجزء ولم يقل له قد سمعته فإنه لا يكون محدثا له وإنما جاز للتحدث له وليس له أن يحدث به عنه لأنه يكون كاذبا وإذا سمع الشيخ نسخة من كتاب مشهور فليس له أن يشير إلى نسخة أخرى من ذلك الكتاب ويقول سمعت هذا لأن النسخ تختلف إلا أن

المسألة الثالثة في المراسيل

يعلم أنهما متفقتان المرتبة السابعة الإجازة وهي أن يقول الشيخ لغيره قد أجزت لك أن تروي ما صح عني من أحاديثي واعلم أن ظاهر الإجاز يقتضي أن الشيخ أباح له أن يحدث بما لم يحدثه به وذلك إباحة الكذب لكنه في العرف يجري مجرى أن يقول ما صح عندك أني سمعته فاروه عني المسألة الثالثة ذهب الشافعي رضي الله عنه إلى أن المرسل غير مقبول وقال أبو حنيفة ومالك وجمهور المعتزلة إنه مقبول

لنا أن عدالة الأصل غير معلومة فلا تكون روايته مقبولة إنما قلنا أن عدالة الأصل غير معلومة لأنه لم توجد إلا رواية الفرع عنه ورواية الفرع عنه لا تكون تعديلا له إذا المعدل قد يروي عمن لو سئل عنه لتوقف فيه او لجرحه وبتقدير أن يكون تعديلا لا يقتضى كونه عدلا في نفسه لاحتمال أنه لو عينه لنا لعرفناه بفسق لم يطلع عليه المعدل فثبت أن عدالته غير معلومة وإذا كان كذلك وجب أن لا تقبل روايته لأن قبول روايته يقتضي وضع شرع عام في حق كل المكلفين من غير رضاهم وذلك ضرر والضرر على خلاف الدليل ترك العمل به فيما إذا علمت عدالة الراوي فيبقى في الباقي على الأصل فإن قيل لا نسلم أن عدالته غير معلومة قوله لم يوجد إلا رواية الفرع عنه ورواية الفرع عنه لا تكون تعديلا له لأنه قد يروي عن العدل وغيره قلنا لا نزاع في جوازه في الجملة لكن لم لا يجوز أن يقال روايته عن العدل أرجح من روايته عن غيره وبيانه من وجهين الأول أن الفرع مع عدالته لا يجترئ أن يخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم إلا وله

الإخبار بذلك ولا يكون له ذلك إلا وهو عالم أو ظان بكونه قولا للرسول صلى الله عليه وسلم لأنه لو استوى الطرفان لحرم الإخبار ولا يكون عالما ولا ظانا بكونه قولا للرسول إلا إذا علم أو ظن عدالة الأصل الثاني أن الفرع مع عدالته ليس له أن يوجب شيئا على غيره أو يطرحه عنه إلا إذا علم أنه عليه الصلاة والسلام أوجب ذلك أو ظنه فثبت بهذين الدليلين رجحان هذا الاحتمال وهذا يقتضي كون الأصل عدلا ظاهرا فوجب قبول روايته كما في سائر العدول وهذه هي النكتة التي عولوا عليها في وجوب قبول المرسل ثم ما ذكرتموه من الدليل معارض بالنص والإجماع والقياس أما النص فعموم قوله تعالى ولينذروا قومهم وقوله تعالى إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا فإذا جاء من لا يكون فاسقا وجب القبول والراوي للفرع ليس بفاسق فوجب قبول خبره وأما الإجماع فإن البراء بن عازب قال ليس كل ما حدثناكم به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعناه منه غير أنا لا نكذب

وروى أبو هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام من أصبح جنبا فلا صوم له ثم ذكر أنه أخبره به الفضل بن عباس وروى ابن عباس رضي الله عنهما عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لا ربا إلا في النسيئة ثم اسنده إلى أسامة وروى أيضا ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي حتى رمى جمرة العقبة ثم ذكر أنه أخبره به الفضل بن عباس رضي الله عنهما وهذه الروايات تدل على جواز قبول المرسل وأما القياس فلأنه لو لم يقبل المرسل لما قبل ما يجوز كونه مرسلا فكان ينبغي إذا قال الراوي عن فلان أن لا يقبل لأنه لا يجوز أن يكون أخبر عنه

والجواب قد بينا أن العدل يروي عن العدل وعن من لا يكون عدلا قوله لم لا يجوز أن يقال روايته عن العدل أرجح من روايته عمن ليس بعدل قلنا لأنه إذا ثبت أنه لا منافاة بين كونه عدلا وبين روايته عمن ليس بعدل كان ذلك ممكنا بالنسبة إليه من حيث هو هو والممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح منفصل فقبل حصول ذلك المرجح لا يبقى إلا أصل الإمكان قوله أولا الفرع مع عدالته أخبر عن الرسول ولا يجوز له ذلك الإخبار إلا وقد اعتقد عدالة الراوي قلنا الفرع إذا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا يقتضي الجزم بأن هذا القول قول رسول الله والجزم بالشئ مع تجويز نقيضه كذب وذلك يقدح في عدالة الراوي فإذن لا بد من صرف هذا اللفظ عن ظاهره فليسوا بأن يقولوا المراد منه أني أظن أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى من أن نقول نحن المراد منه أني سمعت أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعلوم أنه لو صرح بهذا القدر لم يكن فيه تعديل للأصل لأنه لو سمعه من كافر متظاهر بالكفر لحل أن

يقول سمعت أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلمنا سقوط ما ذكروه قوله ثانيا الفرع مع عدالته ليس يجوز له أن يوجب شيئا على غيره إلا إذا علم أو ظن أنه عليه الصلاة والسلام أوجبه قلنا روايته إنما توجب على الغير شيئا لو ثبت كون الراوي عدلا فإن بينتم إثبات كونه عدلا بأن هذه الرواية توجب على غيره شيئا لزم الدور ثم نقول ينتقض ما ذكرتموه من الوجهين بشاهد الفرع إذا لم يذكر شاهد الأصل فإن ما ذكرتموه قائم فيه مع لا تقبل شهادته فإن قلت الفرق من وجهين الأول أن الشهادة تتضمن إثبات حق على عين والخبر يتضمن إثبات الحق على الجملة من دون تخصيص ويدخل من التهمة في إثبات الحقوق على الأعيان ما لا يدخل في إثباتها على الجملة فجاز ان تؤكد الشهادة بما لا تؤكد به الرواية كما أكدنا باعتبار العدد فيها دون الرواية الثاني أن شهود الأصل لو رجعوا عن شهادتهم لزمهم الضمان على قول بعض الفقهاء فإذا لم يؤمن أن يؤدي اجتهاد الحاكم إلى ذلك لو رجعوا وجب أن

يعرفهم بأعيانهم ليتأتى إلزامهم الضمان إن هم رجعوا قلت الجواب عن الأول أن إثبات الحق على الأعيان لو ترجح على إثبات الحق في الجملة من ذلك الوجه فهذا يترجح على ذلك من وجه آخر وهو أن الخبر يقتضي شرعا عاما في حق جميع المكلفين إلى يوم القيامة فالاحتياط فيه أولى من الاحتياط في إثبات الحكم في حق مكلف واحد وعن الثاني أنه ملغي بما إذا كان شاهد الأصل قد مات ولم يبق له في الدنيا دينار ولا درهم فكيف يمكن تضمينه وأما المعارضة الآولى فجوابها أن هذه النصوص خصصت في الشهادة فوجب تخصيصها في الرواية والجامع الاحتياط وعن الثانية أن هذه المسألة عندنا اجتهادية فلعل بعض الصحابة كان قائلا به ومخالفوهم ما أنكروه عليهم لكون المسألة اجتهادية وأيضا فالصحابي الذي رأى الرسول إذا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الظاهر منه الإسناد وإذا كان كذلك وجب على السامع قبوله ثم بعد ذلك إذا بين الصحابي أنه كان مرسلا ثم بين إسناده وجب أيضا قبوله ولم يكن قبوله

في إحدى الحالتين دليلا على العمل بالمرسل وعن الثالث أن مدار العمل بهذه الأخبار على الظن فإذا قال الراوي قال فلان عن فلان وقد أطال صحبته كان ذلك دليلا على أنه سمعه منه ومتى لم يعلم أنه صحبه (كان ذلك دليلا على أنه) سمعه منه ومتى لم يعلم أنه صحبه لم يقبل حديثه فروع الأول قال الشافعي رضي الله عنه لا اقبل المرسل إلا إذا كان الذي أرسله مرة أسنده أخرى أقبل مرسله أو أرسله هو وأسنده غيره وهذ إذا لم تقم الحجة بإسناده أو أرسله راو اخر ويعلم أن رجال أحدهما غير رجال الآخر أو عضده قول صحابي أو توى أكثر أهل العلم أو علم أنه لو نص لم ينص إلا على من يسوغ قبول خبره قال وأقبل مراسيل سعيد بن المسيب لأني اعتبرتها فوجدتها بهذه الشرائط قال ومن هذه حاله أحببت قبول مراسليه ولا أستطيع أن أقول إن الحجة تثبت به كثبوتها بالمتصل

قالت الحنفية أما قوله أقبل مراسيل الراوي إذا كان أسنده مرة فبعيد لأنه إذا أسند قبل لأنه مسند وليس لإرساله تأثير وأما قوله يقبل مرسل الراوي إذا كان قد أسنده غيره فلا يصح لما ذكرنا ولأن ما ليس بحجة لا يصير حجة إذا عضدته الحجة وأما قوله أقبل المرسل إذا كان أرسله أثنان وشيوخ أحدهما غير شيوخ الآخر لا يصح لأن ما ليس بحجة إذا انضاف إليه ما ليس بحجة لا يصير حجة إذا كان المانع من كونه حجة عند الانفراد قائما عند الاجتماع وهو الجهل بعدالة راوي الأصل وهذا بخلاف الشاهد الواحد فإن المانع من قبول شهادته الانفراد وهو يزول عند انضمام غيره إليه والجواب أن غرض الشافعي رضي الله عنه من هذه الأشياء حرف واحد

وهو أنا إذا جهلنا عدالة راوي الأصل لم يحصل ظن كون ذلك الخبر صدقا فإذا انضمت هذه المقويات إليه قوى بعض القوة فحينئذ يجب العمل به إما دفعا للضرر المظنون وإما لقوله عليه الصلاة والسلام أقضي بالظاهر فظهر فساد هذا السؤال الثاني إذا أرسل الحديث وأسنده غيره فلا شبهة في قبوله عند من يقبل المرسل وكذا عند من لا يقبله لأن إسناد الثقة يقتضي القبول إذا لم يوجد مانع ولا يمنع منه إرسال المرسل لأنه يجوز أن يكون أرسله لأنه سمعه مرسلا أو سمعه متصلا لكنه نسى شيخ نفسه وهو يعلم أنه ثقة في الجملة وكذا القول فيما إذا أرسله مرة وأسنده أخرى لأنه يجوز أن يوجد بعض ما ذكرنا الثالث إذا الحق الحديث بالنبي ووافقه غيره على الصحابي فهو متصل لأنه يجوز أن يكون الصحابي رواه عن الرسول صلى الله عليه وسلم مرة وذكر عن نفسه على سبيل الفتوى مرة فرواه كل واحد منهما بحسب ما سمعه أو سمعه أحدهما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم فنسى ذلك وظن أنه ذكره عن نفسه الرابع إذا وصله بالنبي صلى الله عليه وسلم مرة ووقفه على الصحابي أخرى فإنه يجعل

متصلا لجواز أن يكون سمعه من الصحابي يرويه مرة عنه عليه الصلاة والسلام ومرة عن نفسه أو سمعه وصله بالنبي صلى الله عليه وسلم فنسى ذلك وظن أنه ذكره عن نفسه فأما إذا أرسله أو أوقفه زمانا طويلا ثم أسنده أو وصله بعد ذلك فإنه يبعد أن ينسى ذلك الزمان الطويل إلا أن يكون له كتاب يرجع إليه فيذكر ما قد نسيه الزمان الطويل الخامس من يرسل الأخبار إذا أسند خبرا هل يقبل أو يرد أما من يقبل المراسيل فإنه يقبله وأما من لا يقبلها فكثير منهم قبله أيضا لأن إرساله مختص بالمرسل دون المسند فوجب قبول مسنده ومنهم من لم يقبله قال لأن إرساله يدل على أنه إنما لم يذكر الراوي لضعفه فستره له والحالة هذه خيانة واختلف من قبل حديث المرسل إذا أسنده كيف يقبل فقال الشافعي رضي الله عنه لا يقبل من حديثه إلا ما قال فيه حدثني أو سمعت فلانا ولا يقبل إذا أتى بلفظ موهم

وقال بعض المحدثين لا يقبل إلا إذا قال سمعت فلانا وهؤلاء يفرقون بين أن يقال حدثني فلان وأخبرني فيجعلون الأول دالا على أنه شافهه بالحديث ويجعلون الثاني مرددا بين المشافهة وبين أن يكون إجازة له أو كتب إليه وهذه عادة لهم وإن لم يكن بينهما فرق في اللغة

المسألة الرابعة في التدليس

المسألة الرابعة في التدليس إذا روى الراوي الحديث عن رجل يعرف باسم فلم يذكره بذلك وذكره باسم لا يعرف به فإن فعل ذلك لأن من يروى عنه ليس بأهل أن يقبل حديثه فقد غش الناس فلا يقبل حديثه وإن لم يذكر اسمه لصغر سنه لا لأنه ليس بثقة فمن يقول يكفي ظاهر الاسلام في العدالة قبل هذا الحديث ومن يقول لا بد من التفحص عن عدالته بعد إسلامه فمن لا يقبل المراسيل فإنه لا يقبله لأنه لم يتمكن من التفحص عن عدالته حيث لم يذكر اسمه فهو كالمرسل ومن يقبل المراسيل ينبغي أن يقبله لأن عدالته تقتضي أنه لولا أنه ثقة عنده لما ترك ذكر اسمه فصار كما لو عدله المسألة الخامسة يجوز نقل الخبر بالمعنى وهو مذهب الحسن البصري وأبي حنيفة والشافعي رضي الله عنهم خلافا لابن سيرين وبعض المحدثين

ولكن بشرائط ثلاث أحدها أن لا تكون الترجمة قاصرة عن الأصل في إفاده المعنى وثانيها أن لا تكون فيها زيادة ولا نقصان وثالثها أن تكون الترجمة مساوية للأصل في الجلاء والخفاء لأن الخطاب تارة يقع بالمحكم وتارة بالمتشابه لحكم وأسرار استأثر الله بعلمها فلا يجوز تغييرها عن وضعها لنا وجوه الأول أن الصحابة نقلوا قصة واحدة بألفاظ مختلفة مذكورة في مجلس واحد ولم ينكر بعضهم على بعض فيه وذلك يدل على قولنا الثاني أنه يجوز شرح الشرع للعجم بلسانهم فإذا جاز إبدال العربية بالعجمية فبأن يجوز إبدالها بعربية أخرى كان أولى ومن أنصف علم أن التفاوت بين العربية وترجمتها بالعربية أقل مما بينها

وبين العجمية الثالث روى أنه عليه الصلاة والسلام قال إذا أصبتم المعنى فلا بأس

وعن ابن مسعود أنه كان إذا حدث قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا أو نحوه الرابع وهو الأقوى أن نعلم بالضرورة أن الصحابة الذين رووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأخبار ما كانوا يكتبونها في ذلك المجلس وما كانوا يكررون عليها في ذلك المجلس بل كما سمعوها تركوها وما ذكروها إلا بعد الأعصار والسنين وذلك يوجب القطع بتعذر روايتها على تلك الألفاظ احتج المخالف بالنص والمعقول أما النص فقوله عليه الصلاة والسلام رحم الله أمرءا اسمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمعها قالوا وأداؤها كما سمعها هو اداء اللفظ المسموع ونقل الفقه الى من هو أفقه منه معناه والله أعلم أن الأفطن ربما فطن بفضل فقهه من فوائد اللفظ لما لم يفطن له الرواي لأنه ربما كان دونه في الفقه وأما المعقول فمن وجهين

الأول أنه لما جربنا رأينا أن المتأخر ربما استنبط من فوائد آية أو خبر ما لم يتنبه له أهل الأعصار السالفة من العلماء والمحققين فعلمنا أنه لا يجب في كل ما كان من فوائد اللفظ أن يتنبه له السامع في الحال وإن كان فقيها ذكيا فلو جوزنا النقل بالمعنى فربما حصل التفاوت العظيم مع أن الراوي يظن أنه لا تفاوت الثاني أنه لو جاز للراوي تبديل لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم بلفظ نفسه كان للراوي الثاني تبديل اللفظ الذي سمعه بلفظ نفسه بل هذا أولى لأن جواز تبديل لفظ الراوي أولى من جواز تبديل لفظ الشارع وكذا في الطبقة الثالثة والرابعة وذلك يفضي إلى سقوط الكلام الأول لأن الأنسان وإن اجتهد في تطبيق الترجمة لكن لا ينفك عن تفاوت وإن قل فإذا توالت هذه التفاوتات الله كان التفاوت الأخير تفاوتا فاحشا بحيث لا يبقى بين الكلام الأخير وبين الأول نوع مناسبة والجواب عن الأول أن من أدى تمام معني كلام الرجل فإنه يوصف بأنه أدى كما سمع وإن اختلفت الألفاظ وهكذا الشاهد والترجمان يقع عليهما الوصف بأنهما أديا كما سمعا وإن كان لفظ الشاهد خلاف لفظ المشهود عليه ولغة

المترجم غير لغة المترجم عنه وعن الثاني والثالث ما تقدم من قبل

المسألة السادسة في زيادة أحد الراويين

المسألة السادسة الراويات إذا اتفقا على رواية خبر وانفرد أحدهما بزيادة وهما ممن يقبل حديثه فإما أن يكون المجلس واحدا أو متغايرا فإن كان متغايرا قبلت الزيادة لأنه لا يمتنع أن يكون الرسول عليه الصلاة والسلام ذكر الكلام في أحد المجلسين مع زيادة وفي المجلس الثاني بدون تلك الزيادة وإذا كان كذلك فنقول عدالة الراوي تقتضي قبول قوله ولم يوجد ما يقدح فيه فوجب قبوله وإن كان المجلس واحدا فالذين لم يرووا الزيادة إما أن يكونوا عددا لا يجوز أن يذهلوا عما يضبطه الواحد أو ليسوا كذلك فإن كان الأول لم تقبل الزيادة وحمل أمر راويها على أنه يجوز مع عدالته أن يكون قد سمعها من غير النبي صلى الله عليه وسلم وظن أنه قد سمعها منه وإن كان الثاني فتلك الزيادة إما أن لا تكون مغيرة لإعراب الباقي أو تكون فإن لم تغير إعراب الباقي قبلت الزيادة عندنا إلا أن يكون الممسك عنها أضبط من الراوي لها خلافا لبعض المحدثين لنا أن عدالة راوي الزيادة تقتضي قبول خبره وإمساك الراوي الثاني عن روايتها لا يقدح فيه لاحتمال أن يقال إنه كان حال ذكر

الرسول عليه الصلاة والسلام تلك الزيادة عرض له سهو أو شغل قلب أو عطاس أو دخول انسان أو فكر أذهله عن سماع تلك الزيادة وإذا وجد المقتضي لقبول الخبر خاليا عن المعارض وجب قبوله فإن قلت كما جاز السهو على الممسك جاز أيضا على الراوي قلت لا نزاع في الجواز على الجملة لكن الأغلب على الظن أن راوي الزيادة أبعد عن السهو لأن ذهول الإنسان عما سمعه أكثر من توهمه فيما لم يسمع أنه سمعه بلي لو صرح الممسك بنفي الزيادة وقال إنه عليه الصلاة والسلام وقف على قوله فيما سقت السماء العشر فلم يأت بعده بكلام آخر مع انتظارى له فها هنا يتعارض القولان ويصار إلى الترجيح أما إذا كانت الزيادة مغيرة لإعراب الباقي كما إذا روى أحدهما أدوا عن كل حر أو عبد صاعا من بر ويروى الآخر نصف صاع من بر فالحق أنها لا تقبل خلافا لأبي عبد الله البصري لنا أنه حصل التعارض لأن أحدهما إذا رواه صاعا فقد رواه بالنصب والآخر اذا روى نصف صاع فقد روى الصاع بالجر والنصب ضد الجر فقد حصل التعارض وإذا كان كذلك وجب المصير إلى الترجيح

فرع الراوي الواحد إذا روى الزيادة مرة ولم يروها غير تلك المرة فإن أسندهما إلى مجلسين قبلت الزيادة سواء غيرت اعراب الباقي أو لم تغير وإن أسندهما إلى مجلس واحد فالزيادة إن كانت مغيرة للإعراب تعارضت روايتاه كما تعارضتا من راويين وإن لم تغير الإعراب فإما أن تكون روايته للزيادة مرات أقل من مرات الإمساك أو بالعكس أو يتساويان فإن كانت مرات الزيادة أقل من مرات الإمساك لم تقبل الزيادة لأن حمل الأقل على السهو أولى من حمل الأكثر عليه اللهم إلا أن يقول الراوي إني سهوت في تلك المرات وتذكرت في هذه المرة فها هنا يرجح المرجوح على الراجح لأجل هذا التصريح وإن كانت مرات الزيادة أكثر قبلت لا محالة لوجهين أحدهما ما ذكرنا أن حمل الأقل على السهو أولى والثاني

فرع الراوي الواحد إذا روى الزيادة مرة ولم يروها غير تلك المرة فإن أسندهما إلى مجلسين قبلت الزيادة سواء غيرت اعراب الباقي أو لم تغير وإن أسندهما إلى مجلس واحد فالزيادة إن كانت مغيرة للإعراب تعارضت روايتاه كما تعارضتا من راويين وإن لم تغير الإعراب فإما أن تكون روايته للزيادة مرات أقل من مرات الإمساك أو بالعكس أو يتساويان فإن كانت مرات الزيادة أقل من مرات الإمساك لم تقبل الزيادة لأن حمل الأقل على السهو أولى من حمل الأكثر عليه اللهم إلا أن يقول الراوي إني سهوت في تلك المرات وتذكرت في هذه المرة فها هنا يرجح المرجوح على الراجح لأجل هذا التصريح وإن كانت مرات الزيادة أكثر قبلت لا محالة لوجهين أحدهما ما ذكرنا أن حمل الأقل على السهو أولى والثاني ما ذكرنا أن حمل السهو على نسيان ما سمعه أولى من حمله على توهم أنه سمع ما لم يسمعه وأما إن تساويا قبلت الزيادة لما بينا أن هذا السهو أولى من ذلك والله أعلم القسم الثاني

المحصول في علم أصول الفقه جميع الحقوق محفوظة للناشر الطبعة الثالثة 1418 هـ / 1997 م المحصول في علم أصول الفقه للامام الاصولي النظار المفسر فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي 544 - 606 هـ / 1149 - 1209 م دراسة وتحقيق الدكتور طه جابر فياض العلواني الجزء الخامس مؤسسة الرسالة

بسم الله الرحمن الرحيم

الكلام في القياس

بسم الله الرحمن الرحيم الكلام في القياس وهو مرتب على مقدمة وأربعة أقسام أما المقدمة ففيها مسائل

المسألة الأولى في حد القياس

المسألة الأولى في حد القياس أسد ما قيل في هذا الباب تلخيصا وجهان الأول ما ذكره القاضي أبو بكر واختاره جمهور المحققين منا أنه حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما من إثبات حكم أو صفة أو نفيهما عنهما وإنما ذكرنا لفظ المعلوم ليتناول الموجود المعدوم فإن القياس يجرى فيهما جميعا ولو ذكرنا الشئ لاختص بالموجود على مذهبنا ولو ذكرنا

الفرع لكان يوهم اختصاصه بالموجود وأيضا فلا بد من معلوم ثان يكون أصلا فإن القياس عبارة عن التسوية وهي لا تتحقق إلا بين أمرين ولأنه لولا الأصل لكان ذلك إثباتا للشرع بالتحكم وأيضا فالحكم قد يكون نفيا وقد يكون إثباتا وأيضا فالجامع قد يكون أمرا حقيقيا وقد يكون حكما شرعيا وكل واحد منهما قد يكون نفيا وقد يكون إثباتا هذا شرح هذا التعريف

الاعتراضات عليه

والاعتراض عليه من وجوه أحدها أن نقول إن أردت بحمل أحد المعلومين على الآخر إثبات مثل حكم أحدهما

للأخر فقولك بعد ذلك في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما إعادة لعين ذلك فيكون ذلك تكريرا من غير فائدة وإن كان شيئا آخر فلا بد من بيانه وأيضا فبتقدير أن يكون المراد منه شيئا آخر لكن لا يجوز ذكره في تعريف القياس لأن ماهية القياس تتم بإثبات مثل معلوم لمعلوم آخر بأمر جامع وإذا تمت الماهية بهذا القدر وكان ذلك المعلوم الزائد خارجا فلا يجوز ذكره وثانيها أن قوله في إثبات حكم لهما مشعر بأن الحكم في الأصل والفرع مثبت بالقياس وهو باطل فإن القياس فرع على ثبوت الحكم في الأصل فلو كان ثبوت الحكم في الأصل فرعا على القياس للزم الدور وثالثها أنه كما يثبت الحكم بالقياس فقد تثبت الصفة أيضا بالقياس كقولنا الله عالم فيكون له علم قياسا على الشاهد ولا نزاع في أنه قياس

لأن القياس أعم من القياس الشرعي والقياس العقلي وإذا كان كذلك فنقول إما أن تكون الصفة مندرجة في الحكم أو لا تكون فان كان الأول كان قوله بأمر جامع بينهما من حكم أو صفة أو نفيهما عنه تكررا لأن الصفة لما كانت أحد أقسام الحكم كان ذكر الصفة بعد ذكر الحكم تكرارا وإن كان الثاني كان التعريف ناقصا لأنه ذكر ما إذا كان المطلوب ثبوت المحكم أو عدمه ولم يذكر ما إذا كان المطلوب وجود الصفة أو عدمها فهذا التعريف أما زائد أو ناقص ورابعها أن المعتبر في ماهية القياس إثبات مثل حكم معلوم لمعلوم آخر بأمر جامع فأما أن ذلك الجامع تارة يكون حكما وتارة يكون صفة وتارة يكون نفيا للحكم وتارة يكون نفيا للصفة فذاك إشارة إلى ذكر أقسام الجامع والمعتبر في تحقق ماهية القياس الجامع من حيث أنه جامع لاأقسام قال الجامع بدليل أمرين

الأول أن ماهية القياس قد توجد منفكة عن كل واحد من أقسام الجامع بعينه وإن كان لا بد لها من قسم ما وما ينفك عن الماهية لا يكون معتبرا في تحقق الماهية والثاني أن الجامع كما ينقسم إلى الحكم والصفة ونفيهما فكذا الحكم ينقسم إلى الوجوب والحظر وغيرهما والوجوب ينقسم إلى الموسع والمضيق والمخير والمعين وغيرها فلو لزم من اعتبار الجامع في ماهية القياس ذكر أقسامه لوجب من ذكر كل واحد من تلك الأقسام ذكر ما لكل واحد من الأقسام وخامسها أن كلمة أو للإبهام وماهية كل شئ معينة والإبهام ينافي التعيين فإن قلت كونه بحيث يلزمه أحد هذه الأمور حكم معين قلت فالمعتبر إذن في الماهية ملزوم هذه الأمور وهو كونه جامعا من حيث إنه جامع فيكون ذكر هذه الزوائد لغوا

التعريف الثاني لأبي الحسين البصري وشرحه

وسادسها هو أن القياس الفاسد قياس وهو خارج عن هذا التعريف أما الأول فلأن القياس الفاسد قياس مع كيفية فيكون قياسا وأما الثاني فلأن قوله بأمر جامع دليل على أن هذا القائل يعتبر في حد القياس حصول الجامع ومتى حصل الجامع كان القياس صحيحا فيكون القياس الفاسد خارجا عنه وإنه غير جائز بل يجب أن يقال بأمر جامع في ظن المجتهد فأن القياس الفاسد حصل فيه الجامع في ظن المجتهد وإن لم يحصل في نفس الأمر التعريف الثاني ما ذكره أبو الحسين البصري وهو أنه تحصيل حكم الأصل في الفرع لاشتباههما في علة الحكم عند المجتهد وهو قريب وأظهر منه أن يقال إثبات مثل حكم معلوم لمعلوم آخر لأجل اشتباههما في علة الحكم عند المثبت فلنفسر عن الألفاظ المستعملة في هذا التعريف أما الإثبات فالمراد منه القدر المشترك بين العلم والاعتقاد والظن سواء تعلقت هذه الثلاثة بثبوت الحكم أو بعدمه وقد يطلق لفظ الإثبات ويراد به الخبر باللسان لدلالته على الحكم الذهنى

وأما المثل فتصوره بديهي لأن كل عاقل يعلم بالضرورة كون الحار مثلا للحار في كونه حارا ومخالفا للبارد في كونه باردا ولو لم يحصل تصور ماهية التماثل والاختلاف إلا بالاكتساب لكان الخالى عن ذلك الاكتساب خاليا عن ذلك التصور فكان خاليا عن هذا التصديق ولما علمنا أننا قبل كل اكتساب نعلم بالضرورة هذا التصديق المتوقف على ذلك التصور علمنا أن حصول ذلك التصور غنى عن الاكتساب وأما الحكم فقد مر في أول الكتاب تعريفه وأما المعلوم فلسنا نعنى به مطلق متعلق العلم فقط بل ومتعلق الاعتقاد والظن لأن الفقهاء يطلقون لفظ المعلوم على هذه الأمور وأما العلة فسيأتي تفسيرها إنشاء الله تعالى وقولنا عند المثبت ذكرناه ليدخل فيه القياس الصحيح والفاسد

الاعتراض عليه

فإن قيل هذا التعريف ينتقض بقياس العكس وقياس التلازم والمقدمتين والنتيجة أما قياس العكس فكقولنا لو لم يكن الصوم شرطا لصحة الاعتكاف لما كان شرطا له بالنذر قياسا على الصلاة فإنها لما لم تكن شرطا لصحة الاعتكاف لم تكن شرطا له بالنذر فالمطلوب في الفرع إثبات كون الصوم شرطا لصحة الاعتكاف والثابت في الأصل نفي كون الصلاة شرطا له فحكم الفرع ليس حكم الأصل بل نقيضه وأما قياس التلازم فكقولنا إن كان هذا إنسانا فهو حيوان لكنه إنسان فهو حيوان لكنه ليس بحيوان فليس بإنسان وأما المقدمتان فكقولنا كل جسم مؤلف وكل مؤلف محدث فكل جسم محدث فإن قلت لا أسمي هاتين الصورتين قياسا لأن القياس عبارة عن التسوية وهي لا تحصل إلا عند تشبيه صورة بصورة وليس الأمر كذلك في التلازم وفي المقدمتين والنتيجة

جواب الإعتراضات

قلت بل التسوية حاصلة في هذين الموضعين لأن الحكم في كل واحدة من المقدمتين معلوم والحكم في النتيجة مجهول فاستلزام المطلوب من هاتين المقدمتين يوجب صيرورة الحكم المطلوب مساوية للحكم في المقدمتين في صفة المعلومية والجواب أما الشئ الذي سميتموه بقياس العكس فهو في الحقيقة تمسك بنظم التلازم وإثبات لإحدى مقدمتى التلازم بالقياس فإنا نقول لو لم يكن الصوم شرطا في صحة الاعتكاف لما صار شرطا له بالنذر لكنه يصير شرطا له بالنذر فهو شرط له مطلقا فهذا تمسك بنظم التلازم واستثناء نقيض اللازم لإنتاج نقيض الملزوم ثم إنا نثبت المقدمة الشرطية بالقياس وهو أن ما لا يكون شرطا للشئ في نفسه لم يصر شرطا له بالنذر كما في الصلاة وهذا قياس الطرد لا قياس العكس وأما الصورتان الباقيتان فلا نسلم أنه قياس لما بينا قوله معنى التسوية حاصل فيه من الوجه المذكور قلنا لو كفى ذلك الوجه في إطلاق اسم القياس لوجب أن يسمى كل دليل قياسا لأن المتسك من بالنص جعل مطلوبه مساويا لذلك النص في

المسألة الثانية في الأصل والفرع

المعلومية ولو صح ذلك لأمتنع في أن يقال ثبت الحكم في محل النص بالنص لا بالقياس فإن أردنا أن نذكر عبارة في تعريف القياس بحيث تتناول كل هذه الصور نقل القياس قول مؤلف من أقوال إذا سلمت لزم عنها لذاتها قول آخر وتحقيق القول في هذا التعريف مذكور في كتبنا العقلية المسألة الثانية في الأصل والفرع إذا قسنا الذرة على البر في تحريم بيعه بجنه بن متفضلا فأصل القياس إما أن يكون هو البر أو الحكم الثابت فيه أو علة ذلك الحكم أو النص الدال على ثبوت ذلك الحكم فالفقهاء جعلوا الأصل اسما لمحل الحكم المنصوص عليه والمتكلون جعلوه اسما للنص الدال على ذلك الحكم أما قول الفقهاء فضعيف لأن أصل الشئ ما تفرع عنه غيره

والحكم المطلوب إثباته في الذرة غير متفرع على البر لأن البر لو لم يوجد فيه ذلك الحكم وهو حرمة الربا لم يمكن تفريع حرمة الربا في الذرة عليه ولو وجد ذلك الحكم في صورة أخرى ولم يوجد في البر أمكن تفريع حكم الربا في الذرة عليه فإذن الحكم المطلوب إثباته غير متفرع أصلا على البر بل على الحكم الحاصل في البر فالبر إذن لا يكون أصلا للحكم المطلوب وأما زيادة قول المتكلمين فضعيف أيضا من هذا الوجه لأنا لو قدرنا كوننا عالمين بحرمة الربا في البر بالضرورة أو بالدليل العقلى لأمكننا أن نفرع عليه حكم الذرة فلو قدرنا أن النص على حرمة الربا في صورة خاصة لم يكن أن نفرع عليه حكم الذرة تفريعا قياسيا وإن أمكن تفريعا نصيا وإذا كان كذلك لم يكن النص أصلا للقياس بل أصلا لحكم محل الوفاق ولما فسد هذان القولان بقى أن يكون أصل القياس هو الحكم الثابت في محل الوفاق أو علة ذلك الحكم ولابد فيه من تفصيل فنقول الحكم أصل في محل الوفاق فرع في محل الخلاف والعلة فرع في محل الوفاق أصل في محل الخلاف وبيانه أنا ما لم نعلم ثبوت الحكم في محل الوفاق لا نطلب علة وقد نعلم

ذلك الحكم ولا نطلب علته أصلا فلما توقف إثبات علة الحكم في محل الوفاق على إثبات ذلك الحكم ولم يتوقف إثبات ذلك الحكم على إثبات علة الحكم في محل الوفاق لاجرم كانت العلة فرعا على الحكم في محل الوفاق والحكم أصلا فيه وأما في محل الخلاف فما لم نعلم حصول العلة فيه لا يمكننا إثبات الحكم فيه قياسا ولا ينعكس فلا جرم كانت العلة أصلا في محل الخلاف والحكم فرعا فيه وإذا عرفت ذلك فنقول إن لقول الفقهاء والمتكلمين وجها أيضا لأنه إذا ثبت أن الحكم الحاصل في محل الوفاق أصل وثبت أن النص أصل لذلك الحكم فكان النص أصلا لأصل الحكم المطلوب وأصل الأصل أصل فيجوز تسمية ذلك النص بالأصل على قول المتكلمين وأيضا فالحكم الذي هو الأصل محتاج إلى محلة فيكون محل الحكم أصلا للأصل فتجوز تسميته بالأصل أيضا على ما هو قول الفقهاء وهاهنا دقيقة وهي أن تسمية العلة في محل النزاع أصلا أولى من تسمية محل الوفاق بذلك لأن العلة مؤثرة في الحكم والمحل غير مؤثر

بيان معنى الفرع عند كل منهما

في الحكم فجعل علة الحكم أصلا له أولى من جعل محل الحكم أصلا له لأن التعليق الأول أقوى من الثاني وأما الفرع فهو عند الفقهاء عبارة عن محل الخلاف وعندنا عبارة عن الحكم المطلوب إثباته لأن محل الخلاف غير متفرع على الأصل بل الحكم المطلوب إثباته فيه هو المتفرع عليه وهاهنا دقيقة وهى إطلاق لفظ الأصل على محل الوفاق أولى من إطلاق لفظ الفرع على محل الخلاف لأن محل الوفاق أصل للحكم الحاصل فيه والحكم الحاصل فيه أصل للقياس فكان محل الوفاق أصل أصل القياس وأما هاهنا فمحل الخلاف أصل للحكم المطلوب إثباته فيه وذلك الحكم فرع للقياس فيكون محل الخلاف أصل فرع القياس وإطلاق اسم الأصل على أصل أصل القياس أولى من إطلاق اسم الفرع على أصل الفرع واعلم أنا بعد التنبيه على هذه الدقائق نساعد الفقهاء على مصطلحهم وهو أن الأصل محل الوفاق والفرع محل الخلاف لئلا نفتقر إلى تغيير مصطلحهم المسألة الثالثة إذا اعتقدنا كون الحكم في محل الوفاق معللا بوصف ثم اعتقدنا حصول ذلك الوصف بتمامه في محل النزاع حصل لا محالة اعتقاد

أن الحكم في محل النزاع مثل الحكم في محل الوفاق فإن كانت المقدمتان قطعيتين كانت النتيجة كذلك ولا نزاع بين العقلاء في صحته أما إذا كانتا ظنيتين أو كانت إحداهما فقط ظنية فالنتيجة تكون ظنية لا محالة وهذا إما أن يكون في الأمور الدنيوية أو في الأحكام الشرعية فإن كان في الأمور الدنيوية فقد اتفقوا على أنه حجة وأما في الشرعيات فهو محل الخلاف والمراد من قولنا القياس حجة أنه إذا حصل ظن أن حكم هذه الصورة مثل حكم تلك الصورة فهو مكلف بالعمل به في نفسه ومكلف بأن يفتى به غيره واعلم أن الجمع بين الأصل والفرع تارة يكون بإلغاء الفارق والغزالي يسميه تنقيح المناط وتارة باستخراج الجامع وهاهنا لا بد من بيان أن الحكم في الأصل معلل بكذا ثم من بيان وجود ذلك المعنى في الفرع والغزالي يسمى الأول تخريج المناط والثاني تحقيق المناط

القسم الأول في إثبات أن القياس حجة

القسم الأول في إثبات أن القياس حجة اختلف الناس في القياس الشرعي فقلت طائفة العقل يقتضى جواز التعبد به في الجملة وقالت طائفة العقل يقتضي المنع من التعبد به والأولون قسمان

منهم من قال وقع التعبد به ومنهم من قال لم يقع أما من اعترف بوقوع التعبد به فقد اتفقوا على أن السمع دل عليه ثم اختلفوا في ثلاثة مواضع أحدها أنه هل في العقل ما يدل عليه فقال القفال منا وأبو الحسين والبصرى من المعتزلة العقل يدل على وجوب العمل به وأما الباقون منا ومن المعتزلة فقد أنكروا ذلك وثانيها أن أبا الحسين البصري زعم أن دلالة الدلائل السمعية عليه ظنية والباقون قالوا قطعية وثالثها القاشاني والنهرواني ذهبا إلى العمل بالقياس في صورتين

إحداهما إذا كانت العلة منصوصة بصريح اللفظ أو بإيمائه والثانية كقياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف أما جمهور العلماء فقد قالوا بسائر الأقيسة وأما القائلون بأن التعبد لم يقع به فمنهم من قال لم يوجد في السمع ما يدل على وقوع التعبد به فوجب الامتناع من العمل به ومنهم من لم يقنع بذلك بل تمسك في نفيه بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة وإجماع العترة وأما القسم الثاني وهم الذين قالوا بأن العقل يقتضى المنع من التعبد به فهم فريقان أحدهما خصص ذلك المنع بشرعنا وقال لأن مبنى شرعنا على الجمع بين المختلفات والفرق بين المتماثلات وذلك يمنع من القياس وهذا قول النظام وثانيها الذين قالوا يمتنع ورود التعبد به في كل الشرائع وهؤلاء فرق ثلاث إحداها الذين قالوا يمتنع أن يكون القياس طريقا إلى العلم والظن

وثانيتها الذين سلموا أنه يفيد الظن لكنهم قالوا لا يجوز متابعة الظن لأنه قد يخطئ وقد يصيب وثالثها الذين سلموا أنه يجوز متابعة الظن في الجملة ولكن حيث يتعذر النص كما في قيم المتلفات وأروش الجنايات والفتوى والشهادات لأنه لا نهاية لتلك الصور فكان التنصيص على حكم كل واحد منها متعذرا أما في غير هذه الأحكام فإنه يمكن التنصيص عليها فكان الاكتفاء بالقياس اقتصارا على أدنى البابين مع القدرة على أعلاهما وأنه غير جائز وهذه طريقة داود وأتباعه من أهل الظاهر فهذا تفصيل المذاهب

موقف الإمام المصنف من القياس

والذي نذهب إليه وهو قول الجمهور من علماء الصحابة والتابعين أن القياس حجة في الشرع لنا الكتاب والسنه والإجماع والمعقول أما الكتاب فقوله تعالى فاعتبروا يا أولي الأبصار وجه الاستدلال به أن الاعتبار مشتق من العبور وهو المرور يقال عبرت عليه وعبرت النهر والمعبر الموضع الذي يعبر عليه والمعبر السفينة التي يعبر فيها كأنها أداة العبور والعبرة الدمعة التي عبرت من الجفن وعبر الرؤيا وعبرها جاوزها إلى ما يلازمها فثبت بهذه الاستعمالات كون الاعتبار حقيقة في المجاوزة فوجب أن لا يكون حقيقة في غيرها دفعا للاشتراك والقياس عبور من حكم الأصل إلى حكم الفرع فكان داخلا تحت الأمر

فإن قيل لا نسلم أن الاعتبار هو المجاوزة بل هو عبارة عن الاتعاظ لوجوه أحدها أنه لا يقال لمن يستعمل القياس العقلى إنه معتبر وثانيها أن المتفكر في إثبات الحكم من طريق القياس إذا لم يتفكر في أمر معاده يقال إنه غير معتبر أو قليل الاعتبار وثالثها قوله تعالى إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار وإن لكم في الأنعام لعبرة والمراد به الاتعاظ ورابعها يقال السعيد من اعتبر بغيره والأصل في الكلام الحقيقة فهذه الأدلة تدل على أن الاعتبار حقيقة في الاتعاظ لا في

المجاوزة فحصل التعارض بين ما قلتم وما قلناه فعليكم الترجيح ثم الترجيح معنا فإن الفهم أسبق إلى ما ذكرنا سلمنا أن ما ذكرتموه حقيقة ولكن شرط حمل اللفظ على الحقيقة أن لا يكون هناك ما يمنع منه وقد وجد هاهنا ما يمنع فإنه لو قال يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فقيسوا الذرة على البر كان ركيكا لا يليق بالشرع وإذا كان كذلك ثبت أنه وجد ما يمنع من حمل اللفظ على حقيقته سلمنا أنه لا مانع من حمله على المجاوزة لكن لا نسلم أن الأمر بالمجاوزة أمر بالقياس الشرعي وبيانه أن كل من تمسك بدليل على مدلول فقد عبر من الدليل إلى المدلول فمسمى الاعتبار مشترك فيه بين الاستدلال بالدليل العقلى القاطع وبالنص وبالبراءة الأصلية وبالقياس الشرعي فكل واحد من هذه الأنواع يخالف الآخر بخصوصيته وما به الاشتراك غير ما به الامتياز وغير مستلزم له فاللفظ الدال على ما به الاشتراك غير دال على ما

به الامتياز لا بلفظه ولا بمعناه فلا يكون دالا على النوع الذي ليس إلا عبارة عن مجموع جهة الاشتراك وجهة الامتياز فلفظ الاعتبار غير دال على القياس الشرعي لا بلفظه ولا بمعناه فإن قلت القدر المشترك بين أنواع مخصوصة لا يوجد إلا عند وجود واحد منها والأمر بالشئ أمر بما هو من ضروراته فالأمر بإدخال الاعتبار في الوجود أمر بإدخال أحد أنواعه في الوجود ثم ليس تعيين أحد أنواعه أولى من تعيين الباقي لأن نسبة القدر المشترك بين أنواع مخصوصة إلى كل واحد منها على السوية فإما أن لا يجب شئ منها وهو باطل لأن تجويز الإخلال بجميع أنواع الماهية يلزم تجويز الإخلال بتلك الماهية فيلزم أن لا يكون مسمى الاعتبار مأمورا به وهو باطل أو يجب جميع أنواع الاعتبار المأمور به في الآية فيكون القياس الشرعي مندرجا فيه قلت لا نسلم أنه ليس بعض الأنواع أولى من بعض لأن الاعتبار المأمور به في الآية لا يمكن أن يكون هو القياس الشرعي فقط وإلا لصار معنى الآية يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فقيسوا الذرة على البر ومعلوم أنه غير جائز بل لا بد من الاعتراف بأن الاعتبار المأمور به يفيد نوعا غير القياس الشرعي وهو الاتعاظ مثلا إلا أنا نقول إنه يفيد الاتعاظ فقط وأنتم تقولون يفيد الاتعاظ والقياس الشرعي فظهر بهذا أن الأمر بالاعتبار يستلزم الأمر بالاتعاظ ومسمى الاعتبار حاصل في الاتعاظ ففي إيجاب الاتعاظ حصل إيجاب

مسمى الاعتبار فلا حاجة إلى إيجاب سائر أنواعه وأيضا فنحن نوجب اعتبارات أخر أحدها إذا نص الشارع على علة الحكم فهاهنا القياس عندنا واجب وثانيها قياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف وثالثها الأقيسة العقلية ورابعها الأقيسة في أمور الدنيا فإن العمل بها عندنا واجب وخامسها أن نشبه الفرع بالأصل في أنه لا يستفاد حكمه إلا من النص وسادسها الاتعاظ والانزجار بالقصص والأمثال فثبت بما تقدم أن الآتى بفرد من أفراد ما يسمى اعتبارا يكون خارجا عن عهدة هذا الأمر وثبت أنا أتينا به في صور كثيرة فلا تبقى فيه دلالة البتة على الأمر بالقياس الشرعي

سلمنا أن اللفظ يقتضى العموم لكن حمله عليه هاهنا يفضي إلى التناقض لأن التسوية بين الفرع والأصل في الحكم نوع من الاعتبار والتسوية بينهما في أنه لا يستفاد حكم الفرع إلا من النص كما أنه في الأصل كذلك ولأنه نوع أخر من الاعتبار والأمر بأحد الاعتبارين مناف للأمر بالآخر فإجراء اللفظ على ظاهره يقتضى الأمر بالمتنافيين معا وهو محال ثم ليس إخراج أحد القسمين من تحت ظاهر العموم لإبقاء الآخر أولى من العكس وعليكم الترجيح ثم أنه معنا لأن تشبيه الفرع بالأصل في أنه لا يستفاد حكمه إلا من النص عمل بالاحتياط واحتراز عن الظن الذي لا يغني من الحق شيئا سلمنا بأن حمله على العموم لا يفضى إلى التناقض لكنه عام دخله التخصيص فوجب أن لا يكون حجة بيان الأول من وجوه

أحدهما أن الرجل لا يكون مأمورا بالاعتبار عند تعادل الأمارات وفي الأشياء التي ما نصب الله تعالى عليها دليلا كمقادير الثواب والعقاب وأجزاء السماوات والأرض وفي الأشياء التي عرف حكمها بالاعتبار مرة فالمكلف بعد ذلك لا يكون مأمورا بأعتبار آخر وثانيها لو قال لوكيله أعتق غانما لسواده فليس للوكيل أن يعتق سالما لسواده وثالثها أن عند قيام النص في المسألة لا يكون الرجل مأمورا بالعمل بالقياس ورابعها الأقيسة المتعارضة لا يتناولها الأمر فثبت أن هذا العام مخصوص ومثل هذا العام ليس بحجة على ما سبق بيانه في باب العموم سلمنا أنه حجة لكن حجة قطعية أو ظنية

الأول ممنوع والثاني مسلم بيانه أنكم إنما بينتم كون الاعتبار اسما للمجاوزة بتلك الاشتقاقات ولا شك أن التوسل بالاشتقاقات هذه إلى تعيين المسمى دليل ظنى ومسألة القياس مسألة يقينية وبناء اليقيني على الدليل المبنى على المقدمة الظنية لا يجوز سلنا أنه يفيد اليقين لكنه أمر والأمر لا يفيد التكرار فلا يتناول كل الأوقات سلمنا أنه يتناول كل الأوقات ولكنه خطاب مشافهة فيختص بالحاضرين في عصر الرسول ص والجواب قلنا جعله حقيقة في المجاوزة أولى لوجهين الأول أنه يقال فلان اعتبر فأتعظ فيجعلون الاتعاظ معلول الاعتبار وذلك يوجب التغاير الثاني أن معنى المجاوزة حاصل في الاتعاظ فإن الإنسان ما لم يستدل بشئ آخر على حال نفسه لا يكون متعظا إذا ثبت هذا فنقول لو جعلناه حقيقة في المجاوزة لكان

حقيقة في الاتعاظ وغيره على سبيل التواطئ أما لو جعلناه حقيقة في الاتعاظ كان استعماله في غيره إما بالاشتراك أو بالمجاز وهما على خلاف الأصل وعلى هذا التقرير لا يضرنا قولهم إن لفظ الاعتبار مستعمل في الاتعاظ فأما قوله لا يقال لمن يستعمل القياس إنه معتبرا قلنا لا نسلم فإنه يصح أن يقال إن فلانا يعتبر الأشياء القعلية بغيرها بلى من أتى بقياس واحد لا يقال إنه معتبرا على الإطلاق كما أنه لا يقال له إنه قائس على الإطلاق لأن لفظ المعتبر والقائس على الإطلاق لا يستعمل إلا في المكثر منه قوله المكثر من حمل الفروع على الأصول إذا لم يتفكر في أمر آخرته لا يقال له إنه معتبر قلنا لما كان الغرض الأعظم من الاعتبار هو العمل للآخرة فإذا لم يأت بما هو المقصود الأصلى قيل أنه غير معتبر على سبيل المجاز كما يقال لمن لا يتدبر في الآيات إنه أعمى وأصم وأما قوله تعالى وإن لكم في الأنعام لعبرة قلنا معنى المجاوزة حاصل فيه لأن النظر في خلقها يفيد العلم بوجود صانعها

قوله سلمناه أنه حقيقة في المجاوزة ولكن لكن وجد ما يمنع من حمله عليها قلنا لا نسلم قوله لو قال يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فقيسوا الذرة على البر كان ركيكا قلنا لا نزاع في أنه لو نص على هذه الصورة كان ركيكا لأنه لا مناسبة بين خصوص هذا القياس وبين قوله تعالى يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين لكن لم قلت إنه لو أمر بمطلق الاعتبار الذي يكون القياس الشرعي أحد جزئياته كان ركيكا مثاله لو سأله عن مسألة فأجاب بما لا يتناول تلك المسألة كان باطلا أما لو أجاب بما يتناول تلك المسألة وغيرها كان حسنا قوله الأمر بالاعتبار لا يقتضى إلا إدخال فرد من أفراد هذه الماهية في الوجود قلنا بل يقتضى العموم لدليلين الأول أن ترتيب الحكم على المسمى يقتضى أن علة ذلك الحكم هو ذلك المسمى وذلك يقتضى أن علة الأمر بالاعتبار هو كونه اعتبارا فيلزم أن يكون

كل اعتبار مأمورا به الثاني أنه يحسن أن يقال اعتبر إلا الاعتبار الفلانى وقد بينا في باب العموم أن الاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل تحت اللفظ فعلمنا أن كل الاعتبارات داخلة تحت هذا اللفظ قوله لو حملناه على العموم لا يفضي إلى التناقض قلنا هب أنه كذلك لكنا نقول لا يجوز أن يكون المراد منه تشبيه الفرع بالأصل في أنه لا يستفاد حكمه إلا من النص وذلك لوجهين الأول أن الاعتبار المذكور هاهنا لابد وأن يكون معناه لائقا بما قبل هذه الآية وما بعدها وإلا جاءت الركاكة والذي يليق به هو التشبيه في الحكم لا المنع منه وإلا لصار معنى الآية يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فلا تحكموا هذا الحكم في حق غيرهم إلا بنص وارد في حق ذلك الغير ومعلوم أن ذلك باطل وإذا بطل حمل الآية عليه وجب حملها على التشبيه في الحكم عملا بعموم اللفظ

الثاني هو أن المتبادر إلى الفهم من لفظ الاعتبار هو التشبيه في الحكم لا المنع منه ولذلك فإن السيد إذا ضرب بعض عبيده على ذنب صدر منه ثم قال للأخر اعتبر به فهم منه الأمر بالتسوية في الحكم لا الأمر بالمنع منه قوله إنه عام مخصوص قلنا هذا مسلم لكنا بينا في باب العموم ان العام المخصوص حجة قوله بعض مقدمات هذه الدلالة ظنية قلنا هذا السؤال عام في كل السمعيات فلا يكون له تعلق بخاصية هذه المسألة قوله الأمر لا يفيد التكرار قلنا إنه لما كان أمرا بجميع الأقيسة كان متناولا لا محالة لجميع الأوقات وإلا قدح ذلك في كونه متناولا لكل الأقيسة قوله هو خطاب مع أولئك الذين كانوا في عصر الرسول ص فلم قلتم إنه يتناولنا قلنا للإجماع على عدم الفرق

أدلتهم من السنة وبيانها ومناقشتها

المسلك الثاني التمسك بخبر معاذ وهو مشهور روى أنه ص أنفذ معاذا وأبا موسى الأشعرى رضى الله عنهما إلى اليمن فقال عليه الصلاة والسلام لهما بما تقضيان فقالا إذا لم نجد الحكم في السنة نقيس الأمر بالأمر فما كان أقرب إلى الحق عملنا به فقال علية الصلاة والسلام أصبتما

وقال عليه الصلاة والسلام لأبن مسعود اقض بالكتاب والسنة إذا وجدتهما فإن لم تجد الحكم فيهما فأجتهد برأيك فإن قيل لا نسلم صحة الحديث وبيانه من وجهين الأول أنه مشتمل على الخطأ فوجب أن لا يكون صحيحا بيان الأول من وجوه أحدها أن فيه قوله فإن لم تجد في كتاب الله وهو يناقض قوله تعالى ما

فرطنا في الكتاب من شئ وقوله تعالى ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) وثانيها أن في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام صوبه على قوله أجتهد رأيي وهو خطأ لأن الاجتهاد في زمان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يجوز على ما سيأتي دليله إن شاء الله تعالى وثالثها أنه عليه الصلاة والسلام سأله عما به يقضى والقضاء هو الإلزام فيكون السؤال واقعا عن الشئ الذي يجب الحكم به والسنة لا تصلح جوابا عن ذلك لأنها تذكر في مقابلة الفرض هذا سنة وليس بفرض ورابعها أن الحديث يقتضى أنه سأله عما به يقضي بعد أن نصبه للقضاء وذلك لا يجوز لأن جواز نصه للقضاء مشروطا بصلاحيته للقضاء وهذه الصلاحية إنما تثبت لو ثبت كونه عالما بالشئ الذي يجب أن يقضى به والشئ الذي لا يجب أن يقضى به

وخامسها أن مقتضى الحديث أنه لا يجوز الاجتهاد إلا عند عدم وجدان الكتاب والسنة وهو باطل لأن تخصيص الكتاب والسنة بالقياس جائز الوجه الثاني في بيان ضعف الحديث روى أن معاذا لما قال أجتهد رأيي قال له الرسول ص اكتب إلي أكتب إليك وليس لأحد أن يقول إنا نصحح الروايتين لأنهما نقلا في واقعة واحدة فإنه لا يمكن الجمع بينهما سلمنا سلامة المتن عن هذه المطاعن لكن لا نزاع بين المحدثين في كونه مرسلا والمرسل ليس بحجة على ما تقدم بيانه سلمنا أنه ليس بمرسل ولكنه ورد في إثبات القياس والاجتهاد وإنه

أصل عظيم في الشرع والدواعي تكون متوفرة على نقل ما هذا شأنه وما يكون كذلك وجب بلوغه في الاشتهار إلى حد التواتر فلما لم يكن كذلك علمنا أنه ليس بحجة والحاصل أنه مرسل فوجب أن لا يكون حجة عند الشافعي رضي الله عنه وأنه خبر وارد فيما تعم به البلوى فوجب أن لا يكون حجة عند أبي حنيفة سلامته عن هذا الأمر لكنه خبر واحد فلا يجوز التمسك به في المسائل القطعية فإن قلت الدليل على صحته أن مثبتى القياس كانوا أبدا متمسكين به في إثبات القياس والنفاة كانوا مشتغلين بتأويله وذلك يدل على اتفاقهم على قبوله قلت قد تقدم بيان ضعف هذا الوجه سلمنا صحته فلم يدل على كون القياس حجة أما قوله أجتهد رأيي قلنا الاجتهاد عبارة عن استفراغ الجهد في الطلب فنحمله على طلب الحكم من النصوص الخفية فإن قلت إنما قال أجتهد رأيي بعد أن كان لا يجده في الكتاب

والسنة وما دلت النصوص الخفية عليه لا يجوز أن يقال إنه غير موجود في الكتاب والسنة قلنا لا نسلم أن قوله فإن لم تجده يقتضى العموم بيانه أنه يصح أن يستفهم فيقال أتعني بقولك فإن لم تجد عدم الوجدان في صرائحه فقط أم فيه وفي جميع وجوه دلالته سلمنا أنه بظاهرة للعموم لكن هاهنا لا يمكن حمله على العموم لأن العمل بالقياس مفهوم عندكم من الكتاب والسنة فكيف يصح حمل قوله فإن لم تجد على العموم سلمنا أنه يمكن حمله على العموم لكن قوله أجتهد رأيي يكفى في العمل بمقتضاه نوع واحد من الاجتهاد فنحمله على التمسك بالبراءة الأصلية أو على التمسك بما ثبت في العقل من أن الأصل في الأفعال الإباحة أو الحظر سلمنا أنه لا يجوز حمله عليه فلم قلتم إنه لما لم يجز حمله على النص الخفي وعلى دليل العقل وجب حمله على القياس الشرعي وما الدليل على الحصر فإن هاهنا طرقا أخرى سوى القياس كالتمسك بالمصالح المرسلة والتمسك بطريقة الاحتياط في تنزيل اللفظ على أكثر مفهوماته أو أقل مفهوماته أو قول الشارع احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب

وبالجملة فلابد من دليل على الحصر سلمنا أنه يتناول القياس الشرعي ولكن يكفي في العمل بمقتضاه إثبات نوع واحد من أنواع القياس الشرعي ونحن نقول به فإن مذهب النظام أن الشرع إذا نص على علة الحكم وجب القياس ورد الأمر بالقياس أو لم يرد ويجب أيضا قياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف سلمنا أنه يدل على جواز العمل بالقياس الشرعي لكن في زمان حياة الرسول ص أو بعده على الإطلاق الأول مسلم والثاني ممنوع بيانه أن شرط العمل بالقياس عدم الوجدان في الكتاب والسنة وذلك إنما يمكن في زمان حياة الرسول ص لعدم استقرار الشرع فأما بعد نزول قوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم فإن هذا متعذر لأن الدين إنما يكون كاملا أن لو بين فيه جميع ما يحتاج إليه وذلك إنما يكون بالتنصص سنة على كليات الأحكام وإذا كان جميع الأحكام موجودا في الكتاب والسنة وكان العمل بالقياس مشروطا بعدم الوجدان فيهما لم يجز العمل بالقياس بعد زمان الرسول ص

والجواب قوله هذا الحديث مناف لكتاب الله تعالى قلنا لا نسلم وأما قوله تعالى ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين وقوله تعالى ما فرطنا في الكتاب من شئ قلنا هذه الأدلة تدل على اشتمال الكتاب على كل الأمور إبتداء أو بواسطة الأول باطل لخلو ظاهر كتاب الله تعالى عن دقائق الهندسة والحساب وتفاريع الحيض والوصايا والثاني لا يضرنا لأن كتاب الله تعالى لما دل على وجوب قبول قول الرسول ص وقول الرسول دل على أن القياس حجة والقياس دل على هذه الأحكام كان كتاب الله تعالى دالا على هذه الأحكام قوله الحديث يدل على جواز الاجتهاد في زمان الرسول ص قلنا وأي محذور يلزم منه فإن الواقعة التي لا يمكن تأخير الحكم فيها إلى مدة يذهب الرجل من اليمن إلى المدينة ويرجع عنها لا يكون تحصيل النص فيها ممكنا فوجب جواز الرجوع إلى القياس

قوله ذكر السنة جوابا عما به يقضى غير جائز قلنا لا نسلم لأن السنة عبارة عن الطريقة كيف كانت قوله لا يجوز نصبه للقضاء إلا بعد العلم بأنه يعرف التمييز بين ما يجوز به القضاء وبين ما لا يجوز قلنا المراد بقوله لما بعث معاذا إلى اليمن لما عزم على أن يبعثه قوله الحديث يمنع من تخصيص الكتاب والسنة بالقياس قلنا كثير من الناس ذهب إليه قوله نقل أنه عليه الصلاة والسلام قال اكتب إلي أكتب إليك قلنا روايتنا مشهورة وروايتكم غريبة لم يذكرها أحد من المحدثين فلا يحصل التعارض وأيضا فكيف يجوز أن يقول عليه الصلاة والسلام اكتب إلي أكتب إليك وقد يعرض من الحكم مالا يجوز تأخيره وأيضا يمكن الجمع بينهما وإن وردا في واقعة واحدة وهو أن يقال الحادثة إن احتملت التأخير وجب عرضها وإن لم تحتمل وجب الاجتهاد قوله إنه مرسل

قلنا هب أنه كذلك لكنه مرسل تلقته الأمة بالقبول ومثله حجة عندنا قوله وارد فيما تعم به البلوى فوجب بلوغه إلى حد التواتر قلنا وروده فيما تعم به البلوى لا يوجب كونه متواترا بدليل المعجزات المنقولة عن النبي ص قوله إنه خبر واحد قلنا هب أنه كذلك لكن لا نثبت به القطع بكون القياس حجة بل ظن كونه حجة قوله نحمله على طلب النص الخفى قلنا قوله فإن لم تجد يقتضى نفي النص جليا كان أو خفيا

قوله لا نسلم أن قوله فإن لم تجد للعموم قلنا الدليل الدال على أنه للعموم جواز الاستثناء قوله لما دل الكتاب والسنة على العمل بالقياس كان دليلا على الحكم الثابت بالقياس قلنا هب أنه كذلك ولكن الحكم الذي هو مدلول القياس لا يكون حاصلا فيهما وهذا القدر يكفى في جواز أن يقال إنه غير موجود في الكتاب والسنة وقول معاذ أحكم بكتاب الله أراد به ما دل عليه الكتاب بنفسه لا بواسطة إذ لو أراد به كل ما دل عليه الكتاب سواء كان ابتداء أو بواسطة لكان القول بأنه إذا لم يوجد في الكتاب حكمت بما في السنة خطأ قوله نحمله على البراءة الأصلية قلنا البراءة الأصلية معلومة لكل احد فلا حاجة في معرفتها إلى الاجتهاد فلا يجوز حمل قوله أجتهد عليه قوله نحمله على القياس الذي نص الشرع على علته أو على ما يكون مثل قياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف قلنا الشرع إنما سكت عند قوله أجتهد لعلمه بأن الاجتهاد واف بجميع الأحكام فلو حملناه على ما ذكرتموه من القياس لم يكن ذلك وافيا بمعرفة عشر عشير الأحكام فكان يجب أن لا يسكت عليه كما لم يسكت عند قوله أقضي بالكتاب والسنة

الدليل الثاني: حديث أرأيت لو تمضمضت بماء المتضمن استعماله عليه الصلاة والسلام للقياس

قوله ما الدليل على الحصر قلنا أجمعت الأمة على الحصر فوجب القطع به المسلك الثالث روى أن عمر رضي الله عنه سأل النبي ص عن قبلة الصائم فقال أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكنت شاربه وجه الاستدلال به أنه عليه الصلاة والسلام استعمل القياس وذلك يوجب كون القياس حجة إنما قلنا إنه استعمل القياس لأنه عليه الصلاة والسلام حكم بأن القبلة

من دون الإنزال لا تفسد الصوم كما أن المضمضة من دون الأزدراد عمرو لا تفسد الصوم وإيراد هذا الكلام يدل على أن الجامع بينهما ما يفهمه كل عاقل عند سماع هذا الكلام من أنه لم يحصل عند المقدمتين ما هو الثمرة المطلوبة فوجب أن لا يكون حكم المقدمة كحكم الثمرة المطلوبة وإنما قلنا إنه عليه الصلاة والسلام لما استعمل القياس وجب أن يكون حجة لوجهين الأول أن التأسي به واجب الثاني أن قوله ص أرأيت خرج مخرج التقرير فلولا أنه عليه الصلاة والسلام قد مهد عند عمر رضي الله عنه التعبد بالقياس لما قرر ذلك عليه ألا ترى أن الإنسان لو حكم بحكم من الكتاب جاز أن يقول لمن سأله عنه أليس قد قال الله تعالى كذا وكذا إذا كان الكتاب عنده وعند من يخاطبه حجة ولا يجوز أن يقول ذلك إذا كان هو ومن يخاطبه لا يعتقدان كونه حجة ولا يقول الإنسان في حكم حكم به لأجل القياس أليس أن القياس

يقتضيه مع أنه ومن خاطبه لا يعتقدان كون القياس حجة فإن قيل هذا خبر واحد فلا يجوز بناء المسألة العلمية عليه سلمنا ذلك لكن لم قلت إنه عليه الصلاة والسلام نبه هاهنا على العلة ومثل هذا القياس عندنا حجة سلمنا دلالة الحديث على أن القبلة تجرى مجرى المضمضة لكن ليس فيه أن النص أوجب ذلك أو القياس وإذا احتملا لم يجز القطع على أحدهما بغير دليل والجواب قوله هذا خبر واحد قلنا سبق الجواب عنه قوله نبه على العلة قلنا إنه عليه الصلاة والسلام ما نص على العلة ولكنه لم يفعل إلا أنه ذكر أصل القياس بلى العلة متبادرة إلى الإفهام والتنصيص على

الدليل الثالث: حديث الخثعمية

أصل القياس لا يكون تنصيصا على العلة قوله إنه ليس في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام أجرى القبلة مجرى المضمضة لأجل نص أو لأجل قياس قلنا بينا أن المفهوم من قوله عليه الصلاة والسلام أرأيت لو تمضمضت هو أن كل واحد منهما لم يحصل الثمرة المطلوبة بذلك الفعل ولو أن بعض العامة فضلا عن أهل العلم استفتى فقيها في صائم قبل ولم ينزل فقال له الفقيه أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته لاكتفى المستفتى بذلك في أن القبلة لا تفسد صومه ولعلم أنه أجرى أحدهما مجرى الآخر من الوجه الذي ذكرناه فبطل أن يقال إن هذا الكلام لا يدل على الوجه الجامع بينهما وأنه لا يمتنع أن يكون بعض الظواهر اقتضى الجمع المسلك الرابع التمسك بقوله عليه الصلاة والسلام للخثعمية أرأيت لو كان على أبيك دين قضيته أكان يجزي فقالت نعم قال فدين الله أحق بالقضاء

الاستدلال بالإجماع على حجية القياس

ووجه الاستدلال به كما في قبلة الصائم من غير تفاوت المسلك الخامس الإجماع وهو الذي عول عليه جمهور الأصوليين وتحريره أن العمل بالقياس مجمع عليه بين الصحابة وكل ما كان مجمعا عليه بين الصحابة فهو حق فالعمل بالقياس حق

اعتماد الاستدلال بالإجماع على مقدمات ثلاث

أما المقدمة الثانية فقد مر تقريرها في باب الإجماع وأما المقدمة الأول فالدليل عليها أن بعض الصحابة ذهب إلى العمل بالقياس والقول به ولم يظهر من أحد منهم الإنكار على ذلك ومتى كان كذلك كان الإجماع حاصلا فهذه مقدمات ثلاث المقدمة الأولى في بيان أن بعض الصحابة ذهب إلى العمل بالقياس والقول به والدليل عليه وجوه أربعة الوجه الأول ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى أبي موسى الأشعرى في رسالته المشهورة اعرف الأشباه والنظائر وقس الأمور برأيك وهذا صريح في المقصود

الوجه الثاني أنهم صرحوا بالتشبيه لأنه روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أنكر على زيد قوله الجد لا يحجب الأخوة فقال ألا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الأب أبا ومعلوم أنه ليس مراده تسمية الجد أبا لأن ابن عباس رضي الله عنهما

اختلافهم في كثير من المسائل اختلافا لا يمكن أن يكون إلا بناء على قول كل فريق منهكم بالقياس

لا يذهب عليه مع تقدمه في اللغة أن الجد لا يسمى أبا حقيقة ألا ترى أنه ينفي عنه هذا الاسم فيقال إنه ليس أبا للميت ولكنه جده فلم يبق إلا أن مراده أن الجد بمنزلة الأب في حجبه الإخوة كما أن ابن الابن بمنزلة الابن في حجبهم وعن على وزيد أنهما شبهاهما قبل بغصني شجرة وجدولى يحيى نهر فعرفا بذلك قربهما من الميت ثم شركا بينهما في الميراث الوجه الثالث أنهم اختلفوا في كثير من المسائل وقالوا فيها أقوالا ولا يمكن أن تكون تلك الأقوال إلا عن القياس واعلم أن الأصوليين أكثروا من تلك المسائل إلا أن أظهرها أربع إحداها مسألة الحرام فإنهم قالوا فيها خمسة أقوال فنقل عن على وزيد وابن

عمر رضي الله عنهم أنه في حكم التطليقات الثلاث وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه في حكم التطليقة الواحدة إما بائنة أو رجعية على اختلاف بينهم وعن أبي بكر وعمر وعائشة رضى الله عنهم أنه يمين تلزم فيه الكفارة وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه في حكم الظهار وعن مسروق رحمه الله أنه ليس بشئ لأنه تحريم لما أحله الله تعالى فصار كما لوا قال هذا الطعام على حرام والمرتضى روى هذا القول عن علي رضي الله عنه وثانيتها أنهم اختلفوا في الجد مع الإخوة فبعضهم ورث الجد مع الإخوة وبعضهم أنكر ذلك والأولون اختلفوا فمنهم من قال إنه يقاسم الإخوة ما كانت المقاسمة

خيرا له من الثلث فأجراه مجرى الأم ولم ينقص حقه عن حقها لأن له مع الولادة تعصيبا ومنهم من قال إنه يقاسم الإخوة ما كانت المقاسمة خيرا له من السدس وأجراه مجرى الجدة في أن لا ينقص من حقها السدس وثالثتها اختلافهم في مسألة المشتركة وهى زوج وأم وإخوة لأم وإخوة لأب وأم حكم عمر رضي الله عنه فيها بالنصف للزوج وبالسدس للأم وبالثلث للإخوة من الأم ولم يعط للإخوة من الأب والأم شيئا فقالوا هب أن أبانا كان حمارا ألسنا من أم واحدة فشرك بينهم وبين الإخوة من الأم في الثلث ورابعتها اختلافهم في الخلع هل يهدم من الطلاق شيئا أو يبقى عدد الطلاق على ما كان ففي إحدى الروايتين عن عثمان رضى الله عنه أنه طلاق والرواية

الأخرى أنه ليس بطلاق وهو محكى عن ابن عباس وإذا عرفت هذه المسائل فنقول إما أن يكون ذهاب كل واحد منهم إلى ما ذهب إليه لا عن طريق أو عن طريق والأول باطل لأن الذهاب إلى الحكم لا عن طريق باطل فلو اتفقوا عليه كانوا متفقين على الباطل وإنه غير جائز وأما إن ذهبوا إليها عن طريق فذلك الطريق إما أن يكون هو العقل أو السمع والأول باطل لأن حكم العقل في المسألة شئ واحد وهو البراءة الأصلية وهذه أقاويل مختلفة أكثرها يخالف حكم العقل وأما الثاني فلا يخلو إما أن يكون ذلك الدليل نصا أو غيره أما النص فسواء كان قولا أو فعلا وسواء كان جليا أو خفيا فالقول به باطل لأنهم لو قالوا بتلك الأقاويل لنص لأظهروه ولو أظهروه لاشتهر ولو اشتهر لنقل ولو نقل لعرفه الفقهاء والمحدثون ولما لم يكن كذلك علمنا أنهم لم يقولوا بتلك الأقاويل لأجل نص

وإنما قلنا إنهم لو قالوا بتلك الأقاويل لأجل نص لأظهروه لأنا نعلم بالضرورة أنه كان من عاداتهم إعظام نصوص الرسول ص واستعظام مخالفتها حتى نقلوا منها ما لا يتعلق به حكم كقوله عليه الصلاة والسلام نعم الإدام الخل وكان من عادتهم أيضا التفحص عن نصوص الرسول عليه الصلاة والسلام والحث على نقلها إليهم ليتمسكوا الرحمن بها إن كانت موافقة لمذاهبهم أو ليرجعوا عن مذاهبهم إن كانت مخالفة لها وليس يجوز فيمن هذه عادته أن يحكم في قضية بحكم لنص ثم يسكت عن ذكر ذلك النص وذلك معلوم بالضرورة وبهذا الطريق ثبتت المقدمة الثانية وهى قولنا لو أظهر النص لاشتهر ولو اشتهر لنقل ولو نقل لعرفه الفقهاء والمحدثون وأما أن ذلك لم ينقل فلأنا بعد البحث التام والطلب الشديد والمخالطة للفقهاء والمحدثين ما وجدنا في ذلك ما يدل على نقلها وذلك يدل على عدمها

قول كثير منهم بالرأي، والرأي هو القياس

فثبت أنهم لم يقولوا بتلك الأقاويل لأجل نص وإذا بطل ذلك ثبت أنه لأجل القياس الوجه الرابع نقل عن الصحابة القول بالرأى والرأى هو القياس وإنما قلنا إنهم قالوا بالرأى لأنه روى عن أبي بكر أنه قال في الكلالة أقول فيها برأيي وفي الجنين لما سمع الحديث لولا هذا لقضينا فيه برأينا وقول عثمان لعمر رضي الله عنهما في بعض الأحكام إن اتبعت رأيك فرأيك رشيد وإن تتبع رأى من قبلك فنعم ذو الرأى كان وعن على رضى الله عنه اجتمع رأيي ورأي عمر في أم الولد على أن لا تباع وقد رأيت الآن بيعهن وعن ابن مسعود رضي الله عنه في قصة بروع أقول فيها برأيي وإنما قلنا إن الرأى عبارة عن القياس لأنه يقال للإنسان أقلت هذا برأيك أم بالنص فيجعل أحدهما في مقابلة الآخر وذلك يدل على

أن الرأى لا يتناول الاستدلال بالنص سواء كان جليا أو خفيا فثبت بهذه الوجوه الأربعة إن بعض الصحابة ذهب إلى القول بالقياس والعمل به وأما المقدمة الثانية وهى أنه لم يوجد من أحدهم إنكار أصل القياس فلأن القياس أصل عظيم في الشرع نفيا وإثباتا فلو أنكر بعضهم لكان ذلك الإنكار أولى بالنقل من اختلافهم في مسألة الحرام والجد ولو نقل لاشتهر ولوصل إلينا فلما لم يصل إلينا علمنا أنه لم يوجد وتقرير مقدمات هذا الكلام ما تقدم مثله في المقدمة الأولى وأما المقدمة الثالثة وهى أنه لما قال بالقياس بعضهم ولم ينكره أحد منهم فقد انعقد الإجماع على صحته فالدليل عليه أن سكوتهم إما أن يقال أنه كان عن الخوف أو عن الرضا والأول باطل لأنا نعلم من حال الصحابة شدة انقيادهم للحق لا سيما فيما لا

مناقشة الأوجه المتقدمة

يتعلق به رغبة ولا رهبة في العاجل أصلا وذلك يمنع من حمل السكوت على الخوف وأيضا فلأن بعضهم خالف البعض في المسائل التي حكيناها ولو كان هناك خوف يمنعهم من إظهار ما في قلوبهم لما وقع ذلك فثبت أن سكوتهم كان عن الرضا وذلك يوجب كون القياس حجة وإلا لكانوا مجمعين على الخطأ وإنه غير جائز هذا تحرير الأدلة فإن قيل لا نسلم ذهاب أحد من الصحابة إلى القول بالقياس والوجوه الأربعة المذكورة لا يزيد رواتها على المائة والمائتين وذلك لا يفيد القطع بالصحة لاحتمال تواطؤ هذا القدر على الكذب كيف والأحاديث التي يتمسك بها أهل الزمان في المسائل الفقهية مشهورة فيما بين الأمة إلا أن روايتها في الأصل لما انتهت إلى الواحد والإثنين لا جرم لم نقطع به فكذا هاهنا فإن قلت الأمة في هذه الروايات على قولين منهم من قبلها واعترف بدلالتها على القياس ومنهم من اشتغل بتأويلها وذلك يدل على اتفاقهم على قبولها قلت قد مر غير مرة أن هذا الطريق لا يفيد الجزم بصحتها سلمنا صحة هذه الروايات لكن لا نسلم دلالتها على ذهابهم إلى القول بالقياس والعمل به

وأما الوجه الأول وهو قول عمر رضي الله عنه اعرف الأشباه والنظائر وقس الأمور برأيك قلنا التمسك إما أن يكون بقوله اعرف الأشباه والنظائر أو بقوله قس الأمور برأيك أما الأول فلا حجة فيه لأن الله تعالى لما نص على حكم كل جنس ونوع وجب على المستدل معرفة الأشباه والنظائر لئلا يخرج منه ما هو من جنسه ولا يدخل فيه ما هو من غير جنسه وقد يشتبه الشئ بالشئ فلا بد من التأمل الكثير ليعرف أنه من جنسه أو من غير جنسه وأما الثاني وهو قوله قس الأمور برأيك فلا يدل أيضا على الغرض لأن القياس في أصل اللغة عبارة عبارة عن التسوية فقوله قس الأمور برأيك معناه اعرض الأشيا على فكرتك وتأملك وكان لأن التفكير في الشئ لا معنى له إلا استحضار علوم أو ظنون ليتوصل بها إلى تحصيل علوم أو ظنون فالمتفكر روى كأنه يريد التسوية بين المطلوب المجهول وبين المقدمات المعلومة ليصير المجهول معلوما وهذا التأويل متعين لأن الرأى هو الروية فقوله قس الأمور برأيك معناه سو الأشياء برويتك ولم وتسوية الأشياء بالروية ليست إلا ما ذكرنا فيرجع حاصل الأمر إلى أنه أمره بأن لا يحكم بمجرد التشهى والتمني بل بالاستدلال

والنظر وذلك ليس من القياس الشرعي في شئ سلمنا أن المراد منه الأمر بتشبيه الفرع بالأصل لكن يحتمل أن يكون المراد التشبيه في ثبوت ذلك الحكم وأن يكون المراد منه التسوية في أنه كما لا يثبت حكم الأصل إلا بالنص فكذا حكم الفرع لا يثبت إلا بالنص فلم قلت إن الاحتمال الأول أولى من الثاني وأما الوجه الثاني وهو تشبيه ابن عباس قلنا لم قلت إن المراد أنه جمع بين الأمرين بعلة قياسية ولم لا يجوز أن يكون ذلك لأجل أنه كما سمى النافلة بالابن مجازا واكتفى بهذا الاسم المجازي في اندراج النافلة تحت عموم قوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم وكذلك سمى الجد أبا مجازا حتى يكفى هذا في اندراجه تحت عموم قوله تعالى وورثه أبواه والذي يؤكد هذا الاحتمال أن ابن عباس نسب زيدا إلى مفارقة التقوى

وتارك القياس لا يكون كذلك بل تارك النص يكون كذلك وإنما يكون زيد تاركا للنص لو كان الأمر على ما قلنا وأما الوجه الثالث فالكلام عليه أنه ألا يجوز أن يقال إن ذهاب كل واحد إلى ما ذهب إليه في تلك

المسائل كان لتمسكه بنص ظنه دليلا على قوله سواء أصاب في ذلك الظن أو أخطأ فيه قوله لو كان كذلك لأظهروا ذلك النص ولاشتهر ولنقل ولوصل إلينا فلما لم يصل إلينا علمنا عدمه قلنا هذه المقدمات بأسرها ممنوعة قوله علمنا بالضرورة شدة تعظيمهم لنصوص الرسول عليه الصلاة والسلام ويمتنع ممن هذه حاله أن يحكم بحكم لأجل نص ثم أنه لا يذكره قلنا لا نسلم أن شدة تعظيمهم للنص يقتضى إظهار النص الذي لأجله ذهبوا إلى ذلك القول بيانه أن شدة التعظيم إنما تقتضى إظهار النص عند الحاجة إلى إظهاره وهم ما احتاجوا إليه لأن الحاجة إما أن تكون عند المناظرة أو مع المستفتى والأول باطل لأنهم لم يجتمعوا في محفل لأجل المناظرة في تلك المسائل وما كانت عادتهم جارية بالاجتماع على المناظرات والمجادلات وأما المستفتى فلا فائدة من ذكر الدليل معه سلمنا أن شدة تعظيمهم للنص تقتضى إظهار النص ولكن بشرط أن يكون السامع بحيث يمكنه الانتفاع به ولم يوجد هذا الشرط هناك لأنه إذا روى ذلك النص كان ذلك النص خبر واحد في حق السامع وخبر الواحد ليس بحجة فلا فائدة إذا في إظهار هذا النص

سلمنا أنه يجب إظهاره ولكن إذا كان النص جليا أو مطلقا سواء كان جليا أو خفيا الأول مسلم والثاني ممنوع بيانه إن الإنسان إنما يدعوه الداعي إلى إظهار دليل مذهبه إذا كان ذلك الدليل ظاهرا قويا أما إذا كان خفيا فقد لا يدعوه الداعي إلى إظهاره وبالجملة فأنتم المستدلون فعليكم إقامة الدلالة على أن يجب إظهاره سواء كان قويا أو ضعيفا سلمنا ما ذكرتموه لكن نعارضه فنقول لو كان ذهابهم إلى مذاهبهم لأجل القياس لوجب عليهم إظهاره ولكن لم يقل عن أحد من الصحابة القياس الذي لأجله ذهب إلى ما ذهب إليه فإن قلت الفرق أن القياس لا يجب اتباع العالم فيه والنص يجب اتباعه فيه قلت القياس إذا كان ظاهرا جليا فلا نسلم أنه لا يجب الاتباع فيه ولولا ذلك لما حسنت المناظرة فيه بين القائسين سلمنا أنهم لو تمسكوا بالنصوص لأظهروها بين فلم قلت إنهم لو

أظهروها لاشتهر فإن ذلك ليس من الوقائع العظام التي يمتنع أن لا تتوفر الدواعي على نقلها فأن قلت لما توفرت دواعيهم على نقل مذاهبهم مع أنه لا فائدة فيها فلأن تتوفر دواعيهم على نقل تلك الأدلة مع ما فيها من الفوائد كان أولى قلت إنا لم نقل إن الأمور التي لا تكون عظيمة يمتنع نقلها حتى يكون ما ذكرتموه لازما علينا بل قلنا أنه لا يجب نقلها ولا يمتنع أيضا سلمنا أنه من الوقائع العظيمة لكن لم قلت إنه يجب نقله والدليل عليه أن معجزات الرسول ص على جلالة قدرها وأمر الإقامة في الأفراد والتثنية على نهاية ظهورها لم ينقله إلا الواحد والإثنان وإذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن لا ينقله ذلك الواحد أيضا سلمنا أنها لو اشتهرت لنقلت لكن لا نسلم أنها ما نقلت قوله لو نقلت لعرفناها أهل قلنا إما أن تدعى أن كل ما نقل عن الرسول ص وجميع أصحابه فلا بد وأن تعلمه أنت أو تدعي أنه لا بد وأن يوجد في زمانك من يعلمه أما الأول فلا يقول به إنسان سليم العقل وأما الثاني فمسلم ولكن كيف عرفت أنه ليس في زمانك من يعلم تلك النصوص فإن كل أحد إنما يعلم حال نفسه لا حال غيره سلمنا أنه لو نقل لعرفه كل واحد منا لكن لا نسلم أنا لا نعرفه فلنتكلم

في مسألة الحرام فنقول أما من ذهب إلى كونه يمينا فيحتمل أنه إنما ذهب إليه استدلالا بقوله تعالى يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك إلى قوله قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم وانه عليه الصلاة والسلام حرم على نفسه مارية القبطية فأنزل الله تعالى هذه الآية وسماه يمينا ومن ذهب إلى أنه لا اعتبار به تمسك بقوله تعالى لا تحرموا طيبات ما أحل لكم والنهي يدل على الفساد أو بالبراءة الأصلية ومن ذهب إلى أنه للطلقات حديث الثلاث زعم أنه قد يجعل كناية عن الطلقات الثلاث فوجب تنزيله على أعظم أحواله وهو الطلقات الثلاث

ثم أدخله تحت قوله تعالى إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ومن ذهب إلى أنه للطلقة الواحدة نزله على أقل أحواله ومن جعله ظهارا جعله كناية عنه والكنايات في اللغة ليست عبارة عن القياس الشرعي سلمنا أن قولهم بتلك المذاهب ليس للنص فلم قلتم إنه لا بد وأن يكون للقياس فما الدليل على نفى الواسطة ثم إنا نتبرع بذكر الوسائط منها تنزيل اللفظ على أقل المفهومات أو على الأكثر ومنها استصحاب الحال ومنها المصالح المرسلة الخالية عن شهادة الأصول ومنها الاستقراء والفرق بينه وبين القياس أن الاستقراء عبارة عن إثبات الحكم في كلى لثبوته في بعض جزئياته والقياس عبارة عن إثباته في جزئي لأجل ثبوته في جزئي آخر ومنها إنه كان من مذهبه أن مجرد قوله حجة ومستند ذلك الوهم إلى أن قول بعض الأنبياء حجة فيكون قول هذا العالم حجة بيان الأول قوله تعالى كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على

نفسه أضاف التحريم إليه بيان الثاني قوله عليه الصلاة والسلام علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل فهذه الشبهة تقتضى أن يكون مجرد قول العالم حجة فلعل هذه الشبهة خطرت ببالهم ومنها الإجماع فإن قلت حصول الإجماع في محل الخلاف محال قلت المقصود من ذكر الإجماع بيان ثبوت الواسطة بين النص والقياس في الجملة فهذا هو الكلام على الوجه الثالث وأما الوجه الرابع وهو أن الصحابة قالت بالرأى والرأى هو القياس فنقول لا نسلم أن الرأى هو القياس والدليل عليه وجوه

الأول أنه يقال رأى يرى رؤية ورأيا فدل هذا على انه مرادف للرؤية فإذا ثبت ذلك وجب أن لا يكون حقيقة في القياس دفعا للاشتراك وإذا ثبت أنه ما كان في أصل اللغة للقياس وجب أن لا يكون في عرف الشرع له لأن النقل خلاف الأصل الثاني لو كان الرأى اسما للقياس لكان اللفظ المشتق منه دليلا على

القياس وكان يجب أن يكون قولنا فلان يرى كذا معناه أنه يقيس ومعلوم أن ذلك باطل لأن من يذهب إلى الرؤية والصفات وخلق الأعمال يجوز أن يحكى عن نفسه أنى أرى القول بهذه الأشياء وعمن يشاركه في المذهب إنه يرى القول بها الثالث أنكم رويتم عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال في الكلالة أقول فيها برأيي ومعلوم أن تفسير اللفظة اللغوية لا يكون بالقياس فثبت بهذه الوجوه الثلاثة أن الرأى ليس اسما للقياس وأما الذي تمسكتم به من أنه يقال أقلت هذا عن رأيك أو عن النص قلنا أقصى ما في الباب أن يدل هذا الاستعمال على أن الرأى غير النص لكن من أين يدل على إنه لما كان غير النص وجب أن يكون قياسا بيانه أن النص هو اللفظ الدال على الحكم دلالة ظاهرة جلية فما لا يكون كذلك لا يكون نصا فلا يلزم من كون الرأى خارجا عن النص أن لا يكون ذلك الاستدلال لفظيا لاحتمال إنه لما كان خفيا لا جرم لا يسمى بالنص

سلمنا أن مسمى الرأى ليس هو النص فلم قلتم إنه هو القياس وما الدليل على هذا الحصر فهذا هو الكلام المختصر على الوجوه الأربعة المذكورة في تقرير المقدمة الأولى سلمنا أن بعض الصحابة قال بالقياس أو عمل به فلم قلت إن أحدا منهم ما أنكره قوله لو أنكروه لاشتهر ولنقل ولوصل إلينا قلنا الكلام على هذه المقدمات قد مر والذي نقوله الآن أنا لا نسلم أنه ما وصل ذلك الإنكار إلينا فإنه نقل عنهم تارة إنكار الرأى وأخرى إنكار القياس وأخرى ذم من أثبت الحكم لا بالكتاب والسنة روى عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي وعن عمر رضي الله عنه إياكم وأصحاب الرأى فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا

وعنه رضى الله عنه إياكم والمكايلة قيل وما المكايلة قال المقايسة وعن شريح قال كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يومئذ من قبله قاض اقض بما في كتاب الله تعالى فإن جاءك ما ليس في كتاب الله فاقض بما في سنة رسول الله ص فإن جاءك ما ليس فيها فاقض بما أجمع عليه أهل العلم فإن لم تجد فلا عليك أن تقضي وعن على لو كان الدين يؤخذ بالقياس لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره

وروى عنه من أراد أن يقتحم جراثيم جهنم فليقل في الجد برأيه وهذا أيضا يروى عن عمر رضي الله عنه وعن ابن عباس يذهب قراؤكم وصلحاؤكم ويتخذ الناس رؤساء جهالا يقيسون الأمور برأيهم وقال إذا قلتم في دينكم بالقياس أحللتم كثيرا مما حرمه الله تعالى وحرمتم كثيرا مما حلل الله

وقال إن الله تعالى قال لنبيه ص فاحكم بينهم بما أنزل الله ولم يقل بما رأيت وقال لو جعل لأحدكم أن يحكم برأيه لجعل ذلك لرسول الله ص ولكن قيل له وأن احكم بينهم بما أنزل الله وقال إياكم والمقاييس فإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس وعن ابن عمر رضي الله عنه السنة ما سنة رسول الله ص لا تجعلوا الرأى سنة للمسلمين وعن مسروق لا أقيس شيئا بشئ أخاف أن تزل قدمي بعد ثبوتها وكان ابن سيرين يذم القياس ويقول أول من قاس إبليس وقال الشعبي لرجل لعلك من القياسيين وقال إن أخذتم بالقياس أحللتم الحرام وحرمتم الحلال فثبت بهذه الروايات تصريح الصحابة والتابعين بإنكار الرأى والقياس فإن قلت هؤلاء الذين نقلت عنهم المنع من القياس هم الذين

دللنا على ذهابهم إلى القول به فلا بد من التوفيق وذلك بأن نصرف الروايات المانعة من القياس إلى بعض أنواعه وذلك حق لأن العمل بالقياس لا يجوز عندنا إلا بشرائط مخصوصة قلت هب أن الذين نقلنا عنهم المنع من القياس هم الذين دللتم على أنهم كانوا عاملين به إلا أنا نقلنا عنهم التصريح بالرد والمنع على الإطلاق من غير تقييد بصورة خاصة وانتم ما نقلتم عنهم التصريح بالقول بل رويتم عنهم أمورا ثم دللتم بوجوه دقيقة غامضة على إن تلك الأمور دالة على قولهم بالقياس ومعلوم أن التصريح بالرد أقوى مما ذكرتموه فكان قولنا راجحا سلمنا عدم الترجيح من هذا الوجه لكن كما أن التوفيق الذي ذكرتموه ممكن فهاهنا توفيق آخر وهو أن يقال إن بعضهم كان قائلا بالقياس حين كان البعض الآخر منكرا له ثم لما انقلب المنكر مقرا انقلب المقر أيضا منكرا وعلى هذا التقدير يكون كل واحد منهم مادحا للقياس وذاما له من غير تناقض مع أنه لا يحصل الإجماع سلمنا أن بعض الصحابة قال بالقياس وأن أحدا منهم ما أظهر الإنكار فلم قلتم يحصل الإجماع

وبيانه أن السكوت قد يكون للخوف والتقية قوله القول بالقياس ليس سببا لنفع دنيوى فكيف يحصل الخوف من إنكار الحق فيه قلنا لا نسلم عدم الخوف هناك قال النظام في هذا المقام الصحابة ما اجمعوا على القياس بل القائل به قوم معدودون وهم عمر وعثمان وعلى وابن مسعود وأبى وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وأبو الدرداء وأبو موسى وأناس قليل من أصاغر الصحابة والباقون ما كانوا عاملين به ولكن لما كان فيهم عمر وعثمان وعلى وهؤلاء لهم سلطان ومعهم الرغبة والرهبة شاع ذلك في الدهماء وانقادت لهم العوام فجاز للباقين السكوت على التقية لأنهم قد علموا أن إنكارهم غير مقبول

قال والذي يدل عليه أنه قال في الفتيا عبد الله بن عباس والعباس أكبر منه ولم يقل في الفتيا شيئا من غير عجز ولا عى ولا غيبة عن شئ شهده أبنه وقال في الفتيا عبد الله بن الزبير والزبير أعظم منه ولم يقل فيه شيئا وكان أبو عبيدة ومعاذ بن جبل بالشام فقال معاذ ولم يقل أبو عبيدة

مع أن أبا عبيدة أعظم منه فإنه قال عليه الصلاة والسلام أبو عبيدة أمين هذه الأمة وكيف يقال كان الخوف زائلا وابن عباس قال هبته وكان الله مهيبا وأيضا فإن الرجل العظيم إذا أختار مذهبا فلو أن غيره أبطل ذلك المذهب عليه فإنه يشق عليه غاية المشقة ويصير ذلك سببا للعداوة الشديدة قوله لو كان الخوف مانعا من المخافة لما خالف بعضهم بعضا في مسألة الجد والحرام قلنا القياس أصل عظيم في الشرع نفيا وإثباتا فكان النزاع فيه أصعب من النزاع في فروع الفقه ولذلك نرى في المختلفين في مسألة القياس يضلل بعضهم بعضا والمختلفين في الفروع لا يفعلون ذلك سلمنا أن أسباب الخوف ما كانت ظاهرة ولكن أجمع المسلمون على أنهم ما كانوا معصومين فكيف يمكننا القطع باحترازهم عند عن كل ما لا ينبغي غاية ما في الباب حسن الظن بهم ولكن ذلك يكفى في القطعيات سلمنا زوال الخوف ولكن لعلهم سكتوا لأنه ما ظهر لهم كون القياس حقا ولا باطلا فكان فرضهم السكوت

أو أنهم عرفوا كونه خطأ لكنهم اعتقدوا أنه من الصغائر فلا يجب الإنكار على العامل به ولأن كل واحد منهم اعتقد في غيره أنه أولى بإظهار الإنكار سلمنا أنهم بأسرهم رضوا لكن حصل الرضا دفعة واحدة أولا دفعة واحدة الأول مما لا يعرفه إلا الله تعالى لأنهم ما جلسوا في محفل واحد قاطعين بصحته دفعة واحدة والثاني لا يفيد الإجماع لأنه ربما كان الأمر بحيث لما صار البعض راضيا بقلبه صار الآخر متوقفا فيه أو منكرا عليه بالقلب وذلك يمنع من انعقاد الإجماع فإن قلت هذا الاحتمال يمنع من انعقاد الإجماع قلت لا نسلم فإن أهل الإجماع كانوا قليلين في زمان الصحابة وكان يمكنهم أن يجتمعوا في محفل واحد ويقطعوا بالحكم فيكون ذلك الإجماع خاليا عن هذا الاحتمال أما إذا لم يجتمعوا في محفل واحد فإذا سئل بعضهم فأفتى به ثم أنه سئل إنسان آخر في بلد آخر فلعل المفتى الأول رجع عن فتواه حينما أفتى به المفتى الثاني وحينئذ لا يتم الإجماع

وهذا سؤال أهل الظاهر ولهذا قالوا لا حجة إلا في إجماع الصحابة سلمنا انعقاد الإجماع على قياس ما لكن لم ينقل إلينا أنهم أجمعوا على النوع الفلانى من القياس أو على كل أنواعه ولم يلزم من انعقاد الإجماع على صحة نوع انعقاده على صحة كل نوع فإذن لا نوع إلا ويحتمل أن يكون النوع الذي أجمعوا عليه هو هذا النوع وأن يكون غيره وإذا كان كذلك صار كل أنواعه مشكوكا فيه فلا يجوز العمل بشئ منه فإن قلت الأمة على قولين منهم من أثبت القياس ومنهم من نفاه وكل من أثبته فقد أثبت النوع الفلانى مثلا فلو أثبتنا قياسا غير هذا النوع كان خرقا للإجماع قلت لا نسلم أن كل من أثبت نوعا من القياس أثبت نوعا معينا منه لأن القياس إما أن يكون مناسبا أو لا يكون وكل واحد من القسمين مختلف فيه أما المناسب فرده قوم قالوا لأن مبناه على تعليل أحكام الله تعالى بالحكم والأغراض وأنه غير جائز

وأما غير المناسب فقد ردة الأكثرون فثبت أنه ليس هاهنا قياس مقبول بإجماع القايسين سلمنا إنعقاد إجماع القائسين على نوع واحد ولكن لم لا يجوز أن يكون ذلك هو قياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف وما إذا نص الله تعالى على العلة فإن هذا القياس عندنا حجة سلمنا انعقاد الإجماع على جواز العمل بالقياس في زمان الصحابة فلم يجوز في زماننا والفرق أن الصحابة لما شاهدوا الرسول ص والوحى فربما عرفوا بقرائن الأحوال أن المراد من الحكم الخاص بصورة معينة رعاية الحكمة العامة فلا جرم جاز منهم التعبد به وأما غير الصحابة فإنهم لما لم يشاهدوا الوحى والرسول والقرائن لم يكن حالهم كحال الصحابة فإن قلت كل من جوز العمل بالقياس للصحابة جوزه لغيرهم قلت كيف يقطع بأنه ليس في فرق الأمة على كثرتها أحد يقول بهذا الفرق مع وضوحه غايته أنا لا نعرف أحدا قاله لكن عدم العلم بالشئ لا يقتضى العلم بعدمه

والجواب أن أصحابنا ذهبوا إلى أن الروايات المذكورة في اختلافهم في مسألة الجد والحرام والمشركة والإيلاء والخلع وتقدير الحد بشرب الخمر وقياس العهد على العقد وقول الصحابة على بالتشبيه والرأى وما نقل من الأحاديث في القياس كخبر معاذ وابن مسعود وخبر الخثعمية والسؤال عن قبلة الصائم وأمر عمر أبا موسى بالقياس وقول ابن عباس بالتشبيه قد بلغ مجموعها إلى حد التواتر فإن من خالط أهل الأخبار وطالع كتبهم قطع بصحة شئ من هذه الأخبار فإنها بأسرها يمتنع أن تكون كذبا وأى واحد منها صح صح القول بالقياس وهذا الذي قاله الأصحاب جيد إلا أن الخصم لو كابر وقال لا أسلم خروج هذا المجموع عن كونه خبر واحد قلنا هب أنه كذلك فأيش يلزم قوله المسألة علمية قطعية فلا يجوز إثباتها بدليل ظني قلنا لا نسلم أنها قطعية بل هي عندنا ظنية لأن هذه المسألة عملية والظن قائم مقام العلم في وجوب العلم ألا ترى أنه لا فرق بين

دفع المصنف لتلك الإعتراضات وردها

أن يعلم بالمشاهدة وجود الغيم الرطب المنذر بالمطر الذي يجب التحرز منه وبين أن يخبر بوجود مثل هذا الخيم مخبر لمن لا يمكنه مشاهدة الغيم في أنه يلزمه التحرز منه فكذا هاهنا لا فرق بين أن يتواتر النقل عن الشرع في أنا مأمورون بالقياس وبين أن يخبر نا به من يظن صدقه في وجوب العمل بالقياس وإن لم نعلم صدق المخبر بذلك وهذا الجواب قاطع للشغب بالكلية قوله على الوجه الأول لا يجوز أن يكون المراد من قول عمر اعرف الأشباه والنظائر الأمر بمعرفة ماهية كل جنس لئلا يدخل تحت النص المذكور في ذلك الجنس ما ليس منه ولا يخرج عنه ما هو منه قلنا مقدمة هذا الكلام ومؤخرته تبطل هذا الاحتمال وهو قول عمر رضي الله عنه الفهم عندما يختلج في صدرك مما لم يبلغك في كتاب الله ولا سنة نبيه ثم اعرف الأشباه والنظائر وقس الأمور برأيك عند ذلك ثم اعمد إلى أحبها إلى الله تعالى وأشبهها بالحق فيما ترى فمن تأمل هذا الكلام عرف أنه صريح في الأمر بالقياس الشرعي وهو الجواب أيضا عن قوله لم لا يجوز أن يكون المراد منه تشبيه الفرع بالأصل في أنه لا يثبت حكمه إلا بالنص قوله على الوجه الثاني لم لا يجوز أن يكون المراد منه أنه لم لا يسمى الجد أبا مجازا حتى يدخل تحت قوله وورثه أبواه كما سمى النافلة ابنا حتى دخل تحت قوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم

قلنا لا يجوز أن يكون إنكار ابن عباس على زيد لأجل امتناعه من المجاز في أحد الموضعين دون الثاني لأن حسن المجاز في أحد الموضعين لا يوجب حسنه في الموضع الثاني وبتقدير التساوي في الحسن لكن القطع به في أحد الموضعين لا يوجب القطع به في الموضع الثاني وإذا ثبت أن هذا الإنكار غير متوجه على التفرقة في إطلاق الاسم المجازى ثبت أنه متوجه على التفرقة في الحكم الشرعي فيكون ذلك تصريحا بالقياس الشرعي قوله لو كان المراد هو الحكم الشرعي لما نسبه إلى مفارقة التقوى قلنا لعل هذا القياس كان جليا عند ابن عباس وكان من مذهبه أن الخطأ في مثل هذا القياس يقدح في التقوى وأيضا فذلك محمول على المبالغة قوله على الوجه الثالث لم قلت إن مبالغتهم في تعظيم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يوجب إظهار النص قلنا استقراء العرف يشهد به فإن من حكم بحكم غريب يخالفه فيه جمع يوافقونه على تعظيم شخص معين ووجد ذلك الإنسان حجة من قول ذلك الإنسان العظيم فإنه لابد أن يذكر لهم ذلك القول ويصرح به

قوله إنما يذكر عند الحاجة إلى ذكره قلنا والحاجة إلى ذكره حاصلة مطلقا لأن من يعتقد أن مذهبه ثابت بالنص فلا بد أن يعلم أن مخالفه إنما خالفه إما لا لطريق أو لطريق مرجوح بالنسبة إلى طريقه أو مساوله أو راجح عليه وعلى التقديرين الأولين كان مخالفه مخالفا للنص وعلى التقدير الثالث يكون فرض كل واحد منها التوقف فتكون الفتوى بأحدهما محظورا وعلى التقدير الرابع يكون مخالفا للنص فإذن من أثبت مذهبه بالنص فإنه لا بد وأن يعتقد فيمن خالفه أو في نفسه كونه مخالفا للنص لكن شدة إنكارهم على مخالفة النص تقتضي شدة احترازهم عنها ولا طريق إلى ذلك الاحتراز إلا بذكر ذلك النص فثبت أن شدة تعظيمهم للرسول ص توجب عليهم أن يذكروا نصوصه على الإطلاق وبهذا ظهر الجواب عن قوله أنه لا يجب ذكر النصوص الخفية لأن الدليل الذي ذكرناه مطرد في الكل قوله لو أثبتوا مذاهبهم بالقياس لوجب عليهم أن يذكروه قلنا الفرق من وجوه

أحدها أن إنكارهم على مخالف النص أقوى من إنكارهم على مخالف القياس فلم يلزم من ترك أقل الانكارين لأنه ترك أعظمها وثانيها أن الخواطر مستقلة بمعرفة العلل القياسية فلا يجب التنبيه عليها وهي غير مستقلة بمعرفة النصوص وذلك يقتضى وجوب التنبيه عليها فإن قلت لو لم يجب التنبيه على العلل القياسية لما حسنت المناظرات قلت ليس كل ما لا يجب لا يحسن وثالثها أن النصوص يجب اتباعها فيجب نقلها والأقيسة لا يجب اتباعها فلا يجب نقلها لأن عندنا كل مجتهد مصيب ورابعها أن النصوص يمكن الإخبار عنها على كل حال وأما الأمارات فقد يتعذر التعبير عنها وإن كانت مفيدة للظن مثل الأمارات في قيم المتلفات وأروش الجنايات ولذلك لا يتمكن المقوم من أن يذكر أمارة ملخصة في تقدير القيمة بالقدر المعين

فإن قلت أليس أن فقهاء هذا الزمان يعبرون عن هذه الأمارات قلت المتأخر في كل علم يلخص ما لم يلخصه أخبرنا المتقدم سلمنا أنه يجب عليهم ذكر تلك الأقيسة لكن يجب ذكرها صريحا أو تنبيها الأول ممنوع والثاني مسلم وهاهنا قد نبهوا على العلل بالإشارة إلى الأصول التي ذكروها بيانه أنهم اتفقوا على أنه حكم قوله أنت على حرام أما أن يكون حكمه حكم الطلاق أو الظهار أو اليمين وعلة ذلك ظاهرة وهى أن قوله أنت على حرام لفظ موضوع للتحريم فيؤثر فيه إذا توجه إلى الزوجة كهذه المسائل ثم أن كل واحد منهم رجح الأصل الذي اختاره فمنهم رجح الاحتياط فجعله طلاقا ثلاثا ومنهم من رجح بالمتيقن فجعله طلقة واحدة ومنهم من جعله ظهارا لمشابهته إياه في اقتضاء التحريم ومباينته لصرائح الطلاق وكناياته ثم جعل كفارته كفارة الظهار أخذا بالاحتياط لأنها أغلظ من كفارة اليمين ومنهم من رجح بأن كفارة اليمين أقل الكفارات فيوجبها أخذا بالأقل

فظهر أن ذكر هذه الأصول منبه على كيفية قياساتهم قوله لم قلت لو أظهروا تلك النصوص لوجب اشتهارها قلنا لأن هذه المسائل من المسائل التي يكثر وقوعها فكانت الحاجة إلى معرفة حكم الله تعالى فيها بالدليل شديدة وما كان كذلك فإن الدواعى تتوفر على حفظ النصوص الواردة فيها فهذا إن لم يفد القطع فلا أقل من الظن قوله تدعى أن تلك النصوص لو نقلت لعرفتها أنت أو لعرفه أحد ممن في هذا الزمان قلنا ندعى قسما ثالثا وهو أن يكون مشهورا في الكتب بحيث يجده كل من حاول طلبه قوله من ذهب إلى أنه يمين تمسك بقوله تعالى لم تحرم ما أحل الله لك إلى قوله قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم قلنا أن قوله تعالى لم تحرم ما أحل الله لك لا يدل على أنه إذا حرم فماذا حكمه ثم إن دل فإنما يدل على مذهب مسروق وأما قوله تعالى قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم فنقول ليس في

الآية إلا أنه عليه الصلاة والسلام حرم ما أحل الله له فيجوز أن يكون قد حرمه بلفظ اليمين بأن كان قد حلف بأنه لا يقرب مارية بل هذا أولى لأن اليمين القسم بالله ولا شبهة في أن قوله أنت على حرام ليس قسما بالله فثبت أن هذه الآية لا دلالة فيها على حكم هذه المسألة وأيضا فلو نزلت هذه الآية بسبب قوله لماريه يا أنت على حرام لكان ذلك نصا في الباب وذلك يمنع من ذهاب كل واحد منهم في هذه المسألة إلى قول آخر لما بينا أن شدة إنكارهم على من خالف نصوصه يمنع منه قوله من حمله على الطلقات الثلاث جعله ككنايات الطلاق قلنا لاشك أن قوله أنت على حرام ليس من صرائح الطلاق وما أجمعوا على أنه من كنايات الطلاق فإذن لابد وأن يقال إن حكم هذا الكلام مثل حكم الصرائح والكنايات وهذا التشبيه نفس القياس بل لا نزاع في أنه بعد ثبوت هذه المشابهة يندرج تحت قوله إذا طلقتم النساء وقوله الطلاق مرتان قوله من حمله على الطلقة الواحدة فإنما حمله عليها أخذا بالمتيقن قلنا هذا إنما يثبت بعد أن نجعله من صرائح الطلاق أو كناياته

وحينئذ فلا بد فيه من القياس قوله من حمله على الظهار فقد أجراه مجرى الظهار قلنا إن أردتم به أنه أجراه مجرى الظهار في الحكم فهذا هو القياس وإن أردتم غيره فبينوه قوله إن مسروقا تمسك بالبراءة الأصلية قلنا لا نسلم بل قاسه على قصتة من ثريد فإنه حكى عنه أنه قال لا فرق عندي بينه وبين قصعة من ثريد وأيضا فإن مسروقا كان من التابعين فإما أن يقال إنه عاصر الصحابة حين اختلفوا في هذه المسألة أو ما عاصرهم في ذلك الوقت فإن كان الأول كانت الصحابة تاركين للبراءة الأصلية بسبب القياس لما بينا أنهم ما ذهبوا إلى مذاهبهم لأجل النص وذلك يقتضى عمل بعض الصحابة بالقياس ولا مطلوب في هذا المقام إلا ذلك وإن كان الثاني كان إجماعهم حجة عليه

قوله هب أنهم ما ذهبوا إلى تلك المذاهب لأجل النص فلم قلت ذهبوا إليها للقياس قلنا لأن كل من قال الصحابة لم يرجعوا في تلك الأقاويل إلى البراءة الأصلية ولا إلى النصوص الجلية أو الخفية قال إنهم عملوا فيها بالقياس هذا تمام الكلام في الوجه الثالث قوله على الوجه الرابع إن الرأى في أصل اللغة ليس للقياس قلنا هذا مسلم لكنا ندعى أنه في عرف الشرع اختص بالقياس وهذا وإن كان خلاف الأصل لكن الدليل قام عليه فإنكم رويتم عنهم كلاما كثيرا في ذم الرأى وقد ساعدنا خصومنا على أن المراد منه ذم القياس فعلمنا أن عرف الشرع يقتضي تخصيص اسم الرأى بالقياس وهذا تمام الكلام في المقدمة الأولى قوله إنهم صرحوا بالإنكار قلنا نعم ولكن التوفيق ما ذكروا قوله روايات الإنكار صريحة وروايات الاعتراف غير صريحة قلنا هب إنها غير صريحة لفظا لكنها صريحة بحسب الدلالة المذكورة فلم قلت إنه يبقى ما ذكرتموه من الترجيح قوله لعل المنكر انقلب مفردة وبالعكس قلنا لو وقع ذلك لاشتهر لأنه من الأمور العجيبة فحيث لم يشتهر

دل على أنه لم يقع قوله لعلهم سكتوا خوفا قلنا استقراء حال الصحابة يفيد ظنا غالبا بشدة انقيادهم للحق وأما قدح النظام فيهم فقد سبق الجواب عنه في باب الأخبار قوله يجوز أن يكون سكوتهم لعدم علمهم بكونه حقا أو باطلا قلت هب أنهم كانوا متوقفين فيه في أول الأمر ولكن الظاهر أن بعد انقضاء الأعصار يظهر لهم كونه حقا أو باطلا قوله لعل كل واحد منهم اعتقد أن غيره أولى بالإنكار قلنا لا بد وأن يكون واحد منهم أولى بذلك أو يكون الكل في درجة واحدة وكيفما كان فأجماعهم لو على ترك الإنكار إجماع على الخطأ قوله حصل الرضا دفعة أولا دفعة قلنا الأصل في كل ثابت بقاؤه على ما كان قوله لا نعلم أنهم بأي أنواع القياس تمسكوا قلنا الإجماع الظاهر حاصل في أن القياس المناسب حجة قوله لم قلت إنه يلزم من جواز العمل بالقياس للصحابة جوازه لنا قلنا لا نعرف أحدا قال بالفرق فيكون الإجماع حاصلا ظاهرا فهذا تمام الكلام في هذه الطريقة

تقرير المصنف لدليل الإجماع على حجية القياس بطريقة أخرى

وإنما استقصينا القول فيها جوابا وسؤالا لأنا رأينا الأصوليين يعولون عليها في كثير من مسائل هذا العلم وقد ذكرناها أيضا في مواضع كثيرة من هذا الكتاب فأردنا أن نعرف مقدار قوتها وقد ظهر أنها لو أفادت شيئا ما أفادت إلا ظنا ضعيفا وأنه ليس الأمر كما يعتقده الجمهور من أنه يفيد إجماعا قاطعا المسلك السادس تقرير الإجماع على وجه آخر فنقول نعلم بالضرورة اختلاف الصحابة في المسائل الشرعية فإما أن يكون ذهابهم إلى ما ذهبوا إليه لا لطريق فيكون ذلك إجماعا على الخطأ وإنه غير جائز أو لطريق وهو إما أن يكون عقليا أو سمعيا لا يجوز أن يكون عقليا لأن العقل لا دلالة فيه إلا على البراءة الأصلية ويستحيل أن يكون قول واحد من المختلفين قولا بالبراءة الأصلية فثبت أنه كان سمعيا وهو إما أن يكون قياسيا أو نصا أو غيرهما أما القياس فهو المطلوب وأما النص فغير جائز لأن مخالف النص يستحق العقاب العظيم لقوله تعالى ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها

الاستدلال بالمعقول على حجية القياس

ونحن نعلم بالضرورة أن المختلفين منهم في المسائل الشرعية ما كان كل واحد منهم يعتقد في صاحبه كونه مستحقا للعقاب العظيم بسبب تلك المخالفة وأما الذي ليس بنص ولا قياس فباطل لأن كل من قال من الأمة إنهم لم يتمسكوا في تقرير أقوالهم بشئ من النصوص الجلية أو الخفية ولا بالبراءة الأصلية قال إنهم تمسكوا بالقياس فلو قلنا إنهم قالوا بتلك الأقاويل بشئ غير هذين القسمين كان ذلك قولا غير قولى كل الأمة وهو باطل فهذه الدلالة وإن كان يتوجه عليها كثير مما توجه على الوجه الذي قبله إلا أن كثيرا من تلك الأسئلة ساقط عنها المسلك السابع وهو المعقول أن القياس يفيد ظن الضرر فوجب جواز العمل به

بيان الوصف أن من ظن أن الحكم في الأصل معلل بكذا وعلم أو ظن حصول ذلك الوصف في الفرع وجب أن يحصل له الظن بأن حكم الفرع مثل حكم الأصل ومعه علم يقيني بأن مخالفة حكم الله تعالى سبب العقاب فتولد من ذلك الظن وهذا العلم ترك العمل به سبب للعقاب فثبت أن القياس يفيد ظن الضرر بيان التأثير أن العاقل يعلم ببديهة عقله أنه لا يمكنه الخروج عن

النقيضين ولا يمكنه الجمع بينهما بل يجب لا محالة ترجيح أحدهما على الآخر ونعلم بالضرورة أن ترجيح ما غلب على ظنه خلوه عن المضرة على ما غلب على ظنه اشتماله على المضرة أولى من العكس ولا معنى لجواز العمل بالقياس إلا هذا القدر فإن قيل دليلكم مبني على إمكان ما يدل على أن الحكم في الأصل معلل بعلة ثم على وجود ذلك الوصف في الأصل ثم على إمكان ما يدل على حصول ذلك الوصف في الفرع ثم على إنه يلزم من حصول ذلك الوصف في الفرع ظن حصول ذلك الحكم فيه وتقرير هذه المقامات الخمس سيأتي في الأبواب الآتية إن شاء الله تعالى سلمنا حصول هذا الظن فلم قلتم إن العمل به واجب قوله لأن ترجيح الخالى عن الضرر على المشتمل عليه متعين في بديهة العقل

قلنا هذا منقوض بما أنه لا يجب على القاضي أن يعمل بقول الشاهد الواحد إذا غلب على ظنه صدقه وأن يعمل في الزنا بقول الشاهدين إذا غلب على ظنه صدقهما وبما إذا ظهرت مصلحة لا يشهد باعتبارها حكم شرعي ألبتة وبما إذا ادعى الرجل الذي غلب على الظن صدقه للنبوة وبما إذا غلب على ظن الدهرى واليهودى أو النصراني والكافر قبح هذه الأعمال الشرعية فإن غلبة الظن حاصلة في هذه الصور ولا يجوز العمل بها فإن قلت المظنة إنما تفيد الظن إذا لم يقم دليل قاطع على فسادها وفي هذه الصور قد قامت الدلالة على فسادها فلا يبقى الظن قلت فعلى هذا التقدير القياس إنما يفيد ظن دفع الضرر إذا لم يوجد دليل يدل على فساد القياس فيصير نفى ما يدل على فساد القياس جزءا من المقتضى لظن الضرر فعليكم أن تثبتوا أنه لم يوجد ما يدل على نفى القياس حتى يمكنكم ادعاء حصول ظن الضرر وبعد المجاوزة عن النقض نقول متى يجب الاحتراز عن الضرر

المظنون إذا أمكن تحصيل العلم به أم إذا لم يمكن الأول ممنوع فإن الشئ الذي أمكن تحصيل العلم به فالاكتفاء بالظن مع جواز كونه خطأ اقدام على ما لا يؤمن كونه قبيحا مع إمكان الاحتراز عنه وهو غير جائز بالاتفاق والثاني مسلم ولكن إنما يجوز الاكتفاء بالظن في الوقائع الشرعية إذا بينتم أنه لا طريق إلى تحصيل العلم بها ألبتة وذلك إنما يصح لو ثبت أنه لم يوجد في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسوله ص ما يدل على احكام تلك الوقائع ولم يوجد في الزمان إمام معصوم يعرفنا تلك الأحكام فان بتقدير وجود أحد هذه الأمور كان تحصيل اليقين بالحكم ممكنا سلمنا إنه لا طريق إلى تحصيل العلم بها لكن لما قلت إنه لم يوجد ما يقتضى ظنا هو أقوى من الظن الحاصل بالقياس فان بتقدير إمكان ذلك كان التعويل على القياس اكتفاء بأضعف الظنين مع القدرة على تحصيل الأقوى وأنه غير جائز ثم نقول إن دل على ما ذكرتموه على صحة القياس فمعنا ما يدل على

أدلة النافين لحجية القياس من الكتاب والسنة والإجماع والمعقول

فساده وهو الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وإجماع العترة والمعقول أما الكتاب فقوله تعالى لا تقدموا بين يدي الله ورسوله والقول بالقياس تقديم بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه وأله وسلم وقوله تعالى وأن تقولوا على الله مالا تعلمون ولا تقف ما ليس لك به علم والقول بالحكم في الفرع لأجل القياس قول بالمظنون لا بالمعلوم وأيضا قال الله تعالى وأن احكم بينهم بما أنزل الله والحكم بالقياس حكم بغير ما أنزل الله تعالى وأيضا قال الله تعالى ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ما فرطنا في الكتاب من شئ فهذه الآية دالة على اشتمال الكتاب على الأحكام الشرعية بأسرها فإذن كل ما ليس في الكتاب وجب أن لا يكون حقا وعند ذلك نقول ما دل عليه القياس إن دل عليه الكتاب فهو ثابت بالكتاب لا بالقياس

وإن لم يدل عليه الكتاب كان باطلا وأقوى ما تمسكوا به من الآيات قوله تعالى إن الظن لا يغني من الحق شيئا وجه الاستدلال به أن في القياس الشرعي لا بد وأن يكون تعليل الحكم في الأصل وثبوت تلك العلة في الفرع ظنيا ولو وجب العمل بالقياس لصدق على ذلك الظن أنه أغنى من الحق شيئا وذلك يناقض عموم النفى فإن قلت يشكل التمسك بهذه النصوص بالفتوى والشهادات وأمارات القبلة قلت تخصيص العام في بعض الصور لا يخرجه عن كونه حجة وأما السنة فخبران الأول قوله عليه الصلاة والسلام تعمل هذه الأمة برهة بالكتاب وبرهة بالسنة وبرهة بالقياس فإذا فعلوا ذلك فقد ضلوا الثاني قوله عليه الصلاة والسلام تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة

أعظمهم فتنة قوم يقيسون الأمور برأيهم فيحرمون الحلال ويحللون الحرام فإن قلت خبر الواحد لا يعارض الدليل العقلى الذي ذكرناه قلت الدليل الذي ذكرتموه هو أن القياس يفيد الضرر المظنون فيجب الاحتراز عنه ولا شك أن خبر الواحد يفيد الظن فإذا ورد في المنع من القياس أفاد ظن أن التمسك به سبب الضرر وذلك يوجب الاحتراز عنه وأما إجماع الصحابة فهو أنه نقل عن كثير منهم التصريح بذم القياس على ما تقدم بيانه ولم يظهر من أحد منهم الإنكار على ذلك الذم وذلك يدل على انعقاد الإجماع على فساد القياس فإن قلت هذا معارض بأنه نقل عنهم أنهم اختلفوا في مسائل مع إنه لا طريق لهم إلى تلك المذاهب إلا القياس قلت ما ذكرناه أولى لأن التصريح راجح على ما ليس بتصريح وأما إجماع العترة فلأنا كما نعلم بالضرورة بعد مخالطة

أصحاب النقل أن مذهب الشافعي رضي الله عنه وأبي حنيفة ومالك رحمهما الله القول بالقياس فكذا نعلم بالضرورة أن مذهب أهل البيت كالصادق يكون والباقر إنكار القياس وقد تقدم في باب الإجماع أن إجماع العترة حجة وأما المعقول فمن وجوه الأول لو جاز العمل بالقياس لما كان الاختلاف منهيا عنه لكنه منهي عنه فالعمل بالقياس غير جائز بيان الملازمة أن العمل بالقياس يقتضى اتباع الأمارات وذلك يقتضى وقوع الاختلاف لا محالة ووقوع ذلك شاهد على صحة ما قلناه بيان أنه لا تجوز المخالفة قوله تعالى ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم الثاني أن الرجل لو قال أعتقت غانما لسواده فقيسوا عليه لم يعتق سائر عبيده السود فضلا عما إذا لم يأمر بالقياس فإذا قال الله تعالى حرمت الربا في البر فكيف يجوز القياس عليه فهذا كله كلام من لم يمنع القياس عقلا

أدلة المانعين من القياس عقلا في الشريعة الإسلامية (النظام)

أما المانعون منه عقلا فقد ذكرنا أن منهم من خص ذلك المنع بهذا الشرع أما المانعون منه عقلا فقد ذكرنا أن منهم من خص ذلك المنع بهذا الشرع ومنهم من منعه في كل الشرائع أما الأول فهو قول النظام واحتج عليه بأن مدار هذا الشرع على الجمع بين المختلفات والفرق بين المتماثلات وذلك يمنع من القياس في هذا الشرع بيان الأول بصور إحداهما أنه جعل بعض الأزمنة والأمكنة أشرف من بعض مع استواء الكل في الحقيقة قال الله تعالى ليلة القدر خير من ألف شهر وفضل الكعبة على سائر البقاع وثانيتها جعل التراب طهورا مع أنه ليس بغسال مع بل يزيد في تشويه الخلقة وثالثتها فرض الغسل من المنى والرجيع أنتن منه ورابعتها نهانا عن إرسال السبع على مثله وأقوى منه ثم أباح إرساله على البهيمة الضعيفة وخامستها نقص من صلاة المسافر الشطر مما كان عدده أربعا وترك ما كان ركعتين

وسادستها أسقط الصوم والصلاة على الحائض ثم أوجب عليها قضاء الصوم مع أن الصلاة أعظم قدرا من الصوم وسابعتها جعل الحرة القبيحة الشوهاء تحصن والمائة من الجوارى الحسان لا يحصن وثامنتها حرم النظر إلى شعر العجوز الشوهاء مع أنها لا تفتن الرجال الشبان ألبتة وأباح النظر إلى محاسن الأمة الحسناء مع لأنها تفتن الشيخ وتاسعتها قطع سارق القليل وعفى عن غاصب الكثير وعاشرتها جلد بالقذف بالزنا ولم يجلد بالقذف بالكفر وحادية عشرها قبل في الكفر والقتل شاهدين ولم يقبل في الزنا إلا أربعة وهو دونهما وثانية عشرها جلد قاذف الحر الفاجر وعفا عن قاذف العبد العفيف وثالثة عشرها أوجب على الصبية المتوفى عنها زوجها العدة وفرق في العدة بين

الموت والطلاق مع أن حال الرحم لا يختلف فيهما ورابعة عشرها جعل استبراء الأمة بحيضة والحرة المطلقة بثلاث حيض وخامس عشرها يخرج الريح من موضع الغائط وفرض تطهير موضع آخر مع أن غسل ذلك المكان أولى إذا ثبت هذا فنقول إن مدار القياس على أن الصورتين لما تماثلتا في الحكمة والمصلحة وجب استواؤهما في الحكم لكن هذه المقدمة لو كانت حقة لامتنع التفريق بين المتماثلات والجمع بين المختلفات في تلك الصور فلما لم يمتنع ذلك علمنا فساد تلك المقدمة وإذا فسدت تلك المقدمة بطل القول بالقياس وأما الذين منعوا من القياس في كل الشرائع فقد عرفت أنهم ثلاث فرق الفرقة الأولى الذين أنكروا كون القياس طريقا إلى الظن وهؤلاء قد تمسكوا بوجوه أحدها أن البراءة الأصلية معلومة والحكم الثابت بالقياس إما أن يكون على وفق البراءة الأصلية أو لا على وفقها فإن كان على وفقها لم يكن في القياس فائدة

أدلة المانعين من القياس عقلا في كل الشرائع

وان كان على خلافها كان ذلك القياس معارضا للبراءة الأصلية لكن البراءة الأصلية دليل قاطع والقياس دليل ظنى والظنى إذا عارض اليقينى كان الظنى باطلا فيلزم كون القياس باطلا وثانيها أن القياس لا يتم في شئ من المسائل إلا إذا سلمنا أن الأصل في كل شئ بقاؤه على ما كان إذ لو لم يثبت ذلك فهب أن الشارع أمر بالقياس ولكن كيف يعرف أنه بقى ذلك التكليف وإذا نص على حكم الأصل فكيف يعرف أن ذلك الحكم باق في هذا الزمان فثبت أن القياس لا يتم إلا مع المساعدة على هذا الأصل إذا ثبت ذلك فنقول الحكم المثبت بالقياس إما أن يكون نفيا أو إثباتا فإن كان نفيا فلا حاجة فيه إلى القياس لأنا علمنا أن هذا الحكم كان معدوما في الأزل والأصل في كل أمر بقاؤه على ما كان فيحصل لنا ظن ذلك العدم فيكون إثبات ذلك الظن بالقياس مرة أخرى عبثا فإن قلت ثبوته بدليل لا يمنع من ثبوته بدليل آخر قلت نعم ولكن بشرط ان لا يفتقر الدليل الثاني إلى الأول وأما إذا افتقر إلية كان التمسك بالدليل الثاني تطويلا محضا من غير فائدة وأما إن كان الحكم المثبت بالقياس إثباتا فنقول قد بينا أن قولنا إن الأصل في كل أمر بقاؤه على ما كان يقتضي ظن عدم ذلك الحكم

في الحال فلو اقتضى القياس ثبوته في الحال مع أن القياس متفرع على تلك المقدمة لزم وقوع التعارض بين تلك المقدمة التي هي الأصل وبين القياس الذي هو الفرع ولا شك أن في مثل هذا التعارض يجب ترجيح الأصل على الفرع فوجب القطع هاهنا بسقوط القياس وثالثها أن القياس لا يفيد ظن الحكم إلا إذا ظننا كون الحكم في الأصل معللا بالوصف الفلانى وذلك الظن محال لما سيأتي في الباب الثاني أن تعليل الحكم الشرعي محال الفرقة الثانية الذين سلموا أن القياس يفيد الظن لكنهم قالوا لا يجوز التكليف بإتباع الظن قالوا لأن الظن قد يخطئ وقد يصيب فالأمر به أمر بما يجوز أن يكون خطأ وذلك غير جائز الفرقة الثالثة الذين قالوا يجوز التكليف بإتباع الظن لكنه غير جائز هاهنا قالوا لأن الاكتفاء بالقياس اقتصار على أدون البابين مع القدرة على أعلاهما وذلك غير جائز إنما قلنا إنه اقتصار على أدون البابين لأنا نعلم بالضرورة أن تنصيص صاحب الشرع أظهر في باب البيان من التفويض إلى القياس

رد الإمام المصنف على نقوض النفاة

وإنما قلنا إنه مع القدرة على أعلاهما لأنه لا امتناع في التنصيص على أحكام القواعد الكلية واحترزنا بهذا عن الشهادة والفتوى وقيم المتلفات وأروش الجنايات والتمسك بالأمارات في معرفة القبلة والأمراض والأرباح والأمور الدنيوية لأن هذه الأشياء تختلف بأختلاف الأشخاص والأوقات والأمكنة والاعتبارات فالتنصيص عليها كالتنصيص على مالا نهاية له وهو محال وإنما قلنا إن الاقتصار على أدون البابين مع القدرة على أعلاهما غير جائز لأنه إذا لم يقع البيان على أقصى الوجوه حسن من المكلف أن يحمل اليقين على صعوبة البيان لا على تقصير نفسه فالإتيان بكمال البيان إزاحة لعذر المكلف فيكون كاللطف سعيد وترك المفسدة في الوجوب والجواب أما النقوض فقد ذكرنا أن الدليل الشرعي لما قام على عدم الالتفات إلى تلك المظان لم يبق الظن قوله فحينئذ يصير عدم الدليل المبطل للقياس جزء من المقتضى قلنا ليس كل ما وجدده يمنع من عمل المقتضى كان عدمه جزء من المقتضي فإن الذي يمنع الثقيل من النزول لا يصير عدمه جزء المقتضى للنزول لاستحالة كون العدم من العلة الوجودية قوله جواز الرجوع إلى الظن في الشرعيات مشروط بعدم التمكن من تحصيل العلم

رد الإمام المصنف على المعارضات

قلنا لا نسلم فإنه إذا حصل الظن الغالب بسبب القياس بأشتمال بكر أحد الطرفين على المفسدة والآخر على المصلحة فإلى أن يستقصى في طلب العلم لابد في الحال من أن يرجح أحد الطرفين على الآخر لامتناع ترك النقيضين وصريح العقل يشهد بأنه لا يجوز ترجيح المرجوح فتعين ترجيح الراجح وهو الجواب أيضا عن الإمام المعصوم وأما المعارضات فنقول أما التمسك بالآيات فالجواب عنها أن الدلالة لما دلت على وجوب العمل بهذا الظن صار كأن الله تعالى قال مهما ظننت أن هذه الصورة تشبه تلك الصورة في علة الحكم فاعلم قطعا أنك مكلف بذلك الحكم وحينئذ يكون الحكم معلوما لا مظنونا ألبتة وأما الأحاديث فهي معارضة بالأحاديث الدالة على العمل بالقياس وطريق التوفيق أن نصرف الأمر بالقياس إلى بعض أنواعه والنهي إلى نوع آخر وأما إجماع الصحابة فقد سبق الجواب عنه وأما إجماع العترة فممنوع وروايات الإمامية معارضة بروايات الزيدية فانهم ينقلون عن الأئمة جواز العمل بالقياس قوله العمل بالقياس يستلزم وقوع الاختلاف

رد الإمام المصنف على شبهة النظام

قلنا وكذا العمل بالأدلة العقلية والنصوص يستلزم وقوع الخلاف فما هو جوابكم هناك فهو جوابنا هاهنا قوله لو قال لوكيله أعتق غانما لسواده فإنه لا يعتق عليه كل عبيده السود قلنا إنه لو صرح بعد ذلك فقال قيسوا عليه سائر عبيدي لم يعتق عليه سائر عبيده ولو نص الله تعالى على حكم ثم قال قيسوا عليه فلا نزاع في جواز القياس فظهر الفرق بين الصورتين والسبب فيه أن حقوق العباد مبنية على الشح والضنة لكثرة حاجاتهم وسرعة رجوعهم عن دواعيهم وصوار فهم وأما شبه النظام فجوابها أن غالب أحكام الشرع معلل برعاية المصالح المعلومة والخصم إنما بين خلاف ذلك في صور قليلة جدا وورود الصور النادرة على خلاف الغالب لا يقدح في حصول الظن كما أن الغيم الرطب إذا لم يمطر نادرا لا يقدح في ظن نزول المطر منه

قوله البراءة الأصلية معلومة والقياس دليل ظنى والظن لا يعارض اليقين قلنا ينتقض ذلك بجواز العمل بالفتوى والشهادة وتقويم المقومين وبجواز العمل بالظن في الأمور الدنيوية قوله القياس إما أن يرد على وفق حكم الأصل أو على خلافه قلنا ينتقض بالأمور المذكورة قوله الظن قد يخطئ وقد يصيب قلنا ينتقض بالأمور المذكورة قوله الاكتفاء بالقياس اكتفاء بأدون البابين مع القدرة على أعلاهما قلنا إنه كذلك فلم لا يجوز فإن قالوا لأنه لطف واللطف واجب

المسألة الثانية في النص على العلة، هل يفيد الأمر بالقياس؟

قلنا الكلام على هذه الطريقة سبق في باب الإجماع على الاستقصاء المسألة الثانية قال النظام النص على علة الحكم يفيد الأمر بالقياس وهو قول أبي الحسين البصري وجماعة من الفقهاء ومنهم من أنكره وهو المختار وقال أبو عبد الله البصري أن كانت العلة علة في الفعل لم يكن التنصيص عليها تعبدا بالقياس وأن كانت علة في الترك كان التنصيص عليها تعبدا بالقياس لنا أن قوله حرمت الخمر لكونها مسكرة يحتمل أن تكون العلة هي الإسكار وأن تكون العلة هي إسكار الخمر بحيث يكون قيد كونه مضافا إلى الخمر معتبرا في العلة وإذا احتمل الأمرين لم يجز القياس إلا عند أمر مستأنف بالقياس فإن قيل لا نسلم أن قيد كون الإسكار في ذلك المحل يحتمل أن يكون جزء من العلة فإنا لو جوزنا ذلك للزمنا تجويز مثله في العقليات حتى نقول هذه الحركة إنما اقتضت المتحركية لقيامها بهذا المحل فالحركة القائمة لا بهذا المحل لا تكون علة للمتحركية

قد سلمنا إمكان كونه معتبرا في الجملة لكن العرف يدل على سقوط هذا القيد عن درجة الاعتبار لأن الأب إذا قال لأبنه لا تأكل هذه الحشيشة لأنا سم يقتضى منعه من أكل حشيشة تكون سما وإذا ثبت ذلك في العرف ثبت مثله في الشرع لقوله عليه الصلاة والسلام ما رأه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن سلمنا أنه غير ساقط في العرف إلا أن الأغلب على الظن سقوطه لأن علة الحكم وجب أن تكون منشأ الحكمة ولا مفسدة في كون الإسكار قائما بهذا المحل أو بذاك بل منشأ المفسدة كونه مسكرا فقط فإذا غلب على ظننا ذلك وجب الحكم به احترازا عن الضرر المظنون سلمنا أن هذا القيد غير ظاهر لكن دليلكم إنما يتمشى فيما إذا قال الشارع حرمت الخمر لكونها مسكرة أما لو قال علة حرمة الخمر إنما هي الإسكار لا يبقى ذلك الاحتمال سلمنا أن دليلكم يمنع من القياس لكن هاهنا ما يدل على جوازه فإن قول الشارع حرمت الخمر لكونها مسكرة يقتضى إضافة الحرمة إلى الإسكار وذلك يدل على أن العلة هي الإسكار فوجب أن يترتب الحكم عليه أينما وجد وأما من فرق بين الفعل والترك فقد قال إن من ترك أكل رمانة لحموضتها وجب عليه أن يترك أكل كل رمانة حامضة أما من أكل رمانة لحموضتها لا يجب عليه أن يأكل كل رمانة حامضة والجواب قوله هذا الاحتمال قائم في الحركة

قلنا إن عنيت بالحركة معنى يقتضى المتحركية فهذا المعنى يمتنع فرضه بدون المتحركية وإن عنيت بالحركة شيئا آخر بحيث يبقى فيه هذا الاحتمال فهناك نسلم أنه لابد في إبطال ذلك الاحتمال من دليل منفصل قوله العرف يقتضى إلغاء هذا القيد قلنا ذاك إنما عرف بالقرينة وهي أن شفقته تمنع من تناول كل ما يقتضى ضررا فلم قلت أن هذا المعنى حاصل في العلة المنصوصة قوله الغالب على الظن إلغاء هذا القيد قلنا هب أن الأمر كذلك ولكن إنما يلحق الفرع بالأصل لأنه لما غلب على ظننا كونه في معناه ثم الدليل دل على وجوب الاحتراز من الضرر المظنون فحينئذ يجب علينا أن نحكم في الفرع بمثل حكم الأصل ولكن هذا هو الدليل الذي دل على كون القياس حجة فالتنصيص على علة الحكم لا يقتضى ثبات مثله في الفرع إلا مع الدليل الدال على وجوب العمل بالقياس قوله لو صرح بأن العلة هي الإسكار لا يبقى فيه هذا الاحتمال قلنا في هذه الصورة نسلم أنه أينما حصل الإسكار حصلت الحرمة لكن ذلك ليس بقياس لأن العلم بأن الإسكار من حيث هو إسكار

يقتضى الحرمة يوجب العمل بثبوت هذا الحكم في كل محالة ولم يكن العلم بحكم بعض تلك المحال متأخرا عن العلم بالبعض فلم يكن جعل البعض فرعا والآخر أصلا أولى من العكس فلا يكون هذا قياسا بل إنما يكون قياسا لو قال حرمت الخمر لكونها مسكرة فحينئذ يكون العلم بثبوت هذا الحكم في الخمر أصلا للحكم به في النبيذ ومتى قال على هذا الوجه انقدح الاحتمال المذكور قوله إن قوله حرمت الخمر لكونها مسكرة يقتضى إضافة الحرمة إلى نفس الأسكار قلنا لا نسلم فلعل قيد كون الاسكار فيه معتبر في العلية على ما حققناه قوله من ترك أكل رمانة لحموضتها يجب عليه أن يترك الكل قلنا لا نسلم لاحتمال أن يكون الداعي له إلى الترك لا مطلق حموضة الرمانة بل حموضة هذه الرمانة وإنها غير حاصلة في سائر الرمانات وفي سلمناه ولكن لا فرق في ذلك بين الفعل والترك قوله من أكل رمانة لحموضتها لا يجب عليه أن يأكل كل رمانة حامضة

المسألة الثالثة: في القياس الجلي وما يتعلق

قلنا ذاك لأنه ما أكلها لمجرد حموضتها بل لأجل حموضتها مع قيام الاشتهاء الصادق لها وخلو المعدة عن الرمان وعلمه بعدم تضرره بها وهذه القيود بأسرها لم توجد في أكل الرمانة الثانية المسألة الثالثة إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه قد يكون ظاهرا جليا وقد لا يكون كذلك فالأول كقياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف ومن الناس من قال المنع من التأفيف منقول بالعرف عن موضوعه اللغوى إلى المنع من أنواع الأذى لنا وجهان الأول أن المنع من التأفيف لو دل عليه لدل عليه إما بحسب الموضوع اللغوى أو بحسب الموضوع العرفي والأول باطل بالضرورة لأن التأفيف غير الضرب فالمنع من التأفيف لا يكون منعا من الضرب والثاني أيضا باطل لأن النقل العرفي خلاف الأصل وأيضا فلو ثبت أن النقل في العرف لما حسن من الملك إذا استولى على عدوه أن ينهى الجلاد عن صفعه والاستخفاف به وإن كان يأمره بقتله وإذا بطلت دلالة اللفظ عليه علمنا أن تحريم الضرب مستفاد من القياس

واحتج المخالف بأمور أحدها لو كان مستفادا من القياس لوجب فيمن لا يقول بصحة القياس أن لا يعلم ذلك وثانيها أنه يلزم أن لا يعلم العاقل حرمة ضربهما لو منعه الله عن القياس الشرعي وثالثها أجمعنا على أن قوله فلان لا يملك حبة يفيد في العرف أنه لا شئ له ألبتة وكذا قولهم لا يملك نقيرا ولا قطميرا يفيد أنه ليس له شئ ألبتة وإن كان النقير في أصل اللغة عبارة عن النقرة التي على ظهر النواة والقطمير عبارة عما في شق النواة وكذلك قولهم فلان مؤتمن على قنطار فإنه يفيد في العرف كونه أمينا على الإطلاق وإنما حكمنا في هذه الألفاظ بالنقل العرفى لتسارع الفهم إلى هذه المعاني العرفية فوجب أن تكون حرمة التأفيف موضوعة في العرف للمنع من الإيذاء لتسارع الفهم إليه والجواب عن الأول أن القياس قد يكون يقينيا وقد يكون ظنيا أما الأول فكمن علم علة الحكم في الأصل ثم علم حصول مثل تلك العلة في الفرع فإنه لابد وأن يعلم ثبوت الحكم في الفرع

المسألة الرابعة: تقسيمات القياس

أما الثاني فكما إذا كانت إحدى المقدمتين أو كلاهما مظنونة والقياس في هذه المسألة من النوع الأول فلا جرم لا يمكن أن يكون القادح في صحة القياس الظنى قادحا في صحة هذا القياس وهذا هو الجواب بعينه عن الثاني أما الثالث فقوله ليس لفلان حبة يفيد نفى الأكثر من الحبة لأن الأكثر من الحبة يوجد فيه الحبة أما ما نقص من الحبة فلا يتعرض له كلامه وأما النقير والقطمير فقد حكمنا فيه بالنقل العرفي للضرورة ولا ضرورة في مسألتنا وأما قوله فلان مؤتمن على قنطار فأنما يفيد كونه مؤتمنا على ما دون القنطار لأن ما دون القنطار داخل في القنطار فأما ما فوقه فلا يدخل فيه المسألة الرابعة ثبوت الحكم في الأصل إما أن يكون يقينيا أو لا يكون فإن كان يقينيا استحال أن يكون ثبوت الحكم في الفرع أقوى منه لأنه ليس فوق اليقين درجة أما إذا لم يكن يقينيا فثبوت الحكم في الفرع إما أن يكون أقوى من ثبوته في الأصل أو مساويا له أو دونه

مثال الأول قياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف فإن تحريم الضرب وهو الفرع أقوى ثبوتا من تحريم التأفيف الذي هو الأصل ومثال الثاني قوله عليه الصلاة والسلام لا يبولن أحدكم في الماء الراكد فأنا نقيس عليه ما إذا بال في الكوز ثم صبه في الماء الراكد ولا تفاوت بين الحكم في الأصل والفرع وهذا هو الذي يسمى بالقياس في معنى الأصل ومثال الثالث جميع الأقيسة التي يتمسك الفقهاء بها في مباحثهم وأما مراتب التفاوت فهي بحسب مراتب الظنون ولما كانت مراتب الظنون محصورة فكذا القول في مراتب هذا التفاوت

القسم الثاني في مسالك التعليل، وهو مرتب في مقدمة وأربعة أبواب

القسم الثاني في الطرق الدالة على كون الوصف المعين علة للحكم في الأصل قد عرفت أن حاصل القياس يرجع إلى أصلين أحدهما أن الحكم في محل النص معلل بالوصف الفلاني وثانيهما أن ذلك الوصف حاصل في الفرع والأصل الأول أعظمهما وأولاهما بالبحث والتدقيق والكلام في هذا القسم مرتب على مقدمة وأربعة أبواب

المقدمة: في تفسير العلة

أما المقدمة ففي تفسير العلة في هذا الموضع قال نفاة القياس إما أن يكون المراد من العلة ما يكون مؤثرا في الحكم أو ما يكون داعيا للشرع إلى إثباته أو ما يكون معرفا له أو معنى رابعا والثلاثة الأولة باطلة والرابع لابد من افادة تصوره لننظر فيه هل يصح أم لا أما الأول وهو الموجب فهو باطل من وجوه أحدها أن حكم الله تعالى على قول أهل السنة مجرد خطابه الذي هو كلامه القديم والقديم يمتنع تعليله فضلا على أن يعلل بعلة محدثة وأما على قول من يقول الأحكام أمور عارضة للأفعال معللة بوقوع

تلك الأفعال على جهات مخصوصة فهو قول المعتزلة في الحسن والقبح العقليين وقد أبطلتموه وثانيها أن الواجب هو الذي يستحق العقاب على تركه واستحقاق العقاب وصف ثبوتي لأنه مناقض لعدم الاستحقاق وتركه هو أن لا يفعله وهو عدمى ولو كان ذلك الاستحقاق معللا بهذا الترك لكان الوجود معللا بالعدم وهو محال فإن قلت لم لا يجوز أن يقال القادر لا ينفك عن فعل الشئ أو فعل ضده فإذا ترك الواجب فقد فعل ضده واستحقاق العقاب معلل بفعل ضده قلت هذا لا يستقيم على رأى أبي هاشم وأبي الحسين وأتباعهما لأنه يجوز عندهما خلو القادر من الأخذ والترك وأيضا ففعل الضد لو لم يستلزم الإخلال بواجب لم يستلزم استحقاق الذم والعقاب ولو فرضنا وقوع الإخلال بالواجب من غير فعل الضد لاستلزم استحقاق الذم والعقاب فعلمنا أن المستلزم بالذات لهذا الاستحقاق هو أن لا يفعل الواجب لا فعل ضده وثالثها أن العلة الشرعية لو كانت مؤثرة في الحكم لما اجتمع على الحكم الواحد علل مستقلة لكن قد يحصل هذا الإجماع فالعلة غير مؤثرة

بيان الملازمة أن الحكم مع علته المستقلة واجب الحصول وما كان واجب الحصول لذاته استحال وقوعه لأن الواجب لذاته لا يكون واجبا لغيره فإذا اجتمعت عليه علل مستقلة كان لكونه مع هذا منقطعا عن الآخر وبالعكس فيلزم استغناؤه عن الكل حال احتياجه إلى الكل وهو محال بيان استثناء نقيض التالي ما إذا زنا وأرتد أو لمس ومس معا فإن الحكم هاهنا واحد لامتناع اجتماع المثلين وبتقدير جوازه فإنه لا يكون استناد أحد الحكمين إلى أحد العلتين أولى من استناده إلى العلة الأخرى ومن استناد الحكم الأخر إليها فيعود إلى كون كل واحد من الحكمين معللا بكل واحدة من العلتين وهو محال ورابعها أن كون القتل العمد العدوان قبيحا وموجبا لأستحقاق كل الذم والقصاص لو كان معللا بكونه قتلا عمدا عدوانا والعدوانية صفة عدمية لأن معناها انها غير مستحقة لزم أن يكون العدم جزء من علة الأمر الوجودي وهو محال فإن قلت لم لا يجوز أن يكون هذا العدم شرطا لصدور الأثر عن المؤثر قلت لأن عليه العلة ما كانت حاصلة قبل حصول هذا الشرط ثم حدثت عند حصوله فتلك العلية أمر حادث لابد له من مؤثر وهو الشرط فلو جعلنا الشرط عدما لزم جعل العدم علة لتلك العلية وهو محال ومن الفقهاء مقال هذه الإشكالات إنما تتوجه على من يجعل هذه

الأوصاف عللا مؤثرة لذواتها في هذه الأحكام ونحن لا نقول بذلك بل كونها عللا لهذه الأحكام أمر ثبت بالشرع فهي لا توجب الأحكام لذواتها بل لأن الشرع جعلها موجبة لهذه الأحكام وهذا هو الذي عول عليه الغزالى في شفاء الغليل فيقال له إن أردت بجعل الزنا علة موجبة للرجم أن الشرع قال مهما رأيتم إنسانا يزني فاعلموا أني أوجبت رجمه فهذا صحيح ولكن يرجع حاصله إلى كون الزنا معرفا لذلك الحكم وهو غير ما نحن الآن فيه وإن أردت به أن الشرع جعل الزنا مؤثرا في هذا الحكم فهو باطل من وجهين الأول أنه معترف بأن الحكم ليس إلا خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين وذلك هو كلامه القديم فكيف يعقل كون الصفة المحدثة موجبة للشئ القديم سواء كانت الموجبية بالذات أو بالجعل الثاني أن الشارع إذا جعل الزنا علة فحال ذلك الجعل إن لم يصدر عنه أمر ألبتة لم يكن جاعلا ألبتة

التفسير الثاني للعلة تفسيرها "بالداعي" ومن يتعلق به

وإن صدر عنه أمر فذلك الأمر إما الحكم أو ما يؤثر في الحكم أو لا الحكم ولا ما يؤثر في الحكم فإن كان الصادر هو الحكم كان المؤثر في الحكم هو الشارع لا الوصف وقد فرض أن المؤثر هو الوصف هذا خلف وإن كان الصادر ما يؤثر في الحكم كان تأثير الشارع في إخراج ذلك المؤثر من العدم إلى الوجود ثم إنه بعد وجوده يؤثر في الحكم لذاته فتكون موجبيتة لذاته لا بالشرع وإن كان الصادر لا الحكم ولا ما يؤثر فيه ألبتة لم يحصل الحكم حينئذ وإذا لم يحصل الحكم لم يجعل الشرع ذلك الوصف موجبا لذلك الحكم وقد فرض كذلك هذا خلف التفسير الثاني الداعى وهو بالحقيقة أيضا موجب لأن القادر لما صح منه فعل الشئ وفعل ضده لم تترجح فاعليته للشئ على فاعليته لضده إلا إذا علم أن له فيه مصلحة فذلك العلم هو الذي لأجله صار القادر فاعلا لهذا الضد بدلا من كونه فاعلا لذلك الضد لكن العلم موجب لتلك الفاعلية ومؤثر فيها فمن قال أكلت للشبع كان معناه ذلك إذا عرفت هذا فنقول هذا في حق الله تعالى محال لوجهين

الأول أن كل من فعل فعلا لغرض فإنه مستكمل بذلك الغرض والمستكمل بغيره ناقص بذاته وذلك على الله تعالى محال وإنما قلنا إن فعل فعلا لغرض فإنه مستكمل بذلك الغرض لأنه إما أن يكون حصول ذلك الغرض ولا حصوله بالنسبة إليه في اعتقاده على السواء وإما أن يكون أحدهما أولى به في اعتقاده فإن كان الأول استحال أن يكون غرضا والعلم به ضروري بعد الاستقراء والاختبار وإن كان الثاني كان حصول تلك الأولوية معلقا بفعل ذلك الغرض وكل ما كان معلقا على غيره لم يكن واجبا لذاته فحصول ذلك الكمال غير واجب لذاته فهو ممكن العدم لذاته فلا يكون كمال الله تعالى صفة واجبة له بل ممكنة الزوال عنه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا فإن قلت حصول ذلك الغرض ولا حصوله بالنسبة إليه تعالى على السواء ولكن بالنسبة إلى غيره لا على السواء فلا جرم أن الله تعالى يفعل لا لغرض يعود إليه بل الغرض يعود إلى عبده

قلت كونه تعالى فاعلا للفعل الذي هو أولى بالعبد وكونه غير فاعل له إما أن يتساويا بالنسبة إليه تعالى من جميع الوجوه أو لا يتساويا فإن كان الأول استحال أن يكون ذلك داعيا لله تعالى إلى الفعل وأيضا فكيف يعقل هذا مع أن المعتزلى يقول لو لم يفعل لاستحق الذم ولما كان مستحقا للمدح ولصار سفيها غير مستحق للآلهية وأن كان أحدهما أولى عاد الإشكال الثاني أن البديهة شاهدة بأن الغرض والحكمة ليس إلا جلب المنفعة أو دفع المضرة والم عبارة عن اللذة أو ما يكون وسيلة إليها والمضرة عبارة عن الألم أو ما يكون وسيلة إليه والوسيلة إلى اللذة مطلوبة بالعرض والمطلوب بالذات هو اللذة وكذا الوسيلة إلى الألم مهروب عنها بالغرض والمهروب عنه بالذات ليس إلا الألم فيرجع حاصل الغرض والحكمة إلى تحصيل اللذة ورفع الألم ولا لذة إلا والله تعالى قادر على تحصيلها إبتداء من غير شئ من الوسائط ولا ألم إلا والله تعالى قادر على دفعه ابتداءا من غير شئ من الوسائط وإذا كان الأمر كذلك استحال أن تكون فاعليته لشئ لأجل

التفسير الثالث للعلة تفسيرها "بالمعرف" وما يتعلق به

تحصيل اللذة أو دفع الألم لأن الشئ إنما يكون معللا بشئ آخر إذا كان يلزم من عدم ما فرض علة وعدم كل ما يقوم مقامها أن لا تكون العلية حاصلة ألبتة وبهذا الطريق علمنا أن نعيق الغراب وصرير الباب ليس علة لوجود السماء والأرض ولا بالعكس وإذا ثبت هذا فنقول لما لم تكن فاعلية الله تعالى لتحصيل اللذات ودفع الآلام متوقفا ألبتة على وجود هذه الوسائط ولم تكن أيضا فاعليته للوسائط متوقفة على فاعليته لتلك اللذات والآلام استحال تعليل أحدهما بالآخر وإذا بطل التعليل بطل كونها داعية لما بينا أن الداعى علة لعلية الفاعلية التفسير الثالث للعلة المعرف فنقول إنه أيضا باطل لأنا إذا قلنا الحكم في الأصل معلل بالعلة الفلانية استحال أن يكون مرادنا من العلة المعرف وإلالكان معنى الكلام أن الحكم في الأصل إنما عرف ثبوته بواسطة الوصف الفلاني وذلك باطل لأن علية الوصف لذلك الحكم لا تعرف إلا بعد معرفة ذلك الحكم فكيف يكون الوصف معرفا

والجواب أما المعتزلة فإنهم يفسرون العلة الشرعية تارة بالموجب وتارة بالداعى فيحتاجون إلى الجواب عن هذه الكلمات التي سبقت والكلام في ذلك طويل وأما أصحابنا فإنهم يفسرونه بالمعرف وأما قوله الحكم معرف بالنص فلا يمكن كون الوصف معرفا له قلنا ذلك الحكم الثابت في محل الوفاق فرد من أفراد ذلك النوع من الحكم ثم بعد ذلك يجوز قيام الدلالة على كون ذلك الوصف معرفا لفرد أخر من أفراد ذلك النوع من الحكم وعلى ذلك التقدير لا يكون تعريفا للمعرف ثم إذا وجدنا ذلك الوصف في الفرع حكمنا بحصول ذلك الحكم لما أن الدليل لا ينفك عن المدلول

الباب الأول في الطرق الدالة على علية الوصف في الأصل وهي عشرة

الباب الأول في الطرق الدالة على عِلِّيَّةِ الوصف في الأصل وهي عشرة النص والإيماء والإجماع والمناسبة والتأثير والشبه والدوران والسبر والتقسيم والطرد وتنقيح المناط وأمور أخرى اعتبرها قوم وهي عندنا ضعيفة

الفصل الأول في النص

الفصل الأول في النص ونعنى بالنص ما تكون دلالته على العلية ظاهرة سواء كانت قاطعة أو محتملة أما القاطع فما يكون صريحا في المؤثرية وهو قولنا لعله كذا أو لسبب كذا أو لموجب كذا أو لأجل كذا كقوله تعالى من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل وأما الذي لا يكون قاطعا فألفاظ ثلاثة اللام وإن والباء أما اللام فكقولنا ثبت لكذا كقوله منه وما خلقت الجن الأنس إلا ليعبدون فإن قلت اللام ليست صريحة في العلية ويدل عليه وجوه الأول أنها تدخل على العلة فيقال ثبت هذا الحكم لعلة كذا ولو كانت

اللام صريحة في التعليل لكان ذلك تكرارا الثاني أنه تعالى قال ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس وبالاتفاق لا يجوز أن يكون ذلك غرضا الثالث قول الشاعر لدوا للموت وابنوا للخراب وليست اللام هاهنا للغرض الرابع يقال أصلى لله تعالى ولا يجوز أن تكون ذات الله تعالى غرضا قلت أهل اللغة صرحوا بأن اللام للتعليل وقولهم حجة وإذا ثبت ذلك وجب القول بأنها مجاز في هذه الصور

وثانيها أن كقوله عليه الصلاة والسلام إنها من الطوافين عليكم إنه دم عرق وثالثها الباء كقوله تعالى ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله واعلم أن أصل الباء للإلصاق وذات العلة لما اقتضت وجود المعلول حصل معنى الإلصاق هناك فحسن إستعمال الباء فيه مجازا

الفصل الثاني في الإيماء

الفصل الثاني في الإيماء وهو على خمسة أنواع الأول تعليق الحكم على العلة بحرف الفاء وهو على وجهين الأول أن تدخل الفاء على حرف العلة ويكون الحكم متقدما كقوله عليه الصلاة والسلام في المحرم الذي وقصت به ناقته لا تقربوه طيبا فإنه يحشر يوم القيامة ملبيا

الثاني أن تدخل الفاء على الحكم وتكون العلة متقدمة وذلك أيضا على وجهين أحدهما أن تكون الفاء دخلت في كلام الشارع مثل قوله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما وقوله إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وثانيها أن تدخل على رواية الراوى كقول الراوى سها رسول الله ص فسجد وزنا ماعز فرجم

فرعان الأول الحكم المرتب على الوصف مشعر بكون الوصف علة سواء كان ذلك الوصف مناسبا لذلك الحكم أو لم يكن مناسبا لذلك الحكم وقال قوم لا يدل على العلية إلا إذا كان مناسبا لنا وجهان الأول أن الرجل إذا قال أكرموا الجهال واستخفوا بالعلماء يستقبح هذا الكلام في العرف فلا يخلو إما أن يكون الاستتباح جاء لأنه فهم منه أنه حكم يكون الجاهل مستحقا للإكرام بجهله ويكون العالم مستحقا للاستخفاف بعلمه أو لأنه فهم منه أنه جعل الجاهل مستحقا للإكرام والعالم مستحقا للاستخفاف والثاني باطل لأن الجاهل قد يستحق الإكرام بجهة أخرى نحو نسبه أو

شجاعته أو سوابق حقوقه والعالم قد يستحق الاستخفاف لفسقه أو لسبب آخر وإذا بطل هذا القسم ثبت الأول وذلك يدل على أن ترتيب الحكم على الوصف يفيد كون الوصف علة الحكم سواء تحققت المناسبة أو لم تتحقق فإن قلت لم لا يجوز أن يقال إن الاستقباح إنما جاء لأن الجهل مانع من الإكرام والعلم مانع من الاستخفاف فلما أمر بإكرام الجاهل فقد أثبت الحكم مع قيام المانع وأيضا فهب أن الحكم في هذا المثال كذلك فلم قلت إنه في سائر الصور يجب أن يكون كذلك قلت الجواب عن الأول أنا قد بينا أنه قد يثبت استحقاق الإكرام مع الجهل فوجب أن لا يكون الجهل مانعا منه لئلا يلزم مخالفة الأصل وعن الثاني أنه لما ثبت ما ذكرناه في بعض الصور وجب ثبوته في كل الصور وإلا وقع الاشتراك في هذا النوع من التركيب والاشتراك على خلاف الأصل

الوجه الثاني في المسألة أنه لا بد لهذا الحكم من علة ولا علة إلا هذا الوصف أما الأول فلأنه لو ثبت الحكم بدون العلة والداعى كان عبثا وهو على الله تعالى محال وأما الثاني فلأن غير هذا الوصف كان معدوما والعلم بأنه كان معدوما يوجب ظن بقائه على ذلك على ما سيأتى تقرير هذا الأصل وإذا بقي على العدم امتنع أن يكون علة فثبت أن غيره يمتنع أن يكون علة فوجب أن تكون العلة ذلك الوصف الفرع الثاني قد ذكرنا أن دخول الفاء يقع على ثلاثة أوجه ولا شك أن قول الشارع أبلغ في إفادة العلية من قول الراوى لأنه يجوز أن يتطرق إلى كلام الراوى من الخلل ما لا يجوز تطرقه إلى كلام الشارع وأما القسمان الباقيان فيشبه أن يكون الذي تقوم العلة فيه على الحكم أقوى في الأشعار بالعلية من القسم الثاني لأن أشعار العلة بالمعلول أقوى من أشعار المعلول بالعلة لأن الطرد واجب في العلل والعكس غير واجب فيها النوع الثاني أن يشرع الشارع الحكم عند علمه بصفة المحكوم عليه فيعلم أنها علة

الحكم فإذا قال القائل يا رسول الله أفطرت فيقول عليك الكفارة فيعلم أن الكفارة وجبت لأجل الإفطار وإنما قلنا إن ذلك مشعر بالعلية لأن قوله عليك الكفارة كلام يصلح أن يكون جوابا عن ذلك سؤال والكلام الذي يصلح أن يكون جوابا عن السؤال إذا ذكر عقب السؤال يفيد الظن بأنه إنما ذكره جوابا عن السؤال وإذا ذكره جوابا عن السؤال كان السؤال كالمعاد في الجواب فيصير التقدير أفطرت فأعتق وحينئذ يلتحق هذا بالنوع الأول فإن قلت لا نزاع في أن هذا الكلام صالح لأن يكون جوابا عن ذلك السؤال لكن لا نسلم أن مثل هذا الكلام إذا ذكر عقيب السؤال حصل ظن أنه ذكر ليكون جوابا عن ذلك السؤال فإنه ربما ذكره جوابا عن سؤال آخر أو لغرض آخر أو زجرا له عن هذا السؤال كما أن العبد إذا قال لسيده دخل فلان دارك فيقول له السيد اشتغل بشأنك فمالك وهذا الفضول ولا يمكن إبطال هذا الاحتمال بما قاله بعضهم من أنه لو لم يكن هذا الكلام جوابا عن ذلك السؤال لكان تأخيرا للبيان عن وقت الحاجة وإنه لا يجوز لاحتمال أنه عليه الصلاة والسلام عرف أنه لا حاجة بذلك المكلف إلى ذلك الجواب في ذلك الوقت فلا يكون اعراض الرسول ص

عن ذكر الجواب تأخيرا للبيان عن وقت الحاجة سلمنا أن ما يقوله الرسول ص جوابا عن السؤال مشعر بالتعليل فلم قلتم إن الذي يزعم الراوى أنه جواب عن السؤال مشعر به لاحتمال أنه اشتبه الأمر على الراوى فظن ما لم يكون جوابا جوابا قلت الجواب عن الأول أن الأكثر على أن الكلام الذي يصلح أن يكون جوابا عن السؤال إذا ذكر عقيب السؤال فإنما يذكر جوابا عنه والصورة التي ذكرتموها نادرة والنادر مرجوح وعن الثاني أن العلم يكون الكلام المذكور بعد السؤال جوابا عنه أو ليس جوابا عنه أمر ظاهر يعرف بالضرورة عند مشاهدة المتكلم ولا يفتقر فيه إلى نظر دقيق النوع الثالث أن يذكر الشارع في الحكم وصفا لو لم يكن موجبا لذلك الحكم لم يكن في ذكره فائدة وهذا يقع على أقسام أربعة أحدها أن يدفع السؤال المذكور في صورة الإشكال بذكر الوصف كما

روى أنه عليه الصلاة والسلام امتنع من الدخول على قوم عندهم كلب فقيل له إنك تدخل على فلان وعنده هرة فقال عليه الصلاة والسلام إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم أو الطوافات فلو لم يكن لكونها من الطوافين أثر في طهارتها لم يكن لذكره عقيب الحكم بطهارتها فائدة وثانيها أن يذكر وصفا في محل الحكم لا حاجة إلى ذكره إبتداء فيعلم أنه إنما ذكره لكونه مؤثر في الحكم كما روى أنه عليه الصلاة والسلام قال تمرة طيبة وماء طهور

وثالثها أن يقرر النبي ص على وصف الشئ المسئول عنه كقوله ص أينقص الرطب إذا جف قالوا نعم قال فلا إذن فلو لم يكن نقصانه باليبس علة في المنع من البيع لم يكن للتقرير عليه فائدة وهذا أيضا يدل على العلية من حيث الجواب بالفاء ورابعها أن يقرر الرسول ص على حكم ما يشبه المسئول عنه وينبه على وجه الشبه فيعلم أن وجه الشبه هو العلة في ذلك الحكم كقوله عليه الصلاة والسلام لعمر رضي الله عنه وقد سأله عن قبلة الصائم

أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته فنبه بهذا على أنه لا يفسد الصوم بالمضمضة والقبلة لأنه لم يحصل ما هو الأثر المطلوب منهما النوع الرابع أن يفرق الشرع بين شيئين في الحكم بذكر صفة فيعلم أنه لو لم تكن تلك الصفة علة لم يكن لذكرها فائدة وهو ضربان أحدهما أن لا يكون حكم أحدهما مذكورا في الخطاب كقوله عليه الصلاة والسلام القاتل لا يرث فإنه قد تقدم بيان إرث الورثة فلما قال القاتل لا يرث وفرق بينه وبين جميع الورثة بذكر القتل الذي يجوز كونه مؤثرا في نفي الإرث علمنا أنه العلة في نفي الإرث وثانيها أن يكون حكمهما مذكورا على الخطاب وهو على خمسة أوجوه أحدها أن تقع التفرقة بلفظ يجرى مجرى الشرط كقوله عليه الصلاة

والسلام فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد بعد نهيه عن بيع البر بالبر متفاضلا فدل على أن اختلاف الجنسين علة في جواز البيع وثانيها أن تقع التفرقة في الغاية كقوله تعالى ولا تقربوهن حتى يطهرن وثالثها أن تقع بالاستثناء كقوله تعالى إلا أن يعفون ورابعها أن تقع بلفظ يجرى مجرى الاستدراك كقوله تعالى لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فدل على أن التعقيد مؤثر في المؤاخذة وخامسها أن يستأنف أحد الشيئين بذكر صفة من صفاته بعد ذكر الأخرى وتكون تلك الصفة مما يجوز أن يؤثر كقوله ص للراجل سهم

وللفارس سهمان وأعلم أن الاعتماد على هذين النوعين على أنه لا بد لتلك التفرقة من سبب ولا بد في ذكر ذلك الوصف من فائدة فإذا جعلنا الوصف سببا للتفرقة حصلت الفائدة النوع الخامس النهى عن فعل يمنع ما تقدم وجوبه علينا فيعلم أن العلة في ذلك النهي كونه مانعا من ذلك الواجب كقوله تعالى فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع فإنه لما أوجب علينا السعي ونهانا عن البيع مع علمنا بأنه لو لم يكن النهي عن البيع لكونه مانعا من السعى لكان ذكره في هذا الموضع غير جائز وذلك يدل على أنه إنما نهانا عنه لأنه يمنع من الواجب وكتحريم التأفيف فإن العلة فيه كونه مانعا من الإعظام الواجب فهذه جملة أقسام الإيماءات مسألة الظاهر من هذه الأقسام وإن دل على العلية لكن قد يترك هذا الظاهر

عند قيام الدليل عليه مثاله قوله عليه الصلاة والسلام لا يقضي القاضي وهو غضبان ظاهره يدل على أن العلة هي الغضب ولكن لما علمنا أن الغضب اليسير الذي لا يمنع من استيفاء الفكر لا يمنع من القضاء وأن الجوع المبرح والألم المبرح يمنع علمنا أن علة المنع لست هي الغضب بل تشويش الفكر قوله من يقول الغضب هو العلة لكن لكونه مشوشا خطأ لأن الحكم لما دار مع تشويش الفكر وجودا وعدما وانقطع عن الغضب وجودا وعدما وليس بين التشويش والغضب ملازمة أصلا لأن تشويش الفكر قد يوجد حيث لا غضب والغضب يوجد حيث لا تشويش علمنا أنه ليس بينهما ملازمة وحينئذ تعلم أنه لا يمكن أن يكون الغضب علة بل العلة إنما هو التشويش فقط إلا أنه يجوز إطلاق لفظ الغضب لإرادة التشويش إطلاقا لاسم السبب على المسبب ويجب أن يعلم أن الذي به يصرف اللفظ عن ظاهرة لابد وأن يكون أقوى وجهات القوة ستأتي في باب الترجيح إن شاء الله تعالى

الفصل الثالث في المناسبة

الفصل الثالث في بيان علية الوصف بالمناسبة وهو مرتب على فنين الأول في المقدمات وفيه مسائل المسألة الأولى في تعريف المناسبة الناس ذكروا في تعريف المناسب شيئين الأول أنه الذي يفضى إلى ما يوافق الإنسان تحصيلا وإبقاء وقد يعبر عن التحصيل بجلب المنفعة وعن الإبقاء بدفع المضرة لأن ما قصد

إبقاؤه فإزالته مضرة وإبقاؤه دفع المضرة ثم هذا التحصيل والإبقاء قد يكون معلوما وقد يكون مظنونا وعلى التقديرين فإما أن يكون دينيا أو دنيويا والمنفعة عبارة عن اللذة أو ما يكون طريقا إليه والمضرة عبارة عن الألم أو ما يكون طريقا إليه واللذة قيل في حدها إنها إدراك الملائم والألم إدراك المنافي والصواب عندي إنه لا يجوز تحديدهما لأنهما من أظهر ما يجده الحي من نفسه ويدرك بالضرورة التفرقة بين كل واحد منهما وبينهما وبين غيرهما وما كان كذلك يتعذر تعريفه بما هو أظهر منه الثاني أنه الملائم لأفعال العقلاء في العادات فإنه يقال هذه اللؤلؤة تناسب هذه اللؤلؤة أي الجمع بينهما في سلك واحد متلائم وهذه الجبة تناسب هذه العمامة أي الجمع بينهم متلائم والتعريف الأول قول من يعلل أحكام الله تعالى بالحكم والمصالح

والتعريف الثاني قول من يأباه المسألة الثانية في تقسم المناسب وذلك من أوجه التقسيم الأول المناسب إما أن يكون حقيقيا أو إقناعيا أما الحقيقي فنقول كون المناسب مناسبا إما أن يكون لمصلحة تتعلق بالدنيا أو لمصلحة تتعلق بالآخرة أما القسم الأول فهو على ثلاثة أقسام لأن رعاية تلك المصلحة أما أن تكون في محل الضرورة أو في محل الحاجة أو لا في محل الضرورة ولا في محل الحاجة أما التي في محل الضرورة فهي التي تتضمن حفظ مقصود من

المقاصد الخمسة وهى حفظ النفس والمال والنسب والدين والعقل أما النفس فهي محفوظة بشرع القصاص وقد نبه الله تعالى عليه بقوله ولكم في القصاص حياة وأما المال فهو محفوظ بشرع الضمانات والحدود وأما النسب فهو محفوظ بشرع الزواجر عن الزنا لأن المزاحمة على الأبضاع تفضي إلى اختلاط الأنساب المفضى إلى انقطاع التعهد عن الأولاد وفيه التوثب على الفروج بالتعدي والتغلب وهو مجلبة الفساد والتقاتل وأما الدين فهو محفوظ بشرع الزواجر عن الردة والمقاتلة مع أهل الحرب وقد نبه الله تعالى عليه بقوله قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر وأما العقل فهو محفوظ بتحريم المسكر وقد نبه الله تعالى عليه بقوله أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر فهذه الخمسة هي المصالح الضرورية وأما التي في محل الحاجة فتمكين الولى من تزويج الصغيرة فإن مصالح النكاح غير ضرورية لها في الحال إلا أن الحاجة إليه بوجه ما حاصلة وهي تقييد الكفؤ الذي لو فات فربما فات لا إلى بدل وأما التي لا تكون في محل الضرورة ولا الحاجة فهي التي تجري

مجرى التحسينات وهي تقرير الناس على مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم وهذا على قسمين منه ما يقع لا على معارضة قاعدة معتبرة وذلك كتحريم تناول القاذورات وسلب أهلية الشهادة عن الرقيق لأجل أنها منصب شريف والرقيق نازل القدر والجمع بينهما غير متلائم ومنه ما يقع على معارضة قاعدة معتبرة وهو مثل الكتابة فإنها وإن كانت مستحسنة في العادات إلا أنها في الحقيقة بيع الرجل ماله بماله وذلك غير معقول وأما الذي يكون مناسبا لمصلحة تتعلق بالآخرة فهي الحكم المذكورة في رياضة النفس وتهذيب الأخلاق فإن منفعتها في سعادة الآخرة فرع أن كل واحدة من هذه المراتب قد يقع فيه ما يظهر كونه من ذلك القسم وقد يقع فيه ما لا يظهر كونه منه بل يختلف ذلك بحسب اختلاف الظنون وقد استقصى إمام الحرمين رحمه الله في أمثله هذه الأقسام

ونحن نكتفى بواحد منها قال رحمه الله قد ذكرنا أن حفظ النفوس بشرع القصاص من باب المناسب الضروري ومما نعلم قطعا أنه من هذا الباب شرع القصاص في المثقل فإنا كما نعلم أنه لولا شرع القصاص في الجملة لوقع الهرج والمرج فكذلك نعلم أنه لو ترك في المثقل لوقع الهرج ولأدى الأمر إلى أن كل من أراد قتل إنسان فإنه يعدل عن المحدد إلى المثقل دفعا للقصاص عن نفسه إذ ليس في المثقل زيادة مؤنة ليست في المحدد بل كان المثقل أسهل من المحدد وعند هذا قال رحمه الله لا يجوز في كل شرع تراعى فيه مصالح الخلق عدم وجوب القصاص بالمثقل قال رحمه الله فأما إيجاب قطع الأيدي باليد الواحدة فإنه يحتمل أن يكون من هذا الباب لكنه لا يظهر كونه منه أما وجه الاحتمال فلأنا لو لم نوجب قطع الأيدي باليد الواحدة لتأدى الأمر إلى أن كل من أراد قطع يد إنسان استعان بشريك ليدفع القصاص عنه فتبطل الحكمة المرعية بشرع القصاص وأما أنه لا يظهر كونه من هذا الباب فلأنه يحتاج فيه إلى الاستعانة بالغير وقد لا يساعده الغير عليه فليس وجه الحاجة إلى شرع القصاص من هاهنا مثل وجه الحاجة إلى شرعه في المنفرد وأما المناسب الإقناعى: فهو الذي يظن به في أول الأمر كونه مناسبا لكنه إذا بحث عنه حق البحث يظهر أنه غير مناسب مثاله تعليل الشافعية تحريم بيع الخمر والميتة والعذرة بنجاستها وقياس الكلب والسرجين عليه

ووجه المناسبة أن كونه نجسا يناسب إذلاله ومقابلته بالمال في البيع يناسب إعزازه والجمع بينهما متناقض وهذا وإن كان يظن به في الظاهر أنه مناسب لكنه في الحقيقة ليس كذلك لأن كونه نجسا معناه أنه لا يجوز الصلاة معه ولا مناسبة ألبتة بين المنع من استصحابه في الصلاة وبين المنع من بيعه التقسيم الثاني الوصف المناسب إما أن يعلم أن الشارع اعتبره أو يعلم أنه ألغاه أو لا يعلم واحد منهما أما القسم الأول فهو على أقسام أربعة لأنه إما أن يكون نوعه معتبرا في نوع ذلك الحكم أو في جنسه أو يكون جنسه معتبرا في نوع ذلك الحكم أو في جنسه مثال تأثير النوع في النوع أنه إذا ثبت أن حقيقة

السكر اقتضت حقيقة التحريم كان النبيذ ملحقا بالخمر لأنه لا تفاوت بين العلتين وبين الحكمين إلا اختلاف المحلين واختلاف المحل لا يقتضي ظاهرا اختلاف الحالين مثال تأثير النوع في الجنس أن الإخوة من الأب والأم نوع واحد يقتضى التقدم في الميراث فيقاس عليه التقدم في النكاح والأخوة من الأب والأم نوع واحد في الموضعين إلا أن ولاية النكاح ليست كولاية الإرث لكن بينهما مجانسة في الحقيقة ولا شك أن هذا القسم دون القسم الأول في الظهور لأن المفارقة بين المثلين بحسب اختلاف المحلين أقل من المفارقة بين نوعين مختلفين مثال تأثير الجنس في النوع إسقاط قضاء الصلاة عن الحائض تعليلا بالمشقة فإنه ظهر تأثير جنس المشقة في إسقاط قضاء الصلاة وذلك مثل تأثير المشقة في السفر في إسقاط قضاء الركعتين الساقطتين مثال تأثير الجنس في الجنس تعليل الأحكام بالحكم التي لا تشهد لها أصول معينة مثل أن عليا رضي الله عنه أقام الشرب مقام القذف إقامة لمظنة الشئ مقامه قياسا على إفامة غير الخلوة بالمرأة مقام وطئها في الحرمة ثم أعلم أن للجنسية مراتب فأعم أوصاف الأحكام كونها حكما ثم ينقسم الحكم إلى تحريم وإيجاب وندب وكراهة والواجب ينقسم إلى عبادة وغيرها

والعبادة تنقسم إلى الصلاة وغيرها والصلاة تنقسم إلى فرض ونقل فما ظهر تأثيره في الفرض أخص مما ظهر تأثيره في الصلاة وما ظهر تأثيره في الصلاة أخص مما ظهر تأثيره في العبادة وكذا في جانب الوصف أعم أوصافه كونه وصفا تناط به الأحكام حتى تدخل فيه الأوصاف المناسبة وغير المناسبة وأخص منه المناسب وأخص منه المناسب الضروري وأخص منه ما هو كذلك في حفظ النفوس وبالجملة فالأوصاف إنما يلتفت إليها إذا ظن التفات الشرع إليها وكل ما كان التفات الشرع إليه أكثر كان ظن كونه معتبرا أقوى وكلما كان الوصف والحكم أخص كان ظن كون ذلك الوصف معتبرا في حق ذلك الحكم آكد فيكون لا محالة مقدما على ما يكون اعم منه وأما المناسب الذي علم أن الشرع ألغاه فهو غير معتبر أصلا

وأما المناسب الذي لا يعلم أن الشرع ألغاه أو اعتبره فذلك يكون بحسب أوصاف أخص من كونه وصفا مصلحيا وإلا فعموم كونه وصفا مصلحيا مشهود له بالاعتبار وهذا القسم هو المسمى بالمصالح المرسلة واعلم أن كل واحد من هذه الأقسام الأربعة مع كثرة مراتب العموم والخصوص قد يقع فيه كل واحد من الأقسام الخمسة المذكورة في التقسيم الأول ويحصل هناك أقسام كثيرة جدا وتقع فيما بينها المعارضات والترجيحات ولا يمكن ضبط القول فيها لكثرتها والله تعالى هو العالم بحقائقها التقسيم الثالث الوصف بأعتبار الملاءمة ووقوع الحكم على وفق أحكام أخر وشهادة الأصل على أربعة أقسام الأول ملائم شهد له أصل معين وهو الذي أثر نوع الوصف في نوع الحكم وأثر جنسه في جنسه وهذا متفق على قبوله بين القايسين وهو كقياس المثقل على الجارح في وجوب القصاص فخصوص كونه قتلا معتبر في

خصوص كونه قصاصا وعموم جنس الجناية معتبر في عموم جنس العقوبة وثانيها مناسب لا يلائم ولا يشهد له أصل معين فهذا مردود بالإجماع مثاله حرمان القاتل من الميراث معارضة له بنقيض قصده لو قدرنا أنه لم يرد فيه نص وثالثها مناسب ملائم لا يشهد له أصل معين بالاعتبار يعنى أنه اعتبر جنسه في جنسه لكن لم يوجد له أصل يدل على اعتبار نوعه في نوعه وهذا هو المصالح المرسلة ورابعها مناسب شهد له أصل معين ولكنه غير ملائم أي شهد نوعه لنوعه لكن لم يشهد جنسه لجنسه كمعنى الإسكار فإنه يناسب تحريم تناول المسكر صيانة للعقل وقد يشهد لهذا المعنى الخمر بأعتباره أحمد لكن لم تشهد له سائر الأصول وهذا هو المسمى بالمناسب الغريب

المسألة الثالثة في أن المناسبة لا تبطل بالمعارضة والدليل عليه أن كون الوصف مناسبا إنما يكون لكونه مشتملا على جلب منفعة أو دفع مضرة وذلك لا يبطل بالمعارضة أما الأول فظاهر وأما الثاني فيدل عليه وجوه الأول أن المناسبتين المتعارضتين إما أن تكونا متساويتين أو إحداهما أرجح من الأخرى فإن كان الأول لم يكن بطلان إحداهما بالأخرى أولى من العكس فإما أن نبطل كل واحدة منهما بالأخرى وهو محال لأن المقتضى لعدم كل واحدة منهما وجود الأخرى والعلة لابد وأن تكون حاصلة مع المعلول فلو كان كل واحدة منهما مؤثرة في عدم الأخرى لزم أن تكونا موجودتين حال

كونهما معدومتين وذلك محال وأما إن لا تبطل إحداهما بالأخرى عند التعارض وذلك هو المطلوب وأما إن كانت إحدى المناسبتين أقوى فهاهنا لا يلزم التفاسد أيضا لأنه لو لزم التفاسد لكان لما بينهما من المنافاة لكنا بينا في القسم الأول أنه لا منافاة بينهما لأنهما اجتمعا وإذا زالت المنافاة لم يلزم من وجود أحدهما عدم الآخر الثاني أن المفسدة الراجحة إذا صارت معارضة بمصلحة مرجوحة فإما أن ينتفى شئ من الراجح لأجل المرجوح أو لا ينتفي والأول باطل وإلا لزم أن تكون المفسدة المعارضة بمصلحة مرجوحة مساوية للمفسدة الخالصة عن شوائب المصلحة وذلك باطل بالبديهة

والثاني أيضا باطل لأن القدر الذي يندفع من المفسدة بالمصلحة يكو مساويا لتلك المصلحة فيعود التقسيم الأول في ذينك التقديرين المتساويين في أنه ليس اندفاع أحدهما بالآخر أولى من العكس فإما أن يندفع كل واحد منهما بالآخر وهو محال أو لا يندفع واحد منهما بالآخر وهو المطلوب وأيضا فليس اندفاع بعض أجزاء الطرف الراجح بالطرف المرجوح وبقاء بعضه أولى من اندفاع ما فرض باقيا وبقاء ما فرض زائلا لأن تلك الأجزاء متساوية في الحقيقة الثالث وهو أن تقرر في الشرع إثبات الأحكام المختلفة نظرا إلى الجهات المختلفة مثل الصلاة في الدار المغصوبة فأنها من حيث أنها صلاة سبب الثواب ومن حيث أنها غصب سبب العقاب والجهة المقتضية للثواب مشتملة على المصلحة والجهة المقتضية للعقاب مشتملة على المفسدة وعند ذلك نقول المصلحة والمفسدة إما أن يتساويا أو تكون إحداهما راجحة على الأخرى فعلى تقدير التساوي يندفع كل واحد منهما بالآخر فلا تبقى لا مصلحة ولا مفسدة فوجب أن لا يترتب عليها لا مدح ولا ذم وقد فرضنا ترتبهيا بعد عليها هذا خلف

وإن كانت إحدى الجهتين راجحة كانت المرجوحة معدومة فيكون الحاصل إما المدح وحده أو الذم وحده وقد فرضنا حصولهما معا وهذا خلف واعلم أن هذا الوجه مبنى على قول الفقهاء الصلاة في الدار المغصوبة عبادة من وجه معصية من وجه الرابع العقلاء يقولون في فعل معين الإتيان به مصلحة في حقى لولا ما فيه من المفسدة الفلانية ولولا صحة إجتماع وجهى المفسدة والمصلحة وإلا لما صح هذا الكلام والله أعلم

الفصل الثاني من هذا الفصل في إقامة الدلالة على أن المناسبة دالة على العلية فنقول المناسبة تفيد ظن العلية والظن واجب اعمل به بيان الأول من وجهين الأول أن الله تعالى شرع الأحكام لمصلحة العباد وهذه مصلحة فيحصل ظن أن الله تعالى إنما شرعه لهذه المصلحة فهذه مقدمات ثلاث لا بد من إثباتها بالدليل أما المقدمة الأولى فالدليل عليها وجوه أحدها أن الله تعالى خصص الواقعة المعينة بالحكم المعين لمرجح أو لا لمرجح والقسم الثاني باطل وإلا لزم ترجيح أحد الطرفين على الآخر لا لمرجح وهذا محال فثبت القسم الأول وذلك المرجح إما أن يكون عائدا إلى الله تعالى أو إلى العبد

والأول باطل بإجماع المسلمين فتعين الثاني وهو أنه تعالى إنها شرع الأحكام لأمر عائد إلى العبد والعائد إلى العبد إما أن يكون مصلحة العبد أو مفسدته أو ما لا يكون مصلحته ولا مفسدته والقسم الثاني والثالث باطل باتفاق العقلاء فتعين الأول فثبت أنه تعالى إنما شرع الأحكام لمصالح العباد وثانيها أنه تعالى حكيم بإجماع المسلمين والحكم لا يفعل إلا لمصلحة فإن من يفعل لا لمصلحة يكون عابثا والعبث على الله تعالى محال للنص والإجماع والمعقول أما النص فقوله تعالى أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا ربنا ما خلقت هذا باطلا ما خلقناهما إلا بالحق وأما الإجماع فقد أجمع المسلمون على أنه تعالى ليس بعابث وأما المعقول فهو أن العبث سفه والسفه صفة نقص والنقص على الله تعالى محال

فثبت أنه لا بد من مصلحة وتلك المصلحة يمتنع عودها إلى الله تعالى كما بينا فلابد من عودها إلى العبد فثبت أنه تعال شرع الأحكام لمصالح العباد وثالثها أن الله تعالى خلق الآدمي مشرفا مكرما لقوله تعالى ولقد كرمنا بني آدم ومن كرم أحدا ثم سعي في تحصيل مطلوبه كان ذلك السعي ملائما لأفعال العقلاء مستحسنا فيما بينهم فإذن ظن كون المكلف مكرما يقتضى ظن أن الله تعالى لا يشرع إلا ما يكون مصلحة له ورابعها أن الله تعالى خلق الآدميين للعبادة لقوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون والحكيم إذا أمر عبده بشئ فلا بد وأن يزيح عذره وعلته ويسعى في تحصيل منافعه ودفع المضار عنه ليصير فارغ البال فيتمكن من الاشتغال بأداء ما أمره به والاجتناب عما نهاه عنه فكونه مكلفا يقتضى ظن أن الله تعالى لا يشرع إلا ما يكون مصلحة له وخامسها النصوص الدالة على أن مصالح الخلق ودفع المضار عنهم مطلوب الشرع قال الله تعالى وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين وقال

خلق لكم ما في الأرض جميعا وقال وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا وقال يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وقال عز وجل وما جعل عليكم في الدين من حرج وقال عليه الصلاة والسلام بعثت بالحنيفية السهلة السمحة وقال لا ضرر ولا ضرار في الإسلام وسادسها أنه وصف نفسه بكونه رؤوفا رحيما بعباده وقال ورحمتي وسعت كل شئ فلو شرع ما لا يكون للعبد فيه مصلحة لم يكن ذلك رأفة ولا رحمة فهذه الوجوه الستة دالة على انه تعالى ما شرع الأحكام إلا لمصلحة العباد

ثم أختلف الناس بعد ذلك أما المعتزلة فقد صرحوا بحقيقة هذا المقام وكشفوا الغطاء عنه وقالوا إنه يقبح من الله تعالى فعل القبيح وفعل العبث بل يجب أن يكون فعله مشتملا على جهه مصلحة وغرض وأما الفقهاء فإنهم يصرحون بأنه تعالى إنما شرع هذا الحكم لهذا المعنى ولأجل هذه الحكمة ولو سمعوا لفظ الغرض لكفروا قائله مع أنه لا معنى لتلك اللام إلا الغرض وأيضا فإنهم يقولون إنه وإن كان لا يجب على الله تعالى رعاية المصالح إلا أنه تعالى لا يفعل إلا ما يكون مصلحة لعباده تفضلا منه وإحسانا لا وجوبا فهذا هو الكلام في تقرير هذه المقدمة أما المقدمة الثانية وهى أن هذا الفعل مشتمل على هذه الجهة من المصلحة فظاهر لأنا إنما نحكم بعلية الوصف إذا بينا كونه كذلك أما المقدمة الثالثة وهى أنا لما علمنا أنه لا يشرع إلا لمصلحة وعلمنا أن هذا المعنى مصلحة حصل لنا ظن أن الداعي له تعالى إلى شرع ذلك الحكم هو هذه المصلحة فقد استدلوا عليه من وجهين الأول وهو أن المصلحة المقتضية لشرع هذا الحكم إما هذه المصلحة أو غيرها لا جائز أن يكون غيرها لأن ذلك الغير أما أن يقال إنه

كان مقتضيا لذلك الحكم في الأزل أو ما كان مقتضيا له في الأزل والأول باطل وإلا لكان الحكم ثابتا في الأزل لكن التكليف بدون المكلف محال فتعين الثاني وهو أنه ما كان مقتضيا لهذا الحكم في الأزل وذلك يفيد ظن استمرار هذا السلب لما سنبين إن شاء الله تعالى أن العلم بوقوع أمر على وجه مخصوص يقتضى ظن بقائه على ذلك الوجه أبدا وإذا ثبت ظن أن غير هذا الوصف ليس علة لهذا الحكم ثبت ظن أن هذا الوصف هو العلة لهذا الحكم ونحن ما ادعينا إلا الظن الثاني أن الظن بكون الحاكم حكيما مع العلم بأن هذا الحكم فيه هذه الجهة من الحكمة يفيد في الشاهد ظن أن ذلك الحكيم إنما شرع ذلك الحكم لتلك الجهة واذا كان الأمر كذلك في الشاهد وجب أن يكون في الغائب مثله بيان المقام الأول أنا إذا اعتقدنا في ملك البلدة أنه لا يفعل فعلا إلا لحكمة فإذا رأيناه يدفع مالا إلى فقير وعلمنا أن فقره يناسب دفع المال إليه ولم تخطر ببالنا صفة أخرى فيها مناسبة لدفع المال إليه غلب على ظننا أنه إنما دفع المال إليه لفقره

نعم لا ننكر أنه يجوز أن يكون له غرض سوى ما ذكرناه لكنه تجويز مرجوح لا يقدح في ذلك الظن الغالب أما إذا ظهر وجهان من المناسبة مثل أن كان ذلك الفقير فقيها فهاهنا إن تساوى الوجهان في القوة لا يبقى ظن أنه أعطاه لهذا الوصف أو لذلك أو لهما جميعا فثبت أن العلم يكون الفاعل حكيما مع العلم بحصول جهة معينة في الحكم ومع الغفلة عن سائر الجهات يقتضى ظن أن ذلك الفاعل إنما فعل لتلك الحكمة بيان المقام الثاني أن في الشاهد دار ذلك الظن مع حصول ذينك العلمين وجودا وعدما والدوران دليل العلية ظاهرا فيحصل ظن أن العلم بكون الفاعل حكيما مع العلم باشتمال هذا الفعل على جهة مصلحة ومع الغفلة عن سائر الجهات علة لحصول الظن بأن ذلك الحكيم إنما أتى بذلك الفعل لتلك الحكمة والعلة أينما حصلت حصل الحكم فإذا حصل ذلك العلمان في أفعال الله تعالى وأحكامه وجب أن يحصل ظن أنه تعالى إنما شرع ذلك الحكم لتلك المصلحة فثبت بهذا أن المناسبة تفيد ظن العلية

الوجه الثاني في بيان أن المناسبة تفيد ظن العلية أن نسلم أن أفعال الله وأحكامه يمتنع أن تكون معللة بالدواعي والأغراض ومع هذا فندعى الذي أن المناسبة تفيد ظن العلية وبيانه أن مذهب المسلمين أن دوران الأفلاك وطلوع الكواكب وغروبها وبقائها على أشكالها وأنوارها غير واجب ولكن الله تعالى لما أجرى عادته بإبقائها على حالة واحدة لا جرم يحصل ظن أنها تبقى غدا وبعد غد على هذه الصفات وكذلك نزول المطر عند الغيم الرطب وحصول الشبع عقيب الأكل والرى عقيب الشرب والأحتراق لأن عند مماسة النار غير واجب لكن العادة لما اطردت بذلك لا جرم حصل ظن يقارب اليقين بأستمرارها على مناهجها والحاصل أن تكرير الشئ مرارا كثيرة يقتضى ظن أنه متى حصل لا يحصل إلا على ذلك الوجه إذا ثبت هذا فنقول إنا لما تأملنا الشرائع وجدنا الأحكام والمصالح متقارنين لا ينفك أحدهما عن الآخر وذلك معلوم بعد استقرار أوضاع الشرائع وإذا كان كذلك كان العلم بحصول هذا مقتضيا ظن حصول الآخر وبالعكس من غير أن يكون أحدهما مؤثرا في الآخر وداعيا إليه فثبت أن المناسبة دليل العلية مع القطع بأن أحكام الله تعالى لا تعلل بالأغراض

أما المقدمة الثانية من أصل الدليل وهي أن المناسبة لما أفادت ظن العلية وجب أن يكون ذلك القياس حجة فالاعتماد علي فيه على ما ذكرنا أن العمل بالظن واجب لما فيه من دفع الضرر عن النفس وهذا تمام الكلام في تقرير هذا الدليل فإن قيل لا نسلم أن الله تعالى شرع الأحكام لمصلحة العباد قوله تخصيص الصورة المعينة بالحكم المعين لا بد وأن يكون لمرجح وذلك المرجح يمتنع أن يكون عائدا إلى الله تعالى فلا بد وأن يكون عائدا إلى العبد قلنا إما أن تدعى أن التخصيص لا بد له من مخصص أو لا تدعى ذلك وعلى التقديرين لا يمكنك القول بتعليل أحكام الله تعالى بالمصالح أما على القول بأن التخصيص لابد له من مخصص فلأن أفعال العباد إما أن تكون واقعة بالله تعالى أو العبد فإن كان الأول كأن الله تعالى فاعلا للكفر والمعصية ومع القول بذلك يستحيل القول بأنه لا يفعل إلا ما يكون مصلحة للعبد وإن كانت واقعة بالعبد فالعبد الفاعل للمعصية مثلا إما أن يكون متمكنا من تركها أو لا يكون

فإن لم يكن متمكنا من تركها وتلك القدرة والداعية مخلوقة لله تعالى كأن الله تعالى قد خلق في العبد ما يوجب المعصية ويمتنع عقلا انفكاكه عنها ومع هذا لا يمكن القول بأن الله تعالى يراعي مصالح العباد وإن كان العبد متمكنا من تركها فنقول لما كان كونه فاعلا للمعصية وتاركا لها أمرين ممكنين لم يترجح أحدهما على الآخر إلا لمرجح لأنا نتكلم الآن تفريعا على تسليم هذه المقدمة فذلك المرجح إن كان من فعل العبد عاد التقسيم الأول وان كان من فعل الله تعالى فإما أن يجب الترجيح عند حصول ذلك المرجح من الله تعالى أولا يجب فإن وجب عاد الأمر إلى أنه تعالى فعل فيه ما يوجب المعصية ومع هذا لا يمكن القول بأن الله تعالى يراعي المصالح وإن لم يجب كان حصول الترجيح مع ذلك المرجح ممكنا أن يكون وأن لا يكون فيفتقر إلى مرجح أخر فإما أن يتسلسل وهو محال أو ينتهى إلى الوجوب فيعود الإشكال فإن قلت عند حصول المرجح يصير الترجيح أولى بالوقوع لكنه لا ينتهى إلى حد الوجوب قلت حصول الترجيح ولا حصوله مع ذلك القدر من الأولوية إن كانا

ممكنين فلنفرض وقوعهما فنسبة ذلك القدر من الأولوية إلى الترجيح واللاترجيح حتى على السواء فأختصاص تعالى أحد زماني حصول تلك الأولوية بالوقوع دون الزمان الثاني يكون ترجيحا للممكن المساوى من غير مرجح وهو محال لأنا نتكلم الآن تفريعا على هذه المقدمة فثبت أن القول بأفتقار فإن التخصيص إلى المخصص يمنع من تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه بالمصالح وأما أن القول بأن التخصص لا يفتقر إلى المخصص يمنع من القول بتعليل أفعال الله تعالى وأحكامه بالمصالح فذلك ظاهر فثبت أن تعليل أحكام الله تعالى بالمصالح باطل وهذا الكلام كما أنه اعتراض على ما قالوه فهو دلالة قاطعة ابتداء في المسألة وبه يظهر فساد سائر الوجوه التي عولوا عليها لأنها أدلة ظنية وما ذكرناه برهان قاطع ثم نقول إن دل على ما ذكرتموه على أن تعليل أفعال الله تعالى بالمصالح واقع فمعنا أدلة قاطعة مانعة منه وهي من وجوه الأول أنه خالق أفعال العباد وذلك يمنع من القول بأنه تعالى يراعي المصالح إنما قلنا إنه تعالى خالق أفعال العباد لوجوه أحدها أن العبد لو كان موجدا لأفعاله لكان عالما بتفاصيل أفعاله واللازم باطل فالملزوم مثله

بيان الملازمة أن فعل العبد واقع على كيفية مخصوصة وكمية مخصوصة مع جواز وقوعه على خلاف تلك الكيفية والكمية فلابد وأن يكون ذلك الاختصاص لمخصص إذ لو عقل الاختصاص لا لمخصص لعقل اختصاص حدوث العالم بوقت معين وقدر معين مع جواز وقوعه لاعلى هذا الوجه لا لمخصص وذلك يقتضي القدح في دليل إثبات الصانع فثبت أنه لابد لفعل العبد من مخصص والتخصيص مسبوق بالعلم فإن التخصيص عبارة عن القصد إلى إيقاعه على ذلك الوجه والقصد إلى إيقاعه على ذلك الوجه مشروط بالشعور بذلك الوجه فالغافل ع الشئ استحال منه القصد إلى إيقاعه فثبت أنه لوه كان موجودا لأفعال نفسه لكان عالما بتفاصيل أفعاله وإنما قلنا إنه غير عالم بتفاصيل أفعاله لأن النائم فاعل مع انه لا يخطر بباله شئ من تلك التفاصيل بل اليقظان يفعل أفعالا كثيرة مع انه لا يخطر بباله كيفية تلك الأفعال فإن من فعل حركة بطيئة فذلك البطؤ إما أن يكون عبارة عن تحلل السكنات أو عن كيفية قائمة بالحركة فإن كان الأول فالفاعل للحركة البطيئة فاعل في بعض الأحيان حركة وفي بعضها سكونا مع أنه لم يخطر بباله ذلك وإن كان الثاني كان قد فعل حركة وفعل فيها عرضا آخر

ثم ذلك البطؤ له درجات مختلفة فهو قد فعل عرضا مخصوصا في عرض آخر مع جواز أن يحصل سائر مراتب البطء مع أنه لم يخطر بباله شئ من ذلك فعلمان أنه قد يفعل ما لم يخطر بباله فثبت بهذه الدلالة أن العبد غير موجد لأفعال نفسه الثاني أن موجد العبد مقدور لله تعالى فيجب وقوعه بقدرة الله تعالى إنما قلنا إن مقدور العبد لله تعالى لأنه في نفسه ممكن والإمكان مصحح للمقدورية وإنما قلنا إنه لما كان مقدورا لله تعالى وجب وقوعه بقدرة الله تعالى لأنا لو قدرنا قدرة العبد صالحة للإيجاد فإذا فرضنا أن كل واحد منهما أراد الإيجاد فحينئذ يجتمع على ذلك الفعل مؤثران مستقلان بالإيجاد وذلك محال لأن الأثر مع المؤثر المستقل به يصير واجب الوقوع وكل ما كان واجب الوقوع في نفسه استحال استناده إلى غيره وحينئذ يلزم أن يستغنى بكل واحد منهما عن كل واحد منهما فيلزم انقطاع ذلك المقدور عنهما حال استناده إليهما معا وهو محال

والثالث إذا فرضنا أن العبد أراد تحريك المحل حالما أراد الله تعالى تسكينه فإذا كانت قدرة العبد مستقلة في الإيجاد وقدرة الله تعالى أيضا مستقلة به لم يكن وقوع أحد المقدورين أولى من وقوع الآخر فإما أن يمتنعا وهو محال لأن المانع من وجود كل واحد منهما وجود الآخر فالمانع حاصل حال تحقق الامتناع فيلزم وجودهما عند عدمهما وهو محال أو يقعان جميعا فيلزم حصول الضدين وهو محال فإن قلت قدرة الله تعالى أقوى فكانت أولى بالتأثير قلت إنها أقوى بمعنى أنها مؤثرة في أمور أخر لا تؤثر فيها قدرة العبد أما فيما يرجع إلى التأثير في ذلك المقدور الواحد فيستحيل التفاوت لأن ذلك المقدور شئ واحد لا يقبل التفاوت وإذا لم يكن هو في نفسه قابلا للتفاوت استحال وقوع التفاوت في التأثير فيه الرابع لو قدر العبد على بعض المقدورات الممكنات لقدر على الكل لأن المصحح للمقدورية ليس إلا الأمكان وهو قضية واحدة فيلزم من الاشتراك فيه الاشتراك في المقدورية لكنه غير قادر على كل الممكنات لأنه لا يقدر على خلق السماوات والأرض فوجب أن لا يقدر على الإيجاد ألبتة فثبت بمجموع هذه الوجوه أن العبد غير موجد لأفعاله بل موجدها هو الله عز وجل

وإذا كان كذلك فكل ما حصل من الكفر والمعاصي فهو من فعل الله تعالى ولا شك أن الغالب على أهل العالم الكفر والمعاصي ومع هذا القول لا يمكن القول بأن الله تعالى لا يفعل إلا ما يكون مصلحة للعبد فإن قلت هب أن الله تعالى هو الخالق لفعل العبد ولكن المكلف مخير في اختيار الكفر والأيمان والله تعالى أجرى عادته أن يخلق الشئ على وفق اختيار المكلف فإن اختار المكلف الكفر خلق فيه الكفر وإن اختار الأيمان خلق فيه الأيمان فمنشأ المفسدة هو اختيار المكلف قلت حصوله اختيار الكفر بدلا عن اختيار الأيمان إن كان من المكلف لا من الله تعالى لم يكن الله تعالى فاعلا لكل أفعال العباد وإن كان من الله تعالى فقد بطل الاختيار وتوجه الإشكال الدليل الثاني على أنه لا يجوز تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه بالمصالح أن القادر على الكفر إن لم يقدر على الأيمان لزم الجبر وذلك يقدح في رعاية المصالح وإن قدر عليهما فلابد وأن ينتهى إلى مرجح واقع بفعل الله تعالى وعند حصول ذلك المرجح يجب وقوع الكفر فيكون الجبر لازما وذلك يقدح في رعاية المصالح وتقرير هذا الوجه قد تقدم الدليل الثالث أنه قد وقع التكليف بما لا يطاق وذلك يمنع من القول برعاية المصالح

بيان الأول من وجوه الأول أنه كلف بالأيمان من علم أنه لا يؤمن فصدور الأيمان منه يستلزم انقلاب العلم جهلا وهذا الانقلاب محال والمفضى إلى المحال محال فكان هذا التكليف تكليفا بالمحال وثانيها أنه إما أن يكلفه حال استواء الدواعي إلى الفعل والترك أو حال رجحان أحدهما على الآخر والأول محال لأن الاستواء ما دام يكون حاصلا امتنع الرجحان فالأمر بالترجيح حال حصول الاستواء أمر بالجمع بين الضدين والثاني محال لأن حال الترجيح يكون الراجح واجب الوقوع والمرجوح ممتنع الوقوع فحال الرجحان إن كان مأمورا بترجيح المرجوح كان مأمورا بالجمع بين الضدين وإن كان مأمورا بترجيح الراجح كان مأمورا بإيقاع الواقع وكل ذلك تكليف بما لا يطاق وثالثها القدرة إذا حصلت في العبد فإما أن يؤمر بإيقاع الفعل في ذلك الزمان أو في الزمان الثاني والأول محال لأنه إذا وجد المقدور في ذلك الزمان فلو أمر الله تعالى

العبد بإيقاعه في ذلك الزمان كان هذا أمرا بإيجاد الموجود وأنه محال والثاني أيضا محال لأنه في الزمان الأول لما لم يكن متمكنا من الفعل ألبتة كان أمره بالفعل أمرا لمن لا يقدر فان قلت إنه ما أمره في الحال بإيقاع الفعل في الحال حتى يلزم ما قلته بل أمره في الحال بأن يوقعه في الزمان الثاني قلت هل لقولك يوقعه مفهوم زائد على الفعل أم لا فإن لم يكن له مفهوم زائد لم يكن لقولك إنه أمره في الحال بإيقاع الفعل في الزمان الثاني معنى إلا أنه أعلم في الحال بأنه لا بد وأن يكون في الزمان بحيث يصدر عنه الفعل ففي هذا الزمان لم يحصل إلا الإعلام فأما الإلزام فلا يحصل إلا في الزمان الثاني فيعود الأمر إلى أنه أمره بإيقاع الفعل حال وقوعه فيه وإن كان لقولك يوقعه مفهوم زائد على مفهوم الفعل فذلك الزائد هل حصل في الزمان الأول أو ما حصل فإن حصل في الزمان الأول وقد أمر في الزمان الأول به فحينئذ يلزم كونه مأمورا بالشئ حال حصوله وإن لم يحصل في الزمان الأول بل في الزمان الثاني عاد ما

ذكرنا من أن الحاصل في الزمان الأول إعلام لا إلزام والإلزام لا يحصل إلا في الزمان الثاني فيعود ما ذكرنا من إنه أمر بالفعل حال وقوعه ورابعها أن الله تعالى قال إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون فأولئك الذين أخبر الله عنهم بهذا الخبر كانوا مأمورين بالإيمان ومن الإيمان تصديق الله تعالى في كل ما أخبر عنه فإذن كانوا مأمورين بأن يصدقوا الله تعالى في إخباره عنهم بأنهم لا يؤمنون ألبتة وذلك تكليف ما لا يطاق وخامسها ما بينا أن فعل العبد لا يحصل إلا إذا خلق الله فيه داعية تلجئه إلى فعله إلجاءا عمر ضروريا فالكافر إذن ملجأ إلى فعل الكفر فإذا كلف بالإيمان كان ذلك تكليف ما لا يطاق وسادسها أن الله تعالى أمر بمعرفته وذلك تكليف ما لا يطاق لأن الأمر إما أن يتوجه إلى العبد حال كونه عارفا بالله تعالى أولا في هذه الحالة فإن كان الأول كان العارف مأمورا بتحصيل المعرفة فيكون ذلك أمرا بتحصيل الحاصل وهو محال وإن كان الثاني فحال كونه غير عارف بالله تعالى استحال أن يكون عارفا بأمر الله تعالى فحال كونه بحيث يستحيل عليه أن يعرف أمر الله

تعالى لما توجه عليه الأمر كان كذلك تكليفا بما لا يطاق وسابعها أنا أمرنا بالترك والأمر بالترك أمر بما لا قدرة كناعليه لأنا إذا تركنا الفعل فلا معنى لهذا الترك إلا أنه بقى معدوما كما كان والعدم المستمر لا قدرة لنا عليه وبيانه من وجهين الأول أن العدم نفى محض والقدرة مؤثرة فالجمع بينهما متناقض وثانيهما أن العدم لما كان مستمرا لا يمكن التأثير فيه لأن التأثير في الباقي محال فإن قلت الترك عندي أمر وجودى وهو فعل الضد قلت الإلزام هاهنا قائم لأنا الواحد منا قد يؤمر بترك الشئ الذي لا يعرف للى النبي ضدا فلو أمرنا في ذلك الوقت بفعل ضده لكنا قد أمرنا بفعل شئ لا نعرف ماهيته فيكون ذلك أيضا قولا بتكليف مالا يطاق فثبت بهذه الوجوه السبعة وقوع تكليف مالا يطاق ولا شك أن ذلك يقدح في تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه في مصالح العباد

الدليل الرابع أن تخصيص خلق العالم بالوقت الذي خلق فيه دون ما قبله وما بعده يستحيل أن يكون معللا بغرض لأن قبل حدوث العالم لا وقت ولا زمان بل ليس إلا الله تعالى والعدم الصرف ويستحيل أن يحصل في العدم الصرف وقت يكون منشأ المصالح ووقت أخر يكون منشأ المفاسد الدليل الخامس أن تقدير السماوات والكواكب المعينة وتقدير البحار والأرضين بمقاديرها المعينة لا يجوز أن يكون رعاية لغرض الخلق فإنا نعلم أنه لو ازداد في خلق الفلك الأعظم مقدار جزءا لا يتجزأ فإنه لا يتغير بذلك ألبتة شئ من مصالح المكلفين ولا من مفاسدهم الدليل السادس أنه تعالى خلق الكافر الفقير بحيث يكون في الدنيا من أول عمره إلى آخر عمره في المحنة وفي الآخرة يكون في أشد العذاب أبدا الآبدين ودهر الداهرين وأنه تعالى كان عالما من الأزل إلى الأبد أنه إذا خلقه وكلفه بالإيمان فإنه لا يستفيد من الخلق والتكليف إلا زيادة المحنة والبلاء

فكيف يقال إنه تعالى لا يفعل إلا ما يكون مصلحة للمكلف الدليل السابع أنه تعالى خلق الخلق وركب فيهم الشهوة والغضب حتى أن بعضهم يقتل بعضا وبعضهم يضجر ببعض ولقد كان تعالى قادرا على أن يخلقنا في الجنة إبتداء ويغنينا بالمشتهيات الحسنة عن القبيحة فإن قلت إنه تعالى إنما فعل ذلك ليعطيه العوض في الآخرة ول يكون لطفا لمكلف آخر قلت أما العوض فلو أعطاه ابتداء كان أولى وأما اللطف فأى عاقل يرضى أن يقال إنما حسن إيلام هذا الحيوان ليكون لطفا بذلك الحيوان الدليل الثامن دلت الوجوه المذكورة في أول هذا القسم على أنه يستحيل أن يكون شئ من أفعاله وأحكامه معللا بالمصالح فظهر بهذه الوجوه انه ليس الغالب في أفعال الله تعالى رعاية مصالح الخلق وإذا كان كذلك لم يغلب على الظن أن أحكامه معللة بمصالح الخلق فإنا إذا رأينا شخصا يكون أغلب أفعاله رعاية المصالح ثم رأيناه حكم بحكم غلب على ظننا اشتمال ذلك الحكم على مصلحة أما إذا رأينا شخصا يكون أغلب أفعاله عدم الالتفات إلى المصالح

ثم رأيناه حكم بحكم فإنه لا يغلب على ظننا اشتمال ذلك الحكم على مصلحة ألبتة هذا في حق الإنسان الذي يكون محتاجا إلى رعاية المصلحة أما الإله سبحانه وتعالى لما كان منزها عن المصالح والمفاسد بالكلية ثم رأينا أن الغالب في أفعاله ما لا يكون مصلحة للخلق كيف يغلب على الظن كون أفعاله وأحكامه معللة بالمصالح سلمنا أن أحكامه تعالى معللة بالمصالح وأن هذا الفعل مصلحة من هذا الوجه فلم قلت إن هذا القدر يقتضى ظن كون ذلك الفعل معللا بهذه المصلحة أما الوجه الأول فالاعتماد فيه على أن الاستصحاب يفيد الظن واما الوجه الثاني فالاعتماد فيه على أن الدوران يفيد الظن والكلام في هذين الموضعين سيأتي إن شاء الله تعالى ثم نقول على الوجه الثاني خاصة لم قلت لما حصل الظن في المثال المذكور وجب حصوله في حق الله تعالى قوله الدوران يفيد الظن قلنا لكن بشرط أن لا يظهر وصف آخر في الأصل وهاهنا قد وجد بيانه من وجهين الأول أنا إنما حكمنا بذلك في حق الملك لعلمنا بأن طبعه يميل إلى جلب

المصالح ودفع المفاسد وذلك في حق الله تعالى مفقود الثاني أن المعتبر ليس دفع عموم الحاجة بل دفع الحاجة المخصوصة فمن عرف عادة الملك وأنه يراعي عادة هذا النوع أو ذاك لا جرم يحصل له ظن أن غرض الملك من هذا الفعل هذا المعنى أو ذاك وأما عادات الله تعالى في رعاية أجناس المصالح وأنواعها فمختلفة ولذلك قد يكون الشئ قبيحا في عقولنا وان كان حسنا عند الله تعالى وقد يكون بالعكس ولهذا المعنى انقطع الآن بقبح جميع الشرائع الواردة في زمان موسى وعيسى عليهما السلام وبحسن شريعتنا وإن كان التفاوت غير معلوم لنا الآن وإذا كان كذلك ظهر الفرق بين الصورتين سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على قولكم لكنه معارض بأمور أحدها أن أفعال الله تعالى وأحكامه لو كانت لدفع حاجة العبد لكانت الحاجات بأسرها مدفوعة واللازم باطل فالملزوم مثله بيان الملازمة أن الحاجات المختلفة مشتركة في أصل كونها حاجات ومتباينة بخصوصياتها وما به الاشتراك غير ما به الامتياز فما به يمتاز

كل واحد من أنواع الحاجة عن الآخر منها لا يكون حاجة وإذا كان كذلك كان التعليل بكونه حاجة يوجب سقوط تلك الزوائد عن العلية وارتباط الحكم بمسمى الحاجة الذي هو القدر المشترك بين كل أنواعه فإذا كان ذلك المسمى علة لشرع ما يصلح أن يكون دافعا له لزم من هذا كون جميع الحاجات مدفوعة ولما لم يكن كذلك علمنا أن التعليل بالحاجة غير جائز وثانيها إن تعليل أحكام الله تعالى بالمصالح يفضى إلى مخالفة الأصل وذلك لأن العبادات التي كانت مشروعة في زمان موسى وعيسى عليهما السلام كانت واجبة وحسنة في تلك الأزمنة وصارت قبيحة في هذا الزمان فلابد وأن يكون ذلك لأ حصل شرط في ذلك الزمان لم يحصل الآن أو وجد الآن مانع ما كان موجودا في ذلك الزمان لكن توقف المقتضي على وجود الشرط أو تخلف حكمه لأجل المانع خلاف الأصل وثالثها أن الحكم إما أن يكون معللا بنفس الحكمة أو بالوصف المشتمل على الحكمة والأول باطل لأن الحكمة غير مضبوطة فلا يجوز ربط الأحكام بها

والثاني باطل لأن الوصف إنما يكون علة للحكم لاشتماله على تلك الحكمة فيعود الأمر إلى كون الحكمة علة لعليه الوصف فيعود المحذور المذكور والجواب قد بينا أن أحكام الله تعالى مشروعة لأجل المصالح فأما الوجوه العقلية التي ذكرتموها فهي لو صحت لقدحت وإن في التكليف والكلام في القياس نفيا وإثباتا فرع على القول بالتكليف فكانت تلك الوجوه غير مسموعة في هذا المقام وهذا هو الجواب المعتمد الكافي في هذا المقام عن كل ما ذكرتموه وأما الفرقان اللذان ذكرتموهما بيبن الشاهد والغائب فذلك إنما يقدح في قول من يقول يجب عقلا تعليل أحكام الله تعالى بالمصالح أما من يقول إن ذلك غير واجب ولكنه تعالى فعله على هذا الوجه تفضلا وإحسانا فذلك الفرق لا يقدح في قوله وأما المعارضات الثلاث الأخيرة فهي منقوضة بكون أفعالنا معللة بالدواعي والأغراض مع أن جميع ما ذكروه قائم فيها

الفصل الرابع في المؤثر

الفصل الرابع في المؤثر وهو أن يكون الوصف مؤثرا في جنس الحكم في الأصول دون وصف آخر فيكون أولى بأن يكون علة من الوصف الذي لا يؤثر في جنس ذلك الحكم ولا في عينه وذلك كالبلوغ الذي يؤثر في رفع الحجر عن المال فيؤثر في رفع الحجر عن النكاح دون الثيابة لأنها لا تؤثر في جنس هذا الحكم وهو رفع الحجر وكقولهم إذا قدم الأخ من الأب والأم على الأخ من الأب في الميراث فينبغي أن يقدم عليه في ولاية النكاح فإن قلت لم قلت لما أثرت الإخوة من الأب والأم في التقديم

في الإرث أثرت في التقديم في النكاح قلت ذكروا أنه يتبين ذلك بالمناسبة وبأن يقال لا فارق بين الأصل والفرع إلا كذا وهو ملغى وعند هذا يظهر أن هذه الطريقة لا تمشى إلا بعد الرجوع إلى طريق المناسبة وطريق السبر

الفصل الخامس في الشبه

الفصل الخامس في الشبه والنظر في ماهيته ثم في إثباته أما الماهية فقد ذكروا في تعريفها وجهين الأول ما قاله القاضي أبو بكر رحمه الله وهو أنه قال إن الوصف إما أن يكون مناسبا للحكم بذاته وإما أن لا يناسبه بذاته لكنه يكون مستلزما لما يناسبه بذاته وإما أن لا يناسبه بذاته ولا يستلزم ما يناسبه بذاته فالأول هو الوصف المناسب والثاني هو الشبه

والثالث هو الطرد الثاني الوصف الذي لا يناسب الحكم إما أن يكون قد عرف بالنص تأثير جنسه القريب في الجنس القريب لذلك الحكم وإما أن لا يكون كذلك فالأول هو الشبه لأنه من حيث هو غير مناسب يظن أنه غير معتبر في حق ذلك الحكم ومن حيث علم تأثير جنسه القريب في الجنس القريب لذلك الحكم مع أن سائر الأوصاف ليس كذلك يكون ظن إسناد الحكم إليه أقوى من ظن إسناده إلى غيره واعلم أن الشافعى رضى الله عنه سمى هذا القياس قياس غلبة الأشباه وهو أن يكون الفرع واقعا بين أصلين فإذا كانت مشابهته لإحدى الصورتين أقوى من مشابهته للأخرى ألحق لا محالة بالأقوى فأما الذي يقع بين الاشتباه فالمحكى كما عن الشافعي رضي الله عنه أنه كان يعتبر الشبه في الحكم كمشابهة هو العبد المقتول للحر ولسائر المملوكات

وعن ابن علية أنه كان يعتبر الشبه في الصورة كرد الجلسة الثانية في الصلاة إلى الجلسة الأولى في عدم الوجوب والحق أنه متى حصلت المشابهة فيما يظن أنه علة الحكم أو مستلزم لما هو علة له صح القياس سواء كان ذلك في الصورة أو في الأحكام النظر الثاني في أنه حجة قال القاضي أبو بكر ليس بحجة لنا أنه يفيد ظن العلية فوجب العمل به بيان الأول أنه لما ظن كونه مستلزما للعلية كان الاشتراك فيه يفيد ظن الاشتراك في العلة وعلى التفسير الثاني أنه لما ثبت أن الحكم لابد له من علة وأن العلة إما هذا الوصف وإما غيره ثم رأينا أن جنس هذا الوصف أثر في جنس ذلك الحكم ولم يوجد هذا المعنى في سائر الأوصاف فلا شك أن ميل القلب إلى إسناد الحكم إلى هذا الوصف أقوى من ميله إلى إسناده إلى غير ذلك

الوصف وإذا ثبت أنه يفيد الظن وجب أن يكون حجة لما بينا أن العمل بالظن واجب واحتج القاضي بوجهين الأول الوصف الذي سميتموه شبها إن كان مناسبا فهو معتبر بالاتفاق وإن كان غير مناسب فهو الطرد المردود بالاتفاق الثاني أن المعتمد في إثبات القياس عمل الصحابة ولم يثبت عنهم أنهم تمسكوا بالشبه والجواب عن الأول لا نسلم أن الوصف إذا لم يكن مناسبا كان مردودا بالاتفاق بل ما لا يكون مناسبا إن كان مستلزما للمناسب أو عرف بالنص تأثير جنسه القريب في الجنس القريب لذلك الحكم فهو عندنا غير مردود وهذا أول المسألة

وعن الثاني أنا نعول في إثبات هذا النوع من القياس على عموم قوله تعالى فاعتبروا أو على ما ذكرنا أنه يجب العمل بالظن والله اعلم

الفصل السادس في الدوران

الفصل السادس في الدوران ومعناه أن يثبت الحكم عند ثبوت وصف وينتفى عند انتفائه وذلك يقع في وجهين الأول أن يقع ذلك في صورة واحدة فأن العصير لما لم يكن مسكرا في أول الأمر لم يكن حراما فلما حدث وصف الإسكار فيه حدثت الحرمة فلما صار خلا وزالت المسكرية زالت الحرمة أيضا الثاني أن يوجد ذلك في صورتين وعندنا أنه يفيد ظن العلية وقال قوم من المعتزلة إنه يفيد يقين العلية وقال آخرون إنه لا يفيد يقين العلية ولاظنها

لنا وجهان الأول أن هذا الحكم لا بد له من علة والعلة إما هذا الوصف أو غيره والأول هو المطلوب والثاني لا يخلو إما أن يكون ذلك الغير كان موجودا قبل حدوث هذا الحكم أو ما كان موجودا قبله فإن كان موجودا قبله وما كان هذا الحكم موجودا لزم تخلف الحكم عن العلة وهو خلاف الأصل وإن لم يكن موجودا فالأصل في الشئ بقاؤه على ما كان فيحصل ظن أنه بقي كما كان غير علة وإذا حصل ظن أن غيره ليس بعلة حصل ظن كون هذا الوصف علة لا محالة فإن قلت ذلك الحكم كما دار مع حدوث ذلك الوصف وجودا وعدما فكذلك دار مع تعين ذلك الوصف ومع حدوث حصول ذلك الوصف في ذلك المحل فيجب أن يكون تعينه وحدوثه في ذلك المحل معتبرا في العلية وذلك يمنع من التعدية

قلت تعين الشئ معناه أنه ليس غيره وهذا أمر عدمي إذ لو كان وجوديا لكان ذلك الوجود مساويا لسائر التعينات القائمة بسائر الذوات في كونه تعينا ويمتاز عنها بخصوصيته فيلزم أن يكون للتعيين تعين آخر إلى غير نهاية وهو محال وأما حصول الوصف في ذلك المحل فيستحيل أن يكون أمرا وجوديا وإلا لكان ذلك وصفا لذلك الوصف فكونه وصفا للوصف زائد عليه فيلزم التسلسل وإذا ثبت أن التعين أمر عدمي والحصول في المحل المعين أمر عدمي استحال كونه علة ولا جزء علة أما أنه لا يكون علة فلأنا قولنا في الشئ المعين إنه علة نقيض لقولنا إنه ليس بعلة وقولنا إنه ليس بعلة يصح وصف المعدوم به في الجملة ووصف المعدوم لا يكون موجودا فقولنا ليس بعلة أمر عدمي وقولنا علة مناقض له ومناقض العدم ثبوت فمفهوم قولنا علة أمر ثبوتى فلو وصفنا العدم به لزم قيام الصفة الموجودة بالموصوف الذي هو نفى محض وذلك محال وأما أنه لا يجوز أن يكون جزء علة فلأنا لو فرضنا حصول سائر الأجزاء بدون هذا الجزء الواحد فأما إن تحصل العلية أو لا تحصل فإن

حصلت العلية كان سائر الأجزاء دون هذا الجزء تمام العلة فلا يكون هذا الجزء جزء العلة وإن لم تحصل العلية عند عدم هذا الجزء وحصلت عند حصوله كانت العلية إنما حدثت لأجل هذا الجزء فجزء العلة علة تامة لعلية العلة وقد عرفت أن العدم لا يكون علة فوجب أن لا يكون العدم جزءا من العلة وهو المطلوب الوجه الثاني أن الدوران يفيد ظن العلية وهو أن بعض الدورانات يفيد ظن العلية فوجب أن يكون كل دوران كذلك مفيدا لهذا الظن بيان الأول أن من دعى بأسم فغضب ثم تكرر الغصب مع تكرر الدعاء بذلك الاسم حصل هناك ظن أنه إنما غضب لأنه دعى بذلك الاسم وذلك الظن إنما حصل من ذلك الدوران لأن الناس إذا قيل لهم لم اعتقدتم ذلك قالوا لأجل أنا رأينا الغضب مع الدعاء بذلك الاسم مرة بعد أخرى فيعللون وسلم الظن بالدوران بيان الثاني قوله تعالى إن الله يأمر بالعدل والإحسان والعدل هو التسوية

ولن تحصل التسوية بين الدورانات إلا بعد اشتراكها في إفادة الظن واحتج المنكرون بأمرين الأول أن بعض الدورانات لا يفيد ظن العلية فوجب أن لا يفيد شئ منها ظن العلية بيان الأول من وجوه أحدها أن العلة والمعلول قد يكونان متلازمين نفيا وإثباتا والدوران مشترك بين الجانبين والعلة غير مشتركة بين الجانبين لأن المعلول لا يكون علة لعلته وثانيها أن الفصل لابد أن يكون مساويا للنوع والنوع إذا أوجب حكما فالدوران كما حصل مع العلة التي هي النوع حصل مع الفصل الذي هو جزء العلة مع أن جزء العلة ليس بعلة وثالثها أن العلة قد يكون اقتضاؤها للمعلول موقوفا على شرط فالدوران حاصل

مع شرط العلة مع أنه ليس بعلة ورابعها أن العلة قد يكون لها معلولان إما معا عند من يجوز ذلك أو على الترتيب فالدوران حاصل في علة العلة ومعلول العلة مع أنه لا علية هناك ألبتة وخامسها أن الجوهر والعرض متلازمان نفيا وإثباتا وذات الله تعالى وصفاته كذلك وكل واحدة من صفاته مع سائر الصفات كذلك ولا علية هناك وسادسها أن المضافين متلازمان معا نفيا وإثباتا كالأبوة والبنوة والمولى والعبد ويمتنع كون أحدهما على للآخر لأن العلة متقدمة على المعلول والمضافان معا ولا شئ من المع متقدم وسابعها أن المكان والمتمكن والحركة والزمان لا ينفك واحد منها عن الآخر مع عدم العلية وثامنها أن الجهات الست لا ينفك بعضها عن بعض مع عدم العلية

وتاسعها أن علم الله تعالى دائر مع كل معلوم وجودا وعدما فإنه لو كان المعلوم جوهرا لعلمه جوهرا ولو لم يكن المعلوم جوهرا فإن الله تعالى لا يعلمه جوهرا فالعلم دائر مع المعلوم وجودا وعدما مع أنه يستحيل أن يكون أحدهما علة للآخر أما أنه لا يكون العلم علة للمعلوم فلأن شرط كونه علما أن يتعلق بالشئ على ما هو به فما لم يكن المعلوم في نفسه واقعا على ذلك الوجه استحال تعلق العلم به على ذلك الوجه إذن تعلق العلم به على ذلك الوجه مشروط بوقوعه على ذلك الوجه فلو كان وقوعه على ذلك الوجه متوقفا على تعلق العلم به لزم الدور واما أنه يستحيل أن يكون المعلوم علة للعلم فلأن علم الله تعالى صفة أزلية واجبة الوجود وما كان كذلك يستحيل أن يكون معلول علة فثبت أنه وجد الدوران هاهنا بدون العلية ثم أن علم الله تعالى متعلق بما لا نهاية له من المعلومات فهاهنا دورانات عنه لا نهاية لها بدون العلية وعاشرها أن الأعراض عند أهل السنة لا تبقى فهذه الألوان والأشكال تحدث حالا بعد حال فحين فنى ذلك اللون وذلك الشكل عن ذلك الجسم فنيت الألوان والأشكال وسائر الأعراض عن جميع الأجسام وحين حدث فيه لون

وشكل حدث فيه سائر الأعراض في جميع الأجسام فقد حصلت هذه الدورانات الكثيرة بدون العلية وحادى عشرها أن الفلك إذا تحرك تحرك بجميع أجزاءه فحركة كل واحدة من أجزاءه إنما حدثت عند حركة جميع أجزاءه وحين كانت تلك الحركة معدومة عن ذلك الجزء كانت حركات سائر الأجزاء معدومة فقد حصلت هذه الدورانات الكثيرة بدون العلية وثاني عشرها أن جميع الحيوانات تتنفس ولا شك أن كل واحد منها إما أن يتنفس مع كون الآخر متنفسا أو عقيبه بلحظة قليلة فقد وجدت هذه الدورانات بدون العلية وثالث عشرها أن الحكم كما دار مع الوصف وجودا وعدما فقد دار أيضا مع تعين الوصف وخصوص المحل وخصوص وقوعه الزمان المعين والمكان المعين وشئ من ذلك لا يصلح للعلية لما ذكرتم أنها أمور عدمية والعدم غير صالح للعلية ورابع عشرها أن الحد دائر مع المحدود وجودا وعدما والرائحة الفائحة في الخمر دائرة مع الحرمة وجودا وعدما مع أنه لا علية هناك

وأعلم أن لو أردنا استقصاء القول في الدورانات المنفكة عن العلية لطال الكلام ولكن فيما ذكرنا كفاية وإنما قلنا إن بعض الدورانات لما انفكت عن العلية وجب أن لا يحصل ظن العلية في شئ منها لأنه إذا حصل دوران ما منفكا عن العلية فلو قدرنا أن دورانا آخر يستلزم العلية لكان كونه مستلزما للعلية إما أن يتوقف على انضمام شئ آخر إليه أو لا يتوقف فإن توقف كان المستلزم للعلية هو المجموع الحاصل من الدوران ومن ذلك الشئ لا الدوران وحده وكلامنا الآن في الدوران وحده وإن لم يتوقف مع أن مسمى الدوران حاصل في الموضعين جميعا لزم ترجح أحد طرفي الجائز على الآخر لا لمرجح وهو محال هذا تمام تقرير هذا الدليل الوجه الثاني وهو الذي عول عليه المتقدمون في القدح قالوا الاطراد وحده ليس طريقا إلى علية الوصف بالاتفاق وأما الانعكاس فأنه غير معتبر في العلل الشرعية وإذا كان كل واحد منهما لا يدل على العلية كان مجموعهما أيضا كذلك

والجواب عن الأول أن ذلك إنما يقدح في قول من يقول الدوران وحده يوجب ظن العلية ونحن لا نقول به بل ندعى أن الدوران يفيد ظن العلية بشرط أن لا يقوم عليه دليل يقدح في كونه علة وإذا لخصنا الدعوى على هذا الوجه سقط ما ذكرتموه من الاستدلال وعن الثاني لم قلت إن كل واحد منهما لما لم يفد ظن العلية وجب في المجموع أن يكون كذلك فإنا نعلم أن حال المجموع قد يكون مخالفا حال كل واحد من أجزائه

الفصل السابع في السبر والتقسيم

الفصل السابع في السبر والتقسيم التقسيم إما أن يكون منحصرا بين النفى والإثبات أو لا يكون فالأول هو أن يقال الحكم إما أن يكون معللا أو لا يكون معللا فإن كان معللا فإما أن يكون معللا بالوصف الفلانى أو بغيره وبطل أن لا يكون معللا أو يكون معللا بغير ذلك الوصف فتعين أن يكون معللا بذلك الوصف وهذا الطريق عليه التعويل في معرفة العلل العقلية وقد يوجد ذلك في الشرعيات كما يقال أجمعت الأمة على أن حرمة الربا في البر معللة وأجمعوا على أن العلة إما المال أو القوت أو الكيل أو الطعم وبطل التعليل بالثلاثة الأولة فتعين الرابع

وكما يقال أجمعت الأمة على أن ولاية الإجبار معللة إما بالصغر وإما بالبكارة والأول باطل وإلا لثبتت الولاية في الثيب الصغيرة لكنها لا تثبت لقوله عليه الصلاة والسلام الثيب أحق بنفسها من وليها فتعين التعليل بالبكارة وأما التقسيم المنتشر فكما إذا لم ندع الإجماع بل نقتصر على أن نقول حرمة الربا في البر إما أن تكون معللة بالطعم أو الكيل أو القوت أو المال والكل باطل إلا الطعم فيتعين التعليل به فإن قيل لا نسلم أن حرمة الربا معللة فإن الأحكام منها مالا يعلل بدليل أن علية العلة غير معللة وإلا لزم التسلسل وإذا ثبت هذا فلم لا يجوز أن يقال هذا من جملة مالا يعلل سلمنا كونه معللا فما الدليل على الحصر فإن قلت لو وجد وصف آخر لعرفه الفقيه البحاث قلت لعله عرفه لكنه ستره وأيضا فعدم الوجدان لا يد على عدم الوجود سلمنا الحصر لكن لا نسلم فساد الأقسام سلمنا فساد المفردات لكن لم لا يجوز أن يقال مجموع وصفين أو

ثلاثة منها علة واحدة سلمنا فساد سائر الأقسام مفردا ومركبا لكن لم لا يجوز أن ينقسم هذا القسم الثاني إلى قسميه فتكون العلة أحد قسميه فقط والجواب لا نزاع في أن التقسيم المنتشر لا يفيد اليقين لكنا ندعى أنه يفيد الظن أما قوله لم لا يجوز أن لا يكون هذا الحكم معللا قلت لما سبق في باب المناسبة أن الدلائل العقلية والسمعية دلت على تعليل أحكام الله تعالى بالحكم والمصالح فكان هذا الاحتمال مرجوحا قوله ما الدليل على الحصر قلنا الجواب عنه من وجهين الأول أن المناظر تلو الناظر فلو أجتهد الناظر وبحث عن الأوصاف ولم يطلع إلا على القدر المذكور ووقف على فساد كلها إلا على الواحد فلا شك أن حكم قلبه بربط ذلك الحكم بذلك الوصف أقوى من ربطه بغير ذلك الوصف وإذا حصل الظن وجب العمل به وإذا ثبت ذلك في حق

المجتهد وجب أن يكون الأمر كذلك في حق المناظر لأنه لا معنى للمناظرة إلا إظهار مأخذ الحكم الثاني لو سلمنا أنه لا بد من الدليل على الحصر فنقول لا شك أن جميع الأوصاف كانت معدومة وكانت بحيث يصدق عليها أنها لا توجب هذا الحكم والأصل في كل أمر بقاؤه على ما كان فهذا القدر يفيد ظن عدم سائر الأوصاف فيحصل ظن الحصر ومطلوبنا هاهنا هذا القدر قوله لا نسلم فساد سائر الأقسام قلنا يمكن إفسادها بجميع المفسدات من النقض وعدم التأثير وأنواع الأيماءات إن بلى لا يمكن إفسادها هاهنا بعدم المناسبة لأنه حينئذ يحتاج إلى أن يبين خلو ما تدعيه علة عن هذا المفسد وذلك لا يتم إلا ببيان مناسبته ولو بين ذلك لاستغنى عن طريقة السبر قوله لم لا يجوز أن يكون المجموع هو العلة قلنا لأنعقاد الإجماع على ثبوت الحكم حيث لم يوجد المجموع قوله لم لا يجوز أن تكون العلة طعما مخصوصا قلنا لأن كل من اعتبر الطعم لم يعتبر طعما مخصوصا فكان القول به خرقا للإجماع

الفصل الثامن في الطرد

الفصل الثامن في الطرد والمراد منه الوصف الذي لم يعلم كونه مناسبا ولا مستلزما للمناسب إذا كان الحكم حاصلا مع الوصف في جميع الصور المغايرة لمحل النزاع فهذا هو المراد من الاطراد والجريان وهذا قول كثير من قدماء فقهائنا ومنهم من بالغ فقال مهما رأينا الحكم حاصلا مع الوصف في صورة واحدة حصل ظن العلية احتجوا على التفسير الأول بوجهين الأول أن استقراء الشرع يدل على أن النادر في كل باب ملحق بالغالب فإذا رأينا الوصف في جميع الصور المغايرة بمحل النزاع مقارنا للحكم ثم رأينا الوصف حاصلا في الفرع وجب أن يستدل به على ثبوت الحكم إلحاقا لتلك الصورة الواحدة بسائر الصور

الثاني أنا إذا رأينا فرس القاضي واقفا على باب الأمير غلب على ظننا كون القاضي في دار الأمير وما ذاك إلا لأن مقارنتهما في سائر الصور أفاد ظن مقارنتهما في هذه الصورة المعينة احتج المخالف بأمرين أحدهما أن الاطراد عبارة عن كون الوصف بحيث لا يوجد إلا ويوجد معه الحكم وهذا لا يثبت إلا إذا ثبت أن الحكم حاصل معه في الفرع فإذا أثبتم حصول الحكم في الفرع بكون ذلك الوصف علة وبينتم عليته بكونه مطردا لزم الدور وهو باطل وثانيهما أن الحد مع الحدود والجوهر مع العرض وذات الله تعالى مع صفاته حصلت المقارنة فيها مع عدم العلية الجواب عن الأول إنا لا نستدل بالمصاحبة في كل الصور على العلية حتى يلزم الدو ر بل نستدل بالمصاحبة في كل صورة غير الفرع على العلية وحينئذ لا يلزم الدور

وعن الثاني أن غاية كلامكم حصول الطرد في بعض الصور منفكا عن العلية وهذا لا يقدح في دلالته على العلية ظاهرا كما أن الغيم الرطب دليل المطر ثم عدم نزول المطر في بعض الصور لا يقدح في كونه دليلا وأيضا المناسبة والدوران والتأثير والأيماء قد ينفك كل واحد منها عن العلية ولم يكن ذلك قدحا في كونها دليلا على العلية ظاهرا فكذا هاهنا وأما التفسير الثاني وهو أضعف التفسيرين فقد احتجوا عليه بأنا إذا علمنا أن الحكم لابد له من علة وعلمنا حصول هذا الوصف وقدرنا خلو ذهننا عن سائر الأوصاف فإن علمنا بأنه لا بد للحكم من علة مع علمنا بوجود هذا الوصف يقتضيان اعتقاد كون هذا الحكم معللا بذلك الوصف اذا لو لم يقتض ذلك لكان ذلك إما لأجل أنه لا يسند ذلك الحكم إلى شئ أو لأجل أنه يسنده إلى شئ أخر والأول محال لأن اعتقاد أنه لابد من علة متناقض لعدم الاسناد والثاني محال لأن اسناد الذهن ذلك الحكم إلى غير ذلك الوصف مشروط

بشعور الذهن بغير ذلك الوصف وتحقق ذلك حال خلو الذهن عن الشعور بغير ذلك الوصف محال فثبت بهذا أن مجرد ذينك العلمين يقتضيان ظن العلية بلى عند الشعور بوصف آخر يزول ذلك الظن ولكن الشعور بالغير كالمعارض لما يقتضى ذلك الظن ونفى المعارض ليس على المستدل حجة المنكرين من وجهين الأول أن تجويزه يفتح باب الهذيان كقولهم في إزالة النجاسة مائع لا تبنى القنطرة على جنسه فلا تجوز إزالة النجاسة به كالدهن وقال بعضهم في مسألة اللمس طويل مشقوق فلا تنتقض الطهارة بلمسة إلا كالبوق الثاني أن تعين الوصف المعين للعلة مع كونه مساويا لسائر الأوصاف قول في الدين لمجرد التشهى فيكون باطلا لقوله تعالى فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات والجواب عن الأول أن ذلك الكلام يدل على جهل قائله بصورة المسألة لأنا نقول مجرد المقارنة يفيد ظن العلية ولكن بشرط أن لا يخطر بالبال وصف آخر هو

أولى بالرعاية منه ولكن هذا الشرط ساقط عن المعلل لأن نفى المعارض ليس من وظيفته وفي هذين المثالين إنما يبطل ذلك لأن العلم الضروري حاصل بوجود وصف آخر هو أولى بالاعتبار من الوصف المذكور لأنا متى علمنا كون الدهن لزجا غير مزيل للنجاسة علمنا أن هذا الوصف أولى بالاعتبار من كونه بحيث لا تبنى القنطرة على جنسه فإن قلت فهل يكفى في القدح في مثل هذا التعليل خطور وصف آخر بالبال قلنا لا لأن ذلك الوصف الآخر إما أن يكون متعديا إلى الفرع أو لا يكون فإن كان متعديا إلى الفرع فلم يضرنا لأن غرضنا من العلة المعرف وقيام معرف آخر لهذا الحكم لا يمنع من كون ما ذكرته معرفا له وإن لم يكن متعديا إلى الفرع كان التعليل بالوصف الذي ذكرته أولى لأنا أمرنا بالقياس في قوله تعالى فاعتبروا والأمر بالقياس أمر بما

هو من ضروراته ومن ضرورات القياس تعليل حكم الأصل بعلة متعدية فكان التعليل بما ذكرناه أولى من التعليل بما ذكره الخصم اللهم إلا أن يذكر الخصم وصفا آخر ويعديه إلى فرع غير الفرع الذي وقع الخلاف فيه فهناك يجب على المعلل الأشتغال بالترجيح وعن الثاني أنا بينا أن مجرد المقارنة دليل العلية ظاهرا فلم يكن القول به مجرد التشهي

الفصل التاسع في تنقيح المناط

الفصل التاسع في تنقيح المناط قال الغزالي رحمه الله إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه قد يكون باستخراج الجامع

وقد يكون بإلغاء الفارق وهو أن يقال لا فرق بين الأصل والفرع إلا كذا وكذا وذلك لا تأثير له في الحكم ألبتة فيلزم اشتراك الفرع والأصل في ذلك الحكم وهذا هو الذي يسميه أصحاب أبي حنيفة رحمه الله بالاستدلال ويفرقون بينه وبين القياس واعلم أن هذا لا يمكن ايراده على وجهين الأول أن يقال هذا الحكم لابد له من مؤثر وذلك المؤثر إما القدر المشترك بين الأصل والفرع أو القدر الذي أمتاز به الأصل عن الفرع والثاني باطل لأن الفارق ملغى فثبت أن المشترك هو العلة فيلزم من حصوله في الفرع ثبوت الحكم فهذا طريق جيد إلا أنه استخراج العلة بطريق السبر لأنا قلنا حكم الأصل لابد له من علة وهى إما جهة الاشتراك أو جهة الامتياز والثاني باطل فتعين الأول

وجهة الاشتراك حاصلة في الفرع فعلة الحكم حاصلة في الفرع فيلزم تحقق الحكم في الفرع فهذا هو طريقة السبر والتقسيم من غير تفاوت أصلا وثانيهما أن يقال هذا الحكم لابد له من محل ولا يمكن أن يكون ما به الامتياز جزءا من محل هذا الحكم فالمحل هو القدر المشترك فإذا كان ذلك المحل حاصلا في الفرع وجب ثبوت الحكم فيه مثل أن يقال ما به امتاز الإفطار بالأكل عن الإفطار بالوقاع ملغى فمحل الحكم هو المفطر فأينما حصل المفطر وجب حصول الحكم وهذا الوجه ضعيف لأنه لا يلزم من ثبوت الحكم في المفطر ثبوته في كل مفطر فإنه إذا صدق أن هذا الرجل طويل صدق أن الرجل طويل لأن الرجل جزء من هذا الرجل ومتى حصل المركب حصل المفرد ثم لم يلزم من صدق قولنا الرجل طويل قولنا كل رجل طويل فكذا ها هنا

الفصل العاشر في الطرق الفاسدة

الفصل العاشر في الطرق الفاسدة وهو طريقان الأول قال بعضهم الدليل على أن هذا الوصف علة عجز الخصم افساده وهو ضعيف لأنه ليس جعل العجر عن الإفساد دليلا على الصحة أولى من جعل العجز عن التصحيح دليلا على الفساد بل هذا أولى لأنا لو أثبتنا كل مالا نعرف دليلا على فساده لزمنا إثبات مالا نهاية له وهو باطل أما لو لم نثبت كل مالا نعرف دليلا على صحته لزمنا أن لا نثبت مالا نهاية له وهو حق الثاني قال بعضهم هذا الذي ذكرته عبور من حكم الأصل إلى حكم الفرع فوجب دخوله تحت قوله تعالى فاعتبروا

وربما قيل هذا تسوية بين الأصل والفرع فيكون فيكون مأمورا به لقوله تعالى إن الله يأمر بالعدل وهذا ضعيف أيضا لأن أقصى ما في الباب عموم اللفظ في هاتين الآيتين وتخصيص العموم بالإجماع جائز وأجمع السلف على أنه لا بد من دلالة ما على تعين الوصف للعلية وللمخالف أن ينكر هذا الإجماع

الباب الثاني في قوادح العلية

الباب الثاني في الطرق الدالة على أن الوصف لا يكون علة وهي خمسة النقض وعدم التأثير والقلب والقول بالموجب والفرق

الفصل الأول في النقض

الفصل الأول في النقض وفيه مسائل المسألة الأولى وجود الوصف مع عدم الحكم يقدح في كونه علة وزعم الأكثرون أن علية الوصف إذا ثبتت بالنص لم يقدح التخصيص في عليته وزعم آخرون أن علية الوصف وإن ثبتت بالمناسبة أو الدوران لكن إذا كان تخلف الحكم عنه لمانع لم يقدح في عليته أما إذا كان التخلف لا لمانع فالأكثرون على أنه يقدح في العلية ومنهم من قال لا يقدح أيضا

لنا وجوه الأول أن اقتضاء العلة للحكم إما أن يعتبر فيه انتفاء المعارض أو لا يعتبر فإن اعتبر لم يكن علة إلا عند انتفاء المعارض وهذا يقتضي أن الحاصل قبل انتفاء المعارض ليس تمام العلة بل بعضها وإن لم يعتبر فسواء حصل المعارض أو لم يحصل كان الحكم حاصلا وذلك يقدح في كون المعارض معارضا فإن قيل لم لا يجوز أن يتوقف الاقتضاء على انتفاء المعارض قوله هذا يدل على أن الحاصل قبل انتفاء المعارض ما كان تمام العلة بل جزءا منها قلنا لا نسلم ولم لا يجوز أن يكون هذا العدم شرطا لتأثير العلة في الحكم تقريره العلة إما أن تفسر بالداعي أو المؤثر أو المعرف أما المؤثر فإما أن يكون قادرا أو موجبا أما القادر فيجوز أن يتوقف صحة تأثيره على انتفاء المعارض لأمور

الأول أن الفعل في الأزل محال لأن الفعل ماله أول والأزل مالا أول له والجمع بينهما محال فإذن تتوقف صحة تأثير قدرة الله تعالى في الفعل على نفى الأزل فالقيد العدمي لا يجوز أن يكون جزءا من المؤثرات الحقيقية فهو إذن شرط صحة التأثير وثانيها أن إشالة القادر الثقيل إلى فوق يقتضى الصعود إلى فوق بشرط أن لا يجره قادر أخر إلى أسفل فالقيد العدمي لا يكون جزءا من المؤثر الحقيقي وثالثها أن القادر لا يصح منه خلق السواد في المحل إلا بشرط عدم البياض فيه والعدم لا يكوم جزءا من المؤثر الحقيقي أما الموجب فهو أن الثقل يوجب الهوى بشرط عدم المانع وسلامة الحاسة توجب الإدراك بشرط عدم الحجاب وأما الداعي فمن أعطى إنسانا لفقره فجاء أخر فقال لا أعطيه لأنه يهودى فعدم كون الأول يهوديا لم يكن جزءا من المقتضى في إعطاء

الأول لأنه حين أعطى الفقير الأول لم تكن اليهودية خاطرة بباله فضلا عن عدمها ومالا يكون خاطرا بالبال لم يكن جزءا من الداعي فعلمنا أن عدم كون الأول يهوديا لم يكن جزءا من المقتضى أما المعرف فالعام المخصوص دليل على الحكم وعدم المخصص ليس جزءا من المعرف وإلا كان يجب ذكره عند الاستدلال فثبت بما ذكرنا أن عدم المعارض وإن كان معتبرا لكنه ليس جزءا من العلة سلمنا كونه جزءا ولكن يرجع الخلاف في هذه المسألة إلى بحث لفظي لا فائدة فيه لأن من جوز تخصيص العلة ومن لم يجوزه اتفقوا على أن اقتضاء العلة للحكم لابد فيه من ذلك العدم وأنتم أيضا سلمتم أن المعلل لو ذكر ذلك القيد في ابتداء التعليل لاستقامت العلة فلم يبق الخلاف إلا في أن ذلك القيد العدمى هل يسمى جزء العلة أم لا

ومعلوم أن ذلك مما لا فائدة فيه والجواب قد بينا أنه لو توقف اقتضاء العلة للحكم على انتفاء المعارض لم يكن الحاصل عند وجود المعارض تمام العلة بل جزءها قوله لو كان كذلك لزم جعل القيد العدمي جزءا من علة الوجود قلنا إن فسرنا العلة بالموجب أو الداعي امتنع جعل القيد العدمي جزءا من علة الوجود فحينئذ لا نقول إن عدم المعارض جزء العلة بل نقول إنه يدل على أنه حدث أمر وجودى انضم إلى ما كان موجودا قبل وحينئذ صار ذلك المجموع علة تامة فلم يلزم من قولنا العلة التامة إنما وجدت حال عدم المعارض أن يجعل عدم المعارض جزءا من العلة وإن فسرنا العلة بالمعرف لم يمتنع جعل القيد العدمي جزءا من العلة بهذا التفسير كما أنا نجعل انتفاء المعارض جزءا من دلالة المعجز على الصدق قوله لو كان عدم المخصص جزءا من المعرف لوجب على المتمسك بالعام المخصوص ذكر عدم المخصصات

قلنا لا شك إنه لا يجوز التمسك بالعام إلا بعد ظن عدم المخصصات فأما أنه لم يجب الذكر في الابتداء فذلك يتعلق بأوضاع أهل الجدل والتمسك بها في إثبات الحقائق غير جائز قوله إنه يصير الخلاف لفظيا قلنا لا نسلم فإنا إذا فسرنا العلة بالداعي أو الموجب لم نجعل العدم جزءا من العلة بل كاشفا عن حدوث جزء العلة ومن يجوز التخصيص لا يقول بذلك وإن فسرناها بالأمارة ظهر الخلاف في المعنى أيضا لأن من أثبت العلة بالمناسبة بحث عن ذلك القيد العدمي فإن وجد فيه مناسبة صحح العلة وإلا أبطلها ومن يجوز التخصيص لا يطلب المناسبة ألبتة من هذا القيد العدمي الحجة الثانية في المسألة أنه لا بد وأن بين كون المقتضى مقتضيا اقتضاء حقيقيا بالفعل وبين كون المانع مانعا منعا حقيقيا بالفعل منافاة بالذات وشرط طريان أحد الضدين انتقاء الضد الأول فلا يجوز أن يكون انتفاء الضد الأول لطريان اللاحق وإلا وقع الدور فلما كان شرط كون المانع مانعا خروج المقتضى عن أن يكون مقتضيا بالفعل لم يجز أن يكون خروجه عن كونه مقتضيا بالفعل لأجل تحقق المانع بالفعل وإلا وقع الدرو

فيه فإذن المقتضي إنما خرج عن كونه مقتضيا لا بالمانع بل بذاته وقد إنعقد الإجماع على إن ما يكون كذلك فإنه لا يصلح للعلية الحجة الثالثة الوصف وجد في الأصل مع وجود الحكم وفي صورة التخصيص مع عدم الحكم ووجوده مع الحكم لا يقتضى القطع بكونه علة لذلك الحكم لكن وجوده مع عدم الحكم في صورة التخصيص يقتضى القطع بأنه ليس بعلة لذلك الحكم ثم أن الوصف الحاصل في الفرع كما أنه مثل الوصف الحاصل في الأصل فهو أيضا مثل الوصف الحاصل في صورة التخصيص فليس إلحاقه بأحدهما أولى ما إلحاقه بالآخر ولما تعارضا لم يجز إلحاقه بواحد منهما فلم يجز الحكم عليه بالعلية قال المجوزون الأصل في الوصف المناسب مع الاقتران أن يكون علة فعند ذلك إذا رأينا الحكم متخلفا عنه في صورة وعثرنا صلى في تلك الصورة على أمر يصلح أن يكون مانعا وجب إحالة ذلك التخلف على ذلك المانع عملا بذلك الأصل أجاب المانعون بأن الأصل ترتب الحكم على المقتضي فحيث لم يترتب الحكم عليه وجب الحكم بأنه ليس بعلة عملا بهذا الأصل فصار هذا الأصل

معارضا للأصل الذي ذكرتموه وإذا تعارضا وجب الرجوع إلى ما كان عليه أولا وهو عدم العلية قال المجوزون الترجيح معنا من وجهين الأول أنا لو اعتقدنا أن هذا الوصف غير مؤثر يلزمنا ترك العمل بالمناسبة مع الاقتران من كل وجه ولو اعتقدنا أنه مؤثر عملنا بما ذكرتم من الدليل من بعض الوجوه لأن ذلك الوصف يفيد الأثر في بعض الصور ولا شك أن ترك العمل بالدليل من وجه أولى من ترك العمل بالدليل من كل الوجوه الثاني هو أن الوصف الذي ندعى كونه مانعا في صورة التخصيص يناسب انتفاء الحكم والانتفاء حاصل معه فيغلب على الظن أن المؤثر في ذلك الانتفاء هو ذلك المانع وإذا ثبت استناد ذلك الإنتفاء إلى المانع امتنع استناده إلى عدم المقتضى إذا ثبت هذا فنقول معكم أصل واحد وهو أن الأصل ترتب الحكم على العلة ومعنا أصلان أحدهما أن المناسبة مع الاقتران دليل على كون الوصف في الأصل

علة لثبوت الحكم فيه الثاني أن المناسبة مع الاقتران في صورة التخصيص دليل على كون المانع علة لانتفاء الحكم فيها ومعلوم أن العمل بالأصلين أولى من العمل بالأصل الواحد أجاب المانعون عن الأول بأنا لا نسلم أن المناسبة مع الاقتران دليل العلية بل عندنا المناسبة مع الاقتران والاطراد دليل العلية فإن حذفتم وقال الاطراد عن درجة الاعتبار فهو أول المسألة وعن الثاني أنا لا نسلم أن انتفاء الحكم في محل التخصيص يمكن تعليله بالمانع لأن ذلك الانتفاء كان حاصلا قبل حصول ذلك المانع والحاصل لا يمكن تحصيله ثانيا أجاب المثبتون عن هذا من وجهين الأول أن العلل الشرعية معرفات فلا يمتنع كون المتأخر علة للمتقدم بهذا التفسير الثاني أن المانع علة لنفى الحكم لا لانتفائه والنفى عبارة عن منعه من الدخول في الوجود بعد كونه بعرضية الدخول

أجاب المانعون عن الأول بأنه إذا كان المراد من العلة المعرف لم يلزم من تعليل ذلك الانتفاء بعدم المقتضى تعذر تعليله أيضا بالمانع لجواز أن يدل على المدلول الواحد دليلان أحدهما وجودى والآخر عدمى وعن الثاني أن تأثير المانع ليس في إعدام شئ لأن ذلك يستدعى سابقة الوجود وهاهنا الحكم لم يوجد ألبتة فيمتنع إعدامه فعلم أن المستند إلى المانع ليس إلا ذلك العدم السابق احتج من جوز تخصيص العلة بوجوه أحدها أن دلالة العلة على ثبوت الحكم في محالها كدلالة العام على جميع الأفراد وكما أن تخصيص العام لا يوجب خروج العام عن كونه حجة فكذا تخصيص العلة لا يقدح في كونها علة وثانيها أن اقتضاء الوصف لذلك الحكم في هذا المحل إما أن يتوقف على اقتضاء الحكم في ذلك المحل الآخر أو لا يتوقف والأول محال لأنه ليس توقف أحدهما على الآخر أولى من العكس

فيلزم افتقار كل واحد منهما إلى الآخر فيلزم الدور وإن لم يفتقر واحد منهما إلى الآخر فحينئذ لا يلزم من انتفاء أحدهما انتفاء الآخر فلا يلزم من انتفاء كون الوصف مقتضيا لذلك الحكم في هذا المحل انتفاء كونه مقتضيا لذلك الحكم في المحل الآخر وثالثها العقلاء اجمعوا على جواز ترك العمل بمقتضى الدليل في بعض الصور لقيام دليل أقوى من الأول فيه مع أنه يجوز التمسك بالأول عند عدم المعارض فإن الإنسان يلبس الثوب لدفع الحر والبرد وإذا اتفق لبعض الناس أن قال له ظالم إن لبست هذا الثوب قتلتك فإنه يترك العمل بمقتضى الدليل الأول في هذه الصورة وإن كان يعمل بمقتضاه في غيرها من الصور وإذا ثبت حسن ذلك في العادة وجب حسنه في الشرع لقوله عليه الصلاة والسلام ما رأه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ورابعها أن العلة الشرعية أمارة فوجودها في بعض الصور دون حكمها لا يخرجها عن كونها أمارة لأنه ليس من شرط كون الشئ أمارة على الحكم أن يستلزمه دائما فإن الغيم الرطب في الشتاء أمارة المطر ثم عدم المطر في بعض الأوقات لا يقدح في كونه أمارة

وخامسها أن الوصف المناسب بعد التخصيص يقتضى ظن ثبوت الحكم فوجب العمل به بيان الأول أنا إذا عرفنا من الإنسان كونه مشرفا مكرما مطلوب البقاء غلب على ظننا حرمة قتله وإن لم يخطر ببالنا في ذلك الوقت ماهية الجناية فضلا عن عدمها فعلمنا أن مجرد النظر إلى الإنسانية مع مالها من الشرف يفيد ظن حرمة القتل وأن عدم كونه جانيا ليس جزءا من المقتضى لهذا الظن وإذا كان كذلك فأينما حصلت الإنسانية حصل ظن حرمة القتل وإذا ثبت أنه يفيد ظن الحكم وجب العمل به لأن العمل بالظن واجب وسادسها إن بعض الصحابة قال بتخصيص العلة روي عن ابن مسعود أنه كان يقول هذا حكم معدول به عن القياس وعن ابن عباس مثله ولم ينقل عن أحد أنه أنكر ذلك عليهما وذلك يفيد انعقاد الإجماع وسابعها أنه وجد في الأصل المناسبة مع الاقتران في ثبوت الحكم

وفي صورة التخصيص المناسبة مع الاقتران في انتفاء الحكم فلو أضفنا في صورة التخصيص انتفاء الحكم إلى انتفاء المقتضى كنا قد تركنا العمل بذينك الأصلين لكنا عملنا بأصل واحد وهو أن الأصل أن يكون عدم الحكم لعدم المقتضى أما لو أضفنافي صورة التخصيص انتفاء الحكم إلى حصول المانع كنا عملنا بذينك الأصلين وخالفنا أصلا واحدا وهو أن يكون عدم الحكم لعدم المقتضى ومعلوم أن مخالفة الأصل الواحد لإبقاء أصلين أولى من العكس فإحالة انتفاء الحكم على المانع أولى من إحالته على عدم المقتضى والجواب عن الأول أن نقول ما الجامع ثم الفرق أن دلالة العام المخصوص على الحكم وإن كانت موقوفة على عدم المخصص إلا أن عدم المخصص إذا ضم إلى العام صار المجموع دليلا على الحكم أما العلة فإن دلالتها موقوفة على عدم المخصص وذلك العدم لا يجوز ضمه إلى العلة على جميع التقديرات أما أولا فلأن منهم من منع كون القيد العدمي جزءا من علة الحكم الوجودى

والذين جوزوه قالوا إنما يجوز ذلك بشرط أن يكون مناسبا فلا جرم وجب ذكره في أول الأمر ليعرف أنه هل يصلح لأن يكون جزءا لعلة الحكم أم لا وعن الثاني أنا إن فسرنا العلة بالموجب أو الداعي كان شرط كونه علة للحكم في محل أن يكون علة لذلك الحكم في جميع المحال لأن العلة إنما توجب الحكم لماهيتها ومقتضى الماهية أمر واحد فإن كانت تلك الماهية موجبة لذلك الحكم في موضع وجب كونها كذلك في كل المواضع وإلا فلا وعن الثالث إنه لا نزاع فيما قالوه لكنا ندعي أنه ينعطف من الفرق بين الأصل وبين صورة التخصيص قيد على العلة وهم ما أقاموا الدلالة على فساد ذلك وعن الرابع أن النظر في الأمارة إنما يفيد ظن الحكم إذا غلب على الظن انتفاء ما يلازمه انتفاء الحكم فإن من رأى الغيم الرطب في الشتاء بدون المطر في بعض الأوقات ثم رآه مرة أخرى فإنه لا يغلب على ظنه نزول المطر إلا إذا غلب على ظنه انتفاء الأمر الذي لازمه عدم نزول المطر في

المرة الأولى وذلك لا يقدح في قولنا وعن الخامس أنه مسلم لكنا ندعي أنه ينعطف من الفرق بين الأصل وصورة التخصيص قيد على العلة وعن السادس هب أنهم قالوا ذلك لكنهم لم يقولوا التمسك بذلك القياس جائز أم لا وعن السابع ما ذكرناه في الحجة الثالثة من جانبنا المسألة الثانية في كيفية دفع النقض هذا لا يمكن إلا بأحد أمرين أحدها المنع من حصول تمام تلك الأوصاف في صورة النقض والثاني المنع من عدم الحكم أما القسم الأول ففيه أبحاث أحدها المستدل إذا منع من وجود الوصف في صورة النقض لم يمكن

المعترض من إقامة الدليل على وجوده فيها لأنه انتقال إلى مسألة أخرى بلى لو قال المعترض ما دللت به على وجود المعنى في الفرع يقتضى وجوده في صورة النقض فهذا لو صح لكان نقضا على دليل وجود العلة في الفرع لا على كون ذلك الوصف علة للحكم فيكون انتقالا من السؤال الذي بدأ به إلى غيره وثانيها أن المنع من وجود الوصف في صورة النقض إنما يمكن لو وجد قيد في العلة يدفع النقض وذلك القيد إما أن يكون له معنى واحد أو معنيان فإن كان معناه واحدا فإما أن يكون وقوع الاحتراز به ظاهرا أو لا يكون مثال الظاهر قولنا طهارة عن حدث فتفتقر إلى النية كالتيمم فنقضه بإزالة النجاسة غير وارد لأنا نقول عن حدث وإزالة النجاسة لا تكون عن حدث مثال الخفي قولنا في السلم الحال عقد معاوضة فلا يكون الأجل من شرطه كالبيع ولا ينتقض بالكتابة لأنها ليست معاوضة لكنها عقد إرفاق أما إذا كان اللفظ له معنيان فإما أن يكون مقولا عليهما بالتواطؤ أو بالاشتراك مثال التواطؤ قولنا عبادة متكررة فتفتقر إلى تعيين النية كالصلاة فإن قيل ينتقض بالحج فإنه يتكرر على زيد وعمرو قلنا التكرار مقول على التكرار في الزمان وعلى التكرار في الأشخاص والأظهر هو الأول وهو مرادنا هاهنا

مثال الاشتراك قولنا جمع الطلاق في القرء الواحد لا يكون مبتدعا كما لو طلقها ثلاثا في قرء واحد مع الرجعة بين الطلقتين فإن قيل ينتقض بما لو طلقها في الحيض قلنا أردنا بالقرء الطهر وثالثها أنه هل يجوز دفع النقض بقيد طردي أما الطاردون فقد جوزوه وأما منكرو الطرد فمنهم من جوزه والحق أن لا يجوز لأن أحد أجزاء العلة إذا لم يكن مؤثرا لم يكن مجموع العلة مؤثرا ولأنه لو جاز تقيده بالقيد الطردي لجاز تقييده بنعيق الغراب وصرير الباب وبالشخص أنه والوقت ولا نزاع في فساده القسم الثاني في منع عدم الحكم وفيه أبحاث أحدها أن انتفاء الحكم إن كان مذهبا للمعلل والمعترض معا كان متوجها وإن كان مذهبا للمعلل فقط كان متوجها أيضا لأن المعلل إذا لم يف بمقتضى علته في الإطراد فلأن لا يجب على غيره كان أولى وإن كان مذهبا للمعترض فقط لم يتوجه لأن خلاف المعترض في

تلك المسألة كخلافه في المسألة الأولى وهو محجوج بذلك الدليل في المسألتين معا وثانيها ان المنع من عدم الحكم قد يكون ظاهرا وهو معلوم وقد يكون خفيا وهو على وجهين الأول كقولنا في السلم الحال عقد معاوضة فلا يكون الأجل من شرطه فإن قيل ينتقض بالإجارة قلنا الأجل ليس شرطا في الإجارة بل تقدير المعقود عليه الثاني كقولنا عقد معاوضة فلا ينفسخ بالموت كالبيع فإن قيل ينتقض بالنكاح قلنا هناك لا ينتقض بالموت لكن انتهى العقد وثالثها أن الحكم إما أن يكون مجملا أو مفصلا وكل واحد منهما إما في طرف الثبوت أو في طرف الانتفاء فهذه الأقسام أربعة

الأول الإثبات المجمل والمراد أنا ندعي بثبوته ولو في صورة ما فهذا لا ينتقض بالنفي المفصل وهو النفي عن صورة معينة لأن الثبوت المجمل يكفي فيه ثبوته في صورة واحدة والثبوت في صورة واحدة لا يناقضه النفي في صورة معينة الثاني النفي المجمل ومعناه أنه لا يثبت ألبتة ولا في صورة واحدة فهذا ينتقض بالثبوت المفصل لأن ادعاء النفي عن كل الصور يناقضه في صورة معينة الثالث الإثبات المفصل لا يناقضه النفي المفصل لأن الثبوت في صورة معينة لا يناقضه النفي في صورة أخرى لكن يناقضه النفي المجمل لأن الثبوت في صورة واحدة يناقضه النفي المجمل الرابع النفي المفصل لا يناقضه الإثبات المفصل لما تقدم ولا الإثبات المجمل لأنه في قوة الإثبات المفصل بل يناقضه الإثبات العام ورابعها أن الحكم الذي لا يكون ثابتا تحقيقيا لكنه يكون ثابتا تقديرا هل يكون ذلك دافعا للنقض مثاله إذا قال ملك الأم علة لرق الولد

قيل ينتقض ذلك بولد المغرور بحرية الجارية فإنه ينعقد ولده حرا فهاهنا انتفى ملك الولد تحقيقا ولكنه موجودا تقديرا بدليل أن الغرم يجب على المغرور ولولا أن الرق في حكم الحاصل المندفع وإلا لما وجبت قيمة الولد المسألة الثانية وهي مشتملة على فرعين من فروع تخصيص العلة الفرع الأول إذا تخلف الحكم عن العلة لا لمانع فهل يقدح ذلك في صحة العلة أم لا قال قوم لا يقدح لأنا لم ندع في مثل هذه العلة كونها مستلزمة للحكم قطعا بل ادعينا كونها مستلزمة للحكم ظاهرا فتخلف الحكم عنها في بعض الصور لا يقدح في كونها مستلزمة له غالبا فوجب أن لا يكون مفسدا للعلة والحق أنه مفسد للعلة لأن ذات العلة إما أن تكون مستلزمة للحكم أو لا تكون فان كانت مستلزمة له وجب كونها كذلك أبدا ولو كانت كذلك أبدا

لما زال هذا الحكم إلا لمزيل وذلك المزيل هو المانع فحيث زالت تلك المستلزمية لا لمزيل علمنا أن تلك الذات غير موصوفة بتلك المستلزمية فوجب أن لا يكون علة الفرع الثاني المتمسك بالعلة المخصوصة هل يجب عليه في ابتداء الدليل ذكر نفي المانع أم لا أما الذين قالوا لا يجب ذكره في الابتداء قالوا لأن المستدل مطالب بذكر ما يكون موجبا للحكم ومؤثرا فيه والموجب لذلك الحكم هو ذلك الوصف وأما نفي المانع فليس له دخل في التأثير وإذا كان كذلك لم يجب ذكره في الابتداء والذين قالوا يجب احتجوا بأن المستدل مطالب بذكر ما يكون معرفا للحكم والمعرف للحكم ليس تلك الأمارة فقط بل تلك الأمارة مع عدم المخصص وإذا كان كذلك وجب ذكرهما معا فمقتضى هذا الدليل بيان نفي كل الموانع ابتداءا إلا أن إيجاب ذلك يفضي إلى العسر والمشقة

أما إيجاب نفي الموانع المتفق عليها فلا يفضي إلى ذلك فوجب أن يجب ذكره المسألة الرابعة في أن النقض إذا كان واردا على سبيل الاستثناء هل يقدح في العلة أم لا قال قوم إنه لا يقدح سواء كانت العلة معلومة أو مظنونة أما المعلومة فلأنا نعلم أن من لم يقدم على جناية لا يؤاخذ بضمانها ثم هذا لا ينتقض بضرب الدية على العاقلة وأما المظنونة فكالتعليل وهو بالطعم فإنه لا ينتقض بمسألة العرايا فإنها وردت على سبيل الاستثناء رخصة واعلم أنا إنما نعلم ورود النقض على سبيل الاستثناء إذا كان لازما على جميع المذاهب مثل مسألة العرايا فإنها لازمة على جميع العلل كالقوت والكيل والمال والطعم وإنما قلنا إن الوارد مورد الاستثناء لا يقدح في العلة لأن الإجماع لما انعقد على أن حرمة الربا لا تعلل إلا بأحد هذه الأمور الأربعة ومسألة العرايا ورادة عليها أربعتها صلى الله عليه وسلم فكانت هذه المسألة واردة على علة قطعنا بصحتها والنقض لا يقدح في مثل هذه العلة

وأما أنه هل يجب الاحتراز عنه في اللفظ فقد اختلفوا فيه والأولى الاحتراز منه المسألة الخامسة الكسر نقض يرد على المعنى دون اللفظ كما إذا قال في وجوب صلاة الخوف صلاة يجب قضاؤها فيجب أداؤها قياسا على صلاة الأمن فيظن المعترض أنه لا تأثير لكون العبادة صلاة في هذا الحكم وأن المؤثر هو وجوب القضاء فينقضه بصوم الحائض فإنه يجب قضاؤه ولا يجب أداؤه وأعلم أن المعترض ما لم يبين إلغاء القيد الذي به وقع الاحتراز عن النقض لا يمكنه إيراد النقض على الباقي فيكون ذلك في الحقيقة قدحا في تمام العلة لعدم التأثير في جزءها بالنقض

الفصل الثاني في عدم التأثير

الفصل الثاني في عدم التأثير وهو عبارة عما إذا كان الحكم يبقى بدون ما فرض علة له وأما العكس فهو أن يحصل مثل هذا الحكم في صورة أخرى لعلة تخالف العلة الأولى وإذا عرق هذا فنقول الدليل على أن عدم التأثير يقدح في كون الوصف علة هوأن الحكم لما بقى بعد عدمه وكان موجودا قبل وجوده علمنا استغناءه عنه والمستغني عن الشئ لا يكون معللا به واعلم أن هذا حق إذا فسرنا العلة بالمؤثر أما إذا فسرناها بالمعرف فلا لجواز أن كون الحادث معرفا لوجود ما كان موجودا قبله ويبقى موجودا بعده كالعالم مع البارى تعالى وإما أن العكس غير واجب في العلل فهو قولنا وقول المعتزلة وأما أصحابنا فإنهم أوجبوا العكس في العلل العقلية وما أوجبوا في العلل الشرعية

والدليل على عدم وجوبه في العلل العقلية أن المختلفين يشتركان في كون كل واحد منهما مخالفا للأخر وتلك المخالفة من لوازم ماهيتهما واشتراك اللوازم مع اختلاف الملزومات يدل على قولنا والذي يدل على جواز ذلك في العلل الشرعية أنا سنقيم الدلالة على جواز تعليل الأحكام المتساوية بالعلل المختلفة في الشرعيات وذلك يوجب القطع بأن العكس غير معتبر

الفصل الثالث في القلب

الفصل الثالث في القلب وفيه مسائل المسألة الأولى في حقيقته وحقيقتة أن يعلق على العلة المذكورة في قياس نقيض الحكم المذكور فيه ويرد إلى ذلك الأصل بعينه وإنما شرطنا إتحاد الأصل لأنه لو رد إلى أصل آخر لكان ذلك الأصل الآخر إما أن يكون حاصلا في الأصل الأول أو لا يكون فإن كان الأول كان رده إليه أولى لأن المستدل لا يمكنه منع وجود تلك العلة فيه ويمكنه منع وجودها في أصل آخر وإن كان الثاني كان أصل القياس الآخر نقضا على تلك العلة لأن ذلك الوصف حاصل فيه مع عدم ذلك الحكم المسألة الثانية منهم من أنكر إمكانه لوجهين

الأول أن الحكم الذي علقه القالب على العلة لابد وأن يكون مخالفا للحكم الذي علقه القائس عليها وإلا لما كان إلا تكريرا في اللفظ ثم إن ذينك الحكمين إما أن يمكن اجتماعهما أو لا يمكن فإن كان الأول لم يقدح ذلك في العلة لأنه لا امتناع في أن يكون للعلة الواحدة حكمان غير متنافيين والثاني محال لأنا بينا أن الأصل الذي يرد إليه القالب والقائس لابد وأن يكون واحدا والصورة الواحدة يستحيل أن يحصل فيها حكمان متنافيان الثاني أن العلة المستنبطة لابد وأن تكون مناسبة للحكم والوصف الواحد يستحيل أن يكون مناسبا لحكمين متنافيين والجواب عن الأول أن هاهنا احتمالا آخر وهو أن لا يكون الحكمان متنافيين فلا جرم يصح حصولهما في الأصل لكن دل دليل منفصل على امتناع اجتماعهما في الفرع فإذا بين القالب أن الوصف الحاصل في الفرع

ليس بأن يقتضى أحد الحكمين أولى من الآخر كان الأصل شاهدا لهما بالاعتبار لما بينا أنه لا منافاة بينهما في الأصل ويقتضى امتناع حصول الحكم في الفرع لما أنه ليس حصول أحدهما أولى من الآخر وقد قامت الدلالة على امتناع حصولهما في الفرع وهذا الكلام كما أنه جواب عن شبهة المنكر فهو دليل إبتداءا على إمكان القلب وعن الثاني أن المناسبة قد لا تكون حقيقية بل إقناعية فبالقلب ينكشف أنها ما كانت حقيقية المسألة الثالثة القلب معارضة إلا في أمرين أحدهما إنه لا يمكن فيه الزيادة في العلة وفي سائر المعارضات يمكن الثاني إنه لا يمكن منع وجود العلة في الفرع والأصل لأن أصله وفرعه هو أصل المعلل وفرعه ويمكن ذلك في سائر المعارضات وأما فيما وراء هذين الوجهين فلا فرق بينه وبين المعارضة فعلى هذا للمستدل أن يمنع حكم القالب في الأصل وأن يقدح في

تأثير العلة فيه بالنقض وعدم التأثير وأن يقول بموجبه إذا أمكنه بيان أن اللازم من ذلك القلب لا ينافي حكمه وأن يقلب قلبه إذا لم يكن قلب القالب مناقضا للحكم لأن قلب القالب إذا فسد بالقلب الثاني سلم أصل القياس من القلب المسألة الرابعة القالب إما أن يذكر القلب لإثبات مذهبه أو لإبطال مذهب خصمه والأول مثل أن يقول الحنفي في أن الصوم شرط في صحة الاعتكاف لبث مخصوص فلا يكون بدون الصوم قربة كالوقوف بعرفة فيقول القالب لبث مخصوص فلا يعتبر الصوم في كونه قربة كالوقوف بعرفة فالحكمان المذكوران في الأصل والقلب لا يتنافيان في الأصل ويتنافيان في الفرع وأما الثاني فإما أن يدل القالب على فساد مذهبه صريحا أو ضمنا وهو أن يدل على فساد لازم من لوازم مذهب الخصم مثال الأول قول الحنفي في المسح ركن من أركان الوضوء فلا يكتفى فيه بأقل ما يقع عليه الاسم كالوجه فيقول القالب فوجب أن لا يتقدر الفرض فيه بالربع كالوجه وهذان الحكمان لا يتناقضان في ذاتيهما لأنهما حصلا في الوجه ولكن يتنافيان في الفرع بواسطة اتفاق الإمامين

مثال الثاني قولهم في بيع الغائب عقد معاوضة فيعقد مع الجهل بالعوض كالنكاح فيقول القالب فلا يثبت فيه خيار الرؤية كالنكاح ويلزم من فساد خيار الرؤية فساد البيع وهذان الحكمان غير متنافيين في الأصل لأنه اجتمع في النكاح الصحة وعدم الخيار لكن لا يمكن اجتماعهما في الفرع وقال بعضهم هذا النوع من القلب غير مقبول لأن دلالة الوصف على ثبوت الحكم لا بواسطة أظهر من دلالته على انتفاء الحكم بواسطة وأعلم أنه يقع في هذا النوع شئ يسمى قلب التسوية مثاله أن يقول الحنفي في طلاق المكره مكلف مالك للطلاق فيقع طلاقه كالمختار فيقول القالب فوجب أن يستوى حكم إيقاعه وإقراره كالمختار وبعضهم قدح فيه بأن قال الحاصل اعتبارهما معا في الثبوت في الأصل وفي الفرع عند القالب عدم وقوعهما معا فكيف تتحقق التسوية

جوابه أن عدم الاختلاف بين الحكمين حاصل في الفرع والأصل لكن في الفرع في جانب العدم وفي الأصل في جانب الثبوت وذلك لا يقدح في الاستواء في الأصل

الفصل الرابع في القول بالموجب

الفصل الرابع في القول بالموجب وحده تسليم ما جعله المستدل موجب العلة مع استبقاء الخلاف وهو يقع في جانب النفي على وجه وفي جانب الإثبات على وجه أخر أما في جانب النفي فإذا كان المطلوب نفى الحكم واللازم من دليل المعلل كون شئ معين غير موجب لذلك الحكم كما لو قال الشافعى في المثقل التفاوت في الوسيلة لا يمنع وجوب القصاص كالتفاوت في المتوسل إليه فيقول السائل إن التفاوت في الوسيلة لا يمنع وجوب القصاص فلم لا يمتنع وجوب القصاص بسبب آخر ثم أن المستدل لو بين بعد ذلك أنه يلزم من تسليم ذلك الحكم

تسليم محل النزاع كان منقطعا أيضا لأنه ظهر أنه ما ذكر الدليل بل ذكر أحد أجزاء الدليل وأما جانب الثبوت فكما لو كان المطلوب إثبات الحكم في الفرع واللازم من دليل المعلل ثبوته في صورة ما من الجنس كما لو قال في وجوب الزكاة في الخيل حيوان تجوز المسابقة عليه فيجب فيه الزكاة قياسا على الإبل فقال أقول بموجبه إنه تجب فيه زكاة التجارة والخلاف واتقع إذا في زكاة العين ومقتضى دليلك وجوب أصل الزكاة

الفصل الخامس في الفرق

الفصل الخامس في الفرق والكلام فيه مبني على أن تعليل الحكم الواحد بعلتين هل يجوز أم لا وفيه مسألتان المسألة الأولى يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين منصوصتين خلافا لبعضهم لنا أن الردة والقتل والزنا كل واحد منها لو انفرد كان مستقلا باقتضاء حل القتل ثم إنه يصح اجتماعها فعند اجتماعها يكون حل الدم حاصلا بها جميعا فإن قيل لا نسلم أن هناك حكما واحدا بل أحكاما كثيرة فإن حل

القتل بسبب الردة غير حله بسبب القتل والدليل عليه وجهان الأول أن الرجل إذا عاد إلى الإسلام زالت الإباحة الحاصلة بسبب الردة وبقيت الإباحة الحاصلة بسبب القتل والزنا ثم إذا عفا ولى الدم زالت الإباحة الحاصلة بسبب القتل وبقيت الإباحة الحاصلة بسبب الزنا الثاني أن القتل المستحق بسبب القتل يجوز العفو عنه لولى الدم والقتل المستحق بسبب الردة لا يتمكن الولى من إسقاطه وذلك يدل على تغاير الحكمين سلمنا أن الحكم واحد ولكن لا نسلم أنه يمكن حصول هذه الأسباب الثلاثة دفعة واحدة ولم لا يجوز أن يقال لابد وأن يحصل منها واحد قبل حصول البواقي وحينئذ يكون الحكم محالا على السابق سلمنا إمكان حصولها دفعة واحدة لكن لم لا يجوز ان يقال إنها بأسرها مشتركة في وصف واحد والعلة هو ذلك المشترك فتكون علة الحكم شيئا واحدا سلمنا أنه ليس هناك قدر مشترك لكن لم لا يجوز أن يقال شرط كون كل واحد منها علة مستقلة انتفاء الغير فإذا وجد الغير زال شرط الاستقلال بالعلية فحينئذ لا يكون كل واحد منها علة تامة عند الاجتماع بل يصير كل

واحد منها عند الاجتماع جزء العلة والمجموع هو العلة التامة سلمنا أن ما ذكرته يدل على تعليل الحكم الواحد بعلتين لكن معنا ما يمنع منه وهو وجوه ثلاثة الأول أن جواز تعليل الحكم الواحد بعلتين يفضى إلى نقض العلة وذلك باطل على ما مر فما أفضى إليه مثله بيان الملازمة أنه إذا كان للحكم الواحد علل كثيرة فإذا وجد منها واحدة حتى حصل الحكم ثم وجدت العلة الثانية بعد ذلك فهذه الثانية إما أن توجب حكما يماثل الحكم الأول أو يخالفه أو لا توجب حكما أصلا والأول يقتضى اجتماع المثلين وهو محال والثاني والثالث يوجب النقض لأنه وجدت تلك العلة من غير ذلك الحكم الثاني أن العلة الشرعية مؤثرة بجعل الشرع إياها مؤثرة في ذلك الحكم فإذا اجتمع على المعلول الواحد علتان فإما أن تكون كل واحدة من العلتين مؤثرة في بعض ذلك الحكم أو في كله والأول محال أما أولا فلأن الحكم الواحد لا يتبعض وأما ثانيا فلأن ذلك إخراج لكل واحدة من العلتين عن أن تكون موجبة للحكم

وأما ثالثا فلأن على هذا التقدير معلول كل واحدة منهما غير معلول الأخرى وأما الثاني فباطل أيضا لأن الحكم لما وقع بإحدى العلتين استحال وقوعه بالأخرى لاستحالة إيقاع الواقع الثالث أن العلة لابد وأن تكون مناسبة للحكم فلو كانت علة لحكمين لكانت مناسبة لشيئين مختلفين فيلزم كون الشئ الواحد مساويا لمختلفين والمساوى لمختلفين مختلف فالشئ الواحد يكون مخالفا لنفسه وهو محال والجواب قوله لا نسلم وحدة الحكم قلنا الدليل عليه أن إبطال حياة لشخص الواحد أمر واحد وهذا الأمر الواحد إما أن يكون ممنوعا عنه من قبل الشرع بوجه ما أو لا يكون ممنوعا عنه بوجه ما والأول هو الحرمة والثاني هو الحل فإذا كانت الحياة واحدة كانت إزالتها أيضا واحدة فكان الإذن في تلك الإزالة واحدة فإن قلت الفعل الواحد يجوز أن يكون حراما من وجه حلالا من وجه وإذا

كان كذلك جاز أن يتعدد الحل لتعدد جهاته فيكون الشخص الواحد مباح الدم من حيث إنه مرتد ومن حيث إنه زان ومن حيث إنه قاتل قلت القول بأن الفعل الواحد حرام من وجه حلال من وجه غير معقول لأن الحل أن يقول الشارع مكنتك من هذا الفعل ولاتبعة فقال عليك في فعله أصلا وهذا المعنى إنما يتحقق إذا لم يكن فيه وجه يقتضى المنع أصلا بلى ليس من شرط الحرمة أن يكون حراما من جميع جهاته لأن الظلم حرام مع أن كونه حادثا وحركة وعرضا لا يقتضى الحرمة إذا ثبت ذلك فنقول حل الدم على هذا الوجه يستحيل أن يتعدد والعلم بذلك ضروري قوله الدليل على التغاير أنه لو أسلم زال أحد الحلين وبقى الآخر قلنا لا نسلم أنه يزول أحد الحلين بل يزول كون ذلك الحل معللا بالردة فالزائل ليس هو نفس الحل بل وصف كونه معللا بالردة فإن قلت إذا كان الحل باقيا سواء وجدت الردة أو زالت كان ذلك الحل غنيا في نفسه عن الردة والغنى عن الشئ لا يكون معللا به قلت لما كانت العلة عندى عبارة عن المعرف زال عنى الإشكال قوله ولى الدم مستقل بإسقاط أحد الحكمين قلنا لا نسلم بل هو متمكن من إزالة أحد الأسباب فإذا زال ذلك السبب زال انتساب ذلك الحكم إلى ذلك السبب فأما أن يزول الحكم نفسه فهذا ممنوع

قوله لا نسلم جواز اجتماع هذه العلل قلنا هذا مكابرة لأنه لا منافاة بين ذوات هذه الأمور فيصح اجتماعها ونحن نبني الكلام على تقدير وقوع ذلك الجائز قوله العلة هي القدر المشترك بين كل هذه الأمور قلنا هذا باطل لأن الأمة مجمعة على أن الحيض من حيث هو حيض مانع من الوطء وكذا العدة والإحرام والقول بأن العلة هي القدر المشترك مخالف لهذا الإجماع وأما ثانيا فلأن الحيض وصف حقيقي والعدة أمر شرعي والأمر الحقيقي لا يشارك الأمر الشرعي إلا في عموم أنه أمر فلو كان هذا القدر هو العلة للمنع من الوطء لا تنتقض بالطم والرم قوله شرط كون كل واحد منها علة مستقلة عدم الآخر قلنا هذا باطل لأن الأمة مجمعة على أن الحيض يمنع من الوطء شرعا وذلك يقتضى أن تكون علة سواء وجد هذا القيد العدمي أم لا أما المعارضة الأولى فجوابها أن الحكم الحاصل بالعلة السابقة إنما يمتنع حصوله بالعلة اللاحقة إذا فسرنا العلة بالمؤثر أما إذا فسرناها بالمعرف فلم قلت إنه يمتنع وأما الثانية في مبنية على أن ما لا يكون مؤثرا في الحكم لذاته يجعله

الشارع مؤثرا فيه وقد تقدم إبطال هذه القاعدة وأما الثالثة فلا نسلم أن المناسبة شرط العلية ولو سلمناها فلم لا يجوز أن يشترك الحكمان في جهة واحدة ثم إن العلة تناسبهما بحسب ذلك الوجه الواحد وأعلم أنه يمكن فرض الكلام في صورة يسقط عنها كثير من الأسئلة وهى ما إذا جمعت لبن زوجة أخيك وأختك وجعلته في حلق المرتضعة دفعة واحدة فإنها تحرم عليك لأنك خالها وعمها ولا تتوجه في هذه الصورة أكثر تلك الأسئلة المسألة الثانية الحق إنه لا يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين مستنبطتين والدليل عليه وجهان الأول أن الإنسان إذا أعطى فقيرا فقيها احتمل أن يكون الداعي له إلى الإعطاء

كونه فقيرا فقط أو كونه فقيها فقط أو مجموعهما أو لا لواحد منهما فهذه الاحتمالات الأربعة متنافية لأن قولنا الداعي له إلى الإعطاء هو الفقر لا غير ينافي أن يكون غير الفقر داعيا أو جزءا من الداعي وإذا كانت هذه الاحتمالات متنافية فإن بقيت على حد التساوى أمتنع الحصول ظن حصول كل واحد منها على التعيين فلا يجوز الحكم بكونه علة وإن ترجح بعضها فذلك الترجيح يحصل بأمر وراء المناسبة والاقتران لأن ذلك مشترك بين الأربعة وحينئذ يكون الراجح هو العلة دون المرجوح الثاني أن الصحابة أجمعوا على قبول الفرق لأن عمر لما شاور عبد الرحمن في قضية المجهضة قال إنك مؤدب ولا أرى عليك شيئا فقال على

إن لم يجتهد فقد غشك وإن اجتهد فقد أخطأ أرى عليك الغرة وجه الاستدلال به إن عبد الرحمن شبهه بالتأديب المباح وأن عليا فرق بينه وبين سائر التأديبات بأن التأديب الذي يكون من جنس التعزيزات لا تجوز فيه المبالغة المنتهية إلى حد الإتلاف وذلك يدل على إجماعهم على قبول الفرق وهو يقدح في جواز تعليل الحكم الواحد بعلتين مستنبطتين والله أعلم

الباب الثالث فيما يظن أنه من مفسدات العلة مع أنه ليس كذلك

الباب الثالث فيما يظن أنه من مفسدات العلة مع أنه ليس كذلك وقبل الخوض في تلك الأشياء نذكر تقسيمات العلة التقسيم الأول كل حكم ثبت في محل فعلة ذلك الحكم إما نفس ذلك المحل أو ما يكون جزءا من ماهيته وداخلا فيه أو ما يكون خارجا عنه والخارج إما أن يكون أمرا عقليا أو شرعيا أو عرفيا أو لغويا والعقلى إما أن يكون صفة حقيقية أو إضافية أو سلبية أو ما يتركب من هذه الأقسام وهى الصفة الحقيقية مع الإضافية أو مع السلبية

[الباب الرابع] في تقسيمات العلة وبيان ما يجوز التعليل به وما لا يجوز التعليل به

مثال التعليل بالصفة الحقيقية فقط مطعوم فيكون ربويا مثال الإضافية قولنا مكيل فيكون ربويا مثال السلبية قولنا في طلاق المكره لم يرض به فلا يقع مثال الحقيقية مع الإضافية قولنا بيع صدر من الأهل في المحل مثال الحقيقية مع السلبية قولنا قتل بغير حق مثال الحقيقية والإضافية والسلبية معا قولنا قتل عمد عدوان مثال الوصف الشرعي قولنا في المشاع يجوز بيعه فتجوز هبته مثال العرفي قولنا في بيع الغائب أنه مشتمل على جهالة مجتنبة في العرف مثال الاسم قولنا في النبيذ أنه مسمى بالخمر فيحرم كالمعتصر من العنب وأعلم أن التعليل بجزء مسمى المحل إن كان بعلة قاصرة وجب أن يكون بالجزء الذي يمتاز ذلك المحل به عن غيره وأن لا يحصل الحكم في ذلك المشارك فتصير القاصرة متعدية

وإن كان بعلة متعدية وجب التعليل بالجزء الذي يشارك غيره وإلا لم توجد تلك العلة في غيره فتصير العلة المتعدية قاصرة التقسيم الثاني العلة وا لحكم إما أن يكونا ثبوتيين أو عدميين وهذان القسمان لا نزاع في صحتهما وإما أن يكون الحكم ثبوتيا والعلة عدمية وفيه نزاع وإما أن يكون الحكم عدميا والعلة ثبوتية وهذا يسميه الفقهاء تعليلا بالمانع واختلفوا في أنه هل من شرطه وجود المقتضي التقسيم الثالث العلة إما أن تكون فعلا للمكلف كالقتل الموجب للقصاص أو لا تكون كالبكارة في ولاية الإجبار عندنا التقسيم الرابع الوصف المجعول علة أما ان يكون لازما للموصوف ككون البر مطعوما

أو لا يكون فحينئذ يكون متجددا وذلك المتجدد إما أن يكون ضروريا بحسب العادة وهو مثل انقلاب العصير خمرا والخمر خلا أو لا يكون وهو إما أن يكون متعلقا بأختيار أهل العرف ككون البر مكيلا أو بأختيار الشخص الواحد كالردة والقتل التقسيم الخامس العلة إما أن تكون ذات أوصاف كقولنا قتل عمد عدوان أو لا تكون كقولنا التفاح مطعوم فيكون ربويا التقسيم السادس العلة قد تكون وجه المصلحة ككون الصلاة ناهية عن الفحشاء وكون الخمر موقعة للبغضاء وقد تكون أمارة المصلحة كما إذا جعلنا جهالة أحد البدلين علة في فساد البيع مع أنا نعلم أن فساد البيع في الحقيقة معلل بما يتبع الجهالة من تعذر التسليم ألا ترى أن جواز البيع ثابت حيث لا تمنع الجهالة من صحة التسليم كبيع صبرة من الطعام مشار إليها لصحة تسليمها وإن كان مجهول القدر

المسألة الأولى: في التعليل بمحل الحكم

التقسيم السابع الوصف قد يعلم وجوده بالضرورة ككون الخمر مسكرا أو مطربا وذلك إما أن يعلم بالضرورة كونه من الدين ككون الجماع في نهار رمضان مفسدا للصوم وقد لا يكون كذلك وأمثلته ظاهرة المسألة الأولى اختلفوا في جواز التعليل بمحل الحكم والحق أن العلة إما أن تكون قاصرة أو متعدية فإن كان الأول صح التعليل بمحل الحكم سواء كانت العلة منصوصة أو مستنبطة لأنه لا استبعاد في أن يقول الشارع حرمت الربا في البر لكونه برا أو يعرف كون البر مناسبا لحرمة الربا فإن قلت لو كان محل الحكم علة للحكم لكان الشئ الواحد فاعلا وقابلا معا وهو محال لوجهين الأول أن المفهوم من كونه قابلا غير المفهوم من كون فاعلا ولذلك صح تعقل كل واحد منهما مع الذهول عن الآخر فهذان المفهومان إما أن يكونا داخلين في ذلك الشئ أو خارجين عنه أو أحدهما داخلا والآخر خارجا فإن كان الأول كان ذلك الشئ مركبا في نفسه والجزء الذي هو ملحوق

الفاعلية غير الجزء الذي هو ملحوق القابلية فلا يكون الشئ الواحد قابلا وفاعلا وإن كان الثاني كان هذان الأمران الخارجان عن تلك الماهية لاحقين لها وكل لاحق معلول فيعود الأمر في أن المفهوم من كون تلك الماهية علة لأحد اللاحقين غير المفهوم من كونه علة للاحق لآخر ويكون الكلام في هذين المفهومين كما في الأول فيلزم التسلسل وهو محال وإن كان أحدهما داخلا في الماهية والآخر خارجا عنها لزم كون الماهية مركبة لأن كل ماله جزء فهو مركب ولزم أن يكون إما الفاعلية أو القابلية جزءا من الماهية وذلك محال لأن الفاعلية والقابلية نسبة بين الماهية وبين غيرها والنسبة بين الشئ وبين غيره خارجة عن الماهية والخارج عن الشئ لا يكون داخلا فيه فلا يمكن أن تكون القابلية أو الفاعلية داخلة في الماهية الثاني وهو أن نسبة القابل إلى المقبول نسبة الإمكان ونسبة المؤثر إلى الأثر نسبة الوجوب فلو كان الشئ الواحد بالنسبة إلى الشئ الواحد مؤثرا وقابلا لزم كون النسبة الواحدة موصوفة بالوجوب وبالإمكان معا وهو محال

المسألة الثانية: في التعليل بالحكمة

قلت قد بينا في كتبنا العقلية ما في هذين الوجهين من المغالطة وأما إن كانت العلة متعدية لم يصح أن يكون محل الحكم علة للحكم لأن العلة المتعدية هى التي توجد في غير مورد النص وخصوصية مورد النص يستحيل حصولها في غيره لأن الشئ لا يكون نفس غيره المسألة الثانية الوصف الحقيقي إذا كان ظاهرا مضبوطا جاز التعليل به أما الذي لا يكون كذلك مثل الحاجة إلى تحصيل المصلحة ودفع المفسدة وهى التي يسميها الفقهاء بالحكمة فقد اختلفوا في جواز التعليل به والأقرب جوازه لنا أنا إذا ظننا استناد الحكم المخصوص في مورد النص إلى الحكمة المخصوصة ثم ظننا حصول تلك الحكمة في صورة أخرى تولد لا محالة من ذنيك الظنين ظن حصول الحكم في تلك الصورة والعمل بالظن واجب على ما تقدم فإن قيل لا نزاع في أنه لو حصل ظن تعليل الحكم في الأصل بتلك الحكمة ثم حصل ظن حصول تلك الحكمة في صورة أخرى أنه

يلزم حصول مثل حكم الأصل في تلك الصورة الأخرى لكن النزاع في أن ذينك الظنين هل هما ممكنا الحصول أم لا وأنتم ما دللتم على جوازه ونحن نبين امتناعه من وجوه الأول أن الحكم إما يعلل بالحاجة المطلقة أو يعلل بالحاجة المخصوصة والأول باطل وإلا لكان كل حاجة معتبرة والثاني أيضا باطل لأن الحاجة أمر باطن فلا يمكن الوقوف على مقاديرها وامتياز كل واحدة من مرابتها التي لا نهاية لها عن المرتبة الأخرى وإذا تعذر تعيينه تعذر التعليل بذلك المتعين الثاني لو صح تعليل الحكم بالحكمة لما صح تعليله بالوصف وتعليله بالوصف جائز فتعليله بالحكمة غير جائز بيان الملازمة أن شرع الحكم لابد وأن يكون لفائدة عائدة إلى العبد لإنعقاد الإجماع على أن الشرائع مصالح إما وجوبا كما هو قول المعتزلة أو تفضلا كما هو قولنا

وإذا كان كذلك فالمؤثر الحقيقي في الحكم هو الحكمة أما الوصف فليس بمؤثر ألبتة وإنما جعل مؤثرا لاشتماله على الحكمة التي هي المؤثرة إذا ثبت هذا فنقول لو أمكن إستناد الحكم إلى الحكمة لما جاز استناده إلى الوصف لأن كل ما يقدح في استناده إلى الحكمة يقدح في استناده إلى الوصف لأن القادح في الأصل قادح في الفرع وقد يوجد ما يقدح في الوصف ولا يكون قادحا في الحكمة لأن القادح في الفرع قد لا يكون قادحا في الأصل فاستناد الحكم إلى الوصف مع إمكان استناده إلى الحكمة تكثير لإمكان الغلط من غير حاجة إليه وإنه لا يجوز ولما رأينا أنه جاز التعليل بالوصف علمنا أنه إنما جاز لتعذر التعليل بالحكمة الثالث لو جاز التعليل بالحكمة لوجب طلب الحكمة والطلب لها غير واجب فالتعليل بها غير جائز بيان الملازمة أن المجتهد مأمور بالقياس عند فقدان النص ولا يمكنه القياس إلا عند وجدان العلة ولا يمكنه وجدانها إلا بعد الطلب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فإذن طلب العلة واجب وإذا كانت الحكمة علة كان طلبها واجبا بيان أن طلب الحكمة غير واجب أن الحكمة لا تعرف إلا بواسطة معرفة الحاجات والحاجات أمور باطنة

لا يمكن معرفة مقاديرها إلا بمشقة شديدة فوجب أن لا تكون هذه المعرفة واجبة لقوله تعالى وما جعل عليكم في الدين من حرج الرابع أن استقراء الشريعة يدل على أن الأحكام معللة بالأوصاف لا بالحكم لأنا لو فرضنا حصول الأوصاف الجلية كالبيع والنكاح والهبة عارية عن المصالح لاستندت أي الأحكام إليها ولو فرضنا حصول المصالح دون هذه الأوصاف لم تثبت بها الأحكام الملائمة لها وذلك يدل ظاهرا على امتناع التعليل بالحكم الخامس الدليل ينفي التمسك بالعلة المظنونة لقوله تعالى إن بعض الظن إثم وقوله إن الظن لا يغني من الحق شيئا خالفناه في الأوصاف الجلية لظهورها والحاجة ليست كذلك فتبقى على الأصل السادس أن الحكمة تابعة للحكم لأن الزجر تابع لحصول القصاص وعلة الشئ يستحيل تأخيرها عن الشئ فالحكمة لا تكون علة للحكم والجواب قوله ما الدليل على جواز أن يحصل لنا ظن أن الحكم في الأصل معلل بالحكمة

قلنا لا نزاع في أن المناسبة طريق كون الوصف علة والمعنى بذلك أنا نستدل بكون الوصف مشتملا على المصلحة على كونه علة فلا يخلو إما أن يكون الدال على عليته اشتماله على مطلق المصلحة أو اشتماله على مصلحة معينة والأول باطل وإلا لكان كل وصف مشتمل على مصلحة كيف كانت علة لذلك الحكم ولما بطل القسم الأول تعين الثاني فنقول إما أن يمكن الاطلاع على المصلحة المخصوصة أو لا يمكن فإن امتنع الاطلاع على المصلحة المخصوصة امتنع الاستدلال بكون الوصف مشتملا عليها على كونه علة لأن العلم بإشتمال الوصف عليها موقوف على العلم بها وحيث لم يمتنع هذا الاستدلال علمنا أن الإطلاع على خصوصيتها ممكن وبهذا الحرف ظهر الجواب عن قوله المصالح أمور باطنة فلا يمكن الاطلاع عليها قوله لو جاز التعليل بالحكمة لما جاز التعليل بالوصف قلنا التعليل بالحكمة وإن كان راجحا على التعليل بالوصف من الوجه الذي ذكرت فالتعليل بالوصف راجح على التعليل بالحكمة من وجه آخر وهو سهولة الاطلاع على الوصف وعسر الاطلاع على الحكمة فلما

كان كل واحد منهما راجحا من وجه مرجوحا من وجه آخر حصل الاستواء قوله لو صح التعليل بالحكمة لوجب طلبها قلنا نحن وإن اختلفنا في جواز تعليل الحكم لكنا اتفقنا على أن كون الوصف علة للحكم معلل بالحكمة فان لم يقتض ذلك وجوب طلب الحكمة فقد بطل قولك وإن اقتضى وجوب طلبها فقد بطل قولك أيضا قوله الاستقراء دل على تعليل الأحكام بالأوصاف لا بالحكمة قلنا لا نسلم بل التعليل بالحكم حاصل في صور كثيرة مثل التوسط في إقامة الحد بين المهلك والزاجر وكذا الفرق بين العمل اليسير والكثير قوله النافي للقياس قائم ترك العمل به في الوصف لظهوره قلنا الحكمة علة لعلية الوصف فأولى أن تكون علة للحكم قوله الحكمة ثمرة الحكم قلنا في الوجود الخارجي لا في الذهن ولهذا قيل أول الفكر آخر العمل نكتة أخرى في المسألة الحكمة علة لعلية العلة فأولى أن تكون علة للحكم

بيانه أن الوصف لا يكون مؤثرا في الحكم إلا لاشتماله على جلب نفع أو دفع مضرة فكونه علة معللة بهذه الحكمة فإن لم يكن العلم بتلك الحكمة المخصوصة استحال التوصل به الجعل الوصف علة وإن أمكن ذلك وهو مؤثر في الحكم والوصف ليس بمؤثر كان لإسناد الحكم إلى الحكمة المعلومة التي هي المؤثرة أولى من إسناده إلى الوصف الذي هو في الحقيقة ليس بمؤثر

المسألة الثالثة: في أن الحكمة مجهولة القدر

المسألة الثالثة المعللون بالحكمة لما قيل لهم أن الحكمة مجهولة القدر فإن حاجة الإنسان في مبدأ زمان الجوع دون حاجته في مقطع زمان الجوع ولما كان الغالب فيها التفاوت لم يكن القدر الموجود في الأصل ظاهر الوجود في الفرع فلم يصج القياس فمن الناس من أجاب عنه بأنا نعلل بالقدر المشترك بين الصورتين لأنه حصل في الأصل قدر معين من المصلحة وفي الفرع قدر معين وكل مقدارين فلابد وأن يكون بينهما اشتراك في قدر معين وذلك القدر المشترك يناسب التعليل به لكونها مصلحة مطلوبة الوجود فإذا قيل لهم إنه ينتقض بالحاجة الفلانية فإنها غير معتبرة قالوا نحن إنما عللنا بالقدر المشترك بين الأصل والفرع ونحن لا نسلم أن ذلك القدر المشترك حاصل في صورة النقض واعلم أن هذا الكلام ضعيف وذلك لأنه يحتمل أن لا يكون بين القدر المشترك الحاصل في الأصل والحاصل في الفرع اشتراك إلا في مسمى كونه مصلحة والتعليل بهذا المسمى غير ممكن وإلا حصل

المسألة الرابعة: في التعليل بالعدم

النقض بجميع المصالح المنفكة عن هذا الحكم وأما الاشتراك بين القدرين في أمر آخر وراء عموم كونه مصلحة فغير معلوم ولا مظنون وإذا كان وجوده غير ظاهر لم يكن التعليل به ظاهرا المسألة الرابعة يجوز التعليل بالعدم خلافا لبعض الفقهاء لنا أنه قد يحصل دوران الحكم مع بعض العدمات والدوران يفيد ظن العلية والعمل بالظن واجب احتجوا على أن العدم لا يصلح للعلية بوجوه أحدها أن العلية مناقضة للاعلية المحمولة على العدم فاللا علية عدمية والعلية ثبوتية فلو حملناها على العدم المحض كان النفى المحض

موصوفا بالصفة الوجودية ولو جوزنا ذلك لما أمكننا أن نستدل بكون الجدار وكثافته وحصوله في الحيز على كون الموصوف بهذه الصفات موجودا وهو سفسطة وثانيها أن العلة لابد وأن تتميز عما ليس بعلة سواء أريد بها المؤثر أو المعرف أو الداعي والتمييز عبارة عن كون كل واحد من المتميزين مخصوصا في نفسه بحيث لا يكون تعين هذا حاصلا لذلك ولا تعين ذلك حاصلا لهذا وهذا غير معقول في العدم الصرف لأنه نفي محض ولأنه لو جاز وقوع التمييز فيه لجاز أن يقال المؤثر في العالم عدم صرف ليست أقول ذات معدومة على ما ذهب إليه القائلون بأن المعدوم شئ لأن ذلك عندهم ثابت بل الإلزام أن نجعل النفي المحض الذي لا يكون ذاتا ولا عينا ولا أمرا من الأمور مؤثرا في العالم وذلك مما يسد باب إثبات الصانع تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وثالثها أن العدم إما أن يكون عاريا عن النسبة من كل الوجوه أو لا يكون فإن كان الأول لم يكن له اختصاص بذات دون ذات وبوقت دون وقت فلا يجوز جعله علة لحكم معين في وقت معين وفي شخص معين وإن كان له انتساب بوجه ما كان ذلك الانتساب أمرا ثبوتيا ضرورة كونه نقيضا للانتساب فيلزم وصف العدم بالوجود وهو محال

ورابعها أن المجتهد إذا بحث عن علة الحكم لم يجب عليه سبر الأوصاف العدمية فإنها غير متناهية مع أنه يجب عليه سبر كل وصف يمكن كونه علة وذلك يدل على أن الوصف العدمى لا يصلح للعلية وخامسها قوله تعالى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى والعدم نفي محض فلا يكون من سعيه فوجب أن لا يترتب عليه حكم فإن كل حكم يثبت فإنه يحصل للإنسان بسببه إما جلب منفعة أو دفع مضرة فثبت أن الوصف العدمى لا يمكن أن يكون علة فإن قلت الامتناع عن الفعل عدم مع أنه قد يكون مأمورا به ويكون منشأ للمصالح ودفع المفاسد قلت الامتناع عن الفعل عبارة عن أمر يفعله الإنسان فيترتب عليه عدم ذلك الشئ فثبت أن الامتناع ليس عدما محضا والجواب عن الأول ما ذكرتموه من الدلالة على أن العلية صفة ثبوتية معارض بدليل آخر وهو أنها لو كانت ثبوتية لكانت من عوارض ذات العلة فكانت مفتقرة إلى تلك الذات وكانت ممكنة وكانت مفتقرة إلى العلة فكانت علية العلة

لتلك العلة زائدة عليها ولزم التسلسل وعن الثاني نسلم أنه لابد وأن تكون العلة متميزة عما ليس بعلة لكن لا نسلم أن التميز يستدعى كون المتميز ثبوتيا فإن عدم أحد الضدين عن المحل يصحح حلول الضد الآخر فيه وعدم ما ليس بضد ليس كذلك وأيضا عدم اللازم يقتضى عدم الملزوم وعدم ما ليس بلازم لا يقتضي ذلك فقد حصل الامتياز في العدمات وعن الثالث أن العلة عدم مخصوص قوله فالخصوصية صفة قائمة بالنفى المحض قلنا لا نسلم أن الخصوصية أمر ثبوتي فإنها لو كانت أمرا ثبوتيا لكانت في نفسها أمرا مخصوصا فلزم التسلسل وعن الرابع لا نسلم أن المجتهد لا يبحث في السبر والتقسيم عن الأوصاف العدمية

المسألة الخامسة: في التعليل بالأوصاف الإضافية

سلمنا ذلك لكن إسقاط ذلك التكليف لتعذره فإن العدمات غير متناهية وعن الخامس أنا نعلم بالضرورة كوننا مكلفين بالامتناع فدل على أن العدم قد يكون متعينا قوله الامتناع عبارة عن فعل يترتب عليه العدم قلنا لو كان الامتناع عبارة عن فعل يترتب عليه العدم لكان الممتنع عن الفعل فاعلا وذلك محال المسألة الخامسة للمانعين من التعليل بالعدم أن يمنعوا من التعليل بالأوصاف الإضافية محتجين بأنها عدم والعدم لا يكون علة وإنما قلنا إنها عدم لأن مسمى الإضافة ليس أمرا وجوديا وإذا لم يكن المسمى وجوديا امتنع أن يكون شئ من الإضافات المخصوصة أمرا وجوديا وإنما قلنا أن مسمى الإضافة ليس أمرا وجوديا لأنه لو كان هذا المسمى وجوديا لكان أينما حصل هذا المسمى كان وجوديا فإذا فرضنا في إضافة ما كونها أمرا وجوديا كانت لا محالة صفة لمحل

فكان حلولها في ذلك المحل إضافة بينها وبين ذلك المحل فكان مسمى الإضافة حاصلا في حلول تلك الإضافة في ذلك المحل وإذا كان ذلك المسمى أمر وجوديا كانت إضافة الإضافة أمرا وجوديا زائدا على الإضافة إلى غير نهاية فثبت أن مسمى الإضافة يمتنع أن يكون وجوديا وإذا ثبت ذلك وجب أن لا يكون شئ من الإضافات المخصوصة وجوديا لأن الإضافة المخصوصة ماهية مركبة من الإضافة ومن الخصوصية فلو كانت أمرا وجوديا لكان الوجود إما قيد الإضافة أو قيد الخصوصية والأول باطل لما تقدم والثاني أيضا باطل لأن خصوصية الإضافة صفة للإضافة فلو كانت الخصوصية أمرا ثبوتيا لزم حلول الوجود في النفى المحض وهو محال فثبت أن سائر الإضافات يمتنع أن يكون موجودا فهو معدوم والتعليل بالعدم غير جائز على ما تقدم

المسألة السادسة: في التعليل بالحكم الشرعي

والجواب لا نسلم أن الإضافات أمور عدمية والتسلسل مدفوع لاحتمال أن تكون الإضافة إلى محلها لذاتها وأن سلمنا أنها عدمية في الحقيقة لكنها ثبوتية في المعتقدات فيحسن جعلها علة للأحكام الشرعية وإن سلمنا كونه عدمية مطلقا ولكن لا نسلم أن الأمور الذهنية لا تصلح للعلية والله أعلم المسألة السادسة تعليل الحكم الشرعي جائز خلافا لبعضهم لنا أن الدوران يفيد ظن العلية فإذا حصل في الحكم الشرعي حصل ظن العلية واحتج المانعون بأن قالوا الدوران لا يفيد ظن العلية فيما له صلاحية العلة ولا نسلم أن

الحكم الشرعي يصلح أن يكون علة للحكم الشرعي وبيانه بأمور أحدها أن الحكم الشرعي الذي فرض علة يحتمل كونه متقدما على الحكم الذي جعل معلولا ويحتمل كونه متأخرا ويحتمل كونه مقارنا وعلى تقدير التقدم لم يصلح للعلية وإلا لزم تخلف الحكم عن علته وعلى تقدير التأخر لم يصلح للعلية لأن المتأخر لا يكون علة للمتقدم وعلى تقدير المقارنة يحتمل أن تكون العلة هو وأن تكون غيره فإذن هو على التقديرات الثلاثة لا يكون علة وعلى تقدير واحد يكون علة ولا شك أن العبرة في الشرع بالغالب لا بالنادر فوجب الحكم بأنه ليس بعلة وثانيها أن تفسير العلة إما بالمعرف أو الداعي أو المؤثر فإن فسرناها بالمعرف امتنع تعليل حكم الأصل بحكم آخر لأن المعرف لحكم الأصل هو النص لا غيره

وأما الثاني والثالث فباطلان لأن من يقول بالمؤثر والداعي يقول المؤثر والداعي جهات المفاسد والمصالح فالقول بأن الحكم الشرعي مؤثر أو داع خرق للإجماع وهو باطل وثالثها أن شرط العلة التقدم على المعلول وتقدم أحد الحكمين على الآخر غير معلول فإذن شرط العلية مجهول فلا يجوز الحكم بالعلية ورابعها أن الشرع إذا أثبت حكمين في صورة واحدة فليس لأحدهما مزية على الآخر في الوجود والافتقار والمعلومية فليس جعل أحدهما على للأخر أولى من العكس فإما أن نحكم بكون كل واحدة منهما على للآخر وهو محال أو لا يكون واحد منهما على للآخر وهو المطلوب والجواب عن الأول لا نسلم أن بتقدير التأخر لا يصلح للعلية لأن المراد من العلة المعرف والمتأخر يجوز كونه معرفا للمتقدم وعن الثاني أنا نفسر العلة المعرف قوله الحكم محل النص معرف بالنص لا بغيره قلنا سبق الجواب عنه في مقدمة الباب الثاني وعن الثالث لا نسلم أن التقدم شرط العلية على ما بيناه

المسألة السابعة: في التعليل بالأوصاف العرفية

وعن الرابع نقول قوله ليس جعله علة للآخر بأولى من العكس قلنا لا نسلم فإنه ربما لا تتأتى المناسبة من الجانب الآخر وإن سلمنا ذلك فنقول إنه يجوز كون كل واحد منهما على لصاحبه بمعنى كون كل واحد منهما معرفا لصاحبه فرع إذا جوزنا تعليل الحكم الشرعي بالحكم الشرعي فهل يجوز تعليل الحكم الحقيقي بالحكم الشرعي ومثاله أن نعلل إثبات الحياة في الشعر بأنه يحرم الطلاق ويحل النكاح فيكون حيا كاليد والحق انه جائز لأن المراد من هذه العلة المعرف ولا يمتنع أن يجعل الحكم الشرعي معرفا للأمر الحقيقي المسألة السابعة يجوز التعليل بالأوصاف العرفية وهي الشرف والخسة والكمال والنقصان ولكن بشرطين

المسألة الثامنة: في التعليل بالوصف المركب

أحدهما أن يكون مضبوطا متميزا عن غيره والثاني أن يكون مطردا لا يختلف باختلاف الأوقات فإنه لو لم يكن كذلك لجاز أن لا يكون ذلك العرف حاصلا في زمان الرسول ص وحينئذ لا يجوز التعليل به المسألة الثامنة يجوز التعليل بالوصف المركب عند الأكثرين وقال قوم لا يجوز لنا أن المناسبة مع الاقتران والدوران تفيد ظن العلية فيجب العمل به احتج المنكرون بأمور ثلاثة أحدها أن جواز التركيب في العلة يوجب تطرق النقض إلى العلة العقلية واللازم محال فالملزوم مثله بيان الملازمة أن كل ماهية مركبة فان عدم كل واحد من أجزائها علة لعدم علية تلك الماهية لأن كون الماهية علة صفة من صفات الماهية وتحقق الصفة يتوقف على تحقق الموصوف

وإذا كانت كذلك كان عدم كل واحد من أجزاء الماهية علة تامة لعدم علية تلك الماهية فإذا عدم جزء من أجزائها فقد عدمت العلية فإذا عدم بعد ذلك جزء آخر لم يكن عدم هذا الجزء الثاني علة لعدم علية تلك الماهية لأن ذلك قد حصل عند عدم الجزء الأول فلا يحصل مرة أخرى بعدم الجزء الثاني فقد حصل عدم جزء الماهية مع أنه لم يترتب عليه عدم علية تلك الماهية فقد وجد النقض في العلة العقلية لأن كون عدم جزء الماهية علة لعدم علية الماهية أمر حقيقي سواء كانت علية الشئ عقلية أو وضعية فإن قلت فهذا يقتضي أن لا يكون في الوجود ماهية مركبة لأن عدم كل واحد من أجزائها علة مستقلة لعدم تلك الماهية ويعود المحال قلت ليست الماهية أمرا وراء مجموع تلك الأجزاء فلم يكن عدم أحد تلك الأجزاء علة لعدم شئ آخر وأما علية الماهية فهى حكم زائد على ذات الماهية وعدمها معلل بعدم كل واحد من أجزاء الماهية فظهر الفرق وثانيها أن كون الشئ علة لغيره صفة لذلك الشئ سواء حصلت له تلك الصفة بذاته أو بالجعل

فإذا كان الموصوف بالعلية أمرا مركبا فإما أن يقال حصلت تلك الصفة بتمامها لكل واحد من تلك الأجزاء وهو محال أما أولا فلأنه يلزم الصفة الواحدة في المحال الكثيرة وهو محال وأما ثانيا فلأنه يلزم كون كل واحد من تلك الأجزاء علة تامة لأنه لا معنى لكون الشئ علة إلا حصول العلية فيه وإما أن يقال حصل في كل واحد من أجزاء العلة جزء من تلك العلية وهذا أيضا محال لأنه يقتضي انقسام الصفة العقلية حتى يكون للعلية نصف وثلث وربع وهو محال وثالثها أن كل واحد من تلك الأجزاء لم يكن علة فعند انضمامها إما أن يكون قد حدث أمر لم يكن أو ما كان كذلك فإن حدث أمر فالمقتضي لحدوث ذلك الأمر أما كل واحد من تلك الأجزاء أو مجموعها فإن كان الأول كان كل واحد من الأجزاء مستقلا بأقتضاء به العلية فوجب كون كل واحد منها علة تامة وذلك محال وإن كان الثاني كان الكلام في اقتضاء ذلك المجموع لذلك الأمر

الحادث كالكلام في اقتضاء ذلك المجموع للعلية فيلزم أن يكون بواسطة حدوث شئ اخر ولزم التسلسل وهو محال وإن قلنا إنه لم يحدث أمر لم يكن حاصلا فتلك الأجزاء حالة الاجتماع كهى حالة الانفراد ولكنها حالة الانفراد ما كانت علة فكذا عند الاجتماع والجواب عن الأول أن النقض إنما يلزم لو جعلنا عدم جزء الماهية علة لعدم علية الماهية وهو بناء على كون العدم علة وهو ممنوع وعن الثاني أن العلية ليست صفة ثبوتية وإلا لزم التسلسل على ما قررناه وإذا لم تكن صفة ثبوتية امتنع القول بأنها إما أن تحل كل واحد من الأجزاء بتمامها أو تنقسم بحسب انقسام أجزاء الماهية وعن الثالث أنه منقوض بكل واحد من العشرة فإنه ليس بعشرة وعند اجتماعها يكون المجموع عشرة فكذا هاهنا فرعان الأول نقل الشيخ أبو إسحاق الشيرازي رحمه الله عن بعضهم أنه قال لا

يجوز أن تزيد الأوصاف على سبعة وهذا الحصر لا أعرف له حجة الثاني في الفرق بين جزء العلة ومحلها وشرط ذات العلة وشرط عليتها وقبل الخوض فيه لا بد من حد الشرط وذكروا فيه وجهين الأول أنه الذي يلزم من عدمه عدم الحكم ولا يكون جزءا من العلة والثاني أنه الذي يلزم من عدمه مفسدة دافعة لوجود الحكم إذا عرفت ذلك فمن الناس من أنكر هذا الفرق ومنهم المثبتون للطرد والمنكرون لتخصيص العلة واحتجوا عليه بأن العلة الشرعية ما يكون معرفا للحكم وهو إنما يكون معرفا للحكم عند اجتماع كل القيود من الشرط والإضافة إلى

الأهل والمحل فيكون كل واحد من هذه القيود جزءا من المعرف للحكم فيكون جزءا من العلة بلى لا ننكر لأن بعض هذه القيود أقوى في الوجود من بعض فإن القتل له ذات وحقيقة ثم له صفة وهي إضافته إلى القاتل وإلى المقتول وذات القتل أقوى في الوجود من هذه الإضافات لاحتياجها إليه في الوجود وقد يكون بعض تلك القيود مناسبا دون البعض أو يكون بعضها أقوى في المناسبة من بعض ولكن مع تسليم هذا المقام فالمعتبر في تعريف الحكم هو المجموع وحينئذ لا يبقى بين جزء العلة وبين شرطها فرق وفائدة هذا البحث أنه إذا صدر بعض تلك الأجزاء عن إنسان وصدر الثاني عن إنسان آخر فإن كانت تلك الأجزاء متساوية في القوة والمناسبة اشتراكا وإلا نسب الفعل إلى فاعل الجزء الأقوى وهذه الفائدة حاصلة سواء سميناها جزء العلة أو شرطها ومن الناس من سلم الفرق وزعم أن العلة إنما تعرف عليتها بالنص أو بالاستنباط فإن كان الأول فالقدر الذي دل النص على كونه مناطا للحكم هو العلة وسائر القيود التي عرف اعتبارها بدلائل منفصلة نجعلها شرائط وإن كان الثاني فالذي يكون مناسبا هو العلة والذي يكون معتبرا في

المسألة التاسعة: في التعليل بالإسم

تحقق المناسبة ولا يكون كافيا فيها هو جزء العلة والذي لا يكون مناسبا ولا جزءا منه فهو الشرط هذا إذا عرفنا علية الوصف بالمناسبة أما إذا عرفناها بسائر الطرق لم يتجه هذا الفرق المسألة التاسعة اتفقوا على أنه لا يجوز التعليل بالاسم مثل تعليل تحريم الخمر بأن العرب سمته خمرا فإنا نعلم بالضرورة أن مجرد هذا اللفظ لا أثر له فإن أريد به تعليله بمسمى هذا الاسم من كونه مخامرا للعقل فذلك

المسألة العاشرة: في التعليل بالعلة القاصرة

يكون تعليلا بالوصف لا بالاسم المسألة العاشرة مذهب الشافعي رضي الله عنه أن يجوز التعليل بالعلة القاصرة وهو قول أكثر المتكلمين وقال أبو حنيفة وأصحابه لا يجوز ووافقونا في العلة المنصوصة لنا أن صحة تعدية العلة إلى الفرع موقوفة على صحتها في نفسها

فلو توقفت صحتها في نفسها على صحة تعديتها إلى الفرع لزم الدور وإذا لم تتوقف على ذلك فقد صحت العلة في نفسها سواء كانت متعدية أو لم تكن فإن قيل لم لا يجوز أن يقال إن صحتها في نفسها لا تتوقف على صحة تعديتها بل على صحة وجودها في غير الأصل وحينئذ ينقطع الدور سلمنا ذلك ولكن وجد هاهنا ما يدل على فساد العلة القاصرة وهو من وجوه الأول أن العلة القاصرة لا فائدة فيها وما لا فائدة فيه كان عبثا وهو على الحكيم غير جائز وإنما قلنا إنه لا فائدة فيها لأن الفائدة من العلة التوسل بها إلى معرفة الحكم وهذه الفائدة مفقودة هاهنا لأنه لا يمكن في القاصرة أن يتوسل بها إلى معرفة الحكم في الأصل لأن ذلك معلوم في النص ولا يمكن التوسل بها إلى معرفة الحكم في غير الأصل لأن ذلك إنما يمكن أن لو وجد ذلك الوصف في غير الأصل فإذا لم يوجد امتنع حصول تلك الفائدة

وإنما قلنا إن مالا فائدة فيه عبث وإن العبث غير جائز فذلك للإجماع الثاني الدليل ينفي القول بالعلة المظنونة لأنه اتباع الظن وهو غير جائز لقوله تعالى إن الظن لا يغني من الحق شيئا ترك العمل به في العلة المعتدية لأن فيها فائدة وهى التوسل بها إلى معرفة الحكم في غير محل النص وهذه الفائدة مفقودة في القاصرة فوجب بقاؤها على الأصل الثالث العلة الشرعية أمارة فلابد وأن تكون كاشفة عن شئ والعلة القاصرة لا تكشف عن شئ من الأحكام فلا تكون أمارة فلا تكون علة والجواب قوله لم لا يجوز أن يقال صحة كونها علة موقوفة على صحة وجودها في غير ذلك المحل

قلنا لأن الحاصل في محل آخر لا يكون هو بعينه لاستحالة حلول الشئ الواحد في محلين بل يكون مثله وإذا كان كذلك فنقول كل ما يحصل له من الصفات عند حلول مثله في محل آخر يكون ممكن الحصول له عند عدم حلول مثله في محل آخر لأن حكم الشئ حكم مثله فإذا أمكن حصول كل تلك الأمور فبتقدير تحقق ذلك وجب أن تكون علة لأن تلك العلية ما حصلت إلا بسبب تلك الأمور وأما المعارضة الآولى وهى أنه لا فائدة فيها قلنا لا نسلم قوله الفائدة أن يتوسل بها إلى معرفة الحكم قلنا نسلم أن معرفة الحكم فائدة لكن لا نسلم أنه لا فائدة إلا هى فما الدلالة على هذا الحصر ثم إنا نبين فائدتين أخريين الأولى أن نعرف أن الحكم الشرعي مطابق لوجه الحكمة والمصلحة وهذه فائدة معتبرة لأن النفوس إلى قبول الأحكام المطابقة للحكم والمصالح أميل وعن قبول التحكم الصرف والتعبد المحض أبعد

الثانية أنه لا فائدة أكثر من العلم بالشئ لأنا إذا علمنا الحكم ثم اطلعنا على علته صرنا عالمين أو ظانين بما كنا غافلين عنه وذلك محبوب القلوب ولا يمتنع أيضا أن يكون لنا فيه مصلحة سلمنا أنه لا بد وأن يتوسل بالعلة إلى معرفة الحكم لكن في جانب الثبوت أو في جانب العدم الأول ممنوع والثاني مسلم وهاهنا أمكن التوسل به إلى عدم الحكم بيانه أنه إذا غلب على ظننا كون حكم الأصل معللا بعلة قاصرة امتنعنا من القياس عليه فلا يثبت الحكم في الفرع فإن قلت يكفى في الامتناع من القياس أن لا نجد علة متعدية فإما التعليل بالعلة القاصرة فلا حاجة إليه في الامتناع من القياس قلت يجوز أن يوجد في الأصل وصف متعد مناسب لذلك الحكم فلو لم يجز التعليل بالعلة القاصرة لبقى ذلك الوصف المتعدى خاليا من المعارض فكان يجب التعليل به وحينئذ كان يلزم ثبوت الحكم في الفرع أما لو جاز التعليل بالوصف القاصر صار معارضا لذلك الوصف المتعدى

وحينئذ لا يثبت القياس ويمتنع الحكم سلمنا أنه لا فائدة فيها فلم قلتم إنها تكون باطلة فإنه لا يمتنع كونها علة مؤثرة في الحكم مع أن الطالب لها يكون طالبا لما لا ينتفع به حين يتشاغل بطلب ما هو مستغن عنه سلمنا إن مالا فائدة فيه لا يجوز إثباته ولكن لا يجوز ذلك قبل أن يعلم أنه لا فائدة فيه أو بعد أن يعلم ذلك وهاهنا المستنبط للعلة حال طلبه لها لا يعلم أن تلك العلة متعدية أو قاصرة فلا يمكن منعه عن ذلك الطلب وبعد وقوفه على العلة القاصرة لا يمكن منعه عن معرفتها لأن ذلك خارج عن وسعه سلمنا كل ما ذكروه ولكنه منقوص بالتنصيص على العلة القاصرة فإن كل ما ذكروه حاصل فيها مع جوازها قوله الدليل ينفي القول بالعلة المظنونة قلنا لا نسلم والتمسك بالآية سبق الجواب عنه في مسألة إثبات القياس وأيضا قد بينا أن العلة المتعدية كما أنها وسيلة إثبات الحكم فالعلة القاصرة وسيلة إلى نفى الحكم فوجب كون القاصرة صحيحة لأنها على وفق النافي والمتعدية على خلافها قوله هذه الأمارة لا تكشف عن حكمة

المسألة الحادية عشرة: في التعليل بالصفات المقدرة

قلنا لا نسلم بل تكشف عن المنع من استعمال القياس سلمناه لكنه يكشف عن حكمة الحكم سلمناه لكنه منقوض بالعلة القاصرة المنصوصة فرع اختلفوا في أن الحكم في مورد النص ثابت بالنص أو بعلة النص فقالت الحنفية لا يمكن ثبوته بالعلة لأن الحكم معلوم والعلة مظنونة والمظنون لا يكون طريقا إلى المعلوم وأصحابنا جوزوه والخلاف فيه لفظى لأنا نعنى بالعلة هاهنا أمرا مناسبا يغلب على الظن أن الشرع أثبت الحكم لأجله وذلك مما لا يمكن إنكاره المسألة الحادية عشرة الحق أنه لا يجوز التعليل بالصفات المقدرة خلافا لبعض الفقهاء

العصريين مثاله قولهم الملك معنى مقدر شرعي في المحل أثره إطلاق التصرفات وربما قالوا الملك الحادث يستدعى سببا حادثا وذلك هو قوله بعت واشتريت وهاتان الكلمتان مركبتان من الحروف المتوالية وكل واحد من تلك الحرف لا يوجد عند وجود الحرف الآخر فإذن ليس لهاتين الكلمتين وجود حقيقي لكن لهما وجودا تقديريا وهو أن الشارع قدر بقاء تلك الحروف إلى حين حدوث الملك ضرورة أنه لا بد من وجود السبب حال حصول المسبب وقد يذكرون هذا التقدير في جانب الأثر فيقولون إن من عليه الدين يكون ذلك الدين مقدرا في ذمته واعلم أن هذا الكلام من جنس الخرافات لأن الوجوب إما أن يكون مفسرا بمجرد تعلق خطاب الشرع على ما هو مذهبنا أو يكون الفعل في نفسه بحيث يكون للإحلال به مدخل في استحقاق الذم على ما هو قول المعتزلة

المسألة الثانية عشرة: في أن يكون للعلة حكم واحد أو أكثر

فإن كان الأول لم يكن لتعلق الخطاب حاجة إلى معنى محدث يكون علة له لأن ذلك التعلق قديم أزلى فكيف يكون معللا بالمحدث وإن كان الثاني فالمؤثر في الحكم جهات المصلحة والمفسدة فلا حاجة فيه إلى بقاء الحروف وأيضا فالمقدر يجب أن يكون على وفق الواقع والحروف لو وجدت مجتمعة لخرجت عن أن تكون كلاما فلو قدر الشرع بقاء الحروف التي حصل منها قوله بعت واشتريت لم يحصل عند اجتماعها هذا الكلام وأما تقدير المال في الذمة فهو ساقط جدا بل لا معنى له إلا أن الشرع مكنه إما في الحال أو في الاستقبال من أن يطالبه بذلك القدر من المال فهذا معقول شرعا وعرفا فأما التقدير في الذمة فهو من الترهات التي لا حاجة في العقل والشرع إليها المسألة الثانية عشر هاهنا أبحاث الأول العلة قد يكون لها حكم واحد وهو ظاهر وقد يكون حكمها أكثر من واحد وتلك الأحكام إما أن تكون متماثلة أو مختلفة غير متضادة أو مختلفة متضادة فالأول إما أن يكون في ذات واحدة أو في ذاتين

والأول محال لامتناع اجتماع المثلين والثاني جائز وهو كالقتل الذي حصل بفعل زيد وعمرو فإنه يوجب القصاص على كل واحد منهما وأما الثاني وهو أن توجب أحكاما مختلفة غير متضادة فهو جائز كتحريم الإحرام ومس المصحف والصوم والصلاة بالحيض وأما الثالث وهو أن توجب العلة أحكاما متضادة فلا يخلو إما ان يتوقف إيجابها لها على شرط أو لا يتوقف فإن كان الأول فالشرطان إما أن لا يجوز اجتماعهما أو يجوز فإن لم يجز جاز أن تكون العلة موجبة لحكمين متضادين عند حصول شرطين لا يجتمعان وإن كان يجوز اجتماعهما فهو محال لأنهما إذا اجتمعا لم تكن العلة باقتضاء أحدهما أولى من اقتضاء الآخر فوجب أن تقتضيهما جميعا وهو محال أو لا تقتضى واحدا منهما وحينئذ تخرج العلة عن أن تكون علة وبهذا البيان يظهر أيضا أنه لا يجوز أن يتوقف اقتضاء العلة معلوليها هذا المتضادين على شرط

المسألة الثالثة عشرة: في الاستدلال بعلية العلة على الحكم

الثاني من شرط العلة اختصاصها بمن له الحكم وإلا لم يكن اقتضاء حصول الحكم لشئ أولى من اقتضائه لغيره الثالث أن اقتضاءها معلولها قد يكون موقوفا على شرط مثل الزنا فإنه لا يوجب الرجم إلا بشرط الإحصان وقد لا يكون وهو ظاهر الرابع العلة قد تكون علة لإثبات الحكم في الابتداء كالعدة في منع الحل وقد تكون علة في الابتداء والانتهاء كالرضاع في إبطال النكاح وقد تكون العلة قوية على الدفع لا على الرفع مثل العدة والردة فإنهما يدفعان النكاح ويرفعانه وقد تكون قوية عليهما معا المسألة الثالثة عشر قد يستدل بذات العلة على الحكم وقد يستدل بعلية العلة على الحكم فالأول مثل أن يقال قتل عمد عدوان فيكون موجبا للقصاص

المسألة الرابعة عشرة: تعليل الحكم العدمي بالوصف الوجودي

والثاني أن يقال القتل العمد العدوان سبب لوجوب القصاص وقد وجد فيجب القصاص فالأول صحيح والثاني باطل لأنه لا فرق بين ماهية القتل وبين كونه سببا للقصاص فإنه قد يفهم كونه قتلا مع الذهول عن السببية وقد تفهم السببية مع الذهول عن كونه قتلا والسببية أمر إضافي والأمور الإضافية يتوقف ثبوتها على ثبوت كل واحد من المضافين فدعوى كون القتل سببا لوجوب القصاص يتوقف على ثبوت القتل وثبوت وجوب القصاص لأن قولنا هذا سبب لذلك يستدعى تحقق هذا وتحقق ذاك حتى يحكم على هذا بأنه سبب لذاك وإذا كانت دعوى السببية متوقفة على ثبوت الحكم أولا فلو استفدنا ثبوت الحكم من ذكر السببية لزم الدور وإنه محال فعلمنا أنه لا يمكن الاستدلال بعلية الوصف وسببيته على ثبوت الحكم المسألة الرابعة عشر تعليل الحكم العدمي بالوصف الوجودى لا يتوقف على بيان ثبوت

المقتضى لذلك الحكم وهذه المسألة من تفاريع جواز تخصيص العلة فإنا إذا أنكرناه امتنع الجمع بين المقتضي والمانع أما إذا جوزناه جاء هذا البحث والحق أنه غير معتبر لدليلين الأول أن الوصف الوجودى إذا كان مناسبا للحكم العدمي أو كان دائرا معه وجودا وعدما حصل ظن أن ذلك الوصف علة لذلك العدم والظن حجة والثاني أن بين المقتضى والمانع معاندة ومضادة والشئ لا يتقوى بضده بل يضعف به وإذا جاز التعليل بالمانع حال ضعفه فلأن يجوز ذلك حال قوته وهو حال عدم المقتضى كان أولى واحتج المخالفو بأمور أحدها أنا إذا عللنا انتفاء الحكم بالمانع فالمعلل إما عدم مستمر أو عدم متجدد والأول باطل لأن العدم المستمر كان حاصلا قبل حصول هذا المانع بل قبل الشرع والحاصل قبل يمتنع تعليله بالحاصل بعد

والثاني تسليم المقصود لأن عدم الحكم لا يحصل فيه التجدد إلا إذا امتنع من الدخول في الوجود بعد أن كان بعرضية الدخول في الوجود وذلك لا يتحقق إلا عند قيام المقتضي وثانيها أن انتفاء الحكم لانتفاء المقتضى أظهر عند العقل من انتفائه لحصول المانع وإذا كان كذلك فإما أن يكون ظن تحقق انتفاء المقتضى مثل ظن تحقيق وجود المانع أو أقوى منه أو أضعف منه فان كان الأول امتنع تعليل عدم الحكم بوجود المانع لأن عدم المقتضى ووجود المانع لما استويا في الظن واختص عدم المقتضى بمزية وهى أن ظن اسناد عدم الحكم إليه أقوى من ظن إسناده إلى وجود المانع كان ظن تعليل عدم الحكم بعدم المقتضي أقوى من تعليله بوجود المانع والأقوى راجح فيلزم أن لا يجوز تعليل عدم الحكم بالمانع وأما إن كان ظن عدم المقتضى أظهر فالتقدير المذكور أظهر وأما إن كان ظن عدم المقتضى مرجوحا بالنسبة إلى وجود المانع فظن العدم إنما يكون مرجوحا لو كان ظن الوجود راجحا وذلك يدل على أن التعليل بالمانع يتوقف على رجحان وجود المقتضى وهو المطلوب

وثالثها أن التعليل بالمانع يتوقف على بيان المقتضى عرفا فيتوقف عليه شرعا أما الأول فلأن من قال الطير إنما لا يطير لأن القفص يمنعه فهذا التعليل موقوف على العلم بكون الطير حيا قادرا فإن بتقدير موت الطير يمتنع تعليل عدم الطيران بالقفص وكذا من علل عدم حضور زيد في السوق بحضور غريم له هناك لابد أن يبين أنه كان قادرا على الحضور وإلا لما صح ذلك التعليل عرفا وأما الثاني فلقوله عليه الصلاة والسلام ما رأه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح ورابعها أن عدم المقتضى مستلزم لعدم الحكم فلو حصل عدم المقتضى لامتنع إسناد ذلك العدم إلى وجود المانع لأن تحصيل الحاصل محال فثبت أنه لا بد من بيان وجود المقتضي والجواب عن الأول أن العلة الشرعية معرفة والمعرف يجوز تأخيره عن المعرف

قوله إنما يصير الحكم شرعيا إذا كان بحيث لو سكت الشرع لما ثبت قلنا نحن لا نعنى بكون هذا الانتفاء شرعيا إلا أنه لم يعرف إلا من قبل الشرع وذلك حاصل بدون ما قلتموه وعن الثاني أن مجرد النظر إلى وجود المانع يقتضي ظن عدم الحكم بدون الالتفات إلى الأقسام الثلاثة التي ذكرتموها وعن الثالث أنا لا نسلم أن ظن اسناد عدم الحكم إلى وجود المانع يتوقف على العلم بوجود المقتضى عرفا ألا ترى أنا إذا علمنا وجود سبع في الطريق فهذا القدر يكفى في حصول ظن أنه لا يحضر وإن كان لا يخطر ببالنا في ذلك الوقت سلامة أعضائه بل نجعل ذلك القدر دليلا لنا ابتداءا فنقول مجرد النظر إلى المانع يفيد ظن عدم الحكم الحكم عرفا فليفده شرعا للحديث وعن الرابع أن ترادف الدلائل والمعرفات رسول على الشئ الواحد لا نسلم أنه خلاف الأصل

المسألة الخامسة عشرة: في اشتراط الإتفاق على تعليل الأصل

فرع لو سلمنا أن التعليل بالمانع يتوقف على وجود المقتضى لكن لا حاجة إلى ذكر دليل منفصل على وجود المقتضى بل يكفي أن يقال إما أن لا يكون المقتضى موجودا في الفرع وحينئذ يلزم عدم الحكم في الفرع أو قد حصل المقتضى في الفرع لكنه إنما ثبت فيه تحصيلا لمصلحته ودفعا لحاجته وهذا المعنى قائم في الأصل فيلزم ثبوت المقتضى في الأصل وإذا ثبت ذلك فقد صح جواز تعليل عدم الحكم فيه بالمانع المسألة الخامسة عشر قال بعضهم وجود الوصف الذي يجعل علة في الأصل لابد وأن

يكون متفقا عليه وهذا ضعيف لأنه لما أمكن إثباته بالدليل حصل الغرض بل الحق أن ذلك قد يكون معلوما بالضرورة وقد يكون معلوما بالبرهان اليقينى وقد يكون معلوما بالأمارة الظنية وهذا آخر الكلام في العلة

القسم الثالث في المباحث المتعلقة بالحكم والأصل والفرع وفيه ثلاثة أبواب

القسم الثالث في المباحث المتعلقة بالحكم والأصل والفرع وفيه ثلاثة أبواب

الباب الأول في مباحث الحكم وفيه مسائل

الباب الأول في مباحث الحكم وفيه مسائل المسألة الأولى اتفق أكثر المتكلمين على صحة القياس في العقليات ومنه نوع يسمونه إلحاق الغائب بالشاهد قالوا ولابد من جامع عقلى والجامع أربعة العلة والحد والشرط والدليل أما الجمع بالعلة فكقول أصحابنا إذا كانت العالمية شاهدا فيمن له العلم معللة بالعلم وجب أن يكون كذلك غائبا وأما الجمع بالحد فكقول القائل حد العالم شاهدا من له العلم فيجب طرد الحد غائبا وأما الجمع بالشرط فكقولنا العلم مشروط بالحياة شاهدا فكذلك غائبا وأما الجمع بالدليل فكقولنا التخصيص والأحكام يدلان على

العلم والإرادة شاهدا فكذلك غائبا واعلم إنه لما كان الجمع بالعلة أقوى الوجوه وجب علينا أن نتكلم فيه فنقول اعتماد القياس على مقدمتين إحداهما أن الحكم ثبت في الأصل لعلة كذا وثانيتهما أن تلك العلة حاصلة بتمامها في الصورة الآخرى فهاتان المقدمتان إن حصل العلم بهما حصل العلم بثبوت الحكم في الفرع وإن حصل الظن بهما حصل الظن بثبوت الحكم في الفرع وإنما قلنا إنه يلزم من حصول العلم بتينك المقدمتين حصول العلم بالنتيجة وذلك لأنه إذا ثبت أن ذلك المعنى مؤثر في ذلك الحكم ثم ثبت ذلك المعنى في صورة أخرى فنقول كون ذلك المعنى مؤثرا في ذلك الحكم في تلك الصورة إما أن يعتبر في تلك المؤثرية كونه حاصلا في تلك الصورة أو كونه غير حاصل في هذه الصورة وأما أن لا يعتبر فيها ذلك فإن كان الأول لم يكن ذلك المعنى اتمام العلة لأن مرادنا من تمام العلة كل ما لابد منه في المؤثرية فإذا كان لا بد من قيد كون المعنى هناك أو قيد كونه ليس هناك فذاك المعنى ليس وحده تمام العلة على التفسير الذي ذكرناه وإن كان الثاني فتمام المؤثر حصل في الأصل مستلزما للحكم وفي الفرع غير مستلزم للحكم مع أنه لم يختلف حاله ألبتة في الصورتين

لا بحسب زوال شئ عنه ولا بحسب انضمام شئ إليه فيلزم حينئذ ترجح أحد طرفي الممكن المساوي على الآخر من غير مرجح وهو محال فثبت بهذا البرهان الباهر أنه يلزم من العلم بتينك المقدمين حصول العلم بثبوت الحكم في الفرع وإذا ثبت هذا ظهر أن بتقدير حصول هاتين المقدمتين في العقليات كان القياس حجة فيها فإن قلت حاصل الكلام فيما ذكرته هو الاستدلال بحصول العلة على حصول المعلول وليس هو بقياس قلت بل هذا هو القياس فإنا إذا رأينا الحكم حاصلا في صورة معية ثم قامت الدلالة على أن المؤثر في ذلك الحكم هو الوصف الفلانى ثم قامت الدلالة على أن ذلك الوصف حاصل في هذه الصورة الثانية لزم القطع بحصول الحكم في الصورة الثانية بل تحصيل اليقين بهاتين المقدمتين أمر صعب وذلك لأنا وإن بينا أن الحاصل في الفرع مثل الحاصل في الأصل فالمثلان ولا لابد وأن يتغايرا بالتعين والهوية وإلا فهذا عين ذاك وذاك عين هذا فيكون كل واحد منهما عين الآخر فالاثنان واحد هذا خلف

وإذا حصل التغاير بالتعين والهوية فلعل ذلك التعين في أحد الجانبين جزء العلة أو شرط العلية وفي الجانب الآخر يكون مانعا من العلية ومع هذا الاحتمال لا يحصل القطع وأعلم أن للمتكلمين طرقا في تعيين العلة أحدها التقسيم الذي لا يكون منحصرا فإذا قيل لهم لم لا يجوز وجود قسم آخر قالوا اجتهدنا في طلبه فما وجدناه وعدم الوجدان بعد الاستقصاء في الطلب يدل على عدم الوجود كالمبصر لم إذا طلب شيئا في الدار ونظر إلى جميع جوانبها في النهار فلم يجد قطع بالعدم وهذا ضعيف إذ رب موجود ما عرفناه بعد الطلب والقياس على نظر العين قياس من غير جامع وبتقدير ذكر الجامع فهو إثبات القياس بالقياس وهو باطل وثانيها الدوران الخارجى وقد تقدم بيان أنه لا يفيد الظن فضلا عن اليقين وثالثها الدوران الذهنى كقولهم متى عرفنا كون التكليف أمرا بالمحال عرفنا

قبحه وإن لم نعرف شيئا آخر ومتى لم نعرف كونه أمرا بالمحال لم نعرف قبحه وإن عرفنا سائر صفاته فإذن العلم بالقبح دائر مع العلم بكونه أمرا بالتكليف بالمحال في الذهن فهذا الدوران الذهنى يفيد الجزم بأن المؤثر في القبح هو نفس كونه أمرا بالتكليف فنقول كلامكم يشتمل على أمرين أحدهما أنه لما لزم من العلم بكونه أمرا بالمحال العلم بقبحه لزم أن يكون كونه أمرا بالمحال علة لقبحه والثاني أنه لما لم يلزم من العلم بسائر صفاته العلم بكونه قبيحا وجب أن لا يكون سائر صفاته علة لكونه قبيحا وأنتم منازعون في هذين المقامين فلا بد من الدلالة عليهما فإن العلم بهما ليس من العلوم الضرورية كالعلم بأن الواحد نصف الاثنين وما رأيت أحدا من المتكلمين ذكر في تقرير هذين المقامين شيئا على أن الأول منقوض بجميع الإضافات فإنا متى علمنا كون هذا الشخص أبا علمنا كون هذا الشخص الآخر أبنا وكذا بالعكس مع أنه يستحيل أن يكون كون هذا أبا لذاك علة لكون ذلك أبنا لهذا لأن المضافين معا والعلة قبل المعلول والمع لا يكون قبل وأما الثاني فلأنه لا يمكن القطع بأنا إذا عرفنا سائر صفاته فإنه لا يحصل

العلم عند ذلك بكونه قبيحا إلا إذا عرفنا كل صفة فكيف يمكننا أن نقطع بأنا عرفنا كل صفاته فإنا إذا جوزنا أن يكون من الصفات ما لم نعرفه جوزنا في بعض تلك الصفات التي لم نعرفها أن يجب عند العلم به العلم بكونه قبيحا ومع هذا التجويز لا تتم هذه المقدمة سلمنا أنه لا يلزم من العلم بسائر الصفات العلم بكونه قبيحا فلم يدل هذا القدر على أن سائر الصفات لا يجوز أن تكون مؤثرة في القبح واعلم أن الكلام في تقرير هاتين المقدمتين مأخوذ من الفلاسفة فإنهم زعموا أن العلم بالعلة علة للعلم بالمعلول فعلى هذا كل ما كان علة للقبح يلزم من العلم به العلم بالقبح وزعموا أن العلم اليقينى بوجود المعلول لا يحصل إلا من العلم بعلته فلما لزم الجزم بالقبح عند العلم بكونه أمرا بالتكليف بالمحال علمنا أن علة القبح ذلك ولكنا قد نقلنا في كتبنا الكلامية دلائلهم على هاتين المقدمتين وبينا ضعفهما وسقوطهما فلا نعيدهما هاهنا وبالله التوفيق

المسألة الثانية القياس في اللغات

المسألة الثانية الحق جواز القياس في اللغات وهو قول ابن سريج منا ونقل ابن جنى في الخصائص أنه قول أكثر علماء العربية كالمازني وأبي علي الفارسي وأما أكثر أصحابنا وجمهور الحنفية فينكرونه لنا وجوه الأول أنا رأينا أن عصر العنب لا يسمى خمرا قبل الشدة الطارئة فإذا حصلت تلك الشدة سميت خمرا فإذا زالت الشدة مرة أخرى زال الاسم والدوران يفيد ظن العلية فيحصل ظن أن العلة لذلك الاسم هو الشدة ثم رأينا الشدة حاصلة في النبيذ فيحصل ظن أن علة هذا الاسم حاصلة في النبيذ ويلزم من ظن حصول علة الاسم ظن حصول الاسم فإذا حصل ظن أنه مسمى بالخمر وعلمنا أو ظننا أن الخمر حرام حصل ظن أن النبيذ حرام والظن حجة فوجب الحكم بحرمة النبيذ فإن قيل الدوران إنما يفيد ظن العلية فيما يحتمل العلية وهاهنا لم يوجد الاحتمال لأنه ليس من بين شمن الألفاظ وشئ من المعاني مناسبة أصلا فأستحال ابن أن يكون شئ من المعاني داعيا للواضع إلى تسميته

بذلك الاسم وإذا لم يوجد احتمال العلية هاهنا لم يكن الدوران ها هنا مفيدا لظن العلية سلمنا أنه حصل ظن العلية ولكن إنما يلزم من حصول العلة في الفرع حصول ذلك الحكم إذا اثبت أن تلك العلة إنما صارت علة لأن الشارع جعلها علة ألا آخر أنه لو قال اعتقت غانما لسواده فإذا كان له عبد آخر أسود لم يعتق عليه لأن ما يجعله الإنسان علة لحكم لا يجب أن يتفرع عليه الحكم أينما وجد فكذا هاهنا لا يلزم من كون الشدة علة لذلك الاسم حصول ذلك الاسم أينما حصلت الشدة إلا إذا عرفنا أن واضع الاسم هو الله تعالى والجواب عن الأول إنه لا يمكن جعل المعنى علة للاسم إذا فسرنا العلة بالداعي أو المؤثر أما إذا فسرنا بالمعرف فلا يمتنع كما أن الله تعالى جعل الدلوك علة لوجوب الصلاة لا بمعنى كون الدلوك مؤثرا أو داعيا بل بمعنى أن الله تعالى جعله معرفا فكذا هاهنا وعن الثاني أنا بينا أن اللغات توقيفية الثاني وهو الذي أعتمد عليه المازني وأبو علي الفارس رحمهما الله أنه لا خلاف بين أهل اللغة أن كل فاعل رفع وكل مفعول نصب وكذلك القول

في جميع وجوه الإعراب وأن كل ضرب منها اختص بأمر انفرد به ولم يثبت ذلك إلا قياسا لأنهم لما وصفوا بعض الفاعلين به واستمروا على ذلك علم أنه ارتفع الفاعل لكونه فاعلا وانتصب المفعول لكونه مفعولا فإن قلت كيف يصح ذلك وقد وجد المفعول غير منتصب وكذا الفاعل قد لا يرتفع لعارض قلت تخلف الحكم عن العلة لمانع لا يقدح في العلية عند من يقول بتخصيص العلة ومن لا يقول به يجعل هذا القيد العدمي جزءا من العلة الثالث وهو أن أهل العربية أجمعوا على أن ما لم يسم فاعله إنما ارتفع لكونه شبيها بالفاعل في إسناد الفعل إليه ولم تزل فرق النحاة من الكوفيتين قوله والبصريين يعللون في الأحكام الإعرابية بأن هذا يشبه ذاك في كذا فوجب أن يشبهه في الإعراب وإجماع أهل اللغة في المباحث اللغوية حجة الرابع أن نتمسك بعموم قوله تعالى فاعتبروا فإنه يتناول كل الأقيسة واعتمادهم في الفرق على أن المعاني لا تناسب الألفاظ فأمتنع جعل

المعنى علة للاسم بخلاف الأحكام الشرعية فان المعاني قد تناسبها لكنا قد بينا سقوط هذا الفرق واحتج المخالف بأمور أحدها قوله تعالى وعلم آدم الأسماء كلها دلت الآية على أنها بأسرها توقيفية فيمتنع في شئ منها أن يثبت بالقياس وثانيها أن أهل اللغة لو صرحوا وقالوا قيسوا لم يجز القياس كما اذا قال اعتقت غانما لسواده ثم قال قيسوا فإنه لا يجوز القياس فإذا لم يجز القياس عند التصريح بالأمر بالقياس فلأن لا يجوز ذلك مع أنه لم ينقل عن أهل اللغة نص في ذلك كان أولى وثالثها أن القياس إنما يجوز عند تعليل الحكم في الأصل وتعليل الأسماء غير جائز لأنه لا مناسبة بين شئ من الأسماء وبين شئ من المسميات وإذا لم يصح التعليل لم يصح القياس البتة ورابعها أن وضع اللغات ينافي جواز القياس فإنهم سموا الفرس الأسود

أدهم ولم يسموا الحمار بن الأسود به وسموا الفرس الأبيض أشهب ولم يسموا الحمار الأبيض به وسموا صوت الفرس صهيلا صوت الحمار نهيقا له صوت الكلب نباحا وأيضا القارورة إنما سميت بهذا الاسم لأجل الاستقرار ثم أن ذلك المعنى حاصل في الحياض والأنهار مع أنها لا تسمى بذلك والخمر إنما سميت بهذا الاسم لمخامرتها العقل ثم المخامرة حاصلة في الأفيون وغيره ولا يسمى خمرا والجواب عن الأول أنه ليس في الآية أنه تعالى علم آدم الأسماء كلها توقيفا فيجوز أن يكون علم البعض توقيفا والبعض تنبيها بالقياس ولأنه يجوز أن يدرك آدم علمها توقيفا ونحن نعلمها قياسا كما أن جهات القبلة قد تدر ك حسا وقد تدرك اجتهادا وعن الثاني أنا ندعى أنه نقل إلينا بالتواتر عن أهل اللغة أنهم جوزوا القياس ألا ترى أن جميع كتب النحو والتصريف والاشتقاق مملوءة من الأقيسة وأجمعت الأمة على وجوب الأخذ بتلك الأقيسة فإنه لا نزاع إنه لا يمكن تفسير القرآن والأخبار إلا بتلك القوانين فكان ذلك إجماعا معلوما بالتواتر

وعن الثالث ما قد بينا أنا نفسر العلة بالمعرف لا بالداعي ولا المناسب وحينئذ لا يقدح عدم المناسبة فيه وعن الرابع أن أقصى ما في الباب أنهم ذكروا صورا لا يجرى فيها القياس وذلك لا يقدح في العمل بالقياس كما أن النظام لما ذكر صورا كثيرا في الشرع لا يجرى فيها القياس لم يدل ذلك على المنع من القياس في الشرع

المسألة الثالثة القياس في الأسباب

المسألة الثالثة المشهور إنه لا يجوز إجراء القياس في الأسباب والدليل عليه أنا إذا قسنا اللواط مثلا على الزنا في كونه موجبا للحد فإما أن نقول إن كون الزنا موجبا للحد لأجل وصف مشترك بينه وبين اللواط وأما أن لا نقول ذلك فإن كان الأول كان الموجب للحد هو ذلك المشترك وحينئذ يخرج الزنا واللواط عن كونهما موجبين للحد لأن الحكم لما أسند إلى القدر المشترك استحال مع ذلك إسناده إلى خصوصية كل واحد منهما فإذن شرط القياس بقاء حكم الأصل والقياس في الأسباب ينافي بقاء حكم الأصل بخلاف القياس في الأحكام فإن ثبوت الحكم في الأصل لا ينافي كونه معللا بالقدر المشترك بينه وبين الفرع وأما إن قيل كون الزنا موجبا للحد ليس لأجل وصف مشترط بينه وبين اللواط استحال قياس اللواط عليه لأنه لا بد في القياس من الجامع فإن قلت الجامع بين الوصفين لا يكون له تأثير في الحكم بل تأثيره

المسألة الرابعة في تقسيم الحكم المطلوب إثباته بالقياس

في علية الوصفين وأما الحكم فإنما يحصل من الوصفين قلت هذا باطل لأن ما صلح لعلية العلة كان صالحا لعلية الحكم فلا حاجة حينئذ إلى الوساطة المسألة الرابعة الحكم الذي طلب إثباته بالقياس أما النفى الأصلي أو الحكم الثبوتى ذلك المعلوم أو المظنون فلنتكلم في هذه الثلاثة فنقول اختلفوا في أن النفى الأصلي هل يمكن التوصل إليه بالقياس أو لا بعد اتفاقهم على أن استصحاب حكم العقل كاف فيه والحق أنه يستعمل فيه قياس الدلالة لا قياس العلة أما قياس الدلالة فهو أن يستدل بعدم اثار الشئ وعدم خواصه على عدمه

وأما تعذر قياس العلة فلأن الانتفاء الأصلي حاصل قبل الشرع فلا يجوز تعليه بوصف يوجد بعد ذلك ولقائل أن يقول علة الشرع لا معنى لها إلا المعرف وتأخر الدليل عن المدلول جائز واعلم إن هذا الكلام يختص ب العدم فأما الإعدام فإنه حكم شرعي يجرى فيه القياس وأما الذي طريقه العلم فقد اختلفوا في أنه هل يجوز استعمال القياس فيه وعندي أن هذا الخلاف لا ينبغى أن يقع في الجواز الشرعي فإنه لو أمكن تحصيل اليقين بعلة الحكم ثم تحصيل اليقين بأن تلك العلة حاصلة في هذه الصورة لحصل العلم اليقينى بأن حكم الفرع مثل حكم الأصل بل البحث ينبغى أن يقع في أنه هل يمكن تحصيل هذين اليقينين في الأحكام الشرعية أم لا وأما الذي طريقه الظن فلا نزاع في جواز استعمال القياس فيه

المسألة الخامسة في أصول العبادات هل يجوز إثباتها بالقياس أم لا؟

المسألة الخامسة اختلفوا في أنه هل يمكن إثبات أصول العبادات بالقياس أم لا فقال الجبائى والكرخي لا يجوز وبنى الكرخي عليه إنه لا يجوز إثبات الصلاة بإيماء الحاجب بالقياس واعلم أن هذا الخلاف يمكن حمله على وجهين الأول أن يقال الصلاة بإيماء الحاجب لو كانت مشروعة لوجب على النبي ص أن يبينها بيانا شافيا وينقله أهل التواتر إلينا حتى يصير ذلك معلوما لنا قطعا فلما لم يكن كذلك علمنا أن القول بها باطل والثاني أن يقال لا ندعي أنها لو كانت مشروعة لحصل العلم بها يقينا ولكنا مع ذلك نمنع من استعمال القياس فيه أما الأول فهو باطل بالوتر فإنه واجب عندهم مع أنه لم يعلم وجوبه قطعا فإن قلت إذا جوزت في ذلك أن لا يبلغ مبلغ التواتر فلعله عليه الصلاة والسلام أوجب صوم شوال ولم ينقل ذلك بالتواتر قلت المعتمد في نفيه الإجماع وأما الثاني فتحكم محض لأنه إذا جاز الاكتفاء فيه بالظن فلم لا يكتفى بالقياس ثم إنا نستدل على جوازه بعموم قوله تعالى فاعتبروا أو بما أنه

المسألة السادسة في إثبات الحدود والكفارات والرخص بالقياس

يفيد ظن الضرر فيكون العمل به واجبا المسألة السادسة مذهب الشافعي رضي الله عنه أنه يجوز إثبات التقديرات والكفارات والحدود والرخص بالقياس وقال أبو حنيفة وأصحابه رحمهم الله أنه لا يجوز وحاصل الخلاف أنه هل في الشريعة جملة من المسائل يعلم أنه لا يجوز استعمال القياس فيها أو ليس كذلك بل يجب البحث عن كل مسألة أنه هل يجرى القياس فيها أم لا لنا التمسك بعموم قوله تعالى فاعتبروا وبإطلاق قول معاذ أجتهد مع أن الرسول ص صوبه في إطلاقه وبأنه

يجب العمل بالضرر المظنون فإن ادعوا أنه لا يمكننا وجد أن العلة في هذه المسائل فذلك إنما يظهر بالبحث عن كل واحدة من هذه المسائل فإن وجدنا العلة فيها صح القياس وإلا فلا ولكن هذا المعنى غير مختص بهذه المسائل بل كل مسألة لا نجد العلة فيها تعذر علينا القياس واعلم أن الشافعي رضي الله عنه ذكر مناقضتهم في هذا الباب فقال أما الحدود فقد كثرت أقيستهم فيها حتى تعهدوها إلى الاستحسان فإنهم زعموا في شهود الزوايا أن المشهود عليه يجب رجمه بالاستحسان مع أنه على خلاف العقل فلأن يعمل بما وافق العقل كان أولى وأما الكفارات فقد قاسوا الإفطار بالأكل على الإفطار بالوقاع وقاسوا قتل الصيد ناسيا على قتله عمدا مع تقييد النص بالعمد في قوله تعالى ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم

فإن قلت ليس هذا بقياس وإنما هو استدلال على موضع الحكم بحذف الفوارق الملغاة قلت أنكم لما لم تبينوا أن الحكم في الأصل يجب أن يكون معللا وأن العلة إما الذي به الاشتراك بين الأصل والفرع أو الذي به الامتياز وباطل أن لا يكون معللا وباطل أن يكون معللا بما فيه الامتياز فوجب التعليل بما به الاشتراك ويلزم من حصول ذلك المعنى في الفرع حصول الحكم فيه وهذا نفس القياس واستخراج العلة بطريق السبر والتقسيم وأما المقدرات فقد قاسوا فيها حتى إنهم ذهبوا إلى تقديراتهم في الدلو والبئر وأما الرخص فقد قاسوا فيها وبالغوا فإن الاقتصار على الأحجار في الاستنجاء من أظهر الرخص ثم حكموا بذلك في كل النجاسات نادرة كانت أو معتادة وانتهوا فيها إلى نفي إيجاب استعمال الأحجار وقالوا أيضا العاصي بسفره يترخص فأثبتوا الرخصة بالقياس مع

أن القياس ينفيها لأن الرخصة إعانة والمعصية لا تناسب الإعانة احتج الخصم بقوله عليه الصلاة والسلام ادرؤا الحدود بالشبهات والقياس لا يفيد القطع فتحصل الشبهة وأما المقدرات فهي كالنصب في الزكوات والمواقيت في الصلوات

المسألة السابعة في عدم جواز إثبات ما طريقه العادة والخلقة بالقياس

وقالوا العقول لا تهتدى إليها وأما الرخص فقالوا أنها منح من الله تعالى فلا يعدل بها عن مواضعها وأما الكفارات فإنها على خلاف الأصل لكونها منفية بالنص النافي للضرر والجواب عنه أنها تشكل بالمسائل التي ذكرها الشافعي رضي الله عنه ثم نقول هذه الأدلة خضت بخبر الواحد فانه يجوز إثبات هذه الأشياء بخبر الواحد مع أنه لا يفيد العلم وما لأجله صار خبر الواحد مخصصا لها قائم في القياس الخاص فوجب تخصيصها بالقياس المسألة السابعة قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي رحمه الله ما طريقة العادة العادة والخلقة كأقل الحيض وأكثره وأقل النفاس وأكثره لا يجوز إثباته بالقياس لأن أسبابها غير معلومة لا قطعا ولا ظاهرا فوجب الرجوع فيها إلى قول الصادق المسألة الثامنة الأمور التي لا يتعلق بها عمل لا يجوز إثباتها بالقياس كقرآن النبي

المسألة التاسعة في ورود القياس بخلاف النص

- صلى الله عليه وسلم - وإفراده ودخوله مكة صلحا أو عنوة فإن مثل هذه الأمور تطلب لتعرف لا ليعمل بها فلا يجوز الاكتفاء فيها بالظن المسألة التاسعة القياس إذا ورد بخلاف النص فالنص إما أن يكون متواترا أو آحادا فإن كان متواترا فالقياس أن نسخه كان مردودا وإن خصصه فقد ذكرنا الخلاف فيه في باب العموم والخصوص وإن كان آحادا فهو ما إذا ورد خبر الواحد على خلاف القياس وقد شرحنا الحال فيه في باب الخبر المسألة العاشرة يجوز التعبد بالنصوص في كل الشرع فإنه يمكن أن ينص الله تعالى على أحكام الأفعال على الجملة ويدخل تفصيلها فيها كما إذا نص على حرمة الربا في كل مطعوم فيدخل فيه كل مطعوم وأما التعبد بالقياس في الكل فمحال لأن القياس لا يصح إلا بعد ثبوت الحكم في الأصل لكن أحكام الأصول شرعية لأن العقل لا يدل إلا على البراءة الأصلية فما عداها لا يثبت إلا بالشرع فلو كانت تلك الأحكام

مثبتة بالقياس لزم الدور وهو محال

الباب الثاني في شرائط الأصل

الباب الثاني في شرائط الأصل أعلم أن الحكم في المقيس عليه إما أن يكون علة وفق قياس الأصول أو على خلاف قياس الأصول فلنذكر حكم كل واحد من هذين القسمين ثم نذكر ما ظن أنه شرط في هذا الباب مع أنه ليس بشرط

القسم الأول في شرائط الأصل إذا كان حكمه على وفق قياس الأصول

القسم الأول في شرائط الأصل إذا كان حكمه على وفق قياس الأصول وهي ستة الأول ثبوت حكم الأصل لأن القياس عبارة عن تشبيه الفرع بالأصل في الحكم وذلك لا يمكن إلا بعد ثبوت الحكم في الأصل الثاني أن يكون الطريق إلى معرفة ذلك الحكم سمعيا وهو ظاهر على مذهبنا أن جميع الأحكام لا تعرف إلا بالسمع أما على مذهب من يثبت هذه الأحكام عقلا فقد احتجوا عليه بأنه لو كان ذلك الطريق عقليا لكانت معرفة ثبوت الحكم في الفرع عقلية فكان القياس عقليا لا سمعيا وهذا ضعيف لأن ثبوت الحكم في الفرع يتوقف على ثبوت الحكم في الأصل وعلى كون ذلك الحكم معللا بالوصف الفلانى وعلى حصول ذلك الوصف في الفرع فبتقدير أن تكون معرفة الأول عقلية يحتمل أن تكون المعرفتان الباقيتان سمعيتين

محمد وحينئذ لا يمكن معرفة حكم الفرع إلا بمقدمات سمعية والمبنى على السمع سمعي فيكون ثبوت الحكم في الفرع سمعيا الثالث أن لا يكون طريق ثبوت الحكم في الأصل هو القياس لأن العلة التي يلحق بها الأصل القريب بالأصل البعيد إما أن تكون هي التي بها يلحق الفرع بالأصل القريب أو غيرها فإن كان الأول أمكن رد الفرع إلى الأصل البعيد فيكون دخول الأصل القريب لغوا وإن كان الثاني لزم تعليل حكم الأصل القريب بعلتين وهو محال أما أولا فلإنا إلى بينا أن تعليل الحكم الواحد بعلتين مستنبطتين محال وأما ثانيا فلأنه لا يمكننا إثبات الحكم في الأصل القريب إلا بأن يتوصل إليه بالعلة الموجودة في الأصل البعيد ومتى توصلنا إلى ثبوته بتلك العلة امتنع تعليله بالعلة الموجودة في الفرع لأن تلك العلة إنما عرفت بعد أن عرف تعليل الحكم بعلة أخرى ومتى عرف ذلك كانت العلة الثانية عديمة الأثر فيكون التعليل بها ممتنعا

الرابع أن لا يكون الدليل الدال على حكم الأصل دالا بعينه على حكم الفرع وإلا لم يكن جعل أحدهما أصلا والآخر فرعا أولى من العكس الخامس لابد وأن يظهر كون ذلك الأصل معللا بوصف معين لأن رد الفرع إليه لا يصلح إلا بهذه الواسطة السادس قالوا يجب أن لا يكون حكم الأصل متأخرا عن حكم الفرع وهو كقياس الوضوء على التيمم في وجوب النية لأن التعبد بالتيمم إنما ورد بعد الهجرة والحق أن يقال لو لم يوجد على حكم الفرع دليل إلا ذلك القياس لم يجز تقدم الفرع على الأصل لأن قبل هذا الأصل لزم أن يقال كان هذا الحكم حاصلا من غير دليل وهو تكليف مالا يطاق أو ما كان حاصلا ألبتة فيكون ذلك كالنسخ وأما إن وجد قبل ذلك دليل أخر سوى القياس يدل على ذلك الحكم فجائز فإن ترادف الأدلة على المدلول الواحد جائز

القسم الثاني في شرائط الحكم إذا كان على خلاف قياس الأصول

القسم الثاني إذا كان الحكم في المقيس عليه على خلاف قياس الأصول فقال قوم من الشافعية والحنفية يجوز القياس عليه مطلقا وقال الكرخي لا يجوز إلا لإحدى خلال ثلاث إحداها أن يكون قد نص على علة ذلك الحكم لأن النص كالتصريح بوجوب القياس عليه وثانيها أن تجمع الأمة على تعليله وإن اختلفوا في تعليله فلا يجوز القياس عليه وثالثها أن يكون القياس عليه موافقا للقياس على أصول أخرى والحق أن يقال ما ورد بخلاف قياس الأصول إما أن يكون دليلا مقطوعا به أو غير مقطوع به فإن كان مقطوعا به كان أصلا بنفسه لأن مرادنا بالأصل في هذا الموضع هذا فكان القياس عليه كالقياس على غيره فوجب أن يرجح المجتهد بين القياسين

يؤكده أنه إذا لم يمنع العموم من قياس يخصه فأولى أن لا يكون القياس على العموم مانعا من قياس يخالفه لأن العموم أقوى من القياس على العموم احتج الخصم بأن الخبر يخرج من القياس ما ورد فيه وما عداه باق على قياس الأصول والجواب أنه إذا أخرح ما ورد فيه ودلت أمارة على عليته اقتضى إخراج ما شاركه في تلك العلة ثم ليس بأن لا يخرج لشبهه بالأصول أولى من أن يخرج لشبهه بالمنصوص عليه أما إذا كان غير مقطوع به فإما أن تكون علة حكمة منصوصة أو لا تكون منصوصة فإن لم تكن منصوصة ولا كان القياس عليه أقوى من القياس على الأصول فلا شبهة في أن القياس على الأصول أولى من القياس عليه لأن القياس على ما طريق حكمة معلوم أولى من القياس على ما طريق حكمة غير معلوم

وإن كانت منصوصة فالأقرب أنه يستوى القياسان لأن القياس على الأصول يختص بأن طريق حكمه معلوم وإن كانت علة حكمه غير معلومة وهذا القياس طريق حكمه مظنون وعلته معلومة فكل واحد منهما قد اختص بحظ من القوة

القسم الثالث فيما جعل شرطا، وهو ليس كذلك

القسم الثالث فيما جعل شرطاً في هذا الباب مع أنه ليس بشرط وهو ثلاثة الأول زعم عثمان البتى أنه لا يقاس على الأصل حتى تقوم الدلالة على جواز القياس عليه وهو باطل من ثلاثة أوجه أحدها أن عموم قوله تعالى فاعتبروا ينفى هذا الشرط وثانيها أنا إذا ظننا كون الحكم في الأصل معللا بوصف ثم علمنا أو ظننا

حصوله في الفرع حصل ظن أن حكم الفرع مثل حكم الأصل والعمل بالظن واجب وثالثها أن الصحابة حين استعملوا القياس في مسألة الحرام والجد وغيرها لم يعتبروا هذا الشرط الثاني زعم بشر المريسى أن شرط الأصل انعقاد الإجماع على كون حكمه معللا أو ثبوت النص على عين تلك العلة وعندنا أن هذا الشرط غير معتبر والدليل عليه الوجوه الثلاثة المذكورة الثالث قال قوم الأصل المحصور بالعدد لا يجوز القياس عليه حتى قالوا في قوله عليه الصلاة والسلام خمس يقتلن في الحل والحرم لا يقاس عليه

والحق جوازه للوجوه الثلاثة واحتجوا بأن تخصيص ذلك العدد بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداه وأيضا جواز القياس عليه يبطل ذلك الحصر والجواب يبطل ذلك بجواز القياس على الأشياء الستة في تحريم ربا الفضل وهذا أيضا دليل في أول المسألة

الباب الثالث في الفرع

الباب الثالث في الفرع وشرطه أن يوجد فيه مثل علة الحكم في الأصل من غير تفاوت ألبتة لا في الماهية ولا في الزيادة ولا في النقصان لأن القياس عبارة عن تعدية الحكم من محل إلى محل والتعدية لا تحصل إلا إذا كان الحكم المثبت في الفرع مثل المثبت في الاصل فإن قلت هذا يقتضى أن لا يكون قياس العكس حجة قلت قد بينا في أول كتاب القياس أن قياس العكس عبارة عن التمسك بنظم التلازم ابتداءا ثم إنا نثبت مقدمته الشرطية بقياس الطرد وأما الأمور التي اعتبرها قوم في الفرع مع أنها ليست معتبرة فهي ثلاثة الأول قال بعضهم يجب أن يكون حصول العلة في الفرع معلوما لا مظنونا وهذا باطل للنص والحكم والمعقول أما النص فهو أن عموم قوله تعالى فاعتبروا يقتضى حذف هذا الشرط

وأما الحكم فهو أن الزنا والسرقة إذا ظهرا عند القاضي قضى بوجوب الحد لأن الطريق إليه شهادة الشهود وهى لا تفيد العلم وأما المعقول فهو أنه إذا حصل ظن كون الحكم معللا بذلك الوصف ثم حصل ظن ثبوت ذلك الوصف في الفرع حصل ظن أن الحكم في الفرع مثل الحكم في الأصل والعمل بالظن واجب مطلقا على ما بيناه الثاني قال أبو هاشم الحكم في الفرع يجب أن يكون معا ثبت جملة حتى يدل القياس على تفصيله ولولا أن الشرع ورد بميراث الجد وإلا لما استعملت الصحابة القياس في توريثه مع الإخوة وهذا باطل لأن أدلة القياس تحذف هذا القيد الثالث أن لا يكون الفرع منصوصا عليه وهو على قسمين لأن الحكم الذي دل النص عليه إما أن يكون مطابقا للحكم الذي دل عليه القياس أو مخالفا فإن كان الأول جاز استعمال القياس فيه عند الأكثرين لأن ترادف الأدلة على المدلول الواحد جائز ومنعه بعضهم استدلالا بأن معاذا إنما عدل إلى الاجتهاد بعد فقدان النص فدل على أنه لا يجوز استعماله عند وجوده وأيضا فالدليل ينفي جواز العمل بالقياس لكونه اتباعا للظن وإن الظن لا

يغني من الحق شيئا ترك العمل به فيما إذا لم يوجد النص للضرورة فيبقى حال وجود النص على مقتضى الأصل والجواب عن الأول أن قصة معاذ دالة على أن التمسك بالقياس عند فقدان النص جائز فأما عند وجود النص فليس فيه دليل لا على جواز ولا على بطلانه وعن الثاني ما تقدم مرارا من أن العمل بالقياس ليس على خلاف الدليل

خاتمة لكتاب القياس

خاتمة لهذا الباب هاهنا نوع آخر من القياس يستعمله أهل الزمان وهو أن يقال لو ثبت الحكم في الفرع لثبت في الأصل لأن بتقدير ثبوته في الفرع وجب أن يكون ثبوته لأجل المعنى الفلانى لمناسبته واقتران الحكم به وذلك المعنى حاصل في الأصل فيلزم ثبوت الحكم فيه فثبت أن الحكم لو ثبت في الفرع لثبت في الأصل فلما لم يثبت في الأصل وجب أن لا يثبت في الفرع ويمكن أن يذكر ذلك على وجه آخر أسد تلخيصا وهو أن يقال ثبوت الحكم في الفرع يفضى إلى محذور فوجب أن لا يثبت نماقلنا إنه يفضي إلى محذور لأنه لو ثبت الحكم في الفرع لكان إما أن يكون معللا بهذا الوصف الذي يشترك الفرع والأصل فيه أو لا يكون معللا به فإن كان الأول لزم النقص لأنه غير ثابت في الأصل

وإن كان الثاني لزم النقض لأن المناسبة والاقتران دليل العلية فحصولها بدون العلية يوجب النقض وهذا آخر كلامنا في القياس وبالله التوفيق

الكلام في التعادل والترجيح وهو مرتب على أربعة أقسام

الكلام في التعادل والترجيح وهو مرتب على أربعة أقسام

القسم الأول في التعادل وفيه مسألتان

القسم الأول في التعادل وفيه مسألتان

المسألة الأولى في تعادل الأمارتين

المسألة الأولى اختلفوا في أنه هل يجوز تعادل الأمارتين فمنع منه الكرخى مطلقا وجوزه الباقون ثم المجوزون اختلفوا في حكمه عند وقوعه فعند القاضى أبي بكر منا وأبي على وأبي هاشم من المعتزلة حكه التخيير وعند بعض الفقهاء حكمه أنهما يتساقطان ويجب الرجوع إلى مقتضى العقل والمختار أن نقول تعادل الأمارتين إما أن يقع في حكمين متناقضين والفعل واحد وهو كتعارض الأمارتين على كون الفعل قبيحا ومباحا وواجبا وإما أن يكون في فعلين متنافيين والحكم واحد نحو وجوب التوجه إلى جهتين قد غلب على ظنه أنهما جهتا القبلة أما القسم الأول فهو جائز في الجملة لكنه غير واقع في الشرع أما أنه جائز في الجملة فلأنه يجوز أن يخبرنا رجلان بالنفى والإثبات وتستوى عدالتهما وصدق لهجتهما بحيث لا يكون لأحدهما مزية على الآخر

وأما أنه في الشرع غير واقع فالدليل عليه أنه لو تعادلت أمارتان على كون هذا الفعل محظورا ومباحا فإما أن يعمل بهما معا أو يتركا معا أو يعمل بإحداهما دون الثانية والأول محال لأنه يقتضي كون الشئ الواحد في الوقت الواحد من الشخص الواحد محظورا مباحا وهو محال والثاني أيضا محال لأنهما لما كانتا في نفسيهما بحيث لا يمكن العمل بهما ألبتة كان وضعهما عبثا والعبث غير جائز على الله تعالى وأما الثالث وهو أن يعمل بإحداهما دون الأخرى فإما أن يعمل بإحداهما على التعيين أو لا على التعيين والأول باطل لأنه ترجيح من غير مرجح فيكون ذلك قولا في الدين بمجرد التشهي وإنه غير جائز والثاني أيضا باطل لأنا إذا اخيرناه كان بين الفعل والترك فقد أبحنا له الفعل فيكون هذا ترجيحا لأمارة الإباحة بعينها على أمارة الحظر وذلك هو القسم الذي تقدم إبطاله فثبت أن القول بتعادل الأمارتين في حكمين متنافيين والفعل واحد يفضي إلى هذه الأقسام الباطلة فوجب أن يكون باطلا

فإن قيل لم لا يجوز العمل بإحدى الأمارتين على التعيين إما لأنها أحوط أو لأنها أخذ بالأصل سلمنا ذلك فلم لا يجوز أن يكون مقتضى التعادل هو التخيير قوله القول بالتخيير إباحة الفعل فيكون ذلك ترجيحا لأمارة الإباحة قلنا لا نسلم أن الأمر بالتخيير إباحة بيانه أنه يجوز أن يقول الله تعالى أنت مخير في الأخذ بأمارة الإباحة وبأمارة أبو الحظر إلا أنك متى أخذت بأمارة الإباحة فقد أبحت لك الفعل وإن أخذت بأمارة الحرمة فقد حرمت الفعل عليك فهذا لا يكون إذنا في الفعل والترك مطلقا بل إباحة في حال وحظرا في حال أخرى ومثاله في الشرع أن المسافر مخير بين أن يصلي أربعا فرضا وبين أن يترك ركعتين فالركعتان واجبتان ويجوز تركهما بشرط أن يقصد الترخص وأيضا من استحق أربعة دراهم على غيره فقال تصدقت عليك

بدرهمين إن قبلت وإن لم تقبل وأتيت بالأربعة قبلت الأربعة عن الدين واجب فإن شاء قبل الصدقة وأتى بدرهمين وإن شاء أتى بالأربعة عن الواجب فكذا في مسألتنا إذا سمع قوله تعالى وإن تجمعوا بين الأختين حرم عليه الجمع بين المملوكتين وإنما يجوز له الجمع إذا قصد العمل بموجب الدليل الثاني وهو قوله تعالى إلا ما ملكت أيمانكم كما قال عثمان رضي الله عنه أحلتهما آية وحرمتهما آية سلمنا ذلك لكن هذه الدلالة إنما تتم عند تعارض أمارة الحظر والإباحة وأما عند تعارض أمارة الحظر والوجوب إذا قلنا بالتخيير لم

يلزم ترجيح إحداهما على الأخرى فدليلكم على امتناع التعادل غير متناول لكل الصور سلمنا فساد القول بالتخيير فلم لا يجوز التساقط قوله لأنه عبث قلنا لا نسلم ولم لا يجوز أن يقال إن لله تعالى فيه حكمة خفية لا يطلع عليها وأيضا فهب أن التعادل في نفس الأمر ممتنع لكن لا نزاع في وقوع التعادل بحسب أذهاننا فإذا اجاز أن لا يكون التعادل الذهنى عبثا فلم لا يجوز أن لا يكون التعادل الخارجى عبثا أيضا ثم ما ذكرتموه يشكل بما إذا أفتى مفتيان أحدهما بالحل والآخر بالحرمة واستويا في ظن المستفتى ولم يوجد الرجحان فإنهما بالنسبة إلى العامي كالأمارة والجواب قوله لم لا يجوز العمل بإحداهما لأنه أحوط أو لأنه أصل قلنا إن جاز الترجيح بهاتين الجهتين فوجوده ينافي التعادل وإن لم يجز فقد بطل كلامك

قوله لم قلت إن التخيير إباحة قلت لأن المحظور هو الذي منع من فعله والمباح هو الذي لم يمنع من فعله فإذا حصل الإذن في الفعل فقد ارتفع الحجر فلا يبقى الحظر ألبتة ولا معنى للإباحة إلا ذلك قوله ذلك الفعل محظور بشرط أن يأخذ بأمارة الحظر ومباح بشرط أن يأخذ بأمارة الإباحة قلنا هذا باطل من وجهين الوجه الأول هو أن أمارة الإباحة وأمارة الحظر إما أن تقوما على ذات الفعل وماهيته باعتبار واحد أو ليس كذلك بل تقوم أمارة الإباحة على الفعل المقيد بقيد وتقوم إمارة الحظر على الفعل المقيد بقيد آخر فإن كان الثاني كان ذلك مغايرا لهذه المسألة التي نحن فيها لأن هذه المسألة هي أن تقوم الأمارتان على إباحة شئ واحد وحظره وعلى التقدير الذي قالوا قامت أمارة الإباحة على شئ وأمارة الحظر على شئ آخر فإنهم لما قالوا عند الأخذ بأمارة الحرمة يحرم الفعل عليه فمعناه أن أمارة الحرمة قائمة على حرمة هذا الفعل حال الأخذ بأمارة الحرمة وأمارة الإباحة قائمة على إباحة هذا الفعل حال عدم الأخذ بأمارة الحرمة فالأمارتان

أو إنما قامتا على شيئين متنافيين غير متلازمين لا على شئ واحد وكلامنا في قيام الأمارتين على حكمين متنافيين في شئ واحد لا في شيئين وإذا بطل هذا القسم ثبت القسم الأول وهو أن أمارة الحظر وأمارة الإباحة قامتا على ذات الفعل وماهيته باعتبار واحد فإن رفعنا الحظر عن ماهية الفعل كان ذلك إباحة فيكون ترجيحا لإحدى الأمارتين بعينها وإن لم نرفع ذلك كان ذلك حظرا فيكون ترجيحا للأمارة الأخرى بعينها الوجه الثاني في الجواب أن نقول ما المراد بالأخذ بإحدى الأمارتين إن عنيتم بهذا الأخذ اعتقاد رجحانها فهذا باطل لأنها إذا لم تكن راجحة كان اعتقاد رجحانها جهلا وأيضا فنفرض الكلام فيما إذا حصل العلم بأنه لا رجحان ففي هذه الصورة يمتنع حصول اعتقاد الرجحان وإن عنيتم بهذا الأخذ العزم على الإتيان بمقتضاها فذاك العزم إما أن يكون عزما جزما بحيث يتصل بالفعل لا محالة أو لا يكون كذلك فإن كان الأول كان الفعل في ذلك الوقت واجب الوقوع فيمتنع ورود

الإباحة والحظر لأنه يكون ذلك إذنا في إيقاع ما يجب وقوعه أو منعا عن إيقاع إيقاع ما يجب وقوعه وإن كان الثاني وهو أن يكون العزم عزما فاترا فهاهنا يجوز له الرجوع لأنه إذا عزم عزما فاترا على الترك فلو أراد الرجوع عن هذا العزم وقصد الإقدام على الفعل جاز له ذلك فعلمنا أن ما قالوه فاسد قوله هذه الدلالة لا تطرد عند تعارض أمارتى) الوجوب والحظر قلنا لا قائل بالفرق وأيضا فالإباحة منافية للوجوب والحظر فعند تعادل أمارتى الوجوب والحظر لو حصلت الإباحة لكان ذلك قولا بتساقطهما وإثباتا لحكم لم يدل عليه دليل أصلا قوله لم لا يجوز أن يكون في التساقط حكمة خفية قلنا لأن المقصود من وضع الأمارة أن يتوسل بها إلى المدلول فإذا كان هو في ذاته بحيث يمتنع التوسل به إلى الحكم كان خاليا عن المقصود الأصلي منه ولا معنى للعبث إلا ذلك وهذا بخلاف وقوع التعارض في أفكارنا لأن الرجحان لما كان حاصلا في نفس الأمر لم يكن واضعه عابثا بل غايته أنا لقصورنا أو تقصيرنا ما انتفعنا به أما إذا كان الرجحان مفقودا في نفس الأمر كان الواضع عابثا

وأما القسم الثاني وهو تعادل الأمارتين في فعلين متنافيين والحكم واحد فهذا جائز ومقتضاه التخيير والدليل على جوازه وقوعه في صور إحداها قوله عليه الصلاة والسلام في زكاة الإبل في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة فمن ملك مائتين فقد ملك أربع خمسينات وخمس أربعينات فإن أخرج الحقاق فقد أدى الواجب إذ عمل بقوله في كل خمسين حقة وإن أخرج بنات اللبون فقد عمل بقوله عليه الصلاة والسلام في كل أربعين بنت لبون وليس أحد اللفظين اولى من الآخر فيتخير وثانيها من دخل الكعبة فله أن يستقبل أي جانب شاء لأنه كيف فعل فهو مستقبل شيئا من الكعبة وثالثها أن الولى إذا لم يجد من اللبن إلا ما يسد رمق أحد رضيعيه ولو قسمه

عليهما أو منعهما لماتا ولو سقى أحدهما مات الآخر فهاهنا هو مخير بين أن يسقى هذا فيهلك ذاك أو ذاك فيهلك هذا ولا سبيل إلا التخيير ورابعها أن ثبوت الحكم في الفعلين المتنافيين نفس إيجاب الضدين وذلك يقتضى اجياب عبد إيجاب فعل كل واحد منهما بدلا عن الآخر واحتج الخصم على فساد التخيير بأن أمارة وجوب كل واحد من الفعلين اقتضت وجوبه على وجه لا يسوغ الإخلال به والتخيير بينه وبين ضده يسوغ الإخلال به فالقول بالتخيير مخالف لمقتضى الأمارتين معا والجواب أما أمارة وجوب الفعل فتقتضى وجوبه قطعا وأما المنع من الإخلال به على كل حال فموقوف على عدم الدلالة على قيام غيره مقامه وإذا كان كذلك لم يكن التخيير مخالفا لمقتضى الأمارتين فرع هذا التعادل إن وقع للإنسان في عمل نفسه كان حكمه فيه التخيير وإن وقع للمفتى كان حكمه أن يخير المستفتى في العمل بأيهما شاء

كما يلزمه ذلك في أمر نفسه وإن وقع للحاكم وجب عليه التعيين لأن الحاكم نصب لقطع الخصومات فلو خير الخصمين لم تنقطع خصومتهما لأن كل واحد منهما يختار الذي هو أوفق له وليس كذلك حال المفتى فإن قلت فهل للحاكم أن يقضى في الحكومة بحكم إحدى الأمارتين إذا كان قد قضى فيها من قبل بالأمارة الأخرى قلت لا يمتنع ذلك عقلا كمن يجوز لمن استوى عنده جهتا القبلة أن يصلى مرة إلى جهة ومرة إلى جهة أخرى إلا أنه منع منه دليل شرعي وهو ما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال لأبي بكرة رضي الله عنه لا تقضين في شئ واحد بحكمين مختلفين فأما ما روى عن عمر رضي الله عنه أنه قضى في المسألة الحمارية بحكمين وقال ذاك على ما قضينا وهذا على ما نقضي فيجوز أن يكون ذلك ليس لتعادل الأمارت بل لأنه ظن في المرة الأولى قوة

المسألة الثانية في نقل قولين عن المجتهد

تلك الأمارة وفي المرة الثانية قوة هذه الأمارة المسألة الثانية إذا نقل عن المجتهد قولان فإما أن يوجد له في المسألة قولان في موضع واحد أو في موضعين فإن وجد القولان في موضعين بأن يقول في كتاب بتحريم شئ وفي كتاب آخر بتحليله فإما أن يعلم التاريخ أو لا يعلم فإن علم التاريخ فالثاني منهما رجوع عن الأول ظاهرا وإن لم يعلم التاريخ حكى عنه القولان ولا يحكم عليه بالرجوع إلى أحدهما بعينه وإن وجد القولان في الموضع الواحد بأن يقول في المسألة قولان فإما أن يقول عقيب هذا القول ما يشعر بتقوية أحدهما فيكون ذلك قولا له لأن قول المجتهد ليس إلا ما ترجح عنده وإن لم يقل ذلك فهاهنا من الناس من قال إنه يقتضي التخيير إلا أنا أبطلنا ذلك وأيضا فبتقدير صحته يكون له في المسألة قول واحد وهو التخيير لا قولان بل الحق أن ذلك يدل على أنه كان متوقفا في المسألة ولم يظهر له وجه رجحان والمتوقف في المسألة لا يكون له فيها قول واحد فضلا عن القولين

أما إذا لم يعرف قوله في المسألة وعرف قوله في نظيرها فهل يجعل قوله في نظيرها قولا له فيها فنقول إن كان بين المسألتين فرق يجوز أن يذهب إليه ذاهب لم يحكم بأن قوله في المسألة كقوله في نظيرها لجواز أن يكون قد ذهب إلى الفرق وإن لم يكن بينهما فرق ألبتة فالظاهر أن قوله في إحدى المسألتين قول له في الأخرى وأما الأقوال المختلفة عن الشافعي رضي الله عنه فهي على وجوه أحدها أن يكون قد ذكر في كتبه القديمة شيئا وفي كتبه الجديدة شيئا آخر والناس نقلوهما عليه دفعة واحدة وجعلوهما قولين له فالمتأخر كالناسخ للمتقدم وهذا النوع من التصرف يدل على علو شأنه في العلم والدين أما في العلم فلأنه يعرف به أنه كان طول عمره مشتغلا بالطلب والبحث والتدبر وأما في الدين فلأنه يدل على أنه متى لاح له في الدين شئ أظهره فإنه ما كان يتعصب لنصرة قوله وترويج مذهبه بل كان منتهى مطلبه إرشاد الخلق إلى سبيل الحق

وثانيها أن يكون قد ذكر القولين في موضع واحد ونص على الترجيح كقوله في بعض ما ذكر فيه قولين وبهذا أقول وهذا أولى وبالحق أشبه وأيضا فقد يفرع على أحدهما ويترك التفريع على الآخر فيعلم أن الذي فرع عليه أقوى عنده وأيضا فربما نبه في آخر كلامه على الترجيح لكن المطالع قد لا يتبع كلامه إلى آخره وقد يمل فلا ينتبه لموضع الترجيح وثالثها أن يقول في هذه المسألة قولان ولا ينبه على الترجيح ألبتة فهاهنا احتمالان أحدهما أنه قال في هذه المسألة قولان ولم يقل لي فيها قولان فيمكن أن يكونا قولين لبعض الناس وإنما ذكرها لينبه الناظر في كتابه على مأخذهما وإيضاح القول فيما لكل واحد منهما وعليهما ولأنه لو لم يذكرهما فربما خطر ببال إنسان وجه في قوته إلا أنه لا يمكنه القول به لظنه أنه قول حادث خارق للإجماع فإذا نقله عرف أن المصير إليه ليس خرقا للإجماع ثم جاء الناقل فجعلهما قولين للشافعى

فهذا لا يكون عيبا على الشافعى بل على الناقل فإن الشافعى لم يقل لي فيها قولان بل قال فيها قولان فإذا جزم الراوى بكونهما قولين للشافعى كان العيب على الناقل وثانيهما لعل مراد الشافعى بقوله فيها قولان أن في المسألة احتمالين يمكن أن يقول بهما قائل وذلك إذا كان ما سوى ذينك القولين ظاهر البطلان فأما ذانك القولان فيكونان قويين بحيث يمكن نصرة كل واحد منهما بوجوه جلية ظاهرة ولا يقدر على تمييز الحق منهما عن الباطل إلا البالغ في التحقيق فلا جرم أفردهما بالذكر دون سائر الوجوه وكما أنه يجوز أن يقال للخمر التي في الدن إنها مسكرة وللسكين أبي التي لم تقطع إنها قاطعة والمراد منه الصلاحية لا الوقوع فكذلك ها هنا ثم أنه لم يرجح أحدهما على الآخر لأنه لم يظهر له فيه وجه الترجيح ونقل الشيخ أبو إسحاق الشيرازي عن الشيخ أبي حامد الاسفراييني أنه قال لم يصح عن الشافعي رضي الله عنه قولان على هذا الوجه إلا في سبع عشرة مسألة أقول وهذا أيضا يدل على كمال منصبه في العلم والدين أما العلم فلأن كل من كان أغوص نظرا وأدق فكرا وأكثر إحاطة

بالأصول والفروع وأتم وقوفا على شرائط الأدلة كانت الإشكالات عنده أكثر أما المصر على الوجه الواحد طول عمره في المباحث الظنية بحيث لا يتردد فيه فذاك لا يكون إلا من جمود الطبع وقلة الفطنة وكلال القريحة وعدم الوقوف على شرائط الأدلة والاعتراضات وأما الدين فمن وجهين الأول أنه لما لم يظهر له فيه وجه الرجحان لم يستح من الاعتراف بعدم العلم ولم يشتغل بالترويج (والمداهنة بل صرح بعجزه عما هو عاجز فيه وذلك لا يصدر إلا عن الدين المتين كيف وقد نقل عن عمر رضي الله عنه اعترافه بعدم العلم في كثير من المسائل وجميع المسلمين عدوا ذلك من مناقبه وفضائله فكيف جعلوه عيبا هاهنا والثاني وهو أنه رضي الله عنه لم يقل ابتداءا إنى لا اعرف هذه المسألة بل وجد المسألة واقعة بين أصلين فذكر وجه وقوعها بينهما وكيفية اشتباهها بهما ثم طا لم يظهر له الرجحان تركها على تلك الحالة ليكون ذلك بعثا

له على الفكر بعد ذلك وحثا لغيره من المجتهدين على طلب الترجيح وهذا هو اللائق بالدين المتين والعقل الرصين والعلم الكامل بل من أنصف واعترف بالحق علم أن ذلك مما يدل على رجحان حاله على حال سائر المجتهدين في العلم والدين

القسم الثاني في مقدمات الترجيح وفيه مسائل

القسم الثاني في مقدمات الترجيح وفيه مسائل المسألة الأولى الترجيح تقوية أحد الطريقين على الآخر ليعلم الأقوى فيعمل به ويطرح الآخر وإنما قلنا طريقين لأنه لا يصح الترجيح بين أمرين إلا بعد تكامل كونهما طريقين لو انفرد كل واحد منهما فإنه لا يصح ترجيح الطريق على ما ليس بطريق المسألة الثانية الأكثرون اتفقوا على جواز التمسك بالترجيح وأنكره بعضهم وقال عند التعارض يلزم التخيير أو التوقف

لنا وجوه الأول إجماع الصحابة على العمل بالترجيح فإنهم قدموا خبر عائشة رضي الله عنها في التقاء الختانين على قول من روى انما الماء من الماء وخبر من روت من أزواجه أنه كان يصبح جنبا على ما روى أبو هريرة أنه من أصبح جنبا فلا صوم له وقوى علي خبر أبي بكر فلم يحلفه وحلف غيره وقوى أبو بكر خبر المغيرة في ميراث الجدة بموافقة محمد بن مسلمة وقوى عمر خبر أبي موسى في الاستئذان بموافقة أبي سعيد الخدري الثاني أن الظنين إذا تعارضا ثم ترجح أحدهما على الآخر كان العمل بالراجح متعينا عرفا فيجب شرعا لقوله عليه الصلاة والسلام ما رأه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن الثالث أنه لو لم يعمل بالراجح لزم العمل بالمرجوح وترجيح المرجوح على الراجح ممتنع في بدائه العقول

واحتج المنكر بأمرين الأول أن الترجيح لو اعتبر من الأمارات لاعتبر في البينات في الحكومات لأنه لو اعتبر لكانت العلة في اعتباره ترجيح الأظهر على الظاهر وهذا المعنى قائم هاهنا الثاني أن إيماء قوله تعالى فاعتبروا وقوله عليه الصلاة والسلام نحن نحكم بالظاهر يقتضي إلغاء زيادة الظن والجواب عن الأول والثاني أن ما ذكرته دليل ظنى وما ذكرناه قطعى والظنى لا يعارض القطعى المسألة الثالثة الترجيح لا يجرى في الأدلة اليقينية لوجهين الأول أن شرط الدليل اليقيني أن يكون مركبا من مقدمات ضرورية أو لازما عنها لزوما ضروريا إما بواسطة واحدة أو بوسائط شأن كل واحد منها ذلك وهذا لا يتأتى إلا عند اجتماع علوم أربعة

أحدها العلم الضرورى بحقيقة المقدمات إما ابتداءا أو استنادا وثانيها العلم الضرورى بصحة تركيبها وثالثها العلم الضرورى بلزوم النتيجة عنها ورابعها العلم الضروري بأن ما يلزم عن الضرورى لزوما ضروريا فهو ضرورى فهذه العلوم الأربعة يستحيل حصولها في النقيضين معا وإلا لزم القدح في الضروريات وهو سفسطة وإذا استحال ثبوتها امتنع التعارض الثاني أن الترجيح عبارة عن التقوية والعلم اليقينى لا يقبل التقوية لأنه إن قارنه احتمال النقيض ولو على ابعد الوجوه كان ظنا لا علما وإن لم يقارنه ذلك لم يقبل التقوية المسألة الرابعة أشتهر في الألسنة أن العقليات لا يجرى الترجيح فيها وهذا فيه تفصيل فإنا إن لم نكلف العوام بتحصيل العلم بالمعتقدات

ما بل قنعنا منهم بالاعتقاد الجازم على سبيل التقليد لم يمتنع تطرق التقوية إليه المسألة الخامسة مذهب الشافعي رضي الله عنه حصول الترجيح بكثرة الأدلة وقال بعضهم لا يحصل ومن صور المسألة ترجيح أحد الخبرين على الآخر لكثرة الرواة لنا وجهان الأول أن الأمارات متى كانت أكثر كان الظن أقوى ومتى كان الظن أقوى تعين العمل به بيان الأول من وجوه أحدها أن الرواة إذا بلغوا في الكثرة حدا حصل العلم بقولهم وكلما كانت المقاربة إلى ذلك الحد أكثر وجب أن يكون اعتقاد صدقهم أقوى وثانيها أن قول كل واحد منهم يفيد قدرا من الظن فإذا اجتمعوا استحال أن لا يحصل إلا ذلك القدر الذي كان حاصلا بقول الواحد وإلا فقد اجتمع على الأثر الواحد مؤثران مستقلان وهو محال فإذن لا بد من الزيادة

وثالثها أن احتراز العدد عن تعمد الكذب أكثر من احتراز الواحد وكذا احتمال الغلط والنسيان على العدد أبعد ورابعها أن احتراز العاقل عن كذب يعرف اطلاع غيره عليه أكثر من احترازه عن كذب لا يشعر به غيره وخامسها أنا إذا فرضنا دليلين متعارضين يتساويان في القوة في ذهننا فإذا وجد دليل أخر يساوى أحدهما فمجموعهما لابد وأن يكون زائدا على ذلك الآخر لأن مجموعهما أعظم من كل واحد منهما وكل واحد منهما مساو لذلك الآخر والأعظم من المساوى أعظم وسادسها إجتماع الصحابة على أن الظن الحاصل بقول الاثنين أقوى من الظن الحاصل بقوا الواحد فإن الصديق لم يعمل بخبر المغيرة في مسألة الجدة حتى شهد له محمد بن مسلمة وعمر لم يقبل خبر أبي موسى حتى شهد له أبو سعيد الخدرى فلولا أن لكثرة الرواة أثرا في قوة الظن وإلا لما كان كذلك فثبت بهذه الوجوه أن الظن إذا كان أقوى وجب أن يتعين العمل به

وذلك لأنا أجمعنا على جواز الترجيح بقوة الدليل وجواز الترجيح بقوة الدليل إنما كان لزيادة القوة في أحد الجانبين وهذا المعنى حاصل في الترجيح بكثرة الأدلة بلى إذا كان الترجيح بالقوة حصلت الزيادة مع المزيد عليه ولا فرق إلا أن في الترجيح بالقوة وجدت الزيادة مع المزيد عليه وفي الترجيح بالكثرة حصلت الزيادة في محل والمزيد عليه في محل آخر والعلم الضروري حاصل بأنه لا أثر لذلك الوجه الثاني في المسألة أن مخالفة كل دليل خلاف الأصل فإذا وجد في أحد الجانبين دليلان وفي الجانب الآخر دليل واحد كانت مخالفة الدليلين أكثر محذورا من مخالفة الدليل الواحد فاشترك الجانبان في قدر من المحذور واختص أحدهما بقدر زائد لم يوجد في الطرف الآخر ولو لم يحصل الترجيح لكان ذلك التزاما لذلك القدر الزائد من المحذور من غير معارض وأنه غير جائز واحتج الخصم بالخبر والقياس أما الخبر فقوله عليه الصلاة السلام نحن نحكم بالظاهر فهذا بإيماءه لا يدل على أن المعتبر أصل الظهور وأن الزيادة عليه ملغاة ترك العمل به في الترجيح بقوة الدليل لأن هناك الزيادة مع المزيد عليه حاصلان في محل والقوى حال اجتماعها تكون أقوى منها حال تفرقها بخلاف الترجيح بكثرة الدليل فإن هناك الزيادة في محل والمزيد عليه

في محل آخر فلا يحصل كمال القوة أما القياس فقد أجمعنا على أنه لا يحصل الترجيح بالكثرة في الشهادة والفتوى فكذا هاهنا وأيضا أجمعنا على أن الخبر الواحد لو عارضه ألف قياس فإنه يكون راجحا على الكل وذلك يدل على أن الترجيح لا يحصل بكثرة الأدلة والجواب عن الأول أن ذلك الإيماء ترك العمل به في الترجيح بالقوة فوجب أن يترك العمل به في الترجيح بالكثرة لأن المعتبر قوة الظن وهى حاصلة في الموضعين أما قوله إن في الترجيح بالقوة تحصل الزيادة مع المزيد في محل واحد وللإجتماع أثر قلت نحن نعلم أنه وإن كان محل الزيادة مغايرا الأصل لكن مجموعهما مؤثر في تقوية الظن فإنه إذا أخبرنا مخبر عدل عن واقعة حصل ظن ما فإذا أخبرنا ثان صار ذلك الظن أقوى وإذا أخبرنا ثالث صار ذلك الظن أقوى ولا تزال القوة تزداد بازدياد المخبرين حتى ينتهي إلى العلم

فعلمنا أن ما ذكروه من الفرق لا يقدح في كونه مقويا للظن وأما فصل الشهادة فعند مالك رحمه الله يحصل الترجيح فيها بكثرة الشهود والفرق أن الدليل يأبى اعتبار الشهادة حجة لما فيه من توهم الكذب والخطأ وتنفيذ قول شخص على شخص مثله إلا أنا اعتبرناها فصلا للخصومات فوجب أن تعتبر حجة على وجه لا يفضى إلى تطويل الخصومات لئلا يعود على موضوعه بالنقض فلو أجرينا فيه الترجيح بكثرة العدد لزم تطويل الخصومة فإنهما إذا أقاما الشهادة من الجانبين على السوية كان لأحدهما أن يستمهل القاضي ليأتى بعدد آخر من الشهود فإذا أمهله من إقامتها بعد انقضاء المدة كان للاخر أن يفعل ذلك ويفضى ذلك إلى أن لا تنقطع الخصومة ألبتة فأسقط الشرع اعتبار الترجيح بالكثرة دفعا لهذا المحذور وأما الترجيح بكثرة المفتين فقد جوزه بعض العلماء

وأما قوله الخبر الواحد يقدم على القياسات الكثيرة قلنا إن كانت أصول تلك القياسات شيئا واحدا فالخبر الواحد يقدم عليها وذلك لأن تلك القياسات لا تتغاير إلا إذا عللنا حكم الأصل في كل قياس بعلة أخرى والجميع بين كلها محال لما عرفت إنه لا يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين مستنبطتين وإذا علمنا أن الحق منها ليس إلا الواحد لم تحصل هناك كثرة الأدلة أما إن كان أصول تلك القياسات كثيرة فلا نسلم أنه لا يحصل الترجيح المسألة السادسة إذا تعارض الدليلان فالعمل بكل واحد منهما من وجه دون أولى من العمل بأحدهما دون الثاني لأن دلالة اللفظ على جزء مفهومه دلالة تابعة لدلالته على كل مفهومه ودلالته على كل مفهومه دلالة أصلية فإذا عملنا بكل واحدة منهما بوجه دون وجه فقد تركنا العمل بالدلالة التبعية وإذا عملنا بأحدهما دون الثاني فقد تركنا العمل بالدلالة الأصلية ولا شك أن الأول أولى فثبت أن العمل بكل واحد منهما من وجه دون وجه أولى من العمل بأحدهما من كل وجه دون الثاني

إذا ظهر ذلك فنقول العمل بكل واحد من وجه ثلاثة أنواع أحدها الاشتراك والتوزيع إن كان قبل التعارض يقبل ذلك وثانيها أن يقتضى كل واحد منهما حكما ما فيعمل بكل واحد منهما في حق بعض الأحكام وثالثها العامان إذا تعارضا يعمل بكل واحد منهما في بعض الصور كقوله عليه الصلاة والسلام ألا أخبركم بخير الشهداء قيل بلى يا رسول الله قال أن يشهد الرجل قبل أن يستشهد وقوله عليه الصلاة والسلام ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل قبل أن يستشهد فيعمل بالأول من حقوق الله والثاني في حقوق العباد

المسألة السابعة اذا تعارض دليلان فإما أن يكونا عامين أو خاضيبن على أو أحدهما عاما والآخر خاصا أو كل واحد منهما عاما من وجه خاصا من وجه وعلى التقديرات الأربعة فإما أن يكونا معلومين أو مظنونين أو أحدهما معلوما والآخر مظنونا وعلى التقديرات كلها فإما أن يكون المتقدم معلوما والمتأخر معلوما أو لا يكون واحد منهما معلوما فلنذكر أحكام هذه الأقسام القسم الأول أن يكون عامين فإما أن يكونا معلومين أو مظنونين أو أحدهما معلوما والآخر مظنونا النوع الأول أن يكونا معلومين فإما أن يكون التاريخ معلوما أو لا يكون فإن كان معلوما فإما أن يكون المدلول قابلا للنسخ

أو لا يكون فإن قبله جعلنا المتأخر ناسخا للمتقدم سواء كانا آيتين أو خبرين أو أحدهما آية والآخر خبرا متواترا فإن قلت فما قول الشافعى هاهنا مع أن مذهبه أن القرآن لا ينسخ بالخبر المتواتر ولا بالعكس قلت هذا التقسيم لا يفيد إلا أنه لو وقع لكان المتأخر ناسخا للمتقدم والشافعى يقول لم يقع ذلك فليس بين مقتضى هذا التقسيم وبين قول الشافعى منافاة وإن كان مدلولهما غير قابل للنسخ فيتساقطان ويجب الرجوع إلى دليل آخر هذا إذا علم تقدم أحدهما على الآخر فإما إذا علم أنهما تقارنا فإن أمكن التخيير فيهما تعين القول به فإنه إذا تعذر الجمع لم يبق إلا التخيير ولا يجوز أن يرجح أحدهما على الآخر بقوة الإسناد لما عرفت أن المعلوم لا يقبل الترجيح ولا يجوز الترجيح بما يرجع إلى الحكم أيضا نحو كون أحدهما حاظرا أو مثبتا حكما شرعيا لأنه يقتضى طرح المعلوم بالكلية وإنه غير جائز

وإما اذا لم يعلم التاريخ فهاهنا يجب الرجوع إلى غيرهما لأنا نجوز في كل واحد منهما أن يكون هو المتأخر فيكون ناسخا للآخر النوع الثاني أن يكونا مظنونين فإن نقل تقدم أحدهما على الآخر كان المتأخر ناسخا وإن نقلت المقارنة أو لم يعلم شئ من ذلك وجب الرجوع إلى الترجيح فيعمل بالأقوى وإن تساويا كان التعبد فيهما التخيير النوع الثالث أن يكون أحدهما معلوما والآخر مظنونا فإما أن ينقل تقدم أحدهما على الآخر أو لا ينقل ذلك فإن نقل وكان المعلوم هو المتأخر كان ناسخا للمتقدم وإن كان المظنون هو المتأخر لم ينسخ المعلوم وإن لم يعلم تقدم أحدهما على الآخر وجب العمل بالمعلوم لأنه إن كان هو المتأخر كان ناسخا وإن كان هو المتقدم لم ينسخه المظنون وإن كان مقارنا كان المعلوم راجحا عليه لكونه معلوما القسم الثاني من الأقسام الأربعة أن يكونا خاصين والتفصيل فيه كما في العامين من غير تفاوت القسم الثالث أن يكون كل واحد منهما عاما من وجه خاصا من وجه كما في قوله تعالى وإن تجمعوا بين الأختين مع قوله إلا ما

ملكت أيمانكم وكما في قوله عليه الصلاة والسلام من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها مع نهيه عليه الصلاة والسلام عن الصلاة في الأوقات الخمسة المكروهة فإن الأول عام في الأوقات خاص في صلاة القضاء والثاني عام في الصلاة خاص في الأوقات فهذان العمومان إما أن يعلم تقدم أحدهما على صاحبه أو لا يعلم فإن علم وكانا معلومين أو مظنونين أو كان المتقدم مظنونا والمتأخر معلوما كان المتأخر ناسخا للمتقدم على قول من قال العام ينسخ الخاص المتقدم لأنه إذا كان عندهم أن العام المتأخر ينسخ الخاص المتقدم فما لم يثبت كونه أعم من اللفظ المتقدم أولى بأن يكون ناسخا وإن كان المتقدم معلوما والمتأخر مظنونا لم يجز عندهم أن ينسخ الثاني الأول ووجب الرجوع فيهما إلى الترجيح

فأما من يقول أن العام المتأخر يبنى على الخاص المتقدم والخاص المتأخر يخرج بعض ما دخل تحت العام المتقدم فاللائق بمذهبه أن لا يقول في شئ من هذا لأقسام بالنسخ بل يذهب إلى الترجيح لأنه ليس يتخلص كون المتأخر أخص من المتقدم حتى يخرج من المتقدم ما دخل تحت المتأخر وإما اذا لم يعلم تقدم أحدهما على الآخر فإن كانا معلومين لم يجز ترجيح أحدهما على الآخر بقوة الإسناد لكن يجوز الترجيح بما يتضمنه أحدهما من كونه حاظرا أو مثبتا حكما شرعيا لأن الحكم بذلك طريقة الاجتهاد وليس في ترجيح أحدهما على الآخر اطراح الآخر بخلاف ما إذا تعارضا من كل وجه فإن لم يترجح أحدهما على الآخر فالحكم التخيير وأما إذا كانا مظنونين جاز ترجيح كل واحد منهما على الآخر بقوة الإسناد وبما تضمنه الحكم وإذا لم يترجح فالحكم التخيير وأما إن كان أحدهما معلوما والآخر مظنونا جاز ترجيح المعلوم على المظنون لكونه معلوما فإن ترجح المظنون عليه بما يتضمن الحكم حتى حصل التعارض فإن الحكم ما قدمناه القسم الرابع إذا كان أحدهما عاما والآخر خاصا فإن كانا معلومين أو مظنونين وكان الخاص متأخرا كان ناسخا للعام المتقدم

وإن كان العام متأخرا كان ناسخا للخاص المتقدم عند الحنفية وعندنا أنه يبنى العام على الخاص وإن وردا معا خص العام بالخاص إجماعا وإن جهل التاريخ فعندنا يبنى العام على الخاص وعند الحنفية يتوقف فيه وأما إن كان أحدهما معلوما والآخر مظنونا فقد اتفقوا على تقديم المعلوم على المظنون إلا إذا كان المعلوم عاما والمظنون خاصا ووردا معا وذلك مثل تخصيص الكتاب والخبر المتواتر بخبر الواحد والقياس وقد ذكرنا أقوال الناس فيهما في باب العموم

القسم الثالث في تراجيح الأخبار

القسم الثالث في تراجيح الأخبار ترجيح الخبر إما أن يكون بكيفية إسناده أو بوقت وروده أو بلفظه أو بحكمه أو بأمر خارج عن ذلك القول في التراجيح الحاصلة في الإسناد واعلم أن الترجيح إما أن يقع بكثرة الرواة أو بأحوالهم أما الواقع بكثرة الرواة فمن وجهين أحدهما أن الخبر الذي رواته أكثر راجح على الذي لا يكون كذلك وقد تقدم بيانه الثاني أن يكون أحدهما أعلى إسنادا فإنه مهما كانت الرواة أقل كان

احتمال الكذب والغلط أقل ومهما كان ذلك أقل كان احتمال الصحة أظهر وإذا كان أظهر وجب العمل به فعلو الإسناد راجح من هذا الوجه لكنه مرجوح من وجه آخر وهو كونه نادرا وأما التراجيح الحاصلة بأحوال الرواة فهى إما العلم أو الورع أو الذكاء أو الشهرة أو زمان الرواية أو كيفية الرواية أما التراجيح الحاصلة بالعلم فهى على وجوه أحدها أن رواية الفقيه راجحة على رواية غير الفقيه وقال قوم هذا الترجيح إنما يعتبر في خبرين مرويين بالمعنى أما المروى باللفظ فلا والحق أنه يقع به الترجيح مطلقا لأن الفقيه يميز بين ما يجوز وبين ما لا يجوز فإن حضر المجلس وسمع كلاما لا يجوز إجراؤه على ظاهره بحث عنه وسأل عن مقدمته وسبب وروده فحينئذ يطلع على الأمر الذي يزول به الإشكال أما من لم يكن عالما فإنه لا يميز بين ما يجوز وبين ما لا يجوز فينقل

القدر الذي سمعه وربما يكون ذلك القدر وحده سببا للضلال وثانيها إذا كان أحدهما أفقه من الآخر كانت رواية الأفقه راجحة لأن الوثوق بإحتراز الله الأفقه عن ذلك الاحتمال المذكور أتم من الوثوق باحتراز الأضعف منه وثالثها إذا كان أحدهما عالما بالعربية كانت روايته راجحة على من لا يكون كذلك لأن الواقف على اللسان يمكنه من التحفظ من مواضع الزلل مالا يقدر عليه غير العالم به ويمكن أن يقال بل هو مرجوح لأن الواقف على اللسان يعتمد على معرفته فلا يبالغ في الحفظ اعتمادا على خاطره والجاهل باللسان يكون خائفا فيبالغ في الحفظ ورابعها رواية الأعلم بالعربية راجحة على رواية العالم بها والوجه ما تقدم في الأفقه وخامسها أن يكون أحدهما صاحب الواقعة فيما يروى فيكون خبره راجحا ولهذا أوجبنا الغسل بالتقاء الختانين بحديث عائشة رضي الله عنها في ذلك ورجحناه قال على رواية غيرها عن النبي ص الماء من الماء لأن عائشة كانت أشد علما بذلك ورجح الشافعي رواية أبي رافع على رواية ابن عباس في تزويج ميمونة

لأن أبا رافع كان السفير في ذلك فكان أعرف بالقصة وسادسها رواية من مجالسته للعلماء أكثر أرجح وسابعها رواية من مجالسته للمحدثين أكثر أرجح وثامنها أن يكون طريق إحدى الروايتين أقوى وذلك إذا روى ما يقل اللبس كما إذا روى أنه شاهد زيدا ببغداد وقت السحر والآخر يروى أنه شاهده وقت الظهر بالبصرة فطريق هذا أظهر والاشتباه على الأول أكثر

أما التراجيح الحاصلة بالورع فهى على وجوه أحدها رواية من ظهرت عدالته بالاختبار راجحة على رواية مستور الحال عند من يقبلها وثانيها رواية من عرفت عدالته بالاختبار أولى من رواية من عرفت عدالته بالتزكية إذ ليس الخبر كالمعاينة وثالثها رواية من عرفت عدالته بتزكية جمع كثير أولى من رواية من عرفت عدالته بتزكية جمع قليل ورابعها رواية من عرفت عدالته بتزكية من كان أكثر بحثا في أحوال الناس واطلاعا عليها أولى من رواية من عرفت عدالته بتزكية من لم يكن كذلك وخامسها رواية من عرفت عدالته بتزكية الأعلم الأروع أولى من رواية من عرفت عدالته بتزكية العالم الورع وسادسها رواية من عرفت عدالته بتزكية المعدل مع ذكر أسباب العدالة أولى من رواية من زكاة المعدل بدون ذكر أسباب العلة العدالة

وسابعها المزكى إذا زكى الراوى فإن عمل بخبره كانت روايته راجحة على ما إذا زكاه وروى خبره وثامنها رواية العدل الذي لا يكون صاحب البدعة أولى من رواية العدل المبتدع سواء كانت تلك البدعة كفرا في التأويل أو لم تكن أما التراجيح الحاصلة بسبب الذكاء فهي على وجوه أحدها رواية الأكثر تيقظا والأقل نسيانا راجحة على رواية من لا يكون كذلك وثانيها إذا كان أحدهما أشد ضبطا لكنه أكثر نسيانا والآخر يكون أضعف ضبطا لكنه أقل نسيانا ولم تكن قلة الضبط وكثرة النسيان بحيث تمنع من قبول خبره على ما بينا في باب الأخبار فالأقرب التعارض وثالثها أن يكون أحدهما أقوى حفظا لألفاظ الرسول ص من غيره فإن الحجة بالحقيقة ليست إلا في كلام الرسول عليه الصلاة والسلام ورابعها أن يجزم أحدهما ويقول الآخر كذا قال فيما أظن وخامسها أن يكون الرواى قد اختلط عقله في بعض الأوقات ثم لا يعرف أنه

روى هذا الخبر حال سلامة العقل أو حال اختلاطه وسادسها إذا كان أحدهما حفظ لفظ الحديث والآخر عول على المكتوب فالأول أولى لأنه أبعد عن الشبهة وفيه احتمال أما التراجيح الحاصلة بسبب شهرة الراوى فأمور أحدها أن يكون من كبار الصحابة لأن دينه لما منعه عن الكذب فكذا منصبه العالى يمنعه عنه ولذلك كان علي رضي الله عنه يحلف الرواة وكان يقبل رواية الصديق من غير التحليف وثانيها صاحب الاسمين مرجوح بالنسبة إلى صاحب الاسم الواحد وثالثها رواية معروف النسب راجحة على رواية مجهول النسب ورابعها أن يكون في رواة أحد الخبرين رجال تلتبس أسماؤهم بأسماء قوم

التراجيح الراجعة إلى زمان الرواية

ضعفاء ويصعب التمييز فيرجح عليه الخبر الذي لا يكون كذلك أما التراجيح الراجعة إلى زمان الرواية فأمور أحدها إذا كان قد اتفق لأحدهما رواية الحديث في زمان الصبا وغير زمان الصبا فروايته مرجوحة بالنسبة إلى رواية من لم يرو الا في زمان البلوغ وثانيها إذا كان أحدهما قد تحمل الحديث في الزمانين ولم يرو إلا في حالة البلوغ فهو مرجوح بالنسبة إلى من لم يتحمل ولم يرو إلا في الكبر وثالثها من احتمل فيه هذان الوجهان كان مرجوحا بالنسبة إلى من لم يوجد ذلك فيه أما التراجيح العائدة إلى كيفية الرواية فأمور أحدها أن يقع الخلاف في أحدهما أنه موقوف على الراوى أو مرفوع إلى الرسول ص فالمتفق على كونه مرفوعا أولى وثانيها أن يكون أحد الخبرين منسوبا إليه قولا والآخر اجتهادا بأن يروى أنه وقع ذلك في مجلس الرسول ص فلم ينكر عليه فالأول أولى لأنه أقل احتمالا

وثالثها أن يذكر أحدهما سبب نزول ذلك الحكم ولم يذكره الآخر فيكون الأول راجحا لأنه يدل على أنه كان له من الاهتام عن بمعرفة ذلك الحكم ما لم يكن للآخر ورابعها أن يروى أحدهما الخبر بلفظه والآخر بمعناه أو يحتمل أن يكون قد رواه بمعناه فالأول أولى وخامسها أن يروى أحدهما حديثا يعضد الحديث الأول فيترجح على ما لا يكون كذلك وسادسها إذا أنكر راوى الأصل فقد ذكرنا فيه تفصيلا وكيف كان فهو مرجوح بالنسبة إلى ما لا يكون كذلك وسابعها لو قبلنا المرسل فإذا أرسل أحدهما وأسند الآخر فعندنا المسند أولى وقال عيسى بن أبان المرسل أولى وقال القاضي عبد الجبار يستويان لنا أنه إذا أرسل فعدالته معلومة لرجل واحد وهو الذي يروى عنه وإذا

أسند صارت عدالته معلومة للكل لأنه يكون كل واحد متمكنا من البحث عن أسباب جرحه وعدالته ولا شك أن من لم تظهر عدالته إلا لرجل واحد يكون مرجوحا بالنسبة إلى من ظهرت عدالته لكل أحد لاحتمال أن يكون قد خفي حال الرجل على إنسان واحد ولكن يبعد أن يخفي حاله على الكل فثبت أن المسند أولى احتج المخالفون بأمرين الأول أن الثقة لا يقول قال الرسول ذلك فيحكم عليه بالتحليل والتحريم ويشهد به إلا وهو قاطع أو كالقاطع بذلك بخلاف ما إذا أسند الحديث وذكر الواسطة فإنه لم يحكم على ذلك الخبر بالصحة فلم يزد على حكاية أن فلانا زعم أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال ذلك فكان الأول أقوى الثاني روى أن الحسن قال إذا حدثني أربعة نفر من أصحاب رسول الله ص بحديث تركتهم وقلت قال رسول الله ص فأخبر عن نفسه أنه لا يستجيز هذا الإطلاق إلا عند فرط الوثوق والجواب عن الأول أن قول الراوي قال رسول الله ص لا يمكن

التراجيع الراجعة إلى حال ورود الخبر

إجراؤه على ظاهره لأنه يقتضى الجزم بصحة خبر الواحد وهو جهل وغير جائز فوجب حمله على أن المراد منه أني أظن أن رسول الله ص قال وإذا كان كذلك كان الإسناد أولى من الإرسال لأن في الإسناد يحصل ظن العدالة للكل وفي الإرسال لا يحصل ذلك الظن إلا للواحد وهذا هو الجواب بعينه عن الوجه الثاني فرعان الأول لو صح رجحان المرسل على المسند فإنما يصح لو قال الراوي قال رسول الله ص أما إذا لم يقل ذلك بل قال عن النبي ص فالأظهر أنه لا يترجح لأنه في معنى قوله روى عن الرسول الثاني رجح قوم بالحرية والذكورة قياسا على الشهادة وفيه احتمال القول في التراجيح الراجعة إلى حال ورود الخبر وهي ثمانية الأول أن تكون إحدى الآيتين أو الخبر مدنيا والآخر مكيا فالمدني مقدم لأن الغالب في المكيات ما كان قبل الهجرة والمدني لا محالة مقدم عليه

أما المكيات المتأخرة عن المدنيات فقليلة والقليل ملحق بالكثير فيحصل الرجحان الثاني الخبر الذي يظهر وروده بعد قوة الرسول عليه الصلاة والسلام وعلو شأنه راجح على الخبر الذي لا يدل على ذلك لأن علو شأنه كان في آخر أمره ص فالخبر الوارد في هذا الوقت حصل فيه ما يقتضى تأخره عن الأول والأولى أن يفصل فيقال إن دل الأول على علو الشأن والثاني على الضعف ظهر تقديم الأول على الثاني أما إذا لم يدل الثاني لا على القوة ولا على الضعف فمن أين يجب تقديم الأول عليه الثالث أن يكون راوى أحد الخبرين متأخر الإسلام ويعلم أن سماعه كان بعد إسلامه وراوى الخبر الثاني متقدم الإسلام فيقدم الأول لأنه أظهر تأخرا والأولى أن يفصل فيقال المتقدم إذا كان موجودا مع المتأخر لم يمتنع أن تكون روايته متأخرة عن رواية المتأخر وأما إذا علمنا أنه مات المتقدم قبل إسلام المتأخر أو علمنا أن أكثر رويات المتقدم متقدم على رواية المتأخر فهاهنا نحكم بالرجحان لأن النادر يحلق يلحق بالغالب

الرابع أن يحصل إسلام الراويين معا كإسلام خالد وعمرو بن العاص لكن يعلم أن سماع أحدهما بعد إسلامه ولا يعلم ذلك في سماع الآخر فيقدم الأول لأنه أظهر تأخرا الخامس أن يكون أحد الخبرين مؤرخا بتاريخ محقق والآخر يكون خاليا من التاريخ فيقدم الأول لأنه أظهر تأخرا مثاله ما روي أنه عليه الصلاة والسلام في مرضه الذي توفي فيه خرج فصلى بالناس قاعدا والناس قيام فهذا يقتضى جواز اقتداء القائم بالقاعد وقد روى أنه عليه الصلاة والسلام قال إذا صلى الإمام قاعدا فصلوا قعودا أجمعين وهذا يقتضي عدم جواز ذلك فرجحنا الأول لأنه

كان في آخر أحوال النبي عليه الصلاة والسلام وأما الثاني فيحتمل انه كان قبل المرض السادس أن يكون أحدهما مؤقتا بموقت متقدم والآخر يكون خاليا عن الوقت فيقدم الخالى لأنه أشبه بالمتأخر السابع أن تكون حادثة كان الرسول ص يغلظ بها زجرا لهم عن العادات القديمة ثم خفف فيها نوع تخفيف فيرجح التخفيف على التغليظ لأنه أظهر تأخرا وهذا ضعيف لاحتمال أن يقال بل يرجح التغليظ على التخفيف لأنه عليه الصلاة والسلام ما كان يغلظ إلا عند علو شأنه وذلك متأخر الثامن عمومان متعارضان أحدهما واردا ابتداءا والآخر على سبب فالأول أولى لأن من الناس من قال الوارد على السبب يختص به ولا يعم لكن ذلك وإن لم يجب فلا أقل من أن يفيد الترجيح

التراجيح الراجعة إلى اللفظ

وأعلم أن هذه الوجوه في التراجيح ضعيفة وهى لا تفيد إلا خيالا ضعيفا في الرجحان القول في التراجيح الراجعة إلى اللفظ وهي من وجوه الأول أن يكون اللفظ في أحدهما بعيدا عن الاستعمال وفيه ركاكة والآخر فصيح فمن الناس من رد الأول لأنه عليه الصلاة والسلام كان أفصح العرب فلا يكون ذلك كلاما له ومنهم من قبله وحمله على أن الراوى رواه بلفظ نفسه وكيف ما كان فأجمعوا على ترجيح الفصيح عليه وثانيها قال بعضهم يقدم الأفصح على الفصيح وهو ضعيف لأن الفصيح لا يجب في كل كلامه أن يكون كذلك وثالثها أن يكون أحدهما عاما والآخر خاصا فيقدم الخاص على العام وقد تقدم دليله في باب العموم

ورابعها أن يكون أحدهما حقيقة والآخر مجازا فتقدم الحقيقة لأن دلالتها أظهر وهذا ضعيف لأن المجاز الغالب أظهر دلالة من الحقيقة فإنك لو قلت فلان بحر فهو أقوى دلالة على قولك فلان سخى وخامسها أن يكونا حقيقتين إلا أن أحدهما أظهر في المعنى إما لكثرة ناقليه أو لكون ناقله أقوى وأتقن من ناقل غيره ويجرى هاهنا كل ما ذكرناه في ترجيح الخبر نظرا إلى حال الراوى وسادسها أن يكون وضع أحدهما لمسماه متفقا عليه ووضع الآخر مختلفا فيه وسابعها أن الذي يكون محتاجا إلى الإضمار مرجوح بالنسبة إلى الذي لا يحتاج إليه وثامنها الذي يدل على المقصود بالوضع الشرعي أو العرفي أولى مما يدل عليه بالوضع اللغوي وهاهنا تفصيل فإن اللفظ الذي صار شرعيا حمله على المعنى الشرعي أولى من حمله على اللغوي فأما الذي لم يثبت ذلك فيه مثل أن يدل أحد اللفظين بوضعه الشرعي

على حكم واللفظ الثاني بوضعه اللغوي على حكم وليس للشرع في هذا اللفظ اللغوى عرف شرعي فلا نسلم ترجيح الشرعي على هذا اللغوى لأن هذا اللغوى إذا لم ينقله الشرع فهو لغوى عرفي شرعي وأما الثاني فهو شرعي وليس بلغوى ولا عرفي والنقل على خلاف الأصل فكان اللغوى أولى وتاسعها إذا تعارض مجازان فالذي يكون أكثر شبها بالحقيقة أولى وأيضا إذا تعارض خبران ولا يمكن العمل بأحدهما إلا بمجازين من والآخر يمكن العمل به بمجاز واحد كان هذا راجحا على الأول لأنه أقل مخالفة للأصل وعاشرها أن يكون أحدهما دخله التخصيص والآخر لم يدخله التخصيص فالذي لم يدخله التخصيص يقدم على الأول لأن الذي دخله التخصيص قد أزيل عن تمام مسماه والحقيقة مقدمة على المجاز وحادى عشرها أن يدل أحدهما على المراد من وجهين والآخر من وجه واحد يقدم الأول لأن الظن الحاصل منه أقوى

وثاني عشرها أن يكون أحد الحكمين مذكورا مع علته والآخر ليس كذلك فالأول أقوى ومن هذا القبيل أن يكون أحدهما مقرونا بمعنى مناسب والآخر يكون معلقا بمجرد الاسم فيكون الأول أولى وثالث عشرها أن يكون أحدهما تنصيصا على الحكم مع اعتباره بمحل آخر والآخر ليس كذلك يقدم الأول في المشبه والمشبه به جميعا لأن اعتبار محل بمحل إشارة إلى وجود علة جامعة مثاله قول الحنفية في قوله عليه الصلاة والسلام أيما إهاب دبغ فقد طهر كالخمر تخلل فتحل رجحناه في المشبه على قوله عليه الصلاة والسلام لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب وفي المشبه به في مسألة تحليل الخمر على قوله أرقها

ورابع عشرها أن تكون دلالة أحدهما مؤكدة ودلالة الأخرى لا تكون مؤكدة فتقدم الأولى كقوله عليه الصلاة والسلام فنكاحها باطل باطل باطل وخامس عشرها أن يكون أحدهما تنصيصا على الحكم مع ذكر المقتضي لضده كقوله عليه الصلاة والسلام كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها يقدم على ما ليس كذلك لأن اللفظ يدل على ترجيح ذلك على ضده ولأن تقديمه يقتضى النسخ مرة وتقديم ضده يقتضى النسخ مرتين فيكون الأول أولى وسادس عشرها يقدم أن يكون أحد الدليلين مقرونا بنوع تهديد فإنه على ما لا يكون كذلك كقوله عليه الصلاة والسلام من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم وكذا القول لو كان التهديد في أحدهما أكثر

التراجيح الراجعة إلى الحكم

وسابع عشرها أن يكون أحد الدليلين يقتضى الحكم بواسطة والآخر يقتضيه بغير واسطة فالثاني يرجح على الأول كما إذا كانت المسألة ذات صورتين فالمعلل إذا فرض الكلام في صورة وأقام الدليل عليه فالمعترض إذا أقام الدليل على خلافه في الصورة الثانية ثم توسل إلى الصورة الأخرى بواسطة الإجماع فيقول المعلل دليلي راجح على دليلك لأن دليلى بغير واسطة ودليلك بواسطة فيكون الترجيح معى لأن كثرة الوسائط الظنية تقتضي كثرة الاحتمالات فيكون مرجوحا بالنسبة إلى ما يقل الاحتمال فيه وثامن عشرها المنطوق مقدم على المفهوم إذا جعلنا المفهوم حجة لأن المنطوق أقوى دلالة على الحكم من المفهوم القول في التراجيح الراجعة إلى الحكم وهي من وجوه خمسة الأول إذا كان أحد الخبرين مقررا لحكم الأصل والثاني يكون ناقلا فالحق أنه يجب ترجيح المقرر وقال الجمهور من الأصوليين أنه يجب ترجيح الناقل

لنا أن حمل الحديث على ما لا يستفاد الا من الشرع أولى من حمله على ما يستقل العقل بمعرفته فلو جعلنا المبقي مقدما على الناقل لكان واردا حيث لا يحتاج إليه لأنا في ذلك الوقت نعرف ذلك الحكم بالعقل فلو قلنا إن المبقى ورد بعد الناقل لكان واردا حيث يحتاج إليه فكان الحكم بتأخره عن الناقل أولى من الحكم بتقدمه عليه وأحتج الجمهور على قولهم بوجهين الأول أن اعتبار الناقل أولى لأنه يستفاد منه ما لا يعلم إلا منه وأما المبقى فإن حكمه معلوم بالعقل فكان الناقل أولى الثاني أن في القول بكون الناقل متأخرا تقليل النسخ لأنه يقتضى إزالة حكم العقل فقط وفي القول يكون المقرر متأخرا تكثير النسخ لأن الناقل أزال حكم العقل ثم المقرر أزال حكم الناقل مرة أخرى والجواب عن الأول ما ذكرناه في الدليل وهو أنا لو جعلنا المبقى متأخرا لكنا قد استفدنا منه مالا يستقبل العقل به ولو جعلناه متقدما لكنا قد استفدنا منه ما يتمكن العقل من معرفته

وعن الثاني أن ورود الناقل بعد ثبوت حكم الأصل ليس بنسخ لأن دلالة العقل مقيدة بشرط عدم دليل السمع فإذا وجد فلا يبقى دليل العقل فلا يكون دليل السمع مزيلا لحكم العقل بل مبينا لانتهائه فلا يكون ذلك خلاف الأصل وأيضا فما ذكرتموه معارض بوجه آخر وهو أنا لو جعلنا المبقى مقدما لكان المنسوخ حكما ثابتا بدليلين دليل العقل ودليل الخبر فيكون هذا أشد مخالفة لأنه يكون ذلك نسخا للأقوى بالأضعف وهو غير جائز وأما على الوجه الذي قلناه فلا يكون المنسوخ إلا دليلا واحدا فرع فان قيل أفتجعلون العمل بالناقل على ما ذكره الجمهور أو بالمقرر على ما ذكرتموه في باب الترجيح قلنا قال القاضي عبد الجبار أنه ليس من باب الترجيح واستدل عليه بوجهين الأول أنا نعمل بالناقل على أنه ناسخ والعمل بالناسخ ليس من باب الترجيح الثاني أنه لو كان العمل بالناقل ترجيحا لوجب أن يعمل بالخبر الآخر لولاه لأن

هذا حكم كل خبرين رجحنا أحدهما على الآخر ومعلوم أنه لولا الخبر الناقل لكنا إنما نحكم بموجب الخبر الآخر لدلالة العقل لا لأجل الخبر ويمكن أن يجاب عن الأول بأنا لا نقطع في الأصول بأن الناقل عن حكم الأصل متأخر وناسخ وإنما نقول الظاهر ذلك مع جواز خلافه فهو إذن داخل في باب الأولى وهذا ترجيح وعن الثاني أنه لو كان الخبر الناقل لعلمنا بموجب الخبر الآخر لأجله ألا ترى أنا نجعله حكما شرعيا ولهذا لا يصح رفعه إلا يصح النسخ به ولولا أنه بعد ورود الخبر صار شرعيا وإلا لما كان كذلك الثاني قال القاضي عبد الجبار الخبران إذا كان أحدهما نفيا والآخر إثباتا وكانا شرعيين فإنهما سواء وضرب لذلك أمثلة ثلاثة أحدها أن يقتضى العقل حظر الفعل ثم ورد خبران في إباحته ووجوبه

وثانيها أن يقتضى العقل وجوب الفعل ثم ورد خبران في حظره وإباحته وثالثها أن يقتضى العقل إباحة الفعل ثم ورد خبران في وجوبه وحظره واعلم أن هذا لا يستقيم على مذهبنا في أن العقل لا يستقل في شئ من الأحكام بالقضاء والنفى بالإثبات بل ذلك لا يستفاد إلا من الشرع وحينئذ لا يكون لأحدهما مزية على الآخر وأما على مذهب المعتزلة فلا يتم ذلك لأنه لا بد في كل نفى وإثبات متواردين على حكم واحد أن يكون أحدهما عقليا بيانه أن الإباحة تشارك الوجوب في جواز الفعل وتخالفه في جواز الترك وتشارك الحظر في جواز الترك وتخالفه في جواز الفعل فهى تشارك كل واحد من الوجوب والحظر بما به تخالف الآخر إذا ثبت هذا فنقول إذا اقتضى العقل الحظر فقد اقتضى جواز الترك أيضا لأن ما صدق عليه أنه محظور فقد صدق عليه أنه يجوز تركه فإذا جاء خبر الإباحة والوجوب فالإباحة إنما تنافي الوجوب من حيث إن الإباحة تقتضى جواز الترك لا من حيث إنها تقتضى جواز الفعل لكن جواز الفعل هاهنا كما عرفت حكم عقلى فثبت أنه لا بد هاهنا في

النفي والإثبات من كون أحدهما عقليا فيه فليعمل فيه كما في المثال الأول وأما المثال الثاني وهو ما إذا اقتضى العقل الوجوب وجاء خبران في الحظر والإباحة فالكلام فيه كما في المثال الأول وأما المثال الثالث وهو ما إذا اقتضى العقل والإباحة ثم في جاء خبرأن في الحضر والوجوب فنقول لما ثبت أن الإباحة تشارك كل واحد من الوجوب والحظر بما به تخالف الآخر وإذا كانت الإباحة مقتضى العقل لزم أن يكون الوجوب مقررا لحكم العقل من وجه وناقلا من وجه آخر وكذا القول في الحظر فهاهنا أيضا لابد في النفى والإثبات المتواردين بن على أمر واحد أن يكون أحدهما عقليا وإذا ثبت أنه لا بد في النفي والإثبات من كون أحدهما عقليا رجع الترجيح إلى ما تقدم من أن الناقل أرجح أم المبقى فرع إذا كان مقتضى العقل الحظر ثم ورد خبران في الإباحة والوجوب والإباحة تشارك الحظر من وجه وتخالفه من وجه آخر فخبر الإباحة يقتضى بقاء حكم العقل من وجه والنقل من وجه وأما الوجوب فإنه يخالف الحظر في القيدين معا فيكون الوجوب مقتضيا للنقل من وجهين فمن رجح الخبر الناقل على المبقى رجح خبر الوجوب ومن رجح

المبقى على الناقل فبالعكس وكذا القول فيما إذا اقتضى العقل الوجوب وجاء خبران في الحظر والإباحة فأما إذا اقتضى العقل الإباحة وجاء خبران في الحظر والوجوب فكل واحد منهما يشارك الإباحة من وجه ويخالفها من وجه آخر فإذن كل واحد منهما ناقل من وجه ومبق هذه من وجه آخر فيحصل التساوى ولا يحصل الترجيح الثالث إذا تعارض خبران في الحظر والإباحة وكانا شرعيين فقال أبو هاشم وعيسى بن أبان إنهما يستويان وقال الكرخى وطائفة من الفقهاء خبر الحظر راجح احتجوا على الترجيح للحظر بالخبر والحكم والمعنى أما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام ما اجتمع الحلال والحرام إلا وغلب الحرام الحلال ضعيف ومنقطع وقال عليه الصلاة والسلام دع ما يريبك إلى مالا يريبك وجواز هذا

الفعل يريبه لأنه بين أن يكون حراما وبين أن يكون مباحا فما يريبه جواز فعله فيجب تركه وروى عن عمر رضي الله عنه أنه قال في الأختين المملوكتين أحلتهما آية وحرمتهما آية والتحريم أولى وأما الحكم فإنه من طلق أحد نسائه ونسيها حرم عليه وطء جميع نسائه وكذلك لو أعتق إحدى إمائه وأما المعنى فهو أنه دار بين أن يرتكب الحرام أو يترك المباح وترك المباح أولى فكان الترجيح للمحرم احتياطا فإن قلت ولا يمتنع أيضا أن يكون مباحا فيكون باعتقاده الحظر مقدما على مالا يأمن كونه جهلا قلت إنه إذا استباح المحظور فقد أقدم على محظورين أحدهما الفعل والثاني اعتقاد إباحه وليس كذلك إذا امتنع من المباح لاعتقاد حظره لأنه محظور واحد والغرض هو الترجيح بضرب من القوة الرابع المثبت للطلاق والعتاق يقدم على النافي لهما عند الكرخى وقال قوم يسوى بينهما وجه الأول أن ملك النكاح واليمين مشروع على خلاف الأصل فيكون زوالهما على وفق الأصل والخبر المتأيد بموافقة الأصل راجح على الواقع على خلاف الأصل

التراجيح الحاصلة بالأمور الخارجة

الخامس النافي للحد مقدم على المثبت له عند بعض الفقهاء وأنكره المتكلمون وجه الأول من وجوه أحدها أن الحد ضرر فتكون شرعيته على خلاف الأصل والنافي له على وفق الأصل فيكون النافي له راجحا وثانيها أن ورود الخبر في نفى الحد إن لم يوجب الجزم بذلك النفى فلا أقل من أن يفيد شبهة فيه إذا حصلت الشبهة سقطت الحدود لقوله عليه الصلاة والسلام ادرؤا الحدود بالشبهات وثالثها إذا كان الحد يسقط بتعارض البينتين مع ثبوته في أصل الشرع فلأن يسقط بتعارض الخبرين في الجملة ولم يتقدم له ثبوت أولى القول في الترجيحات الحاصلة بالأمور الخارجة

وهي من وجوه أحدها الترجيح بكثرة الأدلة وقد سبق القول فيه وثانيها أن يقول بعض أئمة الصحابة أو يعمل بخلافه والخبر لا يجوز خفاؤه عليه وهذا عند البعض يحمل على نسخه أو أنه لا أصل له إذا لولاه لما خالف وعند الشافعى رضي الله عنه لا يحمل على ذلك لكن إذا عارضه خبر لا يكون كذلك كان راجحا عليه وثالثها إذا عمل بأحدهما أكثر السلف ممن لا يجب تقليدهم قال عيسى بن أبان يجب ترجيحه لأن الأكثر يوفقون للصواب مالا يوفق له الأقل وقال آخرون لا يحصل الترجيح لأنه لا يجب تقليدهم ورابعها أن خبر الواحد فيما تعم به البلوى يكون مرجوحا إما لاختلاف المجتهدين في قبوله أو لأن كونه مما تعم به البلوى إن لم يوجب القدح فيه فلا أقل من إفادته المرجوحية واعلم أن بعض ما يرجح به الخبر قد يكون أقوى من بعض فينبغى إذا استوى الخبران في كمية وجوه الترجيح أن تعتبر الكيفية فإن كان أحد الجانبين أقوى كيفية وجب العمل به

وإن كان أحد الجانبين أكثر كمية وأقل كيفية والجانب الآخر على العكس منه وجب على المجتهد أن يقابل ما في أحد الجانبين بما في الجانب الآخر ويعتبر حال قوة الظن والكلام في قوة كثير من وجوه الترجيحات طريقة الاجتهاد

القسم الرابع في تراجيح الأقيسة

القسم الرابع في تراجيح سنة الأقيسة وهي إما أن تكون بحسب ماهية العلة أو بحسب ما يدل على وجودها أو بحسب ما يدل على عليتها أو بحسب ما يدل على ثبوت الحكم في الأصل أو بحسب محل ذلك الحكم أو بحسب محالها أو بحسب أمور منفصلة عن ذلك النوع الأول في التراجيح المعتبرة بحسب ماهية العلة فنقول إنا بينا أن الحكم الشرعي إما أن يكون معللا بالوصف الحقيقي أو بالحكمة أو بالحاجة أو بالوصف العدمي أو بالوصف الإضافي أو بالوصف التقديرى أو بالحكم الشرعي وعلى كل التقديرات فالعلة إما أن تكون مفردة أو مركبة من قيدين أو أكثر واعتمد بعضهم في التراجيح الواقعة في هذا الباب على أمرين أحدهما أن كل ما كان أشبه بالعلل العقلية فهو راجح على ما لا يكون كذلك لأن العقل أصل النقل والفرع كلما كان أشبه بالأصل كان أقوى

وثانيها أن كل ما كان متفقا عليه فهو أولى مما يكون مختلفا فيه وكل ما كان الخلاف فيه أقل فهو راجح على ما يكون الخلاف فيه أكثر والسبب فيه أن وقوع الخلاف فيه يدل على حصول الشك والشبهة وهذان المأخذان ضعيفان جدا إلا في شئ واحد وهو أن كل ما كان متفقا عليه فهو أولى مما يكون مختلفا فيه وذلك لأن المقدمة إذا كانت مجمعا عليها كانت يقينية والقياس الذي يكون بعض مقدماته يقينيا وبعضه ظنيا أقوى من الذي يكون كل مقدماته ظنيا لأن الاحتمال في الأول أقل مما في الثاني ومتى كان الاحتمال أقل كان الظن أقوى إذا عرفت هذا الأصل فلنرجع إلى التفصيل وفيه مباحث أحدها أن التعليل بالوصف الحقيقي أولى من التعليل بسائر الأقسام لأن جواز التعليل بالوصف الحقيقي مجمع عليه بين القائسين والتعليل بسائر الأقسام مختلف فيه فيكون القياس الذي يكون الحكم في أصله معللا بالوصف الحقيى أقوى مما لا يكون كذلك وثانيها التعليل بالحكمة أولى من التعليل بالعدم وبالوصف الإضافي

وبالحكم الشرعي وبالوصف التقديري أما أنه أولى من العدم فلأن العلم بالعدم لا يدعو إلى شرع الحكم إلا إذا حصل العلم بإشتمال ذلك العدم على نوع مصلحة فيكون الداعى إلى شرع الحكم في الحقيقة هو المصلحة لا العدم وإذا كانت العلة هى المصلحة لا العدم كان التعليل بالمصلحة أولى من التعليل بالعدم فإن قلت فهذا يقتضي أن يكون التعليل بالمصلحة أولى من التعليل بالوصف قلت كان الواجب ذلك إلا أن الوصف أدخل في الضبط من الحاجة فلهذا المعنى ترجح الوصف على المصلحة والعدم المطلق لا يتقيد إلا إذا أضيف إلى الوجود فهو في نفسه غير مضبوط فالعدم ليس بمؤثر في الحقيقة وليس بضابط في نفسه فظهر الفرق وإذا ثبت أن التعليل بالحكمة أولى من التعليل بالعدم وقد ثبت أن الإضافات ليست أمورا وجودية لزم أن يكون التعليل بالحكمة أولى من التعليل بالإضافات وأما أنه أولى من الحكم بالشرع والوصف التقديرى فلأن التعليل بالحاجة تعليل بنفس المؤثر وهذا يمنع من التعليل بغيره ترك العمل به في

الوصف الحقيقي بالإجماع ولأنه اشتبه بالعلل العقلية فيبقى في هذه الصورة على الأصل وثالثتها التعليل بالعدم أولى أم بالحكم الشرعي يحتمل أن يقال العدم أولى لأنه أشبه بالأمور الحقيقية ويحتمل أن يقال بل بالحكم الشرعي أولى لأنه أشبه بالوجود ورابعها التعليل بالعدم أولى أم بالصفات التقديرية والأشبه هو الأول لأن المقدر معدوم أعطى حكم الموجود فكل ما في المعدوم من المحذورات فهو حاصل في المقدر مع مزيد محذور آخر وهو أنه كونه معدوما أعطى حكم الموجود فكان المعدوم أولى وخامسها تعليل الحكم الوجودى بالعلة الوجودية أولى من تعليل الحكم العدمي بالوصف العدمي ومن تعليل الحكم العدمي بالوصف الوجودى والحكم الوجودى بالوصف العدمي لأن كون العلة والمعلول عدميين يستدعى تقدير كونهما وجوديين لأنا بينا أن العلة والمعلول وصفان ثبوتيان فحملهما على المعدوم لا يمكن إلا إذا قدر المعدوم موجودا

وتعليل العدم بالعدم أولى من القسمين الباقيين للمشابهة وأما أن تعليل العدم بالوجود أولى أم تعليل الوجود بالعدم ففيه نظر وسادسها التعليل بالحكم الشرعي أولى من التعليل بالوصف المقدر لأن الأول على وفق الأصل والثاني على خلاف الأصل وسابعها التعليل بالعلة المفردة أولى من التعليل بالعلة المركبة لأن الاحتمال في المفردة أقل مما في المركب لأن المفرد لو وجد لوجد بتمامه ولو عدم لعدم بتمامه وأما المركب فليس كذلك لأن المركب من قيدين فقط يحتمل في جانب الوجود احتمالات ثلاثة وهي أن يوجد الجزء بدلا عن ذاك وذاك بدلا عن هذا ويوجد المجموع وكذا القول في جانب العدم المركب من قيود ثلاثة يوجد فيه احتمالات سبعة في طرف الوجود وسبعة في طرف العدم ومعلوم أن ما كان الاحتمال فيه أقل كان أولى فهذه جملة التراجيح العائدة إلى ماهية العلة

النوع الثاني القول في التراجيح العائدة إلى ما يدل على أن ذات العلة موجودة اعلم أن العلم بوجود تلك الذوات إما أن يكون بديهيا أو حسيا أو استدلاليا والاستدلال إما أن يفيد العلم أو الظن وعلى التقديرين فذلك الدليل إما أن يكون عقليا محضا أو نقليا محضا أو مركبا منهما فلنتكلم في هذه الأقسام فنقول أما إذا كان الطريق مفيدا لليقين سواء كان بديهيا أو حسيا أو استدلاليا يقينيا وسواء كان عقليا محضا أو نقليا محضا أو مركبا منهما وسواء كثرت المقدمات أو قلت فإنه لا يقبل الترجيح وكلام أبي الحسين يدل على أنه يقبل أما أن القطعيات لا تقبل الترجيح فلما تقدم فإن قلت الضرورى أولى من النظرى لأن الضرورى لا يقبل الشك والشبهة والنظرى يقبل ذلك قلت النظرى واجب الحصول عند حصول جميع مقدماته المنتجة له كما أن البديهي واجب الحصول عند حصول تصور طرفيه وكما أن النظرى يزول عند زوال أحد الأمور التي لا بد منها في حصول

جميع مقدماته المنتجة له فكذلك الضرورى يزول عند زوال أحد التصورات التي لا بد منها فإذن لا فرق في وجود الجزم عند حضور موجباته في البابين بل الفرق هو أن النظرى يتوقف على أمور أكثر مما يتوقف عليه الضرورى فلا جرم كان زوال النظرى أكثر من زوال الضرورى فأما وجوب الوجود وامتناع العدم عند حصول كل ما لا بد منه فلا فرق بين الضرورى والنظرى فيه ألبتة أما إذا كان الطريق الدال على وجود العلة ظنيا فقد قيل كلما كانت المقدمات المنتجة لذلك الظن أقل كان القياس أقوى لأن المقدمات متى كانت أقل كان احتمال الخطأ أقل ومتى كان احتمال الخطأ أقل كان ظن الصواب أقوى واعلم أن هذا الكلام على عمومه ليس بحق لأن الظن يقبل التفاوت في القوة والضعف فإذا فرضنا دليلا كانت مقدماته قليلة إلا أن كل واحدة منها كانت مظنونة ظنا ضعيفا ودليلا آخر ظنيا معارضا للأول مقدماته كثيرة إلا أن كل واحدة منها كانت مظنونة ظنا قويا فالقوة الحاصلة في أحد الجانبين بسبب قلة الكمية قد تصير معارضة من الجانب الآخر بسبب قوة الكيفية وقد تكون قوة الكيفية في أحد الجانبين أزيد من قلة الكمية في الجانب الآخر حتى أن الدليل الظنى الذي يكون مركبا من مائة مقدمة قد يفيد ظنا

أقوى من الظن الحاصل من الدليل المركب من مقدمتين فإذن لا بد من اعتبار هذا التفصيل الذي ذكرناه إذا عرفت هذا فنقول الدليل الظني الذي يدل على وجود العلة إما أن يكون نصا أو إجماعا أو قياسا أما القياس فالكلام فيه كما في الأول ولا يتسلسل بل ينتهي إلى النص أو الإجماع أما النص فطرق الترجيح فيه ما تقدم في القسم الثالث من هذا الكتاب وأما الإجماع فإن كانا قطعيين لم يقبل الترجيح وإن كان أحدهما قطعيا والآخر ظنيا لم يقبل الترجيح لأن الإجماع المعلوم مقدم على المظنون أما إذا كانا مظنونين فهذا يقع على وجهين أحدهما الإجماعان المختلف فيهما عند المجتهدين كالإجماع الذي يحدث عن قول البعض وسكوت الباقين وثانيهما الإجماع المنقول بطريق الآحاد فهذان القسمان في محل الترجيح وأما الذي يقال إن أحدهما متفق عليه والآخر مختلف فيه فإن أريد

به عدم الاختلاف في أحدهما ووقوعه في الآخر فذلك ليس من باب الترجيح لأن تقدم المعلوم على المظنون قطعي وإن عني به قله الاختلاف في أحدهما وكثرته في الآخر فلا نسلم أن هذا القدر يوجب الترجيح ولنختم هذا الفصل بشئ وهو أنه إذا تعارض قياسان وكان وجود الأمر الذي جعل علة لحكم الأصل في أحد القياسين معلوما وفي الآخر مظنونا كان الأول راجحا لما بينا أن القياس الذي بعض مقدماته معلوم راجح على ما كان كل مقدماته مظنونا النوع الثالث القول في التراجيح الحاصلة بسبب الطرق الدالة على علية الوصف في الأصل وقد ذكرنا في كتاب القياس أن الطرق الدالة على علية الوصف في الأصل إما الدليل النقلى أو العقلى أما الدليل النقلى فإما أن يكون نصا أو إيماءا أما النص فقد يكون بحيث لا يحتمل غير العلية وهو ألفاظ ثلاثة وهى قوله لعله كذا أو لسبب كذا كذا أو لأجل كذا فهذا مقدم على جميع الطرق النقلية وأما الذي يحتمل غير العلية ولكنه ظاهر جدا فألفاظ ثلاثة وهي اللام وإن والباء وحرف اللام مقدم على إن والباء لأن اللام

ظاهر جدا في التعليل وأما لفظ أن فقد يكون للتأكيد ولفظ الباء قد يكون للإلصاق كقولك كتبت بالقلم وقد يفيد كونه محكوما به كقوله عليه الصلاة والسلام أنا أقضي بالظاهر أما حيث تأتي لا للآلة ولا لأن تكون محكوما به كان مرادفا للأم فإنه لا فرق بين أن يقال قتلته لجنايته وقتلته بجنايته وأما الباء وإن أيهما المقدم ففيه احتمال وأما الإيماءات ففيها أبحاث أحدها أنا بينا أن دلالة الإيماء على علية الوصف في الأصل لا تتوقف على كونه مناسبا ولكن الوصف الذي يكون مناسبا راجح على مالا يكون كذلك وثانيهما أن إيماء الدلالة اليقينية راجح على إيماء الدلالة الظنية لما عرفت أن الدليل الذي بعض مقدماته يقيني والبعض ظني راجح على ما يكون كل مقدماته ظنيا وأما إذا ثبتت علية الوصفين بإيماء خبر الواحد فوجوه الترجيح فيه ما ذكرناه في باب الخبر الواحد وثالثها أن الجمهور اتفقوا على أن ما ظهرت عليته بالإيماء راجح على ما ظهرت

عليته بالوجوه العقلية من المناسبة والدوران والسبر وهذا فيه نظر وذلك لأن الإيماء لما لم يوجد فيه لفظ يدل على العلية فلا بد وأن يكون الدال على عليته أمر آخر سوى اللفظ ولما بحثنا لم نجد شيئا يدل على عليتها إلا أحد أمور ثلاثة المناسبة والدوران والسبر على ما مر ذلك في باب الإيماءات وإذا ثبت أن الإيماءات لا تدل إلا بواسطة أحد هذه الطرق الثلاثة كان الأصل لا محالة أقوى من الفرع فكان كل واحد من هذه الثلاثة أقوى من الإيماءات ورابعها أنا قد ذكرنا أن أقسام الإيماءات خمسة وكل واحد من تلك الأقسام يندرج تحته أقسام كثيرة واستيفاء القول في هذا يقتضي أن نتكلم في تفاصيل كل واحد من أقسام تلك الأقسام مع ما يشاركه في جنسه ومع ما هو خارج من جنسه لأنه لا يبعد أن يكون أحد الجنسين أقوى من الجنس الآخر ويكون بعض أنواع الضعيف أقوى من بعض أنواع القوي لكنا تركنا هذا لطولها وكثرتها أما الطرق العقلية فقد ذكرنا منها ستة وهي المناسب والمؤثر والشبه والدوران والطرد والسبر فلنتكلم في تفاصيل هذه الأجناس ثم في تفاصيل أنواع كل واحد من هذه الأجناس

أما تفاصيل هذه الأجناس ففيها أبحاث أحدها أن المناسبة أقوى من الدوران وقال قوم الدوران أقوى وعبروا عن ذلك بأن العلة المطردة المنعكسة أقوى مما لا يكون كذلك لنا إن الوصف إنما يؤثر في الحكم لمناسبته فالمناسبة علة لعلية العلة وليس تأثير الوصف في الحكم لدورانه معه لأن الدوران في الحقيقة ليس من لوازم العلية لأن العلة إذا كانت أخص من المعلول كانت العلية منفكة هناك عن الدوران وقد ينفك الدوران عن العلية كما في الصور التي عددناها في باب الدوران وإذا كان كذلك كان الاستدلال بالمناسبة على العلية أقوى من الاستدلال بالدوران عليها احتج المخالف بوجهين الأول إن العلة المطردة المنعكسة أشبه بالعلل العقلية فتكون أقوى الثاني أنهم أجمعوا على صحة المطرد المنعكس ومن الناس من أنكر العلة التي لا تكون منعكسة

والجواب عن الأول لا نسلم أن العكس واجب في العلل العقلية وقد بيناه في كتبنا العقلية سلمناه لكن لا نسلم أن الأشبه بالعلل العقلية أولى وعن الثاني أن ذلك يقتضي ترجيح المناسب المطرد المنعكس على المناسب الذي لا يكون مطردا منعكسا ولا نزاع فيه أما أنا لا نقضي بترجيح الدوران المنفك عن المناسبة على المناسب المنفك عن الدوران فلأنه إذا وجد الدوران بدون المناسبة فقد لا تحصل العلة كرائحة الخمر مع حرمتها وثانيها أن المناسبة أقوى من التأثير لأنه لا معنى للتأثير إلا أنه عرف تأثير هذا الوصف في نوع هذا الحكم وفي جنسه وكون الشي مؤثرا في شئ لا يوجب كونه مؤثرا فيما يشاركه في جنسه أما كونه مناسبا فهو الذي لأجله صار الوصف مؤثرا في الحكم فكان الاستدلال بالمناسبة على العلية أقوى من الاستدلال بالتأثير عليها وثالثها أن السبر إما أن يكون قاطعا في مقدماته أو

مظنونا في مقدماته أو قاطعا في بعض مقدماته ومظنونا في البعض فإن كان قاطعا في كل مقدماته كان العمل به متعينا وليس هذا بترجيح أما إذا كان مظنونا في كل مقدماته مثل أن يدل دليل ظني على أن الحكم معلل ودليل آخر ظني على أن العلة إما هذا الوصف أو ذاك ودليل آخر ظني على أن العلة ليست ذلك الوصف فيحصل هاهنا ظن أن العلة ليست إلا هذا الوصف فهاهنا العمل بالمناسبة أولى من العمل بهذا السبر وذلك لأن الدليل الدال على هذه المقدمات الثلاث التي لا بد منها في السبر إما النص أو الإيماء أو الطرق العقلية فإن كان هو النص صارت تلك المقدمات يقينية وقد فرضناها ظنية هذا خلف وإن كان إيماءا فقد عرفت أن الإيماء مرجوح بالنسبة إلى المناسبة وأما الطرق العقلية فالمناسبة أولى من غيرها لأن المناسبة مستقلة بإنتاج العلية والسبر لا ينتج العلية إلا بعد مقدمات كثيرة والمثبت لتلك المقدمات إما المناسبة أو غيرها فإن كان الأول كانت المناسبة أولى من السبر لأن في إثبات الحكم بالمناسبة تكفي المناسبة الواحدة في الإنتاج وفي السبر لابد من ثلاث مقدمات والكثرة دليل المرجوحية وإن كان الثاني كانت المناسبة أولى لأن المناسبة علة لعلية العلة وغير المناسبة ليس كذلك فالاستدلال بالمناسبة على العلية أولى

وأما إن كان السبر مظنونا في بعض المقدمات مقطوعا في البعض عاد الترجيح المذكور في تلك المقدمات المظنونة ورابعها أن المناسبة أقوى من الشبه والطرد وذلك واضح لا حاجة به إلى الدليل فهذا هو الكلام في تراجيح هذه الطرق الستة العقلية بحسب الجنس ولنتكلم الآن في أنواع كل واحد منها وفيه سائل المسألة الأولى ترجيح بعض المناسبات على بعض إما أن يكون بأمور عائدة إلى ماهياتها أو بأمور خارجة عنها أما القسم الأول فتقريره أنك قد عرفت أن كون الوصف مناسبا إما أن يكون لأجل مصلحة دنيوية أو دينية والمصلحة الدنيوية إما أن تكون في محل الضرورة أو في محل الحاجة أو في محل الزينة والتتمة وظاهر أن المناسبة التي من باب الضرورة راجحة على التي من باب الحاجة والتي من باب الحاجة مقدمة على التي من باب الزينة ثم قد عرفت أن المناسبة التي من باب الضرورة خمسة وهي مصلحة النفوس والعقول والأديان والأموال والأنساب فلا بد من بيان كيفية ترجيح بعض هذه الأقسام على بعض

ثم عرفت أن الوصف المناسب للحكم قد يكون نوعه مناسبا لنوع الحكم وقد يناسب جنسه نوع الحكم وقد يناسب نوعه جنس الحكم وقد يناسب جنسه جنس الحكم ولا شك في تقدم الأول على الثلاثة الأخيرة والثاني والثالث وأما الثاني والثالث فهما كالمتعارضين ولا شك في تقدمهما على الرابع ثم الجنس قد يكون قريبا وقد يكون بعيدا والمناسبة المتولدة من الجنس القريب تقدم على المناسبة المتولدة من الجنس البعيد ثم المناسبة في كل قسم من هذه الأقسام قد تكون جلية وقد تكون خفية أما الجلي فهو الذي يلتفت الذهن إليه في أول سماع الحكم كقوله عليه الصلاة السلام لا يقضى القاضي وهو غضبان فإنه يلتفت الذهن عند سماع هذا الكلام إلى أن الغضب إنما منع من الحكم لكونه مانعا من استيفاء الفكر وأما الخفي فهو الذي لا يكون كذلك ولا شك في تقدم الجلي على الخفي وأما القسم الثاني وهو ترجيح بعض المناسبات على بعض بأمور خارجة عنها فذلك على وجوه

أحدها أن المناسبة المتأيدة بسائر الطرق أعني الإيماء والدوران والسبر راجحة على ما لا يكون كذلك ويرجع حاصله إلى الترجيح بكثرة الأدلة وثانيها المناسبة الخالية عن المعارض راجحة على ما لا يكون كذلك فإن المناسبة وإن كانت لا تبطل بالمعارضة لكنها مرجوحة بالنسبة إلى مالا تكون معارضة وثالثها الذي يناسب الحكم من وجهين راجح على مالا يناسب إلا من وجه واحد وعلته ظاهرة وأيضا كلما كانت الجهات أكثر كانت أرجح مسألة الدوران الحاصل في صورة واحدة راجح على الحاصل في صورتين لأن احتمال الخطأ في الدوران الحاصل في الصورة الواحدة أقل من احتماله في الدوران الحاصل في صورتين ومتى كان احتمال الخطأ أقل كان الظن أقوى بيان الأول أن العصير لما لم يكن مسكرا في الزمان الأول فلم يكن محرما ثم صار مسكرا بعد ذلك فصار محرما ثم لما زالت المسكرية مرة أخرى زالت الحرمة فهاهنا نقطع بأن شيئا من الصفات الباقية في الأحوال

الثلاثة لا يصلح لعلية هذا الحكم وإلا لزم وجود العلة بدون الحكم وأما الدوران في صورتين فهو كما يقول الحنفي في مسألة الحلي كونه ذهب موجب للزكا لأن التبر لما كان ذهبا وجبت الزكاة فيه والثياب لما لم تكن ذهبا لم تجب الزكاة فيها فهاهنا لا يمكن القدح في علية الصفات الباقية بمثل ما ذكرناه في الصورة الأولى فثبت أن احتمال المعارض في الصورة الأولى أقل فكان الظن فيها أقوى مسألة قد ذكرنا أن الشبه قد يكون شبها في الحكم الشرعي وقد يكون شبها في الصفة واختلفوا في الراجح والأظهر أن الشبه في الصفة أولى لأنها أشبه بالعلل العقلية النوع الرابع في التراجيح الحاصلة بسبب دليل الحكم فنقول هذا الطريق لا شك أنه يكون دالا ثم ذلك الطريق إما أن يكون في القياسين المتعارضين قطعيا أو ظنيا أو يكون في أحدها قطعيا وفي الآخر ظنيا فإن كان قطعيا فيهما معا استحال الترجيح في ذلك لما عرفت وإن كانا ظنيين فالدليل الدال عليهما إما أن يكون لفظا أو إجماعا أو قياسا فلنتكلم في تفاصيل هذه الأجناس ثم في تفاصيل أنواع كل واحد من هذه الأجناس

أما البحث الأول فيشتمل على مسألتين إحداها قالوا القياس الذي ثبت الحكم في أصله بالإجماع أقوى من الذي ثبت الحكم في أصله بالدلائل اللفظية لأن الدلائل اللفظية تقبل التخصيص والتأويل والإجماع لا يقبلهما وهذا مشكل لأنا حيث أثبتنا الإجماع إنما أثبتناه بالدلائل اللفظية والفرع كيف يكون أقوى حالا من الأصل المسألة الثانية قد تقدم في كتاب القياس أن الحكم في الأصل لا يجوز أن يكون مثبتا بالقياس وإن كان قد جوزه قوم والمجوزون اتفقوا على أن القياس الذي ثبت الحكم في أصله بالنص راجح على الذي ثبت الحكم في أصله بالقياس لأن ذلك القياس لا يتفرع على قياس آخر إلى غير نهاية بل لا بد من الانتهاء إلى أصل ثبت حكمه بالنص وإذا كان كذلك فالنص أصل القياس والأصل راجح على الفرع البحث الثاني في تفاصيل أنواع كل واحد من هذه الأجناس الثلاثة فنقول أما الدلائل اللفظية فإما أن تكون متواترة أو آحادا فإن كانت متواترة لم يمكن ترجيح بعضها على بعض إلا بما يرجع إلى المتن وإن كانت آحادا أمكن ترجيح بعضها على بعض بما في المتن وبما

في الإسناد وتلك الوجوه قد ذكرناها فيما تقدم فلا فائدة في الإعادة وبالجملة فكلما كان ثبوت الحكم في الأصل أقوى كان القياس أرجح فإن كان ثبوت الحكم في أحد القياسين مقطوعا وفي الآخر كان الأول أولى لما تقدم أن القياس الذي بعض مقدماته مقطوع والبعض مظنون راجح على ما كل مقدماته مظنون وأيضا فإذا ثبت الحكم في أحد الأصلين بإيماء خبر متواتر فهو راجح على ما ثبت بإيماء خبر واحد ولكن بشرط التعادل في الإيماءين ولو ثبت الحكم في الأصل بخبر الواحد فالذي هو مدلول حقيقة اللفظ راجح على ما هو مدلول مجازه النوع الخامس القول في التراجيح الحاصلة بسبب كيفية الحكم وهي على وجوه أحدها القياس الذي يوجب حكما شرعيا راجح على ما يوجب حكما عقليا لأن القياس دليل شرعي فيجب أن يكون حكمه شرعيا إلا أنا لو قدرنا تقديم العلة المثبتة للحكم الشرعي على المثبتة للحكم العقلي لزم النسخ مرتين

ولو قدرنا تقديم العقل لزم النسخ مرة فإن قلت كيف يجوز أن يستخرج من أصل عقلي علة شرعية قلت يجوز ذلك إذا لم ينقلنا عنه الشرع فنستخرج العلة التي لأجلها لم ينقلنا عنه الشرع أما إذا كان أحد الحكمين نفيا والآخر إثباتا وكانا شرعيين فقيل إنهما يتساويان لكنا ذكرنا في باب ترجيح الأخبار أنه لابد وأن يكون أحدهما عقليا وثانيها الترجيح بكون أحد الحكمين في الفرع حظر فذلك الحظر إما أن يكون شرعيا أو عقليا فإن كان شرعيا فهو راجح على الإباحة لأنه شرعى ولأن الأخذ بالحظر أحوط وإن كان عقليا فكونه حظرا جهة الرجحان وكونه عقليا جهة المرجوحية فيجب الرجوع إلى ترجيح آخر ولا بد في الحظر والإباحة من كون أحدهما عقليا على ما تقدم وثالثها أن يكون حكم إحدى العلتين العتق وحكم الأخرى الرق فالمثبتة للعتق أولى لأن للعتق مزيد قوة ولأنه على وفق الأصل ورابعها إذا كان حكم إحداهما في الفرع إسقاط الحد وحكم الأخرى إثباته فالمسقطة أولى لأن ثبوته على خلاف الأصل فإن قلت المثبت للعقوبات يثبت حكما شرعيا والدارئ يثبت حكما عقليا فالمثبت للحكم الشرعي أولى الجواب أن الشرع إذا ورد بالسقوط صار السقوط حكما شرعيا ولذلك لا يجوز

نسخه إلا بما يسخ الحكم الشرعي وخامسها الترجيح بكون أحد حكمي العلة أزيد من حكم الآخر بأن يكون حكم أحدهما الندب وحكم الآخر الإباحة فالمثبت للندب أولى لأن في الندب معنى الإباحة وزيادة فكانت أولى إذا كانت الزيادة شرعية وسادسها العلة إذا كان حكمها الطلاق كانت راجحة لما ثبت من قوة الطلاق وسابعها القياس على الحكم الوارد على وفق قياس الأصول أولى من القياس على الحكم الوارد بخلاف قياس الأصول وعلته كون الأول متفقا عليه والثاني مختلفا فيه ولأن الأول خال عن المعارض والثاني مع المعارض فيكون الأول أولى وثامنها القياس على أصل أجمع على تعليل حكمه أولى مما لا يكون كذلك وعلته أن على التقدير الأول تكون إحدى مقدمات القياس يقينية وهي كون الحكم في الأصل معللا فيكون ذلك القياس راجحا على مالا يكون شئ من مقدماته يقينيا وتاسعها الترجيح بشهادة الأصول للحكم وقد يراد بها دلالة الكتاب والسنة والإجماع على ذلك الحكم وهذه وإن كانت صريحة فهي الأصل في إثبات الحكم فلا يجوز

الترجيح بها وإن مسها احتمال شديد جاز ترجيح القياس بها وعاشرها يقع الترجيح بقول الصحابي لأنه أعرف بمقاصد الرسول ص وكذلك إذا عضدت العلة علة أخرى كما ترجح أخبار الآحاد بعضها ببعض وحادى عشرها أن يلزم من ثبوت الحكم في الفرع محذور كتخصيص عموم أو ترك العمل بظاهر أو ترجيح مجاز على حقيقة وفرق بين هذا الترجيح وبين ما ذكرناه من شهادة الأصول لأن الحكم الشرعي قد يكون بحيث يوجد في الشرع أصول تشهد بصحته وأصول أخر تشهد ببطلانه فالقوة الحاصلة بسبب وجود الأصول التي تشهد بصحته غير القوة الحاصلة بسبب عدم ما يشهد ببطلانه ومن هذا الباب أن يكون الحكم لازما للعلة في كل الصور فإن من يجوز تخصيص العلة يسلم أن العلة المطردة أولى من المخصوصة النوع السادس في التراجيح الحاصلة بسبب مكان العلة وهو إما الأصل أو الفرع أو مجموعها أما الأصل فبأن تشهد للعلة الواحد أصول كثيرة وذلك لأن شهادة

الأصل دليل على كون تلك العلة معتبرة وكل شهادة دليل مستقل فالترجيح بالشهادات الكثيرة ترجيح بكثرة الدلائل وأما الفرع ففيه صور إحداها أن العلة المتعدية أولى من القاصرة عند الأكثرين خلافا لبعض الشافعية لنا أن المتعدية أكثر فائدة ولأنها متفق عليها والقاصرة مختلف فيها فالأخذ بالمتفق عليه أولى فكانت المتعدية أولى احتج المخالف بأن التعدية فرع الصحة والفرع لا يقوى الأصل والجواب لكنه يدل على قوته وثانيها إذا كانت فروع إحدى العلتين أكثر من الأخرى قال بعضهم هو أولى وقال آخرون لا يحصل به الرجحان حجة الأولين أنها إذا كثرت فروعها كثرت فوائدها فكانت أولى فإن قلت إنما يكون إذا كثرت فوائدها الشرعية وكثرة فروعها ترجع إلى كثرة ما خلق الله تعالى من ذلك النوع وليس ذلك بأمر شرعي قلت كثرة وجود الفروع ليس بأمر شرعي لكن الفروع لما كثرت لزم

من جعل هذا الوصف علة كثرة الأحكام فكان أولى احتج الآخرون بوجوه الأول لو كان اعم العلتين أولى من اخصهما لكان العمل بأعم الخطابين أولى من اخصهما الثاني التعدية فرع صحة العلة في الأصل فلو توقفت صحتها على التعدية لزم الدور الثالث كثرة الفروع ترجع إلى كثرة ما خلق الله تعالى من ذلك النوع وليس ذلك بأمر شرعي بخلاف كثرة الأصول والجواب عن الأول إنما لم يكن العمل بأعم الخطابين أولى لأن فيه طرحا لأخصهما وليس كذلك العمل بأخصهما أما العلة فإذا انتهى الأمر إلى الترجيح وترجيح إحداهما يوجب طرح الأخرى فكان طرح ما تقل فائدته أولى وعن الثاني والثالث ما تقدم وثالثها العلة إذا كانت مثبتة للحكم في كل الفروع فهي راجحة على ما تثبت الحكم في بعض الفروع

وسبب الرجحان أن الدال على الحكم في كل الفروع يجري مجرى الأدلة الكثيرة لأن العلة تدل على كل واحد منها وأيضا دلالته على ثبوت الحكم في كل واحد من تلك الفروع يقتضي ثبوته في البواقي ضرورة أن لا قائل بالفرق فهذه العلة العامة قائمة مقام الأدلة الكثيرة وأما العلة الخاصة في الصورة الواحدة فهي دليل واحد فقط فكان الأول أولى وأما الترجيح الراجع إلى الأصل والفرع معا فهو أن تكون العلة يرد بها الفرع إلى ما هو من جنسه والأخرى يرد بها الفرع إلى خلاف جنسه مثاله قياس الحنفية الحلي على التبر أولى من قياسه على سائر الأموال إنما لم يكن العمل بأعم الخطابين أولى لأن فيه طرحا لأخصهما وليس كذلك العمل بأخصهما أما العلة فإذا انتهى الأمر إلى الترجيح وترجيح إحداهما يوجب طرح الأخرى فكان طرح ما تقل فائدته أولى وعن الثاني والثالث ما تقدم وثالثها العلة إذا كانت مثبتة للحكم في كل الفروع فهي راجحة على ما تثبت الحكم في بعض الفروع

وسبب الرجحان أن الدال على الحكم في كل الفروع يجري مجرى الأدلة الكثيرة لأن العلة تدل على كل واحد منها وأيضا دلالته على ثبوت الحكم في كل واحد من تلك الفروع يقتضي ثبوته في البواقي ضرورة أن لا قائل بالفرق فهذه العلة العامة قائمة مقام الأدلة الكثيرة وأما العلة الخاصة في الصورة الواحدة فهي دليل واحد فقط فكان الأول أولى وأما الترجيح الراجع إلى الأصل والفرع معا فهو أن تكون العلة يرد بها الفرع إلى ما هو من جنسه والأخرى يرد بها الفرع إلى خلاف جنسه مثاله قياس الحنفية الحلي على التبر أولى من قياسه على سائر الأموال لأن الاتحاد من حيث الجنسية ثابتة بينهما وهذا آخر الكلام في التراجيح

طبع محققا على ست نسخ لأول مرة منذ أن فرغ مؤلفه من كتابته سنة 575 هـ جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة الرسالة ولا يحق لأية جهة ان تطبع أو تعطي حق الطبع لاحد. الطبعة الثانية 1412 هـ. 1992 م

المحصول في علم اصول الفقه للامام الاصولي النظار المفسر فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي 544 - 606 هـ / 1149 - 1209 م دراسة وتحقيق الدكتور جابر فياض العلواني الجزء السادس مؤسسة الرسالة

الكلام في الاجتهاد وهو في أركان أربعة

الكلام في الاجتهاد والنظر في ماهية الاجتهاد والمجتهد والمجتهد فيه وحكم الاجتهاد

الركن الأول في بيان حقيقة الاجتهاد في اللغة والاصطلاح

الركن الأول في الاجتهاد وهو في اللغة عبارة عن استفراغ الوسع في أي فعل كان يقال استفرغ وسعه في حمل الثقيل ولا يقال استفرغ وسسعه قبل في حمل النواة وأما في عرف الفقهاء فهو استفراغ الوسع في النظر فيما لا يلحقه فيه لوم مع استفراغ الوسع فيه وهذا سبيل مسائل الفروع ولذلك تسمى هذه المسائل مسائل الاجتهاد والناظر فيها مجتهد وليس هذا حال الأصول

الركن الثاني في الكلام على المجتهد وفيه خمسة مسائل

الركن الثاني في المجتهد وفيه مسائل مسألة قال الشافعي رضي الله عنه يجوز أن يكون في أحكام الرسول ص ما صدر عن الإجتهاد وهو قول أبي يوسف رحمه الله وقال أبو علي وأبو هاشم أنه لم يكن متعبدا به وقال بعضهم كان له أن يجتهد في الحروب وأما في أحكام الدين فلا وتوقف أكثر المحققين في ذلك أم المثبتون فقد احتجوا بأمور أحدها عموم قوله تعالى فاعتبروا يا أولي الأبصار وكان عليه الصلاة والسلام أعلى الناس بصيرة وأكثرهم إطلاعا على شرائط القياس وما يجب ويجوز فيها وذلك أن لم يرجح دخوله في هذا الأمر على دخول غيره فلا أقل من المساواة فيكون مندرجا تحت الآية

فكان مأمورا بالقياس فكان فاعلا له وإلا قدح في عصمته وثانيها أنه إذا غلب على ظنه كون الحكم في الأصل معللا بوصف ثم علم أو ظن حصول ذلك الوصف في صورة أخرى فلابد أن يظن أن حكم الله تعالى في الفرع مثل حكمه في الأصل وترجيح الراجح على المرجوح من مقتضيات بدائه العقول على ما قررناه في كتاب القياس وهذا يقتضي أن يجب عليه العمل بالقياس وثالثها أن العمل بالاجتهاد أشق من العمل بالنص فيكون أكثر ثوابا لقوله عليه الصلاة والسلام أفضل العبادات أحمزها أي أشقها ولو لم يعمل الرسول عليه الصلاة والسلام بالاجتهاد مع أن أمته عملوا به كانت الأمة أفضل منه في هذا الباب وإنه غير جائز فإن قلت فهذا يقتضي أن لا يعمل الرسول ص إلا بالاجتهاد لأن ذلك أفضل وأيضا فإنما يجب اتصافه بهذا المنصب لو لم يجد منصبا اعلى منه لكنه وجده لأنه يستدرك الأحكام وحيا وهذا المنصب أعلى من الاجتهاد

قلت الجواب عن الأول أن ذلك غير ممكن لأن العمل بالاجتهاد مشروط بالنص على أحكام الأصول وإذا كان كذلك تعذر العمل في كل الشرع بالاجتهاد وعن الثاني أن الوحي وإن كان أعلى درجة من الاجتهاد لكن ليس فيه تحمل المشقة في استدراك الحكم ولا يظهر فيه أثر دقه الخاطر وجودة القريحة وإذا كان هذا نوعا مفردا من الفصيلة لم يجز خلو الرسول عنه بالكلية ورابعها قوله عليه الصلاة والسلام العلماء ورثة الأنبياء وهذا يوجب أن تثبت له درجة الاجتهاد ليرثوه عنه إذ لو ثبت لهم ذلك ابتداءا لم يكونوا وارثين عنه فإن قلت أراد به في إثبات أركان الشرع قلت إنه تقييد من غير دليل وخامسها أن بعض السنن مضافة إلى الرسول ص ولو كان الكل بالوحي لم يبق لتلك الإضافة مزيد فائدة

أدلة المانعين، والجواب عنها

كما أن الشافعي رضي الله عنه إذا أثبت حكما بالنص الظاهر الجلى الذى لا يفتقر فيه البتة إلى اجتهاد لا يقال أن ذلك مذهب الشافعي فلا يقال مذهب الشافعي رضي الله عنه وجوب الصلوات الخمس وأما الذي يثبته بضرب من اجتهاد فإنه يضاف إليه فكذا هاهنا وأما الذي يدل على أنه كان مجتهدا في أمر الحروب أنه اجتهد في أخذ الفداء عن أسارى بدر بعدما وكان راجعهم في تلك الحال وذلك لا يمكن إلا مع الاجتهاد واحتج المانعون بأمور أحدها قوله تعالى وما ينطق عن الهوى وثانيها إن بعض الصحابة راجعه في منزل نزله وقال إن كان هذا بوحي الله تعالى فالسمع والطاعة وإلا فليس هو بمنزل مكيدة فدل هذا على جواز

مراجعته في اجتهاده ولا تجوز مراجعته في أحكام الشرع فيلزم ان لا يكون فيها ما هو باجتهاده وثالثها أن الاجتهاد لا يفيد إلا الظن وأنه عليه الصلاة والسلام كان قادرا على تلقيه من الوحي والقادر على تحصيل العلم لا يجوز له الاكتفاء بالظن كالمعاين للقبلة لا يجوز له أن يغمض عينيه ويجتهد فيها ورابعها أن مخالفه عليه الصلاة والسلام في الحكم يكفر لقوله تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم والمخالف في هذه المسائل الشرعية لا يكفر لأن الرجل إذا أجتهد وأخطأ فيها فله أجر واحد والمستوجب للأجر لا يمكن تكفيره وخامسها لو جاز له العمل بالاجتهاد لما توقف في شئ من الأحكام الشرعية على الوحي لأن حكم الوحي في الكل كان معلوما له وطرق الاجتهاد كانت مظنونة له فعند وقوع الواقعة التي ما أنزل عليه فيها وحي كان مأمورا بالاجتهاد فكان ينبغي أن لا يتوقف إلى نزول الوحي لكنه توقف كما في

تلخيص المحقق للمسألة، وكل ما ورد فيها، والدلالة على مواضع بحثها في كتب الأصول

مسألة الظهار واللعان وسادسها لو جاز له الاجتهاد لجاز لجبريل عليه السلام وحينئذ لا يعرف أن هذا الشرع الذي جاء به إلى محمد ص من نص الله تعالى أو من اجتهاد جبريل عليه السلام والجواب عن الأول أن الله تعالى متى قال له مهما ظننت كذا فاعلم أن حكمي كذا فها هنا العمل بالظن عمل بالوحي لا بالهوى وعن الثاني إنه يدل على جواز مراجعته في الآراء والحروب والأحكام خارجة عن ذلك

وعن الثالث أنا إنما نجوز الاجتهاد فيما لم يوجد فيه نص من الله تعالى ولم يكن متمكنا من معرفة الحكم بالنص وعن الرابع أنه لا يمتنع أن يقال الحكم وإن كان مظنونا أولا إلا أنه عليه الصلاة والسلام لما أفتى به وجب القطع به كما قلنا في الإجماع الصادر عن الاجتهاد وعن الخامس أن العمل بالاجتهاد مشروط بالعجز عن وجدان النص فلعله عليه الصلاة السلام كان يصبر مقدار ما يعرف به أن الله تعالى لا ينزل فيه وحيا وعن السادس أن ذلك الاحتمال مدفوع بالإجماع

في بيان امتناع الخطأ في " اجتهاد رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- " خلافا لبعضهم

مسألة إذا جوزنا له ص الاجتهاد فالحق عندنا إنه لا يجوز أن يخطئ وقال قوم يجوز بشرط أن لا يقر عليه

حجة المخالف

لنا أنا مأمورون باتباعه في الحكم لقوله تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت فلو جاز عليه الخطأ لكنا مأمورين بالخطأ وذلك ينافي كونه خطأ واحتج المخالف بقوله تعالى عفا الله عنك لم أذنت لهم فهذا يدل على أنه أخطأ فيما أذن لهم وقال تعالى في أسارى بدر لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم فيه عذاب عظيم فقال عليه الصلاة والسلام لو نزل عذاب من الله لما نجا إلا ابن الخطاب وهذا يدل على أنه أخطأ في أخذ الفداء

إحالة الفخر لمعرفة الجواب التفصيلي على حجة المخالف على كتابه في "عصمة الأنبياء"

ولأنه تعالى قال قل إنما أنا بشر مثلكم فلما جاز الخطأ على من غيره جاز أيضا عليه ولأن النبي ص قال إنكم تختصمون لدي ولعل بعضكم ألحن بحجته من غيره فمن قضيت له بشئ من حق أخيه فلا يأخذنه إنما أقطع له قطعة من النار فلو لم يجز أن يقضي لأحد إلا بحقه لم يقل هذا ولأنه يجوز أن يغلط في أفعاله فيجوز أن يغلط في أقواله كغيره من المجتهدين والجواب عن هذه الوجوه مذكور في الكتاب الذي صنفناه في عصمة الأنبياء فلا فائدة في الإعادة

المسألة الثالثة:

مسألة اتفقوا على جواز الاجتهاد بعد رسول الله ص فأما في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام فالخوض فيه قليل الفائدة لأنه لا ثمرة له في الفقه ثم نقول المجتهد إما أن يكون بحضرة الرسول عليه الصلاة والسلام أو يكون غائبا عنه أما إن كان بحضرته فيجوز تعبده بالاجتهاد عقلا لأنه لا يمتنع أن يقول الرسول عليه الصلاة والسلام له لقد أوحي إلي بأنك مأمور بأن تجتهد أو مأمورا بأن تعمل على وفق ظنك ومنهم من أحاله عقلا واحتج عليه بأن الاجتهاد في معرض الخطأ والنص آمن منه وسلوك السبيل المخوف مع القدرة على سلوك السبيل الآمن قبيح عقلا وجوابه أن الشرع لما قال له أنت مأمور بأن تجتهد وتعمل على وفق ظنك كان آمنا من الغلط لأنه بعد الاجتهاد يكون آتيا بما أمر به وأما وقوع التعبد به فمنعه أبو علي وأبو هاشم وأجازه قوم بشرط الإذن وتوقف فيه الأكثرون

احتج المانعون بوجهين الأول أن الصحابة لو اجتهدوا في عصره كما اجتهدوا بعده لنقل كما نقل اجتهادهم بعده الثاني أن الصحابة كانت تفزع في الحوادث إلى الرسول ص ولو كانوا مأمورين بالاجتهاد لما فزعوا إليه واحتج القائلون بالوقوع بأمور الأول أنه عليه الصلاة والسلام حكم سعد بن معاذ في بني قريظة فحكم بقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم فقال عليه الصلاة والسلام لقد حكمت بحكم الله تعالى من فوق سبعة أرقعة الثاني أنه عليه الصلاة والسلام قال لعمرو بن العاص وعقبة بن عامر الجهنى لما أمرهما أن يحكما بين خصمين إن أصبتما فلكما عشر حسنات وإن

أخطأتما فلكما حسنة واحدة الثالث أنه عليه الصلاة والسلام كان مأمورا بالمشاورة لقوله تعالى وشاورهم في الأمر ولا فائدة في ذلك إلا جواز الحكم على حسب اجتهادهم والجواب عن الأول لعله قل اجتهادهم في حضرة الرسول ص فلم ينقل لقلته وأيضا فقد نقل اجتهاد سعد بن معاذ وعمرو بن العاص وعن الثاني لعلهم فزعوا إليه فيما لم يظهر لهم فيه وجه الاجتهاد ولعلهم تركوه لصعوبته وسهولة وجدان النص وعن الثالث وهو خبر سعد وعمرو أنه خبر واحد فلا يجوز التمسك به إلا في مسألة عملية وهذه المسألة لا تعلق لها بالعمل وعن الرابع أن ذلك في الحروب ومصالح الدنيا لا في أحكام الشرع

أما المجتهد الغائب عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فجوزوا تعبده بالاجتهاد، وأما وقوع التعبد به، فهو قول الأكثرين

وأما الغائب عن حضرة الرسول عليه الصلاة والسلام فلا شك في جواز أن يتعبده الله تعالى بالاجتهاد لا سيما عند تعذر الرجوع وضيق الوقت وأما وقوع التعبد به فقال به الأكثرون والاعتماد فيه على خبر معاذ مسألة في شرائط المجتهد أعلم أن شرط الاجتهاد أن يكون المكلف بحيث يمكنه الاستدلال بالدلائل الشرعية على الأحكام وهذه المكنة مشروطة بأمور أحدها أن يكون عارفا بمقتضى اللفظ ومعناه لأنه لو لم يكن كذلك لم يفهم منه شيئا ولما كان اللفظ قد يفيد معناه لغة وعرفا وشرعا وجب أن يعرف اللغة والألفاظ العرفية والشرعية وثانيها أن يعرف من حال المخاطب أنه يعني باللفظ ما يقتضيه ظاهره إن تجرد أو ما يقتضيه مع قرينة إن وجدت معه قرينة لأنه لولا ذلك لما حصل الوثوق بخطابه لجواز أن يكون عنى به غير ظاهره مع أنه لم يبينه قالت المعتزلة وذلك إنما يعرف بحكمة المتكلم أو بعصمته والحكم بحكمة الله تعالى مبني على العلم بأنه تعالى عالم بقبح القبيح وعالم بغناه عنه وأما أصحابنا فإنهم قالوا الشئ وإن كان جائز الوقوع قطعا لكنه قد

نقطع بأنه لا يقع فإنا نجوز انقلاب ماء جيحون دما وانقلاب الجدارن ذهبا وتولد الإنسان لا من الأبوين دفعة واحدة ومع ذلك نقطع بأنه لا يقع فكذا ها هنا نحن وإن جوزنا من الله تعالى كل شئ لكنه تعالى خلق فينا علما بديهيا بأنه لا يعني بهذه الألفاظ إلا ظواهرها فلذلك أمنا من وقوع التلبيس وثالثها أن يعرف مجرد اللفظ إن كان مجردا وقرينته إن كان مع قرينة لأنا لو لم نعرف ذلك لجوزنا في المجرد أن تكون معه قرينة تصرفه عن ظاهره ثم القرينة قد تكون عقلية وقد تكون سمعية أما القرينة العقلية فإنها تبين ما يجوز أن يراد باللفظ مما لا يجوز وأما السمعية فهي الأدلة التي تقتضي تخصيص العموم في الأعيان وهو المسمى بالتخصيص أو في الأزمان وهو النسخ والذي يقتضي تعميم الخاص وهو القياس وحينئذ يجب أن يكون عارفا بشرائط القياس ليميز ما يجوز عما لا يجوز ثم هذه الأدلة السمعية غائبة عنا فلا بد من نقلها والنقل إما تواتر أو آحاد فلا بد وأن يكون عارفا بشرائط كل واحد منهما ثم عند الإحاطة بأنواع الأدلة لابد وأن يكون عارفا بالجهات المعتبرة في التراجيح

فإن قال قائل فصلوا العلوم التي يحتاج المجتهد إليها قلنا قال الغزالي رحمه الله مدارك الأحكام أربعة الكتاب والسنة والإجماع والعقل فلا بد من العلم بهذه الأربعة ولا بد معها من أربعة أخرى اثنان مقدمان واثنان مؤخران فهذه ثمانية لا بد من شرحها أما كتاب الله تعالى فلا بد من معرفته وفيه تحقيقان يحيى أحدهما أنه لا يشترط معرفة جميعه بل ما يتعلق منه بالأحكام وهو خمسمائة آية والثاني أنه لا يشترط حفظها بل أن يكون عالما بمواقعها حتى يطلب منها الآية المحتاج إليها عند الحاجة وأما السنة فلا بد من معرفة الأحاديث التي تتعلق بها الأحكام وهي مع كثرتها مضبوطة في الكتب وفيها التحقيقان الرحمن المذكوران إذ لا يلزمه معرفة ما يتعلق من الأخبار بالمواعظ وأحكام الآخرة والثاني أنه لا يلزمه حفظها بل أن يكون عنده أصل مصحح مشتمل على

الأحاديث المتعلقة بالأحكام وأما الإجماع فينبغي أن يكون عالما بمواقع الإجماع حتى لا يفتي بخلاف الإجماع وطريق ذلك أن لا يفتي إلا بشئ يوافق قول واحد من العلماء المتقدمين أو يغلب على ظنه أنه واقعة متولدة في هذا العصر ولم يكن لأهل الإجماع فيها خوض وأما العقل فيعرف البراءة الأصلية ويعرف أنا مكلفون بالتمسك بها إلا إذا ورد ما يصرفنا عنه وهو نص أو إجماع أو قياس على شرائط الصحة فهذه هي العلوم الأربعة وأما العلمان المقدمان فأحدهما علم شرائط الحد والبرهان على الإطلاق وثانيهما معرفة النحو واللغة والتصريف لأن شرعنا عربي فلا يمكن التوسل إليه إلا بفهم كلام العرب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ولا بد في هذه العلوم من القدر الذي يتمكن المجتهد به من معرفة الكتاب والسنة وأما العلمان المتمان وكان فأحدهما يتعلق بالكتاب وهو علم الناسخ والمنسوخ والآخر بالسنة وهو علم الجرح والتعديل ومعرفة أحوال الرجال

المسألة الخامسة:

واعلم أن البحث عن أحوال الرجال في زماننا هذا مع طول المدة وكثرة الوسائط أمر كالمتعذر فالأولى الاكتفاء بتعديل الأئمة الذين اتفق الخلق على عدالتهم كالبخاري ومسلم وأمثالهما وقد ظهر مما ذكرنا أن أهم العلوم للمجتهد علم أصول الفقه وأما سائر العلوم فغير مهمة في ذلك أما الكلام فغير معتبر لأنا لو فرضنا إنسانا جازما بالإسلام تقليدا لأمكنه الاستدلال بالدلائل الشرعية على الأحكام وأما تفاريع الفقه فلا حاجة إليها لأن هذه التفاريع ولدها المجتهدون بعد أن فازوا بمنصب الاجتهاد فكيف تكون شرطا فيه واعلم أن الإنسان كلما كان أكمل في هذه العلوم التي لا بد منها في الاجتهاد كان منصبه في الاجتهاد أعلى وأتم وضبط القدر الذي لا بد منه على التعيين كالأمر المتعذر مسألة الحق أنه يجوز أن تحصل صفة الاجتهاد في فن دون فن بل في مسألة دون مسألة خلافا لبعضهم

لنا أن الأغلب من الحادثة في الفرائض أن يكون أصلها في الفرائض دون المناسك والإجارات فمن عرف ما ورد من الآيات والسنن والإجماع والقياس في باب الفرائض وجب أن يتمكن من الاجتهاد وغاية ما في الباب أن يقال لعله شذ منه شئ ولكن النادر لا عبرة به كما أن المجتهد المطلق وإن بالغ في الطلب فإنه يجوز أن يكون قد شذ عنه أشياء

الركن الثالث

الركن الثالث المجتهد فيه وهو كل حكم شرعي ليس فيه دليل قاطع واحترزنا ب الشرعي عن العقليات ومسائل الكلام وبقولنا ليس فيه دليل قاطع عن وجوب الصلوات الخمس والزكوات وما اتفقت عليه الأمة من جليات الشرع وقال أبو الحسين البصري رحمه الله المسألة الاجتهادية هي التي اختلف فيها المجتهدون من الأحكام الشرعية وهذا ضعيف لأن جواز اختلاف المجتهدين فيها مشروط بكون المسألة اجتهادية فلو عرفنا كونها اجتهادية باختلافهم فيها لزم الدور

الركن الرابع

الركن الرابع حكم الاجتهاد وفيه مسائل مسألة ذهب الجاحظ وعبيد الله بن الحسن العنبرى إلى أن كل مجتهد في الأصول مصيب وليس مرادهم من ذلك مطابقة الاعتقاد فإن فساد ذلك معلوم بالضرورة وإنما المراد نفي الإثم والخروج عن عهدة التكليف واتفق سائر العلماء على فساد هذا القول

احتج الجمهور بأمور ثلاثة

حجة الجمهور أمور الأول أن الله تعالى وضع على هذه المطالب أدلة قاطعة ومكن العقلاء من معرفتها فوجب أن لا يخرجوا عن العهدة إلا بالعلم الثاني أنا نعلم بالضرورة أنه عليه الصلاة والسلام أمر اليهود والنصارى بالإيمان به وذمهم على إصرارهم على عقائدهم وقاتل بعضهم وكان يكشف عمن بلغ منهم ويقتله ونعلم قطعا أن المعاند العارف مما يقل وإنما الأكثر مقلدة عرفوا دين آبائهم تقليدا ولم يعرفوا معجزة الرسول وصدقه الثالث التمسك بقوله تعالى ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار وقوله تعالى وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم وعلى الجملة ذم المكذبين لرسول الله ص من الكفار مما لا ينحصر من الكتاب والسنة أجاب الخصم عن الأول بأنا لا نسلم بأنه تعالى وضع على هذه المطالب أدلة قاطعة ومكن العقلاء من معرفتها وكيف لا نقول ذلك ونرى الخلق مختلفين في الأديان والعقائد من زمان وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام وإذا نظرنا في أدلة المختلفين في هذه المسائل وأنصفنا لم نجد واحدا منهم مكابرا قائلا بما يقطع العقل بفساده

سلمنا ذلك لكن لا نسلم أن ذلك يقتضي كونهم مأمورين بالعلم ولم لا يجوز أن يقال إنهم أمروا بالظن الغالب سواء كان مطابقا أو غير مطابق وعلى هذا التقدير يكون الآتي به معذورا ثم الذي يدل على أن التكليف لم يقع إلا بالظن الغالب وجهان الأول أن اليقين التام المتولد من الدليل المركب من المقدمات البديهية تركيبا معلوم الصحة بالبديهة إن أمكن فهو عزيز نادر الوجود لا يفي به إلا الفرد بعد الفرد فلا يجوز أن يكون ذلك تكليفا لكل الخلق لأنه عليه الصلاة والسلام قال بعثت بالحنيفية السهلة السمحة وأي حرج فوق أن يكلف الإنسان في الساعة الواحدة معرفة ما عجز الخلق عن معرفته في خمسمائة سنة الثاني أنا كما نعلم بالضرورة أن الصحابة ما كانوا متبحرين في دقائق الهندسة والهيئة والأرثماطيقى روى نعلم بالضرورة أنهم ما كانوا عالمين

بهذه الأدلة والدقائق والجواب عن شبهات الفلاسفة مع أنه عليه الصلاة والسلام حكم بصحة إيمانهم فدل ذلك على أن التكليف ما وقع بالعلم سلمنا أنهم كلفوا بالعلم في هذه الأصول فلم قلت إن المخطئ فيه معاقب ودعوى الإجماع فيه غير جائزة لأنها دعوى الإجماع في محل الخلاف وعن الثاني أنه عليه الصلاة والسلام كان يقبلهم لجهلهم بالحق أو لإصرارهم على ترك التعلم وطلب المعرفة الأول ممنوع والثاني مسلم فلعله عليه الصلاة والسلام لما بالغ في إرشادهم إلى الحق ثم إنهم لم يلتفتوا إلى بيانه واشتغلوا باللهو والطرب وأصروا على ترك الطلب قتلهم وأما من بالغ في الطلب والبحث ولكن عجز عن الوصول فلم قلت إنه عليه الصلاة والسلام قتل مثل هذا الإنسان سلمنا أنه قتله لكن لم قلت أنه لا بد وأن يكون معاقبا وعن الثالث أنه ذم الكافر والكفر في أصل اللغة هو الستر ومعنى الستر لا يتحقق إلا في حق المعاند الذي عرف الدليل ثم أنكره أو في حق المقلد

حاصل حجة المخالف

المصر الذي يعرف من نفسه أنه لا يعرف الدليل على صحة الشئ ثم إنه يقول به فأما العاجز المتوقف الذي بالغ في الطلب فلم يصل فهذا لا يكون ساترا لشئ ظهر عنده فلا يكون كافرا ثم احتجوا على صحة قولهم بأنه تعالى رحيم كريم واستقراء أحكام الشرع يدل على أن الغالب على الشرع هو التخفيف والمسامحة حتى إنه لو احتاج إلى أدنى تعب في نفسه أو في ماله في طلب الماء سقط عنه فرض الوضوء وأبيح له التيمم فهذا الكريم الرحيم كيف يليق بكرمه ورحمته وعظم فضله أن يعاقب من أفنى طول عمره في الفكر والبحث والطلب هذا حاصل كلامهم إلا أن الجمهور ادعوا انعقاد الإجماع على مذهبهم قبل حدوث هذا الخلاف مسألة اختلفوا في تصويب المجتهدين في الأحكام الشرعية

ضبط الفخر للمذاهب في المسألة

وضبط المذاهب فيه على سبيل التقسيم أن يقال المسألة الاجتهادية إما أن يكون لله تعالى فيها قبل الاجتهاد حكم معين أو لا يكون فإن لم يكن لله تعالى فيها حكم فهذا قول من قال كل مجتهد مصيب وهم جمهور المتكلمين منا كالأشعري والقاضي أبي بكر ومن المعتزلة كأبي الهذيل وأبي علي وأبي هاشم وأتباعهم ثم لا يخلو إما أن يقال إنه وإن لم يوجد في الواقعة حكم إلا إنه وجد ما لو حكم الله تعالى بحكم لما حكم إلا به وأما أن لا يقال بذلك أيضا والأول هو القول بالأشبه وهو منسوب إلى كثير من المصوبين والثاني قول الخلص من المصوبين أما إن قلنا إن في الواقعة حكما معينا عند الله فذلك الحكم إما أن لا يكون عليه إمارة ولا دلالة أو عليه إمارة وليس عليه دلالة أو عليه دلالة أما القول الأول وهو أنه حصل الحكم ولكن من غير أمارة ولا دلالة فهو قول طائفة من الفقهاء والمتكلمين ونقل عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال في كل واقعة ظاهر وإحاطة ونحن ما كلفنا بالإحاطة وهؤلاء زعموا أن ذلك الحكم مثل دفين يعثر عليه الطالب بالاتفاق

فلمن عثر عليه أجران ولمن اجتهد ثم غاب عنه أجر واحد وذلك الأجر على ما تحمل من الكد في الطلب لا على نفس الخيبة وأما القول الثاني وهو أن عليه دليلا ظنيا فها هنا أيضا قولان أحدهما أن المجتهد لم يكلف بإصابته لخفائه وغموضه فلذلك كان المخطئ معذورا ومأجورا وهو قول كافة الفقهاء وينسب إلى الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما وثانيهما أنه مأمور بطلبه أولا فإن أخطأ وغلب على ظنه شئ آخر فهناك يتعين التكليف ويصير مأمورا بأن يعمل بمقتضى ظنه ويسقط عنه الإثم تحقيقا وأما القول الثالث وهو أن عليه دليلا قاطعا فهؤلاء اتفقوا على أن المجتهد مأمور بطلبه لكنهم اختلفوا في موضعين أحدهما أن المخطئ هل يستحق الإثم والعقاب أم لا فذهب بشر المريسي

بيان أن لله -تعالى- في كل واقعة حكما معينا، والاستدلال له بوجوه

من المعتزلة إلى أنه يستحق الإثم والباقون اتفقوا على أنه لا يستحق الثاني أنه هل ينقض قضاء القاضي فيه قال الأصم ينقض وقال الباقون لا ينقض فهذا تفصيل المذاهب والذي نذهب إليه أن لله تعالى في كل واقعة حكما معينا وأن عليه دليلا ظاهرا لا قاطعا وأن المخطئ فيه معذور وقضاء القاضي فيه لا ينقض فلنتكلم أولا في بيان أن لله تعالى في كل واقعة حكما معينا

لنا وجوه الأول أن أحد المجتهدين إذا اعتقد رجحان الأمارة الدالة على الثبوت والمجتهد الثاني اعتقد رجحان الأمارة الدالة على العدم فنقول أحد هذين الاعتقادين خطأ والخطأ منهي عنه بيان الأول أن إحدى الأمارتين إما أن تكون راجحة على الأخرى أو لا تكون فان كانت إحداهما راجحة على الأخرى كان اعتقاد رجحانه صوابا أما اعتقاد رجحان الجانب الآخر يكون غير مطابق للمعتقد فيكون خطأ وإن لم تكن إحداهما راجحة على الأخرى كان كل واحد من الاعتقادين غير مطابق للمعتقد وعلى كل التقديرات لا يكون الإعتقادان ولم مطابقين بل أحدهما يكون مطابقا للمعتقد فثبت أن كل مجتهد ليس بمصيب بمعنى كون اعتقاده مطابقا للمعتقد وهذه إحدى صور الخلاف فإن اكتفينا به جاز وإن أردنا بيان أن الكل ليس بمصيب بمعنى أنهم ما أتوا بما كلفوا به قلنا الدليل عليه أن الاعتقاد الذي لا يكون مطابقا للمعتقد جهل والجهل بإجماع الأمة غير مأمور به فثبت أيضا أن الكل ليسوا بمصيبين بين بمعنى الإتيان بالمأمور به فإن قيل لا نسلم أن أحد الاعتقادين خطأ

قوله لأن أحدهما اعتقد فيما ليس براجح أنه راجح وذلك خطأ قلنا اعتقد فيما ليس براجح أنه راجح في نفسه أو أنه راجح في ظنه الأول ممنوع والثاني مسلم بيانه أن المجتهد لا يعتقد كون أمارته راجحة على أمارة صاحبه في نفس الأمر ولكنه يعتقد كونها راجحة في ظنه والرجحان في ظنه حاصل فكان الاعتقاد مطابقا للمعتقد غايته أنه لم يوجد الرجحان الخارجي لكن عدم الرجحان الخارجي لا يوجب عدم الرجحان الذهني فثبت أن كل واحد من الاعتقادين يمكن أن يكون صوابا سلمنا أن كل واحد منهما اعتقد الرجحان في نفس الأمر ولكنه لم يجزم بذلك الرجحان بل جوز خلافه فلم قلت إن الاعتقاد إذا وجد معه هذا التجويز كان منهيا عنه وخرج عليه الجهل فإنه اعتقاد مخالف للمعتقد مع الجزم والجواب قوله اعتقد كونه راجحا في ظنه أو في نفس الأمر قلنا الرجحان في الذهن إما أن يكون نفس اعتقاد رجحانه في الخارج أو أمرا لا يثبت إلا معه لأنا نعلم بالضرورة أنا لو اعتقدنا في الشئ كون وجوده مساويا لعدمه فمع هذا الاعتقاد يمتنع أن يكون اعتقاد وجوده راجحا

على اعتقاد عدمه فعلمنا أنه لا بد عند حصول هذا الظن من اعتقاد كونه راجحا في نفسه إما لأن الظن نفس هذا الاعتقاد أو لأنه لا ينفك عنه وعلى كلا التقديرين فالمقصود حاصل قوله هذا الاعتقاد وإن كان غير مطابق لكنه غير جازم قلنا بل هو جازم لأن اعتقاد كون الشئ أولى بالوجود غير اعتقاد كونه موجودا واعتقاد كونه أولى بالوجود حاصل مع الجزم فإن المجتهد يقطع بأن أمارته نظرا إلى هذه الجهة أولى بالاعتبار بلى إنه غير جازم بالحكم لكن الجزم بالأولوية لا يقتضي الجزم بالوقوع كما أنا نقطع بأن الأولى بالغيم الرطب في زمان الخريف أن يكون ممطرا مع أنه قد لا يوجد المطر وعدم المطر لا يقدح في تلك الأولوية بل تلك الأولوية مقطوع بها فكذا ها هنا فثبت أنه حصل لأحد المجتهدين اعتقاد جازم غير مطابق فيكون خطأ وجهلا ومنهيا عنه الطريقة الثانية المجتهد إما أن يكون مكلفا في الحكم بناءا على طريق أو لا بناء على طريق والثاني باطل لأن القول في الدين بمجرد التشهي باطل بإجماع المسلمين فإذن لا بد من طريق فذلك الطريق إما أن يكون خاليا عن المعارض أو لم يكن خاليا عنه فإن كان الأول وهو كونه خاليا عن المعارض تعين ذلك الحكم بإجماع الأمة فيكون تاركه مخطئا

وإن كان له معارض فإما أن يكون أحدهما راجحا على الآخر أو لا يكون فإن كان أحدهما راجحا على الآخر وجب العمل بالراجح لأن الأمة مجمعة على إنه لا يجوز العمل بالأضعف عند وجود الأقوى فيكون مخالفه مخطئا وإن لم يكن احدهما راجحا فحكم تعارض الأمارتين أما التخيير أو التساقط والرجوع إلى غيرهما وعلى كلا القولين فحكمه معين فمخالفه يكون مخطئا فثبت أن المصيب واحد على كل التقديرات فإن قيل لم لا يجوز أن يكون مكلفا بالحكم لا على طريق قوله الحكم في الدين بمجرد التشهي غير جائز قلنا غير جائز في موضع وجد فيه الدليل أو في موضع لم يوجد فيه الدليل الأول مسلم والثاني ممنوع بيانه أن العمل بالدليل مشروط بوجود الدليل وإلا كان ذلك تكليفا بما لا يطاق وفي هذه المسائل الاجتهادية لا دليل لأنه لو وجد لكان تارك العمل به تاركا للمأمور به فيكون عاصيا فيكون مستحقا للنار على ما مر تقديره في مسألة أن الأمر للوجوب ولما اجمعوا على أنه لا يستحق النار علمنا أنه لا دليل وإذا لم يوجد الدليل جاز العمل بمجرد الحدس والتوهم كما

اشتبهت عليه أمارات القبلة فإنه يجوز له العمل بمجرد الحدس والتوهم سلمنا أنه أمر بالحكم بناء على طريق لكن لم لا يجوز أن يحصل في مقابلته طريق آخر فيكون أحدهما راجحا على الآخر قوله أجمعوا على وجوب العمل بالراجح قلنا العمل بالراجح واجب على من علم ذلك الرجحان أو على من لم يعلم الأول مسلم والثاني ممنوع بيانه أن الأمارة الراجحة يجب العمل بها على من اطلع عليها أما من لم يطلع عليها فجاز أن يكلفه العمل بالأضعف فإنه غير مستبعد في العقل أن تكون مصلحة أحد المجتهدين في العمل بأقوى الأمارات ومصلحة الآخر في العمل بأضعفها أهل ومتى كان ذلك فإن الله تعالى يخطر على قلب من مصلحته العمل بأقواها وجوه الترجيح ويشغل الآخر عنها فيظن أنها أقوى الأمارات لأن مصلحته العمل على أضعف الأمارات والظن بكونها أقوى الأمارات مع كونها في نفسها أضعف الأمارات لا يقبح ألا ترى أنه لا يقبح الظن بكون زيد في الدار وإن لم يكن فيها وإذا ثبت أن هذا الذي قلنا جائز عقلا فما الدليل على أنه غير واقع

والجواب قوله إنما يجب العمل به عند وجود الدليل وها هنا لا دليل قلنا الدليل على وجود الدليل الظاهر إجماع الأمة على وجود الترجيح بأمور حقيقية لا خيالية ووجود الترجيح يستدعي وجود أصل الدليل أعني القدر المشترك بين الدليل اليقيني والدليل الظاهري قوله يجوز العمل بالأضعف إذا لم يعرف الأقوى قلنا مقدار رجحان القوي على الضعيف أما أن يكون الاطلاع عليه ممكنا أو لا يكون فإن لم يكن ذلك لم يكن ذلك القدر معتبرا في حق المكلف وإلا كان تكليفا بما لا يطاق فيكون القدر المعتبر بين الأمارتين في حق المكلف مساويا لا راجحا وإن أمكن الاطلاع عليه فإما أن يجب على المكلف تحصيل العلم بتلك الأمارة إلى أقصى الإمكان أو لا يجب فإن كان الأول كان من لم يصل في معرفتها إلى أقصى الإمكان تاركا للواجب فيكون مخطئا وإن كان الثاني فهو محال لأنه إما أن يكون هناك حد ما متى لم يصل إليه لم يكن معذورا وإذا وصل إليه لم يكلف بالزيادة عليه وإما أن لا يكون الأمر كذلك فان كان الأول وجب أن يكون من لم يصل إلى ذلك الحد المعين مخطئا ومن وصل إليه يكون مصيبا

وهذا خلاف الإجماع لأنه لم يدع أحد من الأمة حدا معينا في الاجتهاد بحيث أن المجتهد متى لم يصل إليه كان مخطئا وغير معذور ومتى وصل إليه كان مصيبا وأما الثاني وهو أن لا يكون هناك حد معين فحينئذ لا تكون التخطئة عند بعض المراتب أولى منها عند بعض فإما أن لا يخطئ أصلا فيكون العمل بالظن كيف كان ولو مع ألف تقصير مصيبا وهذا باطل في الإجماع أو لا يكون مخطئا إلا إذا وصل إلى النهاية الممكنة وهو المطلوب الطريقة الثالثة المجتهد يستدل بشئ على شئ والاستدلال عبارة عن استحضار العلم بأمور يلزم من وجودها وجود المطلوب واستحضار العلم بالشئ متوقف على وجود ذلك الشئ فالاستدلال متوقف على وجود الدليل ووجود ما يدل على الشئ متوقف على وجود ذلك الشئ والاستدلال على الشئ يتوقف على وجود المدلول لأن دلالته عليه نسبة بينه وبين المدلول والنسبة بين الأمرين متوقفة في الثبوت على كل واحد منهما فوجود المطلوب متقدم على الاستدلال بمراتب والظن متأخر عن الاستدلال لأنه نتيجته وأثره فلو كان الحكم لا يحصل إلا بعد الظن كان المتقدم على الشئ بمراتب نفس المتأخر عن الشئ بمراتب وهو محال الطريقة الرابعة المجتهد طالب والطالب لا بد له من مطلوب متقدم في الوجود على وجود الطلب فلا بد من ثبوت حكم قبل وجود الطلب وإذا كان كذلك كان مخالف ذلك الحكم مخطئا

احتج القائلون بأنه لا حكم لله -تعالى- في الواقعة بأمور سبعة وبيانها، وذكر ما يرد عليها من نقوض ومعارضات، والجواب عنها

فان قلت لا نسلم أن المجتهد يطلب حكم الله تعالى بل إنما يطلب غلبة الظن ومثاله من كان على ساحل البحر فقيل له إن غلب على ظنك السلامة أبيح لك الركوب وإن غلب على ظنك العطب حرم عليك الركوب وقبل حصول الظن لا حكم لله تعالى عليك وإنما حكمه يترتب على ظنك بعد حصوله فهو يطلب الظن دون الإباحة والتحريم قلت المجتهد أما أن يطلب الظن كيف كان أو ظنا صادرا عن النظر في أمارة تقتضيه الأول باطل بإجماع الأمة فثبت أنه يطلب ظنا صادرا عن النظر في الأمارة والنظر في الأمارة متوقف على وجود الأمارة ووجود الأمارة متوقف على وجود المطلوب فثبت أن طلب الظن متوقف على وجود المدلول بمراتب فلو كان وجود المدلول متوقفا على حصول الظن لزم الدور وهذا غير ما قررناه في الطريقة الثانية واحتج القائلون بأنه لا حكم لله تعالى في الواقعة بأمور أحدها لو كان في الواقعة لله حكم لكان إما أن يكون عليه دليل وأعني بالدليل القدر المشترك بين ما يفيد الظن وبين ما يفيد اليقين أو لا يكون

والقسمان باطلان فبطل القول بثبوت الحكم أما الملازمة فظاهرة وإنما قلنا إنه لا يجوز أن يكون عليه دليل لأنه لو كان عليه دليل لكان المكلف متمكنا من تحصيل العلم أو الظن به فكان الحاكم بغيره حاكما بغير ما أنزل الله تعالى فيلزم تكفيره لقوله تعالى ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون وتفسيقه لقوله تعالى ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون والقطع بأنه من أهل النار لأنه يكون تاركا لما أمر الله به وتارك المأمور به عاص والعاصي من أهل النار لقوله تعالى ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها ولما أجمعت الأمة على فساد هذه اللوازم علمنا أنه ليس على الحكم دليل فإن قلت هذه العمومات مخصوصة لأن أدلة هذه الأحكام غامضة فيكون التكليف باتباعها حرجا وذلك منفي بقوله تعالى وما جعل عليكم في الدين من حرج قلت غموض أدلة هذه الأحكام لا يزيد على غموض أدلة المسائل العقلية مع كثرة مقدماتها وكثرة الشبه فيها وكون الخطأ فيها كفرا وضلالا فكذا ها هنا وإنما قلنا إنه لا يجوز أن لا يكون عليه دليل لأنه لو كان كذلك

لكان التكليف به تكليفا بما لا يطاق وإنه غير جائز فثبت بما ذكرنا فساد القسمين ويلزم من فسادهما القطع بأنه لا حكم في الواقعة ألبتة وثانيها أن الأمة مجمعة على أن المجتهد مأمور بأن يعمل على وفق ظنه ولا معنى لحكم الله إلا ما أمر به وإذا كان مأمورا بالعمل بمقتضى ظنه فإذا عمل به كان مصيبا لأنه يقطع بأنه عمل بما أمره الله به فوجب أن يكون كل مجتهد مصيبا وثالثها لو وجد الحكم لوجد عليه دليل قاطع لكن لم يوجد عليه دليل قاطع فوجب أن لا يوجد الحكم ألبتة بيان الملازمة هو أن بتقدير وجود الحكم إما أن يوجد عليه دليل أو لا يوجد عليه دليل فإن لم يوجد عليه دليل ألبتة كان التكليف بذلك الحكم تكليف ما لا يطاق وأن وجد عليه دليل فذلك الدليل إما أن يكون مستلزما لذلك المذكور قطعا أو ظاهرا أو لا قطعا ولا ظاهرا والقسمان الأخيران باطلان

أما أنه لا يجوز أن لا يستلزمه قطعا فالأمر فيه ظاهر لأن الذي يكون كذلك استحال أن يتوصل به إلى ثبوت المدلول وأما أنه لا يجوز لا أن يستلزمه ظاهرا فلأن هذا الدليل إما أن يمكن وجوده بدون المدلول أو لا يمكن فإن لم يمكن كان مستلزما له قطعا لا ظاهرا وإن أمكن وجود الدليل بدون ذلك المدلول في بعض الصور فلو استلزمه في صورة أخرى فلا يخلو إما أن تتوقف صيرورته مستلزما على انضمام قيد إليه أو لا تتوقف فإن توقف على انضمام قيد إليه كان المستلزم للمدلول ذلك المجموع لا ذلك الذي فرضناه أولا دليلا وإن لم يتوقف على انضمام قيد إليه فذلك الشئ تارة ينفك عن المدلول وأخرى يستلزمه من غير انضمام قيد إليه لا بالنفي ولا بالإثبات فيلزم رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر من غير مرجح وذلك محال وإذا ثبت أن المستلزم هو ذلك المجموع فذلك المجموع إن أمكن انفكاكه عن المدلول استحال أن يستلزم المدلول إلا بقيد آخر فإما أن يتسلسل وهو محال أو ينتهي إلى شئ يمتنع انفكاكه عن المدلول فحينئذ يكون دليلا قطعيا لا ظاهرا فإن قلت الدليل الظاهر هو الذي يستلزم كون المدلول أولى بالوجود أو كونه غير منته إلى الوجوب وهذا المعنى ملازم له أبدا قلت الأولوية التي لا تنتهي إلى حد الوجوب ممتنعة لأن مع تلك الأولوية إن امتنع العدم فذلك هو الوجوب وإن لم يمتنع فتلك الأولوية يمكن حصولها مع الوجود تارة ومع العدم أخرى ورجحان أحدهما على الآخر إن توقف على انضمام قيد زائد لم يكن الحاصل أولا كافيا في الرجحان وإن لم يتوقف لزم رجحان الممكن من غير مرجح وهو محال فثبت

بهذا البرهان القاطع أن الذي لا يستلزم الشئ قطعا استحال أن يستلزمه بوجه من الوجوه لا ظنا ولا ظاهرا فثبت أنه لو وجد في الواقعة حكم معين لوجد عليه دليل قاطع ولما إنعقد الإجماع على أنه ليس كذلك علمنا أنه ليس في الواقعة حكم ألبتة ورابعها لو حصل في الواقعة حكم معين لكان ما عداه باطلا ولو كان كذلك لزم أمور أربعة

أحدها يلزم أن لا يجوز لأحد من الصحابة أن يولي بعضهم بعضا مع علمهم بكونهم مخالفين لهم في مذاهبهم لأن التمكين من ذلك تمكين من ترويج الباطل وإنه غير جائز لكنه قد وقع ذلك روي أن أبا بكر رضي الله عنه ولى زيدا مع أنه كان يخالفه في الجد وولى علي رضي الله عنه شريحا مع أنه كان يخالفه في كثير من الأحكام وثانيها يلزم أن لا يمكنه من الفتوى وقد كانوا يفعلون ذلك وثالثها كان يجب أن ينقضوا أحكام مخالفيهم وأن ينقض الواحد منهم حكم نفسه الذي رجع عنه لأن كثيرا منهم قضى بقضايا مختلفة لكن لم ينقل عن أحد منهم أنه نقض حكم غيره ولا حكم نفسه عند رجوعه عنه ورابعها أنهم اختلفوا في الدماء والفروج والخطأ في ذلك يكون كبيرا لأنه لا فرق بين أن يمكن غيره بفتواه بالباطل من القتل وأخذ المال وبين أن يقتل ويأخذ المال ويصرفه إلى غير المستحق ابتداء في كونه كبيرا ويجب تفسيق فاعله والبراءة عنه ولما لم يوجد شئ من هذه اللوازم الأربعة علمنا

أنه لا حكم في الواقعة أصلا فإن قلت فلم لا يجوز أن يقال ذلك الخطأ كان من باب الصغائر فلا جرم لم يجب الامتناع عن التولية ولا المنع من الفتوى ولا البراءة ولا التفسيق سلمنا أنه كبيرة فلم لا يجوز أن يقال هذه الأمور إنما تلزم لو حصل في هذه المسائل طريق مقطوع به أما إذا كثرت وجوه الشبه وتزاحمت جهات التأويلات والترجيحات صار ذلك سببا للعذر وسقوط اللوم سلمنا صحة دليلكم لكنه معارض بوجوه الأول ما روى عن الصحابة من التصريح روي عن الصديق الأكبر رضي الله عنه أنه قال في الكلالة أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله تعالى وإن كان خطأ فمنى واستغفر الله وعن عمر رضي الله عنه أنه حكم بحكم فقال له بعض الحاضرين هذا والله هو الحق وحكم بحكم آخر فقال له الرجل هو والله الحق فقال له عمر إن عمر لا يعلم أنه أصاب الحق لكنه لا يألوا جهدا وقال أيضا لكاتبه اكتب هذا ما رأى عمر فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمنه

وقال علي لعمر في قصة المجهضة إن قاربوك فقد غشوك وإن اجتهدوا فقد أخطأوا وقال ابن مسعود في المفوضة أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله عنه بريئان ونقل أن جماعة الصحابة خطأوا ابن عباس في إنكار العول وقال ابن عباس ألا يتقي الله زيد بن ثابت الثاني أن الصحابة اختلفوا قبل العقد لأبي بكر رضي الله عنه فقالت الأنصار منا أمير ومنكم أمير وكانوا مخطئين لمخالفتهم قوله عليه الصلاة والسلام الأئمة من قريش ولم يلزم من ذلك الخطأ إظهار البراءة والتفسيق فكذا ها هنا الثالث اختلفوا في أن مانع الزكاة هل يقاتل وقضى عمر في الحامل المعترفة بالزنا بالرجم وكان ذلك على

خلاف النص ولم يلزم تفسيق عمر فكذا ها هنا وأما قوله في الوجه الرابع إنهم اختلفوا في الدماء والفروج والخطأ فيها كبير قلنا لا نسلم فإنه لما لم يمتنع أن تكون الأقوال المختلفة صوابا على مذهبكم فلم لا يجوز أن يكون الخطأ فيها صغيرا وقوله لا فرق بين القتل والغصب ابتداء وبين التمكين منهما بالفتوى الباطلة قلنا لا نسلم ولم لا يجوز أن يكون تمسكه في ذلك بما يشبه الدليل سببا لسقوط العقاب والتفسيق قلت أما الجواب عن الأول فالذي يدل على أنه لو كان خطأ لكان من الكبائر لا من الصغائر أن تارك العمل به تارك للعمل المأمور به فيكون عاصيا فيكون مستحقا للنار وعن الثاني أن غموض الأدلة وكثرة الشبه فيها ها هنا أقل مما في العقليات مع أن المخطئ فيها كافر أو فاسق وعن الثالث أن نقول ترك البراءة والتفسيق مع التمكين من الفتوى والعمل منقول عن هؤلاء الذين نقلتم عنهم التصريح بالتخطئة فلا بد من التوفيق وقد تعذر

صرفه إلى كون الخطأ صغيرا لما بينا فساده فإذن لا طريق في التوفيق إلا صرف ما نقلناه إلى قسم وما نقلتموه إلى قسم آخر وذلك لآنا لا ندعي التصويب في كل المسائل الشرعية حتى يضرنا ما ذكرتموه أما أنتم فتدعون الخطأ في كل الاختلافات فيضركم حديث ما ذكرناه فنحمل التخطئة على ما إذا وجد في المسألة نص قاطع أو على ما إذا لم يستقص المجتهد في وجوه الاستدلال وقوله إن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان معناه إن استقصيت في وجوه النظر والاستدلال فمن الله وإن قصرت فمني ومن الشيطان وأما المعارضة الثانية فجوابها أن الأنصار ما سمعوا ذلك الحديث فلا جرم لم يستحقوا التفسيق والبراءة بخلاف هذه المسائل فإن كل واحد من المجتهدين عرف حجة صاحبه وأطلع عليها فلو كان مخطئا لكان مصرا على الخطأ بعد اطلاعه عليه فأين أحد البابين من الباب الآخر وهذا هو الجواب أيضا عن اختلافهم في مانعي الزكاة وقصة المجهضة قوله على الوجه الرابع لما جاز أن تكون المذاهب المختلفة في الدماء والفروج خفية فلم لا يجوز أن يكون الخطأ فيها صغيرا لا كبيرا

قلنا قد ذكرنا الدليل على أن الخطأ في هذا الباب لا بد وأن يكون كبيرا ولأنه روي أنه عليه الصلاة والسلام قال من سعى في دم مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله فهذا وأمثاله من الأحاديث التي لا حد لها يدل على أنه لو كان المفتي في هذه الوقائع مخطئا لكان خطؤه كبيرة لا صغيرة وخامسها لو كان المجتهد مخطئا لما حصل القطع بكون الخطأ فيه مغفورا وقد حصل ذلك فهو ليس بمخطئ بيان الملازمة أنه لو حصل القطع بكون الخطأ مغفورا لكان في ذلك الوقت إما أن يجوز المخطئ كونه مخلا بنظر يلزمه فعله أو لا يجوز ذلك

فإن لم يجوز ذلك كان كالساهي عن النظر الزائد فلم يكن مكلفا بفعله وإذا لم يكن مكلفا بفعله لم يستحق العقاب بتركه فلا يكون مخطئا وقد فرض مخطئا هذا خلف وإن جوز كونه مخلا بنظر زائد لم يخل إما أن يعلم في تلك الحالة أنه مغفور له إخلاله بذلك النظر الزائد أو لا يعلم ذلك فإن علم ذلك لم يصح لأن المجتهد لا يعلم المرتبة التي إذا انتهى إليها غفر له ما بعدها لأنه إن اقتصر على أول المراتب لم يغفر له ما بعدها وما من مرتبة ينتهي إليها إلا ويجوز أن لا يغفر له ما بعدها ولا تتميز بعض تلك المراتب من بعض ولأنه لو عرف تلك المرتبة لكان مغري بالمعصية لأنه علم أنه لا مضرة عليه في ترك النظر الزائد مع كونه مثابا عليه فثبت أنه لا يعرف تلك المرتبة وإذا لم يعرفها جوز أن لا يغفر له إخلاله بما بعدها من النظر وجوز أيضا في كل مخطئ من المجتهدين أنهم ما انتهوا إلى المرتبة التي يغفر لهم ما بعدها وفي ذلك تجويز كونهم غير مغفور لهم فثبت أنه لو كان مخطئا لما حصل القطع بكونه مغفورا له لكنه حصل القطع بذلك لأنهم اتفقوا من لدن عصر الصحابة إلى يومنا هذا أن ذلك مغفور لهم فعلمنا أن المجتهد ليس بمخطئ وسادسها قوله عليه الصلاة والسلام أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم خير الناس في تقليد أعيان الصحابة وكان الصحابة مختلفين في المسائل فلو كان بعضهم مخطئا في الحكم أو في الاجتهاد لكان قد حثهم على

الخطأ والمصير إليه وأنه لا يجوز وسابعها قوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ لما رتب الاجتهاد على السنة والسنة على الكتاب أصبت حكم بتصويبه مطلقا ولم يفصل بين حالة وحالة فعلمنا أن المجتهد مصيب على الإطلاق والجواب عن الأول أن على الحكم دليلا ظاهرا لا قطعيا قوله لزم كفر تاركه وفسقه بالآيات قلنا عندنا أن المجتهد قبل الخوض في الاجتهاد كان تكليفه أن يطلب ذلك الحكم الذي عينه الله تعالى ونصب عليه الدليل الظاهر فإذا اجتهد وأخطأ ولم يصل إلى ذلك الحكم وغلب على ظنه شئ آخر تغير التكليف في حقه وصار مأمورا بأن يعمل بمقتضى ظنه وعلى هذا التقدير يكون حاكما بما أنزل الله تعالى لا بغير ما أنزل الله فيسقط ما ذكروه من الاستدلال وهذا هو الجواب أيضا عن الحجة الثانية لأنا نسلم أن المجتهد بعد أن اجتهد وغلب على ظنه أن الحكم كذا فإنه يكلف بأن يعمل بمقتضى ذلك الظن وحكم الله تعالى في هذه الحالة في حقه ليس إلا ذلك لكن لم لا يجوز أن يقال إنه قبل الخوض في الاجتهاد كان مأمورا

بذلك الحكم الذي عينه الله تعالى ونصب عليه الدليل لكنه بعد الاجتهاد ووقوع الخطأ تغير التكليف وما ذكروه لا ينفي هذا الإحتمال وأيضا فهذه الدلالة منقوضة بما إذا كان النص موجودا في المسألة والمجتهد طلبه ولم يجده ثم غلب على ظنه بمقتضى القياس خلاف ذلك الحكم فإن كان تكليفه في هذه الحالة أن يعمل بمقتضى ذلك القياس مع انعقاد الإجماع على كونه مخطئا في هذه الصورة فما جعلوه جوابا لهم عن هذه الصورة فهو جوابنا عما قالوه واعلم أن من المصوبة من منع التخطئة في هذه الصورة والمعتمد ما قدمناه وهو الجواب عن الوجه الثالث الذي ذكروه وعن الوجه الرابع لأنه إنما يجب البراءة والتفسيق لو كان عاملا بغير حكم الله تعالى لكنه بعد الخطأ مكلف بأن يعمل بمقتضى ظنه فيكون عاملا بحكم الله تعالى فلا يلزم شئ مما ذكروه وعن الخامس أن المرتبة التي عندها يحكم بكونه مغفورا هي أن يأتي بما يقدر عليه من غير تقصير

فروع على القول بـ "التصويب"

وعن السادس أنه معارض بقوله عليه الصلاة والسلام من اجتهد وأخطأ فله أجر واحد وأيضا فهو خبر واحد وما ذكرناه دلائل قاطعة فلا يحصل التعارض وهو الجواب عن الوجه السابع واعلم أنا نريد أن نتكلم في فروع القول بالتصويب مسألة الذين قالوا ليس في الواقعة حكم معين منهم من قال ب الأشبه على التفسير الذي لخصناه ومنهم من لم يقل به وهو الحق لنا أن ذلك الأشبه إما أن يكون هو العمل بأقوى الأمارات أو غيره فإن كان الأول فأقوى الأمارات إما أن يكون موجودا أو لا يكون فإن كان موجودا كان الأمر به واردا لإجماع الأمة على وجوب العمل بأقوى الأمارات فحينئذ يكون الحكم بذلك الأشبه واردا وقد فرضناه غير وارد هذا خلف

ذكر حجة القائلين "الأشبه" من النص والمعقول

وإن كان أقوى الأمارات غير موجود لم يكن الأشبه أيضا موجودا لأنا فرضنا أن الأشبه هو نفس أقوى الأمارات وأما إن كان الأشبه شيئا غير العمل بأقوى الأمارات فإما أن تكون مفسدة للمكلف أو مصلحة له أو لا مفسدة ولا مصلحة والأول باطل لأنه ليس في الأمة أحد يقول إنه يجب أن يكون في كل واقعة حكم لو نص الله تعالى على الحكم لنص عليه مع أنه يكون مفسدة وأما الثاني وهو أن يكون مصلحة فإما أن تجب على الله تعالى رعاية المصالح أو لا تجب فان وجبت وجب عليه التنصيص على ذلك الحكم ليتمكن المكلف من استيفاء تلك المصلحة وإن لم تجب عليه رعاية المصلحة جاز منه تعالى أن ينص على غير ذلك الحكم وذلك يبطل القول بأنه لو نص على الحاكم لما نص إلا عليه وأما الثالث وهو أن يكون ذلك الأشبه لا مصلحة ولا مفسدة فهذا إنما يمكن لو قلنا إنه لا تجب عليه رعاية المصالح وكل من قال بهذا القول قال إنه لا يتعين عليه تعالى أن يحكم على وجه معين بل له أن يحكم كيف شاء وذلك يمنع من القول بتعين الأشبه واحتج القائلون بالأشبه بالنص والمعقول

أما النص فقوله عليه الصلاة والسلام إذا اجتهد الحاكم وأخطأ فله أجر واحد صرح بالتخطئة وهذه التخطئة ليست لأجل مخالفة حكم

جواب الفخر عنها

واقع لأنا قد دللنا على أنه لا حكم فلا بد وأن يكون لأجل كونه مخالفا لحكم مقدر وهو الأشبه وأما المعقول فهو أن المجتهد طالب والطالب لا بد له من مطلوب ولما لم يكن المطلوب معينا وقوعا وجب أن يكون معينا تقديرا والجواب أن ذلك الأشبه إن كان هو العمل بأقوى الأمارات فهو حق وهو قولنا وإن كان غيره مع أن الله تعالى لم ينص عليه ولا أقام عليه دلالة ولا أماره فكيف يكون مخطئا بالعدول عنه وكيف ينقص ثوابه إذا لم يظفر بما لم يكلف بإصابته ولا سبيل له إلى إصابته وهذا هو بعينه الجواب عن الوجه المعقول مسألة القائلون بأن المصيب واحد احتجوا بأن القول بتصويب الكل يفضي إلى وقوع منازعة لا يمكن قطعها وهذا كما إذا نكح رجل امرأة وكانا مجتهدين ثم قال أنت بائن ثم راجعها

المسألة الثالثة

والزوج شافعي يرى الرجعة والمرأة حنفية ترى الكنايات بوائن فها هنا الزوج متمكن شرعا من مطالبتها بالوطء والمرأة مأمورة بالامتناع وهذه منازعة لا يمكن قطعها قال المصوبون هذا الإشكال وارد عليكم أيضا فإن أهل التحقيق منكم ساعدوا على أنه يجب على المجتهد العمل بموجب ظنه إذا لم يعرف كونه مخطئا فهذا الإلزام أيضا وارد عليكم ولما كان هذا الإشكال واردا على المذهبين وجب أن نذكر تقسيما في بيان الحوادث النازلة بالمكلفين ليظهر إنه لا نزاع فيها فنقول الحادثة إما أن تنزل بمجتهد أو بمقلد فإن نزلت بمجتهد فإما أن تختص به أو تتعلق بغيره فإن اختصت به عمل بما يؤديه إليه اجتهاده فإن استوت عنده الأمارات تخير بينها أو يعاود الاجتهاد إلى أن يظهر الرجحان وإن تعلقت بغيره فإن كان يجري فيه الصلح نحو التنازع في مال اصطلحا فيه أو رجعا إلى حاكم يفصل بينهما أن وجد فإن لم يوجد رضيا من يحكم بينهما ومتى حكم لم يكن لهما الرجوع عنه وإن لم يجر الصلح فيه كما ذكرنا في مسألة الكنايات فإنهما يرجعان إلى من يفصل بينهما سواء كان صاحب الحادثة مجتهدا وحاكما أو لم يكن فإن الحاكم لا يجوز له أن يحكم لنفسه على غيره بل ينصب من يقضي بينهما

وإن كان مقلدا فإن كانت الحادثة تخصه عمل على ما اتفق عليه من الفتوى وإن اختلفوا عمل بفتوى الأعلم الأورع فإن استويا تخير بينهما وإن كانت تتعلق بغيره عمل كما بيناه في حق المجتهدين مسألة في نقض الاجتهاد المجتهد إذا تغير اجتهاده ففيه بحثان الأول أن المجتهد كيف يعمل والثاني أن العامى الذي عمل بفتواه كيف يعمل أما الأول فنقول المجتهد إذا أفضى اجتهاده إلى أن الخلع فسخ فنكح امرأة خالعها ثلاثا ثم تغير اجتهاده فإما أن يكون قد قضى القاضي بصحة ذلك النكاح قبل تغير اجتهاده أو ما قضى بذلك فإن كان الأول بقى النكاح صحيحا لأن قضاء القاضي لما اتصل به فقد تأكد فلا يؤثر فيه تغير الاجتهاد وإن كان الثاني لزم تسريحها ولم يجز له إمساكها على خلاف اجتهاده وأما الثاني وهو ما إذا أمسك العامي زوجته بفتوى المفتي بأن الخلع فسخ فإذا تغير اجتهاد المفتي فالصحيح أنه يجب عليه تسريحها كما إذا

تغير اجتهاد متبوعه عن القبلة في أثناء الصلاة فإنه يتحول إلى الجهة الأخرى بخلاف قضاء القاضي فإنه متى اتصل بالحكم المجتهد فيه استقر واعلم أن قضاء القاضي لا ينتقض بشرط أن لا يخالف دليلا قاطعا فان خالفه نقضناه

الكلام في المفتي والمستفتي، وفيه أقسام ثلاثة:

الكلام في المفتي والمستفتي والنظر فيه يتعلق بالمفتي والمستفتي وما فيه الاستفتاء

القسم الأول في المفتي، وفيه مسألتان:

القسم الأول في المفتي وفيه مسائل مسألة إذا أفتى المجتهد بما أدى إليه اجتهاده ثم سئل ثانيا عن تلك الحادثة فإما أن يكون ذاكرا لطريق الاجتهاد الأول أو لا يكون فإن كان ذاكرا له فهو مجتهد وتجوز له الفتوى وإن نسيه لزمه أن يستأنف الاجتهاد فإن أداه اجتهاده إلى خلاف فتواه في الأول أفتى بما أداه اجتهاده إليه ثانيا ثم الأحسن به أن يعرف من استفتاه أولا أنه رجح عن ذلك القول لأن ذلك المستفتي إنما يعول على قوله فإذا ترك هو قوله بقي عمل المستفتي به بعد ذلك عملا من غير موجب روي عن ابن مسعود أنه كان يقول في تحريم أم المرأة مشروط بالدخول بالمرأة فلقي أصحاب رسول الله ص وذاكرهم فكرهوا أن يتزوجها فرجع ابن مسعود إلى من كان أفتاه قال

بيان أن من رجع عن فتواه، ولم يستأنف الاجتهاد لا تجوز له الفتوى

سألت أصحابي فكرهوا وأما إن لم يستأنف الاجتهاد لم تجز له الفتوى ولقائل أن يقول لما كان الغالب على ظنه أن الطريق الذي تمسك به أولا كان طريقا قويا حصل له الآن ظن أن ذلك القوي حق جاز له الفتوى به لأن العمل بالظن واجب مسألة اختلفوا في أن غير المجتهد هل تجوز له الفتوى بما يحكيه عن الغير

القول: بعدم جواز الفتوى بالحكاية عن المجتهد الميت!!

فنقول لا يخلوا إما أن يحكى عن ميت أو عن حي فإحكي لأنه عن ميت لم يجز الأخذ بقوله لأنه لا قول للميت بدليل أن الإجماع لا ينعقد مع خلافه حيا وينعقد مع موته وهذا يدل على أنه لم يبق له قول بعد موته فإن قلت فلم صنفت كتب الفقه مع فناء أربابها قلت لفائدتين إحداهما استفادة طريق الاجتهاد من تصرفهم في الحوادث وكيفية بناء بعضها على بعض والأخرى معرفة المتفق عليه من المختلف فيه ولقائل أن يقول اذا كان الراوي عدلا ثقة متمكنا من فهم كلام المجتهد الذي مات ثم روى للعامي قوله حصل للعامي ظن صدقه ثم إذا كان المجتهد عدلا ثقة فذلك يوجب ظن صدقه في تلك الفتوى وحينئذ يتولد للعامي من هذين الظنين ظن أن حكم الله تعالى ما روى له هذا الراوى الحي عن ذلك المجتهد الميت والعمل بالظن واجب فوجب أن يجب على العامي العمل بذلك وأيضا فقد إنعقد الإجماع في زماننا هذا على جواز العمل بهذا النوع

بيان حكم الفتوى بقول المجتهد الحي

من الفتوى لأنه ليس في هذا الزمان مجتهد والإجماع حجة وأما إن حكى عن حي من أهل الاجتهاد فإما أن يكون سمعه مشافهة أو يرجع فيه إلى كتاب أو حكاية حال فإن كان سمعه منه مشافهة جاز أن يعمل به وجاز أن يعمل الغير أيضا بقوله ولهذا يجوز للمرأة أن تعمل في حكم حيضها بحكاية زوجها عن المفتين ورجع علي رضي الله عنه إلى حكاية المقداد عن رسول الله ص في شأن المذي وإن رجع في ذلك إلى حكاية من يوثق بقوله فحكم ذلك حكم السماع وإن رجع إلى كتاب فإن كان كتابا موثوقا به جرى مجرى المكتوب من جواب المفتي في أنه يجوز العمل به وإلا فلا لكثرة ما يتفق من الغلط في الكتب

القسم الثاني من أقسام الكلام في المفتي والمستفتي - في الكلام على المستفتي، وفيه مسائل ثلاث

القسم الثاني في المستفتي مسألة يجوز للعامي أن يقلد المجتهد في فروع الشرع خلافا لمعتزلة بغداد وقال الجبائى يجوز ذلك فيما كان من مسائل الاجتهاد لنا وجهان الأول إجماع الأمة قبل حدوث المخالف لأن العلماء في كل عصر لا ينكرون على العامة الاقتصار على مجرد أقاويلهم ولا يلزمونهم أن يسألوهم عن وجه اجتهادهم

الثاني أن العامي إذا نزلت به حادثة من الفروع فإما أن لا يكون مأمورا فيها بشئ وهو باطل بالاجماع لأنا نلزمه إلى قول العلماء والخصم يلزمه الرجوع إلى الاستدلال وإما أن يكون مأمورا فيها بشئ وذلك إما بالاستدلال أو بالتقليد والاستدلال باطل لأنه إما أن يكون هو التمسك بالبراءة الأصلية أو التمسك بالأدلة السمعية والأول باطل بالإجماع والثاني أيضا باطل لأنه لو لزمه أن يستدل لم يخل من أن يلزمه ذلك حين كمل عقله أو حين حدثت المحادثة والأول باطل لوجهين أحدهما أن الصحابة ما كانوا يلزمون من لم يشرع في طلب العلم ولم يطلب رتبة المجتهد في أول ما يكمل عقله وثانيهما أن وجوب ذلك عليه يمنعه من الاشتغال بأمور الدنيا وذلك سبب لفساد العالم والثاني أيضا باطل لأنه يقتضي أن يجب عليه اكتساب صفة المجتهدين عند نزول الحادثة وذلك غير مقدور له ولقائل أن يقول على هذا الوجه القائلون بأنه لا يجوز التقليد في الشرع لا يقولون بالإجماع ولا بخبر الواحد ولا بالقياس ولا يجوزون التمسك بالظواهر المحتملة

وإذا كان كذلك سها الأمر عليهم فإنهم قالوا قد تقرر في عقل كل عاقل أن الأصل في اللذات الإباحة وفي المضار الحرمة فإن جاء في بعض الحوادث نص قاطع المتن قاطع الدلالة يوجب ترك ذلك الأصل العقلي قلنا به وإن لم يوجد ذلك وجب البقاء على حكم العقل وإذا ثبت هذا فالعامي إذا وقعت له واقعة فإما أن يكون فيه شئ من الذكاء أو لا يكون بل يكون في غاية البلادة فإن كان فيه شئ من الذكاء عرف حكم العقل فيه وان كان في غاية البلادة نبهه المفتي على حكم العقل وليس لأحد أن يقول الاشتغال بذلك يمنعه عن عمل المعاش لأنه إذا جاز تكليفه بمعرفة الأدلة الدقيقة في مسائل الأصول ولا يمنعه ذلك عن المعاش فكيف تمنعه معرفة هذا القدر من طلب المعاش ثم إذا عرف العامي حكم العقل وأن ما في الواقعة نص يوجب ترك العمل بحكم العقل قاطع المتن قاطع الدلالة نبهه المفتي عليه ولا حاجة في فهم مثل هذا النص إلى تدقيق يمنعه من عمل المعاش وإن لم يوجد فيه مثل هذا النص وجب عليه العمل بحكم العقل فثبت أن المنع من التقليد إنما يصعب على قول من يوجب العمل بالقياس وخبر الواحد أما من لا يقول بذلك فلا صعوبة عليه ألبتة وأيضا فهذه الدلالة لو صحت لوجب القول بجواز التقليد في مسائل الأصول لأنا نعلم أن الوقوف على تلك الدلائل لا يحصل إلا بعد الكد

الكثير ونحن نعلم من حال الصحابة أنهم ما كانوا يلومون من لم يتعلم علم الكلام في أول زمان بلوغه وأيضا الأشتغال بتحصيله يمنع من الاشتغال بأمر المعاش أجابوا بأن الذي يجب على المكلف معرفة أدلة التوحيد والنبوة على طريق الجملة لا على طريق التفصيل ومعرفة تلك الأدلة على سبيل الإجمال أمر سهل هين يحصل بأدنى سبب بخلاف الاجتهاد في فروع الشرع فإنه لا بد فيه من علوم كثيرة وتبحر شديد واعلم أن هذا الفرق إنما يتلخص إذا سلمنا لهم الفرق بين مباحث الجملة ومباحث التفصيل وعندي أن هذا الفرق باطل وذلك لأن الدليل إذا كان مركبا مثلا من مقدمات عشر فالمستدل إن كان عالما بها بأسرها وجب حصول العلم النظري له لا محالة وأن امتنعت الزيادة عليه لأن تلك المقدمات العشر إذا كانت مستقلة بالانتاج أخبرنا فلو انضمت مقدمة أخرى إليها استحال أن يكون لها أثر ألبتة وأما إن لم يحصل العلم بأسرها مثل أن يحصل العلم بتسع منها ولم تكن المقدمة العاشرة معلومة بالضرورة ولا بالدليل بل مقبولة على سبيل التقليد فتكون النتيجة المتولدة عن مجموع تلك العشر تقليدا لا يقينا فثبت أن التمسك بالدليل لا يقبل الزيادة والنقصان ألبتة مثاله أنهم يقولون صاحب الجملة يكفيه الاستدلال بحدوث الحوادث

من البرق والرعد والحر والبرد على وجود الصانع فنقول هذا لا يكفي لأنا نقول هذه الحوادث لا بد لها من مؤثر وذلك المؤثر يجب أن يكون فاعلا مختارا أما المقدمة الأولى فمعلومة للعوام وأما الثانية فغير معلومة لهم لأنه ما لم يثبت أن ذلك ليس أثرا لمؤثر موجب لم يجب أن يكون إسناده إلى المختار فإذا قطع العامي بأن ذلك المؤثر يجب أن يكون مختارا من غير دليل عليه كان مقلدا في هذه المقدمة وإذا كان مقلدا فيها لم يكن محققا في النتيجة وأيضا إذا رأى حدوث فعل خارق للعادة على يد مدعي النبوة فلو قطع عند ذلك بنبوته كان ذلك تقليدا لأن قبل الدليل يجوز أن يكون ذلك الحادث ليس فعلا لله تعالى بل خاصية لنفس الرسول أو خاصية لدواء أو فعلا من أفعال الجن وبتقدير أن يكون فعلا لله تعالى لكن يجوز أن لا يكون لله تعالى فيه غرض وإن كان له فيه غرض جاز أن يكون ذلك الغرض شيئا سوى التصديق فلو قطع العامي بأن ذلك الفعل الخارق للعادة لا بد وأن يكون دالا على صدق المدعي من غير دليل يدل على فساد هذه الأقسام كان مقلدا في اعتقاد هذه المقدمة فلم يكن محققا في النتيجة فظهر بهذا فساد ما قالوه من الفرق بين صاحب الجملة وبين صاحب التفصيل وحينئذ لا يبقى إلا أحد أمرين إما أن يقال بأن الإحاطة بأدلة الدين

أدلة منكري التقليد في " فروع الشريعة "، وهي سبعة

على تفصيلها وتدقيقها شئ سهل هين وذلك مكابرة وإما أن يقال يجوز فيه التقليد كما جوزوا في فروع الشرع التقليد وحينئذ لا يبقى بينهما فرق ألبتة واحتج منكرو التقليد في فروع الشرع بأمور أحدها قوله تعالى وإن تقولوا على الله مالا تعلمون وثانيها أن الله تعالى ذم أهل التقليد بقوله تعالى إنا وجدنا آباءنا على أمة وثالثها قوله عليه الصلاة والسلام طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة توافقنا على خروج بعض العلوم عن هذا العموم فبقي العلم بفروع الشرع وأحكامه ورابعها القول بجواز التقليد يفضي إلى بطلانه لأنه يقتضي جواز تقليد من يمنع

أجوبة الفخر عن تلك الأدلة

من التقليد وما يفضي ثبوته إلى عدمه كان باطلا وخامسها قوله عليه الصلاة والسلام اجتهدوا فكل ميسر لما خلق له أمر بالإجتهاد مطلقا وسادسها أن العامي إذا قلد لم يأمن من جهل المفتي وفسقه فيكون فاعلا للمفسدة وسابعها لو جاز التقليد في فروع الشرع لكان ذلك لأنه حصلت أمارات توجب ظن صدق المفتي وهذا المعنى قائم في أصول الدين فوجب الاكتفاء بالفتوى في الأصول أيضا والجواب عن الأول أنه منقوض بكل ظن وجب العمل به كما في أحوال الدنيا وقيم المتلفات وأروش الجنايات وبخبر الواحد والقياس إن سلموا جواز العمل بهما

دليل الجبائي على مذهبه، وجواب الفخر عنه

وعن السادس والسابع أن نذكر الفرق الذي تقدم وأما الدليل على أن للعامي أن يقلد في مسائل الاجتهاد وغير مسائل الاجتهاد أنا لو كلفناه أن يفصل بين البابين لكنا قد ألزمناه أن يكون من أهل الاجتهاد لأنه إنما يفصل بينهما أهل الاجتهاد فيعود المحذور المذكور واحتج المخالف بأن ما ليس من مسائل الاجتهاد فالحق فيها واحد فلو قلدنا فيها لم نأمن أن نقلد في خلاف الحق وليس كذلك مسائل الاجتهاد لأن كل قول فيها حق والجواب أنا لا نأمن أيضا في مسائل الاجتهاد أن لا يجتهد المفتى أو يقصر في اجتهاده أو يفتيه بخلاف اجتهاده فإن قلتم إن مصلحة العامي هو أن يعمل بما يفتيه المفتي قلنا وكذلك الأمر في تقليده فيما نحن فيه وإن كان غير مصيب مسألة في شرائط الاستفتاء

هل يجوز للعامي أن يسأل من يظنه غير عالم، أو غير متدين؟

اتفقوا على أنه لا يجوز له الاستفتاء إلا إذا غلب على ظنه أن من يفتيه من أهل الاجتهاد ومن أهل الورع وذلك إنما يكون إذا رآه منتصبا للفتوى بمشهد الخلق ويرى اجتماع المسلمين على سؤاله واتفقوا على أنه لا يجوز للعامي أن يسأل من يظنه غير عالم ولا متدين وإنما وجب عليه ذلك لأنه بمنزلة نظر المجتهد في الأمارات ثم هاهنا بحث وهو أن أهل الاجتهاد إذا أفتوه فإن اتفقوا على فتوى لزم المصير إليها وإن اختلفوا فقال قوم وجب عليه الاجتهاد في أعلمهم وأورعهم لأن ذلك طريق قوة ظنه يجري مجرى قوة ظن المجتهد وقال آخرون لا يجب عليه هذا الاجتهاد لأن العلماء في كل عصر لا ينكرون على العوام ترك النظر في أحوال العلماء ثم بعد الاجتهاد إما أن يحصل ظن الاستواء مطلقا أو ظن الرجحان مطلقا أو ظن رجحان كل واحد منهما على صاحبه من وجه دون وجه فإن حصل ظن الاستواء مطلقا فها هنا طريقان أحدهما أن يقال هذا لا يجوز وقوعه كما لا يجوز استواء أمارتي الحل والحرمة والآخر أن يقال يسقط عنه التكليف لأنا جعلنا له أن يفعل ما يشاء

وأما إذا حصل ظن الرجحان مطلقا تعين العمل به أما إذا حصل ظن رجحان كل واحد منهما على صاحبه من وجه دون وجه فها هنا صور إحداها أن يستويا في الدين ويتفاضلا في العلم فمنهم من خيره ومنهم من أوجب الأخذ بقول الأعلم وهو الأقرب لمزيته ولهذا يقدم في إمامة الصلاة وثانيتها أن يتساويا في العلم ويتفاضلا في الدين فها هنا وجب الأخذ بقول الأدين وثالثها أن يكون أحدهما أرجح في علمه فقيل يؤخذ بقول الأدين والأقرب ترجيح قول الأعلم لأن الحكم مستفاد من علمه لا من ديانته فإن قلت العامي ربما اغتر بالظواهر وقدم المفضول على الفاضل فإن جاز له أن يحكم بغير بصيرة في ترجيح بعض العلماء على بعض فليجز له أن يحكم في نفس المسألة بما يقع له ابتداء وإلا فأي فرق بين الأمرين قلت من مرض له طفل وليس له طبيب فإن سقاه دواءا برأيه كان متعديا مقصرا ولو راجع طبيبا لم يكن مقصرا

المسألة الثالثة:

فإن كان في البلد طبيبان وقد اختلفا في الدواء فخالف الأفضل عد مقصرا ثم أنه يعلم كون أحدهما أعلم من الآخر ب الأخبار وبإذعان المفضول له وبأمارات تفيد غلبة الظن فكذلك في حق العلماء يعلم الأفضل بالتسامع والقرائن دون البحث عن نفس العلم والعامي أهل له فلا ينبغي أن يخالف الظن بالتشهي مسالة الرجل الذي تنزل به الواقعة فإما أن يكون عاميا صرفا أو عالما لم يبلغ درجة الاجتهاد أو عالما بلغ درجة الاجتهاد فإن كان عاميا صرفا حل له الاستفتاء وان كان عالما بلغ درجة الاجتهاد فإن كان قد اجتهد وغلب على ظنه حكم فها هنا أجمعوا على إنه لا يجوز له أن يقلد مخالفه ويعمل بظن غيره أما إذا لم يجتهد فها هنا قد اختلفوا فذهب أكثر أصحابنا إلى أنه لا يجوز للعالم تقليد العالم ألبتة وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وسفيان الثورى رحمهم الله بجوازه مطلقا ومن الناس من فصل وذكر فيه وجوها أحدها أنه يجوز لمن بعد الصحابة تقليد الصحابة ولا يجوز تقليد غيرهم وهو القول القديم للشافعي رضى الله عنه

ذكر أدلة الجمهور (القائلين بالمنع) ، وما أورد عليها. وجوابه

وثانيها أنه يجوز تقليد العالم للأعلم وهو قول محمد بن الحسن رحمه الله وثالثها أنه له التقليد فيما يخصه دون ما يفتى به ورابعها أنه يجوز له التقليد فيما يخصه إذا كان بحيث لو اشتغل بالاجتهاد لفاته الوقت وهو قول ابن سريج لنا وجهان الأول أن هذا المجتهد أمر بالاعتبار في قوله تعالى فاعتبروا يا أولي الأبصار ولم يأت به فيكون تاركا للمأمور به فيكون عاصيا فيستحق النار ترك العمل به في حق العامي لعجزه عن الاجتهاد فيبقى معمولا به في حق المجتهد

الثاني أنه متمكن من الوصول إلى حكم المسألة بفكرته فوجب فوجب أن يحرم عليه التقليد كما في الأصول والجامع وجوب الاحتراز عن الضرر المحتمل عند القدرة على الاحتراز عنه فإن قلت المعتبر في الأصول اليقين وأنه لا يحصل بالتقليد بخلاف الفروع فإن البغية فيها الظن ويمكن حصوله بالتقليد ولذلك جاز للعامي أن يقلد في الفروع دون الأصول وأيضا فما ذكرتموه ينتقض بقضاء القاضي فإنه لا يجوز خلافه وإن كان متمكنا من معرفة الحكم فإنه لا معنى للتقليد إلا وجوب العمل عليه من غير حجة وينتقض أيضا بمن دنا من رسول الله ص فإنه متمكن من الوصول إلى حكم المسألة مع أنه يجوز أن يسأل من أخبر عن رسول الله ص قلت أما الجواب عن الأول فهو أنا إنما أوجبنا على المكلف تحصيل اليقين لأنه قادر والدليل حاضر فوجب عليه تحصيله احترازا عن الخطأ المحتمل وهذا المعنى حاصل في مسألتنا لأن المكلف قادر والدليل المعين للظن الأقوى حاصل فوجب عليه تحصيله احترازا عن الخطأ المحتمل في الظن الضعيف وعن الثاني أنه لما دلت الدلالة على أن الحكم الذي قضى به القاضي لا يمكنه

ذكر أدلة المخالف، وهي سبعة

نسخه بالاجتهاد فلم يكن العمل به تقليدا بل عملا بذلك الدليل وعن الثالث أنه لا نسلم بجواز الاكتفاء بالسؤال من غير الرسول ص عند القدرة واحتج المخالف بأمور أحدها قوله تعالى فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون والعالم قبل أن يجتهد لا يعلم فوجب أن يجوز له السؤال وثانيها قوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم والعلماء من أولي الأمر لأن أمرهم ينفذ على الأمراء والولاة وثالثها قوله تعالى فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين أوجب الحذر بانذار من تفقه في الدين مطلقا فوجب على العالم قبوله كما وجب على العامي ذلك ورابعها إجماع الصحابة روي أن عبد الرحمن بن عوف قال لعثمان أبايعك

على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين فقال نعم وكان ذلك بمشهد من عظماء الصحابة ولم ينكر عليه أحد فكان ذلك إجماعا فإن قلت إن عليا خالف فيه قلت إنه لم ينكر جوازه لكنه لم يقبله ونحن لا نقول بوجوبه حتى يضرنا ذلك وخامسها أنه حكم يسوغ فيه الاجتهاد فجاز لمن لم يكن عالما به تقليد من علمه كالعامي والجامع وجوب العمل بالظن الحاصل بقول المفتي وسادسها أجمعنا على أنه يجوز للمجتهد أن يقبل خبر الواحد عن مجتهد آخر بل عن عامي وإنما جاز ذلك اعتمادا على عقله ودينه فها هنا إذا أخبر المجتهد عن منتهى اجتهاده بعد استفراغ الوسع والطاقة فلأن يجوز العمل به كان أولى وسابعها أن المجتهد إذا أدى اجتهاده إلى العمل بفتوى مجتهد آخر فقد حصل ظن أن حكم الله تعالى ذلك وذلك يقتضي أن يحصل له ظن أنه لو لم يعمل به لا ستحق العقاب فوجب أن يجب العمل به دفعا للضرر المظنون

جواب الفخر عنها

والجواب عن الأول أن ظاهر الآية يقتضي وجوب السؤال وإنه غير واجب بالاتفاق وأيضا فقوله إن كنتم لا تعلمون يقتضي أن يجب على المجتهد بعد اجتهاده استفتاء غيره لأنه بعد اجتهاده ليس بعالم بل هو ظان وبالإجماع لا يجوز ذلك وأيضا فإنه أمر بالسؤال وليس فيه تعيين ما عنه السؤال فنحن نحمله على السؤال عن وجه الدليل وعن الثاني أن الأصول دلت على وجوب الطاعة لكنها لا تدل على وجوب الطاعة في كل شئ فنحن نحملها على وجوب الطاعة في الأقضية والأحكام والدليل على أن الآية لا تتناول محل النزاع أنها لو تناولته لوجب ذلك التقليد وبالإجماع التقليد غير واجب وعن الثالث أن الآية تدل على وجوب الحذر عند إنذار لا عند كل إنذار ونحن نقول بالأول فإنا نوجب العمل بروايته وعن الرابع أنه يحتمل أن يكون المراد من سيرة الشيخين طريقتهما في العدل والإنصاف والانقياد للحق والبعد عن الدنيا وعن الخامس أن الفرق هو أن العامي قاصر فجاز له العمل بالتقليد والعالم ليس بقاصر

وعن السادس أن المفتي ربما بنى اجتهاده على خبر واحد فإذا تمسك به المجتهد ابتداءا كان الاحتمال فيه أقل مما إذا قلد فيه غيره وعن السابع أن مجرد الظن واجب العمل به لكن إذا لم يقم دليل سمعي يصرفنا عنه وما ذكرناه من الدلائل السمعية يوجب العدول عن هذا الظن

القسم الثالث

القسم الثالث فيما فيه الاستفتاء مسألة لا يجوز التقليد في أصول الدين لا للمجتهد ولا للعوام وقال كثير من الفقهاء بجوازه لنا أن تحصيل العلم في أصول الدين واجب على الرسول ص فوجب أن يجب علينا وإنما قلنا أنه كان واجبا على الرسول ص لقوله تعالى فاعلم أنه لا إله إلا الله وإنما قلنا إنه لما كان واجبا على الرسول ص وجب أيضا على أمته لقوله تعالى واتبعوه

فان قيل لا نسلم أنه يمكن إيجاب العلم بالله تعالى وذلك لأن المأمور إن لم يكن عالما بالله تعالى فحالما يا لا يكون عالما بالله استحال أن يكون عالما بأمر الله تعالى وحالما يمتنع كونه عالما بأمر الله تعالى يمتنع كونه مأمورا من قبله وإلا لكان ذلك تكليف ما لا يطاق وان كان عالما بالله تعالى استحال أمره به لأن تحصيل الحاصل محال سلمنا أن الرسول ص كان مأمورا بذلك فلم قلت إنه يلزم من كون الرسول مأمورا كون الأمة مأمورين به وما ذكرتم من الدليل معارض بأمور أحدها أن الأعرابى الجلف العامي كان يحضر ويتلفظ بكلمتي الشهادة وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يحكم بصحة إيمانه وما ذاك إلا التقليد وثانيها أن هذه الدلائل لا يمكن الاطلاع عليها إلا بعد ممارسة شديدة وإنهم لم يمارسوا شيئا من هذا العلم فيمتنع اطلاعهم عليه وإذا كان كذلك تعين التقليد وثالثها أنه عليه الصلاة والسلام لم يقل لأحد ممن تلفظ بكلمتي الشهادة هل علمت حدوث الأجسام وأنه تعالى مختار لا موجب فدل هذا على

إيراد نقض ومعارضات على هذا الدليل

أن خطور هذه المسائل بالبال غير معتبر في الإيمان لا تقليدا ولا علما ومنهم من عول في هذه المسألة على طريقة أخرى فقال اجمعت الأمة على أنه لا يجوز إلا تقليد المحق لكن لا يعلم أنه محق إلا إذا عرف بالدليل أن ما يقوله حق فإذن لا يجوز له أن يقلد إلا بعد أن يستدل ومتى صار مستدلا امتنع كونه مقلدا فيقال لهم هذا معارض بالتقليد في الشرعيات فإنه لا يجوز له تقليد المفتي إلا إذا كان المفتي قد أفتى بناءا على دليل شرعى فإن قلت الظن فيه كاف فإن أخطأ كان ذلك الخطأ محطوطا عنه قلت فلم لا يجوز مثله في مسائل الأصول واعلم أن في هذه المسألة ابحاثا دقيقة مذكورة في كتبنا الكلامية والأولى في هذه المسألة أن يعتمد على وجه وهو أن يقال دل القرآن على ذم التقليد لكن ثبت جواز التقليد في الشرعيات فوجب صرف الذم إلى التقليد في الأصول وإذ قد وفقنا الله تعالى بفضله حتى تكلمنا في جميع ابواب أصول

الفقه فلنتكلم الآن فيما اختلف فيه المجتهدون أنه هل هو من أدلة الشرع أو ليس كذلك

الكلام فيما اختلف فيه المجتهدون من أدلة الشرع، وفيه إحدى عشرة مسألة:

الكلام فيما اختلف فيه المجتهدون من أدلة الشرع وفيه مسائل

المسألة الأولى:

المسألة الأولى في حكم الأفعال اعلم أنا بينا في أول هذا الكتاب أنه لا حكم قبل الشرع وأجبنا عن شبه المخالفين ونريد الآن أن نبين أن الأصل في المنافع الإذن وفي المضار المنع بأدلة الشرع فإن ذينك أصلان نافعان في الشرع أما الأصل الأول فالدليل عليه وجوه المسلك الأول التمسك بقوله تعالى خلق لكم ما في الأرض جميعا واللام تقتضي الاختصاص بجهة الانتفاع فإن قيل لا نسلم أن اللام تقتضي الاختصاص بجهة الانتفاع والدليل عليه قوله تعالى وإن أسأتم فلها لله ما في السماوات والأرض ففي هاتين الآيتين يمتنع أن تكون اللام للاختصاص بالمنافع ولأن النحاة قالوا اللام للتمليك وهو غير ما قلتموه

سلمنا ذلك ولكنه يفيد مسمى الانتفاع أو يفيد كل الانتفاعات الأول مسلم ويكفي في العمل بها حصول فرد واحد الانتفاعات وهو الاستدلال بها على الصانع تعالى والثاني ممنوع فما الدليل سلمنا أنه يفيد كل الانتفاعات لكن بالخلق لأن اللام داخلة على الخلق فلم قلت إن المخلوق كذلك سلمنا أنه يفيد الانتفاع بالمخلوق لكن لكل واحد في حال واحد لأن هذا مقابلة الجمع بالجمع فيقتضي مقابلة الفرد بالفرد فقط سلمنا أنه يفيد العموم لكن كلمة في للظرفية فيدل على إباحة كل ما في داخل الأرض وهو الركاز والمعادن فلم قلتم إن ما على الأرض كذلك سلمنا إباحة كل ما على الأرض لكن في ابتداء الخلق لأن قوله خلق لكم يشعر بأنه حالما خلقتها إنما خلقها لنا فلم قلتم إنه بقي في الدوام كذلك

فإن قلت الأصل في الثابت البقاء قلت هذا فيما يحتمل البقاء لكن كونه مباحا صفة والصفة لا تبقى سلمنا الإباحة حدوثا وبقاءا لو لكن لمن كان موجودا وقت ورود هذا الخطاب لأن قوله تعالى خلق لكم خطاب مشافهة فيختص بالحاضرين سلمنا إنه يدل على اختصاصها بنا لكن قوله تعالى لله ما في السماوات وما في الأرض ينافي ذلك والجواب الدليل على أن اللام تفيد المنفعة قوله تعالى لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت وقال عليه الصلاة والسلام النظرة الأولى لك والثانية عليك وقال عليه الصلاة والسلام له غنمه وعليه غرمه

ويقال هذا الكلام لك وهذا عليك غاية ما في الباب أنها جاءت في سائر المواضع لمطلق الاختصاص فنقول لو جعلناه حقيقة في الاختصاص النافع أمكن جعله مجازا في مسمى الاختصاص لأن مسمى الاختصاص جزء من الاختصاص النافع والجزء لازم للكل واللفظ الدال على الشئ يصح جعله مجازا عن لازمه أما لو جعلناه حقيقة لمسمى الاختصاص لم يكن الاختصاص النافع لازما لأن الخاص لا يكون لازما للعام وإذا لم يوجد اللزوم لم يجز جعله مجازا عنه وأما قول النحاة اللام للتمليك فلم يريدوا أنها حقيقة للملك وإلا لبطل بقوله الجل للفرس بل مرادهم الاختصاص النافع وهو عين ما قلناه

قوله يكفي حصول فرد من أفراد الانتفاعات وهو الاستدلال بها على الصانع تعالى قلنا لا يمكن حمل الآية على هذا النفع لأن هذا النفع حاصل لكل مكلف من نفسه فإن يمكنه الاستدلال بنفسه على الصانع وإذا حصل له هذا النفع من نفسه كان تحصيل هذا الجنس من النفع من غيره ممتنعا لأن تحصيل الحاصل محال قوله اللام داخلة على الخلق فلم قلت المخلوق كذلك قلنا الخلق هو المخلوق لقوله تعالى هذا خلق الله أى مخلوق الله وبتقدير أن يكون الخلق غير المخلوق لكن لا نفع للمكلف في صفة الله تعالى فوجب أن يكون المراد ها هنا من الخلق المخلوق قوله مقابلة الجمع بالجمع تقتضي مقابلة الفرد بالفرد قلنا لا نسلم أن هذا مقابلة الجمع بالجمع بل هذا يجرى مجري تمليك الدار الواحدة لشخصين فكما أن ذلك يقتضي تعلق حق كل واحد منهما لا بجزء معين من الدار بل بجميع أجزاء الدار فكذا ها هنا قوله كلمة في لا تتناول إلا ما كان في باطن الأرض قلنا لا نسلم بدليل قوله تعالى إني جاعل في الأرض خليفة قوله هب أنه ثبت هذا الحكم في الابتداء فلم قلت إنه يدوم قلنا لأن الأصل فيما يثبت بقاؤه

المسلك الثاني: التمسك بقوله: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده) [32 - الأعراف]

قوله هذا الاختصاص صفة فلا تقبل الدوام قلنا لكن حكم الله تعالى صفة فهي واجبه الدوام قوله هب أن هذا الحكم ثبت للمخاطبين بهذا الخطاب فلم قلت إنه يثبت في حقنا قلنا لأن الله تعالى لما حكم بذلك في حقهم وقد حكم به الرسول أيضا في حقهم فوجب أن يكون قد حكم به أيضا في حقنا لقوله عليه الصلاة والسلام حكمي في الواحد حكمي في الجماعة قوله هذا معارض بقوله تعالى لله ما في السماوات وما في الأرض قلنا التعارض إنما يثبت أن لو ثبت في الموضعين بمعنى واحد وهو محال لأن الذي أثبتناه في حقنا هو الاختصاص النافع وذلك في حق الله تعالى محال فإذن لا تعارض بل ذلك الاختصاص ليست إلا بجهة الخلق والإيجاد المسلك الثاني قوله تعالى قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق أنكر الله تعالى على من حرم زينة الله فوجب أن لا تثبت حرمة

المسلك الثالث: الاستدلال بقوله تعالى: (أحل لكم الطيبات) [المائدة - 4]

زينة الله وإذا لم تثبت حرمة زينة الله امتنع ثبوت الحرمة في كل فرد من أفراد زينة الله لأن المطلق جزء من المقيد فلو ثبتت الحرمة في فرد من أفراد زينة الله تعالى لثبتت الحرمة في زينة الله تعالى وذلك على خلاف الأصل وإذا انتفت الحرمة بالكلية ثبتت الإباحة المسلك الثالث أن الله تعالى قال أحل لكم الطيبات وليس المراد من الطيب الحلال وإلا لزم التكرار فوجب تفسيره بما يستطاب طبعا وذلك يقتضي حل المنافع بأسرها المسلك الرابع القياس وهو أنه انتفاع بما لا ضرر فيه على المالك قطعا ولا على المنتفع ظاهرا فوجب أن لا يمنع كالاستضاءة ب ضوء سراج الغير والاستظلال بظل جداره إنما قلنا إنه لا ضرر فيه على المالك لأن المالك هو الله تعالى والضرر عليه محال وأما ملك العباد فقد كان معدوما والأصل بقاء ذلك العدم ترك العمل به فيما وقع اتفاق الخصم على كونه مانعا فيبقى في غيره على الأصل فإن قيل فهذا يقتضي القول بإباحة كل المحرمات لأن فاعلها ينتفع بها ولا ضرر فيها على المالك ويقتضى سقوط التكاليف بأسرها ولا شك في فساده

المسلك الخامس: الدليل العقلي

وأيضا فالقياس على الاستضاءة والاستظلال غير جائز لأن المالك لو منع من الاستضاءة والاستظلال قبح ذلك منه والله تعالى لو منعه من الانتفاع لم يقبح والجواب عن الأول أنا احترزنا عنه بقولنا ولا ضرر على المنتفع ظاهرا وها هنا في فعل ما نهى الله عنه ترك ما أمر به ضرر أما على قول المعتزلة فلأنه لولا اشتمال الفعل والترك على جهة لأجلها حصل النهي وإلا لما جاز ورود النهي وأما عندنا فلأن الله تعالى لما توعدنا بالعقاب عليه كان مشتملا على الضرر فلم يكن واردا علينا وعن الثاني أنه لا يجب أن يكون الفرع مساويا للأصل من كل الوجوه بل يكفي حصول المساواة فيه من الوجه المقصود المسلك الخامس وهو أن الله تعالى خلق الأعيان إما لا لحكمة أو لحكمة والأول باطل لقوله تعالى وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين وقوله أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا ولأن الفعل الخالي عن الحكمة عبث والعبث لا يليق بالحكيم

تصريح المصنف بأن تحقيق القول في هذا "الأصل" لا يتم إلا مع القول بالاعتزال

وأما إن كان خلقها لحكمة فتلك الحكمة إما عود النفع إليه أو إلينا والأول محال لاستحالة الانتفاع عليه فتعين أنه تعالى إنما خلقها لينتفع بها المحتاجون وهذا يقتضي أن يكون المقصود من الخلق نفع المحتاج وإذا كان كذلك كان نفع المحتاج مطلوب الحصول أينما كان فإن منع منه فإنما يمنع لأنه بحيث يلزمه رجوع ضرر إلى محتاج فإذا نهانا الله تعالى عن بعض الانتفاعات علمنا أنه تعالى إنما منعنا منها لعلمه باستلزامها للمضار إما في الحال أو في المآل ولكن ذلك على خلاف الأصل فثبت أن الأصل في المنافع الإباحة وهذا النوع من الكلام هو اللائق بطباع الفقهاء والقضاة وإن كان تحقيق القول فيه لا يتم إلا مع القول بالاعتزال أما الأصل الثاني وهو أن الأصل في المضار الحرمة فهذا يستدعي بحثين أحدهما البحث عن ماهية الضرر والثاني إقامة الدليل على حرمته أما الأول فقد قالوا الضرر ألم القلب لأن الضرب يسمى ضررا وتفويت منفعة الإنسان يسمى إضرارا والشتم والاستخفاف يسمى ضررا ولا بد من جعل اللفظ اسما لمعنى مشترك بين هذه الصور دفعا

للاشتراك وألم القلب معنى مشترك فوجب جعل اللفظ حقيقة فيه فان قيل أتعني بألم القلب الغم والحزن أم شيئا آخر الأول باطل لأن من خرق ثوب إنسان أو خرب داره وكان المالك غافلا عن هذه الحالة يقال أضربه مع أنه لم يوجد الغم والحزن وإن عنيت به شيئا آخر فبينه نزلنا عن الاستفسار فلم قلت الضرر ألم القلب قوله لا بد من معنى مشترك في مواضع الاستعمال قلنا هذا مسلم لكن لم قلت إنه لا مشترك إلا ألم القلب بل ها هنا مشترك آخر وهو تفويت النفع فما الدليل على أن ما ذكرتموه أولى ثم الذي يدل على أن ما ذكرناه أولى أن النفع مقابل الضرر والنفع تحصيل المنفعة فوجب أن يكون الضرر إزالة المنفعة وإذا ثبت ذلك وجب أن لا يكون حقيقة فيما ذكرتموه دفعا للاشتراك سلنا أن ما ذكرتموه يدل على أن الضرر ألم القلب لكنه معارض بوجهين الأول أن من خرب دار إنسان وكان المالك غافلا عنه يقال أضربه مع أنه لم يوجد هناك ألم القلب لأن ألم القلب لا يحصل إلا بعد الشعور به الثاني قوله تعالى قال أفتعبدون من دون الله مالا ينفعكم شيئا ولا يضركم أخبر أن عبادة الأصنام لا تضرهم مع أنها تؤلم قلوبهم يوم القيامة لأنهم يعاقبون بذلك

فثبت أن الضرر ليس ألم القلب والجواب أن القلب إذا ناله غم وحزن انعصر دم القلب في الباطن وانعصار دم القلب في الباطن إنما يكون لانعصار يكون القلب في نفسه وانعصار العضو مؤلم له لأن أي عضو عصرته فإنه يحصل منه ألم فالمراد من ألم القلب تلك الحالة الحاصلة له عند ذلك الانعصار مع فظهر بهذا أن ألم القلب مغاير للغم وإن كان مقارنا له وغير منفك عنه وأما من خرق ثوب إنسان فإنما يقال أضربه على معنى أنه أوجد ما لو عرفه لحصل الضرر لا محالة وهو في الحقيقة اطلاق اسم المسبب على السبب مجازا قوله لم قلت لا مشترك سواه قلنا لأن المشترك الآخر كان معدوما والأصل بقاؤه على العدم قوله تفويت النفع أيضا مشترك قلنا لا يجوز جعله مسمى الضرر لأن البيع والهبة حصل فيهما تفويت النفع لأن البائع فوت على نفسه الانتفاع بعين المبيع مع أن ذلك لا يسمى ضررا قوله الضرر في مقابلة النفع قلنا هب أنه كذلك لكن النفع عبارة عن تحصيل اللذة أو ما يكون

تصريح المصنف بأن المعتمد في تحقيق "إقامة الدلالة على حرمة الضرر" قوله عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار"

وسيلة إليها والضرر عبارة عن تحصيل الألم أو ما يكون وسيلة إليه وأما الآية فنقول لا نسلم أن الأصنام تضرهم في الدنيا ولا في الآخرة بل الذي يضرهم في الآخرة عبادتها فزال السؤال المقام الثاني في اقامة الدلالة على حرمة الضرر والمعتمد فيه قوله عليه الصلاة والسلام لا ضرر ولا إضرار في الإسلام والكلام على التمسك بهذا النص اعتراضا وجوابا مشهور في الخلافيات

المسألة الثانية:

المسألة الثانية في استصحاب الحال المختار عندنا أنه حجة وهو قول المزني وأبي بكر الصيرفي من فقهائنا خلافا للجمهور من الحنفية والمتكلمين لنا أن العلم بتحقيق أمر في الحال يقتضى ظن بقائه في في الاستقبال والعمل بالظن واجب ولا معنى لكونه حجة إلا ذلك إنما قلنا إن العلم بتحقيق أمر في الحال يقتضى ظن بقائه في الاستقبال لأن الباقي مستغن عن المؤثر والحادث مفتقر إليه والمستغني عن المؤثر راجح الوجود بالنسبة إلى المفتقر إليه إن قلنا أن الباقي مستغن عن المؤثر لأنا لو فرضنا له مؤثرا فذلك المؤثر إما أن يقال إنه صدر عنه أثر أو ما صدر عنه أثر والثاني محال لأن فرض المؤثر بدون الأثر متناقض وأما الأول فأثره إما أن يكون شيئا ما كان موجودا أو كان موجودا فإن قلنا أنه ما كان موجودا كان الأثر حادثا لا باقيا وإن قلنا إنه كان موجودا كان ذلك تحصيلا للحاصل وهو محال فثبت أن الباقي مستغن عن المؤثر

وإنما قلنا إن الحادث مفتقر إليه لأن إجماع المسلمين بل إجماع جمهور العقلاء منعقد عليه والاستقصاء فيه مذكور في كتابنا المسمى ب الخلق والبعث وإنما قلنا إن المستغنى عن المؤثر راجح بالنسبة إلى المفتقر إليه لوجهين الأول وهو أن المستغنى عن المؤثر لا بد أن يكون الوجود به أولى إذ لو كان الوجود مساويا للعدم لاستحال الرجحان إلا بمنفصل وكان يلزم افتقاره إلى المؤثر لكنا فرضناه مستغنيا عنه هذا خلف فإذن وجود الباقي راجح على عدمه وأما الحادث فليس أحد طرفيه راجحا على الآخر إذ لو كان راجحا لاستحال افتقاره إلى المرجح وإلا لكان ذلك المرجح مرجحا لما هو في نفسه مترجح فكان ذلك تحصيلا للحاصل وهو محال فثبت أن الباقي أولى بالوجود وأن الحادث ليس أولى بالوجود ولا معنى لظن وجوده إلا اعتقاد أن وجوده أولى فثبت أن الباقي راجح الوجود بالنسبة إلى الحادث

إيراد اعتراضات على دليل القائلين بـ "الاستصحاب"، وأجوبتها

الثاني وهو أن الباقي لا يعدم إلا عند وجود المانع والمتقر سعيد إلى المؤثر كما يعدم عند وجود المانع فقد يعدم أيضا عند عدم المقتضي وما لا يعدم إلا بطريق واحد يكون أولى بالوجود مما يعدم بطريقين ولا معنى للظن إلا اعتقاد أنه أولى بالوجود وإنما قلنا إن العمل بالظن واجب لقوله عليه الصلاة والسلام نحن نحكم بالظاهر ولأنه لو لم يجب لزم جواز ترجيح المرجوح على الراجح وإنه غير جائز في بديهة العقل ولأن العمل بالقياس وخبر الواحد والشهادة والفتوى وسائر الظنون المعتبرة إنما وجب ترجيحا للأقوى على الأضعف وهذا المعنى قائم ها هنا فيلزم ثبوت الحكم ها هنا أيضا وهو وجوب العمل به فإن قيل لا نسلم أن العلم بتحقق أمر في الحال يقتضى ظن بقائه في الاستقبال قوله لأن الباقي مستغن عن المؤثر قلنا ما المعنى بقولكم الباقي مستغن عن المؤثر إن عنيتم به أن كونه باقيا مستغن عن المؤثر فهذا ممنوع

وأيضا فهو مناقض لقولكم الحادث مفتقر إلى المؤثر لأن كونه باقيا لم يكن حاصلا حال حدوثه ثم حصل بعد أن لم يكن فيكون حادثا وأنتم قد اعترفتم أن الحادث لا بد له من مؤثر وإن عنيتم بقولكم الباقي مستغن عن المؤثر شيئا آخر فبينوه لننظر فيه نزلنا عن الاستفسار فلم لا يجوز أن يقال الباقي له مؤثر ولذلك المؤثر أثر قوله ذلك الأثر إما أن يكون شيئا ما كان حاصلا أو كان حاصلا قلنا لم لا يجوز أن يقال ما كان حاصلا وذلك لأنه لا معنى لبقائه إلا حصوله في هذا الزمان بعد أن كان حاصلا في زمان آخر قبله لكن حصوله في هذا الزمان ما كان حاصلا قبل حصول هذا الزمان فإذن كونه باقيا أمر حادث فأثر المبقي هو ذلك الأثر فإن قلت فعلى هذا التقدير يكون أثر المبقي أمرا حادثا فلا يكون مبقيا بل محدثا قلت مرادنا من قولنا الباقي يفتقر إلى المبقى أن حصوله في الزمان الثاني لا بد فيه من شئ آخر وقد ثبت أنه لا يكون باقيا ما لم يحصل في الزمان الثاني وحصوله في الزمان الثاني مفتقر إلى مؤثر فإذن يمتنع أن يصدق عليه كونه باقيا إلا لمؤثر فيعد ذلك البحث عن الواقع بذلك المؤثر وكونه أمرا مستمرا أو جديدا بحثا عن شئ خارج عن المقصود

سلمنا فساد هذا القسم فلم لا يجوز أن يقال أثره شئ كان حاصلا قوله تحصيل الحاصل محال قلنا إن عنيت بتحصيل الحاصل أن يجعل عين الشئ الذي كان موجودا في الزمان الأول حادثا في الزمان الثاني فلا نزاع في أن ذلك محال لكن لم قلت إن إسناد الباقي إلى المؤثر يوجب ذلك وإن عنيت به أن الوجود الذي صدق عليه في الزمان الأول أنه أنما ترجح لهذا المؤثر صدق عليه في الزمان الثاني أيضا أنه ترجح لهذا المؤثر فلم قلت إن ذلك محال سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على استغناء الشئ حال بقائه عن المؤثر لكن ها هنا ما يعارضه وذلك لأن هذا الباقي كان بقاؤه ممكنا وكل ممكن فله مؤثر فالباقي حال بقائه له مؤثر وإنما قلنا أنه ممكن لأنه في زمان حدوثه ممكن وإلا لم يفتقر إلى المؤثر وإمكانه من لوازم ماهيته وما كان من لوازم الماهية فهو واجب الحصول في جميع زمان تحقق الماهية فكان الإمكان حاصلا في زمان البقاء وإنما قلنا إن الممكن مفتقر إلى المؤثر لأن الممكن قد استوى طرفاه وما كان كذلك افتقر إلى المرجح فإن قلت لم لا يجوز أن يقال الإمكان إنما يحوج إلى المقتضى بشرط الحدوث وهذا الشرط فائت في زمان البقاء فلا يتحقق الافتقار قلت لا يجوز جعل الحدوث مؤثرا في تحقق الاحتياج لأن الحدوث

عبارة عن مسبوقية وجود الشئ بالعدم ومسبوقية بكر الوجود بالعدم صفة ونعت له وصفة الشئ متوقفة على الشئ فالحدوث متوقف على الوجود المتأخر عن تأثير المؤثر فيه المتأخر عن احتياج المؤثر إليه المتأخر عن علة احتياجه إليه فلو كان الحدوث مؤثرا في ذلك الاحتياج إما بأن يكون علة أو جزء علة أو شرط علة لزم الدور وهو محال سلمنا استغناء الباقي عن المؤثر وافتقار الحادث إليه فلم قلت إن المستغني راجح عن المفتقر قوله في الوجه الأول أن الباقي أولى بالوجود والحادث ليس أولى ولا معنى للظن إلا اعتقاد أنه أولى قلنا إن عنيت بهذه الأولوية أن العدم عليه ممتنع فهذا باطل لأن هذا الباقي يقبل العدم وإن عنيت به أمرا آخر فلا بد من بيانه فإن قلت المراد منها درجة متوسطة بين الاستواء الذي هو مسمى الإمكان والتعيين المانع من النقيض الذي هو مسمى الضرر قلت هذا محال لأن مع ذلك القدر من الأولوية إن امتنع النقيض فهو الضرروة وقد فرضنا أنه ليس كذلك وإن لم يمتنع فمع ذلك القدر من الأولوية يصح عليه الوجود تارة والعدم أخرى فحصول أحدهما بدلا عن الآخر إن توقف على انضمام قيد إليه لم يكن الحاصل قبله كافيا في تحقق الأولوية وإن لم يتوقف كانت نسبة ذلك القدر من الأولوية إلى طرفي الوجود والعدم على السوية فترجيح أحدهما على الآخر لا لمرجح زائد يكون

ترجيحا لأحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح وهو محال وأما الوجه الثاني فغاية ما في الباب أنه يمكن تحقق عدم الحادث بطريقتين ولا يمكن تحقق عدم الباقي إلا بطريق واحد فلم قلت أن هذا القدر يقتضي أن يكون الباقي راجحا في الوجود على الحادث سلمنا أن ما ذكرتموه يقتضي رجحان الباقي على الحادث من ذلك الوجه لكنه يقتضي عدم الرجحان من وجه آخر بيانه أن الباقي لا يصدق عليه كونه باقيا إلا إذا حصل في الزمان الثاني فحصوله في الزمان الثاني أمر حادث فإذا لم يكن وجود الحادث راجحا فالمتوقف على ما لا يكون راجح الوجود لم يكن هو أيضا راجح الوجود فيلزم أن لا يكون الباقي راجح الوجود سلمنا أن الباقي راجح الوجود ولكن ما لم يتحقق كونه باقيا لا يتحقق كونه راجح الوجود وهو إنما يصدق عليه كونه باقيا إذا حصل في الزمان الثاني فالحاصل أنا ما لم نعرف وجوده في الزمان الثاني لا نعرف كونه راجح الوجود وأنتم جعلتم رجحان وجوده دليلا على وجوده في الزمان الثاني فيكون دورا سلمنا أن الباقي راجح في الوجود الخارجي على الحادث فلم قلت يجب أن يكون راجحا عليه في الظن لا بد لهذا من دليل سلمنا حصول هذا الظن وأن العمل به واجب ولكنه معارض بدليل آخر يمنع من التمسك بالاستصحاب وهو أن من سوى بين الوقتين في

الحكم فإما أن يقال إنما سوى بينهما لاشتراكهما فيما يقتضى ذلك الحكم أو ليس الأمر كذلك فإن كان الأول فهو قياس وإن كان الثاني كان ذلك تسوية بين الوقتين في الحكم من غير دليل وإنه باطل بالإجماع والجواب قوله ما المراد من قولكم الباقي مستغن عن المؤثر قلنا لا شك في أن الباقي هو الذي حصل في زمان بعد أن كان بعينه حاصلا في زمان آخر قبله وهذا يقتضى أن تكون الذات الحاصلة في هذا الزمان عين الذات الحاصلة في ذلك الزمان الآخر إذا ثبت هذا فنقول هذه الذات التي صدق عليها أنها حصلت بعينها في الزمانين إما أن يقال حصل فيها في الزمان الثاني أمر لم يكن حاصلا في الزمان الأول أو لم يحصل فإن كان الأول كان الأمر المتجدد مغايرا للذات الباقية فيكون الباقي في الحقيقة هو الذات لا هذه الكيفية المتجددة فنحن ندعي أن ذلك الشئ الذي هو الباقي يستحيل إسناده إلى المؤثر حال بقائه وعلى هذا التقدير لا يكون إسناد تلك الكيفية المتجددة قادحا في قولنا الباقي غير مستند إلى المؤثر لأن أحدهما غير الآخر وإن قلنا إنه لم يحدث في الزمان الثاني أمر متجدد بل الحاصل في

الزمان الثاني ليس إلا الذات التي كانت حاصلة في الزمان الأول فعلى هذا التقدير بطل قولهم إن كونه باقيا كيفية حادثة وأنها مفتقرة إلى المؤثر فثبت أن على التقديرين السؤال ساقط قوله حصوله في الزمان الثاني كيفية زائدة على الذات وهي مفتقرة إلى المؤثر قلنا هذا باطل وبتقدير ثبوته فهو غير قادح في دليلنا أما أنه باطل فلأن حصوله في الزمان الثاني لو كان كيفية زائدة على الذات لكان حصول ذلك الزائد في ذلك الزمان كيفية أخرى فلزم التسلسل وهو محال ولأن العدم قد يصدق عليه أنه باق فلو كان تحققه في الزمان الثاني كيفية ثبوتية لزم قيام الصفة الموجودة بالموصوف الذي هو نفى محض وإنه محال وأما أن بتقدير ثبوته فالمقصود حاصل فذلك لأن حصوله في الزمان الثاني لما كان أمرا حادثا كان إسناده إلى المؤثر إسنادا للحادث إلى المؤثر لا إسنادا للباقي وكلامنا ليس إلا في الباقي قوله ما الذي تعني بتحصيل الحاصل قلنا نعني به أن الشئ الذي حكم العقل عليه بأنه كان حاصلا قبل ذلك يحكم عليه بأن حصوله الآن لأجل هذا الشئ وهذا محال بالبديهة لأنه لما كان حاصلا قبل ذلك فلو أعطاه الآن

هذا المؤثر حصولا لكان قد حصل نفس ما كان حاصلا وأنه محال قوله الباقي حال بقائه ممكن والممكن مفتقر قلنا لا نسلم أن الممكن إنما يفتقر إلى المؤثر بشرط كونه حادثا قوله الحدوث متأخر قلنا لا نريد به أن كونه حادثا شرط للافتقار بل نريد به أن كونه بحيث لو وقع بالمؤثر لكان حادثا بشرط افتقار الأثر إلى المؤثر وكونه بهذه الصفة أمر متقدم قوله ما المراد من الأولوية قلنا درجة متوسطة بين التساوي والتعيين المانع من النقيض قوله هذا محال لأنه يقتضي ترجيح أحد المتساويين على الآخر لا لمرجح قلنا لا نسلم أن ذلك ممتنع مطلقا بل ذلك إنما يمتنع بشرط الحدوث قوله على الوجه الثاني لم قلت إنه لما أمكن حصول عدم الحادث بطريقين وعدم الباقي لا يحصل إلا بطريق كان وجود الحادث مرجوحا قلنا لأن عدم حصول الحادث أكثر من عدم الباقي لأنه يصدق على ما لا نهاية له أنه لم يحدث وأما عدم الباقي بعد حدوثه فمشروط بوجوده فإذا كان الوجود متناهيا كان العدم بعد الوجود متناهيا وإذا كان عدم حدوث الحادث أكثر من عدم الباقي بعد وجوده والكثرة موجبة للظن ثبت أن عدم حدوث الحادث غالب على عدم الشئ ولا

معنى للظن إلا ذلك واعلم أنه يمكن الاستدلال بهذه النكتة ابتداءا قوله كونه باقيا يتوقف على حدوث حصوله في الزمان الثاني فكونه باقيا يتوقف على الحدوث الذي ليس براجح والموقوف على ما لا يكون راجحا ليس براجح قلنا هذا إنما يلزم لو كان حصوله في الزمان الثاني كيفية وجودية وقد دللنا على أن ذلك محال لأنه يوجب التسلسل ثم إن سلمنا صحة ذلك لكنا نقول لما ثبت أن الحدوث مرجوح فالذات إذا كانت حادثة فهناك أمران حادثان أحدهما الذات والآخر حصول الذات في ذلك الزمان وأما إذا كانت الذات باقية والحادث أمر واحد وهو حصوله في ذلك الزمان أما الذات فهي ليست ب حادثة في نفسها فإذن الحادث مرجوح من وجهين والباقي من وجه واحد فوجب أن يكون الباقي راجحا على الحادث من هذا الوجه قوله ما لم يعرف كونه باقيا لا يثبت رجحانه قلنا لا حاجة إلى ذلك بل نقول هذا الذي وجد لا يمتنع عقلا أن يوجد في الزمان الثاني وأن يعدم لكن احتمال الوجود راجح على احتمال العدم من الوجه الذي ذكرناه فالعلم بوجوده في الحال يقتضي اعتقاد رجحان وجوده على عدمه في ثاني الحال فإذن العلم بالأولوية مستفاد من العلم بوجوده في الحال

تصريح الفخر بأن القول بـ "استصحاب الحال" أمر لا بد منه في الدين والشرع والعرف، وبيانه لذلك

وعلى هذا التقدير يسقط الدور قوله هب أن الباقي راجح على الحادث في الوجود الخارجي فلم قلت يجب أن يكون راجحا عليه في الذهن قلنا لأن الاعتبار الذهنى مطابق للاعتبار الخارجي وإلا كان جهلا قوله التسوية بين الزمانين إن لم تكن بالقياس كان ذلك تسوية بين الزمانين من غير دليل قلنا القياس دليل واحد من أدلة الشرع وليس يلزم من عدم دليل معين عدم الدليل بالكلية بل نحن سوينا بين الزمانين في الحكم بناءا على ما ذكرنا من أن العلم بثبوته في في الحال يقتضى ظن ثبوته على ذلك الوجه في الزمان الثاني والعمل بالظن واجب واعلم أن القول باستصحاب الحال أمر لا بد منه في الدين والشرع والعرف أما في الدين فلأنه لا يتم الدين إلا بالاعتراف بالنبوة ولا سبيل إليه إلا بواسطة المعجزة ولا معنى للمعجزة إلا فعل خارق للعادة ولا يحصل فعل خارق للعادة إلا عند تقرر العادة ولا معنى للعادة إلا أن العلم بوقوعه على وجه مخصوص في الحال يقتضي اعتقاد أنه لو وقع لما وقع إلا على ذلك الوجه وهذا عين الاستصحاب وأما في الشرع فلأنا إذا عرفنا أن الشرع تعبدنا بالإجماع أو بالقياس

فرع: في الكلام على " النافي للحكم "، وبيان أنه لا دليل عليه

أو بحكم من الأحكام فلا يمكننا العمل به إلا إذا علمنا أو ظننا عدم طريان الناسخ فإن علمنا ذلك بلفظ آخر افتقرنا فيه إلى اعتقاد عدم النسخ أيضا فإن كان ذلك بلفظ آخر أيضا تسلسل إلى غير النهاية وهو محال فلا بد أن ينتهي آخر الأمر إلى التمسك ب الاستصحاب وهو أن علمنا بثبوته في الحال يقتضى ظن وجوده في الزمان الثاني وأيضا فالفقهاء بأسرهم على كثرة اختلافهم اتفقوا على أنا متى يتقنا قد حصول شئ وشككنا في حدوث المزيل أخذنا بالمتيقن وهذا عين الاستصحاب لأنهم رجحوا بقاء الباقي على حدوث الحادث وأما العرف فلأن من خرج من داره وترك أولاده فيها على حالة مخصوصة كان اعتقاده لبقائهم على تلك الحالة التي تركتهم عليها راجحا على اعتقاده لتغير تلك الحالة ومن غاب عن بلده فإنه يكتب إلى أحبابه وأصدقائه عادة في الأمور التي كانت موجودة حال حضوره وما ذاك إلا ل أن اعتقاده في بقاء تلك الأمور راجح على اعتقاده في تغيرها بل لو تأملنا لقطعنا بأن أكثر مصالح العالم ومعاملات الخلق مبني على القول بالاستصحاب فرع من قال النافي لا دليل عليه إن أراد أن العلم بذلك العدم الأصلي يوجب ظن دوامه في المستقبل فهذا حق كما بيناه

وإن أراد به غيره فهو باطل لأن العلم بالنفي أو الظن به لا يحصل إلا لمؤثر

المسألة الثالثة

المسألة الثالثة في الاستحسان المحكي عن الحنفية القول بالاستحسان

إيضاح أن مخالفي الحنفية أنكروا عليهم القول به لظنهم أنهم يعنون به الحكم من غير دليل

ومخالفوهم أنكروا ذلك عليهم لظنهم أنها يعنون به الحكم من غير دليل والذي حصله المتأخرون في تحديده وجهان

ذكر حدين للاستحسان: أحدهما للكرخي، والآخر لأبي الحسين

الأول قال الكرخي الاستحسان هو أن يعدل الإنسان عن أن يحكم في المسألة بمثل ما حكم في نظائرها إلى خلافه لوجه أقوى يقتضي العدول عن الأول وهذا يلزم عليه أن يكون العدول عن العموم إلى التخصيص وعن المنسوخ إلى الناسخ استحسانا الثاني قال أبو الحسين الاستحسان ترك وجه من وجوه الاجتهاد غير شامل شمول الألفاظ لوجه أقوى منه وهو في حكم الطارئ على الأول قال ولا يلزم عليه العدول عن العموم إلى القياس المخصص لأن العموم لفظ شامل ولا يلزم عليه أن يكون أقوى القياس استحسانا لأن الأقوى ليس في حكم الطارئ على الأضعف فإن كان طارئا فهو استحسان فإن قلت فقد قال محمد بن الحسن في غير موضع من كتبه تركنا الاستحسان للقياس كما لو قرأ آية ال سجدة في آخر السورة فالقياس يقتضي أن يجتزئ بالركوع والاستحسان أن لا يجتزئ به بل يسجد لها ثم إنه قال بالقياس

بيان الفخر أن الأصحاب -من الشافعية- أنكروا "الاستحسان"

فهذا الاستحسان إن كان أقوى من القياس فكيف تركه وإن لم يكن أقوى منه فقد بطل حدكم قلت ذلك المتروك إنما يسمى استحسانا لأنه وإن كان الاستحسان وحده أقوى من القياس وحده لكن اتصل بالقياس شئ آخر صار ذلك المجموع أقوى من الاستحسان كما في المسألة التي ذكرتموها فإن الله تعالى أقام الركوع مقام السجود في قوله تعالى وخر راكعا وأناب فهذا تقرير هذا الحد الذي ذكره أبو الحسين رحمه الله واعلم أن هذا يقتضي أن تكون الشريعة كلها استحسانا لأن مقتضى العقل هو البراءة الأصلية وإنما يترك ذلك لدليل أقوى منه وهو نص أو إجماع أو قياس وهذا الأقوى في حكم الطارئ الأول فيلزم أن يكون الكل استحسانا وهم لا يقولون به لأنهم يقولون تركنا القياس للاستحسان وهذا يقتضي أن يكون القياس مغايرا للاستحسان فالواجب أن يزاد في الحد قيد آخر فيقال ترك وجه من وجوه الاجتهاد مغاير للبراءة الأصلية والعمومات اللفظية لوجه أقوى منه وهو في حكم الطارئ على الأول إذا عرفت هذا فنقول اتفق أصحابنا على إنكار الاستحسان وهذا الخلاف إما أن يكون في اللفظ أو في المعنى لا يجوز أن يكون

بيان أن الخلاف في المعنى لا في اللفظ

في اللفظ لأنه قد ورد في القرآن والسنة وألفاظ سائر المجتهدين هذه اللفظة أما القرآن فقوله تعالى وأمر قومك يأخذوا بأحسنها وقوله فيتبعون أحسنه وأما السنة فقوله عليه الصلاة والسلام ما رأه المسلمون حسنا فهو عند الله حسنا وأما ألفاظ سائر المجتهدين فلأن الشافعي رضي الله عنه قال في باب المتعة أستحسن أن تكون ثلاثين درهما وفي باب الشفعة أستحسن أن يثبت للشفيع الشفعة إلى ثلاثة أيام وقال في المكاتب أستحسن أن يترك عليه شئ فثبت بهذا أن الخلاف ليس في اللفظ وإنما الخلاف في المعنى وهو أن القياس إذا كان قائما في صورة الاستحسان في سائر الصور ثم ترك العمل به في صورة الاستحسان

وبقي معمولا به في غير تلك الصورة فهذا هو القول بتخصيص العلة وهو عند الشافعي وجمهور المحققين باطل وقد تقدمت هذه المسألة فظهر أن القول بالاستحسان باطل

المسألة الرابعة:

المسألة الرابعة الحق أن قول الصحابى ليس بحجة وقال قوم إنه حجة مطلقا ومنهم من فصل وذكروا فيه وجوها أحدها أنه حجة إن خالف القياس وثانيها أن قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حجة فقط وثالثها أن قول الخلفاء الأربعة إذا اتفقوا حجة لنا النص والإجماع والقياس أما النص فقوله تعالى فاعتبروا يا أولي الأبصار أمر بالاعتبار وذلك ينافي جواز التقليد وأما الإجماع فهو أن الصحابة أجمعوا على جواز مخالفة كل واحد من

ذكر أدلة القائلين بحجية "قول الصحابي"، وهي أربعة

آحاد الصحابة فلم ينكر أبو بكر وعمر على من خالفهما ولا كل واحد منهما على صاحبه فيما فيه اختلفا وأما القياس فهو أنه متمكن من إدراك الحكم بطريقة فوجب أن يحرم عليه التقليد كما في الأصول واحتج المخالف بوجوه أحدها قوله عليه الصلاة السلام أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم جعل الاهتداء لازما للاقتداء بأي واحد كان منهم وذلك يقتضي أن يكون قوله حجة وثانيها إن لم يجز اتباع كل واحد منهم فيجب اتباع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما للخبر والإجماع أما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر وأما الإجماع فقد ولى عبد الرحمن عثمان الخلافة بشرط الاقتداء

جواب الفخر عن تلك الأدلة

بسيرة الشيخين فقبل ولم ينكر ذلك على عثمان وكان ذلك بمحضر من أكابر الصحابة فكان إجماعا وثالثها إن لم يجب اتباع أبي بكر وعمر وحدهما وجب اتباع الخلفاء الأربعة لقوله عليه الصلاة والسلام عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي وقوله عليكم للإيجاب وهو عام ورابعها أن الصحابي إذا قال ما يخالف القياس فلا محمل له إلا أنه اتبع الخبر والجواب عن الأول أن قوله عليه الصلاة والسلام بأيهم اقتديتم اهتديتم خطاب مشافهة فلعل ذلك كان خطابا للعوام وعن الثاني أن السنة هي الطريقة وهي عبارة عن الأمر الذي يواظب الإنسان عليه فلا تتناول ما يقوله الإنسان مرة واحدة وعن الثالث أنا نقول بموجبه فيجوز الاقتداء بهما في تجويزهما لغيرهما مخالفتهما بموجب الاجتهاد وأيضا فلو اختلفا كما اختلفا في التسوية في العطاء فأيهما يتبع

فرعان: الأول في بيان اختلاف قول الشافعي -رحمه الله- في المسألة في القديم والجديد، وتحقيق الفخر للجديد واختياره له، وتوجيه ذلك

وعن الإجماع أن قول عثمان معارض بقول علي رضي الله عنهما وعن الرابع أن الصحابي لعله قال بما يخالف القياس لنص ظنه دليلا مع أنه في الحقيقة ما كان دليلا نعم لو تعارض قياسان والصحابي مع أحدهما فيجوز الترجيح بقول الصحابي فأما جعله حجة فلا فرعان الأول اختلف قول الشافعي رضي الله عنه في تقليد الصحابي فقال في القديم يجوز تقليده إذا قال قولا وانتشر ولم يخالف وقال في موضع آخر يقلد وإن لم ينتشر وقال في الجديد لا يقلد العالم صحابيا كما لا يقلد عالما آخر وهو الحق المختار لأن الدلائل المذكورة مطردة في الكل

فإن قلت كيف لا نفرق بينهم وبين غيرهم مع ثناء الله تعالى وثناء رسوله ص عليهم حيث قال الله تعالى لقد رضي الله عن المؤمنين وقال السابقون الأولون من المهاجرين إلى قوله رضي الله عنهم وقال عليه الصلاة والسلام خير القرون قرني قلت هذا كله ثناء يوجب حسن الاعتقاد فيهم ولا يوجب تقليدهم بدليل أنه ورد أمثالها في حق آحاد الصحابة مع إجماع الصحابة على جواز مخالفتهم قال عليه الصلاة والسلام لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان العالمين لرجح وقال إن الله ضرب بالحق على لسان عمر وقال والله ما سلكت

الفرع الثاني: في ذكر سبعة تفاريع للقول القديم للشافعي

فجا إلا سلك الشيطان فجا غير فجك وقال في حق علي اللهم أدر الحق مع علي حيث دار وقال رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد وقال لأبي بكر وعمر لو اجتمعتما على شئ ما خالفتكما وكل ذلك ثناء لا يوجب الاقتداء الثاني في تفاريع القول القديم للشافعي رضى الله عنه وهي سبعة

أحدها قال الشافعي رضي الله عنه في كتاب اختلاف الحديث روي عن على أنه صلى في ليلة ست ركعات وفي كل ركعة ست سجدات قال لو ثبت ذلك عن علي لقلت به فإنه لا مجال للقياس فيه فالظاهر أنه فعله توقيفا وثانيها قال في موضع قول الصحابي إذا انتشر ولم يخالف فهو حجة قال الغزالي رحمه الله وهو ضعيف لأن السكوت ليس بقول فأي فرق بين أن ينتشر أو لا ينتشر والعجب من الغزالي أنه تمسك بمثل هذا الإجماع على أن خبر الواحد حجة والقياس حجة وثالثها نص الشافعي رضي الله عنه على أنه إذا اختلفت الصحابة فالأئمة الأربعة أولى فإن اختلف الأئمة فقول أبي بكر وعمر أولى وكل ذلك للأحاديث المذكورة ورابعها نص في موضع آخر أنه يجب الترجيح بقول الأعلم والأكثر قياسا لأن زيادة علمه تقوي اجتهاده وتبعده عن التقصير وخامسها إن اختلف الحكم والفتوى عن الصحابة فقد اختلف قول الشافعي رضي

الله عنه فقال مرة الحكم أولى لأن العناية به أشد وقال مرة الفتوى أولى لأن سكوتهم عن الحكم محمول على الطاعة وسادسها هل يجوز ترجيح أحد القياسين بقول الصحابي والحق أنه في محل الاجتهاد فربما يتعارض ظنان والصحابي في أحد الجانبين فتميل نفس المجتهد إلى موافقة الصحابي ويكون ذلك اغلب على ظنه وسابعها إذا حمل الصحابي لفظ الخبر على أحد معنييه منهم من جعله ترجيحا وقال القاضي أبو بكر إذا لم يقل علمت ذلك من قصد رسول الله ص بقرينة شاهدتها لم يكن ذلك ترجيحا

المسألة الخامسة:

المسألة الخامسة اختلفوا في أنه هل يجوز أن يقول الله تعالى للنبي ص أو للعالم احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب فقطع بوقوعه مويس بن عمران وقطع جمهور المعتزلة بامتناعه وتوقف الشافعي رضي الله عنه في امتناعه وجوازه وهو المختار وصحة هذا التوقف لا تظهر إلا بالاعتراض على أدلة القاطعين أما المانعون ففقد تعلقوا تارة بما يدل على امتناع وقوعه وأخرى بما يدل على عدم وقوعه أما الوجه الأول فتقريره أن من أجاز هذا التكليف إما أن يجعل الاختيار

مما تتم به المصلحة أو يجعل الفعل مصلحة في نفسه ثم يختاره المكلف والأول باطل لوجهين أحدهما أن على هذا التقدير يسقط التكليف لأن المكلف متى قال إن اخترته فافعله وإن لم تختره فلا تفعله فهذا محض إباحة وثانيهما أن المكلف لا ينفك عن الفعل والترك ولا يجوز تكليف المرء بما لا يمكنه الإنفكاك عنه بخلاف التخيير في الكفارات الثلاث فإنه يمكنه الانفكاك عنها أجمع وأما الثاني فهو باطل من وجوه أربعة أولها أنه إما أن يجوز له الحكم على هذا الوجه في الحوادث الكثيرة أو في الحادثة والحادثتين وفي والأول محال لأنه يمتنع حصول الإصابة بالاتفاق في الأشياء الكثيرة ولهذا لا يجوز أن يقال للأمي اكتب مصحفا فإنك لا تخط بيمينك إلا ما يطابق ترتيب القرآن وللجاهل أخبر فإنك لا تخبر إلا بالصدق ولولا ما ذكرناه لبطلت دلالة الفعل المحكم على علم فاعله وبطلت دلالة أخبار الغيب على النبوة وأما الوجه الثاني وهو أن يجوز ذلك في القليل دون الكثير فهو

باطل لأن كل من جوزه في القليل جوزه في الكثير ومن منع منه في الكثير منع منه في القليل فالقول بالفرق خرق للإجماع وثانيها وهو أنه إنما يحسن القصد إلى الفعل إذا علم أو ظن كونه حسنا فلا بد وأن يتميز له الحسن من القبح قبل الإقدام على الفعل فإذا لم تتقدم هذه الأمارة المميزة كان التكليف باختيار الحسن دون القبيح تكليفا بما لا يطاق فإن قلت إنما يميز بين الحسن والقبيح بأن يقال له قد علمنا بأنك لا تختار شيئا إلا وهو حسن قلت فهذا يقتضي أنه إنما يعلم حسنه بعد فعله له وهو إذا فعله زال التكليف عنه فالحاصل أن التمييز بين الحسن والقبيح لا بد وأن يكون متقدما على الاختيار وإلا وقع التكليف بما لا يطاق وإذا قال الله تعالى إنك لا تحكم إلا بالصواب فها هنا التمييز بين الحسن والقبيح لا يحصل إلا بعد الفعل والشئ الذي يجب أن يكون متقدما ليس هو الذي يجب أن يكون متأخرا وثالثها لو جاز أن يقول له احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب لجاز أن يكلفه

تصديق النبي وتكذيب المتنبي من غير دليل ألبتة بل يكله فيه إلى رأيه ولجاز ذلك في الإخبار فيقول أخبر فإنك لا تخبر إلا عن حق ولجاز أن يصيب في مسائل الأصول من غير تعلم ألبتة ولجاز أن يفوض إليه تبليغ أحكام الله تعالى من غير وحي نزل عليه وكل ذلك باطل بالإجماع ورابعها لو جاز ذلك في حق العالم لجاز في حق العامي وبالإجماع لا يجوز أما الذي يدل على عدم الوقوع فأمران الأول لو كلن الرسول ص مأمورا بأن يحكم على وفق أرادته من غير دليل لما كان منهيا عن اتباع هواه لأنه لا معنى لاتباع الهوى إلا الحكم بكل ما يميل قلبه إليه لكنه كان منهيا عن اتباع الهوى لقوله تعالى ولا تتبع الهوى وما ينطق عن الهوى فإن قلت لما قيل له احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب كان ذلك نصا من الله تعالى على كل ما يميل قلبه إليه فلا يكون ذلك اتباعا للهوى قلت فعلى هذا التقدير صار اتباع الهوى في حقه غير ممكن ولو كان كذلك فلم نهي عنه الثاني لو قيل له احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب لما قيل له لم فعلت

ذكر ما تعلق به القائل بالوقوع (مويس بن عمران) من رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وغيره

كذا لكن قد قيل له عفا الله عنك لم أذنت لهم فلم يثبت ذلك في حقه وأما مويس فإنه تعلق بأمور بعضها يدل على الواقع وبعضها يدل على الجواز فقط أما الدال على الوقوع فإما أن يدل على وقوع ذلك من رسول الله ص أو على وقوعه من غيره أما الأول فقد ذكر مويس فيه عشرة أوجه أحدها أن منادي النبي عليه الصلاة والسلام نادى يوم فتح مكة أن اقتلوا مقيس بن حبابة وابن أبي سرح وإن وجدتموهما متعلقين بأستار الكعبة

لقوله من تعلق بأستار الكعبة فهو آمن

ثم عفى عن ابن أبي سرح بشفاعة عثمان رضي الله عنه ولو كأن الله تعالى أمر بقتله لما قبل شفاعة أحد فيه إلا بوحي آخر ولم يوجد وحي آخر لما أن نزول الوحي له علامات كانوا يعرفونها وما ظهر في ذلك الوقت شئ من ذلك وثانيها أنه قال يوم الفتح إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها فقال العباس يا رسول الله إلا الإذخر فقال إلا الإذخر فهذا الحكم ما كان بالوحي لأنه لم تظهر علامة نزول الوحي وثالثها أنه عليه الصلاة والسلام نادى مناديه لا هجرة بعد الفتح حتى استفاض ذلك فبينما المسلمون كذلك إذ أقبل مجاشع ابن مسعود بالعباس بن عبد المطلب شفيعا ليجعله مهاجرا بعد الفتح فقال عليه الصلاة والسلام أشفع

عمي ولا هجرة بعد الفتح ورابعها أنه لما قتل النضر بن الحارث جاءته قتيلة بنت النضر فأنشدته أمحمد ولأنت ضنؤ كل نجيبة في قومها والفحل فحل معرق ما كان ضرك لو مننت وربما من الفتى وهو المغيظ المحنق فقال عليه الصلاة والسلام أما أني لو كنت سمعت شعرها ما قتلته

ولو كان قتله بأمر الله لقتله ولو سمع شعرها ألف مرة وخامسها قوله عفوت لكم عن الخيل والرقيق

وسادسها قوله عليه الصلاة والسلام أيها الناس كتب عليكم الحج فقال الأقرع بن حابس أكل عام يا رسول الله يقول ذلك ورسول الله ص ساكت فلما أعاد ذلك قال والذي نفسي بيده لو قلتها لوجبت ولو وجبت ما قمتم بها دعوني ما ودعتكم وسابعها أن ابن عباس رضي الله قال أخر رسول الله ص العشاء ذات ليلة فخرج ورأسه يقطر فقال لولا أن أشق على أمتي لجعلت وقت هذه الصلاة هذا الحين

وثامنها روى جابر عن رسول الله ص أنه قال إن عشت إن شاء الله لأنهين أمتي أن يسموا نافعا وأفلح وبركة وهذا الكلام يدل على أنه له وتاسعها قال جابر لما قيل لرسول الله ص إن ماعزا رجم فقال هلا تركتموه حتى أنظر في أمره فلو لم يكن حكم الرجم إليه لما قال ذلك

ذكر دليل له على وقوعه من غير رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-

وعاشرها قوله عليه الصلاة والسلام كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها وعن لحوم الأضاحي ألا فانتفعوا بها وأما الذي يدل على وقوع ذلك من غير رسول الله ص فقوله تعالى كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه وأما الذي يدل على الجواز فقط فأمور أحدها أن الواجب من خصال الكفارة ليس إلا الواحد بالدلائل التي تقدم ذكرها في مسألة الواجب المخير ثم أنه تعالى فوضها إلى المكلف لما علم أنه لا يختار إلا ذلك الواجب فدل على أن ذلك جائز وثانيها أن الواجب في التكليف أن يكون المكلف متمكنا من الخروج عن

العهدة فإذا قال الله تعالى له احكم فإنك لا تنفك عن الصواب علم أن كل ما يصدر عنه صواب فكان متمكنا من الخروج من العهدة فوجب القطع بجوازه وثالثها إذا استوى عند المستفتى مفتيان وأحدهما يفتى بالحظر والآخر بالإباحة فهو متمكن شرعا من الأخذ ب قول أيهما أراد ولا فرق في العقل بين أن يقال افعل ما شئت فإنك لا تفعل إلا الصواب وبين أن يقال خذ بقول أيهما شئت فإنك لا تفعل إلا الصواب والجواب عن أدلة المانعين أن نقول أما الوجه الذي تمسكوا به أولا في امتناع ذلك عقلا فهو مبني على أن أحكام الله تعالى متفرعة على رعاية المصالح ونحن لا نقول بهذا الأصل فتلك الوجوه بأسرها ساقطة عنا ثم إنا نسلم لهم هذا الأصل ونبين ضعف كل واحد من تلك الوجوه أما قوله أولا من أجاز هذا التكليف إما أن يجعل الاختيار مما تتم به المصلحة أو يجعل الفعل مصلحة في نفسه ثم يختاره المكلف قلنا اخترنا القسم الأول قوله هذا يكون إسقاطا للتكليف

جواب الفخر عن أدلة المانعين - جوابا تفصيليا

قلنا لا نسلم وذلك لأنه قال الرسول إن اخترت الفعل فاحكم على الأمة بالفعل وإن اخترت الترك فاحكم على الأمة بالترك فهذا لا يكون إسقاطا للتكليف بل يكون مكلفا بأن يأمر الخلق بمتعلق اختياره قوله الفعل والترك لا ينفك المكلف عنهما قلنا لكن الحكم على الخلق بالفعل والحكم عليهم بالترك قد ينفك عنهما فلم لا يجوز ورود التكليف به ثم يشكل ما ذكروه بالمستفتي إذ أفتاه مفتيان أحدهما بالحظر والآخر بالإباحة فكل ما يقولونه هناك فهو قولنا ها هنا سلمنا فساد هذا القسم فلم لا يجوز القسم الثاني قوله إما أن يكون مأمورا بذلك في الأفعال الكثيرة أو القليلة قلنا لم لا يجوز في الكثيرة قوله الاتفاقي لا يكون أكثريا قلنا لا نسلم فإن حكم الشئ حكم مثله عقلا وشرعا وعرفا فلما جاز ذلك في الأفعال القليلة جاز في الأفعال الكثيرة أيضا فان لم يفد هذا الكلام القطع بالجواز فلا أقل من أن لا يحصل معه القطع البديهي بالامتناع وأما الأمثلة التي ذكروها فنقول إن كان الحال فيها كما هنا احتاج الفرق بين القليل والكثير إلى دليل وإلا فيمتنع القياس على أنا قد بينا في هذا الكتاب أن القياس لا يفيد اليقين ألبتة

سلمنا أن الاتفاقي لا يدوم ولكن إذا كان الاتفاقي ببعض الجهات معلوم السبب بسائر الجهات أو إذا لم يكن الأول ممنوع والثاني مسلم بيانه أن من الجائز أن يعلم الله تعالى أن أكل الطعام الحلو في هذه السنة مصلحة للمكلفين ويعلم أنهم خلقوا على وجه لا يشتهون إلا الطعام الحلو فإذا كان تناول الطعام الحلو مصلحة طول عمره لم يكن جهله بكون الفعل مصلحة مانعا له في هذه الصورة من الإقدام عليه في أكثر أوقاته سلمنا تعذر ذلك في الكثير فلم لا يجوز في القليل والإجماع الذي ذكروه ممنوع أما قوله ثانيا التمييز بين الحسن والقبيح لابد وأن يتقدم على الفعل قلنا لا نسلم وبيانه بالوجهين المذكورين في الجواب عن الوجه الأول سلمنا ذلك ولكنه حاصل ها هنا لأن الغرض أن يأمن المكلف من أن يفعل قبيحا أو مفسدة يستحق به الذم فأي فرق بين أن يجعل الله تعالى له على ذلك أمارة قبل أن يفعل وبين أن يجعل الأمارة على ذلك نفس الفعل

جواب الفخر عن أدلة "مويس" على الوقوع

وعلى الوجهين جميعا هو آمن من القبيح ومتخلص من الذم وليس يلزم ما قالوا من أن الأمارة إذا لم تتقدم على الفعل كان مقدما على ما لا يأمن كونه قبيحا لأنه قبل أن يفعل لما قيل له إنك لا تختار إلا الصواب فهو آمن من الإقدام على القبيح وأما الوجه الثالث والرابع فجوابه أن الله تعالى لما نص في تلك الصورة بأن المكلف لا يختار فيها إلا الصواب فلم قلت لا يجوز ورود الأمر بمتابعة إرادته وليس إذا لم يلزم مويس لم يجز لغيره التزامه وأما الوجهان اللذان تمسكوا بهما في نفي الوقوع فالجواب عنهما أن قوله تعالى لمحمد عليه الصلاة والسلام إنك لا تحكم إلا بالصواب لعله ورد في زمان متأخر وما ذكروه ورد في زمان متقدم فلا يتناقضان وأما الوجوه العشرة التي تمسك بها مويس في الوقوع فضعيفة لاحتمال أن يقال ورد الوحي بها قبل تلك الوقائع مشروطا مثل أن يقال لو استثنى أحد شيئا فاستثن له ذلك وكذا القول في سائر الصور سلمنا أنه ما كان بالوحي فلعله كان بالاجتهاد وبهذا التقدير لا يصح قول الخصم وأما قوله تعالى إلا ما حرم إسرائيل على نفسه قلنا يحتمل أن يكون حرم ذلك على نفسه بالنذر أو بالاجتهاد

جوابه عن الوجوه التي تمسك بها القائلون بالجواز

ويكون إثبات التحريم بالنذر جائزا في شرعهم وأما الوجه الأول من الوجوه التي تمسكوا بها في الجواز فجوابه إنه مبني على أن الواجب في خصال الكفارة واحد معين عند الله تعالى لكنا لا نقول به وأما الوجهان الباقيان فمبنيان على تشبيه صورة بصورة وقد عرفت أن هذا لا يفيد اليقين فثبت بما ذكرنا ضعف أدلة القاطعين فظهر أن الحق ما ذهب إليه الشافعي رضي الله عنه من التوقف

المسألة السادسة:

المسألة السادسة مذهب الشافعي رضي الله عنه أنه يجوز الاعتماد في إثبات الأحكام على الأخذ بأقل ما قيل فإنه حكى اختلاف الناس في دية اليهودي فمنهم من قال بمساواتها لدية المسلم ومنهم من قال هى نصف دية المسلم ومنهم من قال هى الثلث منها فهو رضي الله عنه أخذ بالأقل واعلم أن هذه القاعدة مفرغة على أصلين الإجماع والبراءة الأصلية

بيان كيفية تفرعها على "الإجماع"

أما الإجماع فلأنا لو قدرنا أن الأمة انقسمت إلى أربعة أقسام أحدها يوجب في اليهودي مثل دية المسلم وثانيها يوجب النصف وثالثها يوجب الثلث ورابعها لا يوجب شيئا لم يكن الأخذ بأقل ما قيل واجبا لأن ذلك الأقل قول بعض الأمة وذلك ليس بحجة أما إذا لم يوجد هذا القسم الرابع كان القول بوجوب الثلث قولا لكل الأمة لأن من أوجب كل دية المسلم فقد أوجب الثلث ومن أوجب نصفها فقد أوجب الثلث أيضا ومن أوجب الثلث فقد قال بذلك فيكون إيجاب الثلث قولا قال به كل الأمة فيكون حجة

بيان كيفية تفرعها على "البراءة الأصلية"

وأما البراءة الأصلية فلأنها تدل على عدم الوجوب في الكل ترك العمل به في الثلث لدلالة الإجماع على وجوبه فيبقى الباقي كما كان ولهذه النكتة شرطنا في الحكم بأقل ما قيل عدم ورود شئ من الدلائل السمعية فإنه إن ورد شئ من ذلك كان الحكم لأجله لا لأجل الرجوع لأقل ما قيل ولهذا السر اختلف الناس في العدد الذي تنعقد به الجمعة فقال قائلون أربعون وقال قائلون ثلاثة

بيان المصنف لشرط العمل بهذه القاعدة، وإيضاح أسباب عدم أخذ الشافعي بمقتضاها في بعض الفروع

فالشافعي رضي الله عنه لم يأخذ بأقل ما قيل لأنه وجد في الأكثر دليلا سمعيا فكان الأخذ به أولى من الأخذ بالبراءة الأصلية وكذلك اختلفوا في عدد الغسل من ولوغ الكلب فقال بعضهم سبعة وقال آخرون ثلاثة فالشافعي رضي الله عنه لم يأخذ بالأقل لأنه وجد في الأكثر دليلا سمعيا فإن قلت لم لا يجوز أن يقال كان يجب الأخذ بأكثر ما قيل لأنه قد ثبت في الذمة شئ واختلفت الأمة في الكمية فقال قوم هو كل الدية وقال اخرون بل نصفها وقال آخرون بل ثلثها فإذا لم تحصل مع واحد من هذه الأقوال دلالة سمعية تساقطت ولا تحصل براءة الذمة باليقين إلا عند أداء كل دية المسلم فوجب القول به ليحصل الخروج عن العهدة بيقين والجواب إنه لما كان الأصل براءة الذمة امتنع الحكم بكونها مشغولة إلا بدليل

سمعي فإذا لم يوجد دليل سمعى سوى الإجماع والإجماع لم يثبت إلا في أقل المقادير لم يثبت شغل الذمة إلا بذلك الأقل فإن قلت هب أنه لم يوجد دليل سوى الإجماع لكنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول فلعله ثبت في الذمة حق أزيد من أقل ما قيل فإذا كان هذا الاحتمال قائما لم يثبت الخروج عن العهدة باليقين إلا بأكثر ما قيل قلت لما لا يوجد سوى الإجماع والإجماع لم يدل إلا على أقل ما قيل فيه كان الزائد على ذلك الأقل لو ثبت لثبت من غير دليل وذلك غير جائز لأنه يصير ذلك تكليف مالا يطاق وأيضا فإن الله تعالى تعبدنا بالبراءة الأصلية إذا لم نجد دليلا سمعيا يصرفنا عنها فإذا لم يوجد دليل سمعي يدل على الزيادة علمنا أن الله تعالى تعبدنا بالبراءة الأصلية وحينئذ يحصل القطع بأنه لا يجب إلا ذلك القدر الذي هو أقل المقادير

المسألة السابعة:

المسألة السابعة قال قوم يجب على المكلف الأخذ بأخف القولين للنص والمعقول أما النص فقوله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وقوله تعالى وما جعل عليكم في الدين من حرج وقوله عليه الصلاة والسلام لا ضرر في الإسلام وقوله بعثت بالحنيفية السهلة السمحة وكل ذلك ينافي شرع الشاق الثقيل وأما القياس فهو أنه تعالى كريم غني والعبد محتاج فقير وإذا وقع التعارض بين هذين الجانبين كان التحامل على جانب الكريم الغني أولى منه على جانب المحتاج الفقير وربما قالوا الأخذ بالأخف أخذ بالأقل فوجب العمل به واعلم أن هذا المذهب يرجع حاصله إلى أن الأصل في الملاذ

ذهب قوم إلى أنه يجب الأخذ بالأثقل، لقوله عليه الصلاة والسلام: " الحق ثقيل "

الإباحة وفي الآلام الحرمة وقد تقدم الكلام فيه فأما قوله الأخذ بالأخف أخذ بالأقل قلنا هذا ضعيف لأنا إنما نوجب الأخذ بأقل ما قيل إذا كان ذلك جزءا من الأصل كما ذكرناه في المثال فإن الثلث جزء من النصف ومن الكل والموجب للكل والنصف موجب للثلث فيصير وجوب الثلث بهذا الطريق مجمعا عليه أما إذا كان الأخف ليس جزءا من ماهية الأصل لم يصر الثلث مجمعا عليه فلا يجب الأخذ به وقال قوم يجب الأخذ بأثقل القولين لقوله عليه الصلاة والسلام الحق ثقيل قوي والباطل خفيف وبي وهذه الدلالة ضعيفة لأنه لا يلزم من قولنا كل حق ثقيل أن يكون كل ثقيل حق ولا من قولنا الباطل خفيف أن يكون كل خفيف باطلا وها هنا طريقة أخرى يسمونها طريقة الاحتياط وهى إما الأخذ بأكثر ما قيل أو بأثقل ما قيل ولما تقدم الكلام فيها فلا فائدة في الإعادة

المسألة الثامنة:

المسألة الثامنة الاستقراء المظنون هو إثبات الحكم في كلى لثبوته في بعض جزئياته مثاله قول أصحابنا في الوتر أنه ليس بواجب لأنه يؤدي على الراحلة ولا شئ من الواجب يؤدى على الراحلة أما المقدمة الأولى فثابتة بالإجماع وأما الثانية فنثبتها بالاستقراء وهو أنا لما رأينا القضاء وسائر أصناف الواجبات لا تؤدى على الراحلة حكمنا على كل واجب بأنه لا يؤدى على الراحلة وهذا النوع لا يفيد اليقين لأنه يحتمل أن يكون الوتر واجبا بخلاف سائر الواجبات في هذا الحكم ولا يمتنع عقلا أن يكون بعض أنواع الجنس مخالفا لحكم النوع الآخر من ذلك الجنس وهل يفيد الظن أم لا الأظهر أن هذا القدر لا يفيد إلا بدليل منفصل ثم بتقدير حصول الظن وجب الحكم بكونه حجة لقوله عليه الصلاة والسلام أقضي بالظاهر

المسألة التاسعة:

المسألة التاسعة في المصالح المرسلة أعلم أن المصالح بالإضافة إلى شهادة الشرع ثلاثة أقسام أحدها ما شهد الشرع باعتباره وهو القياس الذي تقدم شرحه وثانيها ما شهد الشرع ببطلانه مثاله قول بعض العلماء لبعض الملوك لما جامع في نهار رمضان عليك صوم شهرين متتابعين فلما أنكر عليه حيث لم يأمره بإعتاق رقبة قال لو أمرته بذلك لسهل عليه ولاستحقر إعتاق رقبة في قضاء شهوته

واعلم أن هذا باطل لأنه حكم على خلاف حكم الله تعالى لمصلحة تخيلها الإنسان بحسب رأيه ثم إذا عرف ذلك من جميع العلماء لم تحصل الثقة للملوك بفتواهم وظنوا أن كل ما يفتون به فهو تحريف من جهتهم بالرأي القسم الثالث ما لم يشهد له بالاعتبار ولا بالإبطال نص معين فنقول قد ذكرنا في كتاب القياس إن المناسبة إما أن تكون في محل الضرورة أو الحاجة أو التتمة فقال الغزالي رحمه الله أما الواقع في محل الحاجة أو التتمة فلا يجوز الحكم فيها بمجرد المصلحة لأنه يجري مجرى وضع الشرع بالرأي وأما الواقع في رتبة الضرورة فلا يبعد أن يؤدى إليه اجتهاد مجتهد ومثاله أن الكفار إذا تترسوا بجماعة من أسارى المسلمين فلو كففنا عنهم لصدمونا واستولوا على دار الإسلام وقتلوا كافة المسلمين ولو رمينا الترس لقتلنا مسلما لم يذنب وهذا لا عهد به في الشرع

ولو كففنا لسلطنا الكفار على جميع المسلمين فيقتلونهم ثم يقتلون الأسارى فيجوز أن يقول قائل هذا الأسير مقتول بكل حال فحفظ كل المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع من حفظ المسلم الواحد قال وإنما اعتبرنا هذه المصلحة لاشتمالها على ثلاثة أوصاف وهى أنها ضرورية قطعية كلية واحترزنا بقولنا ضرورية عن المناسبات التي تكون في مرتبة الحاجة أو التتمة وبقولنا قطعية عما إذا لم نقطع بتسلط الكفار علينا إذا لم نقصد الترس فإن ها هنا لا يجوز القصد إلى الترس وكذلك قطع المضطر قطعة من فخذه لا يجوز لأنا لا نقطع بأنه يصير ذلك سببا للنجاة وبقولنا كلية عما لو تترس الكافر في قلعة بمسلم فإنه لا يحل رمي الترس إذ لا يلزم من عدم استيلائنا على تلك القلعة فساد يعم كل المسلمين وكذا إذا كان جماعة في سفينة ولو طرحوا واحدا لنجوا وإلا غرقوا بجملتهم فها هنا لا يجوز لأن ذلك ليس أمرا كليا فهذا محصل ما قاله الغزالي رحمه الله

بيان أن الإمام مالكا -رحمه الله- ذهب إلى القول بـ "المصلحة المرسلة"، وبيان أدلته على ذلك

ومذهب مالك رحمه الله أن التمسك بالمصلحة المرسلة جائز واحتج عليه بأن قال كل حكم يفرض فإما أن يستلزم مصلحة خالية عن المفسدة أو مفسدة خالية عن المصلحة أو يكون خاليا عن المصلحة والمفسدة بالكلية أو يكون مشتملا عليهما معا وهذا على ثلاثة أقسام لأنهما إما أن يكونا متعادلين وإما أن تكون المصلحة راجحة وإما أن تكون المفسدة راجحة فهذه أقسام ستة أحدها أن يستلزم مصلحة خالية عن المفسدة وهذا لابد وأن يكون مشروعا لأن المقصود من الشرائع رعاية المصالح وثانيهما أن يستلزم مصلحة راجحة وهذا أيضا لابد وأن يكون مشروعا لأن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير وثالثها أن يستوى الأمران فهذا يكون عبثا فوجب أن لا يشرع ورابعها أن يخلو عن الأمرين وهذا أيضا يكون عبثا فوجب أن لا يكون مشروعا وخامسها أن يكون مفسدة خالصة ولا شك أنها لا تكون مشروعة وسادسها أن يكون ما فيه من المفسدة راجحا على ما فيه من المصلحة وهو

أيضا غير مشروع لأن المفسدة الراجحة واجبة الدفع بالضرورة وهذه الأحكام المذكورة في هذه الأقسام الستة كالمعلوم بالضرورة أنها دين الأنبياء وهى المقصود من وضع الشرائع والكتاب والسنة دالان على أن الأمر كذلك تارة بحسب التصريح وأخرى بحسب الأحكام المشروعة على وفق هذا الذي ذكرناه غاية ما في الباب أنا نجد واقعة داخلة تحت قسم من هذه الأقسام ولا يوجد لها في الشرع ما يشهد لها بحسب جنسها القريب لكن لا بد وأن يشهد الشرع بحسب جنسها البعيد على كونه خالص المصلحة أو المفسدة أو غالب المصلحة أو المفسدة فظهر أنه لا توجد مناسبة إلا ويوجد في الشرع ما يشهد لها بالاعتبار إما بحسب جنسه القريب أو بحسب جنسه البعيد إذا ثبت هذا وجب القطع بكونه حجة للمعقول والمنقول أما المعقول فلأنا إذا قطعنا بأن المصلحة الغالبة على المفسدة معتبرة قطعا عند الشرع ثم غلب على ظننا أن هذا الحكم مصلحته غالبة على مفسدته تولد من هاتين المقدمتين ظن أن هذه المصلحة معتبرة شرعا والعمل بالظن واجب لقوله عليه الصلاة السلام أقضي بالظاهر ولما ذكرنا أن ترجح الراجح على المرجوح من مقتضيات العقول وهذا يقتضى القطع بكونه حجة وأما المنقول فالنص والإجماع أما النص فقوله تعالى فاعتبروا أمر بالمجاوزة والاستدلال بكونه مصلحة على كونه مشروعا مجاوزة فوجب دخوله تحت النص

وأما الإجماع فهو أن من تتبع أحوال مباحثات الصحابة علم قطعا أن هذه الشرائط التي يعتبرها فقهاء الزمان في تحرير الأقيسة والشرائط المعتبرة في العلة والأصل والفرع ما كانوا يلتفتون إليها بل كانوا يراعون المصالح لعلمهم بأن المقصد من الشرائع رعاية المصالح فدل مجموع ما ذكرنا على جواز التمسك بالمصالح المرسلة

المسألة العاشرة:

المسألة العاشرة الاستدلال بعدم ما يدل على الحكم على عدم الحكم طريقة عول عليها بعض الفقهاء وتحريره أن الحكم الشرعي لا بد له من دليل والدليل إما نص أو إجماع أو قياس ولم يوجد واحد من هذه الثلاثة فوجب أن لا يثبت الحكم إنما قلنا أن الحكم الشرعي لابد له من دليل لأن الله تعالى لو أمرنا بشئ ولا يضع عليه دليلا لكان ذلك تكليف ما لا يطاق وإنه غير جائز وإنما قلنا إن الدليل إما نص أو إجماع أو قياس لثلاثة أوجه أحدها قصة معاذ فإنها تدل على انحصار الأدلة في الكتاب والسنة والقياس زدنا فيه الإجماع بدليل منفصل فيبقى الباقي على الأصل وثانيها أن الأدلة الدالة على الأحكام كانت معدومة في الأزل وقد بينا أن الأصل في كل أصل تحقق بقاؤه على ما كان فهذا الدليل يقتضي أن لا يوجد شئ من أدلة الأحكام ترك العمل به في النص والإجماع والقياس فوجب أن يبقى فيما عدا هذه الثلاثة على الأصل

وثالثها أنه لو حصل نوع آخر من الأدلة لكان ذلك من الأمور العظام لأن ما يجب الرجوع اليه في الشرع نفيا وإثباتا في الوقائع الحاضرة والمستقبلة لا شك أنه من الأمور العظام فلو كان ذلك موجودا لوجب اشتهاره ولو كان كذلك لعرفناه بعد البحث والطلب فلما لم نجد شيئا آخر سوى هذه الثلاثة علمنا الانحصار وإنما قلنا أنه لم يوجد واحد من هذه الثلاثة لما سنبينه أما النص فلوجهين أحدهما أنا اجتهدنا في الطلب فما وجدنا وهذا القدر عذر في حق المجتهد بالإجماع فوجب أن يكون عذرا في حق المناظر لأنه لا معنى للمناظرة إلا بيان ما لأجله قال بالحكم وثانيهما أنه لو وجد في المسألة نص لعرفه المجتهدون ظاهرا ولو عرفوه لما حكموا على خلافه ظاهرا فحيث حكموا على خلافه علمنا عدمه أما الإجماع فهو منفي لأن المسألة خلافية ولا إجماع مع الخلاف وأما القياس فمنفي لوجهين أحدهما أن القياس لا بد فيه من أصل والأصل هو الصورة الفلانية والفارق الفلاني موجود ومع الفارق لا يمكن القياس أقصى ما في الباب أن يقال لم لا يجوز القياس على صورة أخرى

فنقول لأنا بعد الطلب لم نجد شيئا يمكن القياس عليه إلا هذه الصورة وهذا القدر عذر في حق المجتهد فوجب أن يكون عذرا في حق المناظر على ما بيناه وثانيهما أن سائر الأصول كانت معدومة فوجب بقاؤها على العدم تمسكا بالاستصحاب فهذا تمام تقرير هذه الدلالة واعلم أن كل مقدمة لا يمكن تمشية الدليل إلا بها فلو كانت تلك المقدمة مستقلة بالإنتاج فلا كان التمسك بها في أول الأمر أولى ورأينا أن هذه الدلالة لا يمكن تمشيتها إلا بإحدى مقدمتين إحداهما أن عدم الوجدان بعد الطلب يدل على عدم الوجود وثانيهما أن الأمر الفلاني كان معدوما فيحصل الآن ظن بقائه على العدم وهاتان المقدمتان لو صحتا لكانتا مستقلتين بإنتاج المطلوب فإنه يقال في أول المسألة الحكم الشرعي لا بد له من دليل ولم يوجد الدليل لأني اجتهدت في الطلب وما وجدته وذلك يدل على عدم الوجود أو يقال ولم يوجد الدليل لأن هذه الدلائل كانت معدومة في الأزل

تحرير الدليل والاستدلال لمقدمتيه، وذكره بوجه أولى من المتقدم وأشد تلخيصا

والأصل في كل معدوم بقاؤه على عدمه وإذا ثبت هذا فقد حصل ظن عدم الدليل فيتولد منه القطع بأنه لو وجد الحكم لوجد الدليل مع ظن أنه لم يوجد ظن عدم الحكم والعمل بالظن واجب فتقرير هذه الدلالة على هذا الوجه أقل مقدمات وأشد تلخيصا فكان ايرادها على هذا الوجه أولى فإن قيل قوله الدليل إما نص أو إجماع أو قياس قلنا هذا لا يتم على قولك لأنك ذكرت هذه العبارة دليلا في المسألة الشرعية وإنها ليست بنص ولا إجماع ولا قياس وعند هذا يلزم أحد محذورين وهو أنه إما أن لا يكون هذا الكلام دليلا في المسألة حتى يتم الحصر أو يبطل الحصر حتى يتم هذا دليلا في المسألة فإن قلت الكلام عليه من وجهين أحدهما أني أقول دليل الحكم الشرعي إما نص أو إجماع أو قياس ومدلول دليلي انتفاء الصحة فإن هذا الانتفاء كان حاصلا قبل الشرع فالإخبار عنه يكون إخبارا عن أمر لا تتوقف معرفته على الشرع فلا يكون شرعيا وثانيهما أني لا أنفي الصحة إلا بالإجماع لأن الإجماع منعقد على أنه متى لم يوجد شئ من هذه الأشياء وجب نفي الحكم فيكون الدليل في الحقيقة هو الإجماع

قلت أما الجواب عن الأول فهو أنه لما ثبت انتفاء الصحة لزم ثبوت البطلان ضرورة تعذر القول بالوقف فيكون كلامك دليلا على البطلان بواسطة دلالته على انتفاء الصحة فيكون دليلا على حكم شرعي فيعود المحذور المذكور وعن الثاني أن الإجماع لم يدل على عدم الصحة ابتداءا بل دل على أنه مهما عدم النص والإجماع والقياس لزم عدم الحكم فيكون الإجماع دليلا على أن عدم هذه الثلاثة دليل على عدم الحكم وعدم هذه الثلاثة مغاير لهذه الثلاثة فيعود الكلام المتقدم السؤال الثاني أنك جعلت عدم دليل الثبوت دليل العدم فهل تجعل عدم دليل العدم دليل الثبوت أم لا فإن لم يقل به فقد ناقض لأن نسبة دليل الثبوت إلى الثبوت كنسبة دليل العدم إلى العدم فإن لزم من عدم دليل الثبوت عدم الثبوت لزم من عدم دليل العدم عدم العدم وأن لم يلزم ها هنا لم يلزم هناك أيضا إذ لا فرق بينهما في العقل وإن اعترف بذلك لزم المحذور من وجهين أحدهما أن عدم دليل العدم دليل على عدم العدم وعدم العدم وجود فعدم دليل العدم دليل على الوجود فقد حصل سوى النص والإجماع والقياس دليل آخر على الوجود فيبطل حصرهم والثاني وهو أنه إذا كان عدم دليل العدم دليلا على الوجود لم يلزم انتفاء الوجود

إلا ببيان عدم عدم دليل العدم وعدم العدم وجود فإذن لا يلزم انتفاء الوجود إلا بوجود دليل العدم لكنك لو ذكرت دليل العدم لاستغنيت عما ذكرت من الدلالة السؤال الثالث أنك لو اقتصرت في نفي النص على عدم الوجدان فهذا الطريق إن صح وجب الاكتفاء به في نفي القياس لأنه حاصل فيه وإن لم يصح لم يجز التعويل عليه في هذا المقام فإن قلت إنما تعرضت لنفي قياس معين لأن المخالف يعتقده قياسا ودليلا وليس في النصوص ما يعتقده دليلا قلت المخالف كما يعتقد في قياس كونه حجة له فكذلك قد يعتقد في بعض النصوص كونه حجة له فكان يلزم التعرض للأمرين السؤال الرابع لم قلت إنه لما وجد الفرق بين الصورتين تعذر القياس وذلك لأن الفرق إنما يكون قادحا لو لم يجز تعليل الحكم الواحد بعلتين فأما إذا كان جائزا احتمل كون الحكم في الأصل معللا بالوصف الذي تعدى إلى الفرع وبالوصف الذي لم يتعد إليه معا فلا يكون ذلك قادحا في القياس

السؤال الخامس أن هذا النظم لا ينفك عن القلب فإن المستدل إذا قال مثلا في بيع الغائب لا نص ولا إجماع ولا قياس في صحته فوجب أن لا تثبت صحته فيقال وتحريم أخذ المبيع من البائع بعد جريان هذا البيع على المشتري أو تحريم أخذ الثمن من المشتري على البائع حكم شرعي فلا يثبت إلا بنص أو إجماع أو قياس ولم يوجد ذلك فوجب أن لا يثبت الجواب هذه الدلالة لا تتم إلا مع التمسك بأن الأصل في كل ثابت بقاؤه على ما كان وأنه إنما يجوز العدول عن هذا الأصل إذا وجد دليل يوجب العدول عنه وذلك الدليل لا يكون إلا نصا أو إجماعا أو قياسا وعلى هذا يسقط السؤال وذلك لأنا نقول مثلا في مسألة بيع الغائب لا شك أن قبل جريان هذا البيع كان المبيع ملكا للبائع والأصل في كل ثابت بقاؤه على ما كان إلا أنا نترك التمسك بهذا الأصل عند وجود نص أو إجماع أو قياس يدل على خلافه ولم يوجد واحد من هذه الثلاثة فلم يوجد ما يوجب العدول عن التمسك بذلك الأصل وإذا كان كذلك وجب الحكم ببقائه على ما كان وحاصل الكلام أنى إنما ادعيت الحصر فيما يدل على تغيير الحكم عن مقتضى الأصل والحكم الذي أنتجته من هذا الدليل ليس من باب تغير الحكم بل هو من باب إبقاء ما كان على ما كان فلم يكن ادعاء الحصر في تلك الصورة قادحا في صحة هذه الدلالة وإذا عرفت هذا فالعبارة الصحيحة عن هذا الدليل أن يقال

حكم الشرع إبقاء ما كان على ما كان إلا إذا وجدت دلالة شرعية مغيرة والدلالة المغيرة إما نص أو إجماع أو قياس ولم يوجد واحد من هذه الثلاثة فلم توجد الدلالة المغيرة فوجب بقاؤه على ما كان فإن قلت التمسك باستصحاب الأصل كاف فأي حاجة إلى هذا التطويل قلت المناظر تلو المجتهد ومعلوم أن المجتهد لا يجوز له التمسك باستصحاب حكم الأصل إلا إذا بحث واجتهد في طلب هذه الأدلة المغيرة فإذا لم يجد في الواقعة شيئا منها حل له فيما بينه وبين الله تعالى أن يحكم بمقتضى الاستصحاب فأما قبل البحث عن وجود هذه الدلائل المغيرة فلا يجوز له التمسك بالاستصحاب أصلا فلما ثبت أن الأمر في المجتهد كذلك وجب أن يكون في حق المناظر كذلك لأنه لا معنى للمناظرة المشروعة إلا بيان وجه الاجتهاد وأما الجواب عن السؤال الثاني فهو أن الاستدلال بعدم المثبت أولى من الاستدلال بعدم النافي على الوجود وبيانه من وجوه أحدها أنا لو استدللنا بعدم المثبت على العدم لزمنا عدم ما لا نهاية له وذلك غير ممتنع أما لو استدللنا بعدم النافي على الوجود لزمنا إثبات ما لا نهاية له وهو محال

وثانيها أنا نستدل بعدم ظهور المعجز على يد الإنسان على أنه ليس بنبي ولا نستدل بعدم ما يدل على أنه ليس برسول على كونه رسولا وثالثها أنه لا يقال أن فلانا ما نهاني عن التصرف في ماله فأكون مأذونا في التصرف ويقال إنه لم يأذن لي في التصرف في ماله فأكون ممنوعا ورابعها أن دليل كل شئ على حسب ما يليق به فدليل العدم العدم ودليل الوجود الوجود سلمنا أنه ليس أحد الطريقين أولى من الآخر لكن ذلك يقتضي أن يتعارضا ويتساقطا منه وحينئذ يبقى مقتضى الأصل وهو بقاء ما كان على ما كان وأما السؤال الثالث فليس سؤالا علميا بل هو شئ يتعلق بالوضع والاصطلاح فلا يليق الخوض في أمثاله في الكتب العلمية وأما السؤال الرابع فجوابه أنا بينا في هذا الكتاب أنه لا يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين مستنبطتين وأن سؤال الفرق سؤال قادح وأما السؤال الخامس فساقط لأنا لم نقل إنه يلزم من عدم النص والإجماع والقياس بقاء ما كان على ما كان إلا بعد أن بينا أن الأصل في الثابت بقاؤه على ما كان فمعارضة الخصم إنما تلزم لو ثبت أن الأصل

في الشئ أن لا يبقى على ما كان ولما كان ذلك باطلا كانت معارضته باطلة

المسألة الحادية عشرة:

المسألة الحادية عشرة في تقرير وجوه من الأدلة التي يمكن التمسك بها في المسائل الفقهية أعلم أن الحكم الملتزم إثباته إما أن يكون عدميا أو وجوديا فإن كان عدميا أمكن أن يذكر فيه عبارات إحداها أن يقال هذا الحكم كان معدوما وذلك يقتضى ظن بقائه على العدم والعمل بالظن واجب إنما قلنا إنه كان معدوما لأن المحكوم عليه كان معدوما في الأزل فوجب أن لا يكون الحكم ثابتا في الأزل لأن ثبوت الحكم من غير ثبوت المحكوم عليه عبث وسفه وهو غير جائز على الله تعالى فإن قلت فهذا يقتضي أن يكون كلام الله تعالى حادثا قلت لا نسلم لأن المراد من الحكم كون الشخص مقولا له إن لم تفعل هذا الفعل في هذه الساعة عاقبتك ومن المعلوم بالضرورة أن هذا المعنى لم يكن متحققا في الأزل وأما بيان إنه لما كان معدوما حصل ظن تحقق ذلك العدم في كل زمان

فلما بيناه في مسألة الاستصحاب وثانيتها أنه لو ثبت الحكم لثبت بدلالة أو أمارة والأول باطل لأن الأمة مجمعة على أنه ليس في المسائل الشرعية دلالة قاطعة والثاني أيضا باطل لأن اتباع الأمارة اتباع الظن وهو غير جائز لقوله تعالى إن الظن لا يغني من الحق شيئا وقول على الله بما لا نعلم وهو غير جائز لقوله تعالى وأن تقولوا على الله مالا تعلمون وثالتها لو ثبت الحكم لثبت إما لمصلحة أو لا لمصلحة والثاني عبث والعبث غير جائز على الحكيم والأول لا يخلو إما أن تكون المصلحة عائدة إلى الله تعالى أو إلى العبد والأول محال لامتناع النفع والضرر عليه تعالى والثاني أيضا محال لأن المصلحة لا معنى لها إلا اللذة أو ما يكون وسيلة إليها والمفسدة لا معنى لها إلا الألم أو ما يكون وسيلة إليه ولا لذة إلا والله تعالى قادر على تحصيلها إبتداءا فيكون توسط شرع الحكم عبثا وكذا القول في المفسدة فهذا الدليل ينفي شرع الحكم ترك العمل به فيما توافقنا على وقوعه فبقي في المختلف فيه على وفق الأصل

ورابعتها أن هذه الصورة تفارق الصورة الفلانية التي ثبت الحكم فيها في وصف مناسب فوجب أن تفارقها في هذا الحكم بيان المفارقة في الوصف المناسب هو أنه وجد في الأصل ذلك الوصف الفلاني وأنه مناسب لذلك ويبين ذلك الحكم بطريقه وبيان أن هذا القدر يمنع من المشاركة في الحكم وذلك لأن هاتين الصورتين لو اشتركتا في الحكم لكان إما أن يكون الحكم الثابت في الصورتين معللا بوصف مشترك بين الصورتين أو لا يكون كذلك فإن كان الأول لزم إلغاء الوصف المناسب المعتبر الذي اختص الأصل به وأنه غير جائز وإن كان الثاني لزم تعليل الحكمين المتماثلين بعلتين مختلفتين وهذا غير جائز لأن إسناد أحد ذينك الحكمين إلى علته إن كان لذاته أو للوازم ذاته لزم في الحكم الذي يماثله إسناده أيضا إلى تلك الماهية لا إلى ماهية أخرى وإن لم يكن لذاته ولا للوازم ذاته كان الحكم في نفسه غنيا عن تلك العلة والغنى عن الشئ لا يكون مستندا إليه فوجب في ذلك الحكم أن لا يكون مستندا إلى تلك العلة وقد فرضناه مستندا إليها هذا خلف وخامسها أن الحكم لو ثبت في هذه الصورة لثبت في الصورة الفلانية لأن بتقدير ثبوته في هذه الصورة كان ذلك لدفع حاجة المكلف وتحصيل مصلحته

وهذا المعنى قائم هناك فيلزم ثبوت الحكم هناك فلما لم يوجد هناك وجب أن لا يوجد هاهنا وسادسها أن هذا الحكم كان منتفيا من الأزل إلى الأبد فكان منتفيا في أوقات مقدرة غير متناهية فوجب أن يحصل ظن الانتفاء في هذه الأوقات لأن الأوقات الغير متناهية أكثر من الأوقات المتناهية والكثرة مظنة الظن فوجب أن يكون الحكم في هذه الأوقات المتناهية مثل الحكم في تلك الأوقات الغير متناهية وذلك يوجب النفي وسابعها شرع هذا الحكم يفضي إلى الضرر والضرر منفي بالنص وإنما قلنا إنه يفضي إلى الضرر لأنه إن فعل خلافه استحق العقاب وإن لم يفعل بقي في صورة تارك المراد فثبت كونه ضررا فوجب أن لا يكون مشروعا لقوله ص لا ضرر ولا ضرار وثامنها لو ثبت هذا الحكم لثبت بدليل وإلا كان ذلك تكليف مالا يطاق وأنه غير جائز لكنه لا دليل لأن ذلك الدليل أما أن أن يكون هو الله تعالى أو غيره

وأما إن كان الحكم وجوديا فـ "الطرق الكلية" التي يسلكها الفقهاء لإثباته خمس، وبيانها

والأول باطل وإلا لزم من قدم الله تعالى قدم الحكم وإلا لزم النقيض وهو خلاف الدليل لكن قدم الحكم عبث ولا جائز أن يكون غير الله تعالى لأن ذلك الغير إن كان قديما عاد الكلام وان كان محدثا فقد كان معدوما والأصل بقاؤه على العدم وأيضا فلأن شرط كونه دليلا أن توجد ذاته وأن يوجد له وصف كونه دليلا فإذن كونه دليلا مشروط بحدوث هذين الأمرين ويكفي في أن لا يكون دليلا عدم أحدهما والمتوقف على أمرين مرجوح بالنسبة إلى ما يتوقف على أمر واحد فإذن كونه دليلا مرجوح في الظن فوجب أن لا يكون دليلا وأما إن كان الحكم وجوديا فالطرق الكلية فيه وجوه أحدها أن المجتهد الفلاني قال به فوجب أن يكون حقا لقوله ص ظن المؤمن لا يخطئ ترك العمل بهذا في ظن العوام لأن

ظنونهم لا تستند إلى وجه صحيح فيبقى معمولا به في حق ظن المجتهد فإن قلت فقول المجتهد المثبت معارض بقول المجتهد النافي قلت قول المثبت أولى لأن قول المثبت ناقل عن حكم العقل وقد ذكرنا في باب التراجيح أن الناقل أولى وأيضا فالنافي يحتمل أنه إنما نفى لأنه وجد له ظن النفي ويحتمل أنه إنما نفى لأنه لم يوجد له ظن الثبوت وعدم وجود الظن لا يكون ظنا بخلاف المثبت فإنه لا يمكنه الإثبات إلا عند وجود ظن الثبوت فإنه لو لم يوجد له هذا الظن لكان مكلفا بالبقاء على حكم العقل وإذا كان كذلك ثبت أن قول المثبت أولى من قول النافي وثانيها أن نقول ثبت الحكم في الصورة الفلانية فيجب ثبوته هاهنا وبيانه بالآية والخبر والأثر والمعقول أما الآية فمن وجهين أحدهما قوله تعالى فاعتبروا دلت الآية على الأمر بالمجاوزة

والاستدلال بثبوت الحكم في محل الوفاق على ثبوته في محل الخلاف مجاوزة فكان داخلا تحت الأمر وثانيهما قوله تعالى إن الله يأمر بالعدل والإحسان والعدل هو التسوية فالله تعالى أمر بالتسوية وهذا تسوية فيكون داخلا تحت الأمر وأما الخبر فهو أنه عليه الصلاة والسلام شبه القبلة بالمضمضة في حكم شرعي فوجب علينا أيضا تشبيه الحكم بالحكم لقوله تعالى فاتبعوه وهذا الذي عملناه تشبيه صورة بصورة فكان داخلا تحت الأمر وأما الأثر فهو أن أبا بكر رضي الله عنه شبه العهد بالعقد وأن عمر رضي الله عنه أمر أبا موسى بالقياس في قوله قس الأمور برأيك وإذا ثبت أنهما فعلا ذلك وجب علينا مثله لقوله عليه الصلاة والسلام

اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر ووأما: المقول فهو أن نعين محل الوفاق فنقول الحكم هناك إنما ثبت لحاجته ومصلحته وذلك المعنى قائم هاهنا فورود الشرع بالحكم هناك يكون ورودا به هاهنا وثالثها أجمعنا على أن حكما ما في علم الله تعالى ثبت ولا شك أن ذلك الحكم إنما ثبت لمصلحة وهذا الحكم بتقدير الثبوت محصل لنوع مصلحة فلا بد وأن يشتركا في قدر مشترك فيعلل بالقدر المشترك وذلك يقتضي ثبوت الحكم ورابعها أن هذا الحكم بتقدير الثبوت يتضمن تحصيل مصلحة المكلف ودفع حاجته فوجب أن يكون مشروعا لأن جهة كونه مصلحة جهة الدعاء إلى الشرعية فلو خرجت عن الدعاء إلى الشرعية لكان ذلك الخروج لمعارض والأصل عدم المعارض وخامسها أن أحد المجتهدين قال بثبوت الحكم والآخر قال بعدمه فالثبوت أولى لأن المسلمين أجمعوا على أنه إذا ورد خبران أحدهما ناقل عن حكم العقل والآخر مبق له فإن الناقل أولى فكذا هاهنا فإن قلت فالنفى بتقدير وروده بعد الثبوت يكون ناقلا أيضا قلت لكن على هذا التقدير يتوالى نسخان وبالتقدير الأول لا

خاتمات النساخ

يحصل إلا نسخ واحد وتقليل النسخ أولى واعلم أنا إنما جمعنا هذه الوجوه لأن أكثر مناظرات أهل الزمان في الفقه دائرة على أمثال هذه الكلمات ولما وصلنا إلى هذا الموضع فلنقطع غير الكلام حامدين الله تعالى ومصلين على أنبيائه ورسله ونسأل الله حسن العاقبة والخاتمة وأن يجعل ما كتبنا حجة لنا لا علينا إنه هو الغفور الرحيم يحصل إلا نسخ واحد وتقليل النسخ أولى واعلم أنا إنما جمعنا هذه الوجوه لأن أكثر مناظرات أهل الزمان في الفقه دائرة على أمثال هذه الكلمات ولما وصلنا إلى هذا الموضع فلنقطع غير الكلام حامدين الله تعالى ومصلين على أنبيائه ورسله ونسأل الله حسن العاقبة والخاتمة وأن يجعل ما كتبنا حجة لنا لا علينا إنه هو الغفور الرحيم

خاتمة المحقق

ثم أما بعد فهذا آخر ما وقفني الله تعالى الى كتابته والتعليق به على هذا الكتاب الاصولي الذي يعتبر بحق من افضل الكتب الاصولية الجامعة التي ظهرت وعرفت على الإطلاق من نواح عدة يفهمها ويجهلها من يجهلها ولا داعي العصمة فيها حققت ولا البعد التام عن الخطا فيما كتبت فذلك لا يتحقق إلا لمن عصمهم الله من رسله وانبيائه ولكني اقول اني لم آل جهدا ولم ادخر وسعا في تحقيق ما قمت به معتقدا أنه قد وقع في جملته واكثر تفاصيله على وجه حسن مرضي مقبول عند الله ثم كرام الخلق إن شاء الله فالحمد لله الذي الهم بابتدائه واعان على انهائه فهو سبحانه صاحب الفضل الاكبر الذي لا ينكر بل يشكر وصلى الله على سيدنا محمد بن عبد الله اشرف المرسلين وافضل المجتهدين وعلى اله واصحابه واتباعه واحبائه وكل من اسهم في خدمة العلم والدين وتقديم ما ينفع المسلمين الى يوم الدين. المفتقر الى رحمته تعالى طه جابر العلواني

§1/1