المحرر في علوم القرآن

مساعد الطيار

المحرر في علوم القرآن حُكِّم هذا الإصدار التحكيم العلمي المتعارف عليه الناشر مركز الدراسات والمعلومات القرآنية بمعهد الإمام الشاطبي التابع للجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بمحافظة جدة ص. ب 100 جدة 21411 هاتف: 6523333 تحويلة 221 - 227 فاكس: 6524444 E-Mail:[email protected] عنوان موقع المعهد www.shatiby.edu.sa المحرر في علوم القرآن تأليف مساعد بن سليمان بن ناصر الطيار

بسم الله الرحمن الرحيم

المحرر في علوم القرآن

المقدمة

تصدير الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد: فقد دأبت كثير من المؤسسات الرسمية والخيرية بمراجعة مناهجها ومقرراتها الدراسية بين الفينة والأخرى طلباً لتطوير المقررات بما يتلاءم مع حجم التغيير المطلوب من خلال تدريسها لتلك المقررات، وكان لمعهد الإمام الشاطبي التابع للجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن بمحافظة جدة نصيب وافر من تلك المراجعات، فعهد إلى لجنة من المتخصصين مراجعة المناهج الدراسية لدبلوم إعداد معلمي ومعلمات القرآن الكريم الذي يُعنى بتخريج معلمين ومعلمات مؤهلين تأهيلاً عالياً لتدريس القرآن الكريم، فكان من توصيات اللجنة الحاجة إلى استكتاب بعض المتخصصين لوضع مناهج مقررات عدة بما يتناسب مع الدور المطلوب من معلم القرآن، وكان منها مقرر علوم القرآن، فقد عهد مركز الدراسات والمعلومات القرآنية بمعهد الإمام الشاطبي لفضيلة شيخنا الدكتور مساعد بن سليمان الطيار ـ وفقه الله ـ بكتابة المقرر وفق الخطة الدراسية المعتمدة من قبل لجنة تطوير المناهج بالمعهد، وقد تم تدريس الكتاب لفصل دراسي واحد، ومن ثم تم تحكيم المقرر من عدد من الأساتذة المتخصصين قبل طباعته. فجاء كتاباً كاسمه محرراً في علوم القرآن تعاقبت عليه أيدٍ كثيرة ليخرج بالصورة المرضيّة مشتملاً على مادة علمية قيمة بأسلوب سلس موثق يقرب المعلومات إلى أذهان الطلاب ويتدرج في طرح الموضوعات بشكل علمي رصين. وإني لأنتهز هذه الفرصة لأشكر فضيلة الشيخ الدكتور مساعد الطيار

على استجابته لنا في كتابة هذا المقرر، وليس هذا بغريب عليه، فدعمه العلمي بدأ منذ نشأة مركز الدراسات والمعلومات القرآنية، وما زال متواصلاً جزاه الله خيراً. وفي الختام نرجو من المطلع والباحث الكريم ألا يبخل علينا بملاحظاته على هذا المقرر وما ستعقبه من إصدارات؛ وذلك للنهوض والرقي بتخصص الدراسات القرآنية، خدمةً للقرآن وأهله؛ فهذه التخصصات والعلوم القرآنية مما تفتقر إليه المكتبة الإسلامية. ومُعلِّم القرآن الكريم بأمس الحاجة إلى التعمق في مجال علوم القرآن لمعرفة الكثير عن المجال الذي يعمل فيه وليتعد أثر ذلك إيجاباً على حلقات التحفيظ ورفع مستوى الفهم والإدراك بالخبرة والمهارة والمدارسة. وفق الله الجميع لخدمة كتابه الكريم. رئيس الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بمحافظة جدة عبد العزيز بن عبد الله حنفي

مقدمة المؤلف للطبعة الثانية

مقدمة الطبعة الثانية الحمد لله ذي النعم، يبدي ويعيد، وهو على كل شيء قدير، وأصلي وأسلم على البشير النذير، وعلى آله الطيبين، وعلى أصحابه الغرِّ الميامين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فقد منَّ الله بنفاذ الطبعة الأولى من الكتاب، ولما أراد الإخوة في معهد الشاطبي إعادة طباعته نشرت في ملتقى أهل التفسير (www.tafsir.net) طلب الملحوظات على الكتاب، فجاءتني ملحوظات واستفسارات استفدت منها في إخراج الكتب في طبعته الثانية. الجديد في هذه الطبعة: أولاً: إجراء التصويبات التي نبَّه عليها الإخوة الذين أرسلوا إلي بملاحظاتهم، وإزالة بعض الإشكالات التي كانت في بعض العبارات بتعديلها، أو إضافة فقرة في المتن أو في الحاشية لتوضيحها. ثانياً: حذف المقدمة التي جعلتها لكل نوع باسم (إضاءات وإرشادات)، وقد تَمَّ في موضوعاتها الآتي: 1 - إبقاء علاقة النوع بغيره من أنواع القرآن في مقدمة كل فصل تحت عنوان (علاقة هذا النوع بغيره من أنواع علوم القرآن). 2 - بعض الملحوظات التي كتبتها على النوع الذي أدرسه قام الأخ فؤاد أبو الغيث بسبكه في كلامي في الفصل نفسه الذي تكلمت فيه عن النوع من أنواع علوم القرآن، لكي لا يكون الكلام عن النوع في موطنين فيقع التشتيت للذهن. 3 - المراجع التي ذكرتها في مقدمة كل فصل؛ جعلها في آخر كل

فصل تحت عنوان (قراءات مقترحة في الموضوع)، ثم أتبعها بذكر بعض البحوث المقترحة فيه. ثالثاً: شرح تقرير اللجنة العلمية للطبعة الثانية من مصحف المدينة، التي رأسها الدكتور علي بن عبد الرحمن الحذيفي بدلاً من شرح تقرير النسخة الأولى التي كانت لجنتها العلمية برئاسة الأستاذ الدكتور عبد العزيز بن عبد الفتاح القاري، والذي تم شرحه في الطبعة الأولى؛ لاعتماد الطبعات الحديثة على الطبعة الثانية ... رابعاً: إضافة ملحق في آخر الكتاب وضع به جدول يبين العلاقات بين أنواع علوم القرآن المذكورة في الكتاب، وقد جمعت هناك ليسهل رؤيتها في مكان واحد، وعسى الله أن ييسر في طبعات أخرى أن تبين العلاقات بين جميع أنواع علوم القرآن. وفي الختام تجدر الإشادة بجهود الإخوة الباحثين في مركز الدراسات القرآنية بمعهد الإمام الشاطبي لما أولوا الكتاب من عناية واهتمام في طبعته الأولى بقيام الأخ الدكتور خالد واصل بترتيب الكتاب وتنسيقه وفهرسة مسائله، وقيام الأخ الأستاذ طارق الواحدي بتخريج أحاديث الكتاب، ثم ما قام به الأخ الأستاذ فؤاد أبو الغيث في طبعته الثانية من قراءة الكتاب قراءة نقدية استفدت منها فائدة كبيرة بالإضافة إلى ترتيبه (الإرشادات والإضاءات) التي كانت في بداية كل فصل وإدخالها في أصل الكتاب، وصنع جدول العلاقات بين أنواع علوم القرآن الملحق في آخر الكتاب. فجزاهم الله خير الجزاء. وأسال الله العلي العظيم أن يبارك في هذا العمل ويتقبله مني إنه جواد كريم.

مقدمة الطبعة الأولى

مقدمة الطبعة الأولى الحمد لله الذي أنزل الكتاب على عبده ليكون للعالمين نذيراً، والصلاة والسلام على رسوله محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد: فإن من عظمة هذا القرآن الكريم تلك الدراسات المتكاثرة التي تدور في فلكه، بحيث لا يمكن حصرها والإحاطة بها، وانظر على سبيل المثال عدد مخطوطات التفسير، ووازنها بعدد المطبوع = تجد أن المطبوع لا يمثِّل عشر عدد المخطوط، فما بالك في غيره من الدراسات المرتبطة بالقرآن الكريم. هذا، ولقد كان اعتناء العلماء بالقرآن وعلومه مما لا يخفى، فما تكاد تجد عالماً من علماء هذه الأمة إلا وله مشاركة في أحد علوم القرآن الكريم. ولقد تنامت هذه الدراسات في علومه، حتى ظهرت كتب تجمع عدداً منها، ثم جاءت محاولة استقصاء علومه عند الزركشي (ت794هـ)، ثم عند البلقيني (ت824هـ)، ثمَّ خُتِم الأمر بالسيوطي (ت911هـ)، ولا يعني هذا تأخر الكتابة في علوم القرآن، إذ قد يكون فيه من الكتب ما هو على منوال هذا الجمع الذي يذهب إلى الاجتهاد في استقصاء علومه لكننا لم نطلع عليه بعد. وإن علوم القرآن لا زالت بحاجة إلى تنقيح وتحرير، فكم من موضوع يظنُّ القارئ أنه مما انتهى فيه الأمر، واتفقت فيه الكلمة، بل قد يَمُرُّ على ما يعارضه فلا ينتبه له؛ لأن الأفكار السابقة التي كونها من خلال قراءته قوية ومؤثرة بحيث صار العقل ينكر ما يتعارض مع هذه الأفكار أو

يتجاهلها، فإذا دَخَلتْ هذه الموضوعات في محل النقاش والجدل العلمي بان ما فيها من حاجة إلى تحرير وتنقيح. وإن مما يحسن أن يُعنى به طالب علوم القرآن الانتباه للأمثلة، وتقييدها، ودراستها للخروج بصورة صحيحة عن الموضوع الذي سيدرسه، ومتى أخذ بعض الموضوعات غير المحرَّرة على سبيل القبول دون النظر في الأمثلة المتكاثرة التي تخالف ذلك التقرير لم يستطع الوصول إلى بعض الحقائق المهمة في الموضوع. وقد يقول قائل: ألا يعني هذا أننا سنفتش مرة بعد مرة في كل موضوعات علوم القرآن، ولن يقنع الآخِرُ بما وصل إليه الأول؟ أقول: نعم، إن هذا الاستفسار صحيح، وهو في محلِّه، وليس هناك ما يمنع من النظر والتقليب مرة بعد مرة ما دام الأمر يعمد إلى قضايا يسوغ فيها النظر والاجتهاد، ولست أرى أنك ملزم بقول فلان أو علان ما دام ظهر لك الحق، وبان لك الخطأ في قوله، فالعالِم الحق لا يرضى لنفسه أن تتبعه وأن تعتقد أنك وصلت إلى الصواب، فكل يؤخذ من قوله ويرد سوى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وليس في ذلك أي غضاضة أو انتقاص ما دام سبيل الأدب والمحبة والترحُّم على أسلافنا هو السبيل الذي نسلكه. بل لن ترتقِي دراساتنا وعلومنا إذا لم نسلك هذا السبيل، وسنبقى في انحصار ذهني لا يمكننا الخروج منه لخوفنا من المخالفة العلمية. وإن مما هو مشاهد وظاهر في العلوم أن الاختلاف لا يمكن أن ينقطع، بل هو سنة كامنة فيه لا تنفك عنه، وإنك قد تعجب في بعض الأحيان من وضوح حجتك التي تحتج بها ويخالفك فيها مخالف، وتستغرب كيف يغفل عن الصواب؟ لكنك لو تأملت الأمر قليلاً لظهر لك أن ذلك سنة الله في خلقه، فلست تملك إدخال الصواب في قلوبهم، وإن كان من حقك أن تقول ما تراه صواباً وتدافع عنه.

وإن من أهم الأمور التي يحسن أن تنتبه لها في هذا المقام مبادئ الأمور وأولياته التي تربى عليها مخالفك، فما تراه من المسلَّمات لم يتربَّ هو عليه، حتى لقد يصل الأمر به أن لا يرى أنه ملزم بأقوال الصحابة في التفسير، وما ذاك إلا لأنه لم يتربَّ على تعظيم قدر الصحابة، ومعرفة مميزات علمهم، وما لهم من المعرفة باللغة العربية، والأحوال المصاحبة للنُّزول، وأحوال النبي صلّى الله عليه وسلّم، فكيف لمن يكون بهذه المنْزلة أن يترك قوله؟! والمقصود الذي أريد أن أصل إليه أنني أدعو إلى أن يكون الدرس العلمي درس نقاش وحوار للوصول إلى المعلومة الصحيحة، وأنك لست ملزماً بصحة كل ما ورد في هذا المؤلَّف، فما هو إلا جهد شخص ظهرت له ملحوظات في بعض علوم القرآن فألقاها بين يديك لتناقشها كما ناقشها، فإن اقتنعت بما وصل إليه تبنَّيته عن قناعة، وصارت فكرته هي فكرتك، وإن خالفته، فذلك حقٌّ لك، ولك أن تبيِّن خطأه وبعده عن الصواب، وكل ذلك يكون بأسلوب علمي أدبي رزين وعالٍ. وإن مما كنت قد دعوت إليه ـ ولا زلت أرى الحاجة إليه ماسة ـ أن يقوم الطلاب بفهرسة كتب الحديث على علوم القرآن؛ لاستخراج موضوعات علوم القرآن منها، لكي تكون زاداً لطلاب هذا العلم يستقون منها ما يريدون حينما يكتبون عن موضوع ما من موضوعات علوم القرآن. وإنه من خلال القراءة في كتب السنة تمرُّ بالقارئ أحاديث وآثار لها علاقة بعلوم القرآن فلا يقيدها القارئ فتضيع هذه الفوائد التي هي كالشهاب الخاطف إن لم تقيَّد مباشرة احترقت وصارت في عالم الغيب، وأنَّى له أن يسترجعها. ومما أراه مهمّاً لطالب العلم أن يقوم بإجراء تطبيقات عملية علمية على الموضوعات التي يأخذها، وإن ميدان كتب التفسير ميدان رحب لهذه التطبيقات، فلو أخذ ـ على سبيل المثال ـ المكي والمدني، ودرس تطبيقاته في تفسير ابن جرير (ت310هـ)، أو في تفسير ابن عطية (ت542هـ)، أو في

تفسير القرطبي (ت671هـ)، أو في تفسير ابن جُزِي (ت741هـ)، أو غيرها من التفاسير = لكان في هذا التطبيق رسوخاً في العلم. فالدراسات التطبيقية هي التي تُثبِّت المعلومات، وتظهر خبايا الموضوعات، وتزيد الدرس قوة إلى قوة. تصنيف هذا الكتاب: لقد عهِد إليَّ مركز الدراسات والمعلومات القرآنية بمعهد الإمام الشاطبي تصنيف هذا الكتاب وَفْقَ الخطة المقرَّرة لهذه المادة في دبلوم إعداد معلمي ومعلمات القرآن الكريم بالمعهد، وكان من الظاهر في اختيار موضوعات هذا الكتاب أن يتناسب مع ما سيقوم به الطالب في مستقبله من تعليمٍ للقرآن، وإقراءٍ له في المساجد ومدارس التحفيظ، فاختير من الموضوعات ما يكون له فائدة مباشرة بمزاولة هذه المهمة (¬1)، مع ذكر موضوعات يحسن به أن يمرَّ بها. والجدير بالذكر أن مفردات هذه المادة قد وضعت من قِبَلِ (لجنة تطوير المناهج) في المعهد، ثم حُكِّمت من قبل بعض المتخصصين، ومن ثَم أقرَّت من (المجلس العلمي) بالمعهد. ولما كان مما يُلتزم به في التأليف أن تكون الموضوعات المطروحة متناسبة مع التخصص العام الذي يدرسه الطالب، ومع الزمن المقرر للمادة العلمية، فإني حرصت على عدم الاستطراد، وخلصت إلى وضع مقدمة لبعض الموضوعات أذكر فيها أنواع علوم القرآن المرتبطة بالموضوع المدروس، ثم أذكر في خاتمة بعض الموضوعات أمرين: الأول: مراجع يستفاد منها في الموضوع. ¬

(¬1) لأجل هذا الغرض حصل التوسع فيما سيمارسه الطالب في إقرائه، وذلك في الفصل المتعلق بشرح مصطلحات ضبط مصحف المدينة النبوية، ليتسنى له إتقان ما يتعلق بضبطه حال قراءته وإقرائه.

الثاني: اقتراح موضوعات بحثية يمكن للناظر في هذا الكتاب القيام بها. وقد جاءت خطة هذه المادة على النحو الآتي: الباب الأول: مدخل إلى علوم القرآن. ويشتمل على ثلاثة فصول: الفصل الأول: مفهوم علوم القرآن. الفصل الثاني: نشأة علوم القرآن. الفصل الثالث: الفرق بين علوم القرآن وأصول التفسير. الباب الثاني: نزول القرآن وجمعه. ويشتمل على خمسة فصول: الفصل الأول: الوحي. الفصل الثاني: نزول القرآن. الفصل الثالث: المكي والمدني. الفصل الرابع: أسباب النُّزول. الفصل الخامس: جمع القرآن. الباب الثالث: علوم السور. ويشتمل على خمسة فصول: الفصل الأول: أسماء السور. الفصل الثاني: عدد آيات السور. الفصل الثالث: فضائل السور. الفصل الرابع: ترتيب السور. الفصل الخامس: موضوعات السور ومقاصدها. الباب الرابع: المصحف عناية الأمة به. ويشتمل على فصلين:

الفصل الأول: عناية علماء الأمة بالمصحف. الفصل الثاني: مثال معاصر لعناية العلماء بضبط المصحف (مصطلحات ضبط مصحف المدينة النبوية). وأسأل الله أن يكون هذا الكتاب قد وفَّى بالغرض الذي رُسم له، وأن يتقبله عملاً صالحاً، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وإني لأرجو ممن تظهر له ملاحظة أن يراسلني بها؛ لأتدارك ما فيه من النقص والخلل الذي لا يخلو منه عمل البشر، سائلاً الله التوفيق والسداد لكل من كان له أثر في هذا الكتاب، وأخص بذلك من أحسن بي الظنَّ وأسند إليَّ كتابة هذا الكتاب، والحمد لله رب العالمين. د. مساعد بن سليمان بن ناصر الطيار [email protected]

الباب الأول: مدخل إلى علوم القرآن

مدخل إلى علوم القرآن الفصل الأول: مفهوم علوم القرآن الفصل الثاني: نشأة علوم القرآن الفصل الثالث: الفرق بين علوم القرآن وأصول التفسير

الفصل الأول: مفهوم علوم القرآن

الفصل الأول مفهوم علوم القرآن

أولا: معنى (علوم)

يذهب الباحثون في مثل هذه المصطلحات (المركبة من مضاف ومضاف إليه) إلى تعريف كل مصطلح من المتضايفين على حِدةٍ، ثمَّ يبينون المصطلح حال التركيب، ويشرحونه مبينين محترزات التعريف، وذلك لضبط المصطلح الذي يريدون تعريفه ضبطاً جامعاً (يجمع كل مسائله فيه)، مانعاً (يمنع غير مسائله من الدخول فيه). ومن هذا المنطلق فإنني سأشرح التعريف بهذا الأسلوب، مع ملاحظة أن طالب العلم لا يحتاج إلى مثل هذا الأسلوب في كثير من العلوم التي يتعلمها؛ إذ يأخذ مسائلها بالدراسة والمِران، حتى يتكون لديه معرفة وإلمام بأغلب مسائل العلم الذي يدرسه إن لم يكن كلها. أولاً: معنى (علوم): العلوم جمع (علم)، والعلم: معرفة الشيء على الحقيقة التي هو عليها ظنّاً أو يقيناً، فحين يقال لك: هل تعلم أن أول من أسلم من الرجال أبو بكر؟ فأنت تعلم هذا، وهو حقيقة، فهذا علمٌ. وقد تقرأ في كتب الفلك وجود نجم له مسمى جديد، فهذا بالنسبة لك علم ظنيٌّ لم يرتق إلى الحقيقة، وهو بالنسبة لك علمٌ. والعلم بهذا التعريف يقرب من معنى (المعرفة)، لكنَّ في دلالة لفظ (العلم) من جهة اللغة ما يدلُّ على أنه أوسع في المدلول عليه من لفظ (المعرفة)، وهو موجود في كتب (الفروق اللغوية وغيرها) (¬1). ¬

(¬1) للتوسع في مدلول العلم وفي الفرق بينه وبين المعرفة يُنظر الكتب الآتية ـ على سبيل المثال ـ: مقاييس اللغة لابن فارس، الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري، مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني، كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي. ويلاحظ أن بعض علماء الكلام الذين أثرت الفلسفة والمنطق في كتاباتهم قد قسموا =

ثانيا: معنى (القرآن)

وأمَّا (العلم) في الاصطلاح، فهو يُطلق على (المسائل المضبوطة ضبطاً خاصّاً)، وسيدرك الطالب تمايز كل علم بالنظر في موضوعاته ومسائله، فإذا قلت له: مقدار الغنة حركتان، فإنه يعرف أن هذا من علم التجويد، وإذا قلت له: قرأ نافع كذا، علِم أن هذا من علم القراءات، وإذا قلت له: الشمس تضيء بنفسها، والقمر يعكس ضوءها، علِم أن هذا من علم الفلك، وهكذا غيرها من المعلومات التي ضُبطت في مسائل العلوم، وتميَّزت بها (¬1). ثانياً: معنى (القرآن): القرآن في اللغة مأخوذ من مادة قرأ، بمعنى تلا، وهذا ظاهرٌ من ¬

= العلم إلى تصورات وتصديقات، والذي يحسن التنبه له أن مدلول العلوم الإسلامية ليس بحاجة إلى هذه التقسيمات، بل إن بعض العلوم الإسلامية قد تخرج عن مسمى العلم إذا أخذت بهذه التقسيمات، وإن شئت فانظر ما قاله الطاهر بن عاشور في مقدمات تفسيره، حيث أخرج علم التفسير من أن يسمى علماً بسبب اعتماده هذه المصطلحات. قال الطاهر بن عاشور: «هذا وفي عَدِّ التفسير علما تسامح؛ إذ العلم إذا أطلق، إما أن يراد به نفس الإدراك، نحو قول أهل المنطق، العلم إما تصور وإما تصديق، وإما أن يراد به الملكة المسماة بالعقل، وإما أن يراد به التصديق الجازم وهو مقابل الجهل، وهذا غير مراد في عد العلوم، وإما أن يراد بالعلم المسائل المعلومات وهي مطلوبات خبرية يبرهن عليها في ذلك العلم وهي قضايا كلية، ومباحث هذا العلم ليست بقضايا يبرهن عليها فما هي بكلية، بل هي تصورات جزئية غالباً؛ لأنه تفسير ألفاظ أو استنباط معان. فأما تفسير الألفاظ فهو من قبيل التعريف اللفظي، وأما الاستنباط فمن دلالة الالتزام وليس ذلك من القضية ...». التحرير والتنوير (1:12). (¬1) في هذا الموضوع قضايا في مبادئ البحث عن العلوم، وليس فيها ثمرة علمية مفيدة إلا في قضايا مخصوصة جدّاً، فالعلوم قد ضُبِطت مسائلها، وعُرفت موضوعاتها فكُفينا بذلك العناء في البحث من هذه الجهة، لكن قد ترد بعض الموضوعات والمسائل التي تتنازعها العلوم، وهذه مسائل محددة معروفة، ولكل مسألة أو موضوع شأنه الخاص به، ولا حاجة إلى التعمُّق في مثل هذا أيضاً، فقد تجد من يقول: العموم والخصوص من مسائل أصول الفقه، ويقول آخر: هي من مسائل علوم القرآن، وهذا الاختلاف ليس فيه أثر كبير من جهة النسبة، وإنما أثره في طريقة تناول الموضوع المشترك بين هذين العلمين؛ إذ لا بد أن يختلف في طريقة طرحه، وهذا أهمُّ من البحث في هل هو من هذا العلم أو من هذا العلم؟

استخدام هذا اللفظ ومشتقاته في كلام الله سبحانه، وفي كلام رسوله، وفي كلام الصحابة الذين نزل عليهم القرآن، ولا حاجة إلى التطويل في تقرير هذه المسألة. ومما يدل على أنه مأخوذ من (قرأ) بمعنى (تلا) قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204]، وقوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَانٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ} [يونس: 61]، وقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]، وقوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]، وقوله تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} [الإسراء: 106] وغيرها من الآيات. أخرج البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال له: «اقرأ القرآن في كل شهر. قال إني أطيق أكثر فما زال حتى قال: في ثلاث» (¬1). وأخرج البخاري عن أبي بردة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: (بعث جده أبا موسى ومعاذاً) إلى اليمن فقال: «يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا». فقال أبو موسى: يا نبي الله، إن أرضنا بها شراب من الشعير المِزْر (¬2)، وشراب من العسل البِتْع (¬3). فقال: «كل مسكر حرام». فانطلقا، فقال معاذ لأبي موسى كيف تقرأ القرآن؟ قال: قائماً وقاعداً، وعلى راحلتي، وأتفوقه تفوقاً (¬4). ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (1978)؛ ومسلم برقم (1159). (¬2) نبيذ يُتَّخذ من الشعير، وقيل: يُتخذ من الذرة أيضاً. ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (4:324). (¬3) نبيذ العسل، وهو خمر أهل اليمن، والتاء في البتع تسكَّن وتحرك بالفتح، ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (1:94). (¬4) قال ابن الأثير: (يعني قراءة القرآن؛ أي: لا أقرأ وردي منه دفعة واحدة، لكن أقرؤه شيئاً بعد شيء في ليلي ونهاري، مأخوذ من فُواق الناقة؛ لأنها تُحلَب ثم تُراح حتى =

المراد بعلوم القرآن

قال: أما أنا فأنام وأقوم، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي ... (¬1). فالقرآن بمعنى المقروء، ثم غلب اسماً على كلام الله تعالى المحفوظ بين دفتي المصحف. والقرآن في الاصطلاح: كلام الله المنَزل على نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم، المتعبد بتلاوته، المعجز بأقصر سوره. شرح التعريف: (كلام الله): عموم يشمل جميع كلامه سبحانه، فيدخل فيه كلامه للملائكة، ولغيرهم. وخرج بـ (المنَزل) ما لم يُنَزل من كلامه لأهل السماء، ويدخل فيه كلامه المنَزل على عموم أنبيائه. وخرج بقوله: (على نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم) ما نزل على غيره من الأنبياء، ويدخل فيه ما نزل عليه من كلام الله كالحديث القدسي. وخرج بقوله: (المتعبد بتلاوته، المعجز بأقصر سوره) الحديث القدسي، وغيره من الكلام المنَزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم سوى القرآن (¬2). المراد بعلوم القرآن: تحتمل إضافة العلوم إلى القرآن احتمالين: الأول: أن يراد بها عموم (المعلومات) التي تنطوي تحت ألفاظ ¬

= تُدِرَّ، ثم تُحلب) النهاية في غريب الحديث والأثر (3:480). (¬1) أخرجه البخاري برقم (4345). (¬2) اعلم أنه لا يلزم طالب العلم التدقيق في تعريف المصطلحات الشرعية ولا المشهور بين الناس؛ كتعريف القرآن، والصلاة والزكاة والحج، وغيرها مما يعلمه المسلم بالتطبيق، فإن تعريف مثل هذه لا يخلو من ملاحظة علمية من جهة التعريف، فضلاً عن أن تعريف الواضحات يدخلها في المشكلات، فبدلاً من وضوحها تنقلب إلى مسألة مشكلة، وتحرير هذه المصطلحات لا يؤثر في العلم شيئاً في الأغلب الأعم.

القرآن، فأي معلومة نصَّ عليها أو أشار إليها فهي من علومه؛ أي: معلوماته، وهذا المعنى ذهب إليه بعض العلماء، فأطلقوا هذا على علوم القرآن، قال أبو بكر بن العربي المالكي (ت543هـ): «وقد ركَّبَ العلماءُ على هذا كلاماً، فقالوا: إنَّ علومَ القرآنِ خمسونَ علماً، وأربعُمائة علمٍ، وسبعةُ آلاف، وسبعونَ ألفَ علمٍ، على عدد كَلِمِ القرآنِ، مضروبةً في أربعةٍ، إذ لكلِّ كلمةٍ منها ظهرٌ وبطنٌ، وحدُّ ومطلع (¬1). هذا مطلقٌ دون اعتبارِ تركيبِه، ونَضْدِ بعضِه إلى بعضٍ، وما بينها من روابط على الاستيفاءِ في ذلك كلِّه، وهذا مما لا يحصى، ولا يعلمُه إلاَّ اللهُ» (¬2). وهذا المعنى الذي ذهب إليه هؤلاء ـ مع ما فيه من نظر ـ ليس هو المراد بإطلاق علوم القرآن في الاصطلاح الذي هو الاحتمال الثاني المراد بهذه الإضافة. الثاني: جملة من أنواع المعلومات المضبوطة ضبطاً خاصّاً المتعلقة بالقرآن الكريم من حيث نزوله وجمعه وقراءاته ومكيِّه ومدنيِّه وأسباب نزوله، وما إلى ذلك (¬3). ¬

(¬1) هذه المصطلحات مما دخلها الخلل في الفهم، فحملها بعض المتصوفة وغيرهم على مراداتهم، وقد نوقشت هذه المصطلحات من قِبل المحققين، وبيَّنوا ما وقع من الخلل في فهمها. ينظر في هذا: رسالة شيخ الإسلام في الظاهر والباطن؛ الفتاوى (13:230، وما بعدها)؛ وكتاب «الموافقات» للشاطبي، تحقيق مشهور سلمان (4:208، وما بعدها). (¬2) قانون التأويل، لابن العربي، تحقيق الدكتور محمد السليماني (ص540)، وقد أشار إلى احتمال أن يكون هذا الكلام مأخوذاً من الغزالي، وقد أحال المحقق إلى إحياء علوم الدين، ط. الحلبي (1:290) قال الغزالي: «وقال آخرون: القرآن يحوي على سبعة وسبعين ألف علم ومئتي، إذ كل كلمة علم، ثم يتضاعف ذلك إلى أربعة أضعاف، إذ لكل كلمة ظاهر وباطن، وحد ومطلع». (¬3) قد يلاحظ بعض المعتنين بالمصطلحات أن هذا التعريف لا يدخل في حدِّ التعريف الجامع المانع، وهذا صحيح، لكن مما يحسن الانتباه له أن بعض العلوم الإسلامية لا يمكن أن تدخل في هذا الحدِّ، لكن كلما كان التعريف أكثر دقة وقرباً من المقصود =

ويمكن تقسيم هذه الأنواع إلى قسمين: الأول: أنواع منبثقة منه، ولا يمكن أخذها ودراستها في غيره؛ كالمكي والمدني، ونزول القرآن، والأحرف السبعة، وعد الآي، والوقف والابتداء، وغيرها من هذه الأنواع التي هذه صفتها. الثاني: أنواع مشتركة بين علوم القرآن وغيره من العلوم، وهي على نظرين: الأول: النظر إلى القرآن باعتباره نصّاً عربيّاً، فيدخل فيه جملة العلوم العربية التي بحثها علماء العربية بفروعها؛ كالإعراب والتصريف والبلاغة وغيرها، فوجودها في علوم العربية أصل من جهة كونها تبحث في الكلام العربي من حيث هو كلام عربيٌّ سواءً أكان كلام الله تعالى أم كان كلام البشر؛ كالرسول صلّى الله عليه وسلّم، أو العرب في أشعارهم ونثرهم. ويلاحظ في هذا التداخل مع علوم العربية أمور؛ منها: 1 - أن نشوء هذه العلوم كان بسبب القرآن الكريم؛ إذ لا يُعرف للعرب اعتناء بلغتهم، ولا تدوين منظَّمٌ لها. 2 - أنَّ تفاصيل هذه الأنواع في كتب أهل اللغة أشمل من تفاصيلها في كتب علوم القرآن؛ لأن كتب علوم القرآن تأخذ ما يتناسب من هذه الموضوعات مع طبيعة بحثها، فليس كل ما دُرس في هذا العلوم، وثبتت عربيته لازماً لعلوم القرآن. الثاني: النظر إلى القرآن باعتباره نصّاً شرعيّاً تُستقى منه الأحكام، وتشاركه السُّنة النبوية في هذه الحيثية، وقد نتج من هذا النظر جملة من العلوم؛ منها: الفقه، ونشأ منه دراسة آيات الأحكام، وأصول الفقه الذي ¬

= كان أولى، وتعريف علوم القرآن بالاصطلاح السائد عند العلماء الذين كتبوا فيه لا يمكن أن يوجد فيه الحد الجامع المانع، ومن الطريف في ذلك: أن أشمل كتابين في علوم القرآن ـ وهما البرهان للزركشي، والإتقان للسيوطي ـ لم يُعرِّفا علوم القرآن، وإنما جاء التعريف عند المعاصرين، فكان على سبيل التمثيل لأنواع علوم القرآن.

يحوي جملة من الأنواع التي تُدرس في كتب علوم القرآن؛ كالناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، وغيرها. ويلاحظ في هذا الموضوع ما يأتي: 1 - أنَّ تدوين العلوم المنبثقة من دراسة النص القرآني كانت أسبق من كتب علوم القرآن الشاملة، كما سيأتي ذكرها في نشأة علوم القرآن. 2 - أنَّ طرح هذه الأنواع قد يختلف بين هذه العلوم، فدراسة العموم والخصوص في كتب أصول الفقه ليست كدراسته في كتب علوم القرآن، وإن كانت كتب علوم القرآن قد استفادت من كتب أصول الفقه، إن لم تكن قد زادت عليها شيئاً (¬1). ويمكن القول إن هذه الأنواع ـ المشتركة بين كتب علوم القرآن وكتب العلوم الأخرى ـ إن كانت مما سُبِقَ إلى كتابته في العلوم الأخرى؛ فإنه يُستفاد من كتابة علماء هذه العلوم، ولا تؤخذ مباحثهم بتفاصيلها بل بقدر ما تحتاج إليه منهجية علوم القرآن، ثمَّ يضاف إليها ما هو من خصائص هذه الأنواع في القرآن. تنبيه في استخدام العلماء لمصطلحات مرادفة لعلوم القرآن: علوم القرآن هو المصطلح الأشهر الذي سار عليه العلماء والباحثون في تسمية الموضوعات المشار إليها في تعريفه باعتباره فنّاً مدوَّناً، وقد استخدم العلماء في كتبهم مصطلحات مرادفة لعلوم القرآن ـ سواءٌ أكانت كتبهم في التفسير أم في علوم القرآن الاصطلاحية؛ لأن النظر هنا إلى الإضافة التي وقعت عند العلماء ـ وهذه الإضافات المرادفة لعلوم القرآن هي: 1 - علم القرآن. 2 - علم الكتاب، أو علوم الكتاب. ¬

(¬1) للتوسع في طرح هذه الفكرة ينظر كتاب: مقالات في علوم القرآن وأصول التفسير لمساعد الطيار (ص21 - 32).

3 - علم التنْزيل، أو علوم التنْزيل. والمقصود التنبُّه لما كتبه العلماء من مدونات بهذه العناوين فإنه قد يكون له علاقة بعلوم القرآن كما سيأتي ذكر شيء من ذلك في الحديث عن نشأة علوم القرآن.

الفصل الثاني: نشأة علوم القرآن

الفصل الثاني نشأة علوم القرآن

نشأة علوم القرآن

نشأة علوم القرآن إن بداية ظهور علوم القرآن مرتبطة ببداية نزوله، فلما نزل جبريل عليه السلام على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في غار حراء، وتلا عليه قوله تعالى: {اقْرَا بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ *خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ *اقْرَا وَرَبُّكَ الأَكَرَمُ *الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ *عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 - 5] بدأت العلوم المرتبطة بالقرآن بالظهور شيئاً فشيئاً. ويمكن أن يُستنبطَ من نزوله على الرسول صلّى الله عليه وسلّم في غار حراء جملة من أنواع علوم القرآن، ففيه من هذه الأنواع: • نزوله، خصوصاً أول ما نزل. • قراءته. • الوحي. ثمَّ ما لبث القرآن ينْزل مرةً بعد مرَّةٍ، ويحدثُ من علومِه غير هذه الثلاثة على حسبِ موضوعات الآيات وما يتعلَّقُ بها. ولا ريب أن نشأة علوم القرآن كانت قد بدأت مع نزوله كما هو ظاهر، وقد كان هناك جملة من علومه التي اعتنى بها الصحابة رضي الله عنهم، وكان في أحاديث الرسول صلّى الله عليه وسلّم وآثار الصحابة والتابعين ما يُنبئُ عن أن لهذا القرآن علوماً يُحثُّ على تعلمها، ومن ذلك ما يأتي: 1 - دعاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم لابن عمِّه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: «اللهم علِّمه الكتاب» (¬1)، وهذا يشمل جملة العلوم المتعلقة بالقرآن، من قراءته، وحفظه، وتفسيره، ومعرفة نزوله وأحكامه، وناسخه ومنسوخه، وغير ذلك من علومه. ¬

(¬1) أخرجه جمع من الأئمة، منهم البخاري برقم (75، 3756، 7270).

وفي رواية عند الإمام أحمد: «اللهم فَقِّهُ في الدين، وعلِّمه التَّأويل» (¬1)؛ والمرادُ به علم التفسيرِ الذي هو أجلُّ علومِ القرآنِ وأعظمها، ولا تخلو تفاسير السلف من ذكر جملة من علوم القرآن؛ كعلم الناسخ والمنسوخ، والمكي والمدني، والعام والخاص، وغيرها. 2 - قوله صلّى الله عليه وسلّم: «خيركم من تعلَّم القرآن وعلَّمه» (¬2)، وهذا يشملُ جُملةَ علومِ القرآنِ من قراءته وحفظه وتفسيره وغيرِها؛ لأنَّه خبر مطلقٌ غير محدَّدٍ بنوعِ من أنواع تعلُّمِ القرآنِ وتعليمه. 3 - وروى ابن أبي شيبة بسنده عن أبي البختري عن علي رضي الله عنه قالوا: «أخبِرْنا عن عبد الله. قال: علم القرآن والسنة، ثم انتهى، وكفى بذلك علماً» (¬3). 4 - عن سفيان بن حسين (¬4) قال: «سألني إياس بن معاوية، فقال: إني أراك قد كَلِفْتَ بعلم القرآن، فاقرأ عليَّ سورة وفَسِّر حتى أنظر فيما علمت. قال: ففعلت. فقال: احفظ عني ما أقول لك: إياك والشناعة في الحديث، فإنه قَلَّ ما حملها أحدٌ إلا ذلَّ في نفسه، وكذب في حديثه». ومن تتبع الآثار وجدَ فيها كثيراً من هذا الباب، وهو موضوع يصلح للبحث، بحيث يصل الباحث به إلى مرادهم بعلوم القرآن من خلال آثارهم. ¬

(¬1) مسند الإمام أحمد (1:314) وأصله في البخاري كما مرّ. (¬2) رواه البخاري برقم (5027) عن عثمان رضي الله عنه. (¬3) مصنف ابن أبي شيبة (6:385)؛ وقد أخرجه أبو نعيم في الحلية (1:129). (¬4) سفيان بن حسين بن الحسن، أبو محمد ويقال: أبو الحسن الواسطي مولى عبد الله بن خازم السلمي ويقال: مولى عبد الرحمن بن سمرة القرشي روى عن إياس بن معاوية، وجعفر بن أبي وحشية، والحسن البصري. كان مؤدباً للخليفة المهدي، ومات بالري في خلافته. تهذيب الكمال (11:139).

تدوين علوم القرآن

تدوين علوم القرآن: إن مما يحسن لفت النظر إليه علاقة علوم القرآن بعلم التفسير، فعلم التفسير من حيث هو بيان لمعاني كلام الله جزء من علوم القرآن، لكنه يتضمن جملة من أنواع علوم القرآن لا يقوم التفسير إلا بها، ومن تلك الأنواع: علم غريب القرآن، وعلم الناسخ والمنسوخ، وعلم أسباب النُّزول، فهذه الأنواع وغيرها من ما يحتاج إليه المفسر أحياناً؛ كالمكي والمدني وغيره مما لا تخلو منه كتب التفسير. ومن ثَمَّ، فإن كتب التفسير التي دوَّنها السلف مصدر من مصادر علوم القرآن، وهي جزء مرتبط بنشأة علوم القرآن لا يمكن إغفاله وتجنُّبه، إلا إذا كان المقصود البحث عن هذه الإضافة (علوم القرآن)، أو عمَّا أدخله المتأخرون تحت مسمى علوم القرآن؛ كالناسخ والمنسوخ الذي هو من صلب علوم التفسير. لذا فإن الحديث عن تدوين علوم القرآن لا يمكن أن ينفك عن الحديث عن كتب التفسير في جميع مراحلها (¬1). ومن هنا، فإنه يمكن تقسيم نشأة علوم القرآن على عدة أساليب في التقسيم، إما بالنظر إلى الزمان، وإما بالنظر إلى مادة الكتب، وسأجمع بين التقسيمين هنا، وسأقسم الموضوع إلى مراحل كالآتي: ¬

(¬1) ينظر على سبيل المثال: ما رجع إليه السيوطي من كتب التفسير، وجعلها مادة من مصادره في جمع كتابه «الإتقان في علوم القرآن»، ط. البابي الحلبي (1:18، 21).

المرحلة الأولى: بذور هذا العلم منذ نشأته إلى نهاية القرن الثاني

المرحلة الأولى بذور هذا العلم منذ نشأته إلى نهاية القرن الثاني (200هـ) كانت علوم القرآن في هذه المرحلة تتمثل في وجود روايات شفاهية يتناقلها التابعون عن الصحابة، وأتباع التابعين عن التابعين، وأتباع أتباع التابعين عن أتباع التابعين حتى يصل السند إلى قائله من هذه الطبقات الثلاث. وكان للتدوين نصيبٌ في هذه الفترة، فقد دُوِّنت مجموعة من الكتب في هذه المرحلة، وكانت تحمل قدراً لا بأس به من أنواع علوم القرآن. ويمكن تقسيمها على النحو الآتي: أولاً: روايات التفسير وكتبه: يمكن تصنيف الكتابة في التفسير في هذه المرحلة إلى أقسام: الأول: الكتابات الجزئية للتفسير، وذلك إما أن تكون رواية لتفسير أحد أعلام المفسرين؛ كمجاهد بن جبر (ت104هـ) الذي كتب تفسير شيخه ابن عباس رضي الله عنهما (ت68هـ)، وإما أن تكون لعدد من المفسرين؛ كتفسير سفيان الثوري (ت161هـ). وفي هذين النوعين لم يصلنا تفسير كاملٌ لجميع القرآن. الثاني: الكتابة الشاملة لجميع القرآن، وقد نُسب هذا التصنيف على هذا الأسلوب للضحاك بن مزاحم (ت105هـ)، ومنه كذلك تفسير مقاتل بن سليمان (ت150هـ)، وهو كاملٌ مطبوع، وتفسير يحيى بن سلام البصري (ت200هـ) (¬1)، ¬

(¬1) يحيى بن سلام بن أبي ثعلبة التيمي، البصري، ثم الإفريقي، مفسر، محدث، أدرك =

وتفسيره لجميع القرآن، والموجود منه بعضه، وقد طُبِع منه قطعة بتحقيق الدكتورة هند شلبي التونسية، ويتميز هذا التفسير بمقدمة ذكر فيها بعض مسائل في علوم القرآن، وقد نقلها عنه ابن أبي زمنين (ت399هـ) (¬1)، وهود بن محكم (من أعلام القرن الثالث) (¬2) في مختصريهما لتفسير يحيى بن سلام (ت200هـ) (¬3). ¬

= نحو عشرين من التابعين، وسمع منهم، كان بالبصرة، ثم انتقل إلى مصر، ثم استقرَّ بالقيروان، له كتاب التصاريف، وهو في علم الوجوه والنظائر، وقد طبع بتحقيق هند شلبي. (¬1) محمد بن عبد الله بن عيسى، المعروف بابن أبي زمنين، المالكي المفسر المحدث، من أهل إلبيرة، سكن قرطبة، توفي سنة (399هـ). (¬2) هود بن محكم الهواري الإباضي، عاش في النصف الثاني من القرن الثالث. (¬3) قال يحيى بن سلام: «وحدثونا أن السور لم تنْزل كل سورة منها جملة، إلا اليسير منها، ولكن النبي عليه السلام قد كان سمى السور؛ فكلما نزل من القرآن شيء أمر أن يضعوه من السور في المكان الذي يأمرهم به، حتى تمت السور. وكان يأمر أن يُجعل في بعض السور المكية من المدني، وأن يُجعل في بعض السور المدنية من المكي، وكان جبريل عليه السلام يأتي النبي صلّى الله عليه وسلّم فيقول: إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تجعل آية كذا بين ظهراني كذا وكذا من السورة. وقد نزل المكي قبل المدني، وأن هذا التأليف الذي أُلِّف بين السور لم ينزل على هذا التأليف، ولكن وضع هكذا، لم يُجعل المكي على حِدة؛ يتبع بعضه بعضاً في تأليف السور، ولم يُجعل المدني من السور على حدة؛ يتبع بعضه بعضاً في تأليف السور. وقد نزل بمكة ما أمر به لما يكون بالمدينة يعملون به إذا قدموا المدينة. وأن بعض الآيات نزلت الآية منها قبل الآية، وهي بعدها في التأليف، وقد فسرنا هذه الوجوه في مواضعها من التفسير. وإن ما نزل بمكة وما نزل في طريق المدينة قبل أن يبلغ النبي عليه السلام المدينة فهو من المكي. وما نزل على النبي عليه السلام في أسفاره بعدما قدم المدينة فهو من المدني، وما كان من القرآن {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فهو مدني، وما كان {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} ففيه مكي ومدني، وأكثره مكي. قال يحيى: ولا يعرف تفسير القرآن إلا من عرف اثنتي عشرة خصلة: المكي والمدني، والناسخ والمنسوخ، والتقديم والتأخير، والمقطوع والموصول، والخاص =

وهذه الكتابات في التفسير تشتمل في ثناياها على مسائل منثورة من أنواع علوم القرآن؛ كالناسخ والمنسوخ، وأسباب النُّزول، وبيان الغريب، والمكي والمدني، والقراءات، وغيرها من المسائل. وليست هذه الأنواع في هذه الكتب على تصنيف معيَّن، بل تأتي ضمن الكلام عن تفسير الآية؛ حيث يُذكر ما فيها من تفسير وبيان غريب، وذكر سبب نزول ... إلخ. ثانياً: كتب مفردة في نوع من أنواع علوم القرآن: لا شك أن التفسير نوع من أنواع علوم القرآن، ولقد سبق ذكره، وإنما خُصَّ لأنه محلٌّ لكثير من علوم القرآن المفردة التي سيأتي ذكر بعضها، ولأهمية هذه الفترة سأسرد ما وجدته من كتب في أنواع علوم القرآن غيرَ كتب التفسير، فهي كثيرة جدّاً، من هذه الأنواع: المكي والمدني، والناسخ والمنسوخ، والوجوه والنظائر، والآيات المتشابهات على الحفاظ، ومشكل القرآن، وأحكام القرآن، ورسم المصحف، ونقط المصحف، ومعاني القرآن، وغريب القرآن، وإعراب القرآن، وعد الآي، والوقف والابتداء، والقراءات، والأداء، والمقطوع والموصول، وغيرها. وسأذكر أمثلة من هذه الأنواع، وبعض ما كُتِبَ فيها. النوع الأول: المكي والمدني: كتب فيه أعلام هذا العصر تحت عنوان (نزول القرآن) وممن كتب فيه: الضحاك بن مزاحم (ت105هـ)، وعكرمة (ت105هـ)، والحسن البصري (ت110هـ) (¬1)، والزهري (ت124هـ) (¬2). ويلاحظ أن أصل هذه الروايات ـ في هذا العصر ـ قائم على تعداد ¬

= والعام، الإضمار والعربية تفسير ابن أبي زمنين (1:113 - 114)؛ وتفسير هود بن محكم (1:69). (¬1) ذكر هذه الكتب الثلاثة ابن النديم في الفهرست (ص40). (¬2) الكتاب مطبوع بتحقيق الدكتور حاتم الضامن بعنوان «تنْزيل القرآن بمكة والمدينة».

السور المكية والمدنية، وبيان المستثنى من كل سورة أحياناً، لذا فهذه الروايات لا تتجاوز الورقة أو الورقتين في الغالب، ومن الروايات المسندة في هذا الموضوع: 1 - رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما (ت68هـ) (¬1). 2 - رواية عن قتادة (ت117هـ) (¬2). 3 - رواية عن علي بن أبي طلحة (ت143هـ) (¬3). وهناك روايات أخرى، وهي بحاجة إلى جمع وتحقيقٍ خاصٍّ، إذ يلاحظ فيها اختلافٌ من جهة تسمية السور، واختلاف في بعض السور والآيات. النوع الثاني: الناسخ والمنسوخ: كتب فيه قتادة (ت117هـ) (¬4)، والزهري (ت124هـ)، وهما مطبوعان (¬5). وقد ذُكر لغيرهما كتب في الناسخ والمنسوخ؛ منهم: عطاء بن مسلم (ت135هـ)، ومحمد بن السائب الكلبي (ت146هـ)، ومقاتل بن سليمان (ت150هـ)، والحسين ابن واقد القرشي (ت157هـ)، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت182هـ)، وغيرهم (¬6). النوع الثالث: الوجوه والنظائر: من الكتب المطبوعة في هذا العلم كتاب مقاتل بن سليمان ¬

(¬1) ممن رواها ابن الضريس في كتابه «فضائل القرآن وما أنزل من القرآن بمكة وما أنزل بالمدينة»، ينظر: (ص33 - 34)؛ والنحاس في كتابه «الناسخ والمنسوخ»، وقد قطَّع روايته على كل سورة. (¬2) ممن رواها المحاسبي في كتابه «فهم القرآن»، ينظر: (ص395)؛ وكذا ابن الأنباري في كتابه «الرد على من خالف مصحف عثمان» نقله عنه القرطبي في تفسيره (1:61 - 62). (¬3) تُنظر هذه الرواية في كتاب: «فضائل القرآن» لأبي عبيد القاسم بن سلام (ص340). (¬4) يلاحظ أن قتادة رحمه الله كان كفيفاً، فما يُنسب إليه فهو من إملائه، والتعبير الذي يرد في مثل هذا بأنه كتب، فهو تجوُّزٌ. (¬5) قام بتحقيقهما الدكتور حاتم الضامن، ونشرتهما مؤسسة الرسالة. (¬6) ينظر هذا الثبت في: مقدمة الدكتور حاتم الضامن في تحقيقه لكتاب قتادة (ص10).

(ت150هـ) (¬1)، وكتاب هارون الأعور (ت170هـ) (¬2)، وكتاب يحيى بن سلام (ت200هـ) بعنوان التصاريف (¬3). وقد ذُكِر لغيرهم كتب في هذا العلم، فنُسب تصنيف إلى ابن عباس رضي الله عنهما (ت68هـ)، وللحسين بن واقد (ت159هـ) (¬4) كتاب في هذا العلم اعتمده الثعلبي (ت427هـ) في مراجعه التي ذكرها في أول كتابه. النوع الرابع: الآيات المتشابهات على الحفاظ: كتب فيه الكسائي أحد القراء السبعة، وشيخ نحاة الكوفة (ت189هـ) (¬5). ¬

(¬1) طُبِع بتحقيق الدكتور عبد الله شحاته، بعنوان «الأشباه والنظائر»، وفي هذه التسمية نظر، وصوابها «الوجوه والنظائر»، ينظر: التفسير اللغوي للقرآن (ص89 - 90). (¬2) طُبِع بتحقيق حاتم الضامن. (¬3) طُبِع بتحقيق الدكتورة هند شلبي التونسية. (¬4) أبو علي المروزي، محدث، له عناية بالتفسير، أخرج له مسلم والأربعة، له تفسير القرآن، ووجوه القرآن، والناسخ والمنسوخ توفي سنة (159هـ). (¬5) طُبِعَ الكتاب بتحقيق الدكتور صبيح التميمي، منشورات كلية الدعوة الإسلامية بطرابلس ـ ليبيا.

المرحلة الثانية: الجمع الجزئي لعلوم القرآن (من القرن الثالث إلى ظهور كتاب البرهان في علوم القرآن للزركشي)

المرحلة الثانية الجمع الجزئي لعلوم القرآن من القرن الثالث إلى ظهور كتاب «البرهان في علوم القرآن» للزركشي (ت794هـ) لقد استمرت الكتابة في التفسير، والكتابة في نوع من أنواع علوم القرآن في هذه المرحلة، وفيها كتابات كثيرة تفوق الحصر، وهو ليس مقصداً هنا، لكن يمكن التمثيل لبعضها على سبيل التذكير، فمن كتب التفسير: «جامع البيان عن تأويل آي القرآن» للطبري (ت310هـ)، و «المحرر الوجيز» لابن عطية (ت542هـ)، و «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي (ت671هـ)، و «البحر المحيط» لأبي حيان (ت745هـ)، و «تفسير القرآن العظيم» لابن كثير (ت774هـ)، وغيرها كثيرٌ جدّاً جدّاً. ومن كتب علوم القرآن المفردة: «فضائل القرآن» لأبي عبيد القاسم بن سلام (ت224هـ)، و «تأويل مشكل القرآن» لابن قتيبة (ت276هـ)، و «أحكام القرآن» للطحاوي (ت321هـ)، و «الناسخ والمنسوخ» لأبي جعفر النحاس (ت338هـ)، و «التبيان في إعراب القرآن» للعكبري (ت616هـ)، والبرهان في ترتيب سور القرآن لأبي جعفر بن الزبير الغرناطي (ت708هـ)، وغيرها كثيرٌ جدّاً جدّاً. ويمكن أن نقول: إن هذه المرحلة تميَّزت بميزتين من جهة كتابة علوم القرآن عما سبقها: الأولى: وجود كتب التفسير التي قصد مؤلفوها بها أن تكون على ترتيب موضوعات علوم القرآن، حيث رتَّب كتابه على الموضوعات: التفسير، القراءات، الإعراب، الأحكام ... إلخ. وبعضهم وإن لم يرتبها فإنه نصَّ على الاعتناء بجملة من علوم القرآن، ومن هذه التفاسير:

1 - كتاب «الاستغناء في تفسير القرآن»، لمحمد بن علي بن أحمد، المعروف بالأُدْفُوي (ت388هـ). وقد قال في مقدمة كتابه: «هذا كتاب ألَّفناه يجمع ضروباً من علوم القرآن، من بين كلام غريب، ومعنى مستغلق، وإعراب مشكل، وتفسير مروي، وقراءة مأثورة، وناسخ ومنسوخ، ومحكم ومتشابه، وأذكر فيه ـ إن شاء الله ـ ما بلغني من اختلاف الناس في القراءات، وعدد الآي، والوقف والتمام، وأبيِّن تصريف الكلمة واشتقاقها ـ إن علمت ذلك ـ وما فيه من حذف لاختصارٍ، أو إطالة لإفهامٍ، وما فيه تقديم وتأخير. وإذا مرَّ العامل من عوامل النحو ذكرته مع نظائره في باب أُفرده له، وأذكر أين نزلت السورة بمكة أو بالمدينة، على قدر الطاقة، ومبلغ الرواية، حتى يكون هذا الكتاب بنفسه مكتفياً، وعن أن يرجع إلى أحد في تفسير شيء هو فيه مستغنياً ...» (¬1). وقد استفاد من هذا الكتاب تلميذه مكي (ت437هـ)، وقال في مقدمة تفسيره المسمى بـ «الهداية إلى بلوغ النهاية»: «... جمعت أكثر هذا الكتاب من كتاب شيخنا أبي بكر الأُدْفُوي رحمه الله، وهو الكتاب المسمى بكتاب «الاستغناء» المشتمل على نحو ثلاثمائة جزء في علوم القرآن» (¬2). 2 - كتاب «البرهان في تفسير القرآن»، لعلي بن إبراهيم بن سعيد، المعروف بالحوفي (ت430هـ). 3 - كتاب «الهداية إلى بلوغ النهاية في علم معاني القرآن وتفسيره وأحكامه وجمل من فنون علومه»، لمكي بن أبي طالب (ت437هـ). ¬

(¬1) ينظر: (ص442) من رسالة ماجستير بعنوان «الأدفوي مفسراً، وتحقيق سورة الفاتحة» للباحث عبد الله بن عبد الغني كحيلان، قدمها لقسم القرآن وعلومه بكلية أصول الدين بجامعة الإمام، عام 1405هـ. (¬2) تفسير سورتي الفاتحة والبقرة من تفسير مكي، تحقيق زارة صالح، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في الدراسات الإسلامية، جامعة سيدي محمد عبد الله (ص90).

قال مكي (ت437هـ): «جمعت فيه علوماً كثيرة، وفوائد عظيمة من تفسيرٍ مأثورٍ أو معنى مفسَّرٍ، أو حكمٍ مبينٍ، أو ناسخٍ أو منسوخٍ، أو شرحِ مشكلٍ، أو بيان غريبٍ، أو إظهار معنى خفيٍّ، مع غير ذلك من فنون علوم كتاب الله جلَّ ذكره؛ من قراءةٍ غريبةٍ، أو إعرابٍ غامضٍ أو اشتقاق مشكلٍ، أو تصريف خفيٍّ، أو تعليل نادر، أو تصرف فعل مسموع مع ما يتعلق بذلك من أنواع علوم يكثر تعدادها، ويطول ذكرها، جعلته بداية إلى بلوغ النهاية في كشف علم ما بلغ إليَّ من علم كتاب الله تعالى ذكره، وما وقفت على فهمه، ووصل إليَّ علمُه من ألفاظ العلماء، ومذاكرات الفقهاء، ومجالس القراء، ورواية الثقات من أهل النقل والروايات، ومباحثات أهل النظر والدراية» (¬1). 4 - كتاب «التحصيل لفوائد كتاب التفصيل الجامع لعلوم التنْزيل» لأحمد بن عمار، المعروف بالمهدوي (ت440هـ). قال: «وأنا مبتدئ إن شاء الله في نظم هذا المختصر الصغير، مجتهد أن أجمع فيه جميع أغراض الجامع الكبير من الأحكام المجملة، والآيات المنسوخة، وأحكامها المهملة، والقراءات المعهودة المستعملة، والتفسير والغريب والمشكل والإعراب والمواعظ والمثال والآداب، وما تعلق بذلك من سائر علوم التنزيل المحتملة للتأويل، ويكون المحذوف من الأصل ما أنا ذاكره في هذا الفصل فأحذفه من الأحكام الذي هي أصول الحلال والحرام أكثر تفريع المسائل المنثورة مما ليس بمنصوص في السورة، وأقتصر من ذكر الاختلاف على الأقوال المشهورة، وأذكر الناسخ والمنسوخ بكماله وأورده مختصراً على أتم أحواله، وأذكر القراءات السبع في الروايات التي اقتصر عليها أهل الأمصار، سوى من لم يبلغ مبلغهم من الاشتهار إلا ما لا اختلاف فيه بين السبعة القراء، فإني أذكره منسوباً إلى بعض من روى عنه القراء ليعرف من هذا الاختصار ما هو من القراءات ¬

(¬1) تفسير سورتي الفاتحة والبقرة من تفسير مكي، تحقيق زارة صالح (ص89).

المروية مما لم يُقرأ به قارئ، وإن كان جائزاً في العربية، وأذكر من مسائل الإعراب الخفية ما يحتاج إليه، مما اختلف القراء فيه، أو كان جائزاً في المقاييس العقلية، فإذا أكملت السورة من هذا المختصر جمعت في آخره أصول القراءات واختصار التعليل فيها، وأصول مواقف القراءة ومبادئها؛ ليجمع ـ بعون الله وتوفيقه ـ هذا الاختصار ما لم تجمعه الدواوين الكبرى، ولتكون أغراض الجامع مضمنة فيه، ومجملة في معانيه. وأجعل ترتيب السور مفصلاً، ليكون أقرب متناولاً، فأقول: القول من أول سورة كذا إلى موضع كذا منها، فأجمع من آيِهَا عشرين آية أو نحوها، بقدر طول الآية وقصرها. ثم أقول الأحكام والنسخ وأذكرهما. ثم أقول التفسير فأذكره. ثم أقول القراءات فأذكرها. ثم أقول الإعراب فأذكره. ثم أذكر الجزء الذي يليه حتى آتي على آخر الكتاب إن شاء الله على ما شرطته فيه، وأذكر في آخر كل سورة موضع نزولها، واختلاف أهل الأمصار في عددها، وأستغني عن تسمية رؤوس آيها، وأبلغ غاية الجهد في التقريب والقصد ...» (¬1). 5 - كتاب «البستان في علوم القرآن»، لأبي القاسم هبة الله بن عبد الرحيم بن إبراهيم الحموي (ت738هـ). قال الحموي: «أما بعد: فهذا كتاب «البستان في علوم القرآن»، قصدت فيه الاختصار مع البيان، وجمع الفوائد مع الإتقان، راجياً به ـ لي ¬

(¬1) التحصيل «تحقيق سورتي الفاتحة والبقرة، ص5 - 6» للباحث علي بن محمود بن سعيد هرموش، رسالة مرقومة على الآلة الكاتبة، بمكتبة قسم القرآن وعلومه بكلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.

ولمحصليه ـ الغفران، والرحمة من الله والرضوان، ويشتمل على أنواع من علوم الكتاب العزيز؛ المسمى بـ «الفرقان»: النوع الأول: معرفة تفسير غريب اللفظ والمعنى، وأسباب النُّزول، والقصص، وما صحَّ من المنسوخ على ما ذهب إليه في ذلك كل من يُعتمد عليه. النوع الثاني: معرفة المبهمات من الأسماء والأنساب، وضمائر الغيبة والخطاب، والعدد، والمدد، واختلاف الأقوال في ذلك ... الثالث: معرفة قراءات الأئمة السبعة رحمة الله عليهم، ولكل إمام منهم راويان ... الرابع: معرفة الوقوف والموقوف عليه إن لم يتوقف فهمه على ما بعده وبالعكس، فالوقف لازم إن اختلَّ المعنى بالوصل، وتامٌّ إن لم يختل، ولم يكن للثاني تعلق بالأول ... الخامس: معرفة خط الإمام مصحف عثمان بن عفان ... السادس: معرفة عدد آي كل سورة (العدد الكوفي)، وكونها مكية أو مدنية أو مختلفاً فيها، وذلك مذكور في أول كل سورة. السابع: معرفة رؤوس الآيات وأخماسها وأعشارها، والمختلف في كونه آية أو غير آية بين الكوفيين وغيرهم ... الثامن: معرفة أجزائه الثلاثين وأخماسها وأنصافها وأنصاف أسداسها وأسباع القرآن وأرباع الأسباع ...» (¬1)، ثم شرع في تفسير الاستعاذة والبسملة والفاتحة حتى ختم كتابه بتفسير سورة بالناس. ولا يعني أن هذه التفاسير تختلف في مادتها العلمية عن التفاسير السابقة، لكن المقصود أن مؤلفيها قد رتبوها ترتيباً متوافقاً مع أنواع علوم القرآن، أو قصدوا ذكر جملة من علوم القرآن قصداً مباشراً، وهذا مما لا يحسن إغفاله في نشأة علوم القرآن. ¬

(¬1) البستان في علوم القرآن (مخطوط، لوحة 1 أـ ب).

الثانية: ظهور مجموعة من الكتب التي جمعت أنواعاً من أنواع علوم القرآن، ومن المطبوع من هذه الكتب: 1 - «فهم القرآن» للحارث المحاسبي (ت243هـ). 2 - «التَّنبيه على فضل علوم القرآن»، لأبي القاسم الحسن بن محمد بن الحسن بن حبيب (ت406هـ) (¬1). 3 - «فنون الأفنان في علوم القرآن»، لابن الجوزي (ت597هـ). 4 - «جمال القراء، وكمال الإقراء»، لعلم الدين السخاوي (ت643هـ). 5 - «المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز»، لأبي شامة المقدسي (ت665هـ). ويلاحظ في رصد ما كُتِب في علوم القرآن في هذه المرحلة أمور: الأول: إنَّ بعض كتب التفسير عُنونت من قِبَلِ مؤلفيها بعلوم القرآن أو أحد مرادفاته، فهي وإن كانت لا تخلو من علوم القرآن لكنها سارت على منهاج كتابة التفسير المعروفة، وهي تفسير الآيات آيةً آية، وهي بهذا تكون في علم التفسير الذي هو جزء من علوم القرآن. ومن هذه الكتب التي سارت على هذه الطريقة مع أن عنوان الكتاب في علوم القرآن: 1 - «الجامع لعلم القرآن»، لعلي بن عيسى الرماني المعتزلي (ت384هـ)، وهو مخطوط، والموجود منه جزء صغير. 2 - «التسهيل لعلوم التنْزيل»، لابن جزي الكلبي (ت741هـ)، وهو مطبوع. الثاني: إن إدخال كتاب في علوم القرآن لا يلزم أن يكون من أجل ¬

(¬1) حققه محمد بن عبد الكريم الراضي، مجلة المورد: م17، ع4، سنة 1408هـ 1988م (ص305 - 322)؛ وقد حققته الدكتورة نورة الورثان، وطبعته في كتاب، ويظهر أنها لم تطلع على تحقيق محمد الراضي؛ لأنها لم تذكره، وقد طبعته تحت عنوان «التنْزيل وترتيبه».

تسميته بهذا الاسم، بل الصحيح أن يُنظر إلى محتواه، لذا يُعدُّ كتاب «فهم القرآن» للحارث المحاسبي (ت243هـ)، وكتاب «جمال القراء وكمال الإقراء» لعلم الدين السخاوي (ت643هـ) من كتب علوم القرآن لقيام الكتابين على جملة من علوم القرآن، أما لو كانت علوم القرآن جزءاً من موضوع الكتاب، وليست قصداً كما في كتاب «الرسالة» للشافعي (ت204هـ) = فإنه لا يُعدُّ من كتب علوم القرآن. وعلى هذا التصنيف، فإن أول كتاب وصل إلينا في علوم القرآن هو كتاب الحارث المحاسبي (ت243هـ). الثالث: أنه اتسعت الكتابة وكثرت في مجال كتب التفسير، والكتب المفردة في علوم القرآن، لكن لم يصلنا كتاب متكاملٌ يقصد جمع كل علوم القرآن.

المرحلة الثالثة: الجمع الكلي من كتاب البرهان للزركشي إلى كتاب الإتقان للسيوطي

المرحلة الثالثة الجمع الكلي من كتاب «البرهان» للزركشي (ت794هـ) إلى كتاب «الإتقان» للسيوطي (ت911هـ) في هذه الفترة التي بين ظهور أول كتاب يجتهد في جمع أنواع علوم القرآن، وظهور كتاب السيوطي الذي صار عمدةً في كتب علوم القرآن تجد الآتي: أولاً: لا زال التصنيف في التفسير مستمراً، ومن ذلك: 1 - «التقييد الكبير في تفسير كتاب الله المجيد»، لأحمد بن محمد البسيلي التونسي (ت830هـ)، وقد طُبِع منه إلى تفسير سورة آل عمران. 2 - «الجواهر الحسان في تفسير القرآن»، للثعالبي الجزائري (ت875هـ)، وهو مطبوع. 3 - «نظم الدرر في تناسب الآيات والسور» لبرهان الدين البقاعي (ت885هـ)، وهو مطبوع. ثانياً: لا زال التصنيف في علوم القرآن المفردة مستمراً، ومن ذلك: 1 - «العجاب في بيان الأسباب»، لابن حجر العسقلاني (ت852هـ)، وهو مطبوع. 2 - «مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور» لبرهان الدين البقاعي (ت885هـ)، وهو مطبوع. 3 - «كشف السرائر في معاني الوجوه والأشباه والنظائر» لابن العماد (ت887هـ)، وهو مطبوع. ثالثاً: ظهر بعض التصنيفات التي تتسم بالجمع الجزئي، ومن ذلك:

«التيسير في قواعد علم التفسير»، لمحمد بن سليمان الكافِيَجِي (ت879هـ)، وهو مطبوع. رابعاً: ظهرت محاولات أخرى ـ غير ما ذهب إليه الزركشي ـ للجمع الشمولي لعلوم القرآن، ومن هذه: 1 - «مواقع العلوم من مواقع النجوم» للبلقيني (ت824هـ). ويعدُّ تصنيفه لأنواع علوم القرآن من أجود أنواع التصانيف لها، وهي ـ كما نقلها السيوطي (ت911هـ) ـ كالآتي: «الأمر الأول: مواطن النُّزول وأوقاته ووقائعه، وفي ذلك اثنا عشر نوعاً: المكي، المدني، السفري، الحضري، الليلي، النهاري، الصيفي، الشتائي، الفراشي، النومي، أسباب النُّزول، أول ما نزل، آخر ما نزل. الأمر الثاني: السند، وهو ستة أنواع: المتواتر، الآحاد، الشاذ، قراءات النبي صلّى الله عليه وسلّم، الرواة الحفاظ. الأمر الثالث: الأداء، وهو ستة أنواع: الوقف، الابتداء، الإمالة، المد، تخفيف الهمزة، الإدغام. الأمر الرابع: الألفاظ، وهو سبعة أنواع: الغريب، المعرب، المجاز، المشترك، المترادف، الاستعارة، التشبيه. الأمر الخامس: المعاني المتعلقة بالأحكام، وهو أربعة عشر نوعاً: العام الباقي على عمومه، العام المخصوص، العام الذي أريد به الخصوص، ما خص فيه الكتاب السُّنة، ما خصصت فيه السُّنة الكتاب، المجمل، المبين، المؤول، المفهوم، المطلق، المقيد، الناسخ، والمنسوخ، نوع من الناسخ والمنسوخ وهو ما عمل به من الأحكام مدة معينة والعامل به واحد من المكلفين. الأمر السادس: المعاني المتعلقة بالألفاظ، وهو خمسة أنواع: الفصل، الوصل، الإيجاز، الإطناب، القصر. وبذلك تكملت الأنواع خمسين، ومن الأنواع ما لا يدخل تحت

الحصر: الأسماء، الكنى، الألقاب، المبهمات، فهذا نهاية ما حصر من الأنواع» (¬1). 2 - «الفوائد الجميلة على الآيات الجليلة»، لأبي علي الحسين بن علي الرجراجي (ت899هـ)، وهو مطبوع. 3 - «التحبير في علوم التفسير»، للسيوطي (ت911هـ)، وقد بنى كتابه على كتاب البلقيني (ت824هـ)، حيث قال: «... فصنفت في ذلك كتاباً سميته التحبير في علوم التفسير ضمنته ما ذكر البلقيني من الأنواع مع زيادة مثلها وأضفت إليه فوائد سمحت القريحة بنقلها». وبالنظر إلى أنواع علوم القرآن التي كتبها الزركشي (ت794هـ) في «البرهان في علوم القرآن»، والبلقيني (ت824هـ) في «مواقع العلوم من مواقع النجوم»، والسيوطي (ت911هـ) في «التحبير في علم التفسير»، وفي «الإتقان في علوم القرآن» = يظهر أثر بعض العلوم في منهج كتابة أنواعٍ من علوم القرآن، فتجد جملة من مسائل علم الأصول، وعلوم البلاغة العربية، وعلوم الحديث قد دخلت في تصنيف أنواع علوم القرآن، حتى صارت كأنها منه عند قوم، ومُنْتَقَدَةٌ بكونها من هذه العلوم عند آخرين، وقد سبقت الإشارة إلى شيءٍ من سبب دخولها في كتب علوم القرآن (¬2). ¬

(¬1) الإتقان، للسيوطي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم (1:5). (¬2) ينظر: (ص23 - 24).

المرحلة الرابعة: ما بعد الإتقان للسيوطي

المرحلة الرابعة ما بعد «الإتقان» للسيوطي بعد كتاب «الإتقان» يكاد يكون التأليف في علوم القرآن قد توقف سوى بعض كتبٍ ظهرت إما تشقيقاً لما ذكره السيوطي (ت911هـ)، كما فعل محمد بن أحمد بن عقيلة المكي (ت1150هـ) في كتابه «الزيادة والإحسان في علوم القرآن»، وإما كتابةً لبعض أنواع علوم القرآن، كما فعل طاهر الجزائري (ت1338هـ) في كتابه «التبيان لبعض المباحث المتعلقة بالقرآن على طريق الإتقان». ولما دخلت مادة (علوم القرآن) في مناهج الجامعات ظهرت مجموعة من كتب علوم القرآن لأعضاء هيئة التدريس الذين درَّسوا هذا المنهج، فكان منها ما هو عالي الجودة في التأليف، وكان منها ما هو نقل بلا زيادة ولا تحقيق، ومن أهم الكتب المعاصرة التي أفرزها تدريس هذه المادة في الجامعات: 1 - «مناهل العرفان في علوم القرآن»، لمحمد عبد العظيم الزرقاني (ت1367هـ)، وقد ألَّفه لطلاب الدعوة والإرشاد في كليات الأزهر. وقد جاء أسفل عنوان الكتاب العبارة الآتية: (طبق ما قرره مجلس الأزهر الأعلى في دراسة تخصص الكليات الأزهرية). 2 - «مباحث في علوم القرآن»، للدكتور صبحي الصالح (ت1407هـ)، وقد كان الكتاب إثر محاضرات كان يلقيها خلال عامين على طلابه في شهادة علوم اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة دمشق، وطُبع عام (1387/ 1967م).

وقد تميَّز هذان الكتابان بحسن العرض، وترتيب المعلومات، والأسلوب الأدبي الرشيق في عرض المادة العلمية، والاعتناء بالرد على شبه المستشرقين. 3 - «مباحث في علوم القرآن»، لمناع خليل القطان (ت1420هـ)، وقد كتبه لطلاب جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في تخصص القرآن وعلومه، وقد استُفيد منه في تدريس هذه المادة في جامعة الإمام وغيرها، كما أضاف إليه المؤلف إضافات قبل وفاته. ويمتاز هذا الكتاب بجودة التنظيم، وحسن ترتيب المعلومات مع سهولة في العبارة، مما جعله ملائماً للمنهج الدراسي في الجامعة.

قراءات مقترحة في موضوع: نشأة علوم القرآن 1 - «دراسات في علوم القرآن»، للأستاذ الدكتور فهد بن عبد الرحمن الرومي. 2 - «علوم القرآن بين البرهان والإتقان»، للدكتور حازم سعيد حيدر. 3 - كتاب «مناهل العرفان» للزرقاني: دراسة وتقويم، للدكتور خالد بن عثمان السبت. 4 - «علوم القرآن من خلال مقدمات المفسرين»، للدكتور محمد صفا شيخ إبراهيم حقي. وفي هذا الموضوع رسائل علمية نوقشت، لكنها غير مطبوعة، وهي تحت العناوين الآتية: 1 - «تاريخ علوم القرآن الكريم حتى نهاية القرن الخامس»، للباحث أحسن بن سخاء بن محمد شرف الدين (كلية القرآن الكريم بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية). 2 - «تاريخ علوم القرآن من بداية القرن السادس إلى نهاية القرن العاشر»، للدكتور محمد بن حميد بن محمد القرشي (كلية القرآن الكريم بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية). بحوث مقترحة في موضوع: نشأة علوم القرآن 1 - مصطلح علوم القرآن ومرادفاته في أحاديث النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكذا في آثار الصحابة والتابعين وأتباعهم، ويكون ذلك باستقراء تفسيراتهم، وكتبهم المتعلقة بنوع من أنواع علوم القرآن، وكلام بعضهم في تقويم الرجال، حيث تجد وصفهم لبعض الأعلام بأنهم من العلماء العارفين بعلوم القرآن.

وهذا النظر في الأحاديث والآثار سيبين مراداتهم في إطلاق هذا المركب أو أحد مرادفاته. 2 - مصطلح علوم القرآن في كتب تراجم الأئمة الأعلام، وهو بحث كثير المواضع؛ لأنه سيكون فيه تتبع لكتب التراجم عبر القرون، واستخلاص هذا المصطلح ومفرداته، والنظر في مراد من أطلقه. ينظر مثلاً: التراجم الآتية من كتاب تاريخ بغداد (6: 248)، (7: 341)، (10: 123)، (12: 34). 3 - تتبع مقدمات المفسرين لمعرفة أنواع علوم القرآن التي ذكروها في مقدماتهم، ومعرفة علاقتها بالتفسير عموماً، وأثرها في تفسير المفسر الذي ذكرها على وجه الخصوص. 4 - معرفة المفسرين الذين قصدوا ترتيب كتبهم في التفسير على بعض أنواع علوم القرآن. 5 - النظر في كتب علوم القرآن وتدرجها في ذكر أنواع علوم القرآن، والموازنة فيها بين ذكر هذه الموضوعات، فعلى سبيل المثال: الموازنة بين الموضوعات التي ذكرها ابن الجوزي (ت597هـ) في كتابه «فنون الأفنان في علوم القرآن»، والموضوعات التي طرحها السخاوي (ت643هـ) في كتابه «جمال القراء وكمال الإقراء».

الفصل الثالث: الفرق بين علوم القرآن وأصول التفسير

الفصل الثالث الفرق بين علوم القرآن وأصول التفسير

إذا رجعت إلى بعض الكتب التي صُدِّرت عناوينها بأصول التفسير، ونظرت إلى مادتها فإنك ستجد أغلب مباحثها في علوم القرآن، ككتاب «الفوز الكبير في أصول التفسير» (¬1) لأحمد بن عبد الرحيم الدهلوي (ت1176هـ)، وكتاب «أصول في التفسير» للشيخ محمد بن عثيمين (ت1422هـ)، فهل (أصول التفسير) هي (علوم القرآن)؟ لا شكَّ أنَّ اختلاف الإضافات تدلُّ على اختلاف المصطلحات، إلا إذا كان المضاف إليه له أكثر من نظير في معناه؛ كالذي سبق في مصطلح «علوم التَّنْزيل»، ومصطلح «علوم الكتاب»، وأمثالها (¬2). لكن الأمر هنا يختلف فالتفسير غير القرآن، لذا فأصول التفسير ليست هي علوم القرآن. وإذا تأمَّلت الأمر وجدت أنَّ التفسير جزءٌ من علوم القرآن، بل هو أكبر علومه. فالتفسير ـ الذي هو بيانُ القرآنِ وشرحُه وإيضاحُه ـ من علوم القرآن، وفي علوم القرآن غير التفسير من العلوم، وقد تكون بعض علومه مشتركة بين التفسير وعلوم القرآن، وهذا أمر معتاد، فكل ما هو من علوم التفسير، فهو من علوم القرآن قطعاً، وقد يكون إفراد هذه العلوم بعناوين مستقلة في كتب علوم القرآن مظنَّة الخلط الذي يقع بين المصطلحين؛ كعلم «غريب القرآن» الذي كتب فيه كتاباً مستقلاً جمهور من علماء اللغة المتقدمين، ¬

(¬1) أغلب مسائل الكتاب في أنواع من علوم القرآن، منها: العلوم الخمسة التي بينها القرآن العظيم بطريق التنصيص «علم الجدل، علم الأحكام، وعلم التذكير بآلاء الله، وعلم التذكير بآيام الله، وعلم التذكير بالموت وما بعد الموت» الفوز الكبير (ص19). (¬2) ينظر: (ص25).

وشاركهم فيه كثير من المتأخرين، هو من علوم التفسير لأن التفسير لا يقوم بدونه، وهو من باب أولى من علوم القرآن أيضاً. لكن علم (عدِّ الآي) من علوم القرآن وليس من علوم التفسير؛ لأن علم التفسير يقوم بدونه. أما أصول التفسير فإنه أخصُّ من علوم التفسير، والمسائل التي تُدرسُ في الأصول غالباً ما تمثِّل شكل القاعدة التي يندرج تحتها أمثلة متعددة، وتكون من مبادئ هذا العلم، ويغلب عليها الجانب التطبيقي، ومن عرفها فإنه يسهل عليه ممارسة علم التفسير. وأصول التفسير تشتمل على المبادئ والأسس التي يحتاج إليها من يريد قراءة التفسير أو من يريد التفسير؛ ليعرف بها القول الصواب من الخطأ. ويمكن اختصار القول هنا بما يأتي: 1 - إن كانت المعلومة ـ من علوم القرآن ـ لا أثر لها في فهم المعنى، فهي من علوم القرآن وليست من علوم التفسير؛ كمعرفة فضائل سورة الإخلاص، فإنها من علوم القرآن لكن معرفتها أو جهلها لا يؤثر في فهم المعنى. 2 - وإن كانت من المعلومات التي تؤثر في فهم المعنى؛ كمعرفة غريب الألفاظ، فهذا من علوم التفسير، ومن علوم القرآن من باب أولى. وإن كانت المعلومة تمثِّل أصلاً أو أساساً يُرجع إليه لمعرفة التفسير من حيث الصحة والبطلان، ومن حيث توجيه أقوال المفسرين، فإنها تكون من أصول التفسير، ومن باب أولى أن تكون من علوم التفسير، فعلوم القرآن. ومثال ذلك: أن يعرف طالب علم التفسير مصطلح السلف في النسخ؛ لأن عدم معرفة مصطلحهم تؤثر في فهم تفسيراتهم وتوجيهها إذا وردت عن أحدهم في موطن لا يصلح للنسخ كالأخبار، فإذا وردت عبارة النسخ في

تفسير واحد من السلف في خبر من الأخبار أجزم بأنه لا يريد النسخ الاصطلاحي، بل يريد التنبيه على وقوع رفعٍ لجزء من معنى الآية؛ كأن يكون بيان مجمل، أو تخصيص عموم، أو تقييد مطلق، أو بيان وقوع استثناءٍ .. الخ. ومن الأمثلة الواردة في إطلاق السلف لفظ النسخ على الخبر، ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما (ت68هـ) في قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224]، قال أبو جعفر النحاس (ت338هـ) «قد أدخل هذه الآيات بعض الناس في الناسخ والمنسوخ، حدثنا أبو الحسن علي بن أحمد، قال: حدثنا محمد بن هشام، قال: حدثنا عاصم بن سليمان، عن جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} قال: «نسختها الآية التي بعدها»؛ يعني: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشعراء: 227]» (¬1). فقوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224] خبرٌ، والخبرُ لا يُنسخ، بمعنى رفعه بالكلية، وليس هذا مراد ابن عباس رضي الله عنهما (ت68هـ) بالنسخ هنا النسخ الكلي، وإنما مراده النسخ الجزئي، وهو تخصيص العموم الذي في قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224] بالاستثناء الوارد بعده في قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشعراء: 227]، والله أعلم. وفي الختام، فإنَّ علم أصول التفسير جزء من علوم التفسير، وعلوم التفسير جزء من علوم القرآن، والله أعلم. ¬

(¬1) الناسخ والمنسوخ للنحاس، تحقيق الدكتور سليمان اللاحم (2:572).

الباب الثاني: نزول القرآن وجمعه

الباب الثاني نزول القرآن وجمعه الفصل الأول: الوحي. الفصل الثاني: نزول القرآن. الفصل الثالث: المكي والمدني. الفصل الرابع: أسباب النزول. الفصل الخامس: جمع القرآن.

الفصل الأول: الوحي

الوحي وفيه مبحثان: المبحث الأول: كيفية الوحي. المبحث الثاني: أنواع الوحي.

• علاقة هذا النوع بأنواع علوم القرآن الأخرى: الكلام في الوحي ـ كما هو ظاهر ـ مرتبط بعلم (نزول القرآن)، وهو كالمقدمة له، ولا يصلح تأخير بحثه فيكون بعد بحث (نزول القرآن)؛ لأن موضوع (كيفية نزوله) في علم (نزول القرآن) مرتبط بكيفية الوحي للرسول صلّى الله عليه وسلّم.

الوحي نزل جبريل عليه السلام بالقرآن على محمد صلّى الله عليه وسلّم في غار حراء، وكان ذلك أول بدءٍ للوحي بنُزول القرآن الكريم، لذا كان الحديث عن الوحي ونزول القرآن متلازمين لا ينفكان، وسيكون الحديث هنا عن الوحي من حيث كونه أساس نزول القرآن، ثمَّ عن نزول القرآن الكريم. قال ابن فارس (ت395هـ): «الواو والحاء والحرف المعتل أصل يدل على إلقاء علم في خفاءٍ، أو غيره إلى غيرك. فالوحي: الإشارة، والوحي: الكتابة والرسالة، وكل ما ألقيته إلى غيرك حتى عَلِمَهُ فهو وحي؛ كيف كان ...» (¬1). وكل ما ذُكر من أنواع الوحي ـ كالإلهام، والرمز، والإشارة، والأمر، والكتابة ـ فإنها لا تخرج عن معنى (إلقاء علمٍ في خفاء). أما الوحي الوارد في الكتاب والسنة فقد ورد في مواضع كثيرة تربو على المائة موضع (¬2)، وهو على أنواع متعددة، وقد ذكرت آية سورة الشورى أعلى هذه الأنواع التي يقع فيها سماع كلام الله، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ ¬

(¬1) مقاييس اللغة، مادة (وحى)، وقريب من ذلك ما ذكره الراغب الأصفهاني: «أصل الوحي: الإشارة السريعة، ولتضمُّن السرعة قيل: أمرٌ وحيٌ، وذلك يكون بالإعلام على سبيل الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرَّدٍ عن التركيب، وبإشارةٍ ببعض الجوارح، وبالكتابة ...». مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق: صفوان داودي (ص858). (¬2) يلاحظ في ورود الوحي أنه قد يكون بلفظ الوحي ومشتقاته، أو بعبارة تدل على الوحي؛ كالنُّزول، وغيرها، في مثل قوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء: 193].

رَسُولاً فَيُوحِي بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى: 51]. ذكرت هذه الآية ثلاثة أنواع من أنواع الوحي، وهي كالآتي: 1 - أن يلقي كلامه على النبي بكيفية غير معتادة فيعيه. 2 - أن يكلمه مباشرة من وراء حجاب، فلا يرى النبي ربه، لكن يسمع كلامه، وقد وقع هذا لموسى عليه السلام في بدء وحيه، وفي ميعاده مع ربه لأخذ الشريعة التي كانت في الألواح. وحصل لنبينا محمدٍ صلّى الله عليه وسلّم في معراجه، حيث أخذ الأمر بالصلاة عن ربه مباشرة. 3 - أن يرسل رسولاً من الملائكة، وغالباً ما يكون المرسَل جبريل عليه السلام إن كان الأمر يتعلق بالنبوة والشريعة (¬1)، وقد يرسل غيره لأمور أخرى، كما هو وارد في الآثار. والوحي الذي يُنْزله الله بواسطة الملك جبريل على نبي من أنبيائه هو الغالب على الوحي إلى الأنبياء، فنُزول الملك جبريل عليه السلام على أحد من البشر إيذانٌ ببدء الوحي. وهو من أمور الغيب التي يختص بها النبي المرسل، لذا فإن الاجتهاد في تقريب صورة الوحي إلى الأذهان بأمر من الأمور المحسوسة غير دقيق، ولا يمكن تقريب صورة الوحي هذه، كما اجتهد في تقريبها بعض المعاصرين. كما أن ما يحكيه بعضهم من كيفية إتيان الملك للرسول صلّى الله عليه وسلّم من أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم ينخلع من صورة البشرية إلى صورة الملكية، فذلك مما لا دليل عليه. ومن ثَمَّ، فالوحي بلغة القرآن والسنة: إعلام الله لنبي من أنبيائه ¬

(¬1) من الملاحظ أنه لم ترد تفاصيل في كيفية وحي الله لأنبيائه، لكن هناك آثار تدل على أن المكلف بالوحي جبريل عليه السلام، ولم يخرج عن هذا الأسلوب من الإعلام بالنبوة سوى موسى عليه السلام حيث كان الوحي إليه مباشراً من الله، لذا لُقِّب بكليم الله، وكذا نزول الشريعة عليه، حيث أخذ الألواح في ميعاده مع ربه بعد تمام أربعين ليلة.

• بكيفية معينة ـ بنبوته، وما يتبعها من أوامر ونواهٍ وأخبار. والآيات الدالة على الوحي بهذا المعنى كثيرة، منها قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} [النساء: 163]، وكقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الشورى: 7]، وغيرها من الآيات التي ينصُّ فيها على وحيه لأنبيائه أو وحيه لنبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم؛ إما بلفظ الوحي ومشتقاته، وإما بغيره مما يدل عليه كلفظ النُّزول ومشتقاته.

المبحث الأول: كيفية الوحي

المبحث الأول كيفية الوحي قد ورد في السنة ما يدل على كيفية الوحي والحال التي يكون عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أثناء تلقيه له، ومن ذلك ما ورد عن الحارث بن هشام رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كيف يأتيه الوحي؟ عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله. كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلاً، فيكلمني، فأعي ما يقول». قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته ينْزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقاً (¬1). والسؤال ـ كما هو ظاهر من جوابه ـ متوجه إلى كيفية نزول الوحي بواسطة جبريل عليه السلام، وأنه كان ينْزل بهاتين الطريقتين، وفي الحديث إجمال، حيث لم يذكر هل ينْزل القرآن بهاتين الطريقتين أم بأحدهما؟ والحالة الأولى هي الحالة الأظهر في ذلك؛ لأنه صلّى الله عليه وسلّم كان يعالج شدة أثناء نزول الوحي عليه، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ *إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 16 - 17]. قال ابن عباس رضي الله عنهما (ت68هـ): «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعالج من التنْزيل شدة، وكان مما يحرك شفتيه ـ فقال ابن عباس: فأنا أحركهما لكم كما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ¬

(¬1) رواه مالك في موطئه برقم (474)؛ والبخاري برقم (2)؛ ومسلم برقم (2333).

يحركهما، وقال سعيد: أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما، فحرك شفتيه ـ فأنزل الله تعالى: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ *إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 16 - 17]» (¬1). وهذه الحالة الغريبة كانت مثار الاستفسار، ومدعاة لطلب رؤيتها كما حصل من بعض الصحابة رضي الله عنهم، فعن صفوان بن يعلى عن أبيه رضي الله عنه قال: «كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأتاه رجل عليه جبة بها أثر من خلوق، فقال: يا رسول الله. إني أحرمت بعمرة فكيف أفعل؟ فسكت عنه فلم يرجع إليه، وكان عمر رضي الله عنه يستره إذا أنزل عليه الوحي يظله، فقلت لعمر رضي الله عنه: إني أحب إذا أنزل عليه الوحي أن أدخل رأسي معه في الثوب، فلما نزل عليه خَمَّرَهُ عمر رضي الله عنه بالثوب، فجئته، فأدخلت رأسي معه في الثوب، فنظرت إليه، فلما سُرِّيَ عنه قال: أين السائل آنفا عن العمرة؟ فقام إليه الرجل، فقال: انزع عنك جبتك، واغسل أثر الخلوق الذي بك، وافعل في عمرتك ما كنت فاعلاً في حجِّك» (¬2). وهذا يدل على أن حالة الوحي هذه قد تكون في غير القرآن، كما هو ظاهر هذا الخبر، والله أعلم. أما مجيئه إليه بالصورة البشرية فلم يرد فيه الوحي بالقرآن بها سوى خبر الحارث بن هشام رضي الله عنه المجمل، وإنما الوارد في أمور أخرى، كما وقع في تعليم الناس أمور الدين في حديث جبريل عليه السلام الطويل في سؤاله الإسلام والإيمان والإحسان وأشراط الساعة (¬3)، وكان كثيراً ما يتمثَّل بصورة الصحابي دحية الكلبي رضي الله عنه (¬4). وإجابة النبي صلّى الله عليه وسلّم للحارث بن هشام تشير إلى أن مصطلح الوحي ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (5). (¬2) أخرجه مسلم برقم (1180). (¬3) أخرجه البخاري برقم (50) عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ ومسلم برقم (9) عن عمر رضي الله عنه. (¬4) انظر على سبيل المثال: البخاري برقم (3634)؛ ومسلم (2451) عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما.

عندهم قد غلب على مجيء جبريل عليه السلام بالوحي دون سواه من أنواع الوحي، لذا لا حاجة إلى الاستفسار عن سبب تركه صلّى الله عليه وسلّم لأنواع الوحي الأخرى، والله أعلم. مسألة: هل وقع الوحي بالقرآن بغير الطريق المشهور؟ عن أنس رضي الله عنه قال: «بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسماً، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: أنزلت علي آنفا سورة فقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ *فَصَلِّ لِرَّبِكَ وَانْحَرْ *إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر: 1 - 3]» (¬1). هل يدل حديث أنس رضي الله عنه على أن سورة الكوثر نزلت مناماً، وليس في الحال المشهورة للوحي؟ إنه لو كان هذا وقع، فإنه لا شيء يخلُّ بقرآنية سورة الكوثر؛ لأنَّ رؤيا الأنبياء وحي، والنبي صلّى الله عليه وسلّم تنام عيناه ولا ينام قلبه، وقد رأى في منامه من الوحي الشيء الكثير. لكن حمل عبارة أنس رضي الله عنه: «أغفى إغفاءة» على الحالة التي كانت تعتري الرسول صلّى الله عليه وسلّم أثناء الوحي أولى؛ لأن كون الرسول صلّى الله عليه وسلّم في المسجد، وبين أظهرهم يُبعِد أن يقع منه نومٌ، فتلك مخالفة للمعتاد من حاله مع أصحابه، أما وقوع الوحي، وهو بينهم، فهذا كثيرٌ جدّاً، والله أعلم. كما يُلاحظ أنَّ عباراتهم عن هذه الحالة تختلف من صحابي إلى آخر، فقد ورد عن صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه رضي الله عنه حكاية هذه الحال، حيث ذكر: أن رجلا أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو بالجعرانة وعليه جبة وعليه أثر الخلوق أو قال صفرة فقال كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي؟ فأنزل الله على النبي صلّى الله عليه وسلّم فستر بثوب ووددت أني قد رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد أنزل عليه الوحي فقال عمر: تعال أيسرك أن تنظر إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد أنزل عليه ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (400).

الوحي؟ قلت: نعم، فرفع طرف الثوب فنظرت إليه له غطيط ـ وأحسبه قال: ـ كغطيط البكر فلما سري عنه قال: «أين السائل عن العمرة؟ اخلع عنك الجبة واغسل أثر الخلوق عنك وأنق الصفرة واصنع في عمرتك كما تصنع في حجك» (¬1). تنبيه: يقع سؤال مهم، وهو هل هناك مانع عقلي أو شرعي يمنع أن ينْزل جبريل بالقرآن بطريق من طرق الوحي المعروفة غير نزوله الذي يكون بهيئته الملكية؛ كأن يأتي النبي (ص) بصورة بشرية أو يأتيه في المنام؟ الذي يظهر أنه ليس هناك ما يمنع ... ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (1789)؛ ومسلم برقم (1180).

المبحث الثاني: أنواع الوحي

المبحث الثاني أنواع الوحي لو تُتُبِّعت استعمالات الوحي في القرآن والسنة لظهر سوى هذه الأنواع المذكورة من الوحي، ويمكن إجمالها فيما يأتي: الأول: الوحي إلى الأنبياء بأي نوع من أنواع الوحي غير الصريح؛ كالإلهام أو الإلقاء في الروع، والمنام في مثل قوله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102]، بدلالة ردِّ ابنه إسماعيل عليه السلام عليه بقوله: افعل ما تؤمر، فهو وحي. الثاني: وحي الله لغير أنبيائه من البشر؛ كوحيه لأم موسى، في قوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7]. الثالث: وحي الله لملائكته، كما وقع في قصة بدر، في قوله تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12]. الرابع: وحي الله لبعض مخلوقاته غير العاقلة، كوحيه للنحل، في قوله تعالى {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل: 68]، ووحيه إلى السماء في قوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت: 12]، ووحيه للأرض في قوله تعالى: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة: 5].

بحوث مقترحة في موضوع: الوحي 1 - وقع في تعريف الوحي اختلاف في ضابط الوحي، فبعضهم اكتفى بأنه (إعلام على وجه الخفاء)، وبعضهم زاد معنى السرعة، فجعله (إعلام على وجه الخفاء والسرعة)، ويمكن أن يقوم الطالب بالنظر في الأنواع المذكورة من الوحي، وينظر ما ينطبق من هذه الضوابط على الأنواع جميعاً، وما ينطبق على بعض دون بعض. 2 - من الموضوعات الطريفة في الوحي؛ جمع الأوصاف التي عبر عنها الصحابة حال الوحي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الغطيط والإغماءة وتفصد العرق وغيرها.

الفصل الثاني: نزول القرآن

الفصل الثاني نزول القرآن وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: ابتداء النُّزول وكيفيته المبحث الثاني: أول ما نزل من القرآن المبحث الثالث: نزول القرآن على سبعة أحرف

• علاقة هذا النوع بأنواع علوم القرآن الأخرى: يرتبط هذا النوع من أنواع علوم القرآن بالوحي، وبعلم (أسباب النُّزول)، وبعلم (المكي والمدني)، وبعلم (نزول القرآن على سبعة أحرف)، ووجه ارتباطه بها كونه لا نزول للقرآن إلا بالوحي، ولا سبب نزول بلا نزول، ولا مكي أو مدني بلا نزول، ولا يوجد حرف مقروء به إلا وهو نازل، فهو كالمقدمة لهذه الموضوعات.

المبحث الأول: ابتداء النزول وكيفيته

المبحث الأول ابتداء النُّزول وكيفيته ابتداءُ النُّزول: كان نزول جبريل عليه السلام على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في غار حراء مؤذنٌ ببداية النبوة، وقد نزل بالآيات الخمس الأولى من سورة العلق، وهي قوله تعالى: {اقْرَا بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ *خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ *اقْرَا وَرَبُّكَ الأَكَرَمُ *الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ *عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 - 5]. وقد أشارت ثلاث آيات إلى بداية النُّزول، وذلك قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185]، وقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ *فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 3 - 4]، وقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]. وهذه الآيات في ظاهرها تشير إلى أول نزولٍ للقرآن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأنه كان في ليلة القدر من شهر رمضان، وهذا النُّزول على الرسول صلّى الله عليه وسلّم هو الذي يتعلق به هداية الناس في قوله تعالى: {هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185]. النُّزول الجُملي: ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] أنه نزل إلى سماء الدنيا، فعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: في قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} قال: «أنزل القرآن في ليلة القدر جملة واحدة إلى سماء الدنيا، كان بموقع النجوم،

فكان الله ينْزله على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعضه في إثر بعض، قال عزّ وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان: 32]» (¬1). وهذا الخبر الغيبي الذي لا يُدرك إلا بالخبر قد صحَّ عن ابن عباس رضي الله عنهما (ت68هـ)، وليس له مخالفٌ من الصحابة، ولا يُحتمل أن يكون من مرويات بني إسرائيل؛ لأنه خبر إسلامي. ولا يقع فيه شبهة أن يكون من مرويات بني إسرائيل؛ لذا فإنه يُقبلُ ويُحتجُّ به. وهذا النُّزول الجملي لا يتعارض مع النُّزول الابتدائي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا مانع من أن يتفق النُّزولان في أن يكونا في ليلة القدر، فتكون الآية محتملة للأمرين معاً، ويكون ابن عباس رضي الله عنهما (ت68هـ) أراد التنبيه على هذا النوع من النُّزول الذي لا يدرك إلا بالخبر، بخلاف النوع الثاني الذي يدلُّ عليه ظاهر التَّنْزيل، والله أعلم. وهذا النُّزول الجملي لا تتعلق به أحكام سوى بيان شرف هذه الأمة وفضلها؛ إذ نزوله بهذه الصفة دون غيره من الكتب إيذان بتميُّزها عن غيرها، والله أعلم. ولما كان هذا النُّزول الجملي من المغيبات، فإنه يخرج عن السؤالات التكييفية، فالبحث في كيفية هذا النازل، وفي أحواله من ترتيبه وكيفية تدوينه، أو القول بنُزول آيات فيه لم يقع مضمونها؛ كل هذا من اقتحام كيفيات الغيبيات، وهو من المتشابه الكلي الذي لا يعلمه إلا الله، ولو رُدَّ مثل هذا بهذه الحجة لوقع الردُّ لبعض الغيبيات بمثلها، وذلك مما لا مجال للعقل فيه، فيؤمن به، ويُسلَّم له، واتباع ابن عباس رضي الله عنهما (ت68هـ) أولى من اتباع بعض المتأخرين ممن استشكل هذا الخبر. أما جبريل عليه السلام فكان يتلقاه مباشرة عن ربِّ العالمين بلا واسطة، لا ¬

(¬1) رواه الحاكم في مستدركه (2:222)؛ وأخرجه أيضاً البيهقي في السنن الكبرى (4:306).

كما وقع الوهم عند بعض العلماء، فظنَّ أن جبريل عليه السلام يأخذه من السفرة في بيت العزَّة فيُنجِّمه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فهذا النُّزول الجملي متعلق بأهل السماء الدنيا؛ إذ ليس فيه أثر يتعلق بأهل الأرض، أما ابتداء نزوله الذي قال الله فيه: {هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185] فهو متعلق بأهل الأرض؛ لأن فيه هدايتهم كما نصت الآية. النُّزول المفرَّق: القرآن جزء من الوحي الذي كان ينْزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان من حكمة الله الخبير الموافقة لمواقع الأمور أن يجعل بعض القرآن متوافقاً في نزوله مع ما يحدث في أيام نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم، بحيث يكون فيه حلٌّ لإشكالات تقع، وإرشادٌ في مسائل تحدث، وتثبيتٌ لقلب النبي صلّى الله عليه وسلّم في قضاء وقع ... إلخ ذلك مما تقتضيه الحاجة من نزول بعض الآيات والسور. وقد تتابع تنْزيله على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طوال فترة بعثته على حسب الخلاف الوارد في مدة نبوته (عشرين سنة، أو ثلاثٍ وعشرين سنة) (¬1). النُّزول السنوي: هذا النوع من النُّزول مما لم يُشر إليه من كَتب في تنَزلات القرآن، وقد أشار إليه مقاتل بن سليمان (ت150هـ) في تفسيره لقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]، قال: «قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} يعني القرآن؛ أنزله الله عزّ وجل من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، إلى السفرة ـ وهم الكتبة من الملائكة ـ وكان ينْزل تلك الليلة من الوحي على قدر ما ينْزل به ¬

(¬1) اتفق العلماء على أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكث عشر سنين بعد الهجرة، ووقع خلافهم في المدة التي مكثها في مكة هل هي عشرٌ أو ثلاث عشرة سنة؟ والثاني هو الصحيح؛ لأنه صلّى الله عليه وسلّم نُبِّئ وعمره أربعون سنة، وتوفي صلّى الله عليه وسلّم وعمره ثلاثٌ وستون سنة، والله أعلم.

جبريل عليه السلام على النبي صلّى الله عليه وسلّم في السنة كلها إلى مثلها من قابل، حتى نزل القرآن كله في ليلة القدر من شهر رمضان من السماء» (¬1). وهذا المعنى الذي أشار إليه مقاتل من كونه ينْزل إلى السفرة في ليلة القدر من كل سنة إبَّان بعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم ما سينْزل عليه خلال السنة = موافق لما قيل من أنَّ الله يقدِّر في ليلة القدر مقادير السنة الآتية، ويُنْزلها إلى الكتبة من الملائكة. فوائد تنجيم النُّزول: إنَّ الله سبحانه قادر على أن يكون كتابه على طريقة الكتب السابقة التي نزلت جملة واحدة؛ كالتوراة التي تضمنت التشريع (¬2)، والإنجيل الذي تضمَّن المواعظ، وأن يكون ما يحدث من الوقائع منصوصاً عليه بالنوع الآخر من الوحي، وهو السنة، كما هو الحال في بعض الأحكام التي حكم الله بها، وذكرها في السنة لا في القرآن، لكنه قد قضى ـ بعلمه الكامل وحكمته التامة ـ أن يكون نزول القرآن منجَّماً (مفرَّقاً) حسب الوقائع والأحداث، وأن يكون متضمناً لأنواع ما تضمنته الكتب السابقة من الشرع والوعظ والأخبار. ومن ثمَّ فإنَّ البحث في فوائد تنجيم القرآن ينطلق من هذا القَدَرِ الذي جعله الله للقرآن. ومن فوائد تنجيمه ما يأتي: 1 - تثبيت فؤاد الرسول (ص) بسبب ما يلاقيه من عنت المشركين، ¬

(¬1) تفسير مقاتل، ط. دار الكتب العلمية (3:503). (¬2) ذهب إلى هذا الرأي كثير من العلماء، وقد أخذوا ذلك من جملة من الدلائل؛ كقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان: 32]، قال ابن جريج: «قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} كما أنزلت التوراة على موسى»، ويشهد لهذا قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَامُرْ قَوْمَكَ يَاخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} [الأعراف: 145]، وما كتب له هو التوراة.

فينْزل القرآن عليه ليهبه ذلك التَّنَزل طمأنينةً وثباتاً، كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان: 32]. وهذه الآية صريحة بفائدة تنجيمه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (¬1). ولقد كان تأخر الوحي عن رسول الله (ص) يقلقه كثيراً، حتى كاد يخاف انقطاعه كما حصل فيما ذُكِر من سبب نزول سورة الضحى، التي ورد فيها الطمأنة له برضى ربه عنه، فقال: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى: 3]. 2 - مواكبة الحوادث والمسائل التي تقع في عصر النبوة، إذ كان الوحي ينْزل بشأنها؛ إمَّا قرآنٌ، وإما غير ذلك، تلك الحوادث والمسائل هي أسباب النُّزول التي صارت علماً مهمّاً لمن أراد أن يفسر القرآن. 3 - التدرج في التشريع وبيان الأحكام والحدود، فالشريعة لم تنْزل جملة واحدة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بل كان ينْزل منها الشيء بعد الشيء من تفاصيل الأحكام والحدود حتى اكتملت الشريعة وتمَّ الدين. وإذا تأمَّلت هذه الفوائد وجدتَ ما نصَّ عليه القرآن من أن المراد تثبيت الرسول صلّى الله عليه وسلّم هي الفائدة العظمى في التنجيم؛ لأنه لا مانع عقلاً ولا واقعاً من بيان هذه الأحكام والحوادث بوحي غير القرآن الكريم، لكن هذه الفوائد ترتَّبت على تنجيم النُّزول فحسب، والله أعلم. ¬

(¬1) إن قال قائل: ألم يلاق الأنبياء العنت من أقوامهم، فكيف وقع اختصاص التنجيم بالقرآن؟ والجواب: إن الدلائل التي سبقت الإشارة إليها في نزول كتب الله السابقة جملة والآيات التي ذكرت تنجيم القرآن على نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم تشير إلى هذا المعنى. ولا يخفى على القارئ أن الوحي قد ينْزل بغير الكتب، وهذا الطريق كثير في سِير الأنبياء، فتقع معالجة بعض الأمور به، وقد حصل ذلك لجميع الأنبياء بلا استثناء، والتدليل عليه أوضح من أن يُذكر، ويمكن النظر في سبب قصة موسى مع الخضر، وغيرها كثير. والمقصود أن نزول الوحي ـ عموماً ـ تثبيت للأنبياء، وكان في تنجيم القرآن مزيد اختصاص في تثبيت نبينا صلّى الله عليه وسلّم، والله أعلم.

كيفية إنزاله: لما ثبت النُّزول الجملي بقول ابن عباس رضي الله عنهما (ت68هـ) إلى سماء الدنيا = أوهم على بعض العلماء أن جبريل عليه السلام يأخذه من السفرة في بيت العزَّة، وقد دعا إلى ذلك اعتقادهم بالكلام النفسي، ونفيهم أن يكون الله تكلم بصوت وحرف يسمعه جبريل عليه السلام، ونقاش ذلك محله كتب العقائد، لكننا نثبت يقيناً أن الله تكلم بهذا الوحي، وسمعه جبريل عليه السلام من ربه، وأنزله على محمد صلّى الله عليه وسلّم كما سمعه لفظاً ومعنى، وليس له فيه إلا أداء الرسالة (¬1). وقد ورد الحديث ببيان كيفية سماع الوحي في السماء عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: إن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله؛ كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق وهو العلي الكبير» (¬2) الحديث. وقال مسروق عن ابن مسعود رضي الله عنه: «إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات شيئاً فإذا فزع عن قلوبهم وسكن الصوت عرفوا أنه الحق ونادوا: ماذا قال ربكم قالوا الحق». والقرآن من الوحي الذي يسمعه جبريل عليه السلام من ربه مباشرة بلا واسطة، وينْزل به على محمد صلّى الله عليه وسلّم، ولا شأن لغيرهما به، كما قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ *بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 193 - 195]. • * * ¬

(¬1) وقع عند السيوطي (ت911هـ) وغيره خلل في (كيفية إنزاله على النبي صلّى الله عليه وسلّم)، وقد ذكر مذاهب فيها خلل، وسبب ذلك الخلل يرجع إلى القول في القرآن، وللمذاهب الإسلامية في (القرآن) مذاهب معروفة؛ كالقول بخلق القرآن، والقول بالكلام النفسي وأن القرآن عبارة عنه ... فذكر مذاهب أهل الكلام، ولم يذكر مذهب السلف. (¬2) أخرجه البخاري برقم (4800).

المبحث الثاني: أول ما نزل من القرآن

المبحث الثاني أول ما نزل من القرآن لم يقع خلاف بين العلماء في أن أول ما نزل من القرآن على الإطلاق هو أول خمس آيات من سورة العلق، فقد ثبت ذلك بالدليل الصريح، فعن محمد بن شهاب الزهري عن عروة بن الزبير أخبره أن عائشة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم قالت: (كان أول ما بدئ به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبِّبَ إليه الخلاء، فكان يلحق بغار حراء، فيتحنَّثُ فيه ـ قال والتَّحنُّثُ: التعبد ـ الليالي ذوات العدد قبل أن يرجع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود بمثلها، حتى فَجَأَه الحقُّ وهو في غار حراء، فجاءه الملك، فقال: اقرأ. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما أنا بقارئ. قال: فأخذني، فغطَّني حتى بلغ مني الجَهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارئ. فأخذني، فغطَّني الثانية حتى بلغ مني الجَهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارىء. فأخذني، فغطَّني الثالثة حتى بلغ مني الجَهد، ثم أرسلني، فقال: {اقْرَا بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ *خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ *اقْرَا وَرَبُّكَ الأَكَرَمُ *الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ *عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 - 5]. فرجع بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ترجف بوادره حتى دخل على خديجة، فقال: «زَمِّلُوني زَمِّلُوني». فزمَّلوه حتى ذهب عنه الرَّوع. قال لخديجة: «أي خديجة، ما لي؟ لقد خشيت على نفسي». فأخبرها الخبر. قالت خديجة: كلا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبداً، فوالله إنك

لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَصْدُقُ الحديثَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتُكْسِبُ المعدومَ، وتَقْرِي الضيفَ، وتُعِينُ على نوائب الحقِّ. فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل ـ وهو ابن عم خديجة أخي أبيها، وكان امرأً تنَصَّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي، ويكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخّاً كبيراً قد عَمِيَ ـ فقالت خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك. قال ورقة: يا ابن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره النبي (ص) خبر ما رأى. فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى. ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حيّاً ـ ذكر حرفاً ـ (¬1). قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أو مخرجي هم؟». قال ورقة: نعم، لم يأت رجل بما جئت به إلا أوذي، وإن يدركني يومك حيّاً أنصرك نصراً مؤزراً. ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفَتَرَ الوحيُ فترةً حتى حزن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم) (¬2). وهذا صريح في أن أول نزولٍ للقرآن كان في غار حراء، وأن أول ما نزل منه هذه الآيات الخمس من أول سورة العلق. بيد أنه ورد عن جابر بن عبد الله المدني رضي الله عنهما خلاف ذلك، حيث جعل سورة المدثر أول ما نزل. روى البخاري بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يحدث عن فترة الوحي، فقال في حديثه: «فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء، فرفعت رأسي، فإذا المَلَكُ الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فجثيت منه رعباً، فرجعت، فقلت: زَمِّلُوني ¬

(¬1) هكذا جاءت هذه الكلمة في هذه الرواية، وفي رواية أخرى عند البخاري برقم (4): «ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك ...». (¬2) أخرجه البخاري برقم (4، 4954)؛ ومسلم برقم (160).

زمِّلوني، فدثروني، فأنزل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ *قُمْ فَأَنْذِرْ *وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ *وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ *وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 1 - 5]» (¬1). وفي رواية أخرى عن يحيى بن أبي كثير قال: «سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن قال: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}. قلت: يقولون: {اقْرَا بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}! (¬2). فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن ذلك، وقلت له مثل الذي قلت، فقال جابر: لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «جاورت بحراء، فلما قضيت جواري هبطت، فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً، ونظرت أمامي فلم أر شيئاً، ونظرت خلفي فلم أر شيئاً، فرفعت رأسي فرأيت شيئاً، فأتيت خديجة، فقلت: دثروني وصبوا علي ماءً بارداً، قال: فدثروني وصبوا علي ماءً بارداً، قال: فنَزلت: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ *قُمْ فَأَنْذِرْ *وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}». وقد أشكل جواب جابرٍ رضي الله عنه هذا على حديث عائشة رضي الله عنها أن أول ما نزل من القرآن الآيات الخمس الأولى من سورة العلق، وقد خرَّجه العلماء بعدد من التخريجات، لكن بعضها فيه نظر، ومن أحسن ما يمكن أن يُجاب عنه في هذا المقام ما يأتي: أن جابراً لم يكن على علم بما نزل في غار حراء، وإن كان في حديثه إشارة إلى نزول جبريل عليه السلام على محمد صلّى الله عليه وسلّم في الغار، وإنما سمع حديثه عن نزول الملك بآيات سورة المدثر، ولم يكن قد ذُكر له نزول آيات قبل سورة المدثر، فحكم بأنها أول ما نزل. ومن التخريجات التي خُرِّج بها حديث جابر ـ وفيها نظر ـ ما يأتي: 1 - أن يكون السؤال وقع عن أول سورة كاملة، فأجاب جابرٌ رضي الله عنه بأنها سورة المدثر. ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (4925)؛ ومسلم برقم (161). (¬2) أخرجه البخاري برقم (4922).

وهذا التخريج لا يسلم؛ لأنه السؤال عن أول ما نزل، وليس فيه أول سورة نزلت فيمكن أن يُخرَّج بهذا التخريج احتمالاً. 2 - أن تكون الأولية مخصوصة؛ إما بما بعد فترة الوحي، وإما بالأمر بالإنذار. وهذا التخريج لا يسلم؛ لأن السؤال صريح في أنه عن أول ما نزل، وليس في الأثر ما يدل على الأولية المخصوصة، وكونه ورد في حديث جابر رضي الله عنه «سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يحدث عن فترة الوحي» فإنه لا يدل على أن جابراً رضي الله عنه أراد الأولية المخصوصة؛ لأن السؤال كان مطلقاً عن أول ما نزل، ولم يكن عن أولية مخصوصة (¬1). والصحيح أن أول ما نزل على الإطلاق أول خمس آيات من سورة العلق، وأن أول ما نزل بعد فترة الوحي سورة المدثر، والله أعلم. ¬

(¬1) ينظر في هذه التخريجات: الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم (1:69 - 70).

مراجع مقترحة في موضوع: نزول القرآن 1 - «نزول القرآن»، لشيخ الإسلام ابن تيمية (ت728هـ). 2 - «الجواب الواضح المستقيم في كيفية نزول القرآن الكريم»، لمفتي المملكة العربية السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (ت1389هـ). 3 - «نزول القرآن»، للأستاذ الدكتور محمد بن عبد الرحمن الشايع. والكتابة في هذا المبحث لا تكاد تختلف في كتب علوم القرآن سواءً أكانت متقدمة ـ كالبرهان والإتقان ـ أم كانت من كتب المعاصرين، سوى ما يذكره بعض المعاصرين من زيادات في بعض فوائد التنجيم. بحوث مقترحة في موضوع: نزول القرآن 1 - (دراسة أثر ابن عباس في النُّزول الجملي) وتكون دراسته من جهة السند، ومن جهة دلالة المتن وفوائده العلمية. 2 - دراسة الأوليات والآخريات النسبية، من قولهم: أول ما نزل، وقولهم: آخر ما نزل. 3 - ومن موضوعات نزول القرآن الاختلاف في أول ما نزل من القرآن، وقد بحثه كثيرون، وخلصوا إلى أن أول ما نزل على الإطلاق هو أول سورة العلق. وهناك أوليات نسبية مرتبطة ببعض الأحكام، وهي كثيرة، وفائدتها تظهر في معرفة (الناسخ والمنسوخ)، وفي معرفة (التدرج في التشريع).

المبحث الثالث: نزول القرآن على سبعة أحرف

المبحث الثالث نزول القرآن على سبعة أحرف • علاقة هذا النوع بأنواع علوم القرآن الأخرى: يرتبط هذا المبحث بعلم (نزول القرآن) فهو جزء منه، ثم ينبثق منه (علم القراءات)، إذ مرجع القراءات إلى هذه الأحرف التي نزل بها القرآن، كما أن من كتب في علوم القرآن جعل له علاقة بنوعين آخرين، وهما (جمع القرآن) و (رسم المصحف).

نزول القرآن على سبعة أحرف

نزول القرآن على سبعة أحرف نزل التخفيف على الأمة بالأحرف السبعة كما نصَّت على ذلك جملة الأحاديث الواردة في الأحرف السبعة، ويمكن استخلاص عددٍ من الفوائد من أحاديث نزول القرآن على أحرف سبعة مباشرة، وسأذكر بعض هذه الأحاديث، ثم أذكر بعض الفوائد المستنبطة منها، ثم أذكر ما في الموضوع من مسائل أخرى. أولاً: الأحاديث وما فيها من فوائد: 1 - روى البخاري عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاري أنه قال: «سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أقرأنيها، وكِدت أن أعجل عليه، ثم أمهلته حتى انصرف، ثم لَبَبْتُه بردائه، فجئت به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: إني سمعت هذا يقرأ على غير ما أقرأتنيها. فقال لي: «أرسله». ثم قال له: اقرأ. فقرأ. قال: «هكذا أُنزلت». ثم قال لي: اقرأ. فقرأت، فقال: هكذا أُنزلت، إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا منه ما تيسر» (¬1). 2 - وروى أيضاً عن عبيد الله بن عبد الله أن ابن عباس رضي الله عنهم حدثه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أقرأني جبريل على حرف فراجعته فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف» (¬2). ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (2419). (¬2) أخرجه البخاري برقم (4991).

3 - وروى عن أُبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان عند أضاة (¬1) بني غفار، قال: فأتاه جبريل عليه السلام، فقال: إن الله يأمرك أن تَقْرَأَ أمَّتُك القرآنَ على حرف. فقال: «أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك». ثم أتاه الثانية، فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتُك القرآن على حرفين. فقال: «أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك». ثم جاءه الثالثة، فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف. فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك. ثم جاءه الرابعة، فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف، فأيما حرف قرؤوا عليه فقد أصابوا» (¬2). 4 - وروى أيضاً عن أُبي بن كعب رضي الله عنه قال: «كنت في المسجد، فدخل رجل يصلي، فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل آخر، فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه. فلما قضينا الصلاة دخلنا جميعاً على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، ودخل آخر، فقرأ سوى قراءة صاحبه. فأمرهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقرآ، فَحَسَّنَ النبي صلّى الله عليه وسلّم شأنهما، فسقط في نفسي من التكذيب، ولا إذ كنت في الجاهلية، فلما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما قد غشيني ضرب في صدري، ففضت عرقاً، وكأنما أنظر إلى الله عزّ وجل فَرَقاً، فقال لي: «يا أُبَيُّ، أُرسِل إليَّ أن أقرأ القرآن على حرف، فرددت إليه: أن هَوِّن على أمتي، فَرَدَّ إليَّ الثانية: اقرأه على حرفين، فرَدَدْتُ إليه: أن هوِّن على أمتي، فَرَدَّ إليَّ الثالثة: اقرأه على سبعة أحرف، فلك بكل رَدَّةٍ رَدْدْتُكها مسألةٌ تسألنيها، فقلت: اللهم اغفر لأمتي اللهم اغفر لأمتي، وأَخَّرْتُ الثالثة ليوم يرغب إليَّ الخلق كلهم حتى إبراهيم عليه السلام» (¬3). ¬

(¬1) الأضاة: الماء المستنقع كالغدير. (¬2) أخرجه مسلم برقم (821). (¬3) أخرجه مسلم برقم (820).

فوائد هذه الأحاديث: 1 - أن نزول الأحرف السبعة كان في المدينة بدلالة قوله: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان عند أضاة بني غفار»، وهو موضع ماء في المدينة نزل فيه رهط أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، فَنُسِب إليهم (¬1). ويضاف إلى هذا ما ورد من استنكار أُبَي بن كعب لما سمع من الصحابيين غير ما سمعه هو من النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأُبَي كان في المدينة، ولو كانت الأحرف نزلت في مكة لما وقع هذا الاستنكار الذي يدل على ورود أمر جديد فيما يتعلق بقراءة القرآن. 2 - أن القرآن في العهد المكي، وفترة من العهد المدني كان يقرأ على لغة قريش لسان النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولم يرد أنه قرأه بغير ذلك. 3 - أن هذه الأحرف نزلت من عند الله، بدلالة قوله صلّى الله عليه وسلّم: «هكذا أنزلت»، وهذا يعني أنه لا يصح أن يُترك من هذه الأحرف إلا ما أذن الله بتركه. 4 - أنه لا يمكن معرفة الأحرف إلا من طريق الرسول صلّى الله عليه وسلّم، خلافاً لمن ذهب إلى جواز القراءة بالمعنى. 5 - أن هذه الأحرف نزلت بالتدريج، بعد مراجعة النبي صلّى الله عليه وسلّم لربه أن يزيد من الأحرف رفقاً بأمته. 6 - أن العدد سبعة يقصد به العدد المعروف، وهو ما بين الستة والثمانية، بدلالة قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أقرأني جبريل على حرف، فراجعته فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف»، وهذا فيه دلالة على الحدِّ خلافاً لمن ذهب إلى أن المراد بالسبعة التكثير في العدد، كما يستعمله ¬

(¬1) قال في معجم ما استُعجم (1:164): «أضاة بني غفار بفتح أوله واحدة الإضاء موضع بالمدينة روى أبو داود من طريق شعبة عن الحكم عن مجاهد عن ابن أبي ليلى عن أُبي بن كعب أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان عند أضاة بني غفار فأتاه جبريل فقال له إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف».

العرب في العدد سبعة ومضاعفاته أحياناً، وإرادة المضاعفة خروج عن الأصل، فهو يحتاج إلى قرينة، والقرينة في الأحاديث خلافه، والله أعلم. 7 - أن هذا الاختلاف كان له أثر كبير على بعض كبار الصحابة من القراء، إذ استنكر القراءة بغير ما أقرأه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ـ كما حصل لعمر مع حكيم بن حزام (¬1) ـ حتى بيَّن لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه أقرأ بها وأنها أنزلت من عند الله. 8 - أن القراءة بأي حرف من الأحرف السبعة تعتبر قرآناً، وبأيها قرأ القارئ فهو مصيب. 9 - أن الرسول الكريم؛ الرحمة المهداة من ربِّ العالمين صلّى الله عليه وسلّم طلب المزيد من الأحرف تخفيفاً على أمته، وتوسيعاً عليها في القراءة، وذلك في قوله: «أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك»، وقد ورد في بعض طرق حديث الأحرف السبعة تفصيل آخر، فقد روى الإمام أحمد بسنده عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لقيت جبريل عليه السلام عند أحجار المراء، فقال: يا جبريل إني أرسلت إلى أمة أمية: الرجل والمرأة والغلام والجارية والشيخ الفاني الذي لا يقرأ كتاباً قط، قال: إن القرآن نزل على سبعة أحرف» (¬2)، وفي تحديد هذه الفئات أمران: الأول: أنَّ الذي يصعب على الأميِّ هو ما يعود إلى ما تعوَّده من ¬

(¬1) روى البخاري (2419) بسنده عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَؤُهَا وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم أَقْرَأَنِيهَا فَكِدْتُ أَنْ أَعْجَلَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَمْهَلْتُهُ حَتَّى انْصَرَفَ ثُمَّ لَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ فَجِئْتُ بِهِ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّى سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَاتَنِيهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «أَرْسِلْهُ اقْرَا». فَقَرَأَ الْقِرَاءَةَ الَّتِى سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «هَكَذَا أُنْزِلَتْ». ثُمَّ قَالَ لِيَ: «اقْرَا». فَقَرَاتُ فَقَالَ: «هَكَذَا أُنْزِلَتْ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ». (¬2) المسند (5:400)؛ وأخرجه أيضاً الترمذي (2944) من حديث أُبي بن كعب رضي الله عنه، وقال: حسن صحيح.

النطقِ، فإن نزوع أمثال هؤلاء عن طريقة منطقهم تحتاج إلى تعلُّمٍ وتكلُّفٍ، والله أعلم. الثاني: أنَّ أغلب اختلاف الأحرف السبعة يرجع إلى طريقة النطق، وإنما جاء ذكر التيسير بهذه الصورة في الحديث على الأسلوب النبوي الشرعي في نسبة الكلِّ إلى أعظم جزءٍ فيه؛ كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «الحج عرفة» (¬1)، مع أنَّ في الحجِّ أركاناً غير الوقوف بعرفة، وإنما المراد التنبيه على أهمية هذا الركن من أركان هذا الحجِّ، وأنَّ من فاته فقد فاته الحجُّ، وفي سنته من الأمثلة المشابهة لذلك عدد غير قليل. والمقصود أنه لا يلزم أن يكون كل اختلافٍ في هذه الأحرف لا يستطيعه من ذكرهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم، بل قد يستطيعونه، والله أعلم. ومن المهم ملاحظة أن التخفيف على الأمة بالأحرف السبعة لم ينقطع، فالرسول صلّى الله عليه وسلّم استزاد لأمته كلها، وليس لزمن من أزمانها دون غيره، وهذه الملحوظة يحسن التنبه لها في كل الأحاديث التي يرد فيها ذكر أمته صلّى الله عليه وسلّم. ثانياً: الاختلافات الواردة في القراءات القرآنية من خلال القراءات المشهورة إذا اجتهدت في حصر أنواع الأوجه القرائية التي وقع فيها الاختلاف في هذه القراءات = فإنه سيظهر لك أنواع كثيرة، ومنها على سبيل المثال: 1 - الفك (الإظهار) والإدغام (قد سمع، قسَّمع). 2 - الإمالة والفتح (والضحى). 3 - القصر والمد. 4 - التسهيل والتحقيق (أاعجمي، أأعجمي). ¬

(¬1) أخرجه أحمد (4:309)؛ والترمذي (889)؛ والنسائي (3016)؛ وابن ماجه (3015) كلهم عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي. وصححه ابن خزيمة (2822)؛ والحاكم (2:278) وسكت عنه الذهبي.

5 - التحقيق والإبدال (يؤمنون، يومنون). 6 - الإبدال بين الحروف (كالسين والصاد)، والمعنى واحد. وهذه الأنواع ترجع إلى الأداء، فهي من علم الصوتيات المرتبط باختلاف لهجات قبائل العرب. 7 - الزيادة والنقصان (أوصى، وصَّى)، (تجري من تحتها، تجري تحتها). 8 - اختلاف الإعراب (فتلقى آدمُ من ربه كلماتٍ، فتلقى آدمَ من ربه كلماتٌ). 9 - الخطاب والغيبة (يعلمون، تعلمون). 10 - التذكير والتأنيث (كان سيئُه، كان سيئةً) (كالذي استهوته، كالذي استهواه). 11 - تغيير الكلمة ومعناها (تبلوا، تتلوا)، (بظنين، بضنين). وغالب هذه الاختلافات تعود إلى الرسم الذي هو فرع عن القراءة الصحيحة، بحيث لو لم يرد الاختلاف في القراءة الصحيحة لما قرئ به لو وافق الرسم. وهذه الاختلافات موجودة في القراءة المشهورة المقبولة، ولو تتبعتَ القراءات الشواذ لما بَعُدَ أن يوجد إضافة إلى هذا. ثالثاً: علاقة القراءات بالأحرف السبعة: وقع الخلاف بين العلماء هل أبقى عثمان على شيء من الأحرف أم اختار واحداً وترك الباقي؟ وهذا الاختلاف ينبني على فهم مدلول الأحرف، وسيأتي بيانه. لكن المراد هنا الانطلاق من الاختلاف الكائن في القراءات المشهورة المتلقاة بالقبول من لدن علماء الأمة، وهي القراءات العشر المنسوبة لقارئيها.

وإذا انطلقت من أنواع الوجوه القرائية التي ذكرتها لك، ورتبتها على اختلاف العلماء في فعل عثمان، فإنه سيظهر لك ما يأتي: 1 - أن من يقول بأن عثمان رضي الله عنه أبقى حرفاً واحداً فقط، فهذا يعني أن وجوه الاختلاف الواردة في القراءات ليست من الأحرف في شيء، وأمامك احتمالان في بقية الأحرف: الأول: أن يكون هذا الاختلاف في القراءات وارداً مع كل حرف من الأحرف التي لا نعلم ماهيتها بسبب ترك الصحابة لها، فاختلاف القراءات شيء، والأحرف شيء آخر. وذلك احتمال يدور حوله تساؤلات كثيرة، منها: كيف غاب عن الأمة ما هو منَزل من أجل التخفيف عليها؟ أفكان التخفيف لأجل سنين معدودة ثم زال سببه؟! الثاني: أن يكون هذا الاختلاف في القراءات على حرف واحدٍ، ولو بقيت لنا الأحرف الأخرى لخرج لنا اختلافات أخرى أكثر من هذه لكنها ذهبت مع ذهاب الأحرف الستة. وهذا فيه نظر أيضاً، فكيف لم يبقَ ما يدل عليها، ولو قليلاً؟ أفزالت بالكلية؟! وهذه القراءات الشاذة لا تختلف ـ من حيث العموم ـ عن أداء القراءات المقبولة المشهورة، فهل يصحُّ أن تكون هذه القراءات الشاذة قد حُفِظت، ويغيب عنا بقية الأحرف السبعة؟ وينتج عن هذا أن حلَّ الأحرف السبعة موجودٌ في وجوه القراءات؛ متواترها وشاذها؛ لأنه لا يُعقل أن تذهب هذه الأحرف بالكلية، ولا نرى بين أيدينا سوى هذه الأوجه المختلفة في القراءات، فصحَّ أن الأحرف لا تخرج عما هو بين أيدينا من هذه الأوجه المختلفة في القراءة. 2 - أن من يقول: إن عثمان لم يصنع شيئاً سوى أنه فرَّق ما في مصحف أبي بكر في المصاحف التي كتبتها اللجنة التي اختارها، فأبانَت

عما صحَّ أنه مقروءٌ في العرضة الاخيرة التي عرضها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على جبريل في آخر رمضان له صلّى الله عليه وسلّم = فأنه لا بدَّ أن يذهب إلى أن الأحرف السبعة باقية مبثوثة في هذا الاختلاف الوارد في القراءات، خلافاً لمن ذهب إلى أنه ترك ستة أحرف وأبقى واحداً. ما المراد بالأحرف السبعة، وهل بقيت؟ هذا الموضوع من المشكل الذي حارت فيه العلماء واختلفت فيه قَولَتُهُم، ولا يعني هذا أنه لا يمكن الوصول إلى القول الصواب في معنى هذه الأحرف، كما أن القول الصواب لا يخرج عن مجموع أقوالهم. لعلك تلاحظ أنَّ جيل الصحابة رضي الله عنهم قد مضى، ولم يحدث عندهم لبس في هذه الأحرف؛ إذ لم يأتِ عن أحدهم أنه استشكل معناها، ولا سأل عن فحواها، وإنما سمعوها من بعضهم أو سمعوها من النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي علمهموها، ووقع عند بعضهم ـ في أول الأمر ـ شكٌّ، ثمَّ زال عنه (¬1)، والمراد أنه قد انقضى هذا الجيل والأحرف السبعة معلومة لهم يقرؤون بها. وإنه كلما تباعد العصر عن عصرهم ازداد غموض هذه الأحرف، ويلاحظ أن بعض العلماء قد كثَّر عدد الاختلاف، حتى بلغت الأقوال عند ¬

(¬1) روى مسلم (820) بسنده عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ فَدَخَلَ رَجُلٌ يُصَلِّي فَقَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ ثُمَّ دَخَلَ آخَرُ فَقَرَأَ قِرَاءَةً سِوَى قِرَاءَةِ صَاحِبِهِ فَلَمَّا قَضَيْنَا الصَّلاَةَ دَخَلْنَا جَمِيعاً عَلَى رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم فَقُلْتُ: إِنَّ هَذَا قَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ وَدَخَلَ آخَرُ فَقَرَأَ سِوَى قِرَاءَةِ صَاحِبِهِ فَأَمَرَهُمَا رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم فَقَرَءَا فَحَسَّنَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم شَانَهُمَا فَسُقِطَ فِي نَفْسِي مِنَ التَّكْذِيبِ وَلاَ إِذْ كُنْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم مَا قَدْ غَشِيَنِي ضَرَبَ فِي صَدْرِي فَفِضْتُ عَرَقاً وَكَأَنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى اللهِ عزّ وجل فَرَقاً فَقَالَ لِي: «يَا أُبَيُّ أُرْسِلَ إِلَىَّ أَنِ اقْرَإِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي. فَرَدَّ إِلَيَّ الثَّانِيَةَ اقْرَاهُ عَلَى حَرْفَيْنِ. رَدَدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي. فَرَدَّ إِلَىَّ الثَّالِثَةَ اقْرَاهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَلَكَ بِكُلِّ رَدَّةٍ رَدَدْتُكَهَا مَسْأَلَةٌ تَسْأَلُنِيهَا. فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأُمَّتِي. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأُمَّتِي. وَأَخَّرْتُ الثَّالِثَةَ لِيَوْمٍ يَرْغَبُ إِلَيَّ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ حَتَّى إِبْرَاهِيمُ صلّى الله عليه وسلّم».

السيوطي في الإتقان أربعين قولاً، وذلك بالنظر إلى تعدد عبارات الأقوال دون النظر إلى تداخل بعضها في بعض، مع أنها عند التمحيص لا تتجاوز العشرة بحال. وليس المراد هنا ذكر هذه الأقوال والاعتراض عليها، فذلك موجود في جملة من المراجع (¬1)، وإنما أذكر لك هنا أحسن ما رأيت في تعريفها الذي يمكن أن يقال فيها: هي وجوه قرائية مُنَزَّلة متعددة متغايرة في الكلمة القرآنية الواحدة ضمن نوع واحد من أنواع التغاير (¬2). فإن قلت: هل يلزم أن تصل إلى سبعة أوجه؟ فالجواب: إن ذلك أقصى ما تصل إليه هذه الوجوه المنْزلة، فقد يكون في الكلمة الواحدة وجه أو وجهان أو ثلاثة إلى سبعة أوجه قرائية، ولا يمكن أن تزيد؛ لأنَّ هذا العدد مقصودٌ في التحديد، وليس المراد به التكثير، كما سبق التنبيه على ذلك. وإن قلت: لِمَ فسَّرت الأحرف بالوجوه القرائية؟ فالجواب: لأن ألفاظ الاحاديث تدل على أن هذه الأحرف شيء متعلق بالقراءة، وإنك مهما ذهبت في تفسيرها فلن تخرج عن كونها وجوهاً قرائية، وإنما سيقع الخلاف في أمرين: الأول: المراد بهذه الوجوه القرائية. والثاني: هل بقيت هذه الوجوه القرائية أم نُسِخت وتُرِكت؟ أما الأول: فإنه قد وقع اختلاف كثيرٌ في المراد بهذه الوجوه القرائية، والذي يظهر ـ والله أعلم ـ أن الوجوه القرائية ـ من حيث هي ـ أكثر من ¬

(¬1) ينظر: حديث الأحرف السبعة، للدكتور عبد العزيز بن عبد الفتاح القارئ، ط. مؤسسة الرسالة. (¬2) ينظر: حديث الأحرف السبعة، للدكتور عبد العزيز بن عبد الفتاح القارئ، ط. مؤسسة الرسالة (ص65).

سبعة وجوه (¬1)، لكن لم يجتمع في الكلمة الواحدة ضمن نوع واحد من أنواعها أكثر من سبعة. فإن قلت: هلاَّ مثَّلت بأمثلة توضح ذلك؟ فدونك أمثلة منها: 1 - لفظ «مجريها» في قوله تعالى: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود: 41]. • قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بفتح الميم مع الإمالة. • قرأ بضم الميم مع الإمالة أبو عمرو وابن ذكوان بخلف عنه. • قرأ الأزرق عن ورش بضم الميم مع التقليل. • قرأ الباقون بضم الميم من دون إمالة. وهذه الكلمة يتشكل منها أربعة أحرف، وهي: فتح الميم، وضم الميم، والفتح أو الإمالة أو التقليل، ويتركب منها بالجمع عدد من الأوجه، وما يتركب من الأوجه ليس هو الأحرف، وإنما الأصل الرباعي المذكور هو الأحرف في هذه الكلمة. 2 - لفظ إبراهيم في قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124]. • قرأ ابن ذكوان عن ابن عامر بخلف عنه (إبراهام). • وقرأ الباقون ـ وهو الوجه الثاني لابن ذكوان ـ (إبراهيم). فقراءة (إبراهيم) بهذين الوجهين من النطق هما حرفان من الأحرف المنْزلة. وقد سبقت الإشارة إلى جملةٍ من وجوه الاختلاف الكائن في القراءات الذي مردُّه إلى الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن. وأما الثاني، وهو هل بقيت هذه الوجوه القرائية أم نُسِخت وتُرِكت؟ ¬

(¬1) قد سبق تعداد جملة من وجوه الاختلاف في القراءات.

فالجواب: إنَّ القراءات التي وصلت إلينا تدلُّ على أنَّه قد تُرك بعض القراءات التي كان يُقرأ بها؛ لأن أعلى ما وصلنا من الوجوه القرائية المتواترة في الكلمة الواحدة خمسة أوجه، ومن أمثلة ذلك كلمة (جبريل) (¬1). ويرد السؤال المتوقع هنا، وهو لم لا نجد في كلمة سبعة أوجه من أنواع التغاير؟ فالجواب: لأنه قد وقع تركٌ لبعض الأوجه في العرضة الأخيرة، فكان ما بقي منها لم يتجاوز الخمسة، وهذا استدلال بالثابت من القراءات الموافقة للعرضة الأخيرة؛ لأن الأمة أمرت بأن تقرأ كما عُلِّمت، وما بلغنا صحيحاً مقبولاً (المتواتر) هو ما عُلِّمت وأريد لها أن تقرأ به، وما عداه ـ مما بأيدينا ـ فهو إما مما تُرك (نُسخ)، وإما مما لم يصحَّ رفع القراءة به إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم. وإذا كان قد ثبت أنَّ هناك قراءات صحيحة لا يُقرأ بها اليوم ـ كالقراءات الأربع المتممة للعشر، وككثيرٍ من أفراد القراءات التي ثبتت بأسانيد مفردة، كقراءة (والذكر والأنثى) التي ثبتت عن ابن مسعود وأبي الدرداء رضي الله عنهما، وغيرها ـ فإنَّ هذا مما يدلُّ على أنَّ هذه القراءات قد تُرِكت، وهي من الأحرف المنْزلة. ويمكن أن نقسم القراءات إلى أقسام ثلاثة: القسم الأول: القراءات المشهورة التي تلقتها الأمة بالقبول، وحكم عليها العلماء بالتواتر. القسم الثاني: القراءات الصحيحة التي لم تصل إلى حدِّ الشهرة والقبول، وقد تُرِكت القراءة بها. القسم الثالث: ما سوى ذلك مما يُنسب إلى بعض القراء أو غيرهم ¬

(¬1) ينظر: حديث الأحرف السبعة، للدكتور عبد العزيز بن عبد الفتاح القارئ، ط. مؤسسة الرسالة (ص76 - 77).

بلا سند، وتلك لا ترقى إلى حكم القسم الثاني فضلاً عن الأول؛ لذا قد يدخلها الخطأ، فهي لا تُحسب من القراءات عند التمحيص والتمييز والتحقيق. هل يجوز لأحد كائنٍ من كان أن يحذف ما ثبتت قرآنيته؟ الجواب ـ بلا شكٍّ ـ: لا. إذن؛ ما دامت قد ثبتت قرآنية هذه الكلمات المتروكة، وثبت أنها مما لم يقرأ به الصحابة بعد جمع عثمان الناس على ما صحَّ في العرضة الاخيرة؛ فإن هذا يدلُّ على أنَّ الذي أمر بتركها هو الذي أمر بقراءتها أولاً، وهو المنْزل لها؛ إذ من فوائد حديث إنزال الأحرف أن النبي صلّى الله عليه وسلّم يخبر أن القرآن (أُنزِل) والمنْزل جبريل، الآمر بالإنزال هو الله ـ سبحانه وتعالى ـ القائل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، فهو الذي له حق النسخ. أما ما يُنسب لعثمان رضي الله عنه من أنه أبقى حرفاً واحداً، فإن ذلك أمر لا يصح، ولو قال به من له جلالة ومنْزلة في العلم؛ لأنَّ ذلك يعني أنَّ أحرفاً نزلت، وأن بعض الأمة قد تركها، وهذه الأحرف التي يُدَّعى أنها تركت إنما هي قرآن، وتركها مخالف لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] (¬1) .. ¬

(¬1) ممن استنكر هذا، وشنَّع عليه أبو محمد بن حزم، قال: «وأما دعواهم أن عثمان رضي الله عنه أسقط ستة أحرف من جملة الأحرف السبعة المنزل بها القرآن من عند الله عزّ وجل فعظيمة من عظائم الإفك والكذب، ويُعيذ الله تعالى عثمان رضي الله عنه من الردة بعد الإسلام، ولقد أنكر أهل التعسف على عثمان رضي الله عنه أقل من هذا مما لا نُكرة فيه أصلاً، فكيف لو ظفروا له بمثل هذه العظيمة، ومعاذ الله من ذلك، وسواء عند كل ذي عقل إسقاط قراءة أنزلها الله تعالى أو إسقاط آية أنزلها الله تعالى، ولا فرق. وتالله؛ إن من أجاز هذا غافلا، ثم وقف عليه وعلى برهان المنع من ذلك، وأصرَّ، فإنه خروج عن الإسلام لا شكَّ فيه؛ لأنه تكذيب لله تعالى في قوله الصادق لنا: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، وفي قوله الصادق: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} {فَإِذَا قَرَانَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 17 - 18]، فالكل مأمورون باتباع قرآنه الذي أنزله الله تعالى عليه وجمعه، فمن أجاز خلاف ذلك، فقد أجاز خلاف الله =

والنتيجة التي يُتوصل إليها: • أن جميع أصول الوجوه القرائية الثابتة عن الأئمة في القراءات العشر المعتبرة؛ أنها مما قرأ به النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهي مما أُنزلَ، ولا يجوز لأحد أن ينقص منها أو يزيد عليها. • وأن الاختلاف في بعض المقادير لا يعني وقوع الاجتهاد في الأصول، فالمدُّ أصل صحيح ثابت عند القراء، لكن اختلفوا في مقداره في أنواعه المعروفة عندهم، واختلافهم في المقدار داخل في باب الاجتهاد، لكن وجود المد كأصل في وجوه القراءة لا يدخله الاجتهاد (¬1). وليس عندنا أن نعرف المتروك (المنسوخ) من غيره سوى ما أثبته الصحابة مما ثبت في العرضة الأخيرة التي استقرَّت القراءة عليها أيام عثمان رضي الله عنه لما جمع الناس على ما ثبتت قراءته في هذه العرضة، وترك ما سواه، فأجمع الصحابة على ذلك، وتركوا ما سواه مما صحَّ عندهم لكن لم يكن كل واحد منهم يعلم برفعه وتركه كما كان يعلمه زيد بن ثابت وغيره رضي الله عنهم ممن كان لهم عناية تامة بالقرآن. وقد وقع عند بعض من كتب في علاقة الأحرف السبعة بجمع القرآن افتراضات لا يدل عليها دليل نقلي، بل هي من التخريج العقلي المحض، ويظهر أن من أسباب ذلك عدم تبيُّن المراد بالأحرف السبعة. ¬

= تعالى، وهذه رِدَّة صحيحة لا مرية فيها، وما رامت غلاة الروافض أهل الإلحاد الكائدون للإسلام إلا بعض هذا. وهذه الآية تبين ضرورة أن جميع القرآن كما هو من ترتيب حروفه وكلماته وآياته وسوره حتى جمع كما هو فإنه من فعل الله عزّ وجل وتوليه جمعه، أوحى به إلى نبيه عليه السلام، وبينه عليه السلام للناس، فلا يسع أحداً تقديم مؤخر من ذلك ولا تأخير مقدم أصلاً». الإحكام في أصول الأحكام، لعلي بن أحمد بن حزم الأندلسي، نشر: دار الحديث. (¬1) يقول الدكتور عبد العزيز قارئ: «بعض أوجه الأداء التي يصعب حصول التواتر على نقلها، ولا يُتصور وقوعه؛ كضبط مقادير المدود بالدقة المتناهية المقيسة بالحركات، فإن الاتفاق على ضبط ذلك بتلك الدقة المتناهية شيء فوق طاقة البشر؛ لذلك تجد الروايات مختلفة اختلافاً كبيراً في مقدار مدِّ المتصل مع أنهم جميعاً مجمعون على وجوب مدِّه». حديث الأحرف السبعة (ص129).

قراءات مقترحة في موضوع: الأحرف السبعة 1 - «حديث الأحرف السبعة»، للدكتور عبد العزيز بن عبد الفتاح قارئ. وهو من أنفس ما كُتب في شرح الأحرف السبعة، وفيه تحليلات وفوائد جليلة. 2 - «الأحرف السبعة ومنْزلة القراءات منها»، للدكتور حسن ضياء الدين عتر. ومما فيه من محاسن: استنباط الفوائد من أحاديث الأحرف السبعة، وإن كانت النتيجة التي وصل إليها في المراد بالأحرف السبعة فيها نظر. وفي صنيع الدكتور حسن ضياء الدين عتر في كتابه توجيه للباحثين في استنطاق الفوائد من الأحاديث التي وردت في الأحرف التي نزل بها القرآن. بحوث مقترحة في موضوع: الأحرف السبعة 1 - الاعتناء بالأحاديث الواردة في الأحرف السبعة، واستنباط الفوائد منها. 2 - تطبيق أوجه الاختلاف بين القراء في سورة من السور للخلوص إلى عدد الأوجه القرائية المختلف فيها في السورة، وتصنيف هذه الأوجه. 3 - دراسة العلاقة بين اللهجات العربية والأحرف السبعة.

الفصل الثالث: المكي والمدني

الفصل الثالث المكي والمدني وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: طرق تعبير السلف عن النُّزول. المبحث الثاني: طريق معرفة المكي والمدني. المبحث الثالث: فوائد معرفة المكي والمدني.

• علاقة هذا النوع بأنواع علوم القرآن الأخرى: يرتبط هذا النوع (المكي والمدني) بأنواع أخرى من أنواع علوم القرآن، وهي: • (نزول القرآن) حيث يعتبر البحث في (المكي والمدني) فرع عنه. • (الناسخ والمنسوخ)؛ لأن المتقدم ينسخ المتأخر، ولا يعرف ذلك إلا بمعرفة المكي من المدني. • (أسباب النُّزول)، ويظهر الارتباط الوثيق بينهما، فيما إذا صح نزول آية في حدث مكي أو في حدث مدني، فإن سبب النُّزول يدل على المكي والمدني من هذه الجهة، مع ملاحظة أن بعض ما يُحكى في الأسباب قد يكون من باب التفسير، وليس من باب الأسباب الصريحة، وفي هذه الحالة يمكن تفسير الآية المكية بحدث مدني، ولا يكون هذا التفسير دليلاً على مدنية الآية كما سيأتي. • (أسماء السور)، حيث ينص من يعدد السور المكية والمدنية على أسمائها، ويمكن الاستفادة من هذه الآثار في تعدد أسماء بعض السور؛ لأنها تختلف في تسمية بعض السور (¬1). • وله ارتباط جزئي بالأحرف السبعة من جهة أن القرآن المكي وصدراً من المدني كان على حرف واحد، والقرآن المدني نزلت فيه الرخصة بالأحرف السبعة، ويمكن القول بأن نزول الأحرف السبعة مدني. ¬

(¬1) ينظر مثلاً: الإتقان في علوم القرآن (1:25 - 26)، فقد أورد أسماء السور التي نزلت بمكة والتي نزلت بالمدينة، وفي رواية عن عكرمة والحسن بن أبي الحسن تجد اسم السورة (محمد) في عداد المدني، وتجدها في رواية عن ابن عباس (القتال).

المبحث الأول: طرق تعبير السلف عن النزول

المبحث الأول طرق تعبير السلف عن النُّزول المكي والمدني مصطلحان مرتبطان بالمكان والزمان، وعليهما وقعت عبارات العلماء رحمهم الله. وكان للسلف عناية خاصة بمكان نزول القرآن، وكان أول نزول القرآن في غار حراء بمكة، ثم تتابع نزوله على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكان منه ما نزل بمكة قبل الهجرة، وما نزل في ضواحي مكة، ثمَّ هاجر الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة، ونزل عليه فيها القرآن، وكان له سفرات نزل فيها قرآن، وكان منه ما نزل عليه بمكة بعد هجرته صلّى الله عليه وسلّم، فكيف كان السلف يعبِّرون عن هذا النُّزول؟ ولقد كان للسلف طريقتان في التعبير عن النُّزول: الأولى: روايات تذكر كل السور، وتميز مكيها من مدنيها. الثانية: روايات متفرقة تذكر المكي والمدني، ويكثر في هذه الروايات الإشارة إلى أماكن نزول الآيات. وفي كلا الطريقتين لم يقع منهم نصٌّ مباشر على الزمان (قبل الهجرة، وبعد الهجرة). بل كان الوارد عن بعض الصحابة التنبيه على معرفة المكان دون الزمان؛ كالوارد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «والذي لا إله غيره ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن أنزلت، ولو أعلم أحداً أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه» (¬1)، وقد ورد هذا المعنى عن غيره من السلف. ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (5002).

أما الطريقة الأولى، فقد ورد بها روايات عديدة عن بعض الصحابة والتابعين وأتباعهم، ومنها ـ على سبيل المثال ـ ما رواه البيهقي (ت458هـ) بسنده عن عكرمة (ت105هـ)، والحسن البصري (ت110هـ)؛ قالا: «أنزل الله من القرآن بمكة اقرأ باسم ربك، ون، والمزمل، والمدثر، وتبت يدا أبي لهب، وإذا الشمس كورت، وسبح اسم ربك الأعلى، والليل إذا يغشى، والفجر، والضحى، وألم نشرح، والعصر، والعاديات، والكوثر، وألهاكم التكاثر، وأرأيت، وقل يا أيها الكافرون، وأصحاب الفيل، والفلق، وقل أعوذ برب الناس، وقل هو الله أحد، والنجم، وعبس، وإنا أنزلناه، والشمس وضحاها، والسماء ذات البروج، والتين والزيتون، ولإيلاف قريش، والقارعة، ولا أقسم بيوم القيامة، والهمزة، والمرسلات، وق، ولا أقسم بهذا البلد، والسماء والطارق، واقتربت الساعة، وص، والجن، ويس، والفرقان، والملائكة، وطه، والواقعة، وطسم، وطس، وطسم، وبني إسرائيل، والتاسعة، وهود، ويوسف، وأصحاب الحجر، والأنعام، والصافات، ولقمان، وسبأ، والزمر، وحم المؤمن، وحم الدخان، وحم السجدة، وحمعسق، وحم الزخرف، والجاثية، والأحقاف، والذاريات، والغاشية، وأصحاب الكهف، والنحل، ونوح، وإبراهيم، والأنبياء، والمؤمنون، وآلم السجدة، والطور، وتبارك، والحاقة، وسأل، وعَمَّ يتساءلون، والنازعات، وإذا السماء انشقت، وإذا السماء انفطرت، والروم، والعنكبوت. وما نزل بالمدينة: ويل للمطففين، والبقرة، وآل عمران، والأنفال، والأحزاب، والمائدة، والممتحنة، والنساء، وإذا زلزلت، والحديد، ومحمد، والرعد، والرحمن، وهل أتى على الإنسان، والطلاق، ولم يكن، والحشر، وإذا جاء نصر الله، والنور، والحج، والمنافقون، والمجادلة، والحجرات، ويا أيها النبي لم تحرم، والصف، والجمعة، والتغابن، والفتح، وبراءة» (¬1). ¬

(¬1) دلائل النبوة للبيهقي (7:143).

قال البيهقي: «والتاسعة يريد بها سورة يونس. قال: وقد سقط من هذه الرواية الفاتحة، والأعراف، وكهيعص فيما نزل بمكة» (¬1). وأما الطريقة الثانية، ففيها روايات عديدة، منها ما رواه البخاري بسنده عن طارق بن شهاب «أن أناساً من اليهود قالوا: لو نزلت هذه الآية فينا لاتخذنا ذلك اليوم عيداً. فقال عمر: أية آية؟ فقالوا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} [المائدة: 3]. فقال عمر: إني لأعلم أي مكان أنزلت؛ أنزلت ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم واقف بعرفة» (¬2). فهذه الروايات وغيرها تدل على أنَّ السلف كانوا يُعنون بذكر المكان الذي نزلت فيه السورة أو الآية، لكن لا يعني هذا أنهم كانوا يُغفلون الزمان الذي ضبطه بعض أتباع التابعين بضابط الهجرة، فما كان قبل الهجرة فهو مكي، وما كان بعد الهجرة فهو مدني، فهذا الضابط، وإن لم ينصوا عليه إلا أنهم يعملون بفحواه، فهل يُتصوَّر أن يكون نزول آية إكمال الدين في مكة قبل الهجرة؟ بالطبع لا، فقول عمر رضي الله عنه: «أنزلت ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم واقف بعرفة» يتضمن نزولها بعد الهجرة؛ لأن حجة الوداع كانت بعد الهجرة قطعاً، ولم يكن هناك داعٍ لأن يقول عمر: نزلت بعد الهجرة، ولا كان من مصطلحات الصحابة والتابعين وكثير من أتباع التابعين (¬3). ¬

(¬1) دلائل النبوة للبيهقي (7:143)؛ وقد نقله في الإتقان (1:38). (¬2) صحيح البخاري برقم (4407)؛ وأخرجه أيضاً مسلم برقم (3017). (¬3) بدأ التقويم بالهجرة سنة سبع عشرة أو ثماني عشرة من خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم بدأ ينتشر التأريخ بالهجرة شيئاً فشيئاً، ينظر في هذا: البداية والنهاية، نشر مكتبة المعارف، بيروت (3:206 - 207). وهذا مما يحتاج أن يلاحظه من يكتب في المكي والمدني؛ لأن ربطه بالهجرة قد تأخر، ولم يظهر في عهد الصحابة كبارهم وصغارهم، ولا ظهر في كلام التابعين =

وأول من رأيته نصَّ على هذا الضابط الزماني يحيى بن سلام البصري (ت200هـ) قال: «... وإن ما نزل بمكة وما نزل في طريق المدينة قبل أن يبلغ النبي عليه السلام المدينة فهو من المكي. وما نزل على النبي عليه السلام في أسفاره بعدما قدم المدينة فهو من المدني» (¬1). وهذا الضابط الزماني هو الذي اعتمده العلماء المتأخرون، وسارت به الكتب بعدهم. فقد كتب السيوطي (ت911هـ) وغيره في هذا المبحث مسائل متنوعة، ومنها: اصطلاحات المكي والمدني، وقد جعلها ثلاثة: • ما كان بمكة فهو مكي، وما كان بالمدينة فهو مدني، وهذا فيه اعتبار المكان. • ما كان خطاباً بصيغة {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} فهو مكي، وما كان بصيغة {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فهو مدني، وهذا فيه اعتبار الخطاب. • ما كان قبل الهجرة فهو مكي وما كان بعد الهجرة فهو مدني، وهذا فيه اعتبار الزمان. ولم ينسب هذه الأقوال لقائلين بها، وفي القولين الأولين تجوُّزٌ؛ لأن من القرآن ما كان نازلاً في غير مكة والمدينة، ولأن القرآن ليس كله خطاباً بهاتين الصيغتين أو ما يشبههما، وليس كل سورة فيها أحد هذين الخطابين. وقد زاد بعض المعاصرين الاستدلال والاحتجاج، ورجَّح اعتبار ¬

= ولا كبار أتباع التابعين، وهذا أمر يحتاج إلى نظر من هذه الجهة. ولا يعني هذا عدم الاستفادة من الضابط الزمني، لكن المراد عدم تحكيمه على أقوال السلف في المكي والمدني، وتخطئتهم في ذكر الزمان، كما ذهب إلى ذلك بعضهم عند حديثه عن الترجيح بين مصطلحات المكي والمدني. (¬1) ينظر: مختصر تفسير يحيى لابن أبي زمنين (1:113)؛ ولهود بن محكم (1:69).

الزمان الذي رجحه بعض المتقدمين كابن حجر العسقلاني (ت852هـ) والسيوطي (ت911هـ) وغيرهما. والمقصود هنا التنبيه على أنه لا تعارض بين مذهب السلف في التعبير عن النُّزول بالمكان، وما ذهب إليه المتأخرون من العلماء من أن ما نزل قبل الهجرة فهو مكي، وما نزل بعد الهجرة فهو مدني؛ لأن السلف كانوا يعتنون بذكر المكان، ويعملون بالزمان في تطبيقاتهم التفسيرية، ومما يدل على ذلك ما يأتي: قال سعيد بن منصور: حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر قال: «سألت سعيد بن جبير عن قوله تعالى: {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43] أهو عبد الله بن سلام؟ فقال: كيف؟ وهذه السورة مكية» (¬1). ويمكن تلخيص القول في هذه المسألة بأن يُعتبر المصطلحان معاً بحيث يكون في ذكر مكان النُّزول إشارة إلى ضابط الزمان إن احتاج الأمر إلى ذلك. وإذا تأملت ذلك وجدت: 1 - أن كل ما وُصِف من القرآن بأنه مدني فلا يدخله اللَّبس، فما وصف بالمدني فهو بعد الهجرة لا قبلها قطعاً. 2 - أنَّ الأماكن التي ثبت أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم إنما ذهب إليها بعد الهجرة؛ ـ كبعض غزواته: غزوة بني المصطلق وغزوة تبوك ـ لا يمكن أن يقال: إنها من المكي؛ لأنها بعد الهجرة. 3 - يبقي الأمر في بعض السور والآيات التي نزلت بمكة بعد الهجرة، وهي قليلة بالنسبة لسور وآيات القرآن. وإذا كان الأمر كذلك فلا حاجة إلى الترجيح بين المصطلحين ـ كما ذهب إليه بعض من كتب في المكي والمدني ـ لأمن اللبس في أغلب نزول القرآن من هذه الجهة، والله أعلم. ¬

(¬1) سنن سعيد بن منصور، تحقيق: د. سعد الحميد (5:442).

مسألة: في الآيات المستثناة من السور: ورد عن علماء الصحابة والتابعين وأتباع التابعين بعض الآثار التي يذكرون فيها أن السورة مكية إلا آيات منها، وكذا أن السورة مدنية إلا آيات منها، وهذا المبحث من المباحث التطبيقية النفيسة التي تتداخل بين التفسير وعلوم القرآن، والأصل في هذا المبحث النقل عن الصحابة الذين شاهدوا التنْزيل، لكن قد يجتهد بعض من جاء بعدهم لقرينة تظهر له بسبب بعض الآثار الواردة في النُّزول، أو غير ذلك. ومن أمثلة الآيات المستثناة: 1 - قال السيوطي: «الأنفال: استُثني منها: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [30] الآية، قال مقاتل: نزلت بمكة» (¬1). 2 - قال السيوطي: «الأحقاف: استثني منها: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [10]، فقد أخرج الطبراني بسند صحيح عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه أنها نزلت بالمدينة في قصة إسلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه، وله طرق أخرى، لكن أخرج ابن أبي حاتم عن مسروق قال: أنزلت هذه الآية بمكة، إنما كان إسلام ابن سلام بالمدينة، وإنما كانت خصومة خاصم بها محمداً صلّى الله عليه وسلّم» (¬2). وعند تحرير هذه الأمثلة يظهر الآتي: 1 - أن الأصل في السورة أن تكون مكية كلها، أو مدنية كلها، والاستثناء منها خلاف الأصل. 2 - أن الشبهة قد تقع في الاستثناء، لذا لا يلزم أن يكون كل استثناءٍ صحيحاً. 3 - أنَّ ما قيل فيه بالاستثناء يحتمل الاحتمالات العقلية الآتية: ¬

(¬1) الإتقان (1:39)؛ وينظر: قول مقاتل في تفسيره، تحقيق الدكتور عبد الله شحاته (2:97)، قال: «سورة الأنفال مدنية كلها غير آية واحدة {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا ...} الآية». (¬2) الإتقان: (1: 44 - 45).

الأول: أن يكون الاستثناء صحيحاً، وتكون السورة كلها نزلت بمكة أو بالمدينة، ثم أضيف إليها الآية. الثاني: أن يكون الرسول صلّى الله عليه وسلّم قرأ الآية المكية في حدث مدني، فتوهم الصحابي أنها نزلت آنئذ، فحكم بمدنيتها، إذ ليس كل الصحابة يعلم جميع النازل من القرآن، ولا مكان نزوله أو وقته. الثالث: أن يكون دخول الحدث المدني في آية مكية بوحي نزل عليه، فيتلوا الآية المكية آنئذ، فيتوهم الصحابي أنها نزلت في هذا الحدث. والفرق بينه وبين الذي قبله: أن الأول من فعله صلّى الله عليه وسلّم مباشرة، والثاني بوحي نزل عليه. وإليك تطبيق ذلك على بعض الآيات: 1 - قال مقاتل (ت150هـ): «سورة الأنفال مدنية كلها غير آية واحدة {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [30]» (¬1). إذا رجعت إلى هذه الآية التي في سورة الأنفال وجدت أن السورة تتحدث عن أحداثٍ تتعلق بغزوة بدر، وهذا الحدث الذي تتحدث عنه الآية كان بمكة، لما تآمر الكفار على قتل الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فأنجاه الله منهم، فالآية تذكير بهذا الحدث، لذا صُدِّرت بلفظ (وإذ) الدال على وقوع الحدث قبل الآية. ولربما لما كان الحدث مكيّاً توهم مقاتل أنه هذه الآية مكية. ولربما أنه اعتمد على ما روي عن مجاهد وعكرمة في هذه الآية من أنها مكية، فحكم بذلك، فقد روى الطبري (ت310هـ) بسنده عن ابن جريج (ت150هـ)، قال: «عن عكرمة، قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال: 30] قال: هذه مكية. قال ابن جريج: قال مجاهد: هذه مكية» (¬2). ¬

(¬1) تفسير مقاتل، تحقيق الدكتور عبد الله شحاته (2:97)؛ وينظر: الإتقان (1:39). (¬2) ينظر: تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (13:502).

قال ابن عطيَّةَ (ت542هـ) ـ معلقاً على قول مجاهد وعكرمة ـ: «وحكى الطَّبريُّ عن عكرمةَ ومجاهد أنَّ هذه الآيةَ مكيَّةٌ ... ويحتملُ عندي قول عكرمةَ ومجاهدٍ: «هذه مكيَّةٌ»، أن أشارا إلى القصَّةِ لا إلى الآيةِ» (¬1). وإذ خُرِّج قول مقاتل ومن سبقه على ما ذهب إليه ابن عطية لم يكن مرادهم النُّزول، وإنما مرادهم زمن قصة الآية فحسب. فإن قُلت: هل عُهِد من السلف مثل هذا التعبير في المكي والمدني؟ فالجواب: إن هذا يحتاج إلى استقراء، لكن ما ذكر لك من باب التخريج ليلتئم القول على ما هو مشهور من كون نزول سورة الأنفال كلها في المدينة، وباب التخريج واسع. 2 - قال السيوطي: «الأحقاف: استثني منها {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [10]، فقد أخرج الطبراني بسند صحيح عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه أنها نزلت بالمدينة في قصة إسلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه، وله طرق أخرى، لكن أخرج ابن أبي حاتم عن مسروق قال: أنزلت هذه الآية بمكة، إنما كان إسلام ابن سلام بالمدينة، وإنما كانت خصومة خاصم بها محمداً صلّى الله عليه وسلّم» (¬2). الحكم بنُزول هذه الآية في عبد الله بن سلام رضي الله عنه وارد عن جمع من الصحابة والتابعين، وقد ذكر الطبري (ت310هـ) وغيره الرواية عنهم في ذلك، فقد ورد عن سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن سلام، وابن عباس، وعوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنهم، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، والحسن، وابن زيد (¬3)، على اختلاف بينهم في النص على عبارة النُّزول. وقد اعترض مسروق على هذا المذهب، ومما ورد عنه في ذلك ما رواه الطبري (ت310هـ) بسنده عن الشعبي عن مسروق في قوله تعالى: {قُلْ ¬

(¬1) تفسير ابن عطية، ط. قطر (6:272). (¬2) الإتقان: (1:44 - 45). (¬3) تفسير الطبري، ط. دار هجر، تحقيق الدكتور عبد الله التركي (21:126 - 131).

أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [الأحقاف: 10] الآية، قال: «كان إسلام ابن سلام بالمدينة، ونزلت هذه السورة بمكة، إنما كانت خصومة بين محمد صلّى الله عليه وسلّم وبين قومه فقال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} [الأحقاف: 10] قال: التوراة مثل الفرقان، وموسى مثل محمد، فآمن به واستكبرتم، ثم قال: آمن هذا الذي من بني إسرائيل بنبيه وكتابه، واستكبرتم أنتم فكذبتم أنتم نبيكم وكتابكم {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي} إلى قوله: {هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف: 10 - 11]». وقد تبعه على ذلك الشعبي، فقد روى الطبري (ت310هـ) بسنده عنه، قال: «إن ناساً يزعمون أن الشاهد على مثله: عبد الله بن سلام، وأنا أعلم بذلك، وإنما أسلم عبد الله بالمدينة، وقد أخبرني مسروق أن آل حم إنما نزلت بمكة، وإنما كانت محاجَّة رسول الله (ص) لقومه فقال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [الأحقاف: 10] يعني: الفرقان {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} [الأحقاف: 10]، فمثل التوراة الفرقان؛ التوراة شهد عليها موسى، ومحمد على الفرقان، صلى الله عليهما وسلم» (¬1). ويستفاد من قول الجمهور أنَّ الآية مدنية النُّزول، وقد وُضِعت في سورة مكية، وهذا ظاهر مذهبهم في ذلك. ولو جعلت قول مسروق ومن تبعه هو المقدَّم، فإنه يلزم في تخريج الروايات الواردة عن الجمهور ما يأتي: 1 - أن تكون الآية مما تقدم نزوله وتأخر حكمه، كما ورد في قوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45]، فقد روى الطبري (ت310هـ) بسنده عن أيوب قال: لا أعلمه إلا عن عكرمة أن عمر قال: «لما نزلت {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ} [القمر: 45] جعلت أقول: أي جمع يهزم؟ فلما كان يوم بدر رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم يثب في الدرع ويقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45]» (¬2) ¬

(¬1) تفسير الطبري، ط. دار هجر، تحقيق الدكتور عبد الله التركي (21:126). (¬2) تفسير الطبري، ط. دار هجر، تحقيق الدكتور عبد الله التركي (22:157).

ومما نزل مبكراً، وتأخر وقوعه قوله تعالى: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد: 2]، على من فسَّر الآية بأنها: حلال لك أنت تصنع في مكة ما تشاء (¬1)، وكان ذلك يوم الفتح، والآية مكية. 2 - أن يكون الرسول صلّى الله عليه وسلّم تلا هذه الآية عليهم في ذلك الحدث، فظن بعضهم أنها لتوها نزلت في هذا الشأن، وليس الأمر كذلك، بل يكون في قراءته التنبيه على شمول الآية لحال ابن سلام رضي الله عنه وأمثاله ممن يؤمن من أهل الكتاب. وقد وقع في بعض الآثار ما يشير إلى هذا، ومن ذلك ما رواه الطبري (ت310هـ) عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45]، قال: «كان ذلك يوم بدر قال: قالوا: نحن جميع منتصر. قال: فنَزلت هذه الآية» (¬2) فابن عباس رضي الله عنهما ـ مع كونه لم يحضر بدراً ـ عبَّر بالنُّزول، لِمَا سمع من قراءة النبي صلّى الله عليه وسلّم لها في هذا الموطن، والله أعلم. 3 - أن يكون في التعبير بالنُّزول توسُّعٌ ممن قال به، ولا يكون مراده السببية المباشرة، وإنما مراده التفسير، والحكم بدخول حال ابن سلام رضي الله عنه في معنى الآية (¬3). ¬

(¬1) قال به ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وابن زيد، وعطاء، والضحاك، تفسير الطبري، ط. دار هجر، تحقيق الدكتور عبد الله التركي (24:403 - 405). (¬2) تفسير الطبري، ط. دار هجر، تحقيق الدكتور عبد الله التركي (22:158). (¬3) هذه الآية من الآيات المشكلة من جهة المراد بها أولاً، وقد أوقعت الإمام الطبري في التأرجح في الترجيح بين القولين، فالسياق مع قول مسروق والشعبي، وعبارات الصحابة ومن تبعهم تدل على نزولها في عبد الله بن سلام، قال الطبري (ت310هـ): «والصواب من القول في ذلك عندنا أن الذي قاله مسروق في تأويل ذلك أشبه بظاهر التنزيل؛ لأن قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} في سياق توبيخ الله ـ تعالى ذكره ـ مشركي قريش واحتجاجاً عليهم لنبيه صلّى الله عليه وسلّم، وهذه الآية نظير سائر الآيات قبلها، ولم يَجْرِ لأهل الكتاب ولا لليهود قبل ذلك ذِكْرٌ فتوجه هذه الآية إلى أنها فيهم نزلت، ولا دَلَّ على انصراف الكلام عن قصص الذين تقدم الخبر عنهم معنى. غير أن الأخبار قد وردت عن جماعة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأن ذلك عني به =

وهذا يرد أيضاً في عبارات السلف في النُّزول، وإن كان قليلاً، ويمكن حمل قول ابن عباس رضي الله عنهما السابق على هذا المعنى. ¬

= عبد الله بن سلام، وعليه أكثر أهل التأويل، وهم كانوا أعلم بمعاني القرآن، والسبب الذي فيه نزل، وما أريد به، فتأويل الكلام إذ كان ذلك كذلك: وشهد عبد الله بن سلام وهو الشاهد من بني إسرائيل على مثله؛ يعني: على مثل القرآن، وهو التوراة، وذلك شهادته أن محمداً مكتوب في التوراة أنه نبي، تجده اليهود مكتوباً عندهم في التوراة، كما هو مكتوب في القرآن أنه نبي». تفسير الطبري، ط. دار هجر، تحقيق الدكتور عبد الله التركي (21:131 - 132). وللتفسير في هذا المقام مسلكان: المسلك الأول: أن يحكم بصحة نزولها في عبد الله بن سلام، ويكون فيها من الاحتمالات ما سبق ذكره في المتن، ثمَّ يُحكم بعموم الوصف في قوله: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ}، فيدخل في ذلك شهادة موسى عليه السلام، وكذا شهادة كل من يؤمن من بني إسرائيل. المسلك الثاني: أن يُحكم بقول مسروق في أن نزولها كان في مكة، وأن المعنيَّ بها أولاً موسى عليه السلام، ثمَّ يُعمَّم الوصف المذكور، فيدخل فيه عبد الله بن سلام، وكل من آمن من أهل الكتاب بنبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم.

المبحث الثاني: طريق معرفة المكي من المدني

المبحث الثاني طريق معرفة المكي والمدني إن الأصلَ في معرفة المكي والمدني من السور والآيات إنما هو النقلُ عن الصحابة الذين نزل القرآن بين ظهرانيهم، وإذا تأملت ما حكاه العلماء من المكي والمدني وجدت ما يأتي: 1 - قسم وقع الاتفاق عليه بأنه مكي أو مدني. 2 - قسم وقع الخلاف فيه بين العلماء من الصحابة أو ممن هو دونهم من التابعين وأتباعهم. 3 - أنَّ هذا الاختلاف كان في الآيات أكثر منه في السور، وبهذا كان لا بدَّ من الاجتهاد في هذا المختلَف فيه، وكان لا بدَّ من وجود ضوابط للترجيح في هذا الاختلاف، فصار الأمر في معرفة المكي والمدني على طريقين: الطريق النقلي والطريق القياسي الاجتهادي. أما النقلي فظاهرٌ، فإذا وقع الاتفاق أو وقع النقل عن واحد من الصحابة ليس له مخالف فالأمر على ما قال، والمنقول هو الأغلب الأعم في باب المكي والمدني دون القياسي. وأما القياسي الاجتهادي فإنه يقوم على معرفة ما يمكن القياس عليه، وهو ما دلَّ بالاستقراء من موضوعات المكي والمدني وأسلوبهما في السور والآيات، وقد استنبط العلماءُ عدداً من الضوابط التي يُعرف بها المكي والمدني (¬1)، ومنها: ¬

(¬1) ممن اعتنى بذكر الضوابط. مكي بن أبي طالب في كتابه «إيضاح الناسخ والمنسوخ»، =

1 - أورد بعض العلماءِ ضابطاً يتعلق بالخطاب، فقد ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه (ت32هـ) أنه قال: «ما كان {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أنزل بالمدينة وما كان {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} فبمكة». وهذا الضابط أغلبي، وليس كليّاً؛ لأنه ورد في القرآن المدني الخطاب بيا أيها الناس، فقد أجمع العلماء على أن سورة النساء مدنية، وأولها: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1]، فانخرم بهذا أن يكون الخطاب بهذين الوصفين ضابطاً مُطَّرداً في معرفة المكي والمدني. ويلاحظ أن بعض من كتب في المكي والمدني جعل من هذا الضابط (الخِطابي) اصطلاحاً ثالثاً أضافه إلى الاصطلاح المكاني والزماني. وجَعْلُ هذا الضابط قولاً ثالثاً في تعريف المكي والمدني ضعيف جدّاً، بل لا يُتصوَّر القول به؛ لأنه لا يُتصور أن يخفى على أحد من أهل العلم أن أكثر السور ـ فضلاً عن الآيات ـ لا يوجد فيها الخطاب بهذين الخطابين، والله أعلم. 2 - عن عروة بن الزبير (ت94هـ) قال: «كل شيء نزل من القرآن فيه ذكر الأمم والقرون؛ فإنما نزل بمكة. وما كان من الفرائض والسنن؛ فإنما نزل بالمدينة» (¬1). وهذا الضابط أغلبيٌّ أيضاً؛ لأنه ورد في القرآن المدني شيءٌ من ذكر الأمم والقرون ـ كقصة آدم وإبليس وقصة موسى في سورة البقرة المدنية ـ، لكنه في القرآن المكي أكثر. كما أنه من جهة الفرائض والسنن أغلبي كذلك؛ لأن بعض الأحكام قد فُرِضت بمكة، لكن أكثر الأحكام وتفاصيلها إنما نزلت بالمدينة لما ¬

= تحقيق: د. أحمد حسن فرحات (ص114 - 115)؛ والسيوطي في الإتقان في علوم القرآن (1:47 - 49). (¬1) أخرجه أبي شيبة برقم (30140).

قامت الدولة الإسلامية، وصار الأمر والنهي فيها للرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولئن كانت بعض الأحكام قد فُرضت بمكة ـ كالزكاة ـ فإن كثيراً من تفاصيلها إنما كان في المدينة. 3 - كل سورة ورد في أولها أحرف تهجٍ فهي مكية، سوى البقرة وآل عمران والرعد، وفي سورة الرعد خلاف. 4 - كل سورة ورد فيها لفظ (كلا)، فهي مكية، ولم يرد هذا اللفظ إلا في النصف الثاني من سور القرآن، قال عبد العزيز الديريني (ت694هـ) (¬1): وما نزلت كلا بيثرب فاعلمن ولم تأت في القرآن في نصفه الأعلى (¬2) 5 - كل سورة فيها ذكر المنافقين فهي مدنية؛ لأن النفاق لم يظهر إلا في المدينة. 6 - كل سورة فيها سجدة فهي مكية. 7 - كل سورة نزل فيها جدال لأهل الكتاب وذكر لأحوالهم ومخازيهم فهي مدنية. ¬

(¬1) هو عبد العزيز بن سعيد بن عبد الله؛ عز الدين الدميري المعروف بالديريني، شافعي متصوف، له مشاركة في العلوم، وله نظم رائق في التفسير، سماه «التيسير في التفسير»، وهي منظومة نفيسة يذكر فيها معاني مفردات ألفاظ القرآن، وقد يذكر القراءات وتوجيهها، اختلف في وفاته، قيل: إنها كانت سنة 694هـ، وقيل: 697هـ، والله أعلم، وكانت ولادته سنة 612هـ. (¬2) هذا البيت ليس في منظومته المطبوعة المسماة «التيسير في التفسير»، ويظهر أن هذا البيت من منظومة أخرى في المكي والمدني، وهي مفقودة، بدلالة أن السيوطي ذكره في أول مبحث المكي والمدني ممن ألف فيه، وهو مثبت مطلع، فيقدم على قول من شكك في وجود مؤلف له بهذا العنوان، والله أعلم.

المبحث الثالث: فوائد معرفة المكي والمدني

المبحث الثالث فوائد معرفة المكي والمدني إن علماً اعتنى به الصحابي العالم بالقرآن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (ت32هـ) لجدير بأن يكون من العلوم المهمة، وهو كذلك عند العلماء، وهذه الفوائد التي ذكروها مبنية على الزمان؛ إذ المكي متقدم على المدني قطعاً، وقد أشار الشاطبي (ت790هـ) إلى منْزلة المتأخر من المتقدم في النُّزول، فقال: «المدني من السور ينبغي أن يكون مُنَزلاً في الفهم على المكي، وكذلك المكي بعضه مع بعض، والمدني بعضه مع بعض؛ على حسب ترتيبه في التنْزيل، وإلا لم يصحَّ، والدليل على ذلك أن معنى الخطاب المدني في الغالب مبني على المكي، كما أن المتأخر من كل واحد منهما مبني على متقدمه؛ دلَّ على ذلك الاستقراء، وذلك إنما يكون بيان مجمل، أو تخصيص عموم، أو تقييد مطلق، أو تفصيل ما لم يفصل، أو تكميل ما لم يظهر تكميله» (¬1). ومما يذكر في فوائد معرفة المكي والمدني ما يأتي: أولاً: معرفة الناسخ والمنسوخ (¬2): اعتنى بعض العلماء الذين كتبوا في الناسخ والمنسوخ بالمكي والمدني؛ لأن القول بالنسخ مبني على معرفة المتقدم من المتأخر، والمدني ينسخ المكي لا العكس، وقد ذكر الحارث المحاسبي (ت243هـ) هذه ¬

(¬1) الموافقات، للشاطبي (3:406). (¬2) يمكن استقراء تطبيقات المكي والمدني وأثرها في معرفة الناسخ والمنسوخ من خلال كتب الناسخ والمنسوخ.

العلاقة، فقال: «القسم السادس: ذكر الناسخ والمنسوخ في الأحكام: فأول ذلك معرفة السور المكية والمدنية ليعرف أن ما فيها من الأمر والأحكام نزل بمكة أو بالمدينة، فإذا اختلف كان الذي نزل بالمدينة هو الناسخ؛ لأنه الآخِر في النُّزول» (¬1). وقال النحاس (ت338هـ) في كتابه الناسخ والمنسوخ: «وإنما نذكر ما نزل بمكة والمدينة؛ لأن فيها أعظم الفائدة في الناسخ والمنسوخ؛ لأن الآية إذا كانت مكية، وكان فيها حكم، وكان في غيرها مما نزل بالمدينة حكم غيره = عُلِمَ أن المدنية نسخت المكية» (¬2). وقال مكي بن أبي طالب القيسي (ت437هـ) في كتابه إيضاح الناسخ والمنسوخ: «ويجب أن تعلم المكي من السور من المدني، فذلك مما يقوي ويفهم معرفة الناسخ والمنسوخ» (¬3). ومن آثار السلف الدالة على بناء النسخ على المكي والمدني ما رواه القاسم بن أبي بزة عن سعيد بن جبير قال: «قلت لابن عباس: ألِمَنْ قتل مؤمناً متعمداً من توبة؟ قال: لا. قال: فتلوت عليه هذه الآية التي في الفرقان: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الفرقان: 68] إلى آخر الآية. قال: هذه آية مكية نسختها آية مدنية: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا} [النساء: 93]» (¬4). ¬

(¬1) فهم القرآن (مطبوع مع كتاب العقل للحارث المحاسبي)، تحقيق القُوَّتْلي (ص394). (¬2) الناسخ والمنسوخ للنحاس، تحقيق: د. سليمان اللاحم (2:611). (¬3) إيضاح ناسخ القرآن ومنسوخة، لمكي بن أبي طالب، تحقيق: د. أحمد حسن فرحات (ص113 - 114). (¬4) أخرجه مسلم رقم (3023)، وللعلماء في توبة القاتل خلاف معروف، لكن المراد هنا المثال.

ثانياً: معرفة الصحيح من الضعيف من التفسير (الترجيح بين الأقوال): إن التفسير وضرب الأمثال لما يصلح دخوله في معنى الآية = أوسعُ من مدلول الزمان في المكي والمدني، لكن قد يقع في بعض الأقوال ما يشير إلى تحديد المراد بالقرآن المكي بحدث مدني يكون هذا الحدث المدنيُّ صحيحاً من جهة التفسير، لكن لا يكون صحيحاً من كونه هو المراد الأول الذي نزلت من أجله الآيات، ومن أمثلة ذلك: 1 - قال ابن عطية (ت542هـ) في قوله تعالى: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131] «قال بعض المفسرين: سبب هذه الآية أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نزل به ضيف، فلم يكن عنده شيء، فبعث إلى يهودي ليسلفه شعيراً، فأبى اليهودي إلا برهن، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «والله إني لأمين في السماء، أمين في الأرض»، فرهنه درعه، فنَزلت الآية (¬1). قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا معترض أن يكون سبباً؛ لأن السورة مكية، والقصة المذكورة مدنية في آخر عمر النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنه مات ودرعه مرهونة بهذه القصة التي ذكرت. وإنما الظاهر أن الآية متناسقة مع ما قبلها، وذلك أن الله تعالى وبَّخهم على ترك الاعتبار بالأمم السابقة، ثم توعدهم بالعذاب المؤجل، ثم أمر نبيه صلّى الله عليه وسلّم بالاحتقار لشأنهم، والصبر على أقوالهم، والإعراض عن أموالهم وما في أيديهم؛ إذ ذلك منصرم عنهم، صائر بهم إلى خزي» (¬2). 2 - قال ابن الجوزي (ت597هـ) في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى *وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14 - 15]: «وفي قوله تعالى: {فَصَلَّى} ثلاثة أقوال: ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في الكبير (1:331) عن أبي رافع قال الهيثمي: فيه موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف. مجمع الزوائد (4:126). (¬2) المحرر الوجيز، ط. قطر (10:115).

أحدها: أنها الصلوات الخمس؛ قاله ابن عباس ومقاتل. والثاني: صلاة العيدين؛ قاله أبو سعيد الخدري. والثالث: صلاة التطوع؛ قاله أبو الأحوص. والقول قول ابن عباس في الآيتين، فإن هذه السورة مكية بلا خلاف، ولم يكن بمكة زكاة ولا عيد» (¬1). وإذا تأملت القول بصلاة العيد وجدته يدخل في عموم قوله تعالى: {فَصَلَّى}، لكن أن يكون هو المراد لا غيرُه، أو يكون هو المراد أولاً، ففيه النظر الذي ذكره ابن الجوزي (ت597هـ)، والله أعلم. ثالثاً: الاستفادة منه في الدعوة إلى الله بتنْزيل المقال على مقتضى الحال: إن القرآن المكي كان يخاطب أغلبية كافرة لا تؤمن بالله ولا باليوم الآخر، فكان الخطاب يكثر فيه ذكر قضايا التوحيد الكلية وما يتعلق بإثبات النبوة والبعث، وغيرها. والقرآن المدني كان يخاطب الدولة المسلمة التي استقرَّ أمرها، وصار الأمر والنهي فيها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فظهر الحديث عن التشريعات والحدود، كما تجد الحديث عن الجهاد والمنافقين وغير ذلك، وكان لكل نوع من هذه الأنواع طريقة في خطابه. فالداعية يستفيد من هذا في تنويع خطابه، فلا يكون خطابه وأسلوب تعامله واحداً لا يتغير، فإن كان يخاطب ملحداً فإن خطابه لا يكون كما يخاطب كافراً مؤمناً بالله، وإذا كان يخاطب كافراً مؤمناً بالله ـ كأهل الكتاب ـ فإنه يختلف في خطابه لهم عن خطابه لمبتدع، وخطابه لمبتدع يختلف عن خطابه لعاصٍ فاسقٍ، وهكذا يُنَزَّل لكل قوم ما يصلح لهم من الخطاب، والله أعلم. • * * ¬

(¬1) زاد المسير، لابن الجوزي، تحقيق: محمد بن عبد الرحمن عبد الله (8:230).

قراءات مقترحة في موضوع: المكي والمدني 1 - «المكي والمدني في القرآن الكريم» دراسة تأصيلية نقدية للسور والآيات من أول القرآن إلى نهاية سورة الإسراء، للباحث عبد الرزاق حسين أحمد. وهو كتاب نفيس جدّاً في موضوع المكي والمدني، وما يتعلق به من السور والآيات المختلف فيها، والآيات المستثناة في السور. 2 - تحرير القول في السور والآيات المكية والمدنية من أول سورة الكهف إلى آخر سورة الناس، وهي رسالة دكتوراه تقدم بها الباحث محمد بن عبد العزيز بن عبد الله الفالح إلى كلية القرآن الكريم بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية. بحوث مقترحة في موضوع: المكي والمدني 1 - تتبع الآيات المستثنيات ودراستها دراسة تفسيرية (أي: أثر هذه الآيات في السياق والمعنى). 2 - بحث السور أو الآيات المختلف في مكيتها ومدنيتها. 3 - بحث الآيات المنسوخة التي لها تعلق بموضوع المكي والمدني. 4 - استقراء الآيات التي وقع فيها ترجيح بمعرفة المكي والمدني. 5 - استنباط المكي والمدني من خلال أسباب النُّزول الصريحة.

الفصل الرابع: أسباب النزول

الفصل الرابع أسباب النُّزول وفيه خمسة مباحث: المبحث الأول: المراد بأسباب النُّزول المبحث الثاني: قصص القرآن وأسباب النُّزول المبحث الثالث: صيغ عبارات أسباب النُّزول المبحث الرابع: فوائد أسباب النُّزول المبحث الخامس: قواعد في أسباب النُّزول

• علاقة هذا النوع بأنواع علوم القرآن الأخرى: هذا الموضوع من الموضوعات المهمة في علم التفسير، وهو يرتبط بعدة أنواع من علوم القرآن: • (نزول القرآن)، وارتباطه بهذا واضح ظاهر؛ لأن النُّزول قد يكون مرتبطاً بسبب، وقد لا يكون. • (المكي والمدني) لأن الأحداث التي نزل بشأنها قرآن لا تخرج ـ باعتبار الزمان ـ عن أن تكون قبل الهجرة أو بعد الهجرة. • (أسماء السور)، وذلك حين يكون سبب النُّزول مرتبطاً بالسورة؛ كقولهم: نزلت سورة كذا في كذا. • ولأسباب النُّزول ارتباط بعلمين ليسا من علوم القرآن يحسن التنبيه عليهما؛ لأن بعض الأسباب لا يكون فهم الآية مبنيّاً على معرفتها مباشرة، وقد يقع اختلاف في صاحب الحدث، فيكون تحرير سبب النُّزول غير مفيد في جانب التفسير، وإنما يكون مفيداً في جانب هذين العلمين، وهما: علم (التاريخ)، وعلم (النسب) (¬1)؛ لأن سبب النُّزول لا يخلو من حدث تاريخي، ومن أشخاص وقع منهم هذا الحدث، ووقوع الاختلاف في أحدهما لا يبنى عليه سوى الاختلاف في النظر التاريخي أو في النسب، كما هو الحال في الاختلاف في الأسماء الواردة في آية اللعان، وفي اسم المجادلة لزوجها. • ومن الموضوعات التي يرتبط بها سبب النُّزول، حيث تجد أن بعض ¬

(¬1) ممن اعتنى بأنساب من نزل فيهم الخطاب: مقاتل بن سليمان (ت150هـ)، وتفسيره مطبوع، وابن إسحاق (ت150هـ) في السيرة، حيث يذكر أنسابهم عند حديثه عن الآيات النازلة فيهم.

أسباب النُّزول ترتبط ببعض عادات العرب أو أهل الكتاب، والأمثلة في هذا كثيرة؛ كسبب نزول قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَاتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَاتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة: 189]، وغيرها من الآيات التي نزلت على أسباب متعلقة بالعادات، وهذه العادات لها نوع تعلق بالتاريخ، وإن كان يغلب على تلك الأسباب ذكر موضوعات اجتماعية.

المبحث الأول: المراد بأسباب النزول

المبحث الأول المراد بأسباب النُّزول نزول القرآن لا يخرج عن قسمين: الأول: أن لا يكون له سبب مباشر، بل ينْزل حسب الحاجة والمصلحة. الثاني: أن يقع حدث فينْزل قرآن بشأنه، وهذا هو المراد بأسباب النُّزول. وهذا الحدث يشمل كل قول أو فعل، أو سؤال وقع ممن عاصروا التنْزيل، ونزل القرآن بسببهم. ويمكن صياغة أسباب النُّزول كالآتي: كل قول أو فعل أو سؤالٍ ممن عاصروا التنْزيل نزل بشأنه قرآن (¬1). • ومن أمثلة القول: ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو جهل: هل يُعَفِّرُ محمد وجهه بين أظهركم؟ قال: فقيل: نعم. فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته، أو لأُعَفِّرن وجهه في التراب. قال: فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يصلي؛ زعم ليطأ على رقبته. قال: فما فَجَأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه. قال: فقيل له: مَا لَكَ؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهولاً وأجنحةً. ¬

(¬1) ينظر: المحرر في أسباب النزول، للدكتور خالد المزيني (1:105).

فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً». قال: فأنزل الله عزّ وجل ـ لا ندري في حديث أبي هريرة أو شيء بلغه ـ {كَلاَّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى *أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى *إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى *أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى *عَبْدًا إِذَا صَلَّى *أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى *أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى *أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى *أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى *كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ *نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ *فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ *سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ *كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 6 - 19]» (¬1). • ومن أمثلة الفعل: ما أخرجه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس فأنزل الله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197]» (¬2). • ومن أمثلة السؤال: ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه، قال: «أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحاب النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيْضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} ..} إلى آخر الآية [البقرة: 222]، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح»، فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه» (¬3). ولا يلزم أن يكون النُّزول عقب الحدث مباشرة، فقد يتأخَّر؛ كحادثة الإفك، لكن لا يصحُّ أن يكون النُّزول قبل الحدث، فهذا لا يدخل في أسباب النُّزول، بل يدخل في الإخبار عن المغيبات، كما ورد في تفسير قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ *سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم (2797). (¬2) صحيح البخاري برقم (1523). (¬3) صحيح مسلم برقم (302).

[القمر: 44 - 45]، قال ابن أبي حاتم (¬1): حدثنا أبي حدثنا أبو الربيع الزهراني حدثنا حماد عن أيوب عن عكرمة قال: «لما نزلت {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} قال عمر: أيُّ جمعٍ يُهزم؟ أيُّ جمعٍ يُغلب؟ قال عمر: فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يثب في الدرع وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} فعرفت تأويلها يومئذ». فسورة القمر مكية، والحدث الذي أشارت إليه مدني، فهو من باب الإخبار بالمغيَّب فحسب، والله أعلم. فائدة: مما يحسن ملاحظته أن ترتيب السور والآيات لم يكن على ترتيب نزولها، بل تنْزل الآيات على الأسباب خاصة، وتوضع كل واحدة منها مع ما يناسبها من الآي رعاية لنظم القرآن وحسن السياق (¬2)، وهاهنا قاعدة لطيفة ذكرها الزركشي (ت794هـ)، قال: «... الزمان إنما يشترط في سبب النُّزول، ولا يشترط في المناسبة؛ لأن المقصود منها وضع آية في موضع يناسبها» (¬3). ¬

(¬1) أورده ابن كثير في تفسيره (1:481) تحقيق: سامي السلامة. (¬2) ينظر: البرهان في علوم القرآن، للزركشي (1:25). (¬3) البرهان في علوم القرآن، للزركشي (1:26).

المبحث الثاني: قصص القرآن وأسباب النزول

المبحث الثاني قصص القرآن وأسباب النُّزول مما قد يلتبس بسبب النُّزول قصص القرآن، إذ الآيات قد تكون قصة، وقد تكون بسبب قصة حدثت، لكن ليس لكل قصص القرآن سببُ نزولٍ. ومن أمثلة ما كان قصة في سبب النُّزول حادثة الإفك التي نزل بشأنها قرآن، لكن قصة آدم في سورة البقرة لم يكن لها سبب نزول مباشر كما هو الحال في قصة الإفك، فهي من قصص القرآن وليست من أسباب النُّزول. وقد ذكر الواحدي (ت468هـ) في كتابه (أسباب النُّزول) في سورة الفيل ما نصُّه: «نزلت في قصة أصحاب الفيل، وقصدهم تخريب الكعبة، وما فعل الله تعالى بهم: من إهلاكهم وصرفهم عن البيت، وهي معروفة» (¬1). فاعترض عليه السيوطي (ت911هـ)، فقال: «قلت: والذي يتحرر في سبب النُّزول: أنه ما نزلت الآية أيام وقوعه؛ ليخرج ما ذكره الواحدي في سورة الفيل من أن سببها قصة قدوم الحبشة به، فإن ذلك ليس من أسباب النُّزول في شيء، بل هو من باب الإخبار عن الوقائع الماضية؛ كذكر قصة قوم نوح وعاد وثمود وبناء البيت ونحو ذلك، وكذلك ذِكْرُه في قوله: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء: 125] سببَ اتخاذه خليلا ليس ذلك من أسباب نزول القرآن كما لا يخفى» (¬2). ¬

(¬1) أسباب النُّزول للواحدي، تحقيق: كمال بسيوني زغلول (ص491). (¬2) الإتقان في علوم القرآن (1:90).

المبحث الثالث: صيغ عبارات أسباب النزول

المبحث الثالث صيغ عبارات أسباب النُّزول الأصل في أسباب النُّزول الصريحة أنها نقلية من جهتين: الصيغة التي يُحكى بها سبب النُّزول، والحدث الذي يُذكر في سبب النُّزول، فكما لا يصح افتعال حدث يقال فيه: إنه سبب نزول، كذلك لا يصلح ذكر صيغة لم ترد في المنقول عن الصحابة أو التابعين وأتباعهم. وقد وقع عند بعض المعاصرين خطأ في حكاية الصيغة، حيث قال: «تختلف عبارات القوم في التعبير عن سبب النُّزول، فتارة يُصرح بلفظ السبب، فيقال: (سبب نزول الآية كذا)، وهذه العبارة نص في السببية لا تحتمل غيرها» (¬1). وهذا الذي قاله لا يكاد يوجد في أثر من آثار أسباب النُّزول المنقولة عن الصحابة والتابعين وأتباعهم، وإنما ذلك توهُّمٌ من قائله، وظنٌّ بوجوده، وليس الأمر كذلك. وأشهر الصيغ في أسباب النُّزول هي العبارة التي تأتي بعد فاء السببية (فنَزلت، أو فأنزل)، وعبارة (نزلت في كذا، أُنزلت في كذا). ورود كلمة النُّزول قرينة قوية في إرادة ذكر سبب النُّزول، وليست أصلاً يُحكم به على أن ورودها في الأثر يدل على أنه هو سبب النُّزول المباشر، إذ قد يكون هناك ما يدلُّ على أنه ليس المراد بها سبب النُّزول المباشر. ¬

(¬1) مناهل العرفان (1:114).

أولاً: عبارة (فأنزل الله، فنَزلت): عبارة (فأنزل الله، فنَزلت) أَدْخَلُ في السببية من عبارة (نزلت في كذا، أُنزلت في كذا)؛ إذ غالب ما يرد بهذه الصيغة يدخل في سبب النُّزول المباشر بخلاف عبارة (نزلت في كذا، أُنزلت في كذا). ومن قرأ في آثار السلف ظهر له أنهم قد يتوسعون في إطلاق عبارات النُّزول، ولا يريدون بها بيان سبب النُّزول، وإنما يريدون معنى لآخر؛ كالتفسير وغيره، ومن أمثلة ذلك ما رواه الطبري في قوله تعالى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة: 58]، فعن أبي الكنود عن عبد الله: «{وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} قالوا: حنطة حمراء فيها شعيرة فأنزل الله: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ}». فقوله: «فأنزل الله» لا يعني سبب النُّزول كما هو ظاهر من الأثر؛ لأنه لا يصحُّ حمل هذه العبارة على إرادة سبب النُّزول المباشر، والله أعلم. ومن أمثلة ما ورد من هذه العبارة، وأريد به سبب النُّزول المباشر ما رواه البخاري في أمر تحويل القبلة عن البراء بن عازب رضي الله عنه: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، وكان يعجبه أن تكون قبلته قِبَلَ البيت، وأنه صلى أو صلاها صلاة العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلى معه، فمر على أهل المسجد وهم راكعون، قال: أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم قِبَلَ مكة، فَدَاروا كما هم قبل البيت، وكان الذي مات على القبلة قبل أن تُحَوَّلَ قِبَلَ البيت رجالٌ قتلوا لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنْ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143]» (¬1). ثانياً: عبارة (نزلت في كذا، أُنزلت في كذا): يكثر في هذه العبارة إرادة التفسير، وما يأتي منها لبيان سبب النُّزول المباشر قليل بالنسبة للعبارة الأولى. ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (41)؛ وأخرجه أيضاً مسلم برقم (525) مختصراً.

وقد وقع خلاف بين العلماء في ورود هذه العبارة عن الصحابي؛ هل تُعدُّ من أسباب النُّزول، أو من قبيل التفسير؟ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (ت728هـ): «وقد تنازع العلماء في قول الصاحب: نزلت هذه الآية في كذا؛ هل يجري مجرى المسند؛ كما يذكر السبب الذي أنزلت لأجله، أو يجري مجرى التفسير منه الذي ليس بمسند؟ فالبخاري يدخله في المسند، وغيره لا يدخله في المسند، وأكثر المساند على هذا الاصطلاح؛ كمسند أحمد وغيره، بخلاف ما إذا ذكر سبباً نزلت عقبه، فإنهم كلهم يدخلون مثل هذا في المسند» (¬1). ومعنى هذا أن اختلافهم في عبارة (نزلت في كذا) دون عبارة (فنَزلت، فأنزل الله)، فهم يجعلون عبارة (فنَزلت، فأنزل الله) من قبيل المرفوع؛ لأنَّ سبب النُّزول يحكي حدثاً وقع في زمن الرسول صلّى الله عليه وسلّم؛ لذا فهو من هذا القبيل. أما عبارة (نزلت في كذا)، فبعضهم يجعلها من قبيل المرفوع؛ كالبخاري (¬2)، وبعضهم يجعلها من قبيل التفسير؛ لكثرة ما ترد هذه العبارة عنهم، وهم يريدون بها أن ما يذكرونه يدخل في معنى الآية وحكمها، والله أعلم. ومن أمثلة ما يرد من هذه العبارة في سبب النُّزول المباشر: 1 - ما رواه البخاري بسنده عن هشام بن عروة، قال: قال عروة: «كان الناس يطوفون في الجاهلية عراة إلا الحُمْس ـ والحمس قريش وما ولدت ـ وكانت الحمس يحتسبون على الناس يعطي الرجل الرجل الثياب يطوف فيها ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (13:340). (¬2) الذي يدل على ذلك أنه يروي عن الصحابة موقوفات كثيرة في التفسير، لكن ما يرويه عنهم بهذه الصيغة يسنده، مما يدل على أنه داخل في المرفوع عنده، وأنه على شرطه، ومن ذلك ما رواه في تفسير سورة الأنفال، قال: «حدثني محمد بن عبد الرحيم حدثنا سعيد بن سليمان أخبرنا هشيم أخبرنا أبو بشر عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس رضي الله عنهما: سورة الأنفال قال: نزلت في بدر».

وتعطي المرأة المرأة الثياب تطوف فيها فمن لم يعطه الحمس طاف بالبيت عرياناً وكان يفيض جماعة الناس من عرفات ويفيض الحمس من جمع. قال: وأخبرني أبي عن عائشة رضي الله عنها أن هذه الآية نزلت في الحمس: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199]. قال كانوا يفيضون من جمع فدفعوا إلى عرفات» (¬1). 2 - وفي قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَاسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] روى البخاري بسنده عن عبد الله بن معقل قال: «جلست إلى كعب بن عجرة رضي الله عنه فسألته عن الفدية، فقال: نزلت فيَّ خاصة، وهي لكم عامة؛ حُمِلْتُ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والقمل يتناثر على وجهي فقال: «ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى، أو ما كنت أرى الجهد بلغ بك ما أرى؛ تجد شاة؟». فقلت: لا. فقال: «فصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع» (¬2). ومن أمثلة ما يرد من هذه العبارة من التفسير: 1 - ما روى مسلم عن البراء بن عازب رضي الله عنه في قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم: 27]، قال: «نزلت في عذاب القبر» (¬3). 2 - وروى مسلم: في قوله عزّ وجل: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} [النساء: 128] عن عائشة قالت: «نزلت في المرأة تكون عند الرجل، فَلَعَلَّهُ أن لا يستكثر منها، وتكون لها صحبة وولد، فتكره أن يفارقها، فتقول له: أنت في حل من شأني» (¬4). ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (1665). (¬2) صحيح البخاري برقم (1816). (¬3) صحيح مسلم برقم (2871)؛ وأخرجه أيضاً البخاري برقم (1369). (¬4) صحيح مسلم برقم (3021).

المبحث الرابع: فوائد أسباب النزول

المبحث الرابع فوائد أسباب النُّزول 1 - معرفة المعنى المراد بالآية: إن سبب النُّزول يعين على معرفة المراد وتعيينه، إذ قد ترد عليه احتمالات صحيحة من حيث هي، لكن سبب النُّزول يحدد أحد هذه المعاني، ويكون هو المراد دون غيره. وقد نقل السيوطي بعض أقوال العلماء في أهمية أسباب النُّزول، منها: «قال ابن دقيق العيد: بيان سبب النُّزول طريق قوي في فهم معاني القرآن. وقال ابن تيمية: معرفة سبب النُّزول يعين على فهم الآية؛ فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب». وقد أفاض الشاطبي في هذا المعنى (¬1)، فقال: «وجاء رجل إلى ابن ¬

(¬1) للشاطبي كلام طويل ونفيس في هذا الباب يحسن مراجعته، ومما قاله فيه: «معرفة أسباب التنزيل لازمة لمن أراد علم القرآن، والدليل على ذلك أمران: أحدهما: أن علم المعاني والبيان الذي يعرف به إعجاز نظم القرآن ـ فضلاً عن معرفة مقاصد كلام العرب ـ إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال: حال الخطاب من جهة نفس الخطاب أو المخاطِب أو المخاطَب أو الجميع؛ إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالَين، وبحسب مخاطَبين، وبحسب غير ذلك؛ كالاستفهام لفظه واحد ويدخله معان أخر من تقرير وتوبيخ وغير ذلك، وكالأمر يدخله معنى الإباحة والتهديد والتعجيز وأشباهها، ولا يدل على معناها المراد إلا الأمور الخارجة، وعمدتها مقتضيات الأحوال، وليس كل حال يُنقل، ولا كل قرينة تَقترن بنفس الكلام المنقول، وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة فات فهم الكلام جملة، أو فهم شيء منه، ومعرفة الأسباب رافعة لكل مشكل في هذا النمط فهي من المهمات في فهم الكتاب بلا بُدِّ، =

مسعود فقال: تركت في المسجد رجلاً يفسر القرآن برأيه؛ يفسر هذه الآية: {يَوْمَ تَاتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10] قال: يأتي الناس يوم القيامة دخان فيأخذ بأنفاسهم حتى يأخذهم منه كهيئة الزكام. فقال ابن مسعود: من علم علماً فليقل به، ومن لم يعلم، فليقل: الله أعلم، فإن من فِقْهِ الرجل أن يقول لما لا علم له به: الله أعلم. إنما كان هذا لأن قريشاً استعصوا على النبي صلّى الله عليه وسلّم، دعا عليهم بسنين كسني يوسف، فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد، فأنزل الله: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَاتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10] الآية إلى آخر القصة (¬1). وهذا شأن أسباب النُّزول في التعريف بمعاني المنَزل بحيث لو فُقِدَ ذكر السبب لم يعرف من المنَزل معناه على الخصوص دون تطرق الاحتمالات وتوجه الإشكالات وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «خذوا القرآن من أربعة» وذكر منهم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (¬2). وقد قال في خطبة خطبها: «والله لقد علم أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم إني من أعلمهم بكتاب الله» (¬3). وقال في حديث آخر: «والذي لا إله غيره ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن أنزلت ولو أعلم أحداً أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل ¬

= ومعنى معرفة السبب هو معنى معرفة مقتضى الحال وينشأ عن هذا الوجه: الوجه الثاني: وهو أن الجهل بأسباب التنْزيل مُوقِعٌ في الشبه والإشكالات، ومُورِدٌ للنصوص الظاهرة مورد الإجمال حتى يقع الاختلاف وذلك مظنة وقوع النِّزاع ...» الموافقات، للشاطبي تحقيق: مشهور بن حسن آل سلمان (4:146 - 153)، وقد ذكر أمثلة مما وقع فيه الإشكال بسبب عدم معرفة سبب النُّزول. (¬1) أخرجه البخاري برقم (4774)؛ ومسلم برقم (2798) واللفظ له. (¬2) أخرجه البخاري برقم (3808)؛ ومسلم برقم (2464) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. (¬3) أخرجه البخاري برقم (5000).

لركبت إليه» (¬1). وهذا يشير إلى أن علم الأسباب من العلوم التي يكون العالم بها عالماً بالقرآن. وعن الحسن أنه قال: «ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يُعلم فيم أنزلت وما أراد بها». وهو نصٌّ في الموضوع مشيرٌ إلى التحريض على تعلم علم الأسباب. وعن ابن سيرين قال: سألت عَبِيدة عن شيء من القرآن فقال: «اتق الله وعليك بالسداد؛ فقد ذهب الذين يعلمون فيم أنزل القرآن. وعلى الجملة، فهو ظاهر بالمزاولة لعلم التفسير» (¬2). وهذا الأمر ظاهر لا يحتاج إلى تقرير، لكن أضرب لك مثالاً في ذلك: ما رواه البخاري بسنده عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء رضي الله عنه يقول: «نزلت هذه الآية فينا، كانت الأنصار إذا حجوا فجاؤوا لم يدخلوا من قِبَلِ أبوابِ بيوتهم، ولكن من ظهورها، فجاء رجل من الأنصار، فدخل من قِبَلِ بابه، فكأنه عُيِّرَ بذلك فنزلت: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَاتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَاتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189]» (¬3). وكون البيوت في الآية هي البيوت المسكونة مما أجمع عليه السلف، وإن اختلفوا في سبب النُّزول على أقوالٍ، قول البراء هو أصوبها؛ لأنه قول صحابي شاهد التنْزيل، وهو عارف بعادات قومه التي نزل القرآن بشأنها. وقد ذهب بعض المتأخرين بتفسير هذه الجملة إلى مذاهب عجيبة تخالف سبب النُّزول ولا تتناسب مع سياق الآية، فمنهم من قال: «أي ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (5002)؛ ومسلم برقم (2463). (¬2) الموافقات، للشاطبي، تحقيق: مشهور بن حسن آل سلمان (4:152 - 153). (¬3) أخرجه البخاري برقم (1803) واللفظ له، وأخرجه أيضاً مسلم برقم (3026).

اطلبوا البِرَّ منْ أهلِه ووجهِه، ولا تطلبوه عندَ الجهلةِ المشركينَ» (¬1). وهذا القول مخالف لسبب النُّزول، وإن كان جائزاً من جهة الاحتمال اللغوي، فالقائل به ربط هذا المقطع بالسؤال عن الأهلة في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَاتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَاتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة: 189]، وجعل أن السؤال عن الأهلة إنما هو سؤال عن سبب بدوِّها هلالاً حتى تصير بدراً، وأن الله أرشدهم إلى ما هو أهم من مسألتهم، وهو بيان الفائدة المتعلقة بالشرع بالنسبة للأهلة، وهذا التخريج فيه نظر؛ لأنهم إنما سألوا عن علاقتها بالشرع، فجاء الجواب مطابقاً: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}. وذهب آخر إلى أنَّ البيوتَ كنايةٌ عنِ النِّسَاءِ، ويكونُ المعنى: وأتوا النِّسَاءَ منْ حيثُ أمرَكم اللهُ، والعربُ تُسَمِّي المرأةَ بيتاً، قالَ الشاعرُ (¬2): مَا لِي إذَا أنْزِعُهَا صَأيتُ ... أكِبَرٌ غَيَّرَنِي أمْ بَيتُ أراد بالبيتِ المرأةَ (¬3). وهذا التفسير مخالف للسياق، فالسياق لا علاقة له بكيفية إتيان النساء، ولو حُمِلت الآية عليه لكان في النظم تفكُّكاً ملحوظاً ينبو عنه نظم القرآن المعجز، إذ يكون المعنى: «يسألونك عن فائدة الأهلة لهم، قل هي مواقيت يوقتون بها عِدَدَهم من بلوغ الدين والإجارة وغيرها، ومواقيت للحج الذي هو من أركان الإسلام، وليس البر بأن تأتوا النساء من أدبارهن، ولكن البر من اتقى وأتاهن من قُبُلِهن». ¬

(¬1) مجاز القرآن (1:68). (¬2) الرجز بلا نسبة في عِدَّة مراجع: جمهرة اللغة (241، 257)؛ وديوان الأدب، للفارابي (3:298)، وغيرها. وهو يصف دلواً إذا نزعها صأى؛ أي: سمع لنفسه صوتاً. (¬3) أمالي الشريف المرتضى (1:378) وهو يُكثر من المحتملات الضعيفة، لغوية أو غيرها.

وهذا التفسير فيه تفكيك للنظم لا يحتاج الأمر فيه إلى خبير، والله المستعان. وكل هذا إنما أوقع فيه الجهل بسبب النُّزول الذي حدَّد المراد بالبيوت، ولم يدع للاحتمال مجالاً، والله أعلم. 2 - معرفة حكمة التشريع، ومسايرته للحوادث الواقعة: إن من فوائد نزول القرآن منجماً أنه يساير الحوادث التي كانت تحدث للأمة الإسلامية إبَّان نشوئها في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأي حدث يحدث، ويحتاج المسلمون فيه إلى بيان فإنه يحصل لهم بيانه بطرق متعددة، منها نزول القرآن الكريم. وإذا تأملت بعض التشريعات وجدتها نزلت على أسبابٍ؛ اللعان، والظهار، والعضلِ، وتقسيم الغنائم، وغيرها من التشريعات. ومعرفة هذه الأسباب المقترنة بالآيات يدلُّك على شيء من حكمة التشريع، ورحمة الله بعباده بأن لم يتركهم هملاً بلا شرع يضبط أمورهم. 3 - الاستفادة منها في مجال التزكية والتربية والتعليم: إن إدراك أسباب النُّزول تعطي المربي فرصة كبيرة في التعامل مع الناس على ما هم عليه من الواقع الذي يعيشونه، ومن الأخلاق التي جبلهم الله عليها، وترشده إلى كيفية إثارتهم إلى القضية التي يريد أن يتحدث عنها ببيان كيفية عناية الله بمن نزل فيهم قرآن من المؤمنين، وكيف عالج ما فيهم من الأدواء، وكيف فضح أعداءهم وأبان لهم صنائعهم ومنكراتهم. وهذا وإن لم يكن يختص بالآيات الواردة على سبب وحدها، إلا أن نزولها على سبب يزيد في قوتها من هذه الجهة، والله أعلم. • * *

المبحث الخامس: قواعد في أسباب النزول

المبحث الخامس قواعد في أسباب النُّزول إن العلاقة بين أسباب النُّزول والعموم قد أورثت عدداً من القواعد، وكان من أشهرها قاعدة: (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب)، ويمكن الانطلاق من هذه القاعدة إلى تقرير عدد من القواعد، فأقول: قد وقع خلاف بين العلماء في علاقة السبب بالعموم الوارد في ألفاظه على قولين: الأول: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. الثاني: أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ. والقول الأول أقوى وأولى على التحقيق. ولا يُفهم من القول الثاني أنهم يرون أن أحكام الله النازلة على سبب تختصُّ بالشخص المعين الذي نزلت فيه الآية ولا تتعداه، لكن مرادهم أنها مختصة به من جهة النُّزول، ويدخل معه غيره من طريق القياس، لا من طريق تعميم اللفظ (¬1). ويمكن رصد الفرق بين المذهبين فيما يأتي: أولاً: الفرق بين المذهبين في طريقة التعميم، فالقائلون بأن العبرة بعموم اللفظ لا يعنيهم من نزل فيه الخطاب بقدر ما يعنيهم المعنى الذي يعممونه. ¬

(¬1) ينظر في هذا: مقدمة في أصول التفسير، لابن تيمية، تحقيق عدنان زرزور (ص47)؛ وشرح المؤلف لها في الطبعة الثانية (ص84 - 90).

أما القائلون بأن العبرة بخصوص السبب فيعنيهم بالدرجة الأولى من نزل فيه الخطاب؛ لأنه هو المقصود الأول به، ثم يدخل معه غيره بعد ذلك قياساً. ثانياً: أن من يذهب إلى عموم اللفظ قد يُدخل غير صورة السبب في معنى الآية، أما من يذهب إلى القياس، فلا يقيس إلا في صورة السبب، ولا يُدخل غير صورته فيه، وسيأتي توضيح هذا بالمثال. وإذا تأملت الآيات التي لها أسباب النُّزول، فإنك ستجد بعضها نزل بشأن أمر معين متعلق بشخصٍ أو جماعة، وبعضها نزل بشأن أمر يشمل صوراً متنوعة، ولا تجد في النص ما يفيد التخصيص. أما الأمر الأول، وهو نزولها بشأن أمر متعلق بشخص معين فكثير، منها ما نزل بشأن كعب بن عجرة رضي الله عنه لما كانت تؤذيه هوام رأسه، فنَزلت آية الفدية، وهي قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَاسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]، فقد روى البخاري بسنده عن عبد الله بن معقل، قال: «جلست إلى كعب بن عجرة رضي الله عنه فسألته عن الفدية، فقال نزلت فيَّ خاصة، وهي لكم عامة؛ حُمِلْتُ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والقمل يتناثر على وجهي فقال: ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى، أو ما كنت أرى الجهد بلغ بك ما أرى؛ تجد شاة؟ فقلت: لا. فقال: فصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع» (¬1). فقوله: نزلت فيَّ خاصَّة، وهي لكم عامة يشير إلى القول بالعموم، لكن هل هو من باب عموم اللفظ، أو من باب القياس؟ إن قلت من باب عموم اللفظ، فكعب بن عجرة وحاله مجرد مثالٍ من أمثلة هذا العموم، وإن كان هو الذي نزلت بشأنه الآية. وإن قلت بالقياس، فكعب هو الذي نزلت فيه خاصة، ولا يدخل معه ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (1816) وقد تقدم.

غيره في الخطاب من جهة اللفظ، وإنما من جهة القياس، فمن وقع له حالٌ مثل حال كعب حلق وفدى. وليس في مثل هذه الصورة من أسباب النُّزول أكثر من هذا التعميم، والله أعلم. وأما الأمر الثاني، وهو أن تكون مرتبطة بأمر يشمل صوراً متنوعة، فمثل ما ورد في سبب نزول قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195]، فقد ورد فيها أنها نزلت في النفقة، رواه البخاري عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما، ومراده: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة بترك النفقة في سبيل الله تعالى. وقد علَّق ابن حجر على هذا الأثر فقال: «... ذكر المصنف حديث حذيفة في هذه الآية؛ قال: «نزلت في النفقة»؛ أي: في ترك النفقة في سبيل الله عزّ وجل، وهذا الذي قاله حذيفة جاء مفسَّراً في حديث أبي أيوب ـ الذي أخرجه مسلم والنسائي وأبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم من طريق أسلم بن عمران ـ قال: كنا بالقسطنطينية فخرج صف عظيم من الروم، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، ثم رجع مقبلاً. فصاح الناس: سبحان الله، ألقى بيده إلى التهلكة. فقال أبو أيوب: أيها الناس، إنكم تؤوِّلون هذه الآية على هذا التأويل، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، إنا لما أعز الله دينه، وكَثُر ناصروه قلنا بيننا سِرّاً: إن أموالنا قد ضاعت، فلو أنا أقمنا فيها، وأصلحنا ما ضاع منها. فأنزل الله هذه الآية، فكانت التهلكة الإقامة التي أردناها (¬1). وصحَّ عن ابن عباس رضي الله عنهما وجماعة من التابعين نحو ذلك في تأويل الآية» (¬2). ¬

(¬1) لم أجده في مسلم بعد طول البحث، وهو في سنن النسائي الكبرى (11029)؛ وسنن أبي داود (2512)؛ وسنن الترمذي (2972). وصححه ابن حبان (9:11)؛ والحاكم (2:275). وسكت عنه الذهبي. (¬2) فتح الباري (8:158).

وإذا تأملت قوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} الذي جاء في سياق الأمر بالإنفاق في الجهاد في سبيل الله، وجدته أمراً عامّاً لا يختصُّ بترك النفقة فقط، بل ترك النفقة في الجهاد صورة من صور الإلقاء باليد إلى التهلكة، ولو اعتبرت خصوص السبب، فإنك لا يمكن أن تقيس غير أمور النفقة في هذا الموضع؛ لأنك ستكون محصوراً بصورة السبب فتقيس عليها، فتقول: أي ترك للنفقة فيه إلقاء باليد إلى التهلكة، فهو داخل في معنى الآية قياساً؛ كترك النفقة على الأولاد واليتامى والمساكين، فأنت تدخل هذه الصور لأنها تشارك أصل السبب في ترك النفقة. لكن إذا رأيت من يتقحم المنكرات والمعاصي فإنك لا تستطيع إدخاله في صورة السبب؛ لأن فعله لا علاقة له بالنفقة، وإن كان فيه إلقاءٌ باليد إلى التهلكة. فإذا نزعت إلى العموم في جملة {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}، وجعلت صورة السبب ـ ترك النفقة في الجهاد ـ مثالاً = صحَّ عندك إدخال كل صورة فيها إلقاءٌ باليد إلى التهلكة، فتدخل من يشرب المسكرات والمخدرات والدخان؛ لأنه يلقي بيده إلى التهلكة، وكذا غيرها من الصور التي تدخل في هذا المقطع، والله أعلم. وبهذا يتبين أن القول بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب أشمل للمعاني من القول بأن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ، وأن غير السبب يدخل قياساً. ومن ثَمَّ يمكن أن تسبك عدداً من القواعد من خلال هذه الأمثلة: الأولى: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. الثانية: كل سبب نزل على صورة معينة فإنه لا يجري العموم فيه في غير صورة السبب؛ لأن اللفظ نزل مقيداً بها، فيدخل فيه من فعل مثل ذلك الفعل؛ كقضية الفدية لمن حلق رأسه بسبب أذى أثناء إحرامه. الثالثة: صورة السبب أول ما يدخل في عموم معنى الآية؛ كترك النفقة في آية: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}.

الرابعة: إذا احتملت الآية معنى آخر غير مناقضٍ للسبب جاز التفسير به، وصار السبب مثالاً من أمثلة العموم؛ كإدخال صور أخرى غير ترك النفقة من صور الإلقاء باليد إلى التهلكة في آية {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}. • * *

قراءات مقترحة في موضوع: أسباب النُّزول 1 - «أسباب النُّزول وأثرها في بيان النصوص»: دراسة مقارنة بين أصول التفسير وأصول الفقه، للدكتور عماد الدين محمد الرشيد. 2 - «أسباب النُّزول من خلال الكتب التسعة جمعاً ودراسة»، للدكتور خالد المزيني. وأصلها رسالة دكتوراه تقدم بها إلى قسم القرآن وعلومه بكلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية (¬1). بحوث مقترحة في موضوع: أسباب النُّزول 1 - استقراء الصيغ التي يُعبَّر بها عن أسباب النُّزول في كتب الحديث كتاباً كتاباً، فمثلاً: يُستقرأ «صحيح البخاري»، ويُنظر فيما يصدق عليه أنه سبب نزول مباشر أو لا من خلال قرائن النص، وهكذا غيره من كتب الحديث المسندة من الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها. 2 - دراسة صيغة سبب النُّزول الواردة على أسلوب (نزلت في كذا) من جهة نزولها في شخص، أو في قوم، أو في حدث معيَّنٍ (¬2). ¬

(¬1) وقد طبع بعنوان «المحرر في أسباب النُّزول»، وهو من منشورات دار ابن الجوزي بالدمام. (¬2) ينظر كتاب: «أسباب النُّزول وأثرها في بيان النصوص» (ص75 وما بعدها)، فقد قام الدكتور عماد الدين محمد الرشيد بعمل إحصائي لكتاب «لباب النقول» وغيره لمعرفة عدد الروايات التي وردت بها صيغة أسباب النُّزول، واستنبط منها فوائد جميلة جداً، ويمكن السير على منواله في غير ما كتاب.

3 - دراسة الآثار الصريحة التي ثبت أنها سبب نزول، لكن لم يرد فيها صيغة السببية، ومثال ذلك ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما {إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى} [النساء: 102]، قال: «عبد الرحمن بن عوف، كان جريحاً» (¬1). قال الحافظ ابن حجر (ت852هـ): «أي: فنَزلت الآية فيه» (¬2). 4 - دراسة أسباب النُّزول من خلال كتب مصطلح الحديث وشروحها، مثل كتاب: «النكت على مقدمة ابن الصلاح»، لابن حجر (ت852هـ)، و «فتح المغيث»، للسخاوي (ت902هـ)، وغيرها، ففي هذه الكتب تحريرات متعلقة بأسباب النُّزول يحسن جمعها وتحليلها ودراستها. 5 - دراسة النُّزول دراسة تطبيقية على تفسير من التفاسير، ومن أمثلة ذلك ما قام به الباحث سعيد بن محمد بن سعد الشهراني في رسالته التي أعدها لنيل درجة الماجستير بقسم الثقافة من كلية التربية في جامعة الملك سعود، وهي بعنوان: «استدراكات الإمام محمد الطاهر بن عاشور في تفسيره على من سبقه في أسباب النُّزول». 6 - جمع القواعد المتعلقة بأسباب النُّزول رواية ودراية ودراستها دراسة تحليلية. فمن قواعد الرواية مثلاً: تقديم السبب الذي يكون راويه صاحب القصة. وفي هذا الموضوع يحسن النظر فيما أصّله السيوطي (ت911هـ) مما يتعلق بالرواية في أسباب النُّزول (¬3)، فقد جمع فيها ما لم يُسبق إلى جمعه، كما قال: «تأمل ما ذكرته لك في هذه المسألة (¬4)، واشدد به يديك، فإني ¬

(¬1) رواه البخاري برقم (4323). (¬2) فتح الباري (8:264)؛ وينظر إفادة ذلك من كتاب: «أسباب النُّزول وأثرها في النصوص» (ص77). (¬3) ينظر: «الإتقان في علوم القرآن» (1:91 - 98). (¬4) يقصد المسألة الخامسة، وما معها من تنبيهات (1:91 - 98).

حرَّرته واستخرجته بفكري من استقراء صنيع الأئمة ومتفرقات كلامهم، ولم أُسبق إليه» (¬1). ومن قواعد الدراية: قاعدة (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب)، وقاعدة (الأصل عدم تكرر النُّزول). 7 - جمع الأسباب المتعلقة بالعادات مما يحسن بحثه ودراسته دراسة مستقلة؛ لما يحمل من فوائد عديدة، منها: إبطال العادات الجاهلية التي لا توافق شرع الله، وتصحيح بعض العادات المغلوطة، وغيرها من الفوائد. ¬

(¬1) الإتقان في علوم القرآن (1:98).

الفصل الخامس: جمع القرآن

الفصل الخامس جمع القرآن وفيه مبحثان: المبحث الأول: الجمع في الصدور المبحث الثاني: الجمع في السطور

• علاقة هذا النوع بأنواع علوم القرآن الأخرى: يرتبط جمع القرآن (¬1) بعدد من أنواع علوم القرآن، منها: • (الأحرف السبعة)، لأن جمع القرآن مرتبط بمفهوم هذه الأحرف، ولا يمكن معرفة ما جُمِع إلا بمعرفة ما يمكن رسمه وما لا يمكن مما يتعلق بهذه الأحرف. • (رسم المصحف)، وله به ارتباط وثيق؛ لأن كتابة القرآن في المصحف إنما كانت على رسم معين معتمد عند الصحابة. ويدخل في (رسم المصحف) كل ما وُجِد مدوناً من المصاحف أو الآيات المتفرقة في بطون الكتب مما يخالف المصحف العثماني، وهذه بحاجة إلى بيان وتجلية؛ لئلا يقع الأغمار الذين لا يعلمون على مثل هذه المدونات فيلتبس الأمر عليهم، وهو جهد شاق يحتاج إلى قارئ مخطوطات قدير، عارف بالرسم وما يتصل به من الضبط. ¬

(¬1) يلاحظ أن الذي غلب على مصطلح (جمع القرآن) هو تدوينه في الصحف، دون حفظه في الصدور، فذلك لم يقع فيه من الإشكالات ما وقع في تاريخ تدوينه.

جمع القرآن يقول الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، وكان من قدر الله لحفظ كتابه الكريم أن يسَّر حفظه، وهيَّأ له من يكتبه ويدونه، فصار باقياً إلى قيام الساعة مقروءاً ومكتوباً. وقد وردت الإشارة إلى حفظه في الصدور وفي السطور في عدد من الآيات، ومن أقربها الآيات التي وصفت هذا الكلام من الله تعالى بأنه (قرآن)، وبأنه (كتاب). فالتعبير عنه بأنه (قرآن) فيه إشارة إلى قراءته سواءً أكان في الصدور أم في السطور. والتعبير عنه بأنه (كتاب) إشارة إلى كتابته، وأنه سيكون محفوظاً في كتبٍ يقرؤها المسلمون. ومن هذين الاسمين يتكون موضوع جمع القرآن: الجمع في الصدور، والجمع في السطور.

المبحث الأول: الجمع في الصدور

المبحث الأول الجمع في الصدور أما الجمع في الصدور، فهو تيسير حفظه للمسلمين، فتراهم في شتى بقاع الأرض يترنَّمون بهذا القرآن حفظاً، وبعضهم لا يكاد يعرف العربية لا قراءة ولا كتابة، وتلك مزية لا تجدها لغير القرآن. وموضوع حفظه في الصدور من الوضوح بمكان، لذا لا يحتاج الأمر إلى كثير تقرير له، ولقد نصَّت آياتٌ على تيسير هذا الأمر على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومن ثمَّ على أمته التي ستحمل عنه هذا الكتاب الكريم، ومن ذلك قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنْسَى *إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} [الأعلى: 6 - 7]، وقوله تعالى: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ *إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ *فَإِذَا قَرَانَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ *ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 16 - 19]. وأخرج البخاري بسنده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعالج من التنْزيل شدة وكان مما يحرك شفتيه ـ فقال ابن عباس: فأنا أحركهما لكم كما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحركهما ـ وقال سعيد: أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما فحرك شفتيه ـ فأنزل الله تعالى: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ *إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}. قال: جمعه في صدرك وتقرأه، {فَإِذَا قَرَانَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}. قال: فاستمع له وأنصت، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}. ثم إن علينا أن تقرأه، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلّى الله عليه وسلّم كما قرأه» (¬1). ¬

(¬1) (يعالج) من المعالجة وهي محاولة الشيء بمشقة. (التنزيل) تنزيل القرآن عليه. (وكان =

وكان من نعمة الله على عباده المسلمين أن رتَّب لهم الأجر على حفظه، وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة، منها: 1 - ما أخرجه البخاري بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول: «أيهم أكثر أخذاً للقرآن». فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد، وقال: «أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة». وأمر بدفنهم في دمائهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم» (¬1). 2 - روى الإمام أحمد بسنده عن زر عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يقال لصاحب القرآن اقرأ وارْقَ ورَتِّلْ كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منْزلتك عند آخر آية تقرؤها» (¬2). ¬

= مما يحرك شفتيه) أي: كانت الشدة من كثرة تحريكه شفتيه وكان صلّى الله عليه وسلّم يفعل ذلك خشية أن ينسى ما أوحي إليه. (به) بالقرآن. (لتعجل به) لتأخذه على عجل مسارعة إلى حفظه خشية أن ينفلت منه شيء. (جمعه له) جمع الله تعالى للقرآن. (وتقرأه) وأن تقرأه بعد انتهاء وحيه. (قرآنه) قراءته كما أنزل فلا يغيب عنك منه شيء. (بيانه) استمرار حفظك له بظهوره على لسانك وقيل بيان مجملاته وتوضيح مشكلاته وبيان ما فيه من حلال وحرام وغير ذلك. والحديث في صحيح البخاري برقم (5) وقد تقدم. (¬1) صحيح البخاري برقم (1343). (¬2) المسند (2:192)؛ وأخرجه أيضاً أبو داود (1464)؛ والترمذي (2914) وقال: حسن صحيح. وابن ماجه (3780). وصححه أيضاً ابن حبان (766)؛ والحاكم (1:553) وسكت عنه الذهبي.

المبحث الثاني: الجمع في السطور

المبحث الثاني الجمع في السطور مرَّ الجمع في السطور بمراحل متعددة، وقد قسمها العلماء إلى ثلاث مراحل: المرحلة الأولى: في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم. المرحلة الثانية: في عهد أبي بكر رضي الله عنه. المرحلة الثالثة: في عهد عثمان رضي الله عنه. ولكل مرحلة من هذه المراحل خصائصها وسماتها، ويمكن تفصيل القول فيها من خلال الآثار الواردة في هذا الموضوع، وإليك هذا التفصيل: • المرحلة الأولى * جمع القرآن في عهد النبي (ص) يظهر أنه لما كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم في مكة لم يكن هناك اعتناءٌ ظاهرٌ بتدوين القرآن؛ إذ لم يرد سوى آثارٍ ضعيفة يمكن الاستئناس بها فقط؛ كأثر إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأخذه الصحيفة التي كُتب بها أول سورة طه. ولما انتقل النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة النبوية، وكان الأمر قد آل إليه، وقد بدأ بتنظيم المجتمع الإسلامي؛ كان مما اعتنى به كتابة القرآن، فكتب ما نزل عليه بمكة، وإذا نزل عليه شيء من القرآن بالمدينة كتبه، وألَّف (جمع) القرآن المكي والمدني على حسب ما أمر به الله جبريل عليه السلام، وقد كان له في المدينة كتَّابٌ معروفون يدعوهم لكتابة ما ينْزل من القرآن، وكان من أخصِّهم بذلك زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه.

وقد أخبر زيد ببعض وسائل الكتابة التي كانت في عصر الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ففي الحديث الذي ذكره البخاري (ت256هـ) وغيره في جمع أبي بكر رضي الله عنه إشارة إلى ذلك، فقال: «فتتبعت القرآن أجمعه من العُسُبِ والرِّقاع واللِّخَاف (¬1)» (¬2). وهذا يدلُّ على أنَّ القرآن لم يكن مجموعاً في مصحفٍ واحدٍ في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، بل كان متفرقاً، في مثل هذه الأدوات التي ذكرها زيدٌ رضي الله عنه. وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يعتني بكتابة القرآن أيما عناية، وكان يطلب أحد كتبة الوحي إذا نزل عليه القرآن، وهذا مما دلَّت عليه الآثار، مثل ما رواه البخاري بسنده عن البراء رضي الله عنه قال: «لما نزلت: {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 95] دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زيداً فكتبها، فجاء ابن أم مكتوم فشكا ضرارته فأنزل الله: {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ}» (¬3). مسألة: لماذا لم يُكتب القرآن ـ في مصحف واحدٍ ـ كاملاً في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ لقد كان من قدر الله أن يتوفَّى نبيه صلّى الله عليه وسلّم، وأن لا يجمع القرآن في مصحفٍ واحدٍ، وهذا ما يشهد له الواقع التاريخي لكتابة القرآن في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، والبحث عن العلل في ذلك ضرب من الاجتهاد الذي يحتمل الصواب والخطأ؛ لأن كل تعليل يمكن أن يُنتقَضَ، ومما ذُكر من الأسباب: 1 - أن الحاجة لم تدع إلى ذلك، ولم يقع ما يوجب العمل بهذا الضبط الكتابي المجموع للقرآن الكريم، بدلالة أنه لو كان مما تحتاج إليه ¬

(¬1) العُسُبُ: قال أبو عبيد: «في حديث زيد بن ثابت حين أمره أبو بكر رضي الله عنه أن يجمع القرآن قال: فجعلت أتتبعه من الرقاع والعُسُب واللِّخاف. قال الأصمعي: اللِّخاف واحدتها: لَخْفة وهي حجارة بيض رقاق. والعُسُب واحدها: عَسِيب وهو سَعَف النخل وأهل الحجاز يسمونه الجريد أيضاً» غريب الحديث (4:156). (¬2) صحيح البخاري برقم (7191). (¬3) صحيح البخاري برقم (4593)؛ وأخرجه أيضاً مسلم برقم (1898).

الأمة آنذاك لوجب العمل فيه؛ إذ لا يجوز ترك ما الأمة بحاجة إليه. وإذا تأملت واقع الأمة آنذاك، وعلِمت أن الأمية هي الغالبة عليها، وأن الكتبة بالنسبة لغيرهم قليل = ظهر لك عدم وجود الحاجة للكتابة في أمة تعتمد على الحفظ في ضبط تواريخها وأيامها وأخبارها، وغير ذلك، هذا فضلاً عما وقع من تيسير الله لحفظه في الصدور. 2 - أن الكتابة في المصحف تصلح لشيءٍ قد انتهى واستقرَّ، أما الحال بالنسبة للوحي فلم يكن كذلك، إذ قد ينْزل جزء من السورة، ثم ينْزل الجزء الآخر منها فيما بعد، فيُلحق بها، كما أنه قد ينسخ بعض النازل، فلا يقرأ به، فلو كان مجموعاً في كتاب لتعسَّر ذلك الأمر من جهة الإضافة والإزالة، بخلاف الحال التي هو عليها من كتابته متفرقاً، وحفظهم له في صدورهم. ومما يحسن التنبه له هنا أن الأصل في القرآن المسموع المحفوظ في الصدور لا المكتوب، والمكتوب إنما هو زيادة ضبط للمقروء فحسب، لذا فإن الاعتناء به من جهة تدوينه ـ ولو مفرقاً ـ زيادة في الضبط وبقاء المحفوظ في الصدور، وليس أمراً مستقلاً، لذا لا يُتصوَّر أن يرجع الصحابة في عهده إلى ما دونوه دون الرجوع إليه (ص)، فالمقروء عليه (ص) هو المقدم فيما لو وقع اختلاف، والله أعلم. ملامح هذا الجمع: 1 - أنه كان مفرَّقاً في عدد من أدوات الكتابة. 2 - أن القرآن الذي نقرؤه كله كان مكتوباً في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يكن منه شيء غير مكتوب، ثم كُتب بعد ذلك (¬1). ¬

(¬1) قد يقول قائل: ما الدليل على ذلك؟ والجواب: الدليل عدم الدليل على كونه ليس كذلك، فأيهما أولى ـ من جهة العقل، ومن جهة حرص الرسول صلّى الله عليه وسلّم ـ: أن يكون مكتوباً كله بين يديه، أو أن يكون غير ذلك؟ وأن يكون مراجعاً للمكتوب كما كان يراجع المحفوظ مع جبريل عليه السلام فيلغي منه ما لم يُثبته له جبريل في العرضة الأخيرة. =

المرحلة الثانية: في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه

3 - أنه قد يوجد من المكتوب ما تُركت تلاوته في العرضة الأخيرة. وهذا الذي تُرِكت تلاوته في العرضة الأخيرة سيظهر لزيد والصحابة رضي الله عنهم فيما بعد عند جمع أبي بكر رضي الله عنه. • المرحلة الثانية * في عهد أبي بكر رضي الله عنه لقد أبان حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه عن أغلب ما يتعلق بجمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فقد أورده الأئمة بأسانيدهم عن زيد بن ثابت رضي الله عنه (¬1)، ويمكن تلخيص ما جاء في حديثه على النحو الآتي: ¬

= فما دامت الكتابة ثابتة، وكان الرسول صلّى الله عليه وسلّم حريصاً عليها كما في الخبر عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «لاَ تَكْتُبُوا عَنِّي وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ»، فكونها تكون على ما أراده الله ـ كما هو بين أيدينا اليوم ـ أولى. كما أن البخاري روى بسنده عن عبد العزيز بن رفيع قال: دخلت أنا وشداد بن معقل على ابن عباس رضي الله عنهما، فقال شداد بن معقل: أترك النبي صلّى الله عليه وسلّم من شيء؟ قال: ما ترك إلا ما بين الدفتين. قال: ودخلنا على محمد ابن الحنفية، فسألناه، فقال: «ما ترك إلا ما بين الدفتين» صحيح البخاري برقم (5019). وفي هذا إشارة إلى أن ما بين الدفتين كان هو المعمول به لما مات الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وهو الذي علمه من كتب المصحف وجمعه، فلم يجمع ما سواه، والله أعلم. (¬1) ممن روى ذلك البخاري، فيما أسنده عن الزهري قال: أخبرني ابن السباق أن زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه ـ وكان ممن يكتب الوحي ـ قال: «أرسل إليَّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة وعنده عمر، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحرَّ يوم اليمامة بالناس، وإني أخشى أن يَستحِرَّ القتلُ بالقراء في المواطن، فيذهب كثير من القرآن إلا أن تجمعوه، وإني لأرى أن تجمع القرآن. قال أبو بكر: قلت لعمر: كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فقال عمر: هو والله خير، فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري، ورأيت الذي رأى عمر. قال زيد بن ثابت: وعمر عنده جالس لا يتكلم، فقال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل، ولا نتهمك، كنت تكتب الوحي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فَتَتَبَّع القرآن فاجمعه. فوالله لو كلَّفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن. قلت: =

1 - سبب الجمع، والذي دعا إليه: «أرسل إليَّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة وعنده عمر، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحرَّ يوم اليمامة بالناس، وإني أخشى أن يستحرَّ القتل بالقراء في المواطن، فيذهب كثير من القرآن إلا أن تجمعوه، وإني لأرى أن تجمع القرآن. قال أبو بكر: قلت لعمر: كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فقال عمر: هو والله خير، فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري، ورأيت الذي رأى عمر». يلاحظ أن الخوف من ذهاب القراء كان سبباً أكيداً في جمع أبي بكر رضي الله عنه، وفي هذا إشارة إلى أنَّ ما بين أيديهم من المكتوب لا يعين على حفظ القرآن؛ لأنه غير مجموع، وأن أصل حفظ القرآن إنما هو بالمقروء في الصدور، فعمدوا إلى تقييده مجموعاً مما كُتِب في الرقاع والأكتاف والعُسُب وغيرها، ومما في صدور الرجال الذي كان هو الأسبق والأغلب .... 2 - الصفات التي أهَّلت زيداً لأن يتولى مهمة الجمع: «قال زيد بن ثابت: وعمر عنده جالس لا يتكلم، فقال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل، ولا نتهمك، كنت تكتب الوحي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتتبَّعْ القرآن، فاجمَعْه». ¬

= كيف تفعلان شيئاً لم يفعله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فقال أبو بكر: هو والله خير، فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر أبي بكر وعمر، فقمت، فَتَتَبَّعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} [التوبة: 128]، إلى آخرهما. وكانت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر». انظر روايات هذا الحديث عند البخاري برقم (4679، 4986، 4989).

ذكر أبو بكر رضي الله عنه المقومات الجسمية والعقلية والعلمية التي يتميز بها زيد بن ثابت رضي الله عنه لأجل أن يضطلع بهذه المهمة، فالشباب له أثره في الحيوية والنشاط، والعقل له دوره في رجحان العمل وصلاحه، وكتابته للوحي بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لها أثرها في قدرة زيد على معرفة القرآن، وتحقيق نصه بما عند الصحابة من آيات مكتوبة. ويلاحظ أن أبا بكر رضي الله عنه لم يذكر كونه حضر العرضة الأخيرة، لكنه ذكر ما كان يتميز به من كتابة الوحي، بل كان من أخص الصحابة به. 3 - مصادر زيد في الجمع: «فقمت، فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع، والأكتاف، والعسب، وصدور الرجال، حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري، لم أجدهما مع أحد غيره {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} ...} [التوبة: 128] إلى آخرهما». ملامح هذا الجمع: 1 - أن القصد منه جمع المكتوب المتفرق من القرآن في مصحفٍ واحدٍ. 2 - أن سبب الجمع يستحر القتل بالقراء في المواطن، فيذهب كثير من القرآن، والمجموع لن يكون سوى ما ثبتت قرآنيته. ويؤنس بهذا كون زيدٍ رضي الله عنه هو المسؤول عن هذا الجمع، وهو من أعلم الصحابة بالعرضة الأخيرة، فلأن يكون القصد جمع القرآن الثابت، أقرب من أن يكون جمع كل ما قرئ بين يدي الرسول صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنه لو جُمع كل ما قرئ بين يديه لدخل ما تُرِكت تلاوته. 3 - أن كثيراً من التفاصيل المتعلقة بطريقة كتابة المصحف، وما فيه من معلومات لم يرد فيها شيء، وما يحكيه العلماء من بعض هذه التفاصيل، فإنه لم يثبت فيها نص صريح البتة؛ كمن يحكي أن في ترتيب السور خلافاً.

المرحلة الثالثة: في عهد عثمان رضي الله عنه

والأصل في ذلك ـ والله أعلم ـ أنه لا اختلاف في هذه الأمور، بل إنها كُتِبت كما عهدوه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، فما كان لهم من أمر القرآن سوى جمعه في مصحف واحدٍ، ثمَّ نسخه في عهد عثمان، والله أعلم. وقد أخرج البخاري ما يؤنس بأن ما بين الدفتين مما كان من عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال البخاري: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا سفيان عن عبد العزيز بن رفيع قال: دخلت أنا وشداد بن معقل على ابن عباس رضي الله عنهما، فقال له شداد بن معقل: «أَتَرَكَ النبي صلّى الله عليه وسلّم من شيء؟ قال: ما ترك إلا ما بين الدفتين. قال: ودخلنا على محمد ابن الحنفية، فسألناه، فقال: ما ترك إلا ما بين الدفتين» (¬1). يقول البيهقي: «وأَمَرَ أبو بكر رضي الله عنه بجمع القرآن، ونَقَلَه إلى مصحفٍ، ثم اتخذ عثمان من ذلك المصحف مصاحف، وبعث بها إلى الأمصار، ولم يُعْرَف أنه أُثبت في المصحف الأول، ولا فيما نُسِخَ منه شيء سوى القرآن، فلذلك ينبغي أن يُعمل في كتابة كل مصحف» (¬2). • المرحلة الثالثة * في عهد عثمان رضي الله عنه كانت هذه المرحلة هي خاتمة مراحل جمع القرآن المعتمد عليه عند المسلمين، ولقد كانت مهمة عثمان تتمثل في نسخ مصحف أبي بكر إلى عدد من المصاحف ليعتمد عليها المسلمون، ولتكون من الموازين التي يعلمون بها صحة ما يُنسب إلى القرآن من حيث أصول حروفه وكلماته وجُمَلِه، إذ قد يصح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قراءاتٍ لكنها مما تُركت في العرضة ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (5019) وقد تقدم. (¬2) شعب الإيمان (2:546).

الأخيرة، فلم يُقرأ بها، وترك الناس بلا مرجع يرجعون إليه يجعلهم لا يزالون مستمرين في قراءة ما تُركت تلاوته. ومن أوضح الأمثلة في ذلك ما ثبت عند البخاري وغيره في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} [الليل: 3]، فقد ورد عن علقمة، قال: «دخلت الشأم فصليت ركعتين، فقلت: اللهم يسر لي جليساً صالحاً فرأيت شيخاً مقبلاً، فلما دنا قلت: أرجو أن يكون استجاب. قال: من أين أنت؟ قلت: من أهل الكوفة. قال: أفلم يكن فيكم صاحب النعلين والوساد والمطهرة؟ أو لم يكن فيكم الذي أجير من الشيطان؟ أو لم يكن فيكم صاحب السر الذي لا يعلمه غيره؟ كيف قرأ ابن أم عبد {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1]. فقرأت {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى *وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى *وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} [الليل: 1 - 3]. قال: أقرأنيها النبي صلّى الله عليه وسلّم فاهُ إلى فِيَّ، فما زال هؤلاء حتى كادوا يردونني» (¬1). فحين ترجع إلى ما نسخه عثمان رضي الله عنه في المصاحف لا تجد هذه القراءة الصحيحة الثابتة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، فتعلم حينئذ أنها مما تُركت القراءة به في العرضة الأخيرة، والله أعلم. عمل عثمان رضي الله عنه في المصحف: ويمكن استخلاص عمل عثمان من الخبر الذي رواه البخاري عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما (¬2) كالآتي: ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (3761). (¬2) روى البخاري بسنده عن ابن شهاب أن أنس بن مالك رضي الله عنه حدثه: «أن حذيفة بن =

1 - سبب الجمع، والذي دعا إليه: «أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان ـ وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان (¬1) مع أهل العراق ـ فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين؛ أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى». لم يذكر حذيفة رضي الله عنه مثالاً على هذا الاختلاف الكائن بين القرأة، وقد ¬

= اليمان قدم على عثمان ـ وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق ـ فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين؛ أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى. فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا. حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة، فأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق». صحيح البخاري برقم (4988). (¬1) ذكر ابن حجر العسقلاني وقت هذه المعركة، وخرج منه بوقت تقريبي لنسخ المصاحف في عهد عثمان، فقال: «وكانت هذه القصة في سنة خمس وعشرين في السنة الثالثة أو الثانية من خلافة عثمان، وقد أخرج ابن أبي داود من طريق أبي إسحاق عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال: خطب عثمان فقال: يا أيها الناس إنما قبض نبيكم منذ خمس عشرة سنة، وقد اختلفتم في القراءة ... الحديث في جمع القرآن. وكانت خلافة عثمان بعد قتل عمر، وكان قتل عمر في أواخر ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين من الهجرة بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم بثلاث عشرة سنة إلا ثلاثة أشهر، فإن كان قوله: خمس عشرة سنة؛ أي: كاملة، فيكون ذلك بعد مضي سنتين وثلاثة أشهر من خلافته. لكن وقع في رواية أخرى له منذ ثلاث عشرة سنة، فيُجمع بينهما بإلغاء الكسر في هذه وجبره في الأولى، فيكون ذلك بعد مضي سنة واحدة من خلافته فيكون ذلك في أواخر سنة أربع وعشرين وأوائل سنة خمس وعشرين، وهو الوقت الذي ذكر أهل التاريخ أن أرمينية فُتِحَت فيه، وذلك في أول ولاية الوليد بن عقبة بن أبي معيط على الكوفة من قِبَلِ عثمان. وغفل بعض من أدركناه، فزعم أن ذلك كان في حدود سنة ثلاثين، ولم يذكر لذلك مستنداً». فتح الباري (9:17).

يكون الاختلاف كمثل الاختلاف الوارد في الأثر السابق عن علقمة بحذف وإثبات، وقد يكون بإبدال لفظ بلفظ، وقد يكون بطريقة قراءة، كل ذلك جائز أن يكون، والله أعلم. 2 - أن القصد من هذا العمل نسخ مصاحف من مصحف أبي بكر، الذي هو أصل العمل: «فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف (¬1) ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بها حفصة إلى عثمان». كانت المصاحف عند عمر رضي الله عنه، ثم عند حفصة رضي الله عنها بعده، فأخذها عثمان رضي الله عنه بقصد نسخ مصاحف من هذا المصحف، ولم يكن له هدف آخر كالانتخاب منه، كما يذهب إليه بعضهم، حيث يذهب إلى أن عثمان رضي الله عنه ترك المنسوخ من الآيات الواردة في مصحف أبي بكر رضي الله عنه، وقد مضى التنبيه على عدم وجود مثل هذه الآيات في مصحفه. 3 - تكوين لجنة لهذا العمل العظيم: «فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف». يلاحظ أنَّ ثلاثة منهم مكيُّون، والرابع مدنيٌّ وهو زيد بن ثابت رضي الله عنه، ويلاحظ أنه نصَّ على عملهم، وهو النسخ فحسب. 4 - المنهج المتبع في الرسم حال الاختلاف: «وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة». أرشدهم عثمان رضي الله عنه إلى ما يعملونه حال اختلافهم في رسم كلمة ¬

(¬1) قد ورد في آخر أثر زيد بن ثابت: «وكانت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حتى توفاه الله ثم عند حفصة بنت عمر».

ما، بدلالة قوله «فاكتبوه»؛ أي: فارسموه بطريقة نطق قريش التي نزل القرآن أول ما نزل بلغتها. فإن قلت: كيف يختلفون، وأمامهم المصحف ينقلون منه؟ فالجواب: إن زيداً لما كتب المصحف في عهد أبي بكر رضي الله عنه لم يكن معه مثل هذه اللجنة التي يُظَنُّ من اجتماعها على أمر اجتهادي ـ وهو رسم المصحف ـ أن تقع في اختلاف، وهذا يدلُّك على أن رسم المصحف لم يكن إلزاماً؛ لأن بينهم اختلاف تنوعٍ في الكتابة ـ أي: الرسم ـ، وليس هذا بغريب في علم الكتابة البتة، وما رُوي من أنهم اختلفوا في لفظ (التابوت) هل يُكتب بالتاء المفتوحة أو بالتاء المربوطة، فإنه يدل على ذلك النوع من الاختلاف، والله أعلم. ومن باب الفائدة، فهنا مسألتان متعلقتان بنسخ عثمان رضي الله عنه للمصاحف: الأولى: أن الأصل في القرآن المسموع المحفوظ في الصدور لا المرسوم: إن رسم الكلمة بنوع من الرسم لا يمنع من قراءتها بما ثبت، وإن لم يرد بها الرسم، فالمحفوظ في الصدور أصل، والرسم فرع عنه، إذ هو صورة لذلك المحفوظ، ويظهر ذلك من عدد من الأمثلة، منها: 1 - رُسِم في جميع المصاحف لفظ (بضنين) بالضاد أخت الصاد، والقرأة على وجهين فيها بالضاد، وبالظاء التي لم يرد فيها رسم في المصاحف. 2 - رُسِم في جميع المصاحف لفظ (الصراط) بالصاد، وقد قرئ قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] بالصاد، والسين، وإشمام الصاد زاياً. 3 - رسم في جميع المصاحف (لأهب لك)، وقد قرئ بالياء (ليهب). وينشأ عن هذه المسألة مسألة أخرى، وهي أنَّ الكتبة للمصحف

العثماني لم يقصدوا دائماً استيعاب مرسوم القراءات، ففي أحيانٍ ينشرون اختلاف القراءات في المصاحف كقراءة (وصَّى، وأوصى)، (تجري تحتها، تجري من تحتها)، وفي أحيانٍ أخرى يكتفون برسم واحدٍ فقط، كالأمثلة السابقة (الصراط، بضنين، لأهب). كما يلاحظ أمر مهم للغاية، وهو أنَّ رسم الكلام في وقت الصحابة كان مجرَّداً من النقط والشكل والضبط، وهذه إنما حدثت بعدهم، فمن يمثل في مسألة كتابتهم بأنهم رسموا في مصحف (فتبينوا) وفي آخر (فتثبتوا) أو في مصحف (ننشرها)، وفي آخر (ننشزها) = فقد أوهم، وغفل عن هذه الحقيقة، وهذا المثال لا يصلح لما ذهب إليه، والله أعلم. الثانية: أن لمفهوم الأحرف السبعة أثراً في فهم عمل هذه اللجنة: إن مفهوم الأحرف السبعة له أثر في فهم كيف تمَّ رسم المصحف في عمل الصحابة، فإن جعلت اختلاف الصوتيات الكائن في القراءة من إظهار وإدغام، وفتح وإمالة وروم وإشمام، وما إلى ذلك من الأحرف السبعة، فإنك ستحكم قطعاً بأن شيئاً من الأحرف السبعة لا يمكن كتابته؛ لأنَّ ذلك إنما يتمُّ بالضبط، حيث يصطلح العلماء على الإشارة إلى الإدغام والإمالة والروم والإشمام، وهذا سيكون خارجاً عن رسم المصحف. وإذا جعلت هذا الاختلاف خارجاً عن مفهوم الأحرف السبعة فإنك يحسن أن تلاحظ أنَّ أي اختلاف يخرج عن الاختلاف في الرسم فلن يكون من الأحرف السبعة إذا أنت قلت: إنه كتب على الأحرف السبعة، أو لم يكتب على الأحرف السبعة، والمقصود: أن الأحرف السبعة لا تؤخذ من رسم المصحف فقط، والله أعلم. 5 - إلزام الناس بما نُسِخ من مصحف أبي بكر، وأمرهم بتحريق مصاحفهم: «وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق».

إن هذا الإلزام أمر مهمٌّ للغاية، فهذا القرآن الذي قرأ به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكُتب في عهده، وكانت عليه العرضة الأخيرة، وجمعه أبو بكر رضي الله عنه في مصحف، ثمَّ نسخت منه اللجنة التي اختارها عثمان رضي الله عنه، وما عداه فهو مما تُرك في العرضة الأخيرة، ولم يُقرأ به، ومن ذلك عدد لا بأس به من الآيات التي حكى الصحابة أنها كانت مما يُقرأ في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم وبقيت حتى الإلزام بهذا الجمع؛ لأنه ليس كل واحدٍ من الصحابة بلغه ما تُرك من النازل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا زال يحفظه ويقرأ به. لكن لما أجمع الصحابة على هذا المصحف، عُلِم أنه هو الذي ثبت في العرضة الأخيرة فحسب، وما عداه مما قد تنقله كتب الآثار يكون مما تُرك لا محالة، والله أعلم. وهذا الإلزام سيكون حاسماً قاطعاً للخلاف؛ لاتفاق المصدر، فلو خرج شامي وعراقي مرة أخرى، وأثبت كل واحد منهما قراءته بما بعث به عثمان رضي الله عنه، فإن الحال هنا إلى أن الصادر عن المدينة مما اتفق عليه الصحابة أنه قرآن بهذا الاختلاف الثابت فيه. أما قبل ذلك فلم يكن لهم مرجع معين، فكلٌّ ينسب القراءة إلى من قرأ عليه من الصحابة، وهم يقرؤون بالثابت والمتروك لعدم علمهم بتركه. وبهذا يتضِّح خلاف عمل عثمان عن عمل أبي بكر رضي الله عنهما.

قراءات مقترحة في موضوع: جمع القرآن • «جمع القرآن في مراحله التاريخية»، للباحث محمد شرعي أبو زيد، وهو موجود على الشبكة العنكبوتية قسم المكتبة الإلكترونية من شبكة التفسير والدراسات القرآنية (tafsir.ne) وغيرها من المواقع. • وفي شبكة التفسير مجموعة من البحوث المتعلقة بجمع القرآن، وهي من البحوث التي أقامها مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة النبوية تحت عنوان (عناية المملكة العربية السعودية بالقرآن وعلومه). • وهذا الموضوع ـ مع ما كُتِب فيه ـ لا زال بحاجة إلى بحث وتحرير يعتمد على النصوص، ويحلل ما فيها من المعلومات، دون النظر العقلي الظني الذي صار في بعض قضايا هذا الموضوع بدرجة الأمور المسلمات التي يُظنُّ صحتها، أو عدم وجود اختلاف فيها. بحوث مقترحة في موضوع: جمع القرآن 1 - موقف ابن مسعود رضي الله عنه من (جمع المصحف)، وموقفه من (سورة الفلق والناس) في كونهما من القرآن، وهل يؤثر موقف ابن مسعود ـ لو لم يرجع عنه ـ في جمع القرآن بعد اتفاق الصحابة عليه؟ 2 - كيفية الرد على من أراد الاستفادة من موقف ابن مسعود في الانتقاص من جمع القرآن وتدوينه، وما ظهر من زعمهم الباطل بنقص القرآن. 3 - تحرير عمل عثمان في المصاحف، وما حصل من حرق

المصاحف، وكيفية بقاء بعض القراءات المنسوبة للصحابة بعد هذا الحرق، وأثر هذه القراءات المنسوبة لهم علميّاً. • ومن البحوث التي تتعلق بحفظه في الصدور: 1 - جمع الآيات المتعلقة بقراءته وحفظه، ودراستها دراسة تحليلية. 2 - دراسة حال الصحابة المعتنين بالقراءة (قراء الصحابة)، ومعرفة سيرهم المتعلقة بقراءة القرآن وحفظه؛ كالصحابة الذين كانوا في (سَرِيَّة القُرَّاء) وغيرهم من الصحابة المعتنين بالقرآن. 3 - جمع الأحاديث المتعلقة بقراءة القرآن وحفظه، ودراستها دراسة تحليلية، واستنباط ما فيها من الفوائد.

الباب الثالث: علوم السور

الباب الثالث علوم السور الفصل الأول: أسماء السور. الفصل الثاني: عدد آي السور. الفصل الثالث: فضائل السور. الفصل الرابع: ترتيب السور. الفصل الخامس: موضوعات السور ومقاصدها.

علوم السور يعتبر هذا الموضوع (علوم السور) من الموضوعات الفريدة، حيث إن جمع الموضوعات المتعلقة بالسورة تحت هذا العنوان ... والنظر إلى السورة باعتبارها وحدة متكاملة يرتبط بها بعض المعلومات التي قد لا تتعلق بعلوم الآيات مما لم يُسبق إليه هذا المنهج الذي بين يديك، وإن كانت موضوعاته موجودة متفرقة في كتب علوم القرآن، ومن هذه المعلومات: (أسماء السور، وعدد آي السور، وفضائل السور، وترتيب السور، موضوعات السور، مقاصد السور)، وسأتكلم عن كل فقرة منها بإيجاز، وأذكر بعض ما يتعلق بهذه الموضوعات إجمالاً.

الفصل الأول: أسماء السور

الفصل الأول أسماء السُّور

• علاقة هذا النوع بأنواع علوم القرآن الأخرى: موضوع (أسماء السور) يرتبط بالمكي والمدني من جهة أن من يحكي السور المكية والمدنية يذكر اسم السورة. وله ارتباط بموضوع (فضائل السور)؛ لأن الفضيلة إذا ذُكرت ذُكر معها اسم السورة لا محالة. وله ارتباط بموضوع (أسباب النُّزول) إذا كان سبب النزول يتعلق بسورة؛ فإن ذاكر السبب يذكر اسم السورة.

أسماء السُّور يظهر أن تسمية السور كان قديماً جدّاً، حيث كان مع بدايات النُّزول، فالتسمية كانت مكية المنشأ؛ لأن الصحابة المكيين قد رووا أحاديث كثيرة فيها أسماء للسور، ومن ذلك حديث جعفر الطيار رضي الله عنه مع النجاشي ملك الحبشة، حيث قرأ عليه سورة مريم. والمقصود من التسمية تمييز المسمى عمن يشابهه، ويمكن تقسيم التسميات ـ من حيث المسمِّي ـ إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهذا كثير، ومن أمثلته: 1 - ما رواه مسلم عن أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «اقرؤوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه. اقرؤوا الزهراوين: البقرة وسورة آل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان ـ أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف ـ تُحَاجَّان عن أصحابهما. اقرؤوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة (¬1)» (¬2). 2 - وما رواه البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أم القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم» (¬3). ¬

(¬1) البطلة: السحرة. (¬2) صحيح مسلم برقم (804). (¬3) صحيح البخاري برقم (4704).

القسم الثاني: ما ثبتت تسميته عن الصحابي، ومثال ذلك ما رواه البخاري بسنده عن سعيد بن جبير قال: «قلت لابن عباس رضي الله عنهما: سورة الحشر. قال: قل: سورة بني النضير» (¬1). القسم الثالث: تسمية من دون الصحابي إلى وقتنا هذا، وغالب تسمياتهم تأتي حكاية لبداية السورة؛ كقولهم: سورة (أرأيت)، سورة (لم يكن)، وهكذا؛ حيث إنه لم يرد النهي عن تسمية السور بأسماء تدلُّ عليها، وعلى هذا مضى السلف والخلف، حتى صار ما رأيتَ من تسمية السورة بحكاية أولها، وذلك هو الغالب على الكتاتيب، ودور تحفيظ القرآن الكريم. ومما يحسن عِلْمُه في هذا الموضوع ما يأتي: 1 - أن بعض السور لها أكثر من اسمٍ، وهي إما أن تكون مما أُخِذَ عن الصحابة، أو يكون شيءٌ منها مما ثبت عنهم أو عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم اشتهر عند المتأخرين اسم آخر. 2 - أن تسميات السور لها علاقة بشيء مذكور في السورة، وهي على أقسام: • منها ما يكون موضوعه مذكوراً في السورة؛ كسورة (التوبة)؛ سُمِّيت بهذا الاسم لورود موضوع التوبة على النبي صلّى الله عليه وسلّم والذين معه والذين خُلِّفوا، في قوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ *وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لاَ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 117 - 118]. • ومنها ما يكون لفظ الاسم وارداً فيها، وعلى هذا أغلب التسميات؛ ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (4029).

كتسمية سورة (التوبة) بسورة (براءة)؛ لأنَّ افتتاحها بهذا اللفظ في قوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 1]. • ومنها ما يكون حكاية لمطلع السورة، وهو على قسمين: الأول: أن يكون حكاية لألفاظ أول السورة بنصِّها؛ كقولهم: سورة قل هو الله أحد. الثاني: أن يُشتق اسم من ألفاظ أول السورة؛ كقولهم: سورة الزلزلة. 3 - أن بعض السور التي تعددت أسماؤها قد يكون بسبب من الأسباب المذكورة في الفقرة السابقة، وقد تكون واردة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد تكون واردة عن الصحابة، وقد تكون عمن دونهم. ومن الوارد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ما سبق في تسمية الفاتحة، حيث قال صلّى الله عليه وسلّم: «أم القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم»، وهي تُسمَّى بهذه الأسماء الثلاثة. وهذا التعدد في الأسماء يرجع إلى ذات واحدة، لكن كل اسم فيها يحمل من الصفة ما لا يحمله الاسم الآخر، وهذا هو سبب تعدد المسميات للشيء الواحد، والله أعلم. ومن الوارد عن الصحابة، ما رواه مسلم بسنده عن سعيد بن جبير: «قلت لابن عباس: سورة التوبة؟ قال: آلتوبة؟! قال: بل هي (الفاضحة) ما زالت تنْزل (ومنهم، ومنهم) حتى ظنوا أن لا يبقى منهم أحد إلا ذُكِرَ فيها. قال: قلت: سورة الأنفال؟ قال: تلك سورة بدر. قال: قلت: فالحشر؟ قال: نزلت في بني النضير» (¬1). ولا شكَّ أن المتأمل في أسماء السور يجد لطائف من العلم، وتبرز له استفسارات تدعوه إلى البحث، فعلى سبيل المثال: لِمَ سُمِّيت سورة النمل بهذا الاسم، ولم تُسمَّ بسورة سليمان، وهو نبي عظيم من أنبياء بني إسرائيل؟! ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم (3031).

ومثل هذا النظر مدعاة للتدبر في أسماء السور، لكن لا يخفاك أنه قد لا يخلو من تكلف، والله أعلم. • * *

قراءات مقترحة في موضوع: أسماء السور 1 - «مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور»، للبقاعي (ت885هـ). 2 - «التحرير والتنوير»، للطاهر بن عاشور (ت1393هـ)، حيث يذكر عند مقدمة كل سورة اسم السورة أو أسماءها إن كان لها أكثر من اسم. 3 - «أسماء سور القرآن وفضائلها»، رسالة جامعية للدكتورة منيرة محمد ناصر الدوسري، وهي مطبوعة. • ومما يلاحظ أن معرفة ما سُمِّيت به السورة يمكن الرجوع فيه إلى المصادر الآتية: • الأحاديث النبوية التي يرد فيها أسماء للسور. • الآثار الواردة عن الصحابة والتابعين وأتباعهم، خصوصاً ما ورد في ذكر السور المكية والمدنية. • المصاحف العتيقة، حيث يُذكر فيها أسماء للسور. • كتب الأحاديث المسندة، حيث يرد فيها تسميات كثيرة للسور. • تفاسير العلماء، حيث يقدمون السورة بقولهم: تفسير سورة كذا. ويمكن القيام بعمل إحصاء وجدولة لهذه الأسماء من خلال هذه المراجع وغيرها. بحوث مقترحة في موضوع: أسماء السور 1 - تحرير التسميات، وجمع النصوص النبوية الصريحة في تسمية السور مباشرة دون صيغة (السورة التي يُذكر فيها كذا) التي اعتمدها بعض العلماء، فقد ذكر البيهقي بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «لا تقولوا سورة البقرة ولكن قولوا السورة التي يذكر فيها البقرة».

ثم ذكر بسنده من طريق البخاري بسنده عن الأعمش قال: «سمعت الحجاج يقول على المنبر: السورة التي يُذكر فيها البقرة، والسورة التي يُذكر فيها آل عمران، والسورة التي يُذكر فيها النساء. قال: فذكرت ذلك لإبراهيم، قال: حدثني عبد الرحمن بن يزيد أنه كان مع ابن مسعود حين رمى جمرة العقبة فاستبطن الوادي، حتى إذا حاذى الشجرة اعترضها، فرمى سبع حصيات يكبر مع كل حصاة، ثم قال: ها هنا ـ والذي لا إله غيره ـ قام الذي أنزلت عليه سورة البقرة» (¬1). 2 - العناية بمناسبة التسميات مع موضوع السورة، خصوصاً إذا كان المسمي لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فما ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من أسماء فإنه يحتاج إلى عناية ودراسة بخلاف غيره من الأقسام؛ لأنَّ المسميَ هو الشارعُ، والشارعُ لا يصدر عنه إلا ما يوافق الحكمة، فالبحث عن الحكمة في مثل هذا الموضوع من البحوث المطلوبة، مع ما يعتورها من الغموض، والله الموفق. 3 - هل كان من تميُّز القرآن عن الكتب السابقة تسمية سوره؟ 4 - علاقة تسمية السورة بالمقصد الأساس للسورة. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه برقم (1750).

الفصل الثاني: عدد آي السور

الفصل الثاني عدد آي السور

• علاقة هذا النوع بأنواع علوم القرآن الأخرى: يرتبط عد آي السور بموضوع (الفاصلة القرآنية)، وعد الآي يعتمد على معرفة رأس الآية. كما أن له علاقة بعلم (الوقف والابتداء) في حكم الوقف على رأس الآية. وله تعلق بعلم (القراءات) من حيث حكم إمالة بعض الكلمات إذا كانت رأس آية عند من يميل من القراء. كما أن له تعلقاً بعلم (إعجاز القرآن)؛ لأن الوقف على رأس الآية مقصد من مقاصد المتكلم بالقرآن، وذلك ما سترد الإشارة إليه في هذا الموضوع.

عدد آي السور يمكن القول بأن هذا النوع من أنواع علوم القرآن قد أشار إليه القرآن، وذلك في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87]، فقد أخرج البخاري بسنده عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال: «مَرَّ بي النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنا أصلي فدعاني، فلم آته حتى صليت، ثم أتيت، فقال: ما منعك أن تأتي؟! فقلت: كنت أصلي. فقال: ألم يقل الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24]؟ ثم قال: ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج من المسجد، فذهب النبي صلّى الله عليه وسلّم ليخرج من المسجد، فذكَّرته، فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» (¬1). فقوله: هي السبع؛ لأن آياتها سبعٌ. وقوله: المثاني؛ لأنها تُثنَّى (أي: تكرر) في كل ركعة. وأما الوارد في السنة النبوية مما يتعلق بعدِّ الآي، ففيه جملة من الأحاديث، منها: 1 - ما روى مسلم بسنده عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال» (¬2). ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (4703). (¬2) صحيح مسلم برقم (809).

2 - وروى الإمام أحمد بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن سورة من القرآن ثلاثين آية شفعت لرجل حتى غفر له، وهي تبارك الذي بيده الملك» (¬1). ومن آثار الصحابة: 1 - ما رواه البخاري بسنده عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أنه بات عند ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها ـ وهي خالته ـ قال: فاضطجعت على عرض الوسادة، واضطجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأهله في طولها، فنام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل، ثم استيقظ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجلس، فمسح النوم عن وجهه بيده، ثم قرأ العشر آيات خواتيم سورة آل عمران، ثم قام إلى شن معلقة فتوضأ منها فأحسن وضوءه، ثم قام يصلي ...» الحديث (¬2). 2 - وروى مسلم في حديث عائشة رضي الله عنها عن حادثة الإفك أنها قالت: «فأنزل الله عزّ وجل: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور: 11] عشر آيات، فأنزل الله عزّ وجل هؤلاء الآيات براءتي» (¬3). ولقد كانوا يعتمدون على عدد الآي في حساب بعض أمورهم المتعلقة بالصلاة، ومن ذلك ما أورده مسلم بسنده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية، وفي الأخريين قدر خمس عشرة آية، أو قال نصف ذلك، وفي العصر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر قراءة خمس عشرة آية، وفي الأخريين قدر نصف ذلك» (¬4). وهذه الآثار تدل على أمور: 1 - أن لهذا العلم أصلاً في سنة النبي صلّى الله عليه وسلّم. ¬

(¬1) المسند (2:321)؛ وأخرجه أيضاً الترمذي برقم (2891) وحسّنه. (¬2) صحيح البخاري برقم (1198)؛ وأخرجه أيضاً مسلم برقم (763). (¬3) صحيح مسلم برقم (2770). (¬4) صحيح مسلم برقم (452).

2 - أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتعاملون به في تقدير زمن بعض الأمور المتعلقة بتوقيت الصلاة. الأمصار التي يُنسبُ إليها العدُّ: ينسب العدُّ إلى المدينة ومكة والشام والبصرة والكوفة، وفي ذلك تفصيل، وهذا ملخص ما ذكره الداني (ت444هـ) في كتابه «البيان في عدِّ آي القرآن» (¬1): 1 - العد المدني الأول: قال الداني (ت444هـ): «فأما عدد أهل المدينة الأول، فرواه أهل الكوفة عنهم، ولم ينسبوه إلى أحد منهم بعينه، ولا أسندوه إليه، بل أوقفوه على جماعتهم. وقد رواه نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم القارئ، عن أبي جعفر يزيد بن القعقاع وشيبة بن نصاح، وهو الذي كان يعد به القدماء من أصحاب نافع. ورواه عامة المصريين عن عثمان بن سعيد ورش عنه، ودونوه، وأخذوا به». 2 - العد المدني الأخير: قال الداني (ت444هـ): «وأما عدد أهل المدينة الأخير، فرواه إسماعيل بن جعفر وعيسى بن مينا قالون المدنيان، عن سليمان بن مسلم بن جمَّاز، عن أبي جعفر وشيبة موقوفاً عليهما، وهو ينسب إلى إسماعيل ...». 3 - العد المكي: قال الداني (ت444هـ): «وأما عدد أهل مكة، فرواه عبد الله بن كثير القارئ، عن مجاهد بن جبر، عن عبد الله بن عباس، عن أُبي بن كعب موقوفاً عليه». 4 - العد الكوفي: قال الداني (ت444هـ): «وأما عدد أهل الكوفة، فرواه حمزة الزيات، عن ابن أبي ليلى، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مرفوعاً، ورواه عن حمزةَ الكسائيُّ وسليمُ بن عيسى وغيرهما». ¬

(¬1) البيان في عدِّ آي القرآن، للداني، تحقيق: الدكتور غانم قدوري الحمد (ص67 - 70).

5 - العد البصري: قال الداني (ت444هـ): «وأما عدد أهل البصرة، فرواه المعلى بن عيسى الوراق وهيصم بن الشداخ وشهاب بن شُرْنفة، عن عاصم بن أبي الصباح الجحدري موقوفاً عليه». 6 - العد الشامي: قال الداني (ت444هـ): «وأما عدد أهل الشام، فرواه أيوب بن تميم القارئ، عن يحيى بن الحارث الذماري موقوفاً عليه، وبعضهم يوقفه على عبد الله بن عامر اليحصبي القارئ». قال الداني (ت444هـ): «وهذه الأعداد؛ وإن كانت موقوفة على هؤلاء الأئمة، فإن لها لا شكَّ مادة تتصل بها، وإن لم نعلمها من طريق الرواية والتوقيف كعلمنا بمادة الحروف والاختلاف؛ إذ كان كل واحد منهم قد لَقِيَ غير واحد من الصحابة وشاهده وأخذ عنه وسمع منه، أو لَقِيَ من لَقِيَ الصحابة؛ مع أنهم لم يكونوا أهل رأي واختراع، بل كانوا أهل تمسك واتباع». الاختلاف في عدِّ الآي: إنَّ الأصل في هذا العلم النقل، بل هو توقيف من الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولا يمكن لأحدٍ أن يخترع موقِفاً يجعله رأس آية. فإن قلت: ألا يوجد اختلاف بين العلماء في عدِّ الآي؟ فالجواب: نعم، ويمكن تقسيم السور من حيث الاتفاق والاختلاف إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: لم يختلف فيه لا في إجمال ولا في تفصيل، وهو أربعون سورة: يوسف مائة وإحدى عشرة، الحجر تسع وتسعون، النحل مائة وثمانية وعشرون، الفرقان سبع وسبعون، الأحزاب ثلاثة وسبعون، الفتح تسع وعشرون، الحجرات والتغابن ثمان عشرة، ق خمس وأربعون، الذاريات ستون، القمر خمس وخمسون، الحشر أربع وعشرون، الممتحنة ثلاث عشرة، الصف أربع عشرة، الجمعة والمنافقون والضحى والعاديات إحدى عشرة، التحريم اثنتا عشرة، ن اثنتان وخمسون، الإنسان إحدى وثلاثون،

المرسلات خمسون، التكوير تسع وعشرون، الانفطار وسبح تسع عشرة، التطفيف ست وثلاثون، البروج اثنتان وعشرون، الغاشية ست وعشرون، البلد عشرون، الليل إحدى وعشرون، ألم نشرح والتين وألهاكم ثمان، الهمزة تسع، الفيل والفلق وتبت خمس، الكافرون ست، الكوثر والنصر ثلاث. القسم الثاني: ما اختلف فيه تفصيلاً (موطن الآي) لا إجمالاً (عدد الآي جملة)، وهو أربع سور: 1 - سورة القصص اتفقوا على عدها ثمان وثمانين آية، وعدَّ أهل الكوفة {طسم} آية، والباقون لم يعدوها، وعدُّوا بدلها {أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ}. 2 - العنكبوت اتفقوا على عدِّها تسعاً وستين آية، وعدَّ أهل الكوفة {الم}، وأهل البصرة بدلها {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}، وأهل الشام بدلها {وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ}. 3 - سورة الجن اتفقوا على عدِّها ثمان وعشرين آية، وعدَّ المكي {لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ}، وعدَّ الباقون بدلها {وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا}. 4 - سورة العصر اتفقوا على عدِّها ثلاث آيات، وعدَّ المدني الأخير {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} دون {وَالْعَصْرِ}، وعكس الباقون. القسم الثالث: ما اختلف فيه إجمالاً وتفصيلاً، وهو بقية السُّور (سبعون سورة) (¬1). وهذا الاختلاف كما ترى، إنما هو في موضع رأس الآية، وليس في زيادةِ آية أو نقصها، فجملة ما نزل به القرآن لم يقع فيه خلاف، وإنما وقع في تحديد رأس الآية، فمن جعل سورة الإسراء ـ مثلاً ـ مائة وعشر آيات، أو مائة وإحدى عشر، لم ينقص الأول في مقدار النازل، ولم يزِد الثاني فيه، وإنما اختلفوا في موطن رأس الآي فقط. ¬

(¬1) ينظر: الإتقان للسيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم (1:190 - 191).

وإذا كان الأمر كذلك فهو هيِّنٌ، والخلاف فيه محتملٌ مقبولٌ؛ لأنه لا أثر له في أصل القرآن، وإنما سيقع أثره في بعض المعلومات المتعلقة بهذا المبحث، كما سيأتي. وقد اجتهد العلماء في تخريج هذا الاختلاف، مع أن الأصل أنه متلقى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومن إجاباتهم: 1 - أنه يجوز أن يكون متلقَّى بهذا الاختلاف من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وذلك من باب اختلاف التنوع؛ لأنَّ هذا النوع من الاختلاف لا أثر له في أصل القرآن. 2 - وجائزٌ أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ الآيات بطريقة تُشعرهم بانتهائها، فكانوا يجتهدون في العدِّ، وقد يقع بينهم خلاف في ذلك شأن سائر اجتهاداتهم في النصوص. وسواءٌ أصَحَّتْ هذه التخريجات أم لم تصحَّ، فإنه ـ كما سبق ـ لا أثر لهذا الاختلاف في جملة آي القرآن من جهة الزيادة والنقص، والله أعلم. الآثار العلمية المترتبة على الاختلاف في العدِّ: إذا تأمَّلت الاختلاف في موطن رأس الآية، وفتَّشت عن الأثر العلمي للاختلاف فيه، فإنه سيظهر لك ارتباطه بعدد من المسائل العلمية ومنها: أولاً: أن الوقف على رأس الآية سنة عند بعض العلماء، ومعرفة مكانه يعين على تطبيق هذه السنة، وباختلاف العدِّ يختلف موطن الوقف على رأس الآية، فلو كنت تقرأ سورة العصر وأنت تتبع الجمهور في العدَّ، فستقرأ هكذا: {وَالْعَصْرِ}، {إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ}، {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}. ولو كنت تقرأ على مذهب العدِّ المدني الأخير، فإنك ستقرأ هكذا: {وَالْعَصْرِ} {إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ}، {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ}، {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}.

وبهذا ترى أنه يختلف رأس الآية بين العادِّين، وفي كل حالٍ ـ إذا كنت ممن يرى أن الوقف على رأس الآي سنة ـ فإنك تكون قد وقفت وقف السنة على الوجهين عند أهل العدِّ. ثانياً: أن من وجوه القراءة الإمالة لبعض الألفاظ التي تقع رأس آية، فإذا كانت اللفظة الممالة رأس آية في عدٍّ ما جازت الإمالة، وإن لم تكن رأس آية لم تَجُزِ الإمالة. ثالثاً: أن لها تعلُّقاً ببلاغة القرآن، حيث إنَّ الوقف على رأس الآية ـ ولو كان ما بعدها متعلقاً بها من جهة المعنى ـ مقصدٌ من مقاصد المتكلِّم، وإلا فما فائدة رأس الآية، لذا فإنَّ من يقف على رؤوس الآي التي تتعلق بما بعدها، فإنه يستجلب ذهنك للتفكير والتدبر في هذه الجملة التي انقطع فيها المبتدأ عن الخبر، وشبه الجملة عن مُتَعَلَّقِهِ ... إلخ. وجرِّب اتباع الوقف على رؤوس الآي في قوله تعالى: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ *إِذِ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ *فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ *ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ *مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ *ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر: 70 - 75]. يقول الطاهر بن عاشور (ت1393هـ): «واعلم أن هذه الفواصل من جملة المقصود من الإعجاز؛ لأنها ترجع إلى محسنات الكلام، وهي من جانب فصاحة الكلام، فمن الغرض البلاغي الوقوفُ عند الفواصل؛ لتقع في الأسماع، فتتأثر نفوس السامعين بمحاسن ذلك التماثل؛ كما تتأثر بالقوافي في الشعر، وبالأسجاع في الكلام المسجوع. فإن قوله تعالى: {إِذِ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ} آية {فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} آية {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ} آية {مِنْ دُونِ اللَّهِ} إلى آخر الآيات. فقوله: {فِي الْحَمِيمِ} متصل

بقوله: {يُسْحَبُونَ}، وقوله: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} متصل بقوله: {تُشْرِكُونَ}، وينبغي الوقف عند نهاية كل آية منها. وقوله تعالى: {وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} آية، وقوله: {مِنْ دُونِهِ} ابتداء الآية بعدها في سورة هود. ألا ترى أن من الإضاعة لدقائق الشِّعرِ أن يلقيه ملقيه على مسامع الناس دون وقف عند قوافيه، فإن ذلك إضاعة لجهود الشعراء، وتغطية على محاسن الشعر، وإلحاق للشعر بالنَّثر. وأن إلقاء السجع دون وقوف عند أسجاعه هو كذلك لا محالة. ومن السذاجة أن ينصرف مُلقِي الكلام عن محافظة هذه الدقائق، فيكون مضيعاً لأمر نفيس أجهد فيه قائله نفسه وعنايته. والعلَّةُ بأنه يريد أن يبين للسامعين معاني الكلام = فضولٌ، فإن البيان وظيفة ملقي الدرس، لا وظيفة منشد الشعر، ولو كان هو الشاعر نفسه» (¬1). • * * ¬

(¬1) التحرير والتنوير (1:67).

قراءات مقترحة في موضوع: عدِّ الآي 1 - «البيان في عد آي القرآن»، لأبي عمرو الداني (ت444هـ). 2 - «الفرائد الحسان في عد آي القرآن»، لعبد الفتاح القاضي (ت1403هـ). بحوث مقترحة في موضوع: عدِّ الآي هذا الموضوع من العلوم التي يندر التطبيق عليها، بل يُكتفى بذكر مواطن الاختلاف، ونسب كل عدٍّ إلى أصحابه، وذلك علم لا مقنع فيه لو وقف على هذا الوضع. ومن البحوث التي يمكن أن تفترع في هذا الموضوع: 1 - علاقة الفاصلة برأس الآية وأثر ذلك في البلاغة القرآنية وإعجاز نظمه. 2 - رؤوس الآيات التي تتعلق بما بعدها من جهة اللفظ؛ كقوله تعالى: {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} {مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنْظِرُونِ} [سورة هود: 54 - 55] جمع ودراسة من خلال الاختلاف في عد الآي، وأثره على الوقف والابتداء. 3 - محاولة الوقوف على العلة الصحيحة الدالة على موجب الاختلاف في عد الآي بين العلماء، حيث إن ما ذكروه من علل لا يكاد يسلم.

الفصل الثالث: فضائل السور

الفصل الثالث فضائل السور

إن التفضيل بين السور والآيات يحتاج إلى النقل المحضِ؛ فلا يصلح في هذا الباب الاجتهاد. ولقد ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ما يدل على فضائل لبعض السُّورِ، وذلك إما بذكر أجرٍ يترتب على قراءتها، وإما بقصد قراءتها في وقت معيَّنٍ، وإما ببيان أثرها الحسي والمعنوي على المسلم. والملاحظ أنَّ السورَ التي ورد فيها فضائل أقلُّ من السور التي لم يرد فيها فضائل، وبما أن الأصل في التفضيل النقل عن النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ فإنه يحرم الكذب فيها كما حصل من بعض الزهاد الذين أرادوا الترغيب بالقرآن فاعتمدوا الكذب في هذا الباب، والعياذ بالله. وممن اشتهر بالكذب في هذا الباب نوح بن أبي مريم المعروف بنوح الجامع (ت173هـ)، وميسرة بن عبد ربه. قال السيوطي (ت911هـ): «أما الحديث الطويل في فضائل القرآن سورة سورة، فإنه موضوع، كما أخرج الحاكم في المدخل بسنده إلى أبي عمار المروزي أنه قيل لأبي عصمة الجامع: من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة، وليس عند أصحاب عكرمة هذا؟ فقال: إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي ابن إسحاق فوضعت هذا الحديث حسبة. وروى ابن حبان في مقدمة تاريخ الضعفاء عن ابن مهدي قال: «قلت لميسرة بن عبد ربه: من أين جئت بهذه الأحاديث (من قرأ كذا فله كذا)؟ قال: وضعتها أرغِّب الناس فيها» (¬1). ¬

(¬1) الإتقان للسيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم (4:115). فائدة: قال العجلوني في كشف الخفاء (2:2327): «ومن الأحاديث الموضوعة

فمن السُّور التي رُتِّب الأجر على قراءتها سورة الإخلاص، فقد روى البخاري بسنده عن أبي سعيد الخدري: «أن رجلاً سمع رجلا يقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. يرددها، فلما أصبح جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فذكر ذلك له ـ وكأن الرجلَ يتقالُّها ـ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن» (¬1). ومن السور التي كان يقصد قراءتها في مواطن معيَّنة: سورة الكافرون وسورة الإخلاص، فقد ورد أنه يقرؤها في المواطن الآتية: ¬

= أحاديث وضعها بعض الزنادقة أو جهلة المتصوفة في فضائل السور إلا ما استثنى، ولا يغتر بذكر الواحدي والثعلبي والزمخشري والبيضاوي لها في تفاسيرهم، كما نبه على ذلك الحفاظ، كما أشار إلى ذلك بقوله الحافظ العراقي: وكل من أودعه كتابه ... كالواحدي مخطئ صوابه وقال السيوطي في التدريب شرح التقريب: ومن الموضوع الحديث المروي عن أُبي بن كعب مرفوعاً في فضل القرآن سورة سورة من أوله إلى آخره، فروينا عن المؤمل بن إسماعيل قال: حدثني شيخ به فقلت للشيخ من حدثك؟ فقال: حدثني شيخ بالمدائن وهو حي. فصرت إليه فقلت: من حدثك؟ فقال: حدثني شيخ بواسط وهو حي. فصرت إليه فقال: حدثني شيخ بالبصرة. فصرت إليه فقال: حدثني شيخ بعبادان. فصرت إليه فأخذ بيدي، فأدخلني بيتاً، فإذا فيه قوم من المتصوفة ومعهم شيخ، فقال: هذا الشيخ حدثني. فقلت: يا شيخ، من حدَّثك فقال: لم يحدثني أحد، ولكنا رأينا الناس قد رغبوا عن القرآن، فوضعنا لهم هذا الحديث ليصرفوا قلوبهم إلى القرآن. قلت: ولم أقف على تسمية هذا الشيخ إلا أن ابن الجوزي أورده في الموضوعات من طريق بزيع بن حسان عن علي بن زيد بن جدعان وعطاء بن أبي ميمونة عن زر بن حبيش عن أُبي بن كعب، وقال: الآفة فيه من بزيع. ثم أورده من طريق مخلد بن عبد الواحد عن علي وعطاء، وقال: فكأن أحدهما وضعه والآخر سرقه أو كلاهما سرقه من ذلك الشيخ الواضع. وقد أخطأ من ذكره من المفسرين في تفسيره كالثعلبي والواحدي والزمخشري والبيضاوي. قال العراقي: لكن من أبرز إسناده منهم كالأولين فهو أبسط لعذره إذ أحال ناظره على الكشف عن سنده، وإن كان لا يجوز له السكوت عليه، وأما من لم يبرز سنده، وأورد بصيغة الجزم، فخطؤه أفحش».اهـ. (¬1) صحيح البخاري برقم (5014).

الكافرون في ثانية الشفع (¬1)، وأول ركعة من سنة الفجر (¬2) وسنة الطواف (¬3). الإخلاص في الوتر (¬4)، وفي ثاني ركعة من سنة الفجر (¬5) والطواف (¬6). ومن السور التي لها أثر حسي ومعنوي، سورة الفاتحة، بدلالة ما رواه البخاري بسنده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «انطلق نفر من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم في سفرة سافروها حتى نزلوا على حي من أحياء العرب، فاستضافوهم، فأبوا أن يضيفوهم، فلُدِغَ سيِّدُ ذلك الحي، فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعله أن يكون عند بعضهم شيء، فأتوهم، فقالوا: يا أيها الرهط إن سيدنا لُدِغَ وسعينا له بكل شيء لا ينفعه، فهل عند أحد منكم من شيء؟ فقال بعضهم: نعم والله، إني لأرقي، ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا، فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلاً، فصالحوهم على قطيع من الغنم، فانطلق يتفل عليه ويقرأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، فكأنما نشط من عقال، فانطلق يمشي وما به قلبة. قال: فأوفَوهم جُعْلَهم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم: اقسموا. ¬

(¬1) أخرجه أحمد برقم (3:406) عن عبد الرحمن بن أبزى؛ وحسّن ابن حجر إسناده في التلخيص الحبير (2:19)؛ وأخرجه الترمذي (462) عن ابن عباس؛ وابن ماجه (1173) عن عائشة رضي الله عنها وصححه ابن حبان (2448)؛ والحاكم (1:305) وسكت عنه الذهبي. (¬2) أخرجه مسلم برقم (726) عن أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) أخرجه مسلم برقم (1218) عن جابر رضي الله عنه؛ وانظر شرح النووي على صحيح مسلم (8:176). (¬4) كما في الحديث المخرج في الحاشية رقم (1). (¬5) أخرجه مسلم برقم (726) عن أبي هريرة رضي الله عنه. (¬6) أخرجه مسلم برقم (1218) عن جابر رضي الله عنه؛ وانظر: شرح النووي على صحيح مسلم (8:176).

فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي النبي صلّى الله عليه وسلّم، فنذكر له الذي كان، فننظر ما يأمرنا، فقدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فذكروا له فقال: وما يدريك أنها رقية، ثم قال: قد أصبتم، اقسموا، واضربوا لي معكم سهماً، فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» (¬1). • * * ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (2276)؛ وأخرجه أيضاً مسلم برقم (2201).

قراءات مقترحة في موضوع: فضائل السور 1 - «فضائل القرآن»، لأبي عبيد القاسم بن سلام (ت224هـ)، وهو من أنفس كتب فضائل القرآن، وفيه تعليقات مهمة لأبي عبيد (ت224هـ) كما هي عادته في كتبه، فهو ليس كتاب رواية فقط، بل يجتهد أبو عبيد (ت224هـ) في إبداء رأيه في بعض المسائل. والحديث عن (فضائل القرآن)، يشمل الحديث عن فضله على وجه العموم، وعن فضل بعض سوره، وعن فضل بعض آياته، ويدخل فيه الحديث عن (تفاضل القرآن)، وهي مسألة: هل القرآن بعضه أفضل من بعض؟ 2 - «فضائل القرآن»، لأبي عبد الله محمد بن أيوب المعروف بابن الضريس (ت294هـ)، وهو كتاب رواية. 3 - «فضائل القرآن»، لأبي بكر جعفر بن محمد المعروف بالفريابي (ت301هـ)، وهو كتاب رواية. 4 - «فضائل القرآن»، لأحمد بن شعيب، المعروف بالنسائي، صاحب السنن (ت303هـ)، وهو كتاب رواية. 5 - «فضائل القرآن»، لأبي الفداء إسماعيل بن كثير (ت774هـ)، وهو شرح لكتاب الفضائل من صحيح البخاري (ت256هـ)، وهذا الكتاب من أنفس كتب الفضائل لما فيه من التحرير والترجيح، وبيان المسائل العلمية المتعلقة بالفضائل. 6 - «فضائل القرآن الكريم وحملته في السنة المطهرة»، لمحمد موسى نصر، وهو كتاب يصلح لطلاب حلقات تحفيظ القرآن الكريم، إذ يمكن أن يقوموا بمدارسة ما فيه من الأحاديث وفوائدها التي ذكرها المؤلف.

7 - «موسوعة فضائل سور وآيات القرآن»، للشيخ محمد بن رزق الطرهوني، وهي من أوسع الموسوعات فيما يتعلق بفضائل السور والآيات، وقد جعلها المؤلف على قسمين: قسم الفضائل الصحيحة (وقد طبع في مجلدين)، وقسم الفضائل الضعيفة (لم يطبع إلى تاريخه). 8 - «فضل القرآن الكريم»، رسالة ماجستير مقدمة لقسم القرآن وعلومه بكلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، قدَّمها الباحث عبد السلام بن صالح الجار الله.

الفصل الرابع: ترتيب السور

الفصل الرابع ترتيب السور

• علاقة هذا النوع بأنواع علوم القرآن الأخرى يرتبط (ترتيب السور) بعلم (جمع القرآن)، حيث يقع الحديث عن ترتيب السور في جمع الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ثم في جمع أبي بكر رضي الله عنه، ثم في نسخ عثمان رضي الله عنه للمصاحف. وينشأ عنه موضوع (تناسب السور)، فالذي يذهب إلى أن الترتيب توقيفي، فإنه يبحث عن حكمة هذا الترتيب، والحكمة موجودة قطعاً، لكن لا يلزم أن كل ما يقال من أسرار الترتيب أنه هو الحكمة المعنية؛ لأن التكلُّف يدخل علم المناسبات، ووجود التكلف لا يلزم منه عدم البحث عن المناسبة.

ترتيب السور لم يقع خلاف بين الأمة في أن ترتيب الآيات كان بتوقيف من النبي صلّى الله عليه وسلّم، إذ كان يقرؤه على الصحابة ليل نهار، ولم يُسمع من أحدهم أنه خالفَ في ترتيب آية من الآيات. أما مسألة ترتيب السور فقد وقع فيها خلاف؛ هل كان بتوقيف من النبي صلّى الله عليه وسلّم أم باجتهاد من الصحابة؟ وبعض العلماء يجعل الخلاف على ثلاثة أقوال: الأول: أنه بتوقيف من النبي صلّى الله عليه وسلّم. الثاني: أن الترتيب باجتهاد الصحابة. الثالث: من يرى أن بعضه توقيفي وبعضه اجتهادي. وهي تؤول ـ في النهاية ـ إلى قولين: التوقيف والاجتهاد، ولكل قول وجه معتبرٌ، وحظٌّ من النظر. والخلاف بين هذين القولين قويٌّ جدّاً، والذي يترجَّح ـ والله أعلم ـ القول الأول لأمورٍ؛ منها: 1 - أنه قد ثبت في أحاديث عديدة ذكر سور القرآن المتوالية حسب ترتيب المصحف، ولم يرد خلاف ذلك إلا في حديث واحد، وله دلالة لا تخالف كون الترتيب توقيفياً كما سيأتي. ومن الأحاديث المرتبة للسور ما رواه مسلم بسنده عن أبي أُمامة الباهلي رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «اقرؤوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه. اقرؤوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة

كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف = تحاجان عن أصحابهما. اقرؤوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة» (¬1). ومما ورد عن الصحابة ما ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: «بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء هن من العتاق الأول، وهن من تلادي» (¬2). وفيما ثبت دلالة على ما بقيَ؛ إذ يبعد أن يرتب الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعضها ويترك بعضاً بلا سبب واضح، ففيما ثبت دلالة على ما لم يُذكر ترتيبه. 2 - روى أبو داود الطيالسي وغيره بأسانيدهم عن عبد الله بن أوس بن حذيفة الثقفي عن جده أوس قال: قدمنا وفد ثقيف على النبي صلّى الله عليه وسلّم فنَزل الأحلافيون على المغيرة بن شعبة، وأنزل المالكيين قبته. قال: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأتينا فيحدثنا بعد العشاء الآخرة حتى يراوح بين قدميه من طول القيام، فكان أكثر ما يحدثنا اشتكاء قريش؛ يقول: كنا بمكة مستذلين مستضعفين فلما قدمنا المدينة انتصفنا من القوم فكانت سجال الحرب علينا ولنا، فاحتبس عنا ليلة عن الوقت الذي كان يأتينا فيه، ثم أتانا، فقلنا: يا رسول الله احتبست عنا الليلة عن الوقت الذي كنت تأتينا فيه. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنه طرأ عليَّ حِزبي من القرآن فأحببت أن لا أخرج حتى أقرأه، أو قال أقضيه». قال: «فلما أصبحنا سألنا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أحزاب القرآن كيف تحزبونه فقالوا: ثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة وحزب المفصل» (¬3). ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم (804) وقد تقدم. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه برقم (4739). (¬3) مسند أبي داود الطيالسي (1108)؛ وأخرجه أيضاً أبو داود السجستاني برقم (1393)؛ وابن ماجه برقم (1345).

3 - أن تقسيم سور القرآن إلى طوال ومئين ومثاني والمفصل ثابت عند الصحابة بالنقل عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والآثار في ذلك كثيرة، ومنها ما رواه الإمام أحمد بسنده عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أعطيت مكان التوراة السبع وأعطيت مكان الزبور المئين وأعطيت مكان الإنجيل المثاني وفضلت بالمفصل». فإذا كان هذا التقسيم الجملي موجوداً معروفاً بينهم، منقولاً عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، فما المانع من أن يكون ما فيه من السور مرتباً كذلك بفعل النبي صلّى الله عليه وسلّم. 4 - هناك مجموعة من الأدلة العقلية التي يستدل بها من يذهب إلى التوقيف، منها: • جَعْلُ الحواميم والطواسين ولاءً بخلاف المسبحات، والمبدوءات بـ (ألم) حيث لم تجعل متتالية. • عدم ترتيبه على النُّزول، بحيث يقدم المكي على المدني. أما ما استدل به من ذهب إلى أنَّ الترتيب بالاجتهاد، فما يأتي: 1 - ما رواه يزيد الفارسي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «قلت لعثمان رضي الله عنه ما حملكم أن عمدتم إلى براءة وهي من المئين وإلى الأنفال وهي من المثاني، فقرنتم بينها، ولم تجعلوا بينهما سطراً فيه بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتموها في السبع الطوال ما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان رضي الله عنه: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان مما ينْزل عليه من السور التي يذكر فيها كذا وكذا، فإذا أنزلت عليه الآيات يقول: ضعوا هذه الآيات في موضع كذا وكذا، فإذا نزلت عليه السورة يقول ضعوا هذه في موضع كذا وكذا، وكانت الأنفال أول ما أنزل عليه بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن نزولاً، وكانت قصتها تشبه قصتها فقبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يبين أمرها، فظننت أنها منها، من أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أجعل بينهما سطراً فيه بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتها في السبع الطوال» (¬1). ¬

(¬1) أخرجه أحمد (1:57)؛ وأبو داود برقم (786)؛ والترمذي برقم (3086). وصححه =

2 - وثبت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قدم سورة النساء على آل عمران في قراءة الصلاة، فعن حذيفة رضي الله عنه قال: «أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم في ليلة من رمضان فقام يصلي فلما كبر قال: الله أكبر ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة، ثم قرأ البقرة ثم النساء ثم آل عمران، لا يمر بآية تخويف إلا وقف عندها» الحديث (¬1). 3 - أن مصاحف الصحابة تخالف مصحف عثمان رضي الله عنه في ترتيب السور، خصوصاً مصحف ابن مسعود رضي الله عنه الذي شهد العرضة الأخيرة. ويلاحظ أن أصحاب هذا القول لا يخالفون في أنَّ بعض الترتيب الموجود كان بتوقيف من النبي صلّى الله عليه وسلّم بدلالة الأحاديث الدالة على ذلك، لكنهم يرون أنَّ شيئاً منه كان بالاجتهاد، على خلاف في هذا المقدار، فبعضهم يرى أنه مرتب كله إلا الأنفال والتوبة، وبعضهم يستثني المئين، وهذا ما جعل الزركشي (ت794هـ) يذهب إلى إن الخلاف بين الفريقين لفظيٌّ، فقال: «والخلاف يرجع إلى اللفظ؛ لأن القائل بالثاني يقول: إنه رمز إليهم بذلك لعلمهم بأسباب نزوله ومواقع كلماته، ولهذا قال مالك: إنما ألَّفوا القرآن على ما كانوا يسمعونه من النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ مع قوله بأن ترتيب السور باجتهاد منهم، فآل الخلاف إلى أنه هل هو بتوقيف قولي أو بمجرد استناد فعلي، وبحيث بقي لهم فيه مجال للنظر؟» (¬2). وإذا كانوا لا يخالفون في أن شيئاً منه كان مرتباً حسب ترتيب النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإنه يمكن أن يُستدل باتفاقهم على وجود الترتيب في بعض السور بأنه أصل دالٌّ على ترتيب البقية، وأنه من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأما ما استدلوا به فأقواها دليل حديث ابن عباس في سؤاله عثمان رضي الله عنهم، وهذا ¬

= ابن حبان (43)؛ والحاكم (2:330) وسكت عنه الذهبي. (¬1) أخرجه أحمد (5:398)؛ واللفظ له وأخرجه أيضاً أبو داود برقم (874)؛ والنسائي برقم (1145)؛ والحديث أصله عند مسلم برقم (772). (¬2) البرهان في علوم القرآن، للزركشي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم (2:257).

الأثر؛ لو صحَّ، فإنه لا يعدو أن يكون الكلام فيهما فقط، كما ذكره السيوطي (ت911هـ) عن بعض العلماء في هذه المسألة، قال: «وقال البيهقي في المدخل: كان القرآن على عهد النبي مرتباً سوره وآياته على هذا الترتيب إلا الأنفال وبراءة لحديث عثمان السابق. ومال ابن عطية إلى أن كثيراً من السور كان قد عُلِمَ ترتيبها في حياته كالسبع الطوال والحواميم والمفصل، وإن ما سوى ذلك يمكن أن يكون قد فوض الأمر فيه إلى الأمة بعده (¬1). وقال أبو جعفر بن الزبير: الآثار تشهد بأكثر مما نص عليه ابن عطية، ويبقى منها قليل يمكن أن يجري فيه الخلاف (¬2) ...» (¬3). وبهذا النقل يظهر أن أكثر القرآن قد عُلِم ترتيبه عند الصحابة رضي الله عنهم، وأنهم ساروا على هذا الترتيب لما كتبوه في المصحف، فمن باب أولى أن يكون كله مما علموا ما داموا علموا الأكثر، والله أعلم. وأما ما استدلوا به فيجاب عنه بما يأتي: أولاً: أن حديث ابن عباس رضي الله عنهما (ت68هـ) فيه إشكال من جهات، منها: 1 - أنه مما اتُّفق عليه عدم نزول البسملة مع سورة براءة، وقد علل العلماء ذلك بتعليلات غير التعليل الوارد في الأثر، من أحسنها تعليل القشيري: أن جبريل لم ينْزل بها، ثمَّ يُبحث عن سبب عدم نزولها معها، وهو ما ذكروه من تعليلات متعددة؛ كما ذُكر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إن البسملة أمان وبراءة نزلت بالسيف ليس فيها أمان (¬4). 2 - أن سورة الأنفال ليست أول ما نزل في المدينة، فهي نزلت بعد ¬

(¬1) المحرر الوجيز، ط. قطر (1:54). (¬2) البرهان في ترتيب سور القرآن، تحقيق محمد شعباني (ص158). (¬3) الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم (1:177). (¬4) ينظر: البرهان في علوم القرآن، للزركشي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم (2:263).

غزوة بدر، فكيف يخفى على عثمان رضي الله عنه ـ وهو من علماء القرآن ـ نزول غيرها قبلها؟! فإن قيل: لعله يريد: من أول، فتكون الأولية نسبية. فالجواب: أنه لا يظهر من الخبَر غير الأولية المطلقة، ثمَّ إنها لا تصلح لأن تكون من الأولية النسبية؛ لأنه نزل قبلها عدد من السور والآيات، وقد مضى على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سنة وأكثر قبل غزوة بدر، فهل يُتصوُّر عدم نزول قرآن في هذه الفترة، حتى تأتي غزوة بدر وينْزل عليه من سورة الأنفال ما نزل؟! 3 - أن بعض العلماء المعاصرين قد شدَّد في تضعيف هذا الأثر، وهو الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على مسند الإمام أحمد (¬1)، وقد نازعه بعض المعاصرين (¬2)، وصحح الحديث، فلو كان صحيحاً، فإن في الأثر دلالة على أنه لم يبق لهم من معرفة التوقيف في ترتيب السور سوى الأنفال والتوبة، وليس في هذا حجة لمن ذهب إلى القول بالاجتهاد بسبب هذا الأثر؛ لأن عثمان يقول: «فإذا نزلت عليه السورة يقول: ضعوا هذه في موضع كذا وكذا، وكانت الأنفال أول ما أنزل عليه بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن نزولاً، وكانت قصتها تشبه قصتها فقبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يبين أمرها، فظننت أنها منها» (¬3)، والله أعلم. ثانياً: أن قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم البقرة فالنساء فآل عمران، لها وجه آخر غير وجه توقيف الترتيب، وهو أنه دلَّ بعمله هذا على جواز مخالفة الترتيب أثناء القراءة في الصلاة وغيرها، وعلى هذا جرى عمل المسلمين، فتراهم في الكتاتيب يعلمون الأطفال من آخر القرآن. ¬

(¬1) المسند بتعليق أحمد شاكر (1:329) برقم (399). (¬2) هو عبد الله بن يوسف الجديع في كتابه المتميز «مقدمات أساسية في علوم القرآن»، ينظر: (ص124 - 127). (¬3) سنن البيهقي (2:42).

ثالثاً: أن الاستدلال باختلاف ترتيب مصاحف الصحابة ليس بحجة على أن الترتيب ليس بتوقيفي، وههنا قاعدة عامة فيما يتعلق بأمر القراءة والمصحف، وهي أنه قبل إجماع الصحابة على إلزام عثمان بما أرسله للأمصار لم يكن هناك اتفاق في ما يتعلق بأمر القراءة ولا المصحف؛ لذا تجد أن بعضهم كان يقرئ بكل ما سمع من النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنه لم يبلغه أنها مما تُرِك في العرضة الأخيرة، وقد مرَّ ذكر قراءة أبي الدرداء وابن مسعود رضي الله عنهما لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} بإسقاط {وَمَا خَلَقَ}، وهي قراءة صحيحة، لكنها مما لم يقرئه جبريل النبي صلّى الله عليه وسلّم في العرضة الأخيرة، ولو قيل غير ذلك، لزُعِم أن في القرآن نقصاً، وذلك مذهب أهل السوء والرداءة الذين ينقمون على الصحابة الكرام. بل لقد صحَّ عن ابن مسعود رضي الله عنه ما هو أكثر من مخالفة ترتيب مصحف عثمان رضي الله عنه، فإنه كان لا يرى المعوذتين من القرآن، فقد روى الإمام أحمد بسنده عن زر بن حبيش، قال: «قلت لأُبي بن كعب: إن ابن مسعود كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه، فقال أشهد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخبرني أن جبريل عليه السلام قال له: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} فقلتها، فقال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} فقلتها. فنحن نقول ما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم» (¬1). وهذا المذهب الذي ذهب إليه ابن مسعود رضي الله عنه (ت32هـ) لم يوافقه عليه الصحابة، ولا كان من المرضي عنه فيه، وإن كان يراهما وحياً لكن لم يجعلهما من القرآن، وإنما كان يقول: «إنما أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يتعوذ بهما» (¬2). والذي يظهر من أمر القرآن أن الأصل فيه النقل في كل أموره، في ¬

(¬1) المسند (5:129)؛ وصححه ابن حبان (797)؛ وقوّاه الحافظ في الفتح (8:742)؛ وهو في صحيح البخاري (4976) دون ذكر ابن مسعود رضي الله عنه، وينظر كتاب: «المقدمات الأساسية في علوم القرآن»، لعبد الله الجديع، ففيه كلام عما ورد في شأن المعوذتين عند ابن مسعود (ص112 - 119). (¬2) أخرجه البزار في مسنده برقم (1586)؛ والطبراني في الكبير برقم (9:269).

ترتيب سوره وآياته وأسماء سوره وآياته وفضائل سوره وآياته، ليس لأحد في هذه الأمور اجتهاد، وإنما ظهر الاجتهاد فيما بعد فيما يتعلق برسمه، وضبطه، وزخرفته ووضع أسماء سوره، وترقيم آياته، ووضع رموز وقوفه إلى غير ذلك مما أدخله العلماء، وتُلقي بالقبول، كما سيرد في الحديث عن المصحف وتاريخه. • * *

قراءات مقترحة في موضوع: ترتيب السور كتاب «الإعجاز البياني في ترتيب آيات القرآن الكريم وسوره» للدكتور أحمد يوسف القاسم. وهو من أنفس كتب المعاصرين في ترتيب السور.

الفصل الخامس: موضوعات السور ومقاصدها

الفصل الخامس موضوعات السور ومقاصدها

تختلف السور من حيث الطول والقِصرِ، وغالباً ما تكون السور القصيرة ذات موضوع واحدٍ، وغالباً ما يكون اسم السورة دالاً على موضوعها، وذلك شأن سور قصار المفصَّل من جزء عمَّ. وإذا طالت السورة، فإنها قد تكون ذات موضوع واحدٍ يتعدد طرحه من خلال سياقات متنوعة، وقد تكون ذات موضوعات متعددة، ويمكن التمثيل لكل نوع بما يأتي: 1 - سورة الصمد؛ موضوعها الإخلاص. 2 - سورة النبأ؛ موضوعها البعث، وقد تعدد طرح موضوع البعث من خلال سياقات الآية. 3 - سورة عبس، فيها موضوعات متعددة: • حال المقبل على الإسلام والمعرض عنه (1 - 10). • بيان منْزلة القرآن (11 - 16). • بيان شدة كفر الكافر (17 - 23). • الاستدلال على البعث (24 - 33). • أحوال الناس يوم القيامة (34 - 42). وقد يظهر لبعض المتدبرين لمثل هذه السور التي تتعدد موضوعاتها خيط رفيع يجمعها في موضوعٍ واحدٍ، وهو ما اصطلح بعض المعاصرين على تسميته بمصطلح (الوحدة الموضوعية). ويمكن استنباط (الوحدة الموضوعية) أو ما كان يسميه بعض العلماء (مقصد السورة) من خلال النظر في: • اسم السورة.

• موضوعات السورة. • ملابسات السورة. • تفسير السورة الإجمالي. ولا شكَّ أن البحث في موضوع الوحدة الموضوعية شائقٌ، إلا أنه مظنَّة للتكلُّف، والقول على الله بغير علم. وقد تأخرت العناية بهذا الموضوع، ولم ترد فيه كتابات موضوعية سوى شذرات متفرقة في كتابات بعضهم كما سيرد النقل بذلك عنهم. وهذا الموضوع جدير بالعناية، والكتابات المعاصرة عنه في تزايد، وهو يفيد الدارسين في جمع الموضوعات التي تحدث عنها القرآن الكريم، وكيفية تطرقه لها، وكيفية معالجته لكثير من هذه الموضوعات. وممن اعتنى بذكر موضوعات السور: الفيروزآبادي (ت817هـ) في كتابه «بصائر ذوي التمييز»؛ البقاعيُّ (ت885هـ) في كتابه «مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور»؛ والطاهر بن عاشور (ت1393هـ) في كتابه «التحرير والتنوير». أمثلة من عناية العلماء السابقين بهذا الموضوع: 1 - ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية (ت728هـ) موضوعات سورة البقرة، وأفاض فيها، ومن أول كلامه في هذا الموضوع ما يأتي: «وقد ذكرت في مواضع ما اشتملت عليه سورة البقرة من تقرير أصول العلم، وقواعد الدين: أن الله تعالى افتتحها بذكر كتابه الهادي للمتقين، فوصف حال أهل الهدى، ثم الكافرين، ثم المنافقين، فهذه جُمَلٌ خبرية، ثم ذَكَرَ الجُمَلَ الطلبيَّة، فدعا الناس إلى عبادته وحده، ثم ذكر الدلائل على ذلك: من فرش الأرض، وبناء السماء، وإنزال الماء، وإخراج الثمار رزقاً للعباد، ثم قرَّر الرسالة، وذكر الوعد والوعيد، ثم ذكر مبدأ النبوة والهدى وما بثه في العالم من الخلق والأمر، ثم ذكر تعليم آدم الأسماء وإسجاد الملائكة له لما شرفه من العلم، فإن هذا تقرير لجنس ما بعث به محمد صلّى الله عليه وسلّم من الهدى

ودين الحق فقص جنس دعوة الأنبياء، ثم انتقل إلى خطاب بنى إسرائيل وقصة موسى معهم، وضمن ذلك تقرير نبوته؛ إذ هو قرين محمد صلّى الله عليه وسلّم، فذكر آدم الذي هو أول وموسى الذي هو نظيره، وهما اللذان احتجَّا، وموسى قتل نفساً فغُفِر له، وآدم أكل من الشجرة فتاب عليه. وكان في قصة موسى ردٌّ على الصابئة ونحوهم ممن يُقِرُّ بجنس النبوات ولا يوجب اتباع ما جاءوا به، وقد يتأولون أخبار الأنبياء. وفيها رد على أهل الكتاب بما تضمنه ذلك من الأمر بالإيمان بما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم، وتقرير نبوته، وذكر حال من عدل عن النبوة إلى السحر، وذكر النسخ الذي ينكره بعضهم، وذكر النصارى، وأن الأمتين لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم، كل هذا في تقرير أصول الدين من الوحدانية والرسالة ...» (¬1). 2 - ذكر الشاطبي (ت795هـ) في «الموافقات» مجمل موضوعات سورة البقرة، فقال: «ثم لما هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة كان من أول ما نزل عليه سورة البقرة، وهي التي قررت قواعد التقوى المبنية على قواعد سورة الأنعام، فإنها بينت من أقسام أفعال المكلفين جملتها، وإن تبيَّن في غيرها تفاصيلُ لها؛ كالعبادات التي هي قواعد الإسلام، والعادات من أصل المأكول والمشروب وغيرهما، والمعاملات من البيوع، والأنكحة وما دار بها، والجنايات من أحكام الدماء وما يليها. وأيضاً، فإن حفظ الدين فيها، وحفظ النفس والعقل والنسل والمال مضمن فيها، وما خرج عن المقرر فيها فبحكم التكميل، فغيرها من السور المدنية المتأخرة عنها مبني عليها كما كان غير الأنعام من المكي المتأخر عنها مبنياً عليها» (¬2). ¬

(¬1) ينظر: الفتاوى (14:41، وما بعدها). (¬2) الموافقات للشاطبي، تحقيق مشهور آل سلمان (4:257)، ويحسن الرجوع إلى هذه المسألة بكمالها، فقد اجتزأت منها ما يتعلق بالموضوع هنا، وهو يتحدث عن مسألة مهمة، وهي أن المدني من السور منَزَّل في الفهم على المكي.

قراءات مقترحة في موضوع: موضوعات السور ومقاصدها الكتابة في مقاصد السور وموضوعاتها جزء من الكتابة في مقاصد القرآن وموضوعاته؛ لأنها تعتبر أفراداً له، وباجتماعها تظهر مقاصده، وتتكوَّن موضوعاته. ويمكن اعتبار الكتب التي كُتبت في مقاصد الشريعة من الكتب المعينة على دراسة هذا الباب، لما بينها من الارتباط، ومن انطلق من هذه النظرة اتسعت عنده دائرة مقاصد السور، وتبيَّن له من خلال موضوعاتها كيفية معالجتها لهذه المقاصد النفيسة، وذلك مبحث مهم يحتاج إلى عناية من له اطلاع واسع على الشريعة. ومن البحوث التي لها تعلق بموضوع السور ومقاصدها بحث (الوحدة الموضوعية)، وهو من الموضوعات التي عُنِي بها بعض المعاصرين، وكتبوا فيها. بحوث مقترحة في موضوع: موضوعات السور ومقاصدها • البحث عن المناسبة في الآيات التي نزلت لأسباب، ووضعت في مكان من آيات سابقة لها؛ كآية {إِنَّ اللَّهَ يَامُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]. • موازنة موضوعات الشعر الجاهلي وأغراضه، بموضوعات القرآن، وما أحدثته من تغيير في أفكار أولئك القوم لما أسلموا، وموضوعات الشعر ومقاصده عندهم.

الباب الرابع: المصحف. . عناية الأمة

الباب الرابع المصحف ... عناية الأمة به الفصل الأول: عناية علماء الأمة بالمصحف. الفصل الثاني: مثال معاصر لعناية العلماء بضبط المصحف. (مصطلحات ضبط مصحف المدينة النبوية)

الباب الرابع المصحف .. عناية الأمة به لا يخفى على مسلم ما للمصحف من تقدير في نفوس المسلمين، فهو عندهم أجلِّ كتاب يملكونه؛ لأنه قد دُوِّن فيه كلام الله، ولقد تأدبوا معه بآداب كثيرة، منها ما ورد عن الصحابة، ومنها ما ورد عن التابعين، ومنها ما عمل به بعض العلماء أو المسلمين؛ كحفظه في غلالة من قماش، ورفعه عن الأرض، وغير ذلك، وما ذاك إلا لما يرونه من تقديس لهذا المصحف الكريم الذي يشتمل على كلام الله سبحانه وتعالى. والكتابة في عناية الأمة بهذا المصحف لا يمكن حصرها في مثل هذه المباحث المجتزأة، وإنما اختير منها ما هو أنسب وأليق بالدارسين لهذا الكتاب، وذلك على النحو الآتي: الفصل الأول: عناية العلماء بالمصحف. • تسمية المصحف. • رسم المصحف. • ضبط المصحف. • تجزئة المصحف. • علامات وقفه وابتدائه. الفصل الثاني: مثال معاصر لعناية العلماء بالمصحف (مصطلحات ضبط مصحف المدينة النبوية). وسأتناول هذين الفصلين ببعض التفصيل المتناسب مع هدف هذا الكتاب، والله الموفق.

الفصل الأول: عناية العلماء بالمصحف

الفصل الأول عناية العلماء بالمصحف وفيه خمسة مباحث: المبحث الأول: تسمية المصحف. المبحث الثاني: رسم المصحف. المبحث الثالث: ضبط المصحف. المبحث الرابع: تجزئة المصحف المبحث الخامس: وقوف المصحف ورموزها.

هذا العنوان واسع الدلالة، ولو أخذته بهذا العنوان الشامل لدخل فيه أشياء كثيرة، فتشمل تاريخ المصحف وكتابته في جميع العصور، وما لحق هذه الكتابة من عناية بالغة فائقة في طريقة الخط، وطريقة التنسيق، بل تعدى الأمر عند بعض المسلمين إلى الاعتناء بالتزويق، والتذهيب، والتجليد، واختيار المداد، وغير ذلك مما يطول ذكره. غير أن المراد بالعناية هنا ما قام به علماء الصحابة من رسمهم للمصحف، ثم ما أضافه علماء الأمة بعدهم من أمور متعددة، خصوصاً ضبط المرسوم وقراءته، وهو ما سُمِّي (علم الضبط)، وتجزئته ووقوفه. وقد سبق الحديث عن كتابة المصحف في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وفي عهد أبي بكر ثم عثمان بن عفان رضي الله عنهما، وفي عهد عثمان استقرَّ رسم المصحف على ما اتفق عليه الكَتَبَةُ الذين عيَّنهم عثمان رضي الله عنه، وصار بمثابة الإجماع على هذا الرسم. لكن المصحف مرَّ بمراحل بعد استقرار هذا الرسم حتى وصلنا بهذا الشكل الذي نراه، وهو ما سيقع الحديث عنه في هذا الفصل من هذا الكتاب، وسأقسم الحديث عنها حسب التسلسل التاريخي ـ حسب المستطاع ـ للأصل الذي هو رَسْمُه، وللزيادات التي لحِقته من ضبط ونقط وشكل.

المبحث الأول: تسمية المصحف

المبحث الأول تسمية المصحف سبق التنبيه على أنَّ في القرآن إشارات إلى أنه سيكون مكتوباً في صُحفٍ، ومن ذلك الآيات التي وردت باسم الكتاب، مثل قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]، وأما ما ورد بلفظ الصحف ففي مثل قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ *فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ *فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} [عبس: 11 - 13]، وذلك على أن المراد بها صحف الكَتَبَة من الصحابة رضي الله عنهم (¬1)، وقوله تعالى: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً *فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة: 2، 3]. بل كانت بعض كتب الله السابقة مما أطلِق عليها هذا الاسم بدلالة قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلاَ يَاتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَاتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى} [طه: 133]، وقوله تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّا بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى *وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 36، 37]، وقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى *صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 18، 19]. وهذه الآيات فيها الإشارة الواضحة إلى تسمية المصحف، نِسبةً إلى الصُّحف التي يُكتب فيها كلام الله، ومنها القرآن الكريم الذي نزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم. ¬

(¬1) وقع خلاف بين المفسرين في المراد بالسفرة هل هم الملائكة أو كتبة الوحي من الصحابة؟، ويُبنى عليه الاختلاف في الصحف، هل هي التي بيد الملائكة، أو هي صحف الكتبة من الصحابة؟ ينظر في هذا: الاختلاف كتب التفسير؛ كتفسير الطبري وابن كثير.

فالقرآن: كلام الله تعالى، والمصحف: هو الصحف التي كُتِب فيها كلام الله تعالى. وقد ورد في الأحاديث ما يشير إلى التداخل بين هذين اللفظين من جهة صحة إطلاق أحدهما وإرادة المعنى الآخر، فقد روى الإمام أحمد بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينهى أن يسافر بالمصحف إلى أرض العدو» (¬1). وهو عند البخاري (ت256هـ)، وغيره بلفظ: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو» (¬2). وقد عنون البخاري (ت256هـ) في صحيحه لهذا الحديث بهذا العنوان: (باب كراهية السفر بالمصاحف إلى أرض العدو) (¬3). وفي تبويب النووي لصحيح مسلم: (باب النهي أن يسافر بالمصحف إلى أرض الكفار) (¬4)، وكذا عنون له أبو داود في سننه (¬5). والمراد بالنهي عن السفر بالقرآن: المكتوب في المصحف لا المحفوظ في الصدور، وهذا إذا خيف عليه أن يناله العدو لقلة الجيش المسلم ونحو ذلك وإلا فلا مانع منه، وهذا يدل على جواز إطلاق المصحف على القرآن، والقرآن على المصحف، والله أعلم. وهذه التسمية قد انتشرت بين الصحابة وشاعت كما هو ظاهر من الآثار عنهم، منها: 1 - روى الإمام مالك، عن نافع: «أن عبد الرحمن بن أبي هريرة سأل عبد الله بن عمر عما لفظ البحر، فنهاه عن أكله. ¬

(¬1) المسند (7:2، 55) وأصله في صحيح البخاري كما سيأتي. (¬2) صحيح البخاري برقم (2990). (¬3) انظر: البخاري مع فتح الباري (6:133). (¬4) صحيح مسلم (3:149). (¬5) سنن أبي داود (3:82).

قال نافع: ثم انقلب عبد الله، فدعا بالمصحف، فقرأ: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [الأنعام: 96]. قال نافع: فأرسلني عبد الله بن عمر إلى عبد الرحمن بن أبي هريرة: إنه لا بأس بأكله» (¬1). 2 - وروى مسلم بسنده عن أبي الأحوص قال: «كنا في دار أبي موسى مع نفر من أصحاب عبد الله وهم ينظرون في مصحف، فقام عبد الله، فقال أبو مسعود: ما أعلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ترك بعده أعلم بما أنزل الله من هذا القائم. فقال أبو موسى: أما لئن قلت ذاك؛ لقد كان يَشهد إذا غِبْنَا، ويؤذن له إذا حُجبنا» (¬2). ولو استقصيت في الآثار التي وردت فيها التسمية لربت على الخمسين أثراً، وليس ذلك مقصداً هنا، وإنما المقصد التنبيه على أنه لا حاجة للصحابة في أن يبحثوا عن اسم لما يقومون به من عملٍ، خلافاً لما أورِد من قصص لا سند لها؛ كالخبر الذي ذكره الزركشي (ت794هـ)، قال: «فائدة: ذكر المظفري (¬3) فى تاريخه: لما جمع أبو بكر القرآن قال: سمُّوه، فقال بعضهم: سمُّوه إنجيلا، فكرهوه. وقال بعضهم: سمُّوه السِّفْر، فكرهوه من يهود. فقال ابن مسعود: رأيت للحبشة كتاباً يدعونه المصحف، فسَمَّوه به» (¬4). • * * ¬

(¬1) الموطأ برقم (1071). (¬2) صحيح مسلم برقم (2461). (¬3) المظفري: شهاب الدين إبراهيم بن عبد الله الحموي (ت642هـ). (¬4) البرهان في علوم القرآن، للزركشي (1:281 - 282).

المبحث الثاني: رسم المصحف

المبحث الثاني رسم المصحف • علاقة هذا النوع بأنواع علوم القرآن الأخرى: يرتبط رسم المصحف بموضوع (جمع القرآن) الجمع الكتابي في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ثم في عهد أبي بكر رضي الله عنه، ثم في عهد عثمان رضي الله عنه. وقد تبِع (رسم المصحف) موضوع آخر، وهو (ضبط المصحف)، وبينهما علاقة قوية جدّاً؛ لأن (علم الضبط) جاء لضبط الرسم لموافقة القراءة. ولرسم المصحف علاقة بالقراءات؛ إذ الأصل دلالة المرسوم على المسموع، فجاء (رسم المصحف) للدلالة على المقروء، كما هو الأصل في الرسم عموماً.

رسم المصحف مضت الإشارة إلى الرسم في الحديث عن (جمع القرآن) (¬1)، ويحسن هنا تقرير المسألة في نقاط: 1 - أن الصحابة لم يخترعوا رسماً معيَّناً قصدوا به كتابة القرآن الكريم، بل كتبوه على حسب ما تعلموه من معلميهم، ولا يصحُّ ما قيل: إنه بتوقيف من النبي صلّى الله عليه وسلّم، فهذا المذهب من الضعف بمكانٍ، إذ النبي صلّى الله عليه وسلّم كان أميّاً لا يقرأ ولا يكتب، وتلك صفة فيه مستمرَّة، لم يصحَّ خبرٌ أنه تحوَّل عنها (¬2). ومن هنا تعلم أن محاكمة خطِّ الصحابة وهجائهم إلى ما وقع بعد ذلك من تطوِّر للرسم، واختلافٍ في الإملاء غير سديد، بل الصواب أن يعلم أنَّ هذا اصطلاحهم، كما أن اصطلاح من بعدهم قد تغير عن اصطلاحهم، وكذا فإن اصطلاح من نقدهم قد تغير الاصطلاح بعده، فما كان في عصره هو الرسم المتعارف عليه المقبول بين الكاتبين، صار عند من بعدهم غير مقبول، وهكذا دواليك. وقد ذهب قوم إلى أن الرسم معجز (¬3)، وله سرٌّ لا يعلمه إلا الله، ¬

(¬1) ينظر: (ص165 - 166). (¬2) ينظر في موقف العلماء: من ظواهر الرسم، وحكمهم عليها من حيث التوقيف وعدمه ما كتبه الدكتور غانم قدوري الحمد في كتابه «النفيس»: رسم المصحف دراسة لغوية تاريخية (ص197 - 233)؛ ومقدمة الدكتور أحمد شرشال في تحقيقه لكتاب: «مختصر التبيين لهجاء التنْزيل» (1:200 - 230)، وغيرها. (¬3) بنى هؤلاء قولهم على أن رسم المصحف توقيفي، ولم يظهر هذا القول في جيل السلف، بل ظهر متأخِّراً، وهو قول فيه نظر.

وهذا القول لا يدل عليه دليل صحيح، وقد قال الناظم في هذا (¬1): والخط فيه معجز للناس ... وحائد عن مقتضى القياس لا تهتدي لسره الفحول ... ولا تحوم حوله العقول قد خصه الله بتلك المنْزله ... دون جميع الكتب المنَزَّله ليظهر الإعجاز في المرسوم ... منه كما في لفظه المنظوم إلى أن قال: وقد تكلَّف شيوخ الكتبه ... فسارعوا فيه لنحت الأجوبه فذكروا من ذاك ما لا يُقنِع ... قلباً ولا غِلَّ غليل يُنقِع وقد ذهب قبله إلى هذا أبو العباس أحمد بن البناء المراكشي (ت721هـ) في كتابه «عنوان الدليل في مرسوم خط التنْزيل» (¬2). والذي أوقع أصحاب هذا المذهب، ومذهب من يتطلب العلل للرسم هو ادعاء اطراد العلل، وذلك ما لا يوجد في الرسم العثماني؛ لأنهم كتبوه على معهودهم في الرسم ولم يخترعوا رسماً خاصّاً فيقال بطلب العلل لذلك. ومما وقع من انتقاد للصحابة في رسمهم ما ذكره الفراء (ت207هـ) في كتابه «معاني القرآن» عند حديثه عن قوله تعالى: {أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ} [النمل: 21]، قال: «وكُتبت بلام ألف وألف بعد ذلك، ولم يُكتب في القرآن لها نظير، وذلك أنهم لا يكادون يستمرون في الكتاب على وجهة واحدة، ألا ترى أنهم كتبوا {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر: 5] بغير ياء، {وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ} [يونس: 101] بالياء، وهو من سوء هجاء الأولين. وأما قوله: {أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ} [النمل: 21] فقد كُتِبت بالألف وبغير الألف. ¬

(¬1) هو محمد العاقب الجكني (ت1312هـ) في نظمه (كشف العمى)، ذكره الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي في كتابه «إيقاظ الأعلام لوجوب اتباع رسم المصحف الإمام» (ص33، 34). (¬2) صدر عن دار الغرب الإسلامي بتحقيق الدكتورة هند شلبي.

وقد كان ينبغي للألف أن تُحذف من كله؛ لأنها لام زيدت على الألف؛ كقوله: (لأخوك خير من أبيك)؛ ألا ترى أنه لا ينبغي أن تُكتب بألف بعد لام ألف. وأما قوله: {لاَ انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة: 256] فتكتب بالألف؛ لأن (لا) في (انفصام) تبرئة، والألف من (انفصام) خفيفة» (¬1). إذا تأمَّلت نقد الفراء (ت207هـ) ـ رحمه الله تعالى ـ وجدته قد وضع للخطِّ معياراً، وهو ما يعرفه من الهجاء الذي في عصره، فحاكَمَ به هجاء الصحابة رضي الله عنهم، وهنا وقع في الغلط عليهم بنسب هجائهم إلى السوء، وليس الأمر كذلك، بل هذا من اصطلاحاتهم المعروفة عندهم، والتي لا يُثرَّب عليهم فيها. ونحن لو اطلعنا على هجاء الفراء (ت207هـ)، وحاكمناه إلى هجاء عصرنا لقلنا فيه مثل قولته في هجاء الصحابة رضي الله عنهم، لكن الأمر ليس كذلك، فلكل عصر أسلوبه وطريقته في الرسم، والله أعلم. 2 - أن الرسم الذي كتب به الصحابة كان مجردّاً من أية علامة؛ لأنها غير موجودة أصلاً، إذ لم يكن في عصرهم نقط ولا شكل، ولا أي من علامات الضبط التي أُلحِقت فيما بعد، شأنه في ذلك شأن الكتابة في هذا العصر، كما هو واضح من موازنة خط المصحف بما وُجِد من خطوط تعود إلى هذا الزمن، ولهذا فإن من يمثل بحرف (فتبينوا، فتثبتوا) أنهم رسموه في مصحف بلفظ (فتبينوا)، وفي مصحف آخر بلفظ (فتثبتوا)، فقد غفل عن هذه المزية في رسم الصحابة؛ لأن اللفظة إذا جُرِّدت من النقط احتملت القراءتين، فلم يعمدوا إلى ما يذكره بعضهم في التمثيل بهاتين القراءتين. 3 - أن الأصل في القرآن الاعتماد على المسموع المحفوظ في الصدور لا المرسوم، فالقراءة لما سمع أصل والرسم تبعٌ، ومن المعلوم أنه ¬

(¬1) معاني القرآن، للفراء (1:439).

لا يمكن التطابق التامُّ بين نطق بعض الكلمات ورسمها في جميع لغات العالم، بل يدخل فيها الزيادة والنقص وغيره مما يدخل في علم الإملاء. لذا فإن خلوَّ رسم مصاحف الصحابة من النقط والشكل وغيرها لم يكن مشكلاً عندهم، لأنهم يحفظون القرآن في صدورهم، ولا يعتمدون على الرسم أوَّلاً، وإنما جاء الرسم لضبط صورة الكلام، لا للانطلاق منه إلى القراءة. 4 - أن هذا الرسمَ الذي كان متعارفاً بينهم كان فيه اختلافٌ يدخل في اختلاف التنوع في طريقة الرسمِ، ولقد طلب منهم عثمان رضي الله عنه أن يكتبوه على الرسم الموافق للغة قريش، فقال: «وإذا اختلفتم أنتم وزيد، فاكتبوه بلسان قريش، فإنه بلسانها نزل» (¬1)، والذي يدل على هذا المثال المذكور في اختلافهم مع زيد رضي الله عنه، فقد أراد زيد أن يكتب (التابوة)، وأراد القرشيون الذين معه أن يكتبوها (التابوت)، فدلَّ على أن القرشيين يفتحون التاء، ويقفون عليها بالتاء، والأنصار يربطون التاء، ويقفون عليها بالهاء، فكتبت بالرسم الموافق للغة قريش، وهذا من اختلاف الرسم كما ترى. 5 - يقوم (رسم المصحف) على مجموعة من القواعد التي استنبطها العلماء من رسم الصحابة، وهذه القواعد: 1 - الحذف، مثل حذف الألف في مواطن كثيرة (يأيها)، وقد حُذِفت الألف بعد الياء. 2 - الزيادة، مثل زيادة الألف في مواطن، مثل زيادتها بعد (لا) من قوله تعالى: {لأَذْبَحَنَّهُ}. 3 - الهمز، مثل (يؤمنون، بئس، سأل)، وهي من أوسع أبواب الضبط وأشكلها. 4 - البدل، مثل كتابة الواو في «الصلوة» بدلاً عن الألف (الصلاة). ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (3506) وقد تقدم.

5 - الوصل والفصل، ويقع له أمثلة كثيرة في ألفاظ متغايرة، مثل لفظة (إنما) تكتب مفصولة وموصولة، ففي قوله تعالى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآَتٍ} [الأنعام: 134] كُتِبت مفصولة، وفي قوله تعالى: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} [الذاريات: 5] كُتِبت موصولة. 6 - ما فيه قراءتان، وكتب على إحداهما، مثل قراءة سكارى بالألف ودونها في قوله تعالى: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} [الحج: 2]، فهي تحتمل الألف وعدمها. تنبيه: قد توزع القراءات في المصاحف، مثل قراءة (أوصى) وقراءة (ووصى)، وما فيه قراءتان فيه تفاصيل تُعرف من كتب القراءات والرسم. ويمكن الرجوع إلى ما كتبه السيوطي (ت911هـ) في النوع السادس والسبعين (في مرسوم الخط وآداب كتابته)، فقد أتى بأمثلة كثيرة على كل قاعدة من هذه القواعد. كما أن هذه القواعد مفصلة بالأمثلة في كتب الرسم. إن قواعد الرسم التي يذكرها العلماء إنما هي استقراءٌ واستنباط مما كتبه الصحابة رضي الله عنهم، وليس يعني هذا أنَّ هذه القواعد كانت مما يسير عليه الصحابة رضي الله عنهم ولا يحيدون عنه، إذ ما من قاعدة إلا ولها ما يخرمها في رسمهم، وأمثلة ذلك كثيرة مبسوطة في كتب الرسم، فعلى سبيل المثال: ألحقوا ألف واو الجماعة في بعض المواطن، وحذفوها من بعض، وكتبوا الألف في بعض المواطن وحذفوها فيما يماثلها من الألفاظ، لذا ليس هناك علل مطَّردة يمكن تتبعها والوقوف عليها، لكن لا يعني هذا انعدام العلل مطلقاً، بل قد توجد علل تظهر بالاستقراء والتتبع. • ومما يطول فيه الجدل مسألة جواز كتابة المصحف بغير الرسم العثماني، وفي هذا تفصيل حاصله: 1 - أن تكون كتابة آيات أو كلمات محدودة في كتب أو صحف أو مقالات، وهذه لا يلزم فيها الالتزام بالرسم العثماني.

2 - أن يكتب المصحف كاملاً، وهذا لا يحسن بغير الرسم العثماني (¬1)؛ لأن الرسم العثماني مما أجمع عليه الصحابة، وتطور الرسم بعدهم لا يسري على رسمهم للقرآن بل يوقف به حيث وقف. وأما دعوى طلب كتابة المصحف بالرسم الإملائي المتعارف عليه اليوم لصعوبة الرسم العثماني، فهذه دعوى ينقصها البرهان في إثبات هذه الصعوبة، وإنما جاءت الصعوبة لعدم تعلم الرسم، وليس لمخالفة الرسم للرسم الإملائي المتعارف عليه اليوم؛ لذا فإن هذه دعوى خلاف المنهج العلمي الصحيح؛ لأن الجهل بالشيء لا يلزم منه تغييره، بل إنما الصواب الذي يحسن أن يُطلب: أن يُتَعَلَّم رسم المصحف كما تُتَعلَّم قراءة القرآن، فلو كان الطالب يتعلم الرسم والقراءة معاً لما صعُب عليه، ولكنه يقرأ ولا يعرف من الرسم شيئاً، بل يتخرج من كليات متخصصة وهو لا يعلم عنه شيئاً، فالداء في الجهل وليس في الرسم فيُطلب تغييره. 6 - أنَّ المصاحف الستة ـ على الصحيح (¬2) ـ التي نسخها عثمان رضي الله عنه هي الأصل الذي يُعتمدُ في حكاية المرسوم، وكل ما حكاه علماء الرسم المتقدمون (¬3)؛ فهو عن هذه المصاحف، أو عن مصاحف أخذت رسومها عن هذه المصاحف الأصيلة، ثم صار هؤلاء الأعلام حجة فيما نقلوه، وعمدةً فيما أثبتوه. ¬

(¬1) يلاحظ أن بعض خطاطي المسلمين؛ كابن البواب وغيره، وكذا بعض من كتب المصحف كتبه بالرسم الإملائي المتعارف عليه عندهم، وهذا خلاف الأصل. (¬2) وقع خلاف بين العلماء في عدد المصاحف، والصحيح أنها ستة: المصحف الذي استكتبه عثمان لنفسه، والمصحف المدني الذي كان عند زيد بن ثابت، والمصحف المكي، والمصحف الكوفي، والمصحف البصري، والمصحف الشامي، وهذه المصاحف هي التي نقل العلماء عنها، وحكوا ما فيها من الرسم، أما ما عدا ذلك كالمصحف المنسوب للبحرين أو لليمن، فلم يُنقل عنه أبداً، مما يشير إلى عدم وجودهما أصلاً. (¬3) مثل نافع المدني، وأبي عبيد القاسم بن سلام، وابن الغازي، وأبي عمرو الداني، وأبي داود سليمان بن نجاح، وغيرهم.

مسألة متعلقة برسم المصحف: وهي هل كتب الصحابة غير القرآن في مصاحفهم؟ من خلال المنقول عن علماء الرسم فإنه يظهر أنَّ الصحابة لم يكتبوا سوى الآيات، فلم يكتبوا اسم السورة، ولا وضعوا عدد الآيات، ولا التخميس ولا التعشير ولا غيره مما حدث بعدهم، بل جعلوا فيه القرآن فقط. وقد ورد عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما عبارة «جردوا القرآن»، وللعلماء في فهم هذه العبارة أقوالٌ. أما عبارة عمر رضي الله عنه، فقد رويت من طرق، منها ما رواه ابن سعد في الطبقات بسنده، عن قرظة بن كعب الأنصاري رضي الله عنه أنه قال: «أردنا الكوفة فشيعنا عمر إلى صرار، فتوضأ فغسل مرتين، وقال: تدرون لم شيعتكم؟ فقلنا: نعم نحن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقال: إنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوي النحل، فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم، جردوا القرآن، وأقلوا الرواية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، امضوا وأنا شريككم» (¬1). وظاهر من سياق هذه الرواية أن عمر رضي الله عنه لا يريد تجريد المصحف من النقط والشكل وغيره، وإنما مراده تجريد القرآن وعدم خلطه بالرواية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لكي لا ينشغل الناس عنه بغيره، وهذا معروف من مذهب عمر رضي الله عنه وسياسته؛ لذا لا يصح حملُه على تجريد المصحف. وأما عبارة ابن مسعود رضي الله عنه، فقد رويت من وجوه، منها: 1 - «جردوا القرآن» (¬2). ¬

(¬1) الطبقات الكبرى (6:7)؛ والمستدرك (1:183)؛ وتهذيب الكمال (23:565)؛ وتنظر: الرواية من غير هذا الوجه عند عبد الرزاق في المصنف (11:324)؛ والطبري في تاريخه (2:567). (¬2) الكتاب المصنف لابن أبي شيبة (2:239، 6:150)؛ نقط المصاحف (ص10)؛ وشعب الإيمان للبيهقي (2:547).

2 - «جردوا القرآن لا تخلطوه بشيء» (¬1)، وفي رواية: «لا تلبسوه ما ليس منه» (¬2). 3 - وعن أبي المغيرة قال: «قرأ رجل عند ابن مسعود، فقال: استعذ بالله العليم من الشيطان الرجيم فقال عبد الله: جردوا القرآن» (¬3). 4 - وعن سلمة بن كهيل قال: سمعت أبا الأحوص قال: قال عبد الله: «جردوا القرآن؛ ليربوا فيه صغيركم، ولا ينأى عنه كبيركم، فإن الشيطان يفر من البيت يسمع تقرأ فيه سورة البقرة» (¬4). ظاهر هذه الروايات التي جاءت مفصلة أنه أراد أن لا يزاد في القراءة على ما في القرآن، وأن يجرَّد في التعليم ليربوا عليه الصغير، وليس مرادها ما ذهب إليه بعضُ العلماء، حيث ذهبوا بها إلى تجريد المصحف من النقط وغيره؛ لأنَّ هذه الأشياء لم تكن موجودة في عصرهم فيقال: إنهم جردوها منه؛ لأن دخولها في المصاحف إنما جاء بعد عمر وابن مسعود رضي الله عنهما، فلا يصحُّ أن يقال إنهم أرادوا هذا. لكن الذين حملوه على هذا إنما حملوه من باب التخريج على كلام ابن مسعود رضي الله عنه، لا أنه هو مرادُه الأَوَّلِيُّ، وهذا ظاهر من استدلال بعض أصحابه بقوله على تجريد المصحف من التعشير وغيره، فقد ورد عن مغيرة عن إبراهيم قال: «كان يكره أن يعشر المصحف، أو يصغر. وكان يقول: عظِّموا القرآن، ولا تخلطوا به ما ليس منه. وكان يكره أن يكتب بالذهب، أو يعلم عند رؤوس الآي. وكان يقول: جردوا القرآن» (¬5). ¬

(¬1) نقط المصاحف، للداني (ص10). (¬2) المصنف لعبد الرزاق (4:322)؛ والكتاب المصنف لابن أبي شيبة (2:239، 6:150)؛ والمعجم الكبير للطبراني (9:353). (¬3) الكتاب المصنف لابن أبي شيبة (6:150). (¬4) سنن النسائي الكبرى (6:240). (¬5) رواه البيهقي في شعب الإيمان (2:547).

وتجريد القرآن؛ بمعنى: تجريد المصحف من الزيادات التي أُحدثت بعد الصحابة = إنما ظهر عند التابعين؛ لأنَّ هذه الزيادات بدأت تظهر في جيلهم، فوقع الاختلاف بينهم في هذه الزيادات، فذهب قومٌ إلى القول بتجريد المصاحف من هذه الزيادات، من ذلك ما أورده ابن أبي شيبة في مصنفه تحت عنوان (من قال: جردوا القرآن) (¬1)، وقد ذكر الرواية عن أبي العالية وإبراهيم وغيرهما. وقد مضى أثر إبراهيم، وفيه ذكر لبعض هذه الزيادات التي ظهرت في عصرهم من تعليم رؤوس الآيات، وتعليم العشر. وورد عن أبي العالية أنه «كان يكره الجمل التي تكتب في المصاحف فاتحة وخاتمة، وقال: جردوا القرآن» (¬2). والمقصود من هذا أن تعلم أن المصحف الإمام كان خالياً مما سوى الرسم، وليس فيه شيءٌ سوى ألفاظ القرآن، وأنه قد دخلت الزيادات في المصحف شيئاً فشيئاً، وصار العمل على جواز هذه الزيادات، حيث تلقتها الأمة بالقبول. مسألة مرتبطة بتجريد القرآن، وهي تحشية المصحف: هذه المسألة مرتبطة بما مضى بحثه من تجريد المصحف، وهي فرع عنه، ويمكن أن يقال: إن الزيادات التي زيدت في المصحف بعد الصحابة تنقسم ـ باعتبار نوع المزيد ـ إلى أقسام: الأول: الخط المحيط برسم الألفاظ القرآنية. الثاني: النقط والشكل وعلامات الوقوف والسكتات، وعلامات انتهاء الآية ورقم الآية، وغيرها من علامات الضبط، وهذه مع النص القرآني. الثالث: ما كان خارج الخط المرسوم على ألفاظ القرآن، وهذا ما يسمى (حاشية المصحف) أو (هامش المصحف). ¬

(¬1) الكتاب المصنف، لابن أبي شيبة (6:150). (¬2) الكتاب المصنف، لابن أبي شيبة (2:239).

وإذا نظرت إلى مصاحف المسلمين، وسبرتها عبر تاريخ المصحف، فإنك ستجد الزيادات ـ باعتبار الحكم ـ على أقسام: 1 - قسم ثبت النهي عنه، وإن وُجِد في بعض المصاحف المتأخرة، مثل إدخال التفسير أو القراءات أو الترجمة بين سطور الآيات. 2 - وقسم وقع الخلاف فيه أول ظهوره، ثم استقرَّ العمل به؛ كالنقط والشكل وعدد الآي، وغيرها مما تراه في المصاحف اليوم. 3 - وقسم لا زال قابلاً للأخذ والردِّ، وهو الزيادات التي تكون في الحاشية، ويمكن تقسيم ما يقع في هذه الحواشي إلى أقسام أيضاً: الأول: ما اتفقت عليه المصاحف اليوم؛ كوضع اسم السورة ورقم الجزء ورقم الصفحة وعلامة الجزء وعلامة الرُّبُع وغيرها. الثاني: ما يوجد في بعض المصاحف دون غيرها، كما سيأتي التنبيه عليه مما لاحظته لجنة مصحف المدينة النبوية على المصحف المصري (¬1)، وما قامت به من تصرف في هذه المسألة. ويحسن التنبه هنا إلى أن الخطورة التي نبَّه عليها الدكتور إبراهيم عبد الرحمن خليفة (¬2)، وكاتب التقرير العلمي عن مصحف المدينة النبوية تزداد إذا وُضِع في الحاشية ما لم يصحَّ أصلاً، وذلك ـ مع الأسف ـ واقع في المصحف الباكستاني (تاج كمبني) الذي تَبِعَ في وقوفه وقف السجاوندي (ت560هـ)، لذا فإن من الواجب على علماء المسلمين الحفاظ على المصحف والعناية به من هذه الزيادات الباطلة، ولا يكون الخوف من تثريب العامة، أو القول بأنَّ هذا مضى عليه زمن ولم يتكلم عنه أحد داعياً إلى ترك مثل هذه الزيادات، ولأضرب مثلاً على ذلك من هذا المصحف المذكور: 1 - تجد في حاشية المصحف (وقف جبريل)، وتجد (وقف مُنَزَّل)، ¬

(¬1) ينظر: (ص307). (¬2) ينظر: (ص308).

وتجد (وقف النبي صلّى الله عليه وسلّم)، وتجد (وقف غفران)، وهذه الأوقاف ليس لها سند صحيح البتة، ونسبتها إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم أو جبريل عليه السلام باطلة، لذا لا يجوز أن تُدخل في حاشية المصحف، فضلاً عن الإشارة إليها في ثنايا كلام الله عزّ وجل. 2 - مما جاء عند السجاوندي (ت560هـ) عبارة (وقفه)، وعبارة (قف) وهي إشارة إلى وجود الوقف، وقد يعلل ذلك أحياناً، لكنها كما تلاحظ غير داخلة في رموزه التي اختارها، والذين طبعوا المصحف وعملوا بوقوفه بحذافيرها يكتبون هذه العبارة فوق الكلمة التي اختار الوقف عليها، وفي دخولها في النص القرآني نظرٌ وخطرٌ، يحسن الانتباه له. ويبقى أن يقوم المرء بوضع حاشية تختص به على المصحف، وذلك ما يمنع منه بعض العلماء ويجيزه آخرون، ولعل القول بالجواز مع وضع الضوابط أقرب إلى الصواب من المنع مطلقاً؛ لأنَّ وضع غريب القرآن أو التفسير، أو القراءات، أو غيرها موجودٌ في بعض المصاحف اليوم، وهو متداول بين الناس بلا نكير. ويمكن استنباط ضوابط لذلك من خلال النظر في كلام العلماء، فأقول: 1 - أن يكون الكلام المُدخل في الحاشية (أو الهامش)، وليس بين سطور النصِّ كما هو الحال في بعض المصاحف التي طُبِعت في باكستان فجعلت تحت كل سطر من المصحف ترجمته بلغة الأوردو. 2 - أن يكون له علاقة مباشرة بالنص القرآني؛ كبيان القراءات، والغريب والتفسير، وترجمة المعاني، والتجويد. 3 - أن يكون المذكور في الحاشية مما صحَّ، أما إذا كان غير صحيح، فلا يجوز إدخاله؛ كالوقف المنسوب لجبريل عليه السلام أو الوقف المنسوب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وهما موجودان على حاشية المصاحف الباكستانية كمصحف (تاج كمبني).

وإنَّ مما يخفف وقوع ذلك أنَّ المسلمين يعلمون أنَّ ما بين الإطار المزخرف هو القرآن، وما كان خارجاً منه فإنه ليس منه، وإن كان يُخشى عليهم أن يظنوا أن هذا من عمل النبي صلّى الله عليه وسلّم والصحابة رضي الله عنهم، وذلك ما يحسن بالعلماء أن يدرسُّوه لهم ويعلموهم إياه بدل أن يقوموا بتجريد بعضٍ دون بعضٍ، فيمكن أن يُحتجَّ فيما أبقي ـ كاسم السورة ـ بما تُرِك؛ كعدد آيات السورة، ويُعتلَّ لذلك بمثل العلة التي أُبقي فيها ما أُبقي.

قراءات مقترحة في موضوع: رسم المصحف 1 - «رسم المصحف»: دراسة لغوية تاريخية، للدكتور غانم قدوري الحمد. 2 - مقالة بعنوان «موازنة بين رسم المصحف والنقوش العربية القديمة»، للدكتور غانم قدوري الحمد، مجلة المورد، العدد الرابع، المجلد الخامس عشر، 1986م. 3 - «إثبات حفظ الله للقرآن الكريم» من خلال دراسة لوحة مخطوطة للقرآن الكريم في القرن الأول الهجري، عمل الباحث بشير بن حسن الحميري. 4 - دراسة فنية لمصحف مبكر يعود للقرن الثالث الهجري، دراسة وتحقيق عبد الله بن محمد بن عبد الله المنيف. بحوث مقترحة في موضوع: رسم المصحف 1 - قد الداني (ت444هـ) باباً بعنوان (ما اتفقت على رسمه مصاحف أهل الأمصار من أول القرآن إلى آخره) في كتابه «المقنع في معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار» (¬1)، وقد خالفت قراءة بعض الأئمة هذه المرسومات المتفق عليها، مثل قراءة الصراط بالسين، وقراءة (بظنين)، وقراءة (لأهب) بالياء، وهذه يمكن أن يعمل عليها بحث ودراسة. 2 - موازنة رسم المصحف بالخطوط القديمة المقاربة له في الزمن، لمعرفة المتغيرات التي حدثت للرسم. ¬

(¬1) المقنع، للداني، تحقيق: محمد أحمد دهمان (ص83 - 92).

3 - دراسة رسم مصحف من المصاحف القديمة لمعرفة مطابقتها للرسم العثماني، ليتدرب الباحث تطبيقيّاً على معرفة الرسم، وتكون مسائله مستحضَرة في ذهنه من خلال هذا التطبيق.

المبحث الثالث: ضبط المصحف

المبحث الثالث ضبط المصحف • علاقة هذا النوع بأنواع علوم القرآن الأخرى: يرتبط ضبط المصحف بتحسين الأداء (علم التجويد)، حيث رُمِز لأحكام التجويد برموز في الضبط تعين القارئ على معرفة الحكم التجويدي التطبيقي من خلال الضبط، كضبط (حكم القلب) بوضع ميم صغيره للدلالة على قلب النون الساكنة ميماً عند ملاقاتها للباء. وله علاقة جزئية بعلم (النحو) وبعلم (الإملاء)؛ لأن بعض علل الضبط نحوية أو إملائية، لذا تجد لعلماء النحو مشاركة في ضبط الحركات في غير المصحف، وقد تكون لهم اصطلاحات أخرى ينقلها بعض من كتب في علم الضبط (¬1). ¬

(¬1) ينظر مثلاً على ذلك: شرح التنسي على ضبط الخراز، المعروف بالطراز في شرح ضبط الخراز، ففيه ذكر لمذهب النحويين في بعض علامات الضبط.

ضبط المصحف إن عناية علماء الأمة بضبط المصحف عناية مشهودة، وجهودهم في ذلك كبيرة جدّاً، وهذا الموضوع من الموضوعات التي تخفى على كثير من المتخصصين في الدراسات القرآنية، وأَولَى من يحسن به الاعتناء بهذا الموضوع الذين تصدوا لتدريس القرآن؛ لأن معرفة الضبط معينة على معرفة الأداء في علم التجويد كما سيظهر من دراسة هذا الموضوع. وإليك تفصيل ما يتعلق بضبط المصحف من جهة النقط. أولاً: نقط أبي الأسود الدؤلي (ت67 أو 69هـ). استقر أمر المصاحف على ما كان من رسم الصحابة في عهد عثمان رضي الله عنه، ولم يكن فيها إلا رسم الكلمة فقط، ثم بدأ الخلل يطرأ على لغة العرب بدخول العجم فيها، وقد ظهرت بداية اللحن في جيل الصحابة، فظهرت الحاجة إلى ضبط اللسان العربي، وأغلب الروايات تشير إلى أن مبتكر ذلك هو أبو الأسود ظالم بن عمرو الدؤلي (ت67، وقيل: 69هـ)، كما أنه هو أول من نقط المصاحف (¬1)، ثم صار للضبط مراحل تطور، وكان للعلماء في اصطلاحاته أكثر من طريقة، وقد أخذ العلماء ببعضها وتركوا بعضها الآخر حتى صار إلى ما تراه اليوم. ¬

(¬1) إن الحديث عن أولية من نقط، وأنواع النقط التي حصلت يكتنفها غموض في الروايات، مما جعل بعض العلماء ينص على أن أول من نقط المصحف نصر بن عاصم، وآخرون قالوا: يحيى بن يعمر، وهما تلميذان لأبي الأسود، لكن يظهر والله أعلم أن مصطلح النقط يختلف، وتحرير الأولية بحث تاريخيٌّ له ثمرة في معرفة ما دخل على المصحف بعد رسم الصحابة، وكيف استقرَّ الأمر عند علماء الأمة بعد ذلك، والله الموفق.

والذي يعنينا من هذا هو طريقة أبي الأسود الدؤلي (ت67، وقيل: 69هـ) في نقط المصحف، وهو الذي اصطلح عليه باسم (النقط المدوَّر) وذكره بعضهم باسم (نقط الإعراب)، ومن هذه الروايات ما قاله محمد بن يزيد المبرد، قال: «لما وضع أبو الأسود الدؤلي النحو (¬1) قال: ابغوا لي رجلاً، وليكن لَقِناً، فطُلِبَ الرجل فلم يوجد إلا في عبد القيس، فقال أبو الأسود: إذا رأيتني لفظتُ بالحرف فضممت شفتي، فاجعل أمام الحرف نقطة، فإذا ضممتُ شفتي بغنة (¬2) فاجعل نقطتين. فإذا رأيتني قد كسرتُ شفتي، فاجعل أسفل الحرف نقطة، فإذا كسرتُ شفتي بغنة، فاجعل نقطتين. فإذا رأيتَني قد فتحتُ شفتي، فاجعل على الحرف نقطة، فإذا فتحتُ شفتي بغنة، فاجعل نقطتين. قال أبو العباس: فلذلك النقط بالبصرة في عبد القيس إلى اليوم». ويمكن تدوين الملاحظات الآتية على عمل أبي الأسود (¬3): 1 - أن أبا الأسود اعتمد على وضع الشفتين في تمييز نوع الحركة. 2 - أنه اعتمد النقطة ومكانها في الدلالة على الحركة. 3 - أن عمله هذا صار ـ فيما يبدو ـ أصلاً للمصطلحات النحوية الثلاثة: الفتحة والكسرة والضمة. 4 - يظهر أن أبا الأسود ضبط أواخر الكلمات، ولم يضبط غيرها، وهذا يدل على أن المراد حماية كلام العرب من الوقوع في اللحن المتعلق بالحركات. 5 - أنه اعتمد المداد الأحمر للنقط؛ ليتميز عن رسم الحروف الذي كان باللون الأسود. ¬

(¬1) في بعض الروايات الورادة عن أبي الأسود المتعلقة بهذا العمل أنه لما أراد نقط المصاحف. (¬2) يقصد التنوين. (¬3) ينظر: رسم المصحف دراسة لغوية تاريخية (ص504 - 505).

• موقف بعض المعاصرين لأبي الأسود من نقطه: كره بعض معاصري أبي الأسود نقط المصحف؛ وممن ذُكِر عنه ذلك الصحابي عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (ت73هـ) (¬1) ومن التابعين إبراهيم النخعي (ت96هـ) وغيره، وكراهية ابن عمر (ت73هـ) لا تدل على وجود النقط قبل أبي الأسود (ت67، أو 69هـ) كما توهم ذلك بعضهم وجعل هذا النقط معروفاً زمن الصحابة؛ لأن تاريخ وفاة أبي الأسود متقدمة على وفاة من نُقِل عنه كراهة النقط مما يشير إلى ظهوره في عصرهم على يد أبي الأسود، فوقعت الكراهة منهم على عمله، والله أعلم (¬2). لكن هذه الكراهة قد زالت لمَّا تحققت مصلحة هذا العمل، وصار الأمر إلى قبول هذا النوع من النقط في طبقتهم والطبقة التي جاءت بعدهم. ثانياً: نقط الإعجام: المراد به تمييز الحروف المتشابهة في الرسم؛ كالراء والزاي (ر، ز) بحيث استُخدمت النُقط على الحروف أو تحتها لتمييز متشابهها في الرسم، ويبدو أن هذا النوع من النقط جاء متأخِّراً، فمصاحف الصحابة لم يكن فيها هذا النوع، ولا يبعد أن يكون وُجِد شيء منه في آواخر عصرهم، لكنَّ تميُّزه واستواءه كان متأخِّراً عن جيلهم؛ حيث ظهر تمام ضبطه في تلاميذ أبي الأسود. ¬

(¬1) ينظر: نقط المصاحف، للداني (ص11 - 12). (¬2) يقول الدكتور غانم قدوري الحمد: «وتشير المصادر إلى أن أبا الأسود توفي سنة تسع وستين من الهجرة، وله خمس وثمانون سنة في الطاعون الجارف الذي أصاب البصرة، وقيل: إنه توفي سنة 67هـ. فلا بدَّ ـ إذن ـ أن يكون نقط المصاحف قد عرفه الناس قبل هذا التاريخ، وإذا صح ما تذكره الروايات من ارتباط ذلك بولاية زياد على البصرة، فإنه يدل أن ذلك حدث بين سنتي (44 - 53هـ)، وهي سنوات ولايته على البصرة، وحتى لو كان ذلك قد تمَّ في ولاية ابنه عبيد الله، فإنه لن يتجاوز سنة 65 من الهجرة؛ أي: قبل وفاة الدؤلي». رسم المصحف دراسة لغوية تاريخية، للدكتور غانم قدوري الحمد (ص498).

وقد وُجِد نَقْشٌ ينسب إلى عهد معاوية بن أبي سفيان (ت60هـ) فيه نقط الإعجام، لكنَّ وجوده لا يمثِّل أصلاً يُعتمد عليه إذ أغلب ما نُسِب إلى هذه الفترة من الرسم بغير إعجام، والله أعلم. نقش سد الطائف (58هـ) وقد كان في ضبط بعض الحروف اختلافٌ في كيفية الإعجام؛ كالقاف التي وُضِع عليها نقطتان عند المشارقة، وهي المتبعة عندهم في رسم المصاحف، ووُضِع فوقها نقطة واحدة عند المغاربة، وهي المتبعة عندهم في رسم مصحف ورش. ويُذكر أن هذا النوع من النقط قد ظهر على يد اثنين من طلاب أبي الأسود الدؤلي (ت67 أو 69هـ)، وهما يحيى بن يعمر العدواني (ت قبل 90هـ)، ونصر بن عاصم الليثي (ت90هـ)، وكان ذلك بأمر من الحجاج بن يوسف (ت95هـ) زمن ولاية عبد الملك بن مروان (ت86هـ)، وقد جعلوه بمداد أسود لكي لا يلتبس بنقط أبي الأسود الدؤلي (ت67 أو 69هـ)، ولأن نقط الحرف جزء منه، وليس له صورة فيُتوهم بسببها أن ما ليس بقرآن قراناً. ثالثاً: نقط الخليل بن أحمد (ت170هـ تقريباً): استمر العمل بنقط أبي الأسود (ت67 أو 69هـ) حتى جاء الخليل بن

أحمد (ت170هـ تقريباً) فعمل إلى حلِّ الإشكال القائم في النقط المدور (الذي يعتمد الدائرة واللون الأحمر)، فهي تتخذ شكلاً واحدّاً، ولا تتميز إلا باختلاف المكان فقط. وقد أخذ الخليل بن أحمد شكل الحركاتِ من صورِ الحروف، قال محمد بن يزيد المبرد (ت285هـ): «الشكل الذي في الكتب من عمل الخليل، وهو مأخوذ من صور الحروف، فالضمة واو صغيرة الصورة في أعلى الحرف؛ لئلا تلتبس بالواو المكتوبة، والكسرة ياء تحت الحرف، والفتحة ألف مبطوحة فوق الحرف» (¬1). وصار يُسمى (نقط الخليل)، أو (الشكل)، أو (شكل الشعر)، أو (الشكل المستطيل) (¬2)، ولما ظهر نقط الخليل (ت170 تقريباً) وانتشر بدأ الناس يتركون نقط أبي الأسود (ت67 أو 69هـ)، ويستعملون نقط الخليل؛ لأنه أيسر للقارئ في الإدراك من النقط المدوَّر، يقول ابن مجاهد (ت324هـ): «الشَّكل سِمة للكتاب، كما أن الإعراب سمة لكلام اللسان. ولولا الشكل لم تُعرف معاني الكتاب، كما لولا الإعراب لم تعرف معاني الكلام. والشكل لِمَا أشكَلَ، وليس على كل حرف يقع الشكل؛ إنما يقع على ما إذا لم يُشْكَل التبس. ولو شُكِلَ الحرفُ من أوله إلى آخره ـ أعني: الكلمة ـ لأظلم ولم تكن فائدة إذ كان بعضه يؤدي عن بعض. والشكل والنقط شيء واحد، غير أن فَهْمَ القارئ يسرع إلى الشكل أقرب مما يسرع إلى النقط؛ لاختلاف صورة الشكل واتفاق صورة النقط؛ إذ كان النقط كله مدوراً، والشكل فيه الضم والكسر والفتح والهمز ¬

(¬1) أخذ الخليل شكل الحركات ـ وهي رموز قصيرة ـ من الحروف، فالألف تناسبها الفتحة، لكن بدلاً من أن تكون قائمة كالألف بطحها، ووضعها فوق الحرف، وأخذ من الواو الضمة، وجعلها فوق الحرف أيضاً، وأخذ الكسرة من الياء، وجعلها تحت الحرف معقوفة هكذا (-)، وأخذ رمز الشدة (ّ) من أول كلمة شديد، وأخذ علامة السكون، وهي رأس خاء من كلمة خفيف. (¬2) ينظر: رسم المصحف دراسة لغوية تاريخية، للدكتور غانم قدوري الحمد (ص489).

والتشديد بعلامات مختلفة. وذلك عامته مجتمع في النقط، غير أنه يحتاج أن يكون الناظر فيه قد عرف أصوله ... ففي نقط المصاحف المدور: (الرفع والنصب والخفض والتشديد والتنوين والمد والقصر)، ولولا أن ذلك كله فيه ما كان له معنى. قال: وقد كان بعض من يحب أن يزيد في بيان النقط ممن يستعمل المصحف لنفسه ينقط الرفع والخفض والنصب بالحمرة، وينقط الهمز مجرداً بالخضرة، وينقط المشدد بالصفرة؛ كل ذلك بقلم مُدَوَّرٍ، وهذا أسرع إلى فهم القارئ من النقط بلون واحد بقلم مدور. قال: وفي النقط علم كبير، واختلاف بين أهله، ولا يقدر أحد على القراءة في مصحف منقوط إذا لم يكن عنده علم بالنقط، بل لا ينتفع به إن لم يعلمه» (¬1). وقد كان الضبطان مستعملين في وقت ابن مجاهد (ت324هـ) ـ كما يبدو من كلامه، كما كان الداني (ت444هـ) يأخذ بنقط أبي الأسود الدؤلي (ت67 أو 69هـ)، قال: «وترك استعمال شكل الشعر ـ وهو الشكل الذي في الكتب الذي اخترعه الخليل ـ في المصاحف الجامعة من الأمهات وغيرها = أولى وأحق اقتداء بمن ابتدأ النقط من التابعين واتِّباعاً للأئمة السالفين» (¬2). وهذا يدلُّ على أنَّ الشكل الذي اخترعه الخليل (ت170هـ) لم ينتشر انتشاراً يجعل نقط أبي الأسود (ت67 أو 69هـ) غير مستعملٍ، بل كان الضبطان مستعملين كما ترى. ثم حصل لشكل الخليل (ت170هـ) شيءٌ من التعديل، فبدل علامة الكسرة (-) صارت توضع كسر بخط ممتد تحت الحرف كما هو مُتَّبع الآن. • * * ¬

(¬1) المحكم، للداني (ص23 - 24). (¬2) المحكم في نقط المصاحف، للداني (ص22).

قراءات مقترحة في موضوع: ضبط المصحف كتاب «الطراز في شرح ضبط الخراز» للتنسي، وهو من أنفس الكتب في باب الضبط وسيأتي ذكره لاحقاً. وقد كتب المعاصرون من علماء الإقراء في مصر كتباً مختصرة في الضبط ليستفيد منها الطلاب في دراستهم، منها: 1 - «سمير الطالبين في رسم وضبط الكتاب المبين»، للشيخ علي بن محمد الضباع. 2 - «السبيل إلى ضبط كلمات التنْزيل»، لأحمد محمد أبو زيت حار. 3 - «إرشاد الطالبين إلى ضبط الكتاب المبين»، للدكتور محمد سالم محيسن. بحوث مقترحة في موضوع: ضبط المصحف 1 - دراسة علامات الضبط عند النحويين وعلماء ضبط المصحف. 2 - دراسة موازنة بين علامات الضبط في المصاحف التي كُتبت على قراءات متعددة، مثل: موازنة ضبط مصحف حفص بمصحف ورش، وهكذا غيرها. 3 - دراسة علل الضبط، مثلاً: سبب اختيار الصفر الصغير إشارة للسكون. 4 - أثر علماء المغرب العربي في علم الضبط.

المبحث الرابع: تجزئة المصحف

المبحث الرابع تجزئة المصحف لقد كان من حكمة الله أن يكون القرآن مقسماً إلى سور، والسور مقسمة إلى آيات، وكان من فوائد هذا التقسيم تنشيط القارئ الذي يريد ختم القرآن بحيث ينتقل من آية إلى آية، ثم من سورة إلى سورة. وإن من منَّة الله على المسلمين أن يسَّر لهم تلاوة كلامه أناء الليل وأطراف النهار، وقد دأب المسلمون يجتهدون في هذه العبادة ويحرصون عليها، فعمدوا إلى تجزئة المصحف (¬1) إلى أقسام ليتسنى لهم قراءته بلا فتور ولا انقطاع، عملاً بالمنهج الذي رسمه النبي صلّى الله عليه وسلّم لأمته لما سئل عن أحبِّ الأعمال، قالت عائشة رضي الله عنها: «سئل النبي صلّى الله عليه وسلّم: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: أدومها وإن قَلَّ. وقال: اكلفوا من الأعمال ما تطيقون» (¬2)، فذهب العلماء يقسمون المصحف مجتهدين في الوصول إلى تقسيم يُعِينُ القارئ أن يختم القرآن في قيام الليل من رمضان أو غيره، أو أن يختمه خارج صلاته، وقد وقع في تقسيماتهم اختلاف بسبب النظر إلى عدد الأيام التي يريدون أن يقع فيها ختم القرآن، فمن قسمه على سبعة أيام ليس كمن سيقسمه على عشرة أيام، ولا كمن أراد قسمته على ثلاثين يوماً (¬3). ¬

(¬1) قال السخاوي: «يقال: أجزاء القرآن، والأحزاب، والأوراد بمعنى واحد، وأظنُّ الأحزاب مأخوذ من قولهم: حِزب فلان؛ أي: جماعته؛ لأن الحزب طائفة من القرآن. والوِردُ؛ أظنه من الوِردِ الذي هو ضدُّ الصدر؛ لأن القرآن يروي ظمأ القلب». جمال القراء (1:124). (¬2) أخرجه البخاري برقم (6465)؛ وأخرج مسلم (782) القسم الأول منه. (¬3) ينظر في موضوع: تحزيب القرآن: فنون الأفنان في عيون علوم القرآن، لابن الجوزي، تحقيق: الدكتور رشيد العبيدي (ص107)؛ وجمال القراء وكمال الإقراء، =

ويمكن أن يكون أصل هذه التقسيمات ما أخرجه مسلم بسنده من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: «كنت أصوم الدهر وأقرأ القرآن كل ليلة قال فإما ذكرت للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وإما أرسل إلي فأتيته، فقال لي: ألم أُخْبَر أنك تصوم الدهر، وتقرأ القرآن كل ليلة؟ فقلت: بلى يا نبي الله، ولم أُرِدْ بذلك إلا الخير. قال: فإن بحسبك (¬1) أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام. قلت: يا نبي الله؛ إني أطيق أفضل من ذلك. قال: فإن لزوجك عليك حقاً، وإن لزَورِك (¬2) عليك حقاً، ولجسدك عليك حقاً، فَصُمْ صَومَ داود نبي الله، فإنه كان أعبدَ الناس. قال: قلت: يا نبي الله وما صوم داود؟ قال: كان يصوم يوماً ويفطر يوماً. قال: واقرأ القرآن في كل شهر. قال: قلت: يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك. قال: فاقرأه في كل عشرين. قال: قلت: يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك. قال: فاقرأه في كل عشر. قال: قلت: يا نبي الله إني أطيق أكثر من ذلك. قال: فاقرأه في كل سبع، ولا تزد على ذلك، فإن لزوجك عليك حقاً، ولِزَورِكَ عليك حقاً، ولجسدك عليك حقاً. قال: فشدَّدت فشُدِّد عليَّ. قال: وقال لي النبي صلّى الله عليه وسلّم: إنك لا تدري لعلك يطول بك عمر. قال: فصرت إلى الذي قال لي النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلما كبرت وَدِدْتُ أني ¬

= للسخاوي (1:124)؛ وسنن القراء ومناهج المجودين، للدكتور عبد العزيز القارئ (ص142). (¬1) أي: يكفيك. (¬2) أي: من يزورك من أصحابك وأضيافك.

كنت قَبِلْتُ رخصة نبي الله صلّى الله عليه وسلّم (¬1)» (¬2). وهذا الحديث يشير إلى أنَّ من أراد أن يختم القرآن فإنه يجوز له أن يختمه في سبع، أو في عشر أو في عشرين أو في شهر، وبطبيعة الحال فإنه سيختلف القدر المقروء بين هذه التقسيمات. وقد ورد عن الصحابة في التجزئة آثار، وقد سبق ذكر حديث وفد ثقيف، وسؤالهم الصحابة كيف يحزبون القرآن، وفيه الإشارة إلى أنهم كانوا يعتمدون القسمة الأسبوعية، فقد ورد فيما رواه أبو داود الطيالسي وغيره بأسانيدهم عن عبد الله بن أوس بن حذيفة الثقفي عن جده أوس رضي الله عنه قال: قدمنا وفد ثقيف على النبي صلّى الله عليه وسلّم فنَزل الأحلافيون على المغيرة بن شعبة، وأنزل المالكيين قُبَّتَه. قال: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأتينا فيحدثنا بعد العشاء الآخرة حتى يراوح بين قدميه من طول القيام، فكان أكثر ما يحدثنا اشتكاء قريش؛ يقول: كنا بمكة مستذلين مستضعفين فلما قدمنا المدينة انتصفنا من القوم فكانت سجال الحرب علينا ولنا، فاحتبس عنا ليلة عن الوقت الذي كان يأتينا فيه، ثم أتانا، فقلنا: يا رسول الله احتبست عنا الليلة عن الوقت الذي كنت تأتينا فيه. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنه طرأ علي حزبي من القرآن فأحببت أن لا أخرج حتى أقرأه، أو قال: أقضيه. قال: فلما أصبحنا سألنا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أحزاب القرآن كيف تحزبونه فقالوا: ثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة وحزب المفصل» (¬3). ¬

(¬1) إن ذلك من زيادة همة هذا الصحابي العابد، حيث كره ترك عادته التي ألزم بها نفسه، وكأنه قد اتخذ عهداً بينه وبين الرسول صلّى الله عليه وسلّم في الاستمرار على ما التزم به أمامه، وإن لم يكن ذلك واجباً عليه، فلله درُّه من قدوة في الخير. (¬2) صحيح مسلم برقم (1159). (¬3) مسند أبي داود الطيالسي (1108)؛ وأخرجه أيضاً أبو داود السجستاني (1393)؛ وابن ماجه (1345).

وهذه القسمة الأسبوعية كما هو ظاهر تعتمد السور، فقد كانوا يُحزِّبون بها، ولا يقطعون السورة؛ لأنَّه كان من سننهم إنفاذ القراءة إلى آخر السورة (¬1)، وهذا التقسيم كالآتي: 1 - ثلاث سور: البقرة وآل عمران والنساء، وتمثل في مصحف المدينة النبوية (2 - 106). 2 - خمس سور: المائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، والتوبة، وتمثل في مصحف المدينة النبوية (106 - 207). 3 - سبع سور: يونس، وهود، ويوسف، والرعد، وإبراهيم، والحجر، والنحل، وتمثل في مصحف المدينة النبوية (208 - 281). 4 - تسع سور: الإسراء، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء، والحج، والمؤمنون، والنور، والفرقان، وتمثل في مصحف المدينة النبوية (282 - 366). 5 - إحدى عشرة سورة: الشعراء، والنمل، والقصص، والعنكبوت، والروم، ولقمان، والسجدة، والأحزاب، وسبأ، وفاطر، ويس، وتمثل في مصحف المدينة النبوية (367 - 445). 6 - ثلاث عشرة سورة: الصافات، وص، والزمر، وغافر، وفصلت، والشورى، والزخرف، والدخان، والجاثية، والأحقاف، ومحمد، والفتح، والحجرات، وتمثل في مصحف المدينة النبوية (446 - 517). 7 - المفصَّل، من سورة ق إلى آخر القرآن، وتمثل في مصحف المدينة النبوية (518 - 604). ثم كان لعلماء الأمة عناية بهذا الموضوع، فعمدوا مجتهدين إلى تقسيم القرآن تقسيمات متعددة، ويظهر أن ختم القرآن في شهر كان مقصداً أساساً في هذه التقسيمات؛ لأن الغالب عليها تقسيمه ثلاثين جزءاً. ¬

(¬1) ينظر في هذا: سنن القراء ومناهج المجودين، للدكتور عبد العزيز قارئ (ص173).

ثم قسموه إلى أقل من الجزء، فجعلوا الجزء حزبين والحزب أربعة أرباع، في كل ربع ثُمُنان، فصار الجزء ثمانية أثمان، كما هو الحال في المصاحف المشرقية اليوم. فالقسمة التي بين أيدينا في المصحف لا تذهب إلى تقسيم السور، بل هي تقسمه إلى أجزاء قد تنتهي في وسط سورة أو في خاتمة سورة، والملاحظ أنه لم يُعتمد في هذه التقسيمات على علم الوقف والابتداء، لذا قد تقع نهاية الثمن أو الحزب أو الجزء على موطن ناقص من جهة الوقف، فلا يكون وقفاً تامّاً، ولست أدري علام اعتمد من قسَّم هذا التقسيم؟! وهي محكية قديماً، قد نقلها أبو عمرو الداني (ت444هـ) في كتابه «البيان في عدِّ آي القرآن» على خلافٍ في بعض المواطن، ولم يذكر هو ولا غيره سبب اختيار المواطن، وإنما الظاهر من هذه القسمة أنهم أرادوها لمن يختم في شهر، فإنه يقرأ كل يوم جزءاً حتى يختمه في ثلاثين يوماً. وبعض التقسيمات للمصحف جعلته على سبعة وعشرين قسماً ليكون ختمه في رمضان في ليلة السابع والعشرين، وقد ذكر هذا التقسيم جماعة؛ منهم: الداني (ت444هـ) في كتابه «البيان في عد آي القرآن» (¬1)، وتلميذه أبو داود سليمان بن نجاح (ت496هـ) في كتابه «مختصر التبيين لهجاء التنْزيل» (¬2)، والسخاوي (ت643هـ) في «جمال القراء» (¬3)، وهذه التقسيمات ـ كما ترى ـ اجتهادية، وهناك تقسيمات أخرى محكية في كتب العلماء يمكن الرجوع إليها. تنبيهات: الأول: إن عدد صفحات الجزء في مصحف المدينة النبوية عشرون صفحة، فلو قسَّم المسلم هذه العشرين على عدد الصلوات الخمس، لكان ¬

(¬1) البيان في عد آي القرآن (ص102). (¬2) ينظر على سبيل المثال: (2:596) من مختصر التبيين لهجاء التنْزيل. (¬3) جمال القراء وكمال الإقراء (1:138).

من حظِّ كل صلاة أربع صفحات، يقرؤها قبل الصلاة أو بعدها مباشرة، وبهذا يستطيع أن يقرأ جزءاً كل يوم، ويختمه بشهر. الثاني: اعتمد مصحف (تاج كمبني) (¬1) ـ وهو المصحف الذي يُقرأ في القارة الهندية (الهند والباكستان وبنغلاديش) ـ على تجزئة تتعلق بالركوع، ويرمز لها بحرف (ع) يضعها على رقم الآية التي يحسن الركوع عندها، وهذا التقسيم لا ينظر إلى طول المقطع أو قِصَرِه، بل إلى تمام المعنى، حيث يعتمد على المواطن الصالحة للوقف، وقلَّ أن يخرج عن ذلك. وقد تتبعت كثيراً من مواطن الركوعات، فوجدتها تتبع المعنى، فتقف على معنى تامٍّ أو كافٍ، وهذا التقسيم المعتمد على الركوعات يصلح للقراءة في صلوات الفرض وصلاة التراويح وغيرها من الصلوات. الثالث: كان السلف من الصحابة والتابعين يعتمدون التعشير في التعليم، وقد أخبر بذلك أبو عبد الرحمن السلمي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «كنا إذا تعلمنا من النبي صلّى الله عليه وسلّم عشر آيات من القرآن لم نتعلم من العشر الذي نزلت بعدها حتى نعلم ما فيه» (¬2). لكن كان بعضهم يكره وضع علامة التعشير في المصحف، وقد ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وأبي العالية، ومجاهد، وعطاء بن أبي رباح (¬3). وكان غيرهم يجيزها، ويتخفف فيها، وقد ذكر الداني (ت444هـ) الرواية عنهم كذلك. • * * ¬

(¬1) قد ذكرت علامات هذا المصحف ورموزه في كتاب «كنوز ألطاف البرهان في رموز أوقاف القرآن» لمحمد الصادق الهندي، وقد طبع بمصر قديماً 1290هـ. (¬2) أخرجه الحاكم في المستدرك (1:743)؛ والبيهقي في السنن (3:119)؛ وفي شعب الإيمان (2:330). (¬3) تنظر الرواية عنهم في: (المحكم في نقط المصاحف) (ص14 - 15).

المبحث الخامس: وقوف المصحف ورموزها

المبحث الخامس وقوف المصحف ورموزها • علاقة هذا النوع بأنواع علوم القرآن الأخرى: يرتبط موضوع الوقف والابتداء بالمعنى، لذا فهو منبثق من علم (التفسير)، وهو أثر من آثاره. وله ارتباط بعلم (النحو) من جهة معرفة ما يصح الوقف عليه وما لا يصح من المفردات أو الجمل المرتبطة ببعضها من جهة النحو؛ كالمعطوفات والجملة الحالية وغيرها. وله ارتباط بعلم (القراءات)، وذلك ظاهر باختلاف الوقف والابتداء بسبب اختلاف القراءة. وستأتي أمثلة لعلاقة هذه العلوم بعلم (الوقف والابتداء).

وقوف المصحف ورموزها إن علم الوقف والابتداء من العلوم المهمة للمقرئ والقارئ، إذ به تتبين المعاني، وهذا هو الهدف من هذا العلم، قال النحاس (ت338هـ): «... فقد صار في معرفة القطع والائتناف التفريق بين المعاني، فينبغي لقارئ القرآن أن يتفهم ما يقرؤه، ويشغل قلبه به، ويتفقد القطع والائتناف، ويحرص على أن يُفهِم المستمعين في الصلاة وغيرها، وأن يكون وقفه عند كلام مستغنٍ أو شبهه، وأن يكون ابتداؤه حسناً، ولا يقف على الموتى في قوله: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى} [الأنعام: 36]، ولا أمثاله؛ لأن الوقف ههنا قد أشرك بين السامعين والموتى، والموتى لا يسمعون ولا يستجيبون، وإنما أخبر عنهم أنهم يُبعثون ...» (¬1). وهذا يعني أنَّ علم الوقف والابتداء أثر من آثار المعنى، فمعرفة المعنى هي التي ترشد إلى مكان الوقف من عدمه، وليس كغيره من العلوم التي يدرسها في التجويد مما يحتاج إلى رياضة لسان. العلوم المهمة لمن أراد معرفة الوقف والابتداء: إنَّ من العلوم المهمَّة لمن أراد أن يعرف الوقف والابتداء علم التفسير وعلم النحو، وعلم القراءات؛ لأنَّ المعنى يُعرف بها، قال ابن مجاهد (ت324هـ): «لا يقوم بالتمام (¬2) إلا نحوي عالم بالقراءة، عالم بالتفسير، عالم بالقصص وتلخيص بعضها من بعض، عالم باللغة التي نزل بها القرآن» (¬3). ¬

(¬1) القطع والائتناف للنحاس، تحقيق الدكتور أحمد خطاب العمر (ص97). (¬2) يريد: الوقف. (¬3) القطع والائتناف (ص94).

وإذا تأمَّلت هذه العلوم وجدتها ترجع إلى معرفة المعنى الذي هو أساس علم الوقف والابتداء، فمعرفة التفسير واختلافات المفسرين يُعرف بها المعنى، فيعرف الواقف أين يقف بناءً على هذا التفسير أو ذاك. ومن أشهر الأمثلة التي يُمثَّل بها في هذا المقام تفسير قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]، فمن فسَّر التأويل بما تؤول إليه حقائق القرآن فإنه يقف على لفظ الجلالة؛ لأن علم الحقائق مما يختصُّ به الله، ومن ادعى علمه فقد كذب على الله. ومن فسر التأويل بالتفسير جاز له أن يصل لفظ الجلالة بما بعده ويقف على لفظ (العلم)؛ لأن الراسخين في العلم يعلمون تفسيره. وأنت تلحظ في هذا المقام كيف اختلف الوقف باختلاف التفسير، وأصل ذلك راجع إلى المعنى المراد بالتأويل، فالمعنى أولاً، ثمَّ يجيء الوقف تبعاً للمعنى. ومن أمثلة احتياج علم الوقف والابتداء إلى معرفة النحو ما ذكره النحاس (ت338هـ) في استشهاده على ذلك بأن الاختلاف في إعراب لفظ (مِلَّة) من قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ} [الحج: 78] يورث اختلافاً في صحة الوقف على لفظ (حرج) من عدمه، قال: «ويحتاج إلى معرفة النحو وتقديراته؛ ألا ترى أن من قال: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] منصوبة بمعنى كَمِلَّةِ، وأعمل فيها ما قبلها = لم يقف على ما قبلها. ومن نصبها على الإغراء وقف على ما قبلها» (¬1). ومن أمثلة اختلاف الوقف باختلاف القراءات ما ذكره طاهر بن غلبون (ت399هـ) في الاختلاف في قراءة {ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ} من قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا ¬

(¬1) القطع والائتناف (ص95).

الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَاذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاَةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور: 58]، قال: «وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي (ثلاثَ عوراتٍ) بنصب الثاء، ورفعها الباقون. فمن نصب لم يبتدئ به؛ لأنه بدل من قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَاذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاَةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} التقدير: ليستأذنكم هؤلاء لأوقات ثلاث عورات، فلذلك لا يجوز أن يقطع منه. ومن رفع جاز له الابتداء به لأنه مستأنف، وذلك أنه يوقعه على إضمار مبتدأ؛ تقديره: هذه ثلاث عورات، أو يرفعه بالابتداء، والخبر في قوله {لَكُمْ}» (¬1). • مصطلحات العلماء في الوقف: يمكن تقسيم مصطلحات العلماء في الوقف إلى قسمين رئيسين: الأول: من عمد إلى بيان أماكن الوقوف الجائزة، دون النظر إلى مراتبها، أو إلى ما لا يصح الوقف عليه: وعلى ذلك كتاب «التمام» لنافع (ت169هـ)، ويعقوب الحضرمي (ت205هـ) (¬2)، وعلى هذا سار المغاربة حتى اليوم، فهم لا يدوِّنون في مصاحفهم إلا المكان الصالح للوقف دون تقسيمٍ له إلى مراتب، وقد عملُوا بوقوف محمد بن جمعة المعروف بالهبطي (ت930هـ). والكتابة على هذا النحو قليلة بالنسبة للقسم الذي سيجيء بعدها. ¬

(¬1) التذكرة في القراءات لطاهر بن عبد المنعم بن غلبون، تحقيق الدكتور عبد الفتاح بحيري إبراهيم (2:571). (¬2) قد يرد اسم هذين الكتابين في بعض المصادر بعنوان «وقف التمام»، وليس مرادهما الوقف التام الذي هو مقابل للكافي والحسن، بل التمام عندهم هو المكان الصالح للوقف، فهو مرادف لمصطلح الوقف.

الثاني: من قسَّم الوقوف إلى مراتب: ويمكن حصر المدونات في هذا إلى ثلاثة أنواع: الأول: التقسيم المبني على اللفظ والمعنى: وهذه التقسيمات مبنية على المعنى من حيث تمامه أو نقصه، وبين التمام والنقص مراتب اختلف العلماء في تقديرها اختلافاً كثيراً، وأشهر هذه التقسيمات القسمة الرباعية، وهي: الوقف التام، والوقف الكافي، والوقف الحسن، والوقف القبيح. ومن قسم إلى أربعة أقسام قد يزيد مراتب إلى هذه الوقوف؛ كالصالح، والجائز، والمفهوم، وغيرها. كما قد يجعل بعضهم كل قسم من الأقسام الأربعة على قسمين: التام والأتم، والكافي والأكفى، والحسن والأحسن، والقبيح والأقبح. وهذا التقسيم الرباعي للوقوف المبني على اللفظ والمعنى يُنظرُ فيه إلى تمام الانقطاع من عدمه. فالتَّام: ما انقطع عنه ما بعده لفظاً (إعراباً) ومعنى. كالوقف على (المفلحون) من قوله تعالى {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5]؛ لأنَّ قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6]، لا علاقة لها بما قبلها لا من جهة المعنى ولا من جهة اللفظ، فلو ابتدأت بالقراءة بها لأفهمت معنى تامّاً، ولا حاجة لك بأن تبدأ بما قبلها. والكافي: ما تعلق به ما بعده من جهة المعنى دون اللفظ (الإعراب). ومن أمثلته الوقف على رأس الآية من قوله تعالى: {أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6]، ثمَّ البدء بقوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 7]، فالجملة الأولى من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] مستقلة بمعناها بحيث لو قطع السامع قراءته عليها لأفهم معنى واضحاً مستقلاً، فلو قرأ بقوله تعالى:

{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} ابتداءً، لظهر للسامع أن هذه الجملة مرتبطة بما قبلها من جهة اللفظ دون الإعراب، فهي مستقلة إعراباً، ومرتبطة لفظاً بدلالة الضمير في قوله {قُلُوبِهِمْ}، حيث يعود على ظاهر سابق، وهو قوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا}. والحسن: ما تعلق به ما بعده من جهة اللفظ (الإعراب)، مع كون الجملة الموقوف عليها تامَّة في ذاتها. ومن أمثلته: الوقف على قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ}، ثم البدء بقوله تعالى: {رَبِّ الْعَالَمِينَ}، فجملة الحمد لله مستقلة بنفسها معنى وإعراباً، بحيث لو لم يكن بعدها كلام لكان الوقف تامّاً، لكن جملة {رَبِّ الْعَالَمِينَ} مرتبطة إعراباً بالجملة قبلها، فربِّ صفة للفظ الجلالة، ولا يوقف على الموصوف دون الصفة؛ لأنَّ البدء بها يدل على انقطاعها عما قبلها مع أنها تامة الاتصال. والقبيح: ما اشتد تعلقه بما بعده الذي لا يفهم إلا به، أو ما أدخل في جملة تامة فصار في حكمها وهو ليس منها. ومن أمثلة ما اشتد تعلقه بما قبله بحيث لا يُفهم منه معنى: الوقف على قوله تعالى: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا} [البقرة: 25]؛ فإن الكلام ناقصٌ؛ لأن قوله تعالى: {قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} هو تمام الكلام. ومن أمثلة ما أدخل في جملة تامة فصار في حكمها وهو ليس منها الوقف على قوله تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى} [الأنعام: 36]؛ لأن الموتى لا يسمعون، بل لهم حكم آخر، وهو {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} [الأنعام: 36]. وهذا القسم هو الذي سارت عليه أغلب كتب الوقف والابتداء، فالكثرة الكاثرة اعتمدت هذه القسمة الرباعية على تفاوت بينها في الزيادة عليها، ومن أشهر الكتب في هذا: 1 - كتاب «إيضاح الوقف والابتداء»، لأبي بكر محمد بن القاسم،

المعروف بابن الأنباري (ت328هـ) (¬1). 2 - كتاب «القطع والائتناف»، لأبي جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل المعروف بالنحاس (ت338هـ). 3 - «المكتفى في الوقف والابتداء»، لأبي عمرو عثمان بن سعيد المعروف بالداني (ت444هـ). 4 - «منار الهدى في الوقف والابتداء»، لأحمد بن عبد الكريم المعروف بالأشموني (من أعيان القرن الحادي عشر). الثاني: وقوف محمد بن طيفور المعروف بالسجاوندي (ت560هـ)، وقد جعل أقسامه على ستِّ مراتب وهي: اللازم، والمطلق، والجائز، والمجوز لوجه، والمرخص لضرورة، والممنوع. وقد عرَّف وقوفه هذه، وإليك ما قاله: 1 - الوقف اللازم، ورمزه (م)، قال: «فاللازم من الوقوف: ما لو وصل طرفاه غَيَّرَ المَرام، وشَنَّع معنى الكلام» (¬2). ثم ذكر أمثلة لهذا النوع من الوقف، وهو من الوقوف المشهورة والمتداولة في مصاحف المشرق العربي ومصر. 2 - الوقف المطلق، ورمزه (ط)، قال: «ما يحسن الابتداء بما بعده» (¬3). وقد ذكر السجاوندي أمثلة الوقف المطلق، وأطال فيها؛ كالاسم المبتدأ، والفعل المستأنف، ومفعول المحذوف ... إلخ. ¬

(¬1) يلاحظ أن ابن الأنباري استخدم مصطلح التام والكافي والقبيح، ثم استخدم التام والحسن والقبيح في تعريفاته وتطبيقاته، وهو يريد بالحسن الوقف الحسن المعروف عند غيره والوقف الكافي كما أشار إلى ذلك الداني في كتابه «المكتفى» (ص184، 218، 225، 402، 415). (¬2) علل الوقوف (1:8). (¬3) علل الوقوف (1:16).

3 - الوقف الجائز، ورمزه (ج)، قال: «وأما الجائز: فما يجوز فيه الوصل والفصل لتجاذب الموجبين من الطرفين» (¬1). ثم ذكر بعد هذا التعريف أمثلة للجائز، فقال: «كقوله تعالى: {وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [البقرة: 4]؛ لأن واو العطف يقتضي الوصل، وتقديم المفعول على الفعل يقطع النظم، فإن التقدير: ويوقنون بالآخرة» (¬2). 4 - الوقف المجوز لوجه، ورمزه (ز)، قال: «والمجوز لوجه؛ كقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} [البقرة: 86]؛ لأن الفاء في قوله: {فَلاَ يُخَفَّفُ} لتعقيب يتضمن معنى الجواب والجزاء لا حقيقة الجواب والجزاء، وذلك يوجب الوصل، إلا أن نظم الفعل على الاستئناف يُري للفصل وجهاً. وقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89]؛ لأن فاء الجواب والجزاء آكد في الوصل، ونظم الابتداء في قوله: {فَلَعْنَةُ اللَّهِ} في وجه الفصل أضعف» (¬3). 5 - الوقف المرخص لضرورة، ورمزه (ص)، قال: «والمرخص ضرورة: ما لا يستغني ما بعده عما قبله، لكن يرخص الوقف ضرورة انقطاع النفس لطول الكلام، ولا يلزمه الوصل بالعود، لأن ما بعده جملة مفهومة؛ كقوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [البقرة: 22]؛ لأن قوله: {وَأَنْزَلَ} (¬4) [البقرة: 22] لا يستغني عن سياق الكلام، فإن فاعله ضمير يعود إلى صريح المذكور قبله غير أنها جملة مفهومة لكون الضمير مستكناً، وإن كان لا يبرز إلى النطق» (¬5). ¬

(¬1) علل الوقوف (1:28). (¬2) علل الوقوف (1:28). (¬3) علل الوقوف (1:30). (¬4) تمام الآية: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. (¬5) علل الوقوف (1:31).

6 - الوقف الممنوع، ورمزه (لا)، وهذا القسم هو المعروف في المصاحف اليوم بالوقف الممنوع، ولم يعرِّفه السجاوندي، بل قال: «وأما ما لا يجوز الوقف عليه ففي مواجبه ونظائره كثرة» (¬1). ثم ذكر بعد ذلك أمثلة لما لا يجوز الوقف عليه؛ كأن يوقف بين الشرط وجزائه، وبين المبدل وبدله، وبين المبتدأ وخبره، وبين المنعوت ونعته ... إلخ (¬2). الثالث: وقوف المصحف المصري ومن تبعه: جاء في التعريف بهذا المصحف ما يأتي: «وأُخِذ بيان وقوفه وعلاماتها مما قرره الأستاذ محمد بن علي الحسيني شيخ المقارئ المصرية سابقاً، على حسب ما اقتضته المعاني التي ترشد إليها أقوال أئمة التفسير». ولم يشر التقرير إلى أكثر من هذا، ويظهر أن الحسيني قد استفاد من وقوف السجاوندي (ت560هـ)؛ لأنه تبعه في بعض رموزه (اللازم، والجائز، والممنوع)، وكذا في أماكنها. كما يظهر أنه اطلع على كتاب طُبِع في مصر عام 1290هـ لمؤلف يُدعى محمد الصادق الهندي، وعنوان كتابه «كنوز ألطاف البرهان في رموز أوقاف القرآن»، وقد ذكر في هذا الكتاب الوقف الأولى والوصل الأولى ووقف التعانق. وقد تبِعت لجنة مصحف المدينة النبوية لجنة المصحفَ المصري في هذه الرموز، وإن خالفوها في بعض مواطن الوقف، أما النسخة الثانية من مصحف المدينة النبوية فقد حذفت لجنته الوقف الممنوع. وبما أنه قد سبق بيان الوقف اللازم والجائز والممنوع، فإنه لم يبق إلا التعريف بالوقوف الثلاثة الأخرى، وهي (الوصل أولى، والوقف أولى، ووقف التعانق). ¬

(¬1) علل الوقوف (1:32). (¬2) علل الوقوف (1:32 وما بعدها).

1 - الوصل أولى، وعلامته (صلى)، وهو عين الوقف المجوز لوجه عند السجاوندي (ت560هـ). 2 - الوقف أولى، وعلامته (قلى)، وهو يقابل الوصل أولى، إذ فيه موجبان، موجب الوقف وموجب الوصل، وموجب الوقف هو المترجِّح، فيقدَّمُ هذا الموجب، ويكون الوقف أولى لهذا السبب. وإذا تأمَّلت هذين الوقفين ووازنتهما بالوقف الجائز ظهر لك أن جواز الوقف على ثلاث مراتب: الأولى: أن يستوي موجب الوقف وموجب الوصل، فيكون الوقف جائزاً والوصل جائزاً لاستواء الطرفين. الثانية: أن يكون جائزاً لكن موجب الوصل أقوى، فيكون الوصل أولى. الثالثة: أن يكون جائزاً لكن موجب الوقف أقوى، فيكون الوقف أولى. وهذه المراتب الثلاث لا يمكن التمييز بينها بسهولة، والغاية منها لا تساوي التفريق بينها؛ لأنها في النهاية تدور على الجواز بين الوقف والوصل، والقارئ لا يستفيد من هذا التفريق، فلو كانت كلها على سبيل الجواز لكان أولى من هذا التشقيق الذي لا يخلو من تكلُّف في بعض المواطن، وإن كان ظاهراً في بعضها. 3 - وقف التعانق، وهو الذي يكون فيه وقفان متغايران في المعنى، بحيث إذا وُقِف على الموضع الأول أعطى معنى غير المعنى الذي يكون على الوقف في الموضع الثاني، وعلامته (. . .) فالكلمة التي تكون بين هذه النقاط هي التي يقع عليها التعانق، مثل كلمة (فيه) من قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]. والذي ظهر لي من استقراء وقوف التعانق في المصاحف أنها لا تخرج عن ثلاثة أنواع:

النوع الأول: أن يكون بين المعنى على الوقف الاول والمعنى على الوقف الثاني تداخل بحيث يدخل أحدهما في معنى الآخر، فيُكتفى بالأعم منهما في هذه الحالة، ويسقط التعانق. النوع الثاني: أن يكون بين المعنى على الوقف الاول والمعنى على الوقف الثاني اختلاف تضادُّ، فيسقط أحدهما لأجل التضاد. النوع الثالث: أن يكون بين المعنى على الوقف الاول والمعنى على الوقف الثاني اختلاف تنوع، وذلك هو الذي يصلح لأن يكون وقف التعانق، وسأذكر مثالاً يوضح كل نوع. مثال النوع الأول الذي يقع فيه تداخل في المعنى: قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]، التعانق على لفظ {فِيهِ}، ووجه الوقفين كالآتي: الوقف الأول: أن تقف على جملة {لاَ رَيْبَ}، ثم تبتدئ {فِيهِ هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ}، ويكون في هذا الوقف المعاني الآتية: 1 - حذف خبر {لاَ} ويُقدَّر من مثل ما بعدها، وهو شبه الجملة {فِيهِ}، ويكون المعنى: ذلك الكتاب لا ريب فيه. فيه هدى للمتقين. 2 - أن قوله: {فِيهِ هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ} يدل على أنه يوجد فيه الهدى للمتقين. الوقف الثاني: أن تقف على {لاَ رَيْبَ فِيهِ}، ثم تبتدئ {هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ}، وهذا الوقف هو الأرجح لأمور: الأول: أن الوقف على {فِيهِ} يجعل جملة {هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ} مستقلة بمعنى جديد أبلغ مما لو كانت {فِيهِ} بعضاً من الجملة، وهذا المعنى هو كون القرآن كله هدى. الثاني: أن كون القرآن هدى للمتقين يشهد له القرآن، وهو متكرر فيه في أكثر من موطن، مثل قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدىً

وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 52]، وقوله تعالى: {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ *هُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [النمل: 1، 2]، وقوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ *هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} [لقمان: 2، 3]. الثالث: أن لفظ {لاَ رَيْبَ} لم تجئ في القرآن بلا خبر، بل كل ورودها في القرآن يكون بخبر، وهو: فيه، ولذا يترجح هنا كون {فِيهِ} خبراً للا ريب. كما أن الجملة إذا دارت بين التقدير وعدمه حُمِلَت على عدم التقدير لأنه أكمل، فالوقف الأول يحتاج إلى تقدير {فِيهِ}، والوقف الثاني يجعل {فِيهِ} الظاهر هي الخبر، ولا يحتاج إلى تقدير. الرابع: أن تفسير السلف جاء على أنَّ {فِيهِ} متعلقة بـ {لاَ رَيْبَ}، حيث اتفقت كلمتهم على تفسير {لاَ رَيْبَ فِيهِ}: لا شكَّ فيه. الخامس: أن المعنى على الوقف الأول جزء من المعنى على الوقف الثاني، فالقرآن ـ على الوقف الأول ـ فيه هدى، ولا يلزم أن يكون كله هدى، وعلى الوقف الثاني يكون كله هدى، وهذا أبلغ. وإذا كان ذلك كذلك، فلا حاجة للوقف على {لاَ رَيْبَ}؛ لأنها لا تكون جملة صالحة للوقف على ما ذكرت لك، والله أعلم. مثال للنوع الثاني الذي يقع فيه تضادٌّ في المعاني: قوله تعالى: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَاسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 26]. التعانق يقع على لفظ {أَرْبَعِينَ سَنَةً}، ويكون معنى الوقف على ما يأتي: الوقف الأول: الوقف على قوله: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ}، ثم تبتدئ {أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ}. ويلزم من هذا الوقف المعاني الآتية:

1 - أن التحريم أبديٌّ، ويلزم من هذا أن يكون كل من عاشوا في التيه ماتوا ـ ولم يدخل أحد منهم الأرض المقدسة. 2 - أن يكون الظرف: {أَرْبَعِينَ سَنَةً} منصوباً بقوله: {يَتِيهُونَ}. الوقف الثاني: الوقف على: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً}، ثم يجوز له الوصل أو الاستئناف بجملة {يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ}. ويلزم من هذا الوقف الأمور الآتية: 1 - أن التحريم إنما هو لمدة أربعين سنة. 2 - أنهم في هذه الأربعين يكونون في تيه. 3 - أن يكون قوله: {أَرْبَعِينَ سَنَةً} متعلق بلفظ: {مُحَرَّمَةٌ}. وهذا الوقف هو الصحيح لأمور منها: 1 - أنه قد ثبت أنَّ بعض من في التيه قد دخل الأرض المقدسة، ومنهم يوشع (فتى موسى عليهما السلام) الذي قاد جموع بني إسرائيل ـ بعد موت موسى عليه السلام في التيه ـ فدخل بهم الأرض المقدسة، ولو كانت محرمة عليهم جميعاً للزم منه موت كل من حضر التيه، وهذا لا يُعقل. 2 - أن قوله: {عَلَيْهِمْ} عامٌّ، وقد حُرِّمت عليهم كلهم مدة الأربعين، فلم يدخلها أحد، ولا يصلح أن تكون لفظة: {عَلَيْهِمْ} عموماً للتحريم دون التيه، والجملة مرتبطةٌ ألفاظها، وضمائرها متناسقة في نظم واحد. مثال للنوع الثالث الذي يقع فيه تنوع في المعاني: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَاوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]. جملة التعانق هي قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}، ويكون وقف التعانق كالآتي:

الوقف الأول: {وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ}، ثم تبتدئ {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ}. وهذا الوقف مبني على أنَّ المراد بالتأويل: ما تؤول إليه حقائق القرآن وأخباره المغيَّبة، وهذا لا يعلمه إلا الله تعالى، فلا يعلم متى وقوعها ولا كيفية وقوعها إلا هو سبحانه، ومن ادَّعى علمها فقد كذب على الله. الوقف الثاني: {وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}، ثم يجوز لك أن تصل أو تبتدئ بجملة {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ}. وهذا الوقف مبني على أن المراد بالتأويل: التفسير، والتفسير يعلمه الراسخون في العلم بخلاف ما تؤول إليه حقائق القرآن وأخباره التي لا يعلمها إلا الله، فهم يشتركون في معرفة المعنى، حيث إنه ليس من العلم الذي يختصُّ بالله تعالى، لذا لا يجوز أن يقال: إن في القرآن آيات لا يُعرف معناها، بل جميع القرآن معلوم المعنى للعلماء، وهم يتفاوتون في معرفة تلك المعاني. وهذان المعنيان متغايران، وليسا متضادين، وهما اللذان يصلح أن ينطبق عليهما وقف التعانق، بخلاف النوعين الأولين، فالتداخل في المعاني يجعلك تختار الأعم منها لدخول الآخر فيه، والتضاد يلزم منه الترجيح، فيسقط أحد المعنيين، وبهذا لا يكون الوقف متعانقاً. تنبيه: اعلم أن الوقوف لما كان مبناها الاجتهاد، فإن هذا يعني أنَّ ما وُضِع من وقوف في المصاحف إنما كان باجتهادٍ ـ يشكر أصحابه ـ يمكن أن يأتي من يخالفه، بشرط أن يكون الأمر بعلم، لا بذوق وتحكُّمٍ كما يقع عند بعض الناس، فتراه يقف وقوفات غريبة، ويبتدئ ابتداءً غريباً كذلك، وما دعاه إلى ذلك إلا تذوقٌ غير سليم، ومن أمثلة ذلك: • قرأ بعضهم قوله تعالى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج: 15]، ثم استأنف قائلاً: {الْمَجِيدُ} {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 15، 16].

ووقفه صحيح بلا ريب، لكن ابتداءه غلط واضحٌ، إذ فيه إخلال بنظم القرآن من جهات: الأولى: أنَّ قوله: {ذُو الْعَرْشِ} انقطع عما بعده، فهل يُجيز هذا القارئ الوقف على {ذُو الْعَرْشِ}، ولَمَّا يتمَّ الكلام؟! الثانية: لَمَّا كان قوله: {الْمَجِيدُ} خبراً بعد خبر {ذُو الْعَرْشِ} (على قراءة الرفع)، فكيف يمكن أن يكون خبراً ومبتدءاً في الوقت نفسه؛ لأنه بقراءته {الْمَجِيدُ} {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} صار {الْمَجِيدُ} مبتدءاً، وقوله {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} خبر المبتدأ. وفي هذا تقطيع للكلام كما تلاحظ، وهو مما يعاب في الكلام المعتاد، فكيف بمن زعمه في كلام الله تعالى. الثالثة: عدم الاعتبار برأس الآية، وفي ذلك عيب ظاهر، إذ ما قيمة رأس الآية إن لم تكن وُضِعَتْ للتنبيه على الوقوف عليها، كما أنه لم يرد في السنة ولا في عمل الصحابة ما يشير إلى ترك الوقوف على رؤوس الآي، فبقي الأمر على الأصل، وهو أن تكون رؤوس الآي مقصودات للوقف عليهن، وأنهنَّ يدخلن في بلاغة القرآن وتأثيراته الصوتية والأدائية. وقد أشار إلى الاعتبار بالوقوف على رؤوس الآي الطاهر بن عاشور (ت1393هـ)، والاعتداد بها من جهة نظم القرآن، فقال: «... فأما التحدي بعجز بلغائهم عن معارضته فأمر يرتبط بما فيه من الخصوصيات البلاغية التي لا يستوي في القدرة عليها جميعهم بل خاصة بلغائهم من خطباء وشعراء وكان من جملة طرق الإعجاز ما يرجع إلى محسنات الكلام من فن البديع، ومن ذلك فواصل الآيات التي هي شبه قوافي الشعر وأسجاع النثر، وهي مراده في نظم القرآن لا محالة؛ كما قدَّمناه عند الكلام على آيات القرآن، فكان عدم الوقف عليها تفريطاً في الغرض المقصود منها ... فكان الاعتبار بفواصله التي هي مقاطع آياته عندهم أهم لأن عجز قادتهم وأولي البلاغة والرأي منهم تقوم به الحجة عليهم وعلى دهمائهم.

فلما كثر الداخلون في الإسلام من دهماء العرب ومن عموم بقية الأمم = توجه اعتناء أهل القرآن إلى ضبط وقوفه تيسيراً لفهمه على قارئيه، فظهر الاعتناء بالوقوف، ورُوعِيَ فيها ما يراعى في تفسير الآيات، فكان ضبط الوقوف مقدمة لما يُفَادُ من المعاني عند واضع الوقف» (¬1). فإن قلت: أيعني هذا عدم تتبع المواقف الحسنة في أواسط الآي؟ فالجواب: لا، بل ذلك مطلب في أواسط الآي، وعلى هذا يقوم علم الوقف والابتداء، حيث يتتبع العلماء المواقف الصالحة في أواسط الآي، وينبهون على المواقف غير الصالحة. أمَّا الوقف على رؤوس الآي، فلم يقع اختلاف بين العلماء في الوقف على رؤوس الآي إذا لم يتعلق بها ما بعدها، وقد كان بعض العلماء يسمي الوقف على رأس الآية وقف السنة، وذلك اعتماداً على حديث أم سلمة رضي الله عنها (¬2). لكن وقع خلافهم فيما إذا كان رأس الآية يتبعه ما بعده من جهة اللفظ والمعنى، فما الأولى في ذلك: الوقف على رؤوس الآي، أو الوصل من أجل تمام المعنى (¬3)؟ والأمر في ذلك واسع ـ ولله الحمد ـ، فإن وقفت فلك في ذلك سلفٌ من العلماء قالوا بذلك القول، ولهم حججهم العلمية، وإن وصلت فلك كذلك مثل ذلك. لكن حديث أم سلمة رضي الله عنها يشير ـ كما فهم بعض العلماء ـ إلى أن الوقوف على رؤوس الآي سنة، فعنها رضي الله عنها، قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقطع قراءته، يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، ثم يقف. {الرَّحْمَانِ ¬

(¬1) التحرير والتنوير (1:83 - 84). (¬2) ينظر ـ مثلاً ـ: الوقف والابتداء، للغزَّال (1:193)؛ والهادي في المقاطع والمبادي (4:181، 531). (¬3) يمكن أن يقوم الطلاب باستقراء رؤوس الآي التي لا يتم المعنى بها إلا بوصلها بما بعدها.

الرَّحِيمِ}، ثم يقف ...» الحديث (¬1). ومما يُستأنس به في تقوية هذا المذهب: أن ابن مسعود رضي الله عنه لما قرأ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سورة النساء، ووصل إلى قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا} [النساء: 41]، أمره صلّى الله عليه وسلّم أن يقطع القراءة على هذا الموضع، فقال: «حسبك» (¬2). ولو كان تتبع المعاني مما يحرص عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لما أمر ابن مسعود أن يقطع قبل تمام المعنى؛ لأن قوله تعالى بعدها: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء: 42] متعلق بها. وبهذه الآية ينتهي المقطع، ويكون الوقف تامّاً؛ لأن قوله تعالى بعدها: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} ...} [النساء: 43] نداءٌ للمؤمنين، والنداء يدل على انقطاع الجملة عما قبلها، والابتداء بأمر جديد، واللهُ أعلمُ. • * * ¬

(¬1) أخرجه أحمد (6:302)؛ وأبو داود رقم (4001)؛ والترمذي برقم (2927) وقال: وليس إسناده بمتصل. وصحح الدارقطني إسناده في سننه (1:312). (¬2) أخرجه البخاري برقم (5050)، انظر: فتح الباري، ط. الريان (8:98 - 99).

بحوث مقترحة في موضوع: الوقف والابتداء موضوع وقوف القرآن من الموضوعات النفيسة التي يحتاج إليها قارئ القرآن، فضلاً عن معلميه، وفيه موضوعات كثيرة جدّاً تحتاج إلى بحث وتجلية، ويمكن افتراع بحوث كثيرة في هذا الموضوع، منها: 1 - قواعد في الوقف والابتداء. مثل كل جملة مبدوءة بالنداء (يا أيها)، فإنها تصلح للابتداء. 2 - جمع مصطلحات علماء الوقف والابتداء والموازنة بينها. 3 - إجراء تطبيقات عملية على أنواع الوقف والابتداء على سور من القرآن، أو على مواضع منه. 4 - دراسة علل وقوف المصاحف المعاصرة. 5 - دراسة رؤوس الآيات التي يتعلق ما بعدها بها من جهة اللفظ. 6 - دراسة منهج كتاب من كتب الوقف والابتداء. وغيرها من البحوث الكثيرة التي يمكن أن يقوم بها الطلاب لتثبيت هذا العلم والاستفادة من موضوعاته المتنوعة. ولا يخفى على الباحث ما كتبه علماء الوقف والابتداء في هذا العلم من كتب كثيرة، وقد طُبع منها مجموعة قليلة، كما كان للمعاصرين مشاركة في الكتابة في هذا العلم.

الفصل الثاني: مصطلحات ضبط مصحف المدينة النبوية

الفصل الثاني مثال معاصر لعناية العلماء بضبط المصحف (مصطلحات ضبط مصحف المدينة النبوية)

جاء في نهاية مصحف المدينة النبوية، المطبوع بمجمع الملك فهد تعريف بما وقع من رسمه وضبطه، وسأذكر بعض القضايا والفوائد التي أشار إليها هذا التعريف مما لم يسبق بحثه، لتتكامل للطالب المعرفة بما لقي المصحف الشريف من العناية التامة من هذه الأمة ممثلةً بعلمائها. وسأجعل الموضوع منقسماً إلى قسمين: الأول: ما جاء من التعريف بكيفية كتابته، والكتب والعلماء الذين اعتمدوهم في رسمه وضبطه. الثاني: في مصطلحات ضبطه. وليس المراد شرح كل ما جاء في هذا التعريف بالمصحف؛ إذ بعض قضاياه تؤخذ من محلِّها من كتب الفقه أو غيره كمواضع السجدات، وإنما حرصت على ما يتعلق منه بالإقراء، والله الموفق.

المبحث الأول: التعريف بالمصحف من حيث العلماء والمصادر التي اعتمدتها اللجنة

المبحث الأول التعريف بالمصحف من حيث العلماء والمصادر التي اعتمدتها اللجنة 1 - قالت اللجنة: «كُتِبَ هذا المصحف وضُبط على ما يوافق رواية حفص بن سليمان الأسدي الكوفي لقراءة عاصم بن أبي النَّجود الكوفي التابعي عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وأُبي بن كعب عن النبي صلّى الله عليه وسلّم». القضايا والفوائد العلمية في هذا النص: الأولى: الإشارة إلى أن الضبط يوافق الرواية، وقد مرَّ التنبيه على هذا، بحيث لو كان المصحف سيكتب على رواية أخرى لاختلف الضبط بناءً على اختلاف الرواية. الثانية: حفص وعاصم كوفيان، وأبو عبد الرحمن السُّلمي كوفيٌّ، وهو قد تلقى القراءة عن علماء الصحابة في المدينة كما هو ظاهر من إسناده الرواية عنهم. وأبو عبد الرحمن السُّلمي (عبد الله بن حبيب بن رُبيعة) ممن وقف نفسه على إقراء القرآن الكريم، فعلَّمه في مسجد الكوفة، كان يقرئ القرآن بالكوفة من خلافة عثمان رضي الله عنه إلى إمرة الحجاج، قال أبو إسحاق السبيعي: «أقرَأَ أبو عبد الرحمن السلمي القرآن في المسجد أربعين سنة» (¬1). الثالثة: يمكن الرجوع إلى إسناد رواية حفص عن عاصم في أمَّات ¬

(¬1) تهذيب الكمال (14:409).

كتب القراءات التي تذكر الأسانيد؛ كـ «السبعة» لابن مجاهد (ت324هـ)، و «التذكرة» لابن غلبون (ت399هـ)، و «جامع البيان» للداني (ت444هـ)، و «الإيضاح» للأندرابي (ت450هـ)، وغيرها كثير جدّاً. 2 - قالت اللجنة: «وأخِذَ هجاؤه مما رواه علماء الرسم عن المصاحف التي بعث بها الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه عنه إلى البصرة والكوفة والشام ومكة، والمصحف الذي جعله لأهل المدينة، والمصحف الذي اختصَّ به نفسه، وعن المصاحف المنتسخة منها. وقد رُوعي في ذلك ما نقله الشيخان: أبو عمرو الداني وأبو داود سليمان بن نجاح، مع ترجيح الثاني عند الاختلاف». القضايا والفوائد العلمية في هذا النص: الأولى: أشار النصُّ إلى القول الصحيح في عدد المصاحف التي كتبها عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهي ستة مصاحف كما هو مذكور، وقد سبقت الإشارة إلى هذا (¬1). الثانية: بيَّن طريقة نقل الرسم، وهي إما بالنظر في أحد هذه المصاحف الستة، وإما بالنظر في المصاحف التي استُنسخت منها وعلى وفقِها، وذلك أمر اختصَّ به العارفون من علماء القرآن كالعَلمين المذكورين: الداني (ت444هـ) وأبي داود (ت496هـ). ويمكن القول بأن مصدر الرسم بالنسبة لنا هو نقل العلماء من هذه المصاحف المعتمدة، ومن طَالع كتبهم ـ مثل كتاب «الوسيلة شرح العقيلة» للسخاوي (ت643هـ) ـ ظهر له شدَّة عنايتهم بمقابلة المصاحف، والتعرُّف على الرسم الصحيح فيها، وذلك موضوع يحتاج إلى عناية الباحثين ليُبرزوا مدى عناية علماء القرآن بقضايا الرسم. الثالثة: أشار النص إلى علمين من أعلام القرآن، وهما: ¬

(¬1) ينظر: (ص242).

الأول: الداني (ت444هـ)، وهو أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني، رحل إلى المشرق وأخذ عن علمائه، وكان أكبر اعتنائه بعلوم القرآن من قراءات وتوجيهها، ورسم وضبط المصحف وغيرها، وله كتب كثيرة معتمدة في هذا العلم، فكتاب «التيسير في القراءات» (¬1) هو الأصل الذي اعتمده الشاطبي في نظمه، وكتابه «البيان في عدِّ آي القرآن» (¬2) عمدة في علم عدِّ آي القرآن واختلاف العادِّين فيه، وكتابه «المحكم في نقط المصاحف» (¬3) عمدة في علم الضبط، وكتابه «المقنع في معرفة مرسوم مصاحف الأمصار» (¬4) عمدة في علم الرسم، وله غيرها كثير، فهو كبير في هذا الشأن، وقطب من أقطاب علماء القرآن. الثاني: أبو داود سليمان بن نجاح (ت496هـ) من بلنسية، كان أبوه مولى للأمير الأموي هشام بن عبد الحكم الأندلسي. اعتنى بعلوم القرآن، وكان له شأوٌ بالغٌ فيها، وكان الداني (ت444هـ) من شيوخه الذين تلقى عليهم العلم، وله من الكتب في هذا العلم «التبيين لهجاء التنْزيل» وقد أودع فيه جملة من علوم القرآن كهجاء مصاحف الأمصار والقراءات والأصول والتفسير والأحكام والرد على الملحدين والتقديم والتأخير والوقف والابتداء والناسخ والمنسوخ والغريب والمشكل. ومن المطبوع له كتاب «مختصر التبيين لهجاء التنْزيل» (¬5)، وهو كتاب نفيس للغاية، ولا يستغني عنه دارسٌ للضبط أو الرسم أبداً. وكان رحمه الله ممن انتهت إليهم الرئاسة في علوم القرآن، والإتقان للرسم ¬

(¬1) طُبِع بتحقيق المستشرق أتوبرتزل، وقد حُقِّق في الجامعة الإسلامية أيضاً، لكنه لم يُطبع بعد. (¬2) طُبِع بتحقيق الدكتور غانم قدوري الحمد. (¬3) طُبِع بتحقيق الدكتور عزة حسن. (¬4) طُبِع بتحقيق محمد أحمد دهمان. (¬5) طُبِع بتحقيق الدكتور أحمد شرشال، وقد اعتنى بإخراجه أيما اعتناء، والكتاب من مطبوعات مجمع الملك فهد بالمدينة النبوية.

والضبط والقراءات، وله مناقب جمة (¬1). الثالثة: أشار النص إلى تقديم رأي التلميذ أبي داود (ت496هـ) على رأي شيخه الداني (ت444هـ) حال الاختلاف، وفي هذا مسألتان: المسألة الأولى: السبب الموجب للاختلاف في الرسم: يحسن التنبُّه في هذه المسألة إلى أنَّ الاختلاف موجود ومحدود في رسم المصاحف، وذلك يعود أصلاً إلى التغاير في الرسم عند الصحابة، وقد سبق ذكر هذا الموضوع عند الحديث عن رسم المصحف، لكن قد يقع خلاف آخر في توصيف العلماء أو اختيارهم، ومن أسباب اختلافهم: 1 - أن يكون أحدهم وصف موضعاً، وغيره وصف موضعاً آخر للكلمة، والرسم فيهما متغاير عند من كتبه من الصحابة. 2 - أن يكون أحدهم قد وصف رسم لفظ في مصحفٍ، والآخر يصف نفس اللفظة في مصحف آخر يغاير برسمه المصحف الأول، وكلاهما من المصاحف المعتبرة، والاختلاف فيهما يرجع إلى ما سبق من اختلاف التنوع في الرسم عند الصحابة. وفي هذه الحال تجد أنَّ العلماء قد يجتهدون في الاختيار بين الرسمين، مع يقينهم بصحتهما، لكنهم يقيسون على علل عندهم توجِب التقديم، وما دام الاختلاف ثابت في هذه المصاحف فالأمر فيه سعة ـ ولله الحمد ـ بحيث يختار العالم رسماً دون رسمٍ، ولا يعني هذا إبطال الرسم الآخر؛ لأن الإبطال لا يأتي إلا على القول الباطل أو الفاسد، وذلك خلاف ما هم بصدده من تغاير الرسم. وقد نبَّه أبو داود (ت496هـ) على هذه الفكرة في كتابه «مختصر التبيين لهجاء التنْزيل» (¬2)، ومن هذه المواضع: ¬

(¬1) ينظر في ترجمته ما كتبه الدكتور أحمد شرشال في مقدمة تحقيقه لكتاب أبي داود «مختصر التبيين لهجاء التنْزيل» (1:67 - 123). (¬2) ينظر في: الاختيار عند أبي داود ما ذكره الشيخ أحمد شرشال في حديثه عن منهج =

1 - عند قوله تعالى: {وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات: 57]، قال أبو داود (ت496هـ): «قال: و {نِعْمَةُ رَبِّي} بالهاء، هذه روايتنا عن ابن الأنباري، ورأيت الغازي بن قيس وعطاء الخرساني قد رسموها (نعمت) بالتاء، وكلاهما حسن، فليكتب الكاتب ما أحبَّ من ذلك، فهو في سعة لمجيء الروايتين عنهم بذلك» (¬1). 2 - وقال في قوله تعالى: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً}: «وأنا أستحبُّ كتاب ذلك بغير ألف لجميع القراء موافقة لبعض المصاحف ولقراءة الكوفيين، فمن ضبط لغيرهم جعل الألف بالحمراء بين الجيم والعين، وإن كتب الناسخ للعربيين والحرميين بالألف على قراءتهم أيضاً فحسن، إذ لم تبلغنا رواية إنه كُتِب في مصحف من مصاحف الأمصار بوجه ما، وإنما جاءت الرواية مبهمة أن ذلك في بعض المصاحف كذا وفي بعضها كذا، من غير تسمية مصر بعينه مخصوص به، فلذلك أوجب إطلاق الناسخ على ذلك فاعلمه» (¬2). وهذه الحيثية في التغاير قد نبَّه عليها العالمون بالرسم، ومنهم علم الدين السخاوي (ت643هـ) في كتابه «الوسيلة إلى كشف العقيلة»، حيث أورد قول الشاطبي: وبين نافعهم في رسمهم وأبي ... عبيد الخلف في بعض الذي أثرَا ثمَّ قال معلقاً: «اعلم أن رسم المصاحف إنما حصل منه ما حصل بالنقل عن جماعة؛ نظر بعضهم مواضع فأخبر بها، ونظر آخرون غير تلك المواضع فأخبروا بها، واتفقوا في مواضع. فإن قلنا في هذا الكتاب: رواه نافع، فليس ذلك لأن غيره قد روى خلاف ذلك، وإنما نعني به أن ذلك من القبيل الذي رواه نافع. ¬

= أبي داود (1:285 وما بعدها). (¬1) مختصر التبيين لهجاء التنْزيل (4:1036). (¬2) مختصر التبيين لهجاء التنْزيل (3:506 - 507).

وكذلك إذا قلنا: في الإمام كذا، إنما نعني به ما رواه أبو عبيد عن ذلك المصحف الذي استخرجه. وإذا قلنا: قال نصير، فذلك أيضاً قبيلٌ لم يذكره غيره. واتفاقهم مذكورٌ أيضاً. ثمَّ إن أبا عبيد خالف نافعاً في مواضع يسيرة، فربما ظنَّ ظانٌّ أن ذلك تعارض، وإنما يتعارض النقلان لو كان المصحف واحدٌ. فإن قيل: فنافع يروي عن مصحف المدينة، وأبو عبيد عن مصحف عثمان، وهو الذي كان عنده بالمدينة أيضاً، فكيف يقع في ذلك اختلاف؟ قلت: اختلاف هذين الإمامين ـ مع ما هم عليه من العدالة والإتقان والضبط ـ يدلُّ على أن المصحف الذي رآه أحدهما غير الذي ينقل عنه الآخر. وما المانع أن يكون عثمان رحمه الله اتَّخذ لنفسه مصحفاً، وجعل لأهل المدينة مصحفاً؟ وهذا هو الظاهر؛ لأنه لم يكن ليجعل للناس إماماً يقتدون به، ثمَّ يختصُّ هو به من دونهم» (¬1). المسألة الثانية: السبب الموجب لتقديم قول أبي داود (ت496هـ) على قول شيخه (¬2): إن أبا داود (ت496هـ) كان من أعلى وأجلِّ تلاميذ الداني (ت444هـ)، وقد استفاد منه كثيراً، لكنه كان أكثر تدقيقاً وشمولاً ومصادرَ في علم الرسم من الداني، يقول الدكتور أحمد شرشال في هذا المعنى: «وأبو داود أكثر ¬

(¬1) الوسيلة إلى كشف العقيلة، للسخاوي، تحقيق: الدكتور مولاي محمد الإدريسي (83 - 84). (¬2) تنظر أقوال العلماء في هذه المسألة في مقدمة الدكتور أحمد شرشال لكتاب «مختصر التبيين في هجاء التنْزيل» أثناء حديثه عن موازنة مختصر التبيين بغيره من كتب الرسم (1:328 - 332).

من تتبع ظواهر هجاء جميع مصاحف الأمصار بالوصف والعدِّ والتقطيع والوزن، فكان وصفه دقيقاً لم يَرْقَ إليه وصف آخر، الأمر الذي خلا منه المقنع» (¬1). ومما يحسن التنبُّه له أنَّ التلميذ أبا داود (ت496هـ) أخذ في الضبط بطريقة الخليل (ت170هـ)، وهي التي اشتهرت واستمرت بعده، وأخذ شيخه أبو عمرو الداني (ت444هـ) بضبط أبي الأسود (ت69هـ)، وهذا من دواعي تقديمه عند المتأخرين على شيخه؛ لأنهم اعتمدوا طريقة الخليل. 3 - قالت اللجنة: «وأخذت طريقة ضبطه مما قرره علماء الضبط حسب ما ورد في كتاب «الطراز على ضبط الخرَّاز» للإمام التَّنَسِي، مع الأخذ بعلامات الخليل بن أحمد وأتباعه من المشارقة، بدلاً من علامات الأندلسيين والمغاربة». القضايا والفوائد العلمية في هذا النص: الأولى: الخراز ونظمه في الضبط: الخرَّاز: نسبة إلى عمل الخرازة، وهو محمد بن محمد بن إبراهيم الشريشي (¬2) الأموي (ت بعد 711هـ)، سكن فاس، ومات فيها. قال عنه ابن الجزري (ت833هـ): «إمام كامل مقرئ» (¬3). أما نظمه في الضبط، فقد جعله ذيلاً لنظمه في الرسم الذي أسماه «عمدة البيان في رسم القرآن»، ثم غيَّر في نظم «عمدة البيان» لما لوحظ عليه فيه، ولأشياء وهم فيها وسمَّاه «مورد الظمآن في رسم القرآن»، وأبقى ¬

(¬1) مقدمة المحقق الدكتور أحمد شرشال لمختصر التبيين (1:329). (¬2) نسبة إلى شريش، قال محمد بن عبد المنعم الحميري في كتابه «الروض المعطار في خبر الأقطار» (ص340): (شريش من كور شذونه بالأندلس، بينها وبين قلشانة خمسة وعشرون ميلاً، وهي على مقربة من البحر). وضبطها ياقوت في معجم البلدان (3:340)، فقال: (بفتح أوله وكسر ثانيه، ثم ياء مثناه من تحت). (¬3) غاية النهاية (2:237).

نظمه في الضبط ذيلاً له أيضاً (¬1)، فجاء بعده مباشرة، قال الخراز في نهاية نظم الرسم: قد انتهى والحمد لله على ... ما منَّ مِن إنعامه وأكملا في صفر سنة إحدى عشرة ... من بعد سبعمائة للهجرة خمسين بيتاً مع أربعمائة ... وأربعاً تبصرة للنشأة عسى برشدهم به أن أرشدا ... من ظلم الذنب إلى نور الهدى بجاه سيد الورى (¬2) الشفيع ... محمد ذي المحتِد الرفيع صلى عليه ربنا عز وجل ... وآله ما لاح نجم أو أفل ثم تلاه بذيله في الضبط فقال: هذا تمام نظم رسم الخط ... وها أنا أتبعه بالضبط كيما يكون جامعاً مفيداً ... على الذي ألفيته معهوداً مستنبطاً من زمن الخليل ... مشتهراً في أهل هذا الجيل ولقد حظي نظم الخراز في الضبط بعناية فائقة ممن جاء بعده؛ لما يتميز به من ميزات متعددة، وقد ذكر الدكتور أحمد شرشال محقق كتاب «الطراز في شرح ضبط الخراز» قيمة هذا النظم وأهميته في أربع نقاط (¬3): 1 - أنه بالغ في مدحه والثناء عليه جماعة من علماء الرسم والضبط. 2 - توافرهم على درسه وتدريسه؛ لعنايتهم به. 3 - إقبالهم عليه بالشرح والتعليق والحواشي. 4 - نقلهم عنه وإسنادهم إليه. ¬

(¬1) ينظر في هذا: ترجمة الدكتور أحمد شرشال للمؤلف في تقديمه لكتاب «الطراز في شرح ضبط الخراز» (ص97، 98). (¬2) للعلماء كلام في هذه العبارة، وهي التوسل بجاه النبي صلّى الله عليه وسلّم، ينظر في: «قاعدة التوسل والوسيلة» ضمن المجلد الأول من مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ومن مواضع الكلام على هذه العبارة ما وقع في (ص211) منه. (¬3) ينظر: قسم الدراسة التي قدَّمها الدكتور أحمد شرشال لكتاب الطراز في «شرح ضبط الخراز» (ص106).

الثانية: التَّنَسي وطرازه: التَّنسيُّ نسبة إلى مدينة تَنَس (¬1)، وهو محمد بن عبد الله بن عبد الجليل الأموي (ت899هـ)، عالم مشارك في عدد من العلوم كالتفسير، والأدب، والحديث، والفقه، وغيرها. وأما شرحه، فهو بعنوان «الطراز في شرح ضبط الخراز»، ولما كان النظم المشروح قد اعتمد على ضبط الخليل الذي اعتمده أبو داود سليمان بن نجاح (ت496هـ)، فإن الشرح لم يخرج عن أصول ضبط النظم، لذا فإن الناظم قد لا يذكر في المسألة إلا رأي أبي داود (ت496هـ) دون غيره، فيقتصر الشارح على هذا ولا يزيد، إلا تتمات مما لم يذكره الناظم (¬2). وشرحه قد لقي القبول بخلاف الشروح الأخرى التي وقع فيها ترجيحات مخالفة لما عليه أهل الشأن، فلما كان موافقاً كان محلاً للقبول (¬3). ويمكن إيجاز أهم ما يتعلق بمنهج المؤلف وأسلوبه في شرحه في الآتي (¬4): أـ تفسير ألفاظ الناظم وتوضيحها. ب ـ التعليل والتوجيه لأغلب الأحكام المتعلقة بالضبط. ج ـ إيراده بعض التتمات المهمة التي أهملها الناظم، ويصدرها عادة بعنوان (تنبيه، تنبيهان، تنبيهات) على حسب عددها. د ـ العناية بكلام المتقدمين في هذا المجال، وردِّه على أخطاء المتأخرين في ما يتعلق بالنظم. ¬

(¬1) قال ياقوت في معجم البلدان (2:48): (تَنَس: بفتحتين والتخفيف والسين المهملة ... وهي آخر إفريقية مما يلي المغرب، بينها وبين وهران ثماني مراحل ...). (¬2) نبَّه على هذا محقق كتاب الطراز؛ الدكتور أحمد شرشال (ص147). (¬3) قسم الدراسة من كتاب الطراز (ص148). (¬4) ينظر تفصيل هذا عند الدكتور أحمد شرشال في تقديمه للطراز (ص155).

الثالثة: الفرق بين علامات الضبط بين المشارقة والمغاربة: لما كان المصحف المطبوع برواية المشارقة وقراءتهم، فإن الضبط جاء بما يناسب هذه الرواية، فضبط على ضبط المشارقة، أما لو كانت الرواية من روايات المغاربة؛ كالمصحف المطبوع ـ في مجمع الملك فهد بالمدينة النبوية ـ برواية ورش عن نافع، لكان ضبطه على علامات المغاربة، ولذا جاء في تعريف اللجنة بمصحف ورش ما نصُّه: «وأخذت طريقة ضبطه مما قرره علماء الضبط على حسب ما ورد في كتاب «الطراز على ضبط الخراز» للإمام التَّنَسِي وغيره مع الأخذ بعلامات المغاربة بدلاً من علامات المشارقة، مع مراعاة ما جرى به العمل عند المغاربة». ويمكن لطالب العلم أن يلتمس الفرق بين الضبطين بالموازنة بين ما كتبته اللجنتان العلميتان التابعتان لمجمع الملك فهد اللتان أعدتا مصحف حفص، ومصحف ورش، ويكفي ذكر مثال لذلك، وهو طريقة المغاربة في كتابة الفاء والقاف، قالت اللجنة: «فرَّق المغاربة بين القاف وبين الفاء بوضع نقطة القاف فوقها، ونقطة الفاء تحتها، وجرت اللجنة على هذا». وهذا ظاهرُ الفرق بين المشارقة الذين يضعون نقطة واحدةً على الفاء، ونقطتين على القاف، أما المغاربة فيكتفون للقاف بنقطة واحدة تكون في الأعلى، ويجعلون للفاء نقطة في الأسفل. 4 - قالت اللجنة: «واتُّبعت في عدِّ آيه طريقة الكوفيين عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السلمي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعدد آي القرآن على طريقتهم 6236 آية». القضايا والفوائد العلمية في هذا النص: الأولى: سبقت الإشارة إلى علم العدِّ (¬1)، وإلى ذكر الأمصار التي ينتمي إليها العدُّ، ومنها عدُّ أهل الكوفة، وقد ذكرت اللجنة سند هذا العدِّ فوقفوه على عليٍّ رضي الله عنه، والله أعلم. ¬

(¬1) ينظر: (ص175).

الثانية: عدد الآي عند كل فريق من العادين: ذكرت اللجنة عدد الآي عند الكوفيين، وهو (6236)، وقد وقع الخلاف بين العلماء في العد، قال طاهر الجزائري: «وأما عدد أي القرآن فقد اتفق العادُّون على أنه (ستة آلاف ومئتا آية وكسر)، إلا أن هذا الكسر يختلف مبلغه باختلاف أعدادهم، فهو في عدد المدني الأول: سبع عشرة، وبه قال نافع. وفي عدد المدني الأخير: أربع عشرة عند شيبة، وعشر عند أبي جعفر. وفي عدد المكي: عشرون. وفي عدد الكوفي: ست وثلاثون، وهو مروي عن حمزة الزيات. وفي عدد البصري: خمس، وهو مروي عن عاصم الجحدري، وفي رواية عنه أربع، وبهذا قال أيوب المتوكل البصري، وفي رواية البصريين أنهم قالوا تسع عشرة، وروي نحو ذلك عن قتادة. وفي عدد الشامي: ست وعشرون، وهو مروي عن يحيى بن الحارث الذماري» (¬1). 5 - قالت اللجنة: «وقد اعتُمد في عد الآي على ما ورد في كتاب «البيان» للإمام أبي عمرو الدانيّ، و «ناظمة الزهر» للإمام الشاطبي، وشرحيها للعلامة أبي عيد رضوان المخللاتي والشيخ عبد الفتاح القاضي، و «تحقيق البيان» للشيخ محمد المتولي، وما ورد في غيرها من الكتب المدونة في علم الفواصل». القضايا والفوائد العلمية في هذا النص: الأولى: كتاب البيان لأبي عمر الداني: اسمه الكامل «البيان في عد آي القرآن»، وهو كتاب مطبوع (¬2) وهو ¬

(¬1) التبيان لبعض المباحث المتعلقة بالقرآن على طريق الإتقان، لطاهر الجزائري، تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة (ص207). (¬2) بتحقيق الأستاذ الدكتور غانم قدوري الحمد، نشر مركز المخطوطات والتراث والوثائق بالكويت.

من أنفس كتب العدِّ، والداني كعادته يقدم لكتابه بما عنده من الآثار التي في موضوع كتابه، وقد ذكر فيه أبواباً مهمة معززة بالآثار؛ مثل: (ذكر السنن والآثار التي فيها ذكر الآي) (ذكر السنن والآثار التي فيها ذكر العشور) (ذكر من جاء عنه عقد الآي في الصلاة ...) (ذكر من كان يعدُّ الآي من أئمة القراءة ويعلِّمه ويحثُّ عليه ...) إلخ. ثم ذكر عد كل سورة، وما وقع فيه الاختلاف بين العادين، ويقدم لكل سورة بذكر المكي والمدني، وذكر نظيرها في العدد، وعدد كلماتها وحروفها، وذكر فواصلها. الثانية: الشاطبي وكتابه «ناظمة الزهر»: الشاطبي: القاسم بن فيرُّة بن خلف الرعيني، أبو القاسم، إمام القراء، تصدَّر للإقراء بمصر، وإليه انتهت رياستها، كان ضريراً، ومات في القاهرة (ت590هـ). وله كتب نفيسة في علوم القرآن، ومن أشهرها نظمه في القراءات الذي أسماه «حرز الأماني ووجه التهاني»، وله نظم في العدِّ والفواصل، وهو المذكور في كلام اللجنة واسمه «ناظمة الزُّهر»، وقد قال في مطلعها: بدأت بحمد الله ناظمة الزُّهر ... لتجني بعون الله عيناً من الزَّهر وقد ذكر العد الكوفي الذي اتبعته اللجنة في هذا المصحف، فقال: ولما رأى الحفاظ أسلافهم عُنُوا ... بها دوَّنوها عن أولي الفضل والبرِّ فعن نافع عن شيبة ويزيد أوْ ... وَل المدني إذ كلُّ كوفٍ به يُقري وقد اعتنى بالعدِّ أقوام من العلماء قبل الشاطبي (ت590هـ) وبعده، وقد ذكر جماعة منهم في منظومته، وقد سبقت الإشارة إليهم في موضوع عد الآي. الثالثة: أبو عيد رضوان المخللاتي وكتابه «إرشاد الكاتبين»: هو رضوان بن محمد بن سليمان المُخللاتي (ت1311هـ)، عالم بالقراءات والرسم العثماني، من أجلِّ أعماله كتابةُ المصحف على قواعد

الرسم العثماني (¬1)، وقد عوَّل العلماء من بعده على مصحفه هذا (¬2). وعنوان كتابه «إرشاد القراء والكاتبين في معرفة رسم الكتاب المبين»، وهو كما هو ظاهر من عنوانه في علم الرسم، وقد استفاد منه في عمله للمصحف. الرابعة: الشيخ عبد الفتاح القاضي وشرحه لناظمة الزهر: هو عبد الفتاح بن عبد الغني بن محمد القاضي، ولد بدمنهور بمصر عام 1325هـ، عالم بالقراءات والتفسير والعربية والفقه، أقرأ وعلّم، وأسهم إسهاماً كبيراً في نهضة الدراسات القرآنية، كما أسهم في وضع مناهج الكليات والمعاهد القرآنية التي تعد من أكبر وأهم الإنجازات القرآنية أثراً في زماننا. توفي عام 1403هـ بعد حياة حافلة بخدمة كتاب الله، وقد بلغت مؤلفاته رحمه الله خمسة وعشرين كتاباً، ما بين منظوم ومنثور، ثلاثة منها في الفقه والفرائض، والباقي في علوم القرآن. أما شرحه لناظمة الزهر فاسمه «بشير اليسر شرح ناظمة الزهر في علم الفواصل»، ويمتاز بالإيجاز وحسن الترتيب والتركيز على المهمات؛ فقد درج فيه على أن يبدأ بشرح الكلمات لغة، ثم يبين معنى البيت وما فيه من مسائل هذا الفن؛ مفصلاً محل الاتفاق ومحل الاختلاف (¬3). الخامسة: محمد المتولي وكتابه «تحقيق البيان»: المتولي: أحمد بن محمد بن عبد الله، الشهير بالمتولي، عالم ¬

(¬1) طُبِع هذا المصحف بمطبعة محمد أبي زيد بمصر سنة 1308هـ، ويوجد منه نسختان بدار الكتب المصرية. (¬2) تنظر ترجمته في كتاب الإمام المتولي وجهوده في علم القراءات، للدكتور إبراهيم الدوسري (ص125 - 127). (¬3) تنظر ترجمة الشيخ عبد الفتاح القاضي والتعريف بآثاره في مقال بعنوان «العلامة الشيخ عبد الفتاح القاضي رحمه الله وأثره في الدراسات القرآنية» للدكتور عبد العزيز عبد الفتاح القارئ، العدد الأول من مجلة كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية بالجامعة الإسلامية، (ص297 - 320)، وقد صدر عام 1402 - 1403هـ، ولم يصدر منها بعده عدد آخر.

متخصص بالقراءات، شيخ قراء الديار المصرية في زمنه، كان ضريراً (ت1313هـ)، له كتب كثيرة في القراءات وتحريرها. وأما كتابه فهو «تحقيق البيان في عدِّ آي القرآن»، وقد اختصره من كتاب «لطائف الإشارات لفنون القراءات» للقسطلاني (ت923هـ)، وقد اختصر منه في هذا الكتاب ثلاث قضايا: 1 - وقت نزول كل سورة، وكونها مكية أو مدنية. 2 - عدد آي كل سورة جملة؛ معزوة إلى أئمة الأمصار باختصار. 3 - رؤوس الآي المختلف فيها والمتفق عليها من أول القرآن إلى آخره (¬1). السادسة: الفواصل: أشار الشاطبي (ت590هـ) في «ناظمة الزُّهر» إلى أنَّ الفاصلة هي الكلمة الأخيرة التي تُختم بها الآية؛ كالروي بالنسبة للشعر. وقال في «ناظمة الزُّهر» ـ ضمن أبيات عن الفواصل ـ: وها أنا بالتمثيل أُرخي زمامه ... لعلك تمطوها ذلولاً بلا وعر كما (العالمين) (الدين) بعد (الرحيم) (نسـ ... ـتعين) (عظيم) (يؤمنون) بلا كدر ¬

(¬1) أفاده الدكتور إبراهيم الدوسري في كتابه «الإمام المتولي وجهوده في علم القراءات» (ص322 - 323). وقد نبَّه على وقوع وهم عند لجنة التعريف بالمصحف المصري، وتبِعهم على هذا مصحف المدينة النبوية في النسخة الأولى التي كانت لجنتها العلمية برئاسة الأستاذ الدكتور عبد العزيز بن عبد الفتاح القاري، حيث جعلوا كتابه مصدراً لأخذ أوائل أجزائه ... إلخ، قال: (إلا أن الحداد ـ عفا الله عنه ـ وقع في الوهم حينما ذكر أن من المصادر التي رجع إليها في بيان بدايات الأجزاء والأحزاب كتاب تحقيق البيان للمتولي ... فلقد اطلعت على أكثر من نسخة من تحقيق البيان، فلم أجد فيها بيان الأجزاء والأحزاب، ولو على سبيل الإيماء والإشارة. وقد تنبَّه لذلك مراجعو مصحف قطر، فلم يذكروا تحقيق البيان ضمن المصادر في بيان الأجزاء والأحزاب) (ص366 - 367). قلت: وكذا حُذِف من هذه النسخة من مصحف المدينة النبوية الذي عُدِّل فيه الخط، وحُذِف منه الوقوف الممنوع، ورأس لجنته العلمية الدكتور علي بن عبد الرحمن الحذيفي إمام وخطيب الحرم النبوي.

6 - قالت اللجنة: «وأُخذ بيان أجزائه الثلاثين، وأحزابه الستين، وأنصافها وأرباعها من كتاب «غيث النفع» للعلامة الصفاقسي، وغيره من الكتب». مضى الحديث عن تحزيب القرآن، وذكر مصدر التحزيب ... السفاقسي وكتابه «غيث النفع»: السفاقسي (¬1): علي بن محمد النوري، أبو الحسن (ت1118هـ)، كان عالماً بالقراءات وما يتصل بها، فكتب فيه كتابه هذا، وله كتاب نفيس في التجويد بعنوان «تنبيه الغافلين وإرشاد الجاهلين عما يقع لهم من الخطأ حال تلاوتهم لكتاب الله المبين»، وكان له مشاركة في بعض العلوم؛ كالفقه والتوحيد. وكتابه «غيث النفع في القراءات السبع»، قال محمد الشاذلي النيفر عن هذا الكتاب: «حرر في هذا الكتاب القراءات السبع التي ذكرها أبو القاسم الشاطبي، وبيَّن في كتابه هذا ما يتعلق بها، وقد مشى على طريقة المختصين كالشيخ أبي الخير محمد بن محمد بن محمد الجزري، فحرر الطرق معرضاً عما شذَّ، وعمَّا لا يوجد؛ كما يفعله كثير من المتساهلين القارئين بما يقتضيه الضرب الحسابي، وإنما أعرض عن ذلك؛ لأنه غير مخلص عند الله عزّ وجل، وذكر أن شيخه كان يحذره من ذلك كثيراً ... وسمى كتابه «غيث النفع في القراءات السبع»، وذكر فوائد في مطلع كتابه، منها ما ذكره في مصطلح الكتاب أنه رتبه على حسب السور والآيات، ولا يترك من أحكام الفرش شيئاً إلا ما تكرر كثيراً، وصار من البدهيات؛ كالنبي، وهو، وهي. وأما الأصول، فالمهم وما يحتاج إلى تحقيق، فلا يترك منه شيئاً، وأما المتكرر ـ كالمد وميم الجمع وترقيق الراء وتفخيم اللام لورش ـ فلا يطول به. ¬

(¬1) كذا كتبتها اللجنة، وقد تكتب بالصاد (الصفاقسي)، وهي من بلاد تونس.

ومن اصطلاحه أنه يكتب لفظ القرآن العظيم بالحمرة، وغيره بالأسود؛ ليتميز المتبوع من التابع، ويذكر كل ربع على انفراده؛ لأنه أعون للناظر وأقرب للسلامة من الوقوع في الخطأ. ويشير إلى انتهاء الربع بآخر كلمة منه، مع ذكر حكم الوقف عليها، وبيان هل هي من الفواصل أم لا ـ والفاصلة: آخر الكلمة من الآية ـ، وحرر الأحزاب والأنصاف والأرباع، ولم يذهب إلا على المتفق عليه المشهور» (¬1). 7 - قالت اللجنة: «وأخذ بيان مكيّه ومدنيّه في الجدول الملحق بآخر المصحف من كتب التفسير والقراءات. ولم يُذكر المكي، والمدني بين دفتي المصحف أول كل سورة اتباعاً لإجماع السلف على تجريد المصحف مما سوى القرآن الكريم، حيث نُقل الأمر بتجريد المصحف مما سوى القرآن عن ابن عمر، وابن مسعود، والنخعي، وابن سيرين: كما في «المحكم» للداني، وكتاب «المصاحف» لابن أبي داود وغيرهما، ولأن بعض السور مختلَف في مكيتها ومدنيتها، كما لم تُذكر الآيات المستثناة من المكي والمدني؛ لأن الراجح أن ما نزل بعد الهجرة فهو مدني وإن نزل بمكة، ولأن المسألة فيها خلاف محله كتب التفسير وعلوم القرآن الكريم». القضايا والفوائد العلمية في هذا النص: أولاً: سبق الحديث عن المكي والمدني مفصلاً في أول هذا الكتاب، بما يغني عن إعادته هاهنا. ثانياً: جعلت اللجنة المكي والمدني مُلحقاً بآخر المصحف في جدول خاصٍّ، خلافاً للمصحف المصري الذي كان يذكر رقم السورة في ترتيب ¬

(¬1) مقدمة محمد الشاذلي النيفر لكتاب تنبيه الغافلين وإرشاد الجاهلين عما يقع لهم من الخطأ حال تلاوتهم لكتاب الله المبين (ص17)، وقد ذكر بعد ذلك اعتماد لجنة المصحف الشريف في مصر على هذا الكتاب (ص18).

المصحف فاسم السورة فالمكي والمدني والمستثنى منها فعدد الآيات فترتيب نزولها؛ يذكر ذلك كله مع اسم السورة. ومن أمثلة ذلك في المصحف المصري: «36 سورة يس مكية إلا آية 45 فمدنية، وآياتها 83 نزلت بعد الجن». وقد اعترضت اللجنة على وضع هذه المعلومات سوى اسم السورة، وعللت ذلك بأنه يذكر في مكان خطِرٍ هو محل تحذير السلف، ولأن هذه المعلومات مختلف فيها، ومحلها كتب التفسير وعلوم القرآن التي يكون فيها التفصيل وذكر الراجح بالدليل، أما النص القرآني فلا يضاف إليه ما يكون قابلاً للاجتهاد يحتمل الصواب والخطأ (¬1). وقد أشار الدكتور إبراهيم عبد الرحمن خليفة في بحثه عن «ترتيب نزول السور القرآنية» إلى وقوع اللبس عند بعض الأكاديميين فضلاً عن العامة، حتى لقد رأوه مما لا مجال لخلافه، يقول: «إن من الأمور التي لفتت نظرنا ـ منذ زمن ليس باليسير ـ ما نراه في طبعات مصاحفنا المختلفة وتقدمتها على نص السورة من السور الكريمة الحديث عن ترتيب نزولها، حتى لكأن ذلك قضية مسلمة لا مرية فيها من قِبَلِ الجميع، أو أنه الصحيح المعول عليه من أقوال أهل العلم المسندة بأوثق البراهين ... حتى إننا قد رأينا بعض أبنائنا من أعضاء هيئة التدريس المتخصصين في التفسير وعلوم القرآن من أبناء هذه الكلية المرموقة ـ كلية أصول الدين (¬2) ـ وغيرهم قد أفردوا هذا المطلب بالحديث، فكان لديهم ما نراه في تقدمة المصحف لنص السورة أمراً غير قابل للمناقشة ...» (¬3). وهذه الملاحظة من أستاذ متخصص تدعم ما قامت به اللجنة من تجريد المصحف من مثل هذه القضايا. ¬

(¬1) ينظر: التقرير العلمي عن مصحف المدينة النبوية (ص31 - 40). (¬2) بجامعة الأزهر. (¬3) بحثان حول سور القرآن، للدكتور إبراهيم عبد الرحمن خليفة (ص49).

ولما لم يكن المقصد من إثبات السور المكية والمدنية أوليّاً بالنسبة للجنة = اكتفوا بذلك في جدول، ولم يستطردوا بذكر المستثنى من السور؛ لأن في ذلك خلاف كبير، ومحله كتب علوم القرآن والتفسير. 8 - قالت اللجنة: «وأخذ بيان وقوفه مما قررته اللجنة المشرفة على مراجعة هذا المصحف على حسب ما اقتضته المعاني مسترشدة في ذلك بأقوال المفسرين وعلماء الوقف والابتداء: كالداني في كتابه «المكتفى في الوقف والابتدا»، وأبي جعفر النحّاس في كتابه «القطع والائتناف» وما طُبع من المصاحف سابقاً». القضايا والفوائد العلمية في هذا النص: الأولى: ذكرت اللجنة مصدر تحديد الوقوف، وهو المعاني، فالمعنى هو الأصل، والوقف تبع له، ولا يمكن معرفة المعنى إلا بالاطلاع على علم التفسير والنحو القراءات؛ لأنَّ هذه العلوم الثلاثة هي العلوم التي لها أثر في تحديد الوقوف، وكلها ترجع إلى أصل واحدٍ، وهو بيان المعنى. الثانية: المكتفى في الوقف والابتداء: كتاب «المكتفى» من أنفس كتب الوقف والابتداء (¬1)، وقد اختار الداني (ت444هـ) أربعة وقوف هي التام والكافي والحسن والقبيح، وقد استفاد من كتاب «إيضاح الوقف والابتداء» لابن الأنباري (ت328هـ)، كما استفاد في التفسير من تفسير يحيى بن سلام البصري، وكان يذكر اختياراته. الثالثة: القطع والائتناف للنحاس: كتاب «القطع والائتناف» من المراجع المهمة في كتب الوقف؛ لأنه يذكر أقوال المتقدمين واختياراتهم في الوقف كالإمام نافع والإمام يعقوب ¬

(¬1) طُبع الكتاب في تحقيقين: تحقيق الدكتور يوسف مرعشلي، نشر مؤسسة الرسالة، وتحقيق الدكتور جايد زيدان خلف نشر وزارة الأوقاف والشئون الدينية بالعراق.

من القراء، وقد استفاد من كتب النحو والتفسير والوقف والابتداء؛ إلا أن النحاس لم يُعرِّف بمصطلحات الوقوف عنده كما هو الشأن في أئمة هذا العلم. الرابعة: ما طبع من الوقوف سابقاً: أهم مصادر هذا المصحف في طبعته الثانية ـ وكذا الأولى ـ هو ما اعتمدته اللجنة (المصحف المصري)، وقد جاء في التقرير العلمي عن مصحف المدينة النبوية: «... وبعضهم اتبع اصطلاحات القراء المصريين؛ كمعظم المصاحف التي طُبِعت في الشام وغيرها، وعلى رأسها المصحف الذي كتبه الشيخ محمد بن علي بن خلف الحسيني شيخ المقارئ المصرية في وقته. فاختارت أن تمضي في رموز الوقف على هذا المذهب، فالرموز فيه موجزة ومحررة ودقيقة ... وقد استعرضنا في اللجنة مواضع هذه الرموز في المصحف موضعاً موضعاً، فما وجدناه صحيحاً أبقيناه كما كُتِب، وما وجدنا عليه أي إشكال ناقشناه في اجتماعات اللجنة مستفيدين من المصادر، حتى يترجح لنا فيه وجه الصواب، وتتجلى حجته، فنثبت الرمز حسبما ترجح لدينا. وبلغت المواضع التي خالف فيها مصحف المدينة النبوية المصحفَ الذي كتبه الشيخ محمد بن علي بن خلف الحسيني خمسةً وخمسين وخمسمائة موضع، وهي محصورة في قوائم موجودة في المجمع» (¬1). وقد وقع خلاف في الوقوف بين الطبعة الثانية والطبعة الأولى، وذلك في الأمور الآتية: 1 - حذف الوقف الممنوع بالكلية. 2 - حذف بعض المواضع من بعض الوقوف. 3 - إضافة بعض مواضع جديدة في الوقوف. ¬

(¬1) التقرير العلمي عن مصحف المدينة النبوية (ص50 - 51).

ويظهر اعتمادهم على المصحف المصري من جهة أن اللجنة الحالية اعتمدت للوقف العلامات (الرموز)، التي في المصحف المصري سوى الوقف الممنوع الذي حذفوه، وإن كانت خالفته في عدد كبير من المواطن، خصوصاً فيما يتعلق بالوقف اللازم. ومن باب الفائدة، فإن لجنة المصحف المصري قد جعلت وقوف محمد بن طيفور السجاوندي (ت560هـ) أصلاً لها، لكنها لم تخترها كلها، ولم تعتمد ما اختارته منها بحذافيره، بل كان هناك اجتهاد من واضع الوقوف، وهو الشيخ الحسيني (ت1357هـ)، فقد جاء في التعريف بالمصحف المصري الموجود في آخره: «وأُخذ بيان وقوفه وعلاماته مما قرره الأستاذ محمد بن علي الحسيني ـ شيخ المقارئ المصرية سابقاً ـ، على حسب ما اقتضته المعاني التي ترشد إليها أقوال أئمة التفسير» (¬1). 9 - قالت اللجنة: «وأُخِذ بيان مواضع السكتات عند حفص من الشاطبية وشراحها، وتعرف كيفيتها بالتلقي من أفواه الشيوخ». القضايا والفوائد العلمية في هذا النص: الأولى: السكت: الوقف على الكلمة زمناً يسيراً جدّاً دون تنفس. الثانية: قد بيَّنت اللجنة في مبحث (اصطلاحات الضبط) موضوع السكتات بالتفصيل، قالت: «ووضع السين فوق الحرف الأخير من بعض الكلمات يدل على السكت على ذلك الحرف في حال وصله بما بعده سكتة يسيرة من غير تنفس. وورد عن حفص عن عاصم السكت بلا خلاف من طريق الشاطبية على ألف {عِوَجًا} بسورة الكهف، وألف {مَرْقَدِنَا} بسورة يس، ونون {مَنْ رَاقٍ} بسورة القيامة، ولام {بَلْ رَانَ} بسورة المطففين. ويجوز في هاء {مَالِيَهْ} بسورة الحاقة وجهان: ¬

(¬1) التعريف بالمصحف (المصحف المصري) (ص526).

أحدهما: إظهارها مع السكت، وثانيهما: إدغامها في الهاء التي بعدها في لفظ {هَلَكَ}. وقد ضُبِط هذا الموضع على وجه الإظهار مع السكت؛ لأنه هو الأرجح، وذلك بوضع السكون على الهاء الأولى مع تجريد الهاء الثانية من علامة التشديد للدلالة على الإظهار، ووُضِع حرف السين على هاء {مَالِيَهْ} للدلالة على السكت عليها سكتة يسيرة بدون تنفس؛ لأن الإظهار لا يتحقق وصلاً إلا بالسكت». الثالثة: الشاطبية: هي منظومة للأمام القاسم بن فيرُّة بن خلف الرعيني، أبو القاسم (ت590هـ)، وقد سبق ذِكره عند ذكر منظومته في عدِّ الآي «ناظمة الزُّهر»، وقد جعل كتاب «التيسير في القراءات السبع» للداني (ت444هـ) أصلاً لنظمه الذي سماه «حرز الأماني ووجه التهاني»، وزاد على التيسير زيادات؛ عُرفت بزيادات القصيد. وقد قال الشاطبي في ذلك: وفي يُسرها (التيسير) رُمْتُ اختصاره ... فأجنت بعون الله منه مؤمَّلا وألفافها زادت بنشر فوائد ... فَلَفَّتْ حياءً وجهَها أن تُفضَّلا الرابعة: قولهم: «من أفواه المشايخ»: هذا فيه إشارة إلى أنَّ الضبط لا يغني عن المشافهة، وما الضبط في مثل هذا إلا دلالة على وصف المقروء، لا على كيفية نطقه التي لا تُعرف إلا بالتلقي.

المبحث الثاني: اصطلاحات الضبط لمصحف المدينة النبوية

المبحث الثاني اصطلاحات الضبط لمصحف المدينة النبوية إن تتبع موضوع ضبط المصاحف يحتاج إلى استقراءٍ واطلاع على كثير من المصاحف (¬1) وكتب الضبط التي كتبها العلماء، والمقصود من عرض موضوع الضبط أن يطلع المتخصص في علوم القرآن ـ وخصوصاً الذين لهم علاقة بالإقراء ـ على المراحل التي مرَّ بها المصحف حتى وصلنا بهذه الصورة التامة في الضبط. وأشهر مصحفين برواية حفص عن عاصم هما المصحف المصري المعروف بمصحف الملك فؤاد، ومصحف المدينة النبوية الذي طُبِع في مجمع الملك فهد، وقد لقي هذان المصحفان عناية فائقة، ويتميز مصحف المدينة النبوية باستدراكاته على مصحف الملك فؤاد، فكان بذلك أجود. وسأستعرض (اصطلاح الضبط) التي قامت بها اللجنة العلمية الثانية لمصحف المدينة النبوية التي كانت برئاسة الشيخ الدكتور علي بن عبد الرحمن الحذيفي. 1 - قالت اللجنة: «وضع دائرة خالية الوسط هكذا (°) فوق أحد أحرف العلة الثلاثة المزيدة رسماً يدلّ على زيادة ذلك الحرف، فلا ينطق به ¬

(¬1) يمكن أن يقوم الطالب بموازنة في الضبط بين المصاحف التي هي برواية حفص عن عاصم، وكذا يوازنها بضبط الروايات الأخرى المطبوعة في مصاحف؛ كرواية ورش ورواية الدوري؛ ليستفيد من هذا الموضوع، ويترسَّخ في ذهنه.

في الوصل ولا في الوقف نحو: {آمَنُوا} {يَتْلُو صُحُفًا} {لأَذْبَحَنَّهُ} {أُولَئِكَ} {مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} {بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ}». التعليق على النص: هذا النوع من الضبط يمكن أن يُطلق عليه (ضبط المزيد في الهجاء)، وهو يكون في حروف العلة كما قال الخرَّاز في منظومته في الضبط (¬1): القول فيما زِيد في الهجاء ... من ألف أو واو أو من ياء وقد ذكر بعد ذلك أمثلة للمزيد من هذه الأحرف، ثمَّ قال في علامة ضبطها (¬2): فدارة تلزم ذا المزيدا ... من فوقه علامة أن زِيدا وقد عدَّ في المزيد عشرة أنواع في الألف، ونوعين في الياء، ونوعاً في الواو، وأفاض الشارح في بيانها (¬3). وهناك أنواع من المزيد في الألف والياء خارجة عن هذه الأنواع، وقد ذكرها التَّنسي في شرحه على ضبط الخراز (¬4). وأما علَّة جعل هذه الدائرة، فقد قال التَّنسي عنها: «وإنما حكم النُّقاط بجعل هذه الدارة في هذه المواضع؛ لتدلَّ على سقوط الأحرف من اللفظ، أخذوها من الصفر عند أهل العدد الدالَّ على خلو المنْزلة» (¬5). 2 - قالت اللجنة: «ووضع الصفر المستطيل القائم (0) فوق ألف بعدها متحرك يدل على زيادتها وصلاً لا وقفاً نحو: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ}، {لَكِنَّ هُوَ اللَّهُ رَبِّي}. وأهملت الألف التي بعدها ساكن، نحو: {أَنَا النَّذِيرُ}، من وضع ¬

(¬1) ينظر: الطراز شرح ضبط الخراز (ص333). (¬2) ينظر: الطراز شرح ضبط الخراز (ص406). (¬3) ينظر: الطراز شرح ضبط الخراز (ص333 - 407). (¬4) ينظر: الطراز شرح ضبط الخراز (ص407 - 422). (¬5) الطراز شرح ضبط الخراز (ص406 - 407)؛ وقد ذكر المحقق أنه قد قال به الداني في المحكم (ص195)؛ وفي كتاب «النقط الملحق بذيل المقنع» (ص142).

الصفر المستطيل فوقها، وإن كان حكمها مثل التي بعدها متحرك في أنها تسقط وصلاً وتثبت وقفاً لعدم توهم ثبوتها وصلاً». التعليق على النص: في هذا خلاف بين المتقدمين في ضبط هذه الألف من عدمه، وقد ذكر التَّنسي أن المتقدمين لم يجعلوا على ألف (لكنا) دارة لا جملة ولا تفصيلاً (¬1)، لكن مضى عمل المصاحف اليوم على هذا الضبط الذي اختارته لجنة مصحف المدينة النبوية. 3 - قالت اللجنة: «وضع رأس خاء صغيرة بدون نقطة هكذا: «» فوق أي حرف يدل على سكون ذلك الحرف وعلى أنه مظهر بحيث يقرعه اللسان نحو: {مِنْ خَيْرٍ} {أَوَعَظْتَ} {قَدْ سَمِعَ} {نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ} {وَإِذْ صَرَفْنَا}». التعليق على النص: ذكرت اللجنة نوعين يقع فيهما وضع علامة السكون: الأول: الحرف الساكن مطلقاً (¬2)، وقد وقع خلاف في اصطلاح ضبط السكون على مذاهب، فبعضهم يجعلها دائرة صغيرة، وهي الصفر المستدير الذي سبق ذكره، وعلى هذا مصاحف أهل المغرب إلى اليوم. وبعضهم أخذ بمذهب الخليل وأصحابه، وهو أن تكون علامة السكون رأس الخاء صغيرة، مأخوذة من أول حرف في لفظة (خفيف)، وعلى هذا العمل جرى المصحف المصري ومصحف المدينة النبوية وغيرهما من مصاحف أهل المشرق. وبعضهم يجعل علامة السكون الهاء، هكذا (هـ). وبعضهم يُخلي الحرف الساكن من أي علامة، فتعرية الحرف من الحركات دلالة على سكونه (¬3). ¬

(¬1) ينظر: الطراز شرح ضبط الخراز (ص412 - 416). ويحسن النظر في تعليقات المحقق، فقد ذكر ما جرى عليه العمل عند المعاصرين في هذه الألف. (¬2) سيأتي ذكر حالات تعرية الحرف الساكن من علامة السكون. (¬3) ينظر: الطراز شرح ضبط الخراز (ص94 - 97).

الثاني: الحرف الساكن المظهر؛ كالتقاء النون الساكنة بأحرف الحلق الستة أو غيرها مما يقع فيه الإظهار (¬1)، وقد ذكر الخراز في منظومته ضبط الحرف الساكن المظهر، فقال: .................. ... فمظهر سكونه مُصَوَّر ضبط السكون قد مضت وجوه الخلاف فيه بين الضابطين في الفقرة قبله، ويدخل في ضبط المظهر ما وقع عليه الإجماع، وما وقع فيه الخلاف، فيضبط عند من يرى الإظهار (¬2). 4 - قالت اللجنة: «وتعرية الحرف من علامة السكون مع تشديد الحرف التالي تدل على إدغام الأول في الثاني إدغاماً كاملاً بحيث يذهب معه ذات المدغم وصفته، فالتشديد يدل على الإدغام، والتعرية تدل على كماله، نحو: {مِنْ لِينَةٍ} {مِنْ رَبِّكَ} {مِنْ نُورٍ} {مِنْ مَاءٍ} {أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} {عَصَوْا وَكَانُوا} {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ} {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} وكذا قوله تعالى: {أَلَمْ نَخْلُقْكُّمْ}». التعليق على النص: لما ذكروا أن الحرف الساكن يُضبط برأس حرف الخاء، أشاروا هنا إلى أنه قد يُعرَّى الحرف من السكون في مواضع، منها هذا الموضوع، وهو أن يُعرَّى الحرف المدغم، ويشدد الحرف المدغم فيه علامة على الإدغام الكامل، ¬

(¬1) قال الخراز في ضبط النون الساكنة: وحكم نون سكنت أن تلقي ... سكونها عند حروف الحلق وقد شرحها التنسي (65 - 66)، فقال: (... فأشار في هذا البيت إلى أن حكم النون الساكنة إذا لقيها أحد حروف الحلق الستة أن تُلقى على النون؛ أي: تضع عليها علامة السكون، إما ما اختاره من الدارة، وإما غيرها على ما يأتي، إن شاء الله. وإنما كان ذلك لأن حكم النون عند حروف الحلق الإظهار في اللفظ؛ لبعد مخرجها من مخرجهن، فلما كان يقرعها اللسان في اللفظ جاء النقط منبِّهاً على ذلك، فصوَّروا سكونها دلالة على قرع اللسان لها لفظاً، كما هو الشأن في كل ما يقرعه العضو المعتمد عليه لفظاً، حسبما نصَّ الناظم بعدها في قوله (فمظهر سكونه مصور) ...). (¬2) ينظر: الطراز شرح ضبط الخراز (ص137 - 139)؛ وينظر منه كذلك: (ص65 - 66).

ويقع ذلك في التقاء النون الساكنة بأحرف (لم نر)، وفي غيرها من الأحرف؛ كالتقاء الثاء بالذال، والتاء بالطاء ... إلخ من أحرف الإدغام الكامل. وقد ذكر الخراز في منظومته هذا، فقال: وعَرِّ ما بصوتِه أدغمته ... وكلَّ حرفٍ بعده شدَّدته وقال الشارح (التَّنَسي): «فأشار الناظم في هذا البيت إلى النوع الأول (¬1)، وذكر أن حكمه تعرية الحرف المدغم من علامة السكون وتشديد الحرف المدغم فيه، وذلك أنه لما كان الحرف الأول ذهب في اللفظ بالكلية، وكان النطق بالثاني على صورة الحرف الواحد المضعَّف جاء الخط منبِّهاً على ذلك بتعرية الأول وشدِّ الثاني ...» (¬2). 5 - قالت اللجنة: «وتعريته مع عدم تشديد التالي تدل على إدغام الأول في الثاني إدغاماً ناقصاً بحيث يذهب معه ذات المدغم مع بقاء صفته نحو: {مَنْ يَقُولُ} {مِنْ وَالٍ} {فَرَّطْتُمْ} {بَسَطْتَ} {أَحَطْتُ}، أو تدل على إخفاء الأول عند الثاني، فلا هو مظهر حتى يقرعه اللسان، ولا هو مدغم حتى يقلب من جنس تاليه، سواء كان هذا الإخفاء حقيقياً نحو: {مِنْ تَحْتِهَا} أم شفوياً نحو: {جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ} على ما جرى عليه أكثر أهل الأداء من إخفاء الميم عند الباء». التعليق على النص: ذكرت اللجنة طريقة ضبط حكمين من أحكام التجويد، وهما: 1 - الإدغام الناقص في التقاء النون الساكنة بالواو والياء، وفي التقاء الطاء بالتاء. 2 - الإخفاء في النون الساكنة مع أحرفه الخمسة عشر، والميم الساكنة مع الباء. ¬

(¬1) سبق هذا النقل أن ذكر التنسي نوعي الإدغام: الإدغام الكامل ـ وهو المقصود بقوله: (النوع الأول) ـ والإدغام الناقص، وهو النوع الثاني عنده. (¬2) الطراز في شرح ضبط الخراز (ص141).

وفي ضبط الإدغام الناقص ـ في حكم النون الساكنة إذا التقت بالواو والنون ـ خلافٌ ذكره علماء الضبط، وهذا ملخصه (¬1): الأول: إثبات علامة السكون في النون والشدة في الياء والواو. وقد ذكر التَّنسي (ت899هـ) عِلَّةَ ذلك، فقال: «... ووجهه أن النون لما بقي صوتها أشبهت المظهرة، فسكنت، ولما انعدم لفظها؛ لعدم قرع اللسان لها؛ أشبهت ما أُدغِم إدغاماً خالصاً، فشُدِّد ما بعدها، فهي مظهرة من جهة صوت الغنة، مدغمة من جهة عدم قرع اللسان لها. فجاء النقط منبِّها على الأمرين معاً» (¬2). الثاني: تعرية النون من السكون والواو والياء من التشديد. وقد ذكر التنسي (ت899هـ) علَّة ذلك، فقال: «ووجهه أنَّ تعرية النون تُشعر بانعدام لفظها في قرع اللسان، وتعرية ما بعدها من الشدِّ تُشعِر بأنها لم تُدغم فيه إدغاماً خالصاً» (¬3). أما حكم التقاء الطاء بالتاء، فقد ذكر الخراز في منظومته الاختلاف في طريقة ضبطها، فقال (¬4): ثم الذي أدغمت مع إبقاء ... صوت كطاء عند حرف التاء صوِّر سكون الطاء إن أردتَّا ... وشدِّدن بعده حرف التّا أو عرِّ إن شئت كلا الحرفين ... والأول اختير من الوجهين وأما ضبط الإخفاء فقد ذكره الخراز بقوله: وحكم نون وسكون تُلقِى ... سكونها عند حروف الحلق وعند كل ما سواه تُعرى ... .................. ¬

(¬1) ينظر: الطراز في شرح ضبط الخراز (ص73 - 77). (¬2) الطراز في شرح ضبط الخراز (ص74). (¬3) الطراز في شرح ضبط الخراز (ص74 - 75). (¬4) ينظر: الطراز في شرح ضبط الخراز (ص143).

فقوله: «وعند كل ما سواه تعرى»؛ أي: كل ما سوى حروف الحلق الستة، فيشمل الإدغام والإخفاء والقلب. وقد قال التنسي (ت899هـ) في علَّة ذلك: «وإنما كان ذلك؛ لأن النون في غير حروف الحلق غير موجودة في اللفظ وصلاً لكونها مدغمة، أو مخفاة، أو مقلوبة، فلما كان اللسان لا يقرعها في اللفظ، جاء النقط منبِّهاً على ذلك، فعرَّى النون من علامة السكون؛ ليدل على عدم قرع اللسان له، كما كان إتباع التنوين قبل هذا دليلاً على ذلك، فتعرية النون بمنْزلة الإتباع في التنوين» (¬1). 6 - قالت اللجنة: «وتركيب الحركتين «حركة الحرف والحركة الدالة على التنوين» سواء أكانتا ضمتين، أم فتحتين، أم كسرتين هكذا (ـٌ ـً ـٍ) يدل على إظهار التنوين نحو: {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} {حَلِيمًا غَفُورًا} {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} وتتابعهما هكذا (ـٌ ـً ـٍ) مع تشديد التالي يدل على الإدغام الكامل نحو: {لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} {مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا} {يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ}. وتتابعهما مع عدم تشديد التالي يدل على الإدغام الناقص نحو: {رَحِيمٌ وَدُودٌ} {وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً} {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} أو على الإخفاء نحو: {شِهَابٌ ثَاقِبٌ} {سِرَاعًا ذَلِكَ} {عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ}. فتركيب الحركتين بمنزلة وضع السكون على الحرف وتتابعهما بمنزلة تعريته عنه». التعليق على النص: هذا المقطع يتعلق بضبط التنوين (أي: شكله في الكتابة)، وقد نصَّ الخراز في منظومته على هذا الضبط، فقال: وقبل حرف الحلق ركَّبتهما ... وقبل ما سواه أتبعتهما فالتنوين يضبط في صورتين: • التركيب، وذلك مع حروف الحلق. ¬

(¬1) الطراز في شرح ضبط الخراز (ص67 - 68).

• الإتباع، وذلك مع باقي الحروف من إدغام وإخفاء وقلب. وقد ذكر الشارح (التَّنسي) سبب هذا الضبط، فقال: «وعلة ذلك أن حروف الحلق لما بعُدت عن مخرج التنوين الذي هو طرف اللسان كان حكمها عندهنَّ ـ في اللفظ ـ الإظهار، فجاء النقط مشعراً بذلك، إذ تركيب التنوين مع الحركة، إبعاد له عن حروف الحلق، كما كان بعيداً منها لفظاً، ولمَّا لم تَبعُد بقية الحروف عن مخرج التنوين، مثل بُعْدِ حروف الحلق، بل منها ما قرُب جدّاً، ومنها ما قرب فقط؛ كان حكمها عندهنَّ الإدغام في بعض، والإخفاء في بعض، والقلب في بعض، فجاء النقط مشعراً بذلك، إذ إتباع التنوين للحركة تقريب له من تلك الحروف خطاً كما كان قريباً منها لفظاً» (¬1). وزاد في ضبط الإتباع ضبطُ الحرف الذي بعده، وهو على قسمين: الأول: أن يكون الحرف الذي بعد تنوين الإتباع مشدَّداً، وهذا يدل على الإدغام الكامل. الثاني: أن يكون الحرف بعد تنوين الإتباع غير مشدَّدٍ، وهذا يدل على الإدغام الناقص أو الإخفاء. وقد ذكر الخراز هذا في منظومته، فقال: والشَّدُّ بَعدُ في هجاء (لم نرا) ... وغيره فعرِّه كيف جرى وهذا يعني أن الإدغام الكامل يقع في الأحرف الأربعة (لم نر)، وتكون هذه الأحرف مشدَّدةً. وما سواها من أحرف (يرملون)، وهما الياء والواو، وكذا أحرف الإظهار، وأحرف الإخفاء، وحرف القلب = فإنها تُكتب بحركتها معرَّاة من الشَّدة (¬2). 7 - قالت اللجنة: «ووضع ميم صغيرة هكذا: «م» بدل الحركة الثانية ¬

(¬1) الطراز في شرح ضبط الخراز (ص48 - 49). (¬2) ينظر: الطراز في شرح ضبط الخراز (ص53 - 58).

من المنوَّن، أو فوق النون الساكنة بدل السكون، مع عدم تشديد الباء التالية يدل على قلب التنوين أو النون الساكنة ميماً نحو: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا} {كِرَامٍ بَرَرَةٍ} {أَنْبِئْهُمْ} {وَمِنْ بَعْدِ}». التعليق على النص: ذكرت اللجنة في هذا المقطع ضبط حكم القلب في التنوين والنون، ولعلماء الضبط خلاف في ضبط القلب على ما يأتي: أولاً: ضبط القلب في التنوين: قال الخراز: وعوِّضن ـ إن شئت ـ ميماً صُغرى ... منه لباء؛ إذ بذاك يُقرا وهذا البيت يشير إلى أنَّ لضبط حكم القلب في التنوين وجهين عند علماء الضبط: الأول: أن تكون علامتا التنوين متتابعتين، كما أشار إلى ذلك بقوله (¬1): وقبل حرف الحلق ركَّبتهما ... وقبل ما سواه أتبعتهما والقلب يدخل في قوله؛ «وقبل ما سواه»، ويكون التنوين على هذه الصورة: {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} {سَمِيعًا بَصِيرًا}. الثاني: أن تصور من علامة التنوين ميماً صغيرة غير ممطوطة، ويكون التنوين على هذه الصورة {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}. وقد ذكر الناظم العلة في هذه الميم الدالة على القلب، وهي أنَّ التنوين يقلب ميماً في التلاوة، فيكون كتبه ميماً في النقط مشعراً بذلك (¬2). ثانياً: ضبط النون الساكنة في حكم القلب: قال الخراز في ذلك: وعند كلِّ ما سواها تُعرى ... (وإن تشأ صوَّرت ميماً صُغرى ¬

(¬1) الطراز في شرح ضبط الخراز (ص48). (¬2) الطراز في شرح ضبط الخراز (ص63).

من قبل باء) ثم شد يلزم ... في كلِّ ما التنوين فيه يلزم وقوله هذا يشير إلى مذهبين في ضبط حكم القلب: الأول: أن تعرى النون من السكون، وهذا اختيار الداني (ت444هـ). الثاني: أن تُصوَّر ميماً صغيرة تنبيهاً على أن النون انقلبت في اللفظ ميماً لمؤاخاتها النون في الغنة، وقربها من الباء في المخرج، وهذا اختيار أبي داود سليمان بن نجاح (ت496هـ)، وعليه درج العمل في مصحف المدينة النبوية، وغيره من المصاحف المشرقية. 8 - قالت اللجنة: «والحروف الصغيرة تدل على أعيان الحروف المتروكة في خط المصاحف العثمانية مع وجوب النطق بها نحو: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} {دَاوُودُ} {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ} {يُحْيِي وَيُمِيتُ} {إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ} {إِيلاَفِهِمْ} {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ}. وكان علماء الضبط يلحقون هذه الأحرف حمراء بقدر حروف الكتابة الأصلية ولكن تعذر ذلك في المطابع أول ظهورها، فاكتُفي بتصغيرها للدلالة على المقصود للفرق بين الحرف الملحق والحرف الأصلي. والآن إلحاق هذه الأحرف بالحمرة متيسر ولو ضُبطت المصاحف بالحمرة والصفرة والخضرة وفق التفصيل المعروف في علم الضبط لكان لذلك سلف صحيح مقبول، فيبقى الضبط باللون الأسود لأن المسلمين اعتادوا عليه. وإذا كان الحرف المتروك له بدل في الكتابة الأصلية عُوّل في النطق على الحرف الملحق لا على البدل نحو: {الصَّلاَةَ} {كَمِشْكَاةٍ} {الرِّبَا} {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَومِهِ}. ووضع السين فوق الصاد في قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} {فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا} يدل على قراءتها بالسين لا بالصاد لحفص من طريق الشاطبية». التعليق على النص: يشمل هذا المقطع عدداً من القضايا، يمكن تفصيلها على الآتي:

أولاً: إلحاق المحذوف في الرسم، وطريقة العلماء في هذا الإلحاق: المحذوف في الرسم أنواع، وفيه تشعُّبٌ قد يصعب تتبعه على الطالب، ومثله باب الزيادة، فهو وباب الحذف من أوسع أبواب الضبط التي طال كلام الأئمة فيها (¬1). وقد اكتفت اللجنة بذكر أصل المسألة، وهي (الحذف) المعبَّر عنه بالحروف المتروكة؛ لأن سبيل العلم بتفاصيل ذلك الكتب المعتنية بالضبط. ويكثر الحذف في حروف المد ـ أو العلة ـ الثلاثة (الألف، والواو والياء)، وقد رتَّبها أبو عمرو الداني (ت444هـ) على ثلاثة أبواب: الأول: ما اجتمع فيه ألفان، وحذفت إحداهما اختصاراً (¬2). الثاني: ما اجتمع فيه ياءان، وحذفت إحداهما إيجازاً (¬3). الثالث: ما اجتمع فيه واوان، وحذفت إحداهما تخفيفاً (¬4). وهل المحذوف منها الأولى أم الثانية؟ فيه تفصيلات وتعليلات واختيارات يطول ذكرها. ونتيجتها وضع علامة تدل على هذا المحذوف، فتوضع للألف المتروكة (ا)، وللياء المتروكة (-)، وللواو المتروكة (وا)، وقد ذكر الداني (ت444هـ) في بعض المواضع الاكتفاء بالحركة عن الإلحاق، مثل لفظ (يلوُن)، فقد ذكر الإلحاق وعدم الإلحاق اكتفاءً بالضمة الدالة عليها (¬5). وهذه الملحقات تكون صغيرةً جدّاً، وهي دالة على المحذوف، وقد كان النُّقاط الذي يكتبون المصاحف يضعونها بالحمرة دلالة على زيادتها على الرسم، «ولكن تعذر على المطابع أول ظهورها، فاكتُفي بتصغيرها ¬

(¬1) ينظر التفصيل في باب الحذف: الطراز في شرح ضبط الخراز (ص259 - 332)؛ وفي باب المزيد في الهجاء (ص333 - 427). (¬2) المحكم في نقط المصاحف (ص153). (¬3) المحكم في نقط المصاحف (ص165). (¬4) المحكم في نقط المصاحف (ص168). (¬5) ينظر: المحكم في نقط المصاحف (ص173)؛ والطراز في شرح ضبط الخراز (ص271).

للدلالة على المقصود، للفرق بين الحرف الملحق والحرف الأصلي». أما عصرنا هذا فقد تقدَّمت فيه الطباعة، وبالإمكان أن يعود الضبط إلى سابق عهده عند النُّقاط القدماء، وليس ذلك بصعب الآن. ثانياً: الحرف المتروك الذي له بدل في الكتابة: ذكرت اللجنة من أمثلة هذا النوع ما يكون موجوداً فيه الواو أو الياء، وأصل نطقها بالألف؛ كالصلوة، والربو والتورية، أو الصاد في مثل يبصط، وهي تقرأ بالسين. وهذه إنما تُقرأ بما يقع عليه الضبط من الألف بدلاً عن الواو والياء، والسين بدلاً عن الصاد. وقد وقع الضبط بوضع الألف القصيرة إشارة إلى القراءة بها بدلاً عن الواو والياء، كما أشار إليه الخراز في نظمه، فقال (¬1): وألحقن ألفاً توسُّطا ... مما من الخط اختصاراً سقطا وما بواو أو بياء كتبا ... عن واو أو عن حرف ياء قلبا وقال في مكان وضع الألف الملحقة (¬2): ومع لام أُلحِقت يمناه ... لأسفل من منتهى أعلاه ما لم تكن بواو أو ياء أتت ... وقيل يمناه بكل لحقت وهذه تكون فيها ألف صغيرة، للدلالة على المحذوف، وهذا مذهب الداني (ت444هـ)، قال: «فإذا نُقِطَ ذلك جُعِل على الواو ألفٌ بالحمراء؛ ليدل على استقرارها في اللفظ دون الواو» (¬3). وقد اختار أبو داود سليمان بن نجاح (ت496هـ) أن تُلحقها معانقة للام خارجة إلى يمناه، هكذا (أغلالا)، والعمل على اختيار الداني (ت444هـ). ¬

(¬1) ينظر: الطراز في شرح ضبط الخراز (ص284، 287). (¬2) ينظر: الطراز في شرح ضبط الخراز (ص295). (¬3) المحكم في نقط المصاحف (ص189).

الخاتمة

الخاتمة الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على خير البريات، وعلى آله وصحبه والتابعين إلى يوم القيامة، أما بعد: فقد منّ الله عليَّ بإنجاز هذا الكتاب على ما كنت أحب من طرح علوم القرآن، وأسأل الله أن ييسر لي تتميم أنواع علوم القرآن، وطرح الإشكالات والاستفسارات، وضرب الأمثلة الموضحات للمسائل. ولا زال في النفس شيء من زيادة التطبيقات، وإضافة تحريرات في أنواع علوم القرآن، أسأل الله أن يبارك في الوقت، وأن ينجز ما أتمنى في هذا العلم. وآخر دعواي أن الحمد لله رب العالمين

ملحق: جدول العلاقات بين أنواع علوم القرآن

ملحق: جدول العلاقات بين أنواع علوم القرآن جدول العلاقات بين أنواع علوم القرآن

النوع النوع المتعلق العلاقة الوحي نزول القرآن الوحي مقدمةٌ لعلم نزول القرآن، ولا يصلح تأخير بحثه فيكون بعد بحث (نزول القرآن)؛ لأن موضوع (كيفية نزوله) في علم (نزول القرآن) مرتبط بكيفية الوحي للرسول صلى الله عيه وسلم. نزول القرآن الوحي لا نزول للقرآن إلا بالوحي أسباب النُّزول لا سبب نزول بلا نزول المكي والمدني لا مكي أو مدني بلا نزول نزول القرآن على سبعة أحرف لا يوجد حرف مقروء به إلا وهو نازل، فهو كالمقدمة لهذه الموضوعات. نزول القرآن على سبعة أحرف نزول القرآن نزول القرآن على سبعة أحرف جزء من نزول القرآن علم القراءات مرجع القراءات إلى هذه الأحرف التي نزل بها القرآن. جمع القرآن مرتبط بالأحرف من حيث تعدد بعض الأوجه القرائية التي جمعها الصحابة في المصاحف. رسم المصحف مرتبط بالأحرف من حيث رسم بعض الأوجه القرائية بأكثر من رسم حسب الحرف النازل. المكي والمدني نزول القرآن يعتبر البحث في (المكي والمدني) فرع عن نزول القرآن الناسخ والمنسوخ لأن المتقدم ينسخ المتأخر، ولا يعرف ذلك إلا بمعرفة المكي من المدني

النوع النوع المتعلق العلاقة المكي والمدني أسباب النُّزول يظهر الارتباط الوثيق بينهما، فيما إذا صح نزول آية في حدث مكي أو في حدث مدني، فإن سبب النُّزول يدل على المكي والمدني من هذه الجهة، مع ملاحظة أن بعض ما يُحكى في الأسباب قد يكون من باب التفسير، وليس من باب الأسباب الصريحة، وفي هذه الحالة يمكن تفسير الآية المكية بحدث مدني، ولا يكون هذا التفسير دليلاً على مدنية الآية أسماء السور حيث ينص من يعدد السور المكية والمدنية على أسمائها، ويمكن الاستفادة من هذه الآثار في تعدد أسماء بعض السور؛ لأنها تختلف في تسمية بعض السور الأحرف السبعة إن القرآن المكي وصدراً من المدني كان على حرف واحد، والقرآن المدني نزلت فيه الرخصة بالأحرف السبعة، ويمكن القول بأن نزول الأحرف السبعة مدني. أسباب النُّزول نزول القرآن واضح ظاهر؛ لأن النُّزول قد يكون مرتبطاً بسبب، وقد لا يكون. المكي والمدني لأن الأحداث التي نزل بشأنها قرآن لا تخرج ـ باعتبار الزمان ـ عن أن تكون قبل الهجرة أو بعد الهجرة. أسماء السور ذلك حين يكون سبب النُّزول مرتبطاً بالسورة؛ كقولهم: نزلت سورة كذا في كذا. التاريخ (ليس من علوم القرآن) لأن سبب النُّزول لا يخلو من حدث تاريخي، ووقوع الاختلاف فيه لا يبنى عليه سوى الاختلاف في النظر التاريخي. النسب (ليس من علوم القرآن) لأن سبب النُّزول لا يخلو من أشخاص وقع منهم السبب، ووقوع الاختلاف فيه لا يبنى عليه سوى الاختلاف في النسب، كما هو الحال في الاختلاف في الأسماء الواردة في آية اللعان، وفي اسم المجادلة لزوجها.

النوع النوع المتعلق العلاقة جمع القرآن الأحرف السبعة لأن جمع القرآن مرتبط بمفهوم هذه الأحرف، ولا يمكن معرفة ما جُمِع إلا بمعرفة ما يمكن رسمه وما لا يمكن مما يتعلق بهذه الأحرف. رسم المصحف لأن كتابة القرآن في المصحف إنما كانت على رسم معين معتمد عند الصحابة أسماء السور المكي والمدني من جهة أن من يحكي السور المكية والمدنية يذكر اسم السورة. فضائل السور لأن فضيلة السورة إذا ذُكرت ذُكر معها اسم السورة لا محالة. أسباب النُّزول إذا كان سبب النزول يتعلق بسورة؛ فإن ذاكر السبب يذكر اسم السورة. عد آي السور الفاصلة القرآنية عد الآي يعتمد على معرفة رأس الآية. الوقف والابتداء في حكم الوقف على رأس الآية. القراءات من حيث حكم إمالة بعض الكلمات إذا كانت رأس آية عند من يميل من القراء. إعجاز القرآن لأن الوقف على رأس الآية مقصد من مقاصد المتكلم بالقرآن. ترتيب السور جمع القرآن حيث يقع الحديث عن ترتيب السور في جمع الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ثم في جمع أبي بكر رضي الله عنه، ثم في نسخ عثمان رضي الله عنه للمصاحف. تناسب السور الذي يذهب إلى أن الترتيب توقيفي، فإنه يبحث عن حكمة هذا الترتيب، والحكمة موجودة قطعاً، لكن لا يلزم أن كل ما يقال من أسرار الترتيب أنه هو الحكمة المعنية؛ لأن التكلُّف يدخل علم المناسبات، ووجود التكلف لا يلزم منه عدم البحث عن المناسبة.

النوع النوع المتعلق العلاقة رسم المصحف جمع القرآن الجمع الكتابي ضبط المصحف لأن (علم الضبط) جاء لضبط الرسم لموافقة القراءة. القراءات إذ الأصل دلالة المرسوم على المسموع، فجاء (رسم المصحف) للدلالة على المقروء، كما هو الأصل في الرسم عموماً. ضبط المصحف التجويد حيث رُمِز لأحكام التجويد برموز في الضبط تعين القارئ على معرفة الحكم التجويدي التطبيقي من خلال الضبط؛ كضبط (حكم القلب) بوضع ميم صغيره للدلالة على قلب النون الساكنة ميماً عند ملاقاتها للباء. النحو (ليس من علوم القرآن) لأن بعض علل الضبط نحوية لذا تجد لعلماء النحو مشاركة في ضبط الحركات في غير المصحف، وقد تكون لهم اصطلاحات أخرى ينقلها بعض من كتب في علم الضبط. ضبط المصحف الإملاء (ليس من علوم القرآن) لأن بعض علل الضبط إملائية. الوقف والابتداء التفسير يرتبط موضوع الوقف والابتداء بالمعنى، لذا فهو منبثق من علم (التفسير)، فهو أثر من آثاره. النحو (ليس من علوم القرآن) من جهة معرفة ما يصح الوقف عليه وما لا يصح من المفردات أو الجمل المرتبطة ببعضها من جهة النحو؛ كالمعطوفات والجملة الحالية وغيرها. القراءات ذلك ظاهر باختلاف الوقف والابتداء بسبب اختلاف القراءة.

فهارس الكتاب • فهرس المراجع. • فهرس الموضوعات.

المراجع

المراجع • الإتقان في علوم القرآن، لجلال الدين السيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، نشر المكتبة العصرية، 1407هـ 1987م. • الأدفوي مفسراً وتحقيق سورة الفاتحة، رسالة علمية بقسم القرآن وعلومه بكلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، للدكتور عبد الله عبد الغني كحيلان. • الإمام المتولي وجهوده في القراءات، للدكتور إبراهيم بن سعيد الدوسري، نشر مكتبة الرشد، ط1، 1420هـ 1999م. • الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه، لمكي بن أبي طالب، تحقيق الدكتور أحمد حسن فرحات، نشر دار المنارة بجدة، ط1، 1406هـ 1986م. • بحثان حول سور القرآن، للأستاذ الدكتور إبراهيم عبد الرحمن خليفة، نشر دار ابن حزم، ط1. • البرهان في علوم القرآن، لمحمد بن عبد الله الزركشي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، نشر دار المعرفة، ط2، 1391هـ. • البستان في علوم القرآن، هبة الله بن عبد الرحيم الحموي (مخطوط بمكتبة الحرم المكي). • البيان في عد آي القرآن، لأبي عمرو الداني، تحقيق غانم قدوري الحمد، نشر مركز المخطوطات والتراث والوثائق بالكويت، ط1، 1414هـ، 1994م. • التبيان لبعض المباحث المتعلقة بالقرآن على طريق الإتقان، لطاهر الجزائري، اعتنى به عبد الفتاح أبو غدة، نشر مكتبة المطبوعات الإسلامية بحلب، ط3، 1412هـ. • التحرير والتنوير، للطاهر بن عاشور، نشر الدار التونسية، 1984م. • التحصيل لفوائد كتاب التفصيل الجامع لعلوم التنزيل، لأحمد بن عمار المهدوي. • التذكرة في القراءات، لطاهر بن غلبون، تحقيق الدكتور عبد الفتاح بحيري إبراهيم، نشر الزهراء للإعلام العربي ط2، 1411هـ 1991م • تفسير القرآن العزيز، لابن أبي زمنين، تحقيق حسن بن عاكشة، ومحمد بن مصطفى الكنز، نشر دار الفاروق، ط1، 1423هـ 2002م.

• تفسير كتاب الله العزيز، لهود بن محكم، تحقيق بلحاج بن سعيد شريفي، نشر دار الغرب الإسلامي، ط1، 1990م. • تفسير مقاتل، تحقيق الدكتور عبد الله شحاته، نشر الهيئة المصرية الهامة للكتاب. • تفسير مكي (تفسير سورة الفاتحة والبقرة) رسالة علمية لنيل دبلوم الدراسات العليا في الدراسات الإسلامية، جامعة سيدي محمد عبد الله، تقدم بها الباحث زارة صالح. • التقرير العلمي لمصحف المدينة النبوية، كتبه الدكتور عبد العزيز بن عبد الفتاح قارئ، نشر مجمع الملك فهد للمصحف الشريف، 1406هـ. • تنبيه الغافلين وإرشاد الجاهلين (للصفاقسي)، مقدمة الشاذلي النيفر، نشر مؤسسة عبد الكريم بن عبد الله. • التنزيل وترتيبه، لأبي القاسم النيسابوري، تحقيق الدكتورة نورة الورثان، 1422هـ. • جمال القراء وكمال الإقراء، لعلم الدين السخاوي، تحقيق الدكتور علي حسين البواب، نشر مكتبة التراث، ط1، 1408هـ 1987م. • حديث الأحرف السبعة، للدكتورعبد العزيز بن عبد الفتاح القارئ، نشر مؤسسة الرسالة، ط1، 1423هـ 2002م. • رسم المصحف دراسة لغوية تاريخية، للدكتور غانم قدوري الحمد، نشر اللجنة الوطنية ببغداد، ط1، 1402هـ 1982م. • الروض المعطار في خبر الأقطار، محمد بن عبد المنعم الحميري، تحقيق الدكتور إحسان عباس، نشر مكتبة لبنان، ط2، 1984م. • زاد المسير في علم التفسير، لابن الجوزي، تحقيق محمد عبد الرحمن عبد الله، نشر دار الفكر، ط1، 1407هـ 1987م. • سنن القراء ومناهج الموجودين، للدكتور عبد العزيز بن عبد الفتاح القارئ، نشر مكتبة الدار، ط1، 1414هـ. • الطراز في شرح ضبط الخراز، لمحمد التنسي، تحقيق الدكتور أحمد بن أحمد شرشال، نشر مجمع الملك فهد للمصحف الشريف، ط1، 1420هـ 2000م. • الفتاوى، لشيخ الإسلام ابن تيمية، جمع ابن قاسم، نشر مجمع الملك فيه للمصحف الشريف. • فنون الأفنان في عجائب علوم القرآن، لأبي الفرج ابن الجوزي، تحقيق الدكتور رشيد العبيدي، نشر مطبعة المجمع العلمي العراقي 1408هـ 1988م. • فهم القرآن، للحارث (مطبوع مع كتاب العقل)، تحقيق حسين القوتلي، نشر دار الكندي ودار الفكر، ط2، 1398هـ 1978م.

• قانون التأويل، لابن العربي، تحقيق الدكتور محمد السليماني، نشر دار القبلة ومؤسسة علوم القرآن، ط1، 1406هـ 1986م. • القطع والائتناف، لأبي جعفر النحاس، تحقيق الدكتور أحمد خطاب العمر، مطبعة العاني، ط1، 1398هـ 1978م. • المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لعبد الحق ابن عطية، تحقيق عبد الله الأنصاري، والسيد عبد العال، نشر مؤسسة دار العلوم، ط1. • المحكم في نقط المصاحف، لأبي عمرو الداني، تحقيق الدكتور عزة حسن، نشر دار الفكر، ط2، 1407هـ 1986م. • معاني القرآن، للفراء، نشر عالم الكتب، ط3، 1401هـ 1983م. • معجم البلدان، لياقوت الحموي، نشر دار صادر. • مفردات ألفاظ القرآن، للراغب الأصفهاني، تحقيق صفوان داودي، نشر دار القلم والدار الشامية، ط1، 1412هـ 1992م. • مقاييس اللغة، لابن فارس، تحقيق عبد السلام هارون، نشر دار إحياء التراث العربي ط1، 1422هـ 2001م. • المقدمات الأساسية في علوم القرآن، عبد الله الجديع، توزيع مؤسسة الريان، ط1، 1422هـ 2001م. • المقنع في معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار، لأبي عمرو الداني، تحقيق محمد أحمد دهمان، نشر دار الفكر، 1403هـ. • الموافقات، للشاطبي، تحقيق مشهور حسن آل سلمان، نشر دار ابن عفان، ط1، 1421هـ. • الناسخ والمنسوخ، لأبي جعفر النحاس، تحقيق الدكتور سليمان اللاحم، نشر دار الرسالة، ط1، 1412هـ 1991م. • الوسيلة إلى كشف العقيلة، لعلم الدين السخاوي، تحقيق الدكتور مولاي محمد إدريس الطاهري، نشر مكتبة الرشد، ط1، 1423هـ 2003م.

المراجع الإلكترونية 1 - الموسوعة الشاملة (ملتقى أهل الحديث). 2 - مكتبة التفسير وعلوم القرآن، الإصدار (3.0) مركز التراث للبرمجيات. 3 - مكتبة التاريخ والحضارة الإسلامية، الإصدار (3.0) مركز التراث للبرمجيات. 4 - المكتبة الألفية للسنة النبوية، الإصدار (1.5) 1420هـ 2000م، مركز التراث للبرمجيات.

معهد الإمام الشاطبي في سطور مؤسسة تعليمية تربوية متخصصة تعنى بخدمة القرآن الكريم وعلومه. ويتولى الإشراف على المعهد الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بمحافظة جدة. • أهداف المعهد: 1 - تأهيل معلمي القرآن الكريم وإعدادهم إعداداً علمياً وتربوياً ومهارياً. 2 - نشر البحوث والدراسات القرآنية وتيسير الوصول إلى المعلومات المتصلة بالقرآن الكريم وعلومه. 3 - إحياء سنة الإقراء وتخريج الحفاظ المجازين في القراءات. 4 - تعليم أحكام التجويد وقواعد التلاوة لكافة فئات المجتمع. 5 - تأهيل منسوبي الجمعية إدارياً ومهارياً للقيام بمهام التوجيه والإشراف والإدارة في الجمعية. • أقسام المعهد: أولاً: دبلوم إعداد معلمي القرآن: ويعتبر الأول من نوعه على مستوى جمعيات القرءان الكريم بالمملكة، ويهدف إلى تأهيل معلمي القرآن الكريم وإعدادهم إعداداً علمياً وتربوياً ومهارياً، ومدته سنتان دراسيتان تحوي (100) ساعة دراسية، ويحاضر فيه نخبة من أساتذة الجامعات والكليات. ثانياً: مركز الدراسات والمعلومات القرآنية: مركز متخصص يعني بنشر الدراسات القرآنية وتسهيل الوصول للمعلومات المتعلقة بالقرآن وعلومه، ويتكون من عدة وحدات: وحدة مجلة المعهد المحكمة، وحدة المعلومات، وحدة البحث العلمي، وحدة النشر العلمي. ثالثاً: مركز التدريب: يعنى المركز بتأهيل وتدريب منسوبي الجمعية من معلمين ومشرفين على مختلف تخصصاتهم لرفع مستوى الأداء وتحسين الجودة في الجمعية: إدارياً تربوياً ومهارياً، وتقديم بعض خدماته لجمعيات تحفيظ القرآن الكريم الأخرى. رابعاً: قسم المقارئ القرآنية: يشرف القسم على مراكز إقراء تهدف إلى تخريج الحفاظ المتقنين للقرآن الكريم وإجازتهم بالسند المتصل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويتولى الشيخ المجاز إقراء طالبي الإجازة سواء على قراءة أو عدة قراءات جمعاً أو إفراداً. خامساً: قسم التعليم الإلكتروني: يهدف القسم إلى تطويع التقنية الحديثة لتعليم القرآن الكريم وإتاحة الفرصة للراغبين في الاستفادة من برامج المعهد التعليمية من شتى بقاع العالم، وذلك من خلال تنظيم برامج الإقراء والدروس والدورات القرآنية المباشرة والمسجلة عبر شبكة المعلومات العالمية (الإنترنت). سادساً: قسم الدورات القرآنية: يسعى القسم إلى رفع مستوى الأداء وتمكين علم التجويد لدى معلمي القرآن الكريم من خلال دورات التجويد والقراءات وطرق التدريس، كما يهدف إلى تعليم كافة فئات المجتمع أحكام التجويد وقواعد التلاوة. سابعاً: القسم النسائي: ويعنى بإيصال رسالة المعهد إلى المجتمع النسائي عبر أقسامه التالية: دبلوم إعداد معلمات القرآن الكريم، ودبلوم إعداد معلمات رياض الأطفال، وقسم المقارئ والإجازات، وقسم الدورات والتدريب، وقسم التعليم الإلكتروني.

من إصدارات مركز الدراسات والمعلومات القرآنية 1 - مجلة معهد الإمام الشاطبي للدراسات القرآنية (مجلة علمية محكمة نصف سنوية صدر منها الأعداد 1 - 4). 2 - مفاهيم قرآنية في البناء والتنمية: أ. د. عبد الكريم بكار. ضمن سلسلة القرآن وقضايا العصر (1). 3 - المحرر في علوم القرآن: د. مساعد بن سليمان الطيار. ضمن سلسلة المقررات الدراسية (1) ـ الطبعة الثانية. 4 - منهج الاستنباط من القرآن الكريم: فهد بن مبارك الوهبي. ضمن سلسلة الرسائل الجامعية (1). 5 - شرح المقدمة الجزرية: أ. د. غانم قدوري الحمد. ضمن سلسلة المقررات الدراسية (2). 6 - منظومة المقدمة الجزرية: لابن الجزري. تحقيق: أ. د. غانم قدوري الحمد. ضمن سلسلة تحقيق التراث (1). 7 - إقراء القرآن الكريم: منهجه وشروطه وأساليبه وآدابه: دخيل بن عبد الله الدخيل. ضمن سلسلة الرسائل الجامعية (2). 8 - تجربة المقرأة القرآنية الثانية في تعليم القرآن: موسى الجاروشة. ضمن سلسلة تجارب في خدمة القرآن (1). 9 - تعليم تدبر القرآن الكريم: أساليب عملية ومراحل منهجية: د. هاشم الأهدل.

§1/1