المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها
ابن جني
المجلد الأول
المجلد الأول المقدمات تصدير ... بسم الله الرحمن الرحيم تصدير بقلم الأستاذ: محمد أبو الفضل إبراهيم رئيس لجنة إحياء التراث القرآن الكريم كتاب الله الخالد، ودستور المسلمين الدائم {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} ولم يكد يكتمل نزوله، وتُرتَّب بوحي من الله سوره وآياته، حتى كان محفوظًا في الصدور، مكتوبًا في الصحف، مرويًّا عن الرسول صلى الله عليه وسلم بوجوه الأحرف والقراءات. وكان من الصحابة من رواه بحرف، ومنهم من رواه بحرفين، ومنهم من زاد، ثم تفرقوا في الأمصار، وتلقَّى عنهم التابعون، وعن التابعين أخذ مَنْ بعدهم، إلى أن انتهت الرواية إلى فريق من القراء في القرن الثاني من الهجرة، فانقطعوا للقراءات، واختصوا بها، وأخلَوْا ذرعهم لها، وجعلوا همهم الأكبر، وشغلهم الشاغل، العنايةَ بحصرها وضبطها، وتحرِّى الأَسناد الصحيحة في روايتها؛ حتى صاروا القدوة في هذا الشأن، إليهم تُشد الرحال، ويُقصَدون للتلقِّي عنهم من شتى الجهات، وكان منهم: نافع بن أبي نعيم بالمدينة، وعبد الله بن كثير بمكة، وعاصم بن أبي النَّجود بالكوفة، وأبو عمرو بن العلاء بالبصرة، وعبد الله بن عامر بالشام، وغيرهم ممن ذكرهم أصحاب كتب القراءات المشهورة. قال صحاب النشر: "ثم إن القراء بعد هؤلاء المذكورين كثروا، وتفرقوا في البلاد وانتشروا، وخلفهم أمم بعد أمم، عُرِفت طبقاتهم، واختلفت صفاتهم، فكان منهم المتقن للتلاوة، المشهور بالرواية والدراية، ومنهم المقتصر على وصف من هذه الأوصاف، وكثر بينهم لذلك الاختلاف، وقلَّ الضبط، واتسع الخرق، وكاد الباطل يلتبس بالحق؛ فقام جهابذة علماء الأمة، وصناديد الأئمة، فبالغوا في الاجتهاد، وبيَّنوا الحق المراد، وجمعوا الحروف والقراءات، وعزَوْا الوجوه والروايات، وميَّزوا بين المشهور والشاذ، والصحيح والفاذ، بأُصول أصَّلوها، وأركان فصَّلوها". وقد انفسخت أمام هؤلاء العلماء مجالات البحث، وتنوعت المقاصد والأغراض، وأُثِر عنهم من الكتب والآراء ما لا يدخل تحت حصر، وما زالت عناية المسلمين قائمة بهذا الفن إلى اليوم -تصنيفًا وتدريسًا ورواية- في حلقات الدروس ومختلف المعاهد.
ومن العلماء الذين صنفوا في هذا الميدان الحسن بن أحمد بن عبد الغفار المعروف بأبي علي الفارسي، أحد أعيان القرن الرابع الهجري، أزهى العصور الإسلامية، وأحفلها بصنوف المعارف والآداب والعلوم، وضع كتابه "الحجة" في الاحتجاج للقراءات السبع، وبناه على كتاب أبي بكر بن مجاهد في هذه القراءات، وكان على نيَّة أن يضع كتابًا آخر في الاحتجاج للقراءات الشاذة؛ ولكن لم تيسر له ما أراد، وحالت محاجزات الأيام بينه وبين ما اعتزم. فجاء تلميذه أبو الفتح عثمان بن جني، فقام بما هَمَّ به أستاذه ولم يفعله، وألف هذا الكتاب، وأتمه في أواخر عمره، بعد أن علت به السن، وطوى مراحل الشباب، واختار من القراءات الشاذة التي احتج لها ما كان له وجه يطمئن إليه في اللغة وأصول النحو وشواهد الشعر، أما ما عدا ذلك من القراءات فقد ردَّها وضعَّف القراءة بها، وقد رمى بتأليفه القربى إلى الله عز وجل، وابتغاء المثوبة منه، وأسماه كتاب "المحتسَب"؛ ليدل باسمه على الغرض الذي يريده به، لا على الموضوع الذي يديره عليه، كما يقول محققو الكتاب. وقد رأت لجنة إحياء التراث الإسلامي -أداءً لرسالتها في بعث الكتب الأصلية- أن تقوم بنشر هذا الكتاب؛ فعهدت إلى ثلاثة من علماء العربية القيام بتحقيق هذا الكتاب والتعليق عليه؛ وهم: الأستاذ علي النجدي ناصف صاحب البحث الواعي عن كتاب سيبويه، والمقالات العلمية التي أودعها كتابه "قضايا اللغة والنحو"، والمرحوم الدكتور عبد الحليم النجار مترجم كتاب العربية ليوهان فك ومذاهب المفسرين لجولد زيهر وتاريخ الأدب العربي لبروكلمان، وواضع التعليقات النافعة على هذه الكتب، والدكتور عبد الفتاح إسماعيل شلبي مؤلف كتاب "الإمالة في القراءات واللهجات العربية"، والبحث المستفيض الشامل عن أبي علي الفارسي. وقد قاموا بما يستحقه هذا الكتاب من مقابلة نُسَخِه، وتحرير نصوصه، وتوجيه فصوله وأبوابه، بعد أن قدَّموه بمقدمة علمية؛ في التعريف بابن جني، ومنزلة كتابه "المحتسب" بين كتب القراءات. والكتاب يقع في جزأين، وهذا هو الجزء الأول منه، ويتلوه الجزء الثاني -إن شاء الله- وعند إتمامه ستُلحق به الفهارس العامة المتنوعة، التي تيسِّر الانتفاع بالكتاب، وتكشف عن مقاصده وغاياته. ونسأل الله هداية وعونًا، وتوفيقًا ورشدًا. محمد أبو الفضل إبراهيم
مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المؤلف: ومنه سبحانه نستمد العون، ونستلهم التوفيق، وعلى نبيه ورسوله محمد نصلي ونسلم، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. وبعد: فهذه مقدمة نسوقها بين يدي المحتسَب، ونورد فيها ترجمة مجملة لصاحبه، وكلمة عن نشأة الاحتجاج للقراءات وتطوره إلى القرن الرابع، وكلمة أخرى عن الكتاب المحتسب كما عرفناه. "ابن جني" هو عثمان بن جني الأزدي بالولاء؛ إذ كان أبوه جني مملوكًا روميًّا يونانيًّا لسليمان بن فهد الأزدي، وزير شرف الدولة قراوش، ملك العرب وصاحب الموصل1. وجني -بإسكان الياء، وليس منسوبًا- معرب كني، ومعناه في العربية: فاضل، كريم، نبيل، جيد التفكير، عبقري، مخلِص2. ولا يُعرف من نسب ابن جني غير أبيه، وله شعر يذكر فيه أن الله عوَّضه من نسبه علمًا إليه يُنسب وبه يشرف، وأنه يرجع بأرومته إلى قياصرة الروم، الذين دعا النبي لهم، قال: فإن أُصبح بلا نسبٍ ... فعِلمي في الورى نسبي على أني أَءُول إلى ... قُروم سادة نُجب قياصرة إذا نطقوا ... أَرَم الدهرُ ذو الخطب3 أولاك دعا النبي لهم ... كفى شرفًا دعاء نبي وكنيته أبو الفتح، وهي الكنية التي يُجريها في كتبه، ويصدر بها في المحتسب كلامه في الاحتجاج، على نحو ما يفعل شيخه أبو علي في الحجة.
وقد وُلد ابن جني بالموصل، وفيها نشأ، وإليها ينسب، وتختلف الروايات في تاريخ ميلاده؛ فابن خلكان في الوفيات وياقوت في المعجم يذكران أن مولده كان قبل الثلاثين والثلاثمائة، وأبو الفداء في مختصره يذكر أن مولده كان سنة 302هـ. ويؤيد رواية ابن خلكان وياقوت أن ابن قاضي شهبة يقول في طبقات النحاة: إن ابن جني تُوفي وهو في سن السبعين، وقد رجحنا في موضع آخر أن وفاته كانت في سنة 392، فهذا يعني أن ولادته كانت سنة 322 أو سنة 321. وقد يؤيد رواية ابن خلكان وياقوت أيضًا ويبعد رواية أبي الفداء قصة مرور الشيخ أبي علي بابن جني سنة 337 وهو متصدر للتدريس في مسجد الموصل، ثم قولة أبي علي له: تَزبَّبتَ وأنت حِصْرِم، حين اعترض عليه في قلب الواو ألفًا في نحو: قال، فوجده مقصرًا. فأما أنها تؤيد رواية ابن خلكان وياقوت، فلأنها تقتضي أن يكون أبو الفتح إذ ذاك في الخامسة عشرة من عمره، وهي من أنسب سني العمر لمقالة أبي علي السابقة، فهي تعني أن ابن جني بجلوسه للتدريس فيها قد سبق أوانه، وتكلَّف من الأمر ما لا قِبَل لمن في مثل سنه به، وغير بعيد أن يقصِّر ابن جني في هذه السن في مسألة قلب الواو ألفًا، ولا سيما حين يكون صاحب الاعتراض فيها إمامًا من طراز أبي علي. صحيح أنه يقلُّ أن يجلس امرؤ للتدريس في الخامسة عشرة من عمره؛ ولكن نبوغ ابن جني حقيق -فيما نعتقد- أن يجعله من هذا القليل، على أنه يجوز أن يكون الأمر كله مجرد مساءلة دارت بين أبي الفتح وبعض قرنائه، وأن أبا علي اختصه بالاعتراض؛ لأنه كان يبدو بينهم المقدَّم المرموق، وفُهم الأمر بعد ذلك لسبب من الأسباب على أنه جلوس للتدريس. وأما أن هذه القصة تبعد رواية أبي الفداء، فلأنها تقتضي أن يكون أبو الفتح إذ ذاك في الخامسة والثلاثين، وما كان أبو الفتح ليقصِّر -وهو في هذه السن- في مسألة قلب الواو ألفًا، ولا لأبي علي أن يقول قولته تلك، وإلا بدت كلامًا لا مناسبة بينه وبين المقام الذي قيل فيه. وأخذ ابن جني علومه عن كثير من رواة اللغة والأدب؛ منهم: أحمد بن محمد الموصلي، وأبو جعفر محمد بن علي بن الحاج، وأبو بكر محمد بن الحسن بن مقسم، ثم أبو علي الفارسي. وقد صحبه ابن جني بعدما التقيا بالموصل سنة 337، ولازمه في السفر والحضر1.
وتذكر كتب التراجم أنه كان لأبي الفتح ثلاثة أولاد: علي، وعال، وعلاء. وقد أخذوا جميعًا عن أبيهم وتخرجوا عليه. ويتردد اسم عال وحده في كتب الطبقات، ولا يذكر ياقوت أنه أخذ عن أبي علي، وكذلك السيوطي في البغية؛ لكن القفطي يعده ممن أخذ العربية عن أبيه وعن أبي علي. ويبدو أن أبا الفتح كان يعاني مع أسرته من هموم الحياة وتصاريفها، قال في خطبة المحتسب بعد أن ذكر ما كان عليه الشيخ أبو علي "من خلو سِربه، وإنبتات علائق الهموم عن قلبه": "ولعل الخطرة الواحدة تخرق بفكري أقصى الحجب المتراخية عني في جمع الشتات من أمري، ودَمْل العوارض الحائجة لأحوالي، وأشكر الله ولا أشكوه، وأسأله توفيقًا لما يرضيه". ويروي القِفطي في الإنباه أن ابن جني تُوفي سنة ثنتين وسبعين وثلثمائة1، ثم يعود فيذكر أنه خدم البيت البويهي: عضد الدولة، وولده صمصام الدولة، وولده شرف الدولة، وولده بهاء الدولة. وفي زمانه مات، وكان يلازمهم في دُورهم ويبايتهم2. ومعلوم أن بهاء الدولة إنما ملك من سنة "379" إلى سنة "403" 3، وقد أهدى إليه أبو الفتح كتاب الخصائص. ولهذا نرجح أن كلمة "سبعين" التي وردت في قول القفطي: "ثنتين وسبعين وثلاثمائة" محرفة عن كلمة "تسعين"، وأن وفاة أبي الفتح كانت سنة 392، وعلى هذا يكاد يجمع الرواة. وكانت وفاته في بغداد، ودُفن في مقابرها، رحمه الله. وقد أُحصي له في مقدمة الخصائص تسعة وأربعون كتابًا، ومع كل كتاب كلمة عنه. ونضيف هنا أن كتابه المسمى بالتمام في تفسير أشعار هذيل مما أغفله أبو سعيد السكري قد نُشر في بغداد سنة 1381هـ، سنة 1962م.
الاحتجاج للقراءات
الاحتجاج للقراءات: بدأ الاحتجاج للقراءات أول العهد به غضًّا يسيرًا، كدأب كل ناشئ يقبل النمو والتطور، فكان قليلًا مفرَّقًا لا يستوعب قراءة بعينها ولا عددًا من القراءات، وكان يعتمد على القياس وحمل القراءة على قراءة أخرى لمشابهة بينهما، إما في مادة اللفظ المختلَف في قراءته، وإما في بنيته، ثم أخذ يتجه مع ذلك إلى التخريج والاستشهاد. فابن عباس -المتوفَّى سنة 68هـ- يقرأ: "نَنْشُرُها" بالنون المفتوحة والراء1، من قوله تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} 2، ويحتج لقراءته بقوله تعالى: {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} 3. وعاصم الجحدري -المتوفَّى سنة 128هـ- يقرأ: "مَلِكِ يوم الدين" بغير ألف، ويحتج على من قرأها "مالك" بالألف، فيقول: يلزمه أن يقرأ: "أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، مَالِكِ النَّاسِ"4. وعيسى بن عمر -المتوفَّى سنة 149- يقرأ: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} 5 بنصب الطير، ويقول: هو على النداء. ويروون أن الكسائي قرأ أمام حمزة بن حبيب: "فَأَكَلَهُ الذِّيبُ"6 بغير همز، فقال حمزة: "الذئب" بالهمزة، فقال الكسائي: وكذلك أَهمز الحوت "فالتقمه الْحُؤت"؟ 7 قال: لا، قال: فلِمَ همزت "الذئب" ولم تهمز "الحوت"، وهذا "فأكله الذئب"، وهذا "فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ"؟ فرفع حمزة بصره إلى خلاد الأحول.... فتقدم إليه في جماعة من أهل المجلس فناظروه فلم يصنعوا شيئًا، فقالوا: أفدنا رحمك الله! فقال لهم الكسائي: ... تقول إذا نسبت الرجل إلى الذئب: قد استذأَب الرجل، ولو قلت: قد استذاب بغير همز لكنت إنما نسبته إلى الْهُزال، تقول: قد استذاب الرجل إذا استذاب شحمه بغير همز، فإذا نسبته إلى الحوت تقول: قد استحات الرجل؛ أي: كثر أكله؛
لأن الحوت يأكل كثيرًا، ولا يجوز فيه الهمز، فلهذه العلة هُمز الذئب ولم يهمز الحوت. وفيه معنى آخر: لا يسقط الهمز من مفرده ولا من جمعه، وأنشدهم: أيها الذئب وابنه وأبوه ... أنت عندي من أذؤب ضاريات1 ويكثر سيبويه المتوفَّى سنة 180 في كتابه من المفاضلة والاحتجاج لبعض القراءات التي قُرئت بها شواهده من القرآن الكريم، وأكثر معوَّله في ذلك على العربية ومبلغ القراءة التي يعرض لها من الموافقة للكثير الشائع من الأساليب واللغات، وعلى تحليل النص لإبراز معناه وإيضاح ما قد يكون بينه وبين أشباهه من فروق. فيقول في باب الحروف الخمسة التي تعمل فيما بعدها كعمل الفعل فيما بعده: "وحدثنا من نثق به أنه سمع من العرب مَن يقول: إِنْ عمرًا لمنطلق، وأهل المدينة يقرءون: "وَإِنْ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ" يخففون وينصبون، كما قالوا: كأَنْ ثدييه حقان وذلك لأن الحرف بمنزلة الفعل، فلما حذف من نفسه شيء لم يغير عمله كما لم يغير عمل: لم يك، ولم أبل، حين حذف. وأما أكثرهم فأدخلوها في حروف الابتداء بالحذف كما أدخلوها في حروف الابتداء حين ضموا إليها ما"2. وقال في باب الفاء: "وقال عز وجل: {فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ} فارتفعت لأنه لم يخبر عن الملَكين أنهما قالا: لا تكفر فيتعملون؛ ليجعلا كفره سببًا لتعليم غيره؛ ولكنه على كفروا فيتعلمون، ومثله: {كُنْ فَيَكُونُ} ، كأنه قال: إنما أمرنا ذاك فيكون"3. وفي كتب معاني القرآن تخريجات لاختلاف الإعراب، واحتجاج لوجوه هذا الاختلاف، ونذكر على سبيل المثال كلام أبي يحيى زكريا الفراء -المتوفَّى سنة 207- عن آية: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ} 4، وآية: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} 5. وبدا لبعض القراء أن يجمعوا القراءات المختلفة، ويبحثوا عن أسنادها، فكان هارون بن موسى الأعور -المتوفَّى قبل سنة 200- أول مَن سمع بالبصرة وجوه القراءات، وألَّفها، وتتبع الشاذ منها، فبحث عن أسناده فيما يقول عنه أبو حاتم السجستاني6.
وألَّف يعقوب بن إسحاق الحضرمي -المتوفَّى سنة 205- كتابًا سماه الجامع، جَمَعَ فيه عامة اختلاف وجوه القرآن، ونَسَبَ كل حرف إلى مَن قرأ به فيما يقول الزبيدي1. ويقول ابن الجزري في النشر عن أبي عبيد القاسم بن سلام المتوفَّى سنة 224هـ: إنه كان أول إمام معتبر جمع القراءات في كتاب، وجعلها فيما أحسب خمسًا وعشرين قراءة مع السبعة2. ويقول ابن النديم عن محمد بن يزيد المبرد المتوفَّى سنة 285: إنه ألف فيما ألف كتاب احتجاج القراءة3. ثم يجيء أبو بكر بن مجاهد -المتوفَّى 324هـ- فيؤلف كتابه الموسوم بقراءات السبعة، فيكون هو أول من سبَّع السبعة كما يقولون4، فأوحى كتابه هذا إلى العلماء بدراسات شتى تدور عليه أو تتصل به. أ- فشرع أبو بكر محمد بن السري -المتوفَّى سنة 316- في تأليف كتاب يحتج فيه للقراءات الواردة في كتاب ابن مجاهد، فأَتَمَّ سورة الفاتحة، وجزءًا من سورة البقرة، ثم أمسك5. ب - وألف أبو ظاهر عبد الواحد البزار -المتوفَّى سنة 349هـ- كتاب الانتصار لحمزة6. ج- وألف محمد بن الحسن الأنصاري -المتوفَّى سنة 351هـ- كتاب السبعة بعللها الكبير7. د- وألف أبو بكر محمد بن الحسن بن مِقسم العطار المتوفَّى سنة 362هـ: 1- كتاب احتجاج القراءات. 2- كتاب السبعة بعللها الكبير. 3- كتاب السبعة الأوسط. 4- كتاب السبعة الأصغر8. هـ - وألف أبو علي الفارسي -المتوفَّى سنة 377- كتاب الحجة في الاحتجاج للقراءات السبعة. و ويجيء ابن جني -المتوفَّى سنة 392- فيوحي إليه كتاب الحجة بالاحتجاج للقراءت الشاذة. وبعد، فكأنما كان تأليف القراء الكتب في جمع القراءات ونسبتها والبحث عن أسنادها داعيًا لعلماء اللغة أن يؤلفوا الكتب في الاحتجاج لها، فقد مُهدت أمامهم السبيل، ومُدت لهم الأسباب، فكان جمع القراءات الخطوة الأولى والاحتجاج لها الخطوة التالية، والله أعلم.
مقدمة الكتاب
مقدمة الكتاب "الْمُحْتَسَبُ": ألَّف ابن مجاهد على رأس المائة الثالثة من الهجرة كتاب القراءات السبعة1؛ فانقسمت القراءات إلى شاذة وغير شاذة، وغلب وصف الشاذ على ما عدا القراءات السبع. وبدا لأبي علي الفارسي أن يحتج للقراءات السبع؛ فألف كتابه الحجة، وفكَّر بعضَ الوقت أن يؤلف كتابًا مثله يحتج فيه للقراءات الشاذة؛ بل إنه فيما يقول ابن جني في مقدمة المحتسب: "قد هَمَّ أن يضع يده فيه ويبدأ به؛ فاعترضت خوالج هذا الدهر دونه، وحالت كبَواته بينه وبينه". من أجل هذا تجرد ابن جني للقراءات الشاذة ينوب عن شيخه في الاحتجاج لها، ويؤدي حقها عليه، كما أدى شيخه حق القراءات غير الشاذة عليه؛ إذ كانت داعية الاحتجاج للنوعين ثابتة، والاستجابة لها لازمة؛ بل لعل داعية الاحتجاج للشاذ أثبت، والاستجابة لها ألزم. قال في المقدمة يشرح غرضه من الاحتجاج للشاذ: " ... غرضنا منه أن نرى وجه قوة ما يسمى الآن شاذًّا، وأنه ضارب في صحة الرواية بجرانه، آخذ من سَمت العربية مهلة ميدانه؛ لئلا يُرَى مرى أن العدول عنه إنما هو غض منه أو تهمة له". ويقول في موضع آخر منها يبين رأيه في الشاذ ومكانه عند الله: ".... إلا أننا وإن لم نقرأ في التلاوة به مخافة الانتشار فيه، ونتابع مَن يتبع في القراءة كل جائز رواية ودراية، فإنا نعتقد قوة هذا المسمى شاذًّا، وأنه مما أمر الله تعالى بتقبُّله، وأراد منا العمل بموجبه، وأنه حبيب إليه، ومرضي من القول لديه". وزاده رغبة في الإقبال على الشاذ والاحتجاج له أن أحدًا من أصحابه لم يتقدم للاحتجاج له على النحو الذي يريد، قال: "فإذا كانت هذه حاله عند الله ... وكان مَن مضى من أصحابنا لم يضعوا للحجاج كتابًا فيه، ولا أَوْلَوه طرفان من القول عليه؛ وإنما ذكروه مرويًّا مسلَّمًا
مجموعًا أو متفرقًا، وربما اعتزموا الحرف منه فقالوا القول المقنع فيه ... حسُن بل وجب التوجه إليه، والتشاغل بعمله، وبسط القول على غامضه ومشكله". فبذلك كان المحتسب في الاحتجاج لشواذ القراءات، ألفه أبو الفتح وقد عَلَت به السن، وأشرف على نهاية العمر، قال الشريف الرضي: كان شيخنا أبو الفتح النَّحْوِي عمل في آخر عمره كتابًا يشتمل على الاحتجاج بقراءة الشواذ1. وقال أبو الفتح في مقدمة المحتسب: "وإن قصرت أفعالنا عن مفروضاتك وصلتها برأفتك بنا، وتلافيتنا من سيئات أنفسنا، ما امتدت أسباب الحياة لنا، فإذا انقضت علائق مُددنا، واستُوفي ما في الصحف المحفوظة لديك من عدد أنفاسنا، واستُؤنفت أحوال الدار الآخرة بنا؛ فاقبلنا إلى كنز جنتك التي لم تُخلق إلا لمن وسع ظل رحمتك". وهذا كلام قلما يقوله إلا امرؤ غلب عليه التفكير في الآخرة، واستبد به حب التزود لها؛ لأنه يشعر أنه منيته قد دنت، وأن حياته قد آذنت بزوال، فهو يتخشع لله، ويبتغي إليه الوسيلة؛ عسى أن يثيبه الله مغفرة منه ورضوانًا، ولعله لذلك سماه المحتسب، واختار أن يدل باسمه على الغرض الذي يريده به، لا على الموضوع الذي يديره عليه. ومنهج المحتسب كمنهج الحجة، لا يكاد يخالفه إلا بمقدار ما تقتضيه طبيعة الاحتجاج لقراءة الجماعة والقراءة الشاذة، فأبو الفتح يعرض القراءة، ويذكر مَن قرأ بها، ثم يرجع في أمرها إلى اللغة، يلتمس لها شاهدًا فيرويه، أو نظيرًا فيقيسها عليه، أو لهجة فيردها إليها ويؤنسها بها، أو تأويلًا أو توجيهًا فيعرضه في قصد وإجمال، أو تفصيل وافتنان، على حسب ما يقتضيه المقام، ويتطلبه الكشف عن وجه الرأي في القراءة. وهو في الجملة أَخْذ بها واطمئنان إليها، وربما وقع في نفسك من كثرة ما عدَّد من خصائصها، واستخرج من لطفائها أنه يؤثرها ويحكم لها على قراءة الجماعة، كما في الاحتجاج لقراءة الحسن: "اهدنا صراطًا مستقيمًا"2. وإن هو لم يجد للقراءة وجهًا يسكن إليه؛ إما لشذوذه في اللغة، وإما لحاجته في الاحتجاج إلى ضرب من التكلف والاعتساف، لم يتحرج أن يردها أو يضعف القراءة بها، لا يكاد يأخذها هي نفسها بهذا أو ذاك؛ ولكن يأخذ به الوجه الذي يتجه بها إليه، فهو أَخْذ غير مباشر ولا صريح. فقال مثلًا في الاحتجاج لقراءة ابن مُحَيْصِن: "ثُمَّ أَطَّرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ"3 بإدغام الضاد في
الطاء: "هذه لغة مرذولة". وقال في الاحتجاج لقراءة أبي جعفر يزيد: "لِلْمَلائِكَةُ اسْجُدُوا"1 بضم التاء: "هذا ضعيف عندنا جدًّا". وليس عجيبًا ولا منكورًا أن يتشابه الكتابان في المنهج على هذا النحو؛ فموضوعهما واحد، وصاحب الحجة أستاذ لصاحب المحتسب، ووَحْدَةُ الموضوع تستدعي تشابهًا في علاج مسائله، وللأستاذ في تلميذه تأثير، وللتلميذ في أستاذه قدوة. ولهذا كان المحتسب -كما كانت الحجة- معرضًا حافلًا، يزخر بكثير من الشواهد والتوجيهات، وألوان من الآراء والبحوث اللغوية والصوتية، التي تدل على الغزارة والتمكن، وعلى شمول الإحاطة، ودقة الملاحظة، وبراعة القياس، وصحة الاستنباط. وليس هذا بكثير على أبي الفتح، ولا هو مما يتعاظمه، فذلك دَأْبُه في كل ما عرفنا له من كتب، ثم هو بعد هذا قد ألف المحتسب في آخر حياته -كما سبق- أي: حين استفاضت تجاربه، واستحصدت مَلَكَاته، وبلغت معارفه غاية ما قُدر لها من نضج واكتمال. على أن ابن جني كان يأخذ على الحجة أن الشيخ أبا علي قد أغمضه، وأطال الاحتجاج فيه؛ حتى عيَّ به القراء، وجفا عنه كثير من العلماء. قال في مقدمة المحتسب: "فتجاوز فيه قدر حاجة القراء إلى ما يجفو عنه كثير من العلماء"، وقال في الاحتجاج لقراءة "تمامًا على الذي أحسنُ"2: وقد كان شيخنا أبو علي عمل كتاب الحجة في قراءة السبعة، فأغمضه وأطاله حتى منع كثيرًا ممن يدِّعي العربية فضلًا عن القَرأَة وأجفاهم عنه". فلم يشأ أن يكون في المحتسب كما كان شيخه من قبله في الحجة؛ لهذا لا تراه يُكثر مثله من الشواهد، ولا يمعن إمعانه في الاستطراد، ولا يغمض إغماضه في الاحتجاج، وهو يذكر هذا وينبه عليه في مواطن شتى من الكتاب. فيقول في الاحتجاج لقراءة "لا تنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا"3: "والشواهد على ذلك كثيرة؛ لكن الطريق التي نحن عليها مختصرة قليلة قصيرة". ويقول في الاحتجاج لقراءة "فَأَكْثَرْتَ جِدَلَنَا"4: ولولا أن القراء لا ينبسطون في هذه الطريق لنبهت على كثير منه؛ بل إذا كان منتحلو
هذا العلم والمترسمون به قلما تطوع1 طباعهم لهذا الضرب منه.... فما ظنك بالقراء لو جُشموا النظر فيه والتقري لِعَزْوره2 ومطاويه؟ ولعزوف ابن جني عن الإسهاب والإمعان في الاستطرد نراه في مقدمة المحتسب يفضل كتاب أبي حاتم السجستاني في الشواذ على كتاب قطرب "من حيث كان كتاب أبي حاتم مقصورًا على ذكر القراءات، عاريًا من الإسهاب في التعليل والاستشهادات التي انحط قطرب فيها، وتناهى إلى متباعد غاياتها". على أن أبا الفتح -أحسن الله إليه- لم يلتزم الاقتصاد في الاستشهاد في كل مقام، ولا سيما حين تكون القراءة غريبة، يدعو ظاهرها إلى التناكر لها والتعجب منها. فقد استشهد في قراءة: "اهدنا صراطًا مستقيمًا" بعشرة شواهد، بعضها من شعر المولدين، واحتج لقراءة: "وَلا أَدْرَأتُكُمْ بِهِ" فأطال الاحتجاج ما شاء الله أن يطيل، ثم ختمه بقوله: وهذا وإن طالت الصنعة فيه أمثل من أن تُعطَى اليد بفساده. وعبارة المحتسب مرسلة متدفقة، فيها طلاوة بادية، وعليها مسحة ملازمة من عذوبة الفن وأناقته، مبسوطة في غير حشو ولا فضول، يشيع فيها الازدواج، ويطول الفصل، جزلة الألفاظ، لا تخلو أحيانًا من بعض الغريب الذي يحتاج في الكشف عن معناه الذي يقتضيه المقام إلى فضل تأَوُّل وإمعان، وفي مقدمة الكتاب أمثلة له متفرقة. أما شواهد المحتسب فكثيرة؛ لكن يشيع فيها التَّكْرَار؛ لتكرر مقتضيات الاستشهاد بها، وجملتها من الشعر، وفيها قليل من حديث الرسول وكلام البلغاء والأمثال السائرة، وطريقته في إيرادها لا تخالف طريقة العلماء الآخرين؛ فهو ينسب بعضها ولا ينسب بعضها الآخر، ويرويها في أكثر الأمر أبياتًا كاملة، وفي أقله أجزاء من الأبيات، يبلغ أحدها شطر البيت، وقد يقل عنه أو يزيد عليه، وربما روى الشاهد مع بعض صلته، فإذا هو معها بضعة أبيات. وأكثر شواهده مما يتردد في كتب اللغة وعلومها، وبينها طائفة من أشعار المولدين، يأتي بها للاستئناس والتمثيل، أو لإيضاح المعنى وتأييده، قال وقد روى بيتًا للمتنبي في أثناء الاحتجاج لقراءة "وَلِيَلْبَسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ"3 بفتح الباء: "ولا تقل ما يقوله مَن ضعفت نحيزته، وركت طريقته: هذا شاعر محدث، وبالأمس كان معنا، فكيف يجوز أن يُحتج به
في كتاب الله -جل وعز- فإن المعاني لا يرفعها تقدُّم، ولا يُزري بها تأخر. أما الألفاظ، فلعمري إن الموضع معتبر فيها". ومصادر المحتسب -كما يقول في المقدمة- نوعان: كتب يأخذ منها، وروايات صح لديه الأخذ بها. فأما الكتب فهي: 1- كتاب أبي بكر أحمد بن موسى بن مجاهد، الذي وضعه لذكر الشواذ من القراءة. 2- كتاب أبي حاتم سهل بن محمد بن عثمان السجستاني. 3- كتاب أبي علي محمد بن المستنير قطرب. 4- كتاب المعاني للزجاج. 5- كتاب المعاني للفراء. وأما ما صح عنده الأخذ به مما يرويه عن غيره فيقول عنه: "لا نألو فيه ما تقتضيه حال مثله من تأدية أمانته، وتحرِّي الصحة في روايته". وقد نقل عن طائف من رواة اللغة وعلمائها، وسنقصر الكلام على نقله عمن يبدو أثرهم في الكتاب، ويكثر ذكرهم فيه. ولم يكن ابن جني يتقبل كل ما ينقله أو يأخذه على ما خيلت؛ ولكنه كان ينظر فيه وينقده، في تلطف ورفق حينًا، وفي قوة وعنف حينًا آخر، صريحًا واضحًا، وحُرًّا مستقلًّا، وعادلًا منصفًا في كل حين، ينشد الحقيقة وينزل على حكمها أنَّى تكون. لقد نقل عن سيبويه واستشهدج بكثير من شواهده، فوافقه وخالفه، وربما جاوز الوفاق إلى الدفاع، وجاوز الخلاف إلى الإنكار والملام، كما في الاحتجاج لقراءة: "وَيُعَلِّمْهُمُ الْكِتَابَ"1 بسكون الميم، فقد أورد قول امرئ القيس: فاليوم أَشربْ غير مستحقِب ... إثمًا من الله ولا واغل ثم قال: "وأما اعترض أبي العباس هنا على الكتاب، فإنما هو على العرب لا علي صاحب الكتاب؛ لأنه حكاه كما سمعه، ولا يمكن في الوزن أيضًا غيره. وقول أبي العباس: إنما الرواية "فاليوم فاشرب"، فكأنه قال لسيبويه: كذبتَ على العرب، ولم تسمع ما حكيت عنهم! وإذا بلغ الأمر هذا الحد من السرَف؛ فقد سقطت كلفة القول معه".
وكما في الاحتجاج لقراءة عيسى بن عمر "عَلَى تَقْوًى مِنَ اللَّهِ"1 بالتنوين، فقد رَوى أن سيبويه سُئل عن وجه التنوين هنا فقال: لا أدري، ولا أعرفه، وقال ابن جني يبين الوجه: "وأما التنوين فإنه وإن كان غير مسموع إلا في هذه القراءة، فإن قياسه أن تكون ألفه للإلحاق لا للتأنيث ... وكان الأشبه بقدر سيبويه ألا يقف في قياس ذلك، وألا يقول: لا أدري ... فأما يقول سيبويه: لم يقرأ بها أحد فجائز -يعني: فيما سمعه- لكن لا عذر له في أن يقول: لا أدري". ونقل عن شيخه أبي علي الفارسي، فرَوى مما أنشده إياه من شواهد، وما أخذه عنه من أصول، ما انتهيا إليه من رأي في المسائل التي دار بينهما فيها حوار ومساءلة، يعرض كل أولئك في صراحة وأمانة، ثم يختم النقل ويعقب عليه بما قد يكون عنده من مزيد. فتراه مثلًا يقول: أنشدنا أبو علي.....، أو حدثني أبو علي، أو وهذا أخذناه عن أبي علي، ثم يقول: هذا آخر الحكاية عن أبي علي، وينتقل إلى إضافة ما يريد أن يضيف، مما يستقل به من رأي، فتراه مثلًا يقول: "ينبغي أن يُعلم ما أذكره"، أو: "وفيه عندي شيء لم يذكره أبو علي ولا غيره من أصحابنا"، أو: "ووجه ذلك عندي ما أذكره"، أو نحو ذلك مما يتردد كثيرًا في مواضع مختلفات من المحتسب. ونقل عن الكسائي فأُعجب به وأَنكر عليه؛ ففي الاحتجاج لقراءة: "وَمَا يُخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ"2 بضم الياء وفتح الدال يقرر أنها جاءت "على خدعَتْه نفسه لما كان معناه معنى انتقصته نفسه أو تخونته نفسه، ورأيت أبا علي يذهب إلى استحسان مذهب الكسائي في قوله: إذا رضِيت عليَّ بنو قُشير ... لعمر الله أعجبني رضاها لأنه قال: عدَّى رضيت "بعلى" كما يعدَّى نقيضها وهي سخطت به، وكان قياسه رضيت عني، وإذا جاز أن يُجرى الشيء مجرى نقيضه فإجراؤه مجرى نظيره أسوغ، فهذا مذهب الكسائي، وما أحسنه! وفي الحديث عن قراءة يعقوب: "وَيْكَ أَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ"3 بالوقف على "ويك" والابتداء "بأنه"، يقول بعد أن أورد بيت عنترة: ولقد شفى نفسي وأَبرأَ سُقْمَها ... قيل الفوارس ويك عنتر أقدم
وقال الكسائي فيما أظن: أراد ويلك، ثم حذف اللام، وهذا يحتاج إلى خَبَرِ نبي ليُقبل". ونقل عن ابن مجاهد فوثق به في النقل والرواية، وتعقبه في اللغة بالإنكار والمخالفة، فيقول في المقدمة عن كتابه في الشواذ: " ... أَثبتُ في النفس من كثير من الشواذ المحكية عمن له روايته ولا توفيقه ولا هدايته". وينقل تفسيره لقراءة: "ولا يَوُوده حِفظها"1 بلا همز، ثم يقول: "خلَّط ابن مجاهد في هذا التفسير تخليطًا ظاهرًا، غير لائق بمن يعتد إمامًا في روايته، وإن كان مضعوفًا في فقاهته". وينقل قراءة يحيى وإبراهيم السلمي: "أَفَحُكْمُ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ"2 بالياء ورفع الميم، وينقل معها قول ابن مجاهد فيها: وهو خطأ، ثم يقول: قول ابن مجاهد إنه خطأ فيه سرف؛ لكن وجه غيره أقوى منه. وينقل قراءة: "أنبهم" بوزن أعطهم، قراءة "أنبيهم" بلا همز، وقراءة "أنبئهم"3، وينقل معها أيضًا قول ابن مجاهد فيها: وهذا لا يجوز، ثم يمضي في الاحتجاج لهذه القراءات، والتماس الوجه لكل منها، حتى إذا بلغ من ذلك غايته قال: فقد علمت بذلك أن قول ابن مجاهد: هذا لا يجوز، لا وجه له؛ لما شرحناه من حاله، ورحم الله أبا بكر، فإنه لم يأْل فيما علمه نصحًا، ولا يلزمه أن يُري غيره مالم يُره الله تعالى إياه. وسبحان قاسم الأزراق بين عباده، وإياه نسأل عصمة وتوفيقًا وسدادًا بفضله. ورأَيْنَا ابن جني في المحتسب يأخذ ببعض ما لم يرَ الأخذ به في الخصائص، فإذا هو بذلك لا يخالف رأيًا له وحسب؛ ولكنه يخالف مذهبه النحوي أيضًا. قال في الخصائص: وسمعت الشجري أبا عبد الله غير دفعة يفتح الحرف الحلقي في نحو يعدو وهو محموم، ولم أسمعها من غيره من عُقيل؛ فقد كان يَرِد علينا منهم من يؤنس به ولا يبعد عن الأخذ بلغته، وما أظنُّ الشجري إلا استهواه كثرة ما جاء عنهم من تحريك حرف الحلق بالفتح إذا انفتح ما قبله في الاسم على مذهب البغداديين ... وهذا قاسه الكوفيون، وأن كنا نحن لا نراه قياسًا؛ لكن مثل يعدو وهو محموم لم يُروَ عنهم فيما علمت4. وقال في المحتسب في الاحتجاج لقراءة "إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرَحٌ"5 بفتح القاف والراء: قَرْح
وقَرَح كالحلْب والحلَب.... وفيه أيضًا قُرْح على فُعْل، يقرأ بهما جميعًا، ثم لا أبعد من بعد أن تكون الحاء لكونها حرفًا حلقيًّا يفتح ما قبلها كما تفتح نفسها فيما كان ساكنًا من حروف الحلق، نحو قولهم في الصخْر: الصَّخَر ... ولعمري إن هذا عند أصحابنا ليس أمرًا راجعًا إلى حرف الحلق؛ لكنها لغات. وأنا أرى في هذا رأي البغداديين في أن حرف الحلق يُؤَثر هنا من الفتح أثرًا معتدًّا معتمدًا، فلقد رأيت كثيرًا من عُقيل لا أحصيهم تُحرك من ذلك ما لا يتحرك أبدًا لولا حرف الحلق، وهو قول بعضهم: نحَوه، يريد: نحوه، وهذا ما لا توقف في أنه أمر راجع إلى حرف الحلق؛ لأن الكلمة بنيت عليه ألبتة، وبعد أن دلل على ذلك، وذكر ما سمعه من الشجري قال: ولا قرابة بيني وبين البصريين؛ لكنها بيني وبين الحق، والحمد لله. وقد سمع ابن جني من عرب عُقيل، ونقل عمن يثق بعربيته منهم إلى المحتسب وغيره، كما فعل سيبويه من قبل؛ فتراه يقول في المحتسَب مثلًا: حضرني قديمًا بالموصل أعرابي عُقيلي، أو رأيت كثيرًا من عُقيل لا أحصيهم، أو سمعت غلامًا حدثًا من عُقيل ... وهكذا. ويبدو أن سبب اختصاصه بني عُقيل بالأخذ والرواية أنهم كانوا بالكوفة والبلاد الفراتية والجزيرة والموصل، هاجروا إليها بعدما غُلبوا على مساكنهم في البحرين1. وأفاد ابن جني في الاحتجاج للشواذ من لهجات القبائل، يرجع إليها ويُخرِّج على مقتضاها؛ ولهذا ورد في المحتسب كثير منها. وقد أفرد المرحوم الأستاذ تيمور ثبتًا لهذه اللهجات في صدر كل جزء من جزأي نسخة المحتسب المحفوظة في خزانته، رحمه الله. ويذكرابن جني في المحتسب طائفة من أصول العربية وقواعدها العامة: من لغوية ونحوية وعروضية، دعته دواعي الاحتجاج وتأييد الرأي إلى إيرادها في مواطن شتَّى من الكتاب؛ من مثل: العرب إذا انطقت بالأعجمي خلَّطت فيه2، ويجوز مع طول الكلام ما لا يجوز مع قصره3، ووقوع الواحد موقع الجماعة فاش في اللغة4، والخطاب بالتاء أذهب في قوة الخطاب5، والقوافي حوافر الشعر، وتشبع العرب
مدات التأسيس والردف والوصل والخروج عناية بالقافية؛ إذ كانت للشعر نظامًا، وللبيت اختتامًا1، والأمثال تجري مجرى المنظوم في تحمل الضرورة2. وفي الكتاب كذلك عرض لبعض مسائل البلاغة؛ ففي الاحتجاج لقراءة ابن عباس: "إني أراني أعصر عِنَبًا"3 كلام عن بعض صور المجاز المرسل، وفي الاحتجاج لقراءة: "وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا"4 كلام عن نظم الأسلوب وعَلاقته بإرادة ناظمه، وفي الاحتجاج لقراءة: "اهْدِنَا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا"5 كلام عن التجريد، وهكذا. فرضي الله عنك يا أبا الفتح، وأثابك بما صنعت في المحتسب لكتابه ولغة نبيه، لقد أعملت فيه عبقريتك، وبذلت له من جُهْدك ما شاء الله أن تبذل؛ حتى استوى بين يديك سِفْرًا جليلًا، وظل على الزمان ذكرًا حميدًا وأثرًا باقيًا. علي النجدي ناصف، عبد الحليم النجار، عبد الفتاح شلبي
النسختان اللتان اعتمدنا عليهما في تحقيق المحتسب
النسختان اللتان اعتمدنا عليهما في تحقيق المحتسب: اعتمدنا في تحقيق المحتسب على نسختين: أولاهما: نسخة دار الكتب المصرية برقم 78، قراءات، وتاريخ نسخها سنة 528، وعدد أوراقها 169 ورقة، كتبت بخط مغربي، وتشتمل الصفحة الواحدة على 26 سطرًا، ويحتوي السطر الواحد في المتوسط على سبع عشرة كلمة، وفي الزاوية اليمنى من صفحة العنوان سبعة أسطر على هيئة مثلث قاعدته إلى أعلى، ورأسه إلى أسفل، والأسطر السبعة على النحو الآتي: وإلى اليسار من هذا المثلث، وفي محاذاة السطر الثاني منه كتبت كلمتا: "مكتوب بآخره"، ثم طُبع بخاتم لم نتبينه. وإلى اليمين من هذا الخاتم وفوق المحتسب من عنوان الكتاب ما يأتي: "بفتح السين كما ضبطه ... "، وبقية الكلام لم نتبينه لانطماسه بالخاتم المذكور. وإلى اليسار من أعلى هذا الخاتم، ومن وسطه الملاصق له عبارة لنا منها: من كتب ... المدني، وبقية الكلمات لم نتبينها لعدم ظهور بعضها، ولترميج بعضها الآخر. وفي طرف الجانب الأيسر من الخاتم تمليك في ثلاثة أسطر: من كتب عبد ... أحمد بن محمد .... .... .... والمحذوف لم نتبينه.
وتحت هذا التمليك كلمتا: نعمان الحسنى في سطرين، وعبارة: "ثم صار في محاز أحمد باحسن كان الله له آمين" في أربعة أسطر. وفي أسفل الختم عنوان الكتاب واسم مؤلفه في ثلاثة أسطر على النحو الآتي: الكتاب المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها. تأليف أبي الفتح عثمان بن جني النحوي رحمه الله، ويلي هذا ما كتبه الطاهر السلفي بخطه، وهذا نصه: قرأ عليَّ هذا الكتاب الفقيه الأَجل العالم البر عبد الله محمد بن الحسن بن محمد بن سعيد الداني المقرئ حرسه الله من هذا النوع، وأنا أنظر في أصل كتاب أبي الحسن نصر بن عبد العزيز بن نوح الشيرازي الذي عليه خط علي بن زيد القاساني بسماعه، وكان يرويه عن مؤلفه أبي الفتح. وقرأت أنا علَى مرشد بن علي بن القاسم المدني من أوله إلى ابتداء سورة المائدة، وأجاز لي رواية باقيه عنه كما أجازه له شيخه أبو الحسين الشيرازي عن القاساني عن مصنفه، وحضر قراءته من فقهاء الأندلس وغيرهم نفر لم يكمل لأحد منهم سماع جميع الكتاب سوى ولده النجيب أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن الحسن المقرئ وفقه الله تعالى. وقد سمعا عليَّ أيضًا كتاب المحدِّث الفاصل بين الراوي والواعي، وهو كتاب مفيد في علم الحديث، أخبرنا به أبو الحسين المبارك بن عبد الجبار بن أحمد الصيرفي ببغداد أنا أبو الحسن علي أحمد بن علي الفالي، أنا أبو عبد الله أحمد بن إسحاق بِزَخَرْ باذ النهاوندي، أنا القاضي أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الرامهرمزي مؤلفه. وكتاب نكت إعجاز القرآن الذي أخبرنا به أبو عبد الله محمد بن بركات بن هلال النحوي، أنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن ميمون النصيبي الكاتب، أنا أبو الحسن علي بن عيسى الرماني مؤلفه. وكتاب بيان إعجاز القرآن الذي أخبرنا به ابن بركات أنا سعيد بن علي الزنجاني أبو القاسم الصيدلاني الثقفي، أنا علي بن الحسن السجزي، أنا أبو سيلمان الخطابي. وكتاب الجمعة وفضلها، ومسند عائشة تأليف القاضي أبي بكر أحمد بن علي بن سعيد المروزي، أخبرنا به مرشد بن علي المديني، أنا علي بن محمد بن علي الفارسي، أنا أبو أحمد عبد الله بن محمد بن المفسر الدمشقي، أنا المروزي. وكتاب العلم الذي انتقاه عبد الغني بن سعيد الحافظ من حديث أبي بكر أحمد بن محمد بن أبي عيد المهندس، أخبرنا مرشد أنا عبد الملك بن
عبد الله بن مسكين، أنا المهندس. وكتاب الأربعين في الخطب والمواعظ، أخبرنا به القاضي أبو نصر بن علي بن وَدْعان الموصلي مؤلفه. والمجالس الخمسة التي أمليتها أنا بسَلَماس1 سنة ست وخمسمائة، وغير ذلك من الأجزاء المنثورة. وأجزت لهما جميع ما يصح عندهما من مسموعاتي ومجموعاتي، وأذنت لهما في رواية ذلك عني على الشرائط المرعية في الإجازات الشرعية. وكتب أحمد بن محمد بن محمد بن إبراهيم السلفي2 الأصبهاني بالإسكندرية في صفر سنة ثمان وعشرين وخمسمائة حامدًا لله ومصليًا على رسوله وآله وصحبه وأزواجه. وقد جعلنا هذه النسخة أصلًا. وأما النسخة الأخرى التي استعنا بها، فهي محفوظة بدار الكتب المصرية قراءات 252، وهي في مجلد واحد، عدد صفحاته 854 صفحة، وتم نسخها في 19 من ذي الحجة سنة 1335هـ، بخط الكاتب محمود بن عبيد الملقب بخليفة، المدرس بالمدارس الثانوية المصرية، وهي بخط نسخ واضح، وتحتوي الصفحة على 21 سطرًا، ويشتمل السطر على تسع كلمات في المتوسط. وطول الصفحة 24سم، شغل بالكتابة منها 18سم، وعرضها 17سم، شغل بالكتاب منها 9سم، وورقها غليظ سميك. وقد رمزنا لها بالحرف "ك".
مقدمة المحقق
مقدمة المحقق بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم قال أبو الفتح عثمان بن جني "رحمه الله تعالى وعفا عنه": اللهم إنا نحمدك أقصى مدى الحامدين، ونعترف بآلائك كما أَوْجبت على المطيعين من عبادك المعترفين، ونسألك أن تصلي على نبيك المرتضَى محمد وآله الطاهرين، وأن تحسن عوننا وتسديدنا على ما أجمعنا فيه القربة إليك في أملنا به لطف المسعاة فيما يدني منك، ويُحْظِي بالزُّلفة1 لديك، وأن تجعل أعمالنا لك، واتصالاتنا بك، ومطالبنا مقصورة على مرضاتك، وإن قَصُرت أفعالنا عن مفروضات وصَلْتَها برأفتك بنا، وتلافيتنا من سيئات أنفسنا ما امتدت أسباب الحياة لنا. فإذا انقضت علائق مُدَدِنا، واستُوفِيَ ما في الصحف المحفوظة لديك من عدد أنفاسنا، واستؤنفت أحوال الدار الآخرة بنا، فاقلبنا إلى كنز2 جنتك التي لم تخلق إلا لمن وسع ظل رحمتك، واجعل أَمَامَنَا هاديًا من طاعاتنا لك، وزكوات ما علمتناه من وجوه حكمتك، وشرحت صدورنا لمعرفته من لطائف مودَعَات لغة نبيك، التي فضلتها على سائر اللغات، وفَرَعْتَ بها فيه سامي الدرجات، وخصصت بأشرفها طريقًا وألطفها مسرى وعروقًا، كتابك المنزل على لسان أمينك، المرسل إلى جنان صفيك خاتم الرسل، ثم مُعَقِّب الأنبياء والملل "صلى الله عليهم وسلم وبَجَّلَ وكرَّم". وجعلتَ عنوان تصديقه، الباعثَ على سلوك طريقه، ما أَودعته من إعجاز كَلِمه الذي كدَّ بِمَهْلِه شدَّ المجدين، واستولى بأوله على آخر غاية الناطقين، ورَذِيت3 دون أدناه مُنَن
البرِّزين، وخَطِلَت1 إليه المفوَّهين، وخرست لحكمه شقاشق الشياطين، فانتظم لغات العرب على مثناتها2.... 3 وارِدَ القراءات من متوجهاتها، فأتى ذلك على طهارة جميعه، وغزارة ينبوعه ضربين: ضربًا اجتمع عليه أكثر قراء الأمصار، وهو ما أودعه أبو بكر أحمد بن موسى بن مجاهد4 -رحمه الله- كتابه الموسوم بقراءات السبعة، وهو بشهرته غانٍ عن تحديده. وضربًا تعدى ذلك، فسماه أهل زماننا شاذًّا؛ أي: خارجًا عن قراءة القراء السبعة المقدم ذكرها، إلا أنه مع خروجه عنها نازع بالثقة إلى قرائه، محفوف بالروايات من أمامه وورائه، ولعله -أو كثيرًا منه- مساوٍ في الفصاحة للمجتمع عليه. نعم، وربما كان فيه ما تلطف صنعته، وتعنُف5 بغيره فصاحته، وتمطوه6 قوى أسبابه، وترسو به قَدَمُ إعرابه؛ ولذلك قرأ بكثير منه مَن جاذب ابن مجاهد عِنَان القول فيه، وما كَنَه عليه، وراده إليه؛ كأبي الحسن [2ظ] أحمد بن محمد بن شَنَبوذ7، وأبي بكر محمد بن الحسن بن مِقْسم8، وغيرهما ممن أدى إلى رواية استقواها، وأنحى على صناعة من الإعراب رضيها واستعلاها. ولسنا نقول ذلك فسحًا بخلاف القراء المجتمع في أهل الأمصار على قراءاتهم، أو تسويغًا للعدول عما أقرته الثقات عنهم؛ لكن غرضنا منه أن نُرِي وجه قوة ما يسمى الآن شاذًّا، وأنه ضارب في صحة الرواية بِجِرانه،
آخذ من سمت العربية مهلة ميدانه؛ لئلا يُرَى مرى1 أن العدول عنه إنما هو غض منه، أو تهمة له. ومعاذ الله! وكيف يكون هذا والرواية تنميه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والله تعالى يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} ؟ 2 وهذا حكم عام في المعاني والألفاظ، وأَخذه هو الأخذ به، فكيف يسوغ مع ذلك أن ترفضه وتجتنبه. فإن قَصُر شيء منه عن بلوغه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلن يقصر عن وجه من الإعراب داعٍ إلى الفسحة والإسهاب، إلا أننا وإن لم نقرأ في التلاوة به مخافة الانتشار فيه، ونتابع مَن يتبع في القراءة كل جائز رواية ودراية، فإنا نعتقد قوة هذا المسمى شاذًّا، وأنه مما أمر الله تعالى بتقبله، وأراد منا العمل بموجبه، وأنه حبيب إليه، ومرضيٌّ من القول لديه. نعم، وأكثر ما فيه أن يكون غيره من المجتمع عندهم عليه أقوى منه إعرابًا وأنهض قياسًا؛ إذ هما جميعًا مرويان مسندان إلى السلف -رضي الله عنهم- فإن كان هذا قادحًا فيه، ومانعًا من الأخذ به؛ فليكونن ما ضعف إعرابه مما قرأ بعض السبعة به هذه حاله، ونحن نعلم مع ذلك ضعف قراءة ابن كثير3 "ضئاء"4 بهمزتين مكتنفتي الألف، وقراءة ابن عامر5: "وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلُ أَوْلادَهُمْ شُرَكَائهم"6، وسنذكر هذا ونحوه في مواضعه متصلًا بغيره، وهو أيضًا مع ذلك مأخوذ به. ولعمري، إن القارئ به من شاعت قراءته، واعتيد الأخذ عنه، فأما أن نتوقف عن الأخذ به؛ لأن غيره أقوى إعرابًا منه فلا؛ لما قدمنا، فإذا كانت هذه حالَه عند الله -جل وعلا- وعند رسوله المصطفى، وأولي العلم بقراءة القراء، وكان مَن مضى من أصحابنا لم يضعوا للحِجَاج كتابًا فيه، ولا أَوْلَوه طرفًا من القول عليه؛ وإنما ذكروه مرويًّا مسلَّمًا مجموعًا أو متفرقًا، وربما اعتزموا
الحرف منه فقالوا القول المقنع فيه، فأما أن يفردوا له كتابًا مقصورًا عليه، أو يتجردوا للانتصار له، ويوضحوا أسراره وعلله فلا نعلمه -حَسُن1؛ بل وجب التوجه إليه، والتشاغل بعمله وبسط القول على غامضه ومشكله، وما أكثر ما يخرج فيه بإذن الله، وأذهبه في طريق الصنعة الصريحة، لا سيما إذا كان مشوبًا بالألفاظ السمحة السريحة2، إلا أننا مع ذلك لا ننسى تقريبه على أهل القراءات؛ ليحظوا به، ولا ينأَوْا عن فَهْمِه. فإن أبا علي3 -رحمه الله- عمل كتاب الحجة في القراءات، فتجاوز فيه قدر حاجة القراء إلى ما يجفو عنه كثير من العلماء "3و"، ونحن بالله وله وإليه، وهو حسبنا. على أن أبا علي -رحمه الله- قد كان وقتًا حدَّث نفسه بعمله، وهَمَّ أن يضع يده فيه، ويبدأ به، فاعترضت خوالج4 هذا الدهر دونه، وحالت كبواته بينه وبينه، هذا على ما كان عليه من خلو سربه، وسروح فكره، وفروده 5 بنفسه، وإنبتات علائق الهموم عن قبله، يبيت وقواصي نظره محوطة عليه، وأحناء تصوره محوزة إليه، مضجعه مقر جسمه ومجال همته، ومغداه ومراحه مقصوران على حفظ بنيته. ولعل الخطرة الواحدة تخرق بفكري أقصى الحُجُب المتراخية عني في جمع الشتات من أمري، ودَمْل العوارض الجائحة لأحوالي، وأشكر الله ولا أشكوه، وأسأله توفيقًا لما يرضيه. وأنا بإذن الله بادئ بكتاب أذكر فيه أحوال ما شذَّ عن السبعة، وقائل معناه مما يمن به الله -عز اسمه- وإياه نستعين وهو كافِيَّ ونعم الوكيل.
اعلم أن جميع ما شذَّ عن قراءة القراء السبعة1 -وشهرتهم مغنية عن تسميتهم- ضربان: ضرب شذ عن القراءة عاريًا من الصنعة، ليس فيه إلا ما يتناوله الظاهر مما هذه سبيله، فلا وجه للتشاغل به؛ وذلك لأن كتابنا هذا ليس موضوعًا على جميع كافة القراءات الشاذة عن قراءة السبعة؛ وإنما الغرض منه إبانة ما لطفت صفته، وأُغْرِبَتْ2 طريقته. وضرب ثانٍ وهو هذا الذي نحن على سمته؛ أعني: ما شذ عن السبعة، وغمُض عن ظاهر الصنعة، وهو المعتمد المعوَّل عليه، المولَى3 جهة الاشتغال به. ونحن نورد ذلك على ما رويناه، ثم على ما صح عندنا من طريق رواية غيرنا له، لا نألو فيه ما تقتضيه حال مثله من تأدية أمانته، وتحرِّي الصحة في روايته، وعلى أننا نُنْحي4 فيه على كتاب أبي بكر أحمد بن موسى بن مجاهد -رحمه الله- الذي وضعه لذكر الشواذ من القراءة؛ إذ كان مرسومًا به مَحْنُوَّ الأرجاء عليه، وإذ هو أثبت في النفس من كثير من الشواذ المحكية عمن ليست له روايته، ولا توفيقه ولا هدايته. فأما ما رويناه في ذلك فكتاب أبي حاتم سهل بن محمد بن عثمان السجستاني5 -رحمه الله- أخبرنا به أبو إسحق إبراهيم بن أحمد القِرْميسيني6، عن أبي بكر محمد بن هارون الرُّوياني7
عن أبي حاتم، وروينا أيضًا في كتاب أبي علي محمد بن المستنير قطرب1 من هذه الشواذ صدرًا كبيرًا، غير أن كتاب أبي حاتم أجمعُ من كتاب قطرب لذلك؛ من حيث كان مقصورًا على ذكر القراءات، عاريًا من الإسهاب في التعليل والاستشهادات التي انحطَّ قطرب فيها، وتناهى إلى متباعد غاياتها. أخبرنا أبو الحسن محمد بن علي بن وكيع، عن أبي الحسن أحمد بن سعيد بن عبد الله الدمشقي، قال: حدثني محمد بن صالح المصري2 ورَّاق على بن قطرب، قال: قرأت على أبي محمد بن المستنير قطرب من سورة النحل إلى آخر القرآن، قال: وقرأت على علي بن قطرب من البقرة إلى النحل عن أبيه محمد بن المستنير بمصر في سنة تسع وأربعين ومائتين. قال أبو الحسن الدمشقي: وحدثني أبو بكر العبدي بسر من رأى "3ظ" في سنة سبع وخمسين ومائتين، قال: سمعت أبا علي محمد بن المستنير قطربًا يمليه في مدينة السلام، فكتبت منه من البقرة إلى سورة مريم ثم قطع قطع الكتاب، قال: وسمع مني أبو بكر العبدي من سورة مريم إلى آخر الكتاب، وسمعت منه من فاتحة الكتاب إلى سورة مريم. وأخبرنا أبو علي الحسن بن أحمد الفارسي سماعًا مع من قرأ عليه كثيرًا من هذا الكتاب، وأنا حاضره عن أبي الحسن بن محمد بن عثمان الفارسي عن الدمشقي أيضًا، وأخبرنا أيضًا بما في كتاب المعاني عن أبي إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج3 بسماعه منه، وبمعاني الفراء عن ابن مجاهد عن الفراء، وروينا غير ذلك مما سنذكر سنده وقت إحضاره المقول على مشكله إن شاء الله. اللهم أخلص أعمالنا لوجهك، وأَوسعنا من عافيتك وعفوك؛ إنك سميع الدعاء، فعَّال لما تشاء.
سورة فاتحة الكتاب
سورة فاتحة الكتاب: قراءة أهل البادية1: "الْحَمْدُ لُله"2 مضمومة الدال واللام، ورواها لي بعض أصحابنا قراءة لإبراهيم بن أبي عبلة3: "الحمدِ لِله" مكسورتان، ورواها أيضًا لي قراءة لزيد بن علي -رضي الله عنهما- والحسن البصري رحمه لله4. وكلاهما شاذ في القياس والاستعمال؛ إلا أن من وراء ذلك ما أذكره لك؛ وهو أن هذا اللفظ كثر في كلامهم، وشاع استعماله، وهم لِمَا كثر من استعمالهم أشد تغييرًا، كما جاء عنهم لذلك: لم يَكُ، ولا أَدْرِ، ولم أُبَلْ، وأَيْشٍ تقول، وجا يجي، وسا يسو، بحذف همزتيهما. فلما اطرد هذا ونحوه لكثرة استعماله أَتبعوا أحد الصوتين الآخر، وشبهوهما بالجزء الواحد وإن كانا جملة من مبتدأ وخبر؛ فصارت "الْحَمْدُ لُله" كعُنُق وطُنُب، و"الْحَمْدِ لِله" كإِبِل وإِطِل5. إلا أن "الْحَمْدُ لُله" بضم الحرفين أسهل من "الْحَمْدِ لِله" بكسرهما من موضعين: أحدهما: أنه إذا كان إِتْبَاعًا فإن أقيس الإِتْبَاع أن يكون الثاني تابعًا للأول؛ وذلك أنه جارٍ مجرى السبب والمسبَّب، وينبغي أن يكون السبب أسبق رتبة من المسبب، فتكون ضمة اللام تابعة لضمة الدال كما نقول: مُدُّ وشُدُّ، وشَمَّ وفِرِّ، فتتبع الثاني الأول، فهذا أقيس من إتباعك الأول للثاني في اقْتُل ادْخُل، ومع هذا فإن الإتباع -أعني: اقتل وبابه- لا يكاد يعتد؛ وذلك أن الوصل هو الذي عليه عقد الكلام واستمراره، وفيه تصح وجوهه ومقاييسه6، وأنت إذا وصلتَ سَقَطَتِ الهمزة، فقلت: فاقتل زيدًا، فادخل يا هذا، وليست كذلك ضمة الدال
في مُدُّ، ولا فتحة الميم في شَمَّ، ولا كسرة الراء في فِرِّ؛ لأنهن ثوابت في الوصل الذي عليه معقد القول، وإليه مفزع القياس والصوب1، فكما أن مُدُّ أقيس إتباعًا من: اقتل؛ لما ذكرنا من الوصل المرجوع إليه المأخوذ بأحكامه، ولأن السبب أيضًا أسبق رتبة من المسبب، فكذلك "الحمدُ لُله" أسهل مأخذًا من "الحمدِ لِله". والآخر: أن ضمة الدال في "الحمدُ" إعراب، وكسرة اللام في "لِله" بناء، وحرمة الإعراب أقوى من حرمة البناء، فإذا قلت "4و": "الحمدُ لُله" فقريب أن يغلب الأقوى الأضعف، وإذا قلت: "الحمدِ لِله" جنى البناء الأضعف على الإعراب الأقوى، مضافًا ذلك إلى حكم تغيير الآخِر الأول، وإلى كثرة باب عُنُق وطُنُب في قلة باب إِبِل إِطِل فاعرفه، ومثل هذا في إتباع الإعراب البناء ما حكاه صاحب الكتاب2 في قول بعضهم: وقال اضرب الساقين إِمِّك هابل3 كسر الميم لكسرة الهمزة، ثم من بعد ذلك أنك تفيد من هذا الموضع ما تنتفع به في موضع آخر؛ وهو أن قولك: "الحمدُ لُله" جملة، وقد شبه جزآها معًا بالجزء الواحد -وهو مد أو عنق- فيمن أسكن ثم أتبع، أو السُّلُطان أو القُرُفْصاء أو الْمُنْتُن، دل ذلك على شدة اتصال المبتدأ بخبره؛ لأنه لو لم يكن الأمر عندهم كذلك لما أجروا هذين الجزأين مجرى الجزء الواحد، وقد نَحَوْا هذا الموضع الذي ذكرته لك في نحو قولهم في تأبط شرًّا: تأَبطي، وقولهم في رجل اسمه زيد أخوك: زيدي، فحذفوا الجزء الثاني، كما يحذفون الجزء الثاني من المركب في نحو قولهم في حضرموت: حضرمي، وفي رام هرمز: رامي، وكما يقولون أيضًا في طلحة: طَلْحي، فاعرف ذلك دليلًا على شدة اتصال المبتدأ بخبره، وما علمت أحدًا من أصحابنا نَحَا هذا الموضع على وضوحه لك، وقوة دلالته على ما أثبته في نفسك. ومثله أيضًا في الدلالة على هذا المعنى قراءة ابن كثير: "فَإِذَا هِيَ تلَقَّفُ"4، ألا ترى إلى تسكين حرف المضارع من "تَلَقَّف"؟ فلولا شدة اتصاله بما قبله للزم منه تصور الابتداء
بالساكن، لا بل صار في اللفظ قولك: "هِيَتَّ"1 كالجزء الواحد الذي هو خِدَبَّ2 وهِجَفَّ3 وهِقَبَّ4، وهذا أقوى دلالة على قوة اتصال المبتدأ بخبره من الذي أريناه من قبله لما فيه إن لم تنعم به من وجوب تصور الابتداء بالساكن. نعم، ومن ورائه أيضًا ما هو ألطف مأخذًا؛ وهو أن قوله سبحانه: "تلقف" جملة، ومشفوعة أيضًا بالمفعول الموصول الذي هو "مَا يَأْفِكُونَ"، وأصل تصور الجمل في هذا المعنى: أن تكون منفصلة قائمة برءوسها، وقد قرأها هاهنا كيف تصوِّرت شديدة الحاجة إلى المبتدأ قبلها؟ فإذا جاز هذا الخلط له، ووكادة الصلة بينه وبين ما قبله، فما ظنك بخبر المبتدأ إذا كان مفردًا؟ ألا تعلم أنه به أشد اتصالًا، وإليه أقوى تساندًا وانحيازًا؟ فاضم ذلك إلى ما قبله. ونَحْوٌ مما نحن على سمته، وبسبيل الغرض فيه -حكاية الفراء عن بعضهم، وجرى ذكر رجل فقيل: ها هو ذا، فقال مجيبًا: نَعَم الْهَا هُوَ ذَا هُوَ، فإلحاقه لام المعرفة بالجملة المركبة من المبتدأ والخبر من أقوى دليل على تنزلها عندهم منزلة الجزء الواحد. نعم، وفي صدر هذه الجملة حروف التنبيه، وهو يكاد يفصلها عن لام التعريف بعض الانفصال، وهما مع ذلك كالمتلاقيتين المعتقبتين مع حَجْزِه بينهما وإعراضه على كل واحد منهما "4ظ". ومن ذلك: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 5، قرأها الفضل الرقاشي: {وَأَيَّاكَ} بفتح الهمزة. قال أبو الفتح: قد ذكرنا في كتابنا الموسوم بسر صناعة الإعراب: ما تحتمله إيّا من الْمُثُل: هل هي فِعَّل، أو فِعْيَل، أو فِعْوَل، أو إِفْعَل، أو فِعْلَل؟ أَمِنْ: آءَة6، أم من أَيَة، أم من أَوَيْتُ، أم من وَأَيْتُ، أم من قوله: فأَوِّ لذكراها إذا ما ذكرتُها7 فأما فتح الهمزة فلغة فيها: إِياك وأَياك وهِيَّاك وهَيَّاك، والهاء بدل من الهمزة، كقولهم:
في أرَقت: هَرقت، وأردت: هَردت، وأرحت الدابة: هرحت، وأَنرت الثوب: هنرت1، قال: فهِياك والأمرَ الذي إن توسَّعَتْ ... موارده ضاقت عليك مصادره2 وقرأ عمرو بن فايد3: "إِيَاكَ نَعْبُدُ وَإِيَاكَ نَسْتَعِينُ" بتخفيف الياء فيهما جميعًا، فوزن إيا على هذا فِعَل كرِضًا وحِجًا وحِمًى، ونظيره: أيَا الشمس، قال طرَفة: سقته إياةُ الشمس إلا لِثَاتِه ... أُسِفَّ ولم تكدِمْ عليه بإثمِدِ4 ويقال فيه: أَيَاءُ الشمس بالفتح والمد، قال ذو الرمة: تَنازَعها لونان ورد وحُوُّةٌ ... ترى لأَيَاءِ الشمس فيه تحدُّرا5 وإِيًا فِعَل، وأَيَاء فَعَال، وكلاهما من لفظ الآية ومعناها، وهي: العلامة، وذلك أن ضوء الشمس إذا ظهر عُلم أن جرمها على وجه الأرض. وحدثنا أبو بكر محمد بن علي قال: كان أبو إسحاق يقول في قول الله سبحانه: "إياك نعبد" أي: حقيقتك نعبد، وكان يشتقه من الآية وهي العلامة، وهذا يجيء ويسوغ على رأي أبي إسحاق؛ لأنه كان يعتقد في "إيَّاك" أنه اسم خُص به المضمر، فأما6 على قول الكافة فاشتقاقه فاسد؛ لأن "إيَّاك" اسم مضمر، والأسماء المضمرة لا اشتقاق في شيء منها، وينبغي أن يكون عمرو بن فايد إنما قرأ "إِيَاكَ" بالتخفيف؛ لأنه كره اجتماع التضعيف مع ثقل الياءين والهمزة والكسرة، ولا ينبغي أن يحمل "إيَاك" بالتخفيف على أنها لغة، وذلك أنا لم نرَ لذلك أثرًا في اللغة ولا رسمًا ولا مرَّ بنا في نثر ولا نظم. نعم، ومن لم يُخْلِد مع ثقته إلى نظر يُعْصم به ويتساند إليه بأمانته، أُتي من قبل نفسه من حيث يظن أنه ينظر لها، وكان ما دهاه في ذلك من أجل فقاهته لا أمانته. وإذا جاز أن تخفف الحروف الثقال مع كونها صحاحًا وخفافًا؛ فتخفيف الضعيف الثقيل
أَحْرَى وأَوْلَى، فمن ذلك قولهم في رُبَّ رَجُل: رُبَ رَجل، وفي أرَّ: أرْ1، وفي أيٍّ: أيْ، أنشدنا أبو علي للفرزدق: تنظرتُ نصرًا والسماكين أَيْهُمَا ... عَلَيَّ من الغيثِ استهَلَّت مواطِرُه2 ويبدلون أيضًا ليختلف الحرفان فيخفا، وذلك قوله: يا ليتما أُمُّنَا شالت نعامَتُها ... أَيْمَا إلى جنة أَيْمَا إلى نار3 وقالوا في اجلوَّاذ4: اجليواذ، "5و" وفي دِوَّان: ديوان، والشيء من هذا ونحوه أوسع؛ لكن كل واحد من هذه الحروف وغيرها قد سمع وشاع، فأما "إِيَاك" بالتخفيف فلم يسمع إلا من هذه الجهة، وينبغي للقرآن أن يُختار له، ولا يختار عليه. ومن ذلك قراءة الحسن رضي الله عنه: "اهدنا صراطًا مستقيمًا"5. قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون أراد -والله أعلم- التذلل لله سبحانه، وإظهار الطاعة له؛ أي: قد رضينا منك يا ربنا بما يقال له: صراط مستقيم، ولسنا نريد المبالغة في قول من قرأ: "الصراط المستقيم" أي: الصراط الذي شاعت استقامته، وتُعولمت في ذلك حاله وطريقته، فإن قليل هذا منك لنا زاك عندنا وكثير من نعمتك علينا، ونحن له مطيعون، وإلى ما تأمر به وتنهى فيه صائرون، وزاد في حسن التنكير هنا ما دخله من المعنى؛ وذلك أن تقديره: أَدِمْ هدايتك لنا؛ فإنك إذا فعلت ذلك بنا فقد هديتنا إلى صراط مستقيم؛ فجرى حينئذ مجرى قولك: لئن لقيتَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لتَلْقَينَّ منه رجلًا متناهيًا في الخير، ورسولًا جامعًا لسبل الفضل؛ فقد آلت به الحال إلى معنى التجريد؛ كقول الأخطل: بِنَزوة لص بعدما مر مصعب ... بأَشعث لا يُفْلَى ولا هو يَقمَل6
ومصعب نفسه هو الأشعث، وعليه قول طرفة: جازت القومَ إلى أرحُلنا ... آخر الليل بيعفور خَدِر1 وهي نفسها عنده اليعفور. أنشدنا أبو علي: أفاءت بنو مروان أَمسِ دماءَنا ... وفي الله إن لم يحكموا حَكَم عدل2 وهو سبحانه أعرف المعارف، وقد سماه الشاعر حكمًا عدلًا، فأَخرج اللفظ مخرج التنكير، فقد ترى كيف آل الكلام من لفظ التنكير إلى معنى التعريف، وفيه مع ذلك لفظ الرضا باليسير، فإذا3 جاز أن يَرضى الإنسان من مخلوق مثله بما رضي به الشاعر من محبوبه بما دل عليه قوله، أنشده ابن الأعرابي: وإني لأَرضى منك يا ليلُ بالذي ... لو أبصره الواشي لقرَّت بلا بِلُهْ بلا وبأن لا أستطيع وبالْمُنى ... وبالوعد حتى يسأم الوعد آمله وبالنظرة العَجْلى وبالحول تنقضي ... أواخره لا نلتقي وأوائله4 وأنشدني بعض أصحابنا لبعض المولدين: عدينا واكذبينا وامطلينا ... فقد أومنت من سوء العقاب فلسنا من وعيدك في ارتياب ... ولا من صدق وعدك في اقتراب ولكنا لشؤم الْجَدِّ منا ... نَفِر من العذاب إلى العذاب وعليه قول الآخر: عَلِّليني بموعد ... وامطلي ما حييت به ودعيني أعيش منـ ... ـك بنجوى تطلُّبه فعسى يعثر الزما ... ن بجنبي فينتبه5
ونظائره كثيرة، قديمة ومولَّدة -كان1 العبد البر والزاهد المجتهد أحرى أن يسأل خالقه -جل وعز- مقتصدًا في سؤاله، وضامنًا من نفسه السمع والطاعة على ذلك من يأمره. ويؤكد عندك مذهب "5ظ" من أنشدته آنفًا، ما حدثنا به أبو علي قال: لما قال كُثير: ولست بِراض من خليلي بنائل ... قليل ولا أرضى له بقليل قال له ابن أبي عتيق: هذا كلام مُكافئ، هلا قلت كما قال ابن الرقيات: رُقَيَّ بِعَمْرِكُمْ لا تهجرينا ... ومنِّينا المنى ثم امطلينا2 وأنشدني بعض أصحابنا: وعلليني بوعد منك آمله ... إني أُسَرُّ وإن أخلفت أن تعدي وعليه قوله الله عز اسمه: {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} 3 أي: هديناهم من نعمتنا عليهم، ونَظَرِنَا لهم صراطًا مستقيمًا. وقال كثير: أمير المؤمنين على صراط ... إذا اعوج الموارد مستقيم وهذا كقولك: أمير المؤمنين على الصراط المستقيم لا فرق بينهما؛ وذلك أن مفاد نكرة الجنس مفاد معرفته؛ من حيث كان في كل جزء منه معنى ما في جملته، ألا ترى إلى قوله: وأَعلم إن تسليمًا وتركًا ... لَلَا متشابهان ولا سواء4 فهذا في المعنى كقوله: إن التسليم والترك لا متشابهان ولا سواء. ومن ذلك قوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} 5. ذكر أبو بكر أحمد بن موسى أن فيها سبع قراءات: "علهُمُو"، و"عليهُمُ" بضم الميم من غير إشباع إلى الواو، و"عليهُمْ" بسكون الميم مع ضمة الهاء، و"عليهِمي"، و"عليهِمْ" بكسر الهاء وسكون
الميم، و"عليهِمُو" بكسر الهاء وواو بعد الميم، و"عليهِمُ" مكسورة الهاء مضمومة الميم من غير واو. وزاد أبو الحسن سعيد بن مَسعدة الأخفش1 على ما قال أبو بكر ثلاثة أوجه، فصار الجميع عشرة أوجه؛ والثلاثة: "عليهُمِي" بضم الهاء وميم مكسورة بعدها ياء، و"عليهُمِ" بضمة الهاء وكسرة الميم من غير إشباع إلى الياء، و"عليهِمِ" بكسرة الهاء وكسرة الميم أيضًا من غير بلوغ ياء، فتلك عشرة أوجه: خمسة مع ضم الهاء، وخمسة مع كسرها. قرأ "عليهُمُو" ابن إبي إسحاق2 ومسلم بن جندب3 والأعرج4 وعيسى الثقفي5 وعبد الله بن يزيد6. وقرأ: "عليهِمِي" الحسن وعمرو بن فايد، ورُوي عن الأعرج: "عليهِمُ" مكسورة الهاء مضمومة الميم من غير بلوغ واو. وقرأ: "عليهُمُ" مضمومة الهاء والميم من غير بلوغ واو، رويت عن الأعرج أيضًا. قال أبو الفتح: أما "عليهُمُو" فهي الأصل؛ لأنها رَسِيلة7 عليهُما في التثنية؛ أعني: ثبات الواو كثبات الألف، وينبغي أن تعلم أن أصل هذا الاسم المضمر الهاء، ثم زيدت عليها الميم؛ علامة لتجاوز الواحد من غير اختصاص بالجمع، ألا ترى الميم موجودة في التثنية: "عليهُما"؟ وأما الواو فلإخلاص الجمعية. وأما "عليهِمِي" فطريقه: أنه كسرت الهاء لوقوع الياء قبلها ساكنة وضعف الهاء، فأشبهت لذلك الألف، لا سيما وهي تجاورها في المخرج، لا بل أبو الحسن يَدَّعي أن مخرج الألف هو
مخرج الهاء ألبتة. فكما أن الياء "6و" الساكنة إذا وقعت قبل الألف قلبتها ياء، نحو قولك في تحقير كتاب: كُتيِّب، كذلك كسرت الهاء، فكان انكسار الهاء للياء قبلها تغييرًا لحقها لهما، كما أن انقلاب الألف ياء لمكانها تغيير لحقها من أجلها، فصار اللفظ بها من بعد "عليهِمو"، فكرهوا الخروج من كسر الهاء إلى ضم الميم الواو من بعدها، فكسروا الميم لذلك؛ فصارت "عليهِمِوْ"، فانقلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها؛ فصارت "عليهِمِي". ومَن كسر الهاء وضم الميم وحذف الواو فقال: "عليهِمُ" فإنه لما انتهت به الصنعة إلى كسر الهاء احتمل الضمة بعد الكسرة؛ لأنها ليست بلازمة، إذ كانت ألف التثنية تفتحها؛ لكنه حذف الواو تفاديًا من ثقلها مع ثقل الضمة التي تجَشَّمها. ومَن قرأ: "عليهُمُ" بضم الهاء والميم، فإنه حذف الواو استخفافًا، واحتمل الضمة قبلها دليلًا عليها. لكن من قال: "عليهُمِي" بهاء مضمومة وياء بعد الميم ففيه نظر؛ وذلك أنه كُرِه ضمة الهاء وضمة الميم ووقوع الواو من بعد ذلك كما كُرِه في الاسم المظهر وقوع الواو طرفًا بعد ضمة، وذلك نحو قولهم في دَلْو وحَقْو1: أَدْل وأَحْق، وأصلها أَفْعُل أَدْلُوٌ وأَحْقُوٌ، ككلب وأَكْلُبٍ، فأبدلوا من الضمة كسرة تطرقًا إلى قلب الواو، فصارت في التقدير: أَدْلِوٌ وأَحْقِوٌ، فقلبت الواو ياء بعذر قاطع؛ وهو وقوع الكسرة قبلها، فصارت أَدْلِي وأَحْقِي، وكذلك أبدلت ضمة الميم من "عليهُمُو" كسرة فصارت "عليهُمِوْ"، فأبدلت الواو ياء للكسرة قبلها؛ فصارت "عليهُمِي". وأما "عَلَيْهُمِ" بكسرة الميم من غير ياء، فإنه لما كانت الصنعة فيه إنما طريقها الاستخفاف، اكتفي بالكسرة من الياء. وكذلك مَن قال: "عَلَيْهِمُ" بكسر الهاء مع ضم الميم اكتفي بالضمة من الواو، وقد ذكرناه. ومَن قال: "عَلَيْهِمِ" بكسر الهاء والميم من غير ياء، فإنه اكتفى بالكسرة أيضًا من الياء استخفافًا، فأما قول الشاعر ورويناه عن قطرب: فهمو بطانتهم وهم وزراؤهم ... وهُمِ القضاةُ ومنهم الحكام2 وروينا عنه أيضًا: ألا إن أصحاب الكنيف وجدتهم ... همِ الناسَ لما أَخصبوا وتموَّلوا3
فقوله: وهمِ القضاة، ومنهمِ الحكام، فيتحمل كسر الميم وجهين: أحدهما: أن يكون حرَّكه لالتقاء الساكنين. والآخر: أن يكون على لغة مَن قال "عليهُمِي"، فحذف الياء لالتقاء الساكنين من اللفظ، وهو ينويها في الوقف. ووجه ثالث: أن يكون على لغة مَن قال: "عليهُمِ" بكسر الميم من غير ياء. وقوله: "همِ الناس" يحتمل أيضًا هذه الأوجه الثلاثة. وروينا عن قطرب أيضًا: عافكمِ الله، ففيه أيضًا ما فيما قبله، واللغات في هذا ونحوه كثيرة. ومن ذلك قراءة أيوب السختياني1: "وَلا الضَّأَلِّينَ" بالهمز2. قال أبو الفتح: ذكر بعض أصحابنا: أن أيوب سُئل عن هذه الهمزة، فقال: هي بدل من المدة لالتقاء الساكنين، واعلم أن أصل هذه ونحوه: الضاللين، وهو "الفاعلون" من ضلَّ يضل، فكره اجتماع حرفين متحركين من جنس واحد على غير الصور المحتملة في ذلك، فأسكنت اللام الأولى وأُدغمت في الآخرة، فالتقى ساكنان: الألف واللام "6ظ" الأولى المدغمة فزيد في مدة الألف، واعتُمدت وطأة المد، فكان ذلك نحوًا من تحريك الألف؛ وذلك أن الحرف يزيد صوتًا بحركاته كما يزيد الألف بإشباع مدته. وحكى أبو العباس محمد بن يزيد3 عن أبي عثمان4 عن أبي زيد5 قال: سمعت عمرو
ابن عبيد1 يقرأ: "فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَأَن"2، قال أبو زيد: فظننته قد لحن إلى أن سمعت العرب تقول: شَأَبَّه ومَأَدَّه ودَأَبَّة، وعليه قول كثير: إذا ما العوالي بالعبيط احمَأَرَّت3 وقال: وللأرض أما سودها فتجللت ... بياضًا وأما بِيضُها فادْهَأَمَّت4 وقد ذكرنا من هذا الضرب في كتابنا الموسوم بالخصائص5 ما فيه كفاية عن غيره. ومن طريف حديث إبدال الألف همزة ما حكاه اللحياني6 من قول بعضهم في الباز: البأز بالهمزة، ووجه ذلك: أن الألف ساكنة، وهي مجاورة لفتحة الباء قبلها، وقد أَرينا في كتاب الخصائص وغيره7 من كتبنا: أن الحرف الساكن إذا جاور الحركة فقد تُنْزِله العرب منزلة المتحرك بها، من ذلك قولهم في الوقف على بكر: هذا بَكُر، ومررت ببكِر، ألا ترى حركتي الإعراب لما جاورتا الراء صارتا كأنهما فيها. ومنه قوله جرير: لَحَبَّ المؤقدان إليَّ مؤسى8
فهمَز الواو في الموضعين جميعًا؛ لأنهما جاورتا ضمة الميم قبلهما، فصارت الضمة كأنها فيهما، والواو إذا انضمت ضمًّا لازمًا فهمزها جائز، نحو: "أُقِّتَت" في "وُقِّتت"1، و"أجوه" في "وجوه"2، ونظائر ذلك كثيرة. وكذلك الفتحة قبل الألف في باز لما جاورتها صارت على ما ذكرنا كأنها فيها، والألف إذا حركت هُمزت على ما ذكرنا في "الضَّألِّين" و"جَأن"، فهذا وحهه. فإن قلت: فقد حكي أيضًا جمعه بئزان بالهمز، فصارت لذلك كَرَأْل3 ورِئْلان، فما أنكرت أن يكون ذلك لغة في الباز لا على البدل الذي رمته؟ قيل: هذا وجه يُذهب إلى مثله، لكنا لم نسمع الهمز في هذا الحرف أصلًا إلا في هذه الحكاية، والواو فيه هي الشائعة المستفيضة. حدثنا أبو علي قال: قال أبو سعيد الحسن بن الحسين4 يقال: بأز، وثلاثة أبواز، فإذا كثرت فهي البيزان. وقالوا: بازٍ وبَوَازٍ وبُزاة، فباز وبزاة كغازٍ وغزاة، وهو مقلوب الأصل الأول5، وأنشدنا لذى الرمة: كأن على أنيابه كل سُدْقَة ... صياح البوازي من صريف اللوائك6 وقالوا في تصريفه: بزا فلان يبزو إذا غلب، فكأن البازي اسم الفاعل في الأصل، ثم خص به هذا الجارح على وجه التسمية به له، كما أن الصاحب في أصله اسم الفاعل من صحب، ثم خص بالتسمية به، ونُسي أصل وصفيته. وكما أن الوالد كذلك، فقد ترى إلى سَعَة تصرف هذا الأصل على الواو، ولم نسمع في تصرفه شيئًا من الهمز غير هذه الحكاية من هذه الجهة، على ما يقول في صاحبها. "7و"
وحدثني أبو علي قال: قال أبو بكر1 في نوادر اللحياني: إنه لا يَتَرَقَّى بهما السماع إليه، وعلى أنه قد يمكن في الباز ما ذكرناه فلما سُمع فيه بَأْز بالهمزة أشبه في اللفظ، وإلا فقيل في تكسيره: بئزان، كما قيل: رئلان. وإذا جاز استمرار البدل في نحو عيد وأعياد، وإجراؤه مجرى قَيْل وأَقْيَال مع أن البدل في حرف المد الذي لا يكاد يعتد البدل فيه للضعف، فأن يجوز استمرار هذا في الهمزة لأنها أقوى، فالأمر لذلك فيها أثبت وأحرى وأجدر، ألا ترى أنهم قالوا في تحقير قائم: قُوَيْئِم، فأثبتوا همزه كما أثبتوا همزة سائل من سأل؟ وقالوا في تحقير أدؤر: أُديئر، فأجروها مجرى همزة أرؤس. ولو كان مكان هذه الهمزة واو مبدلة من ياء لما ثبتت، وذلك قولك في تحقير عُوطَط2: عُيَيْطط، ولا تقر الواو وإن كانت عينًا. وكذلك لو كسرت الطوبي والكوسي على فُعَل، لقلت: الطُّيَب والكُيَس. ولو كسرتهما على مثيل حُبلى وحبالى لقلت: طَيابى وكياسى. وعلى هذا قالوا في تكسير ريح: أرواح، فلم يحفلوا بانقلاب العين من ريح؛ لأن العمل إنما هو في الواو ليست3 لها عصمة الهمزة. فأما ما حُكي عن عُمارة من قوله في تكسير ريح: أرياح، وعلى أن اللحياني أيضًا قد حكى هذا، فمردود عندنا، ومنعيٌّ عليه في آرائنا. قال أبو حاتم4 وقد أغلظ في ذلك: أنكرتها على عمارة، قال: فقال لي: قد قال الله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} 5 قال: ولم يعلم عمارة أن الياء في الرياح بعد كسرة، فهذا أمر قاد إليه همز أيوب "الضَّالِّين"، وفيه أكثر من هذا، ولولا تنكُّب الإطالة كراهية الإملال والسآمة لأتينا به، وعلى أنه مثبت في أماكن من تأليفنا وإملائنا.
سورة البقرة
سورة البقرة: بسم الله الرحمن الرحيم من ذلك قراءة "أَنْذَرْتَهُم"1 بهمزة واحدة من غير مدٍّ. قال أبو الفتح: هذا مما لَا بُدَّ فيه أن يكون تقديره: "أأَنْذَرْتَهُم"، ثم حذف همزة الاستفهام تخفيفًا؛ لكراهة الهمزتين، ولأن قوله: "سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ" لَا بُدَّ أن يكون التسوية فيه بين شيئين أو أكثر من ذلك، ولمجيء "أم" من بعد ذلك أيضًا، وقد حُذفت هذه الهمزة في غير موضع من هذا الضرب، قال: فأصبحتُ فيهم آمنًا لا كمعشرٍ ... أتوني فقالوا: مِن ربيعة أم مضر؟ 2 فيمن قال: أم؛ أي: أمن ربيعة أم مضر؟ ومن أبيات الكتاب: لعمرك ما أدري وإن كنت داريا ... شعيثُ ابن سهم أم شعيث ابن مِنْقَر3 وقال الكميت: طربتُ وما شوقًا إلى البِيض أطرب ... ولا لَعِبًا مني وذو الشيب يلعب؟ 4 قيل: أراد: أوذو الشيب يلعب؟ وقالوا في قول الله سبحانه: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ} 5 أراد: أوتلك نعمة؟ وقال: لعمرك ما أدري وإن كنتُ داريا ... بسبع رَمين الجمر أم بثمان؟ 6
"7ظ" يريد: أبسبع؟ وعلى كل حال فأخبرنا أبو علي قال: قال أبو بكر: حذف الحرف ليس بقياس؛ وذلك أن الحرف نائب عن الفعل وفاعله، ألا ترى أنك إذا قلت: ما قام زيد، فقد نابت "ما" عن "أَنفي"، كما نابت "إلا" عن "أَستثني"، وكما نابت الهمزة وهل عن أَستفهم، وكما نابت حروف العطف عن أَعطف، ونحو ذلك. فلو ذهبتَ تحذف الحرف لكان ذلك اختصارًا، واختصار المختصر إجحاف به، إلا أنه إذا صح التوجه إليه جاز في بعض الأحوال حذفه؛ لقوة الدلالة عليه. فإن قيل: فلعله حَذَف همزة "أَنْذَرْتَهُمْ" لمجيء همزة الاستفهام، فكان الحكم الطارئ على ما يشبه هذا من تعاقب ما لا يجمع بينه. قيل: قد ثبت جواز حذف همزة الاستفهام على ما أرينا في غير هذا، فيجب أن يحمل هذا عليه أيضًا. وأما همزة أفعل في الماضي، فما أبعد حذفها! فليكن العمل على ما تقدم بإذن الله. ومن ذلك قراءة أبي طالوت عبد السلام بن شداد1، والجارود ابن أبي سبرة: "وَمَا يُخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ"2 بضم الياء وفتح الدال. قال أبو الفتح: هذا على قولك: خدعتُ زيدًا نفسَه؛ ومعناه عن نفسه، فإن شئت قلت على هذا: حُذف حرف الجر، فوصل الفعل؛ كقوله عز اسمه: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا} 3 أي: من قومه، وقوله: أمرتك الخيرَ4
أي: بالخير. وإن شئت قلت: حمله على المعنى فأضمر له ما ينصبه، وذلك أن قولك: خدعتُ زيدًا عن نفسه، يدخله معنى: انتقصتُه نفسَه، وملكتُ عليه نفسَه، وهذا من أَسَدِّ وأَدمث مذاهب العربية، وذلك أنه موضع يملك فيه المعنى عِنَان الكلام فيأخذه إليه، ويصرِّفه بحسب ما يؤثره عليه. وجملته: أنه متى كان فعل من الأفعال في معنى فعل آخر، فكثيرًا ما يُجْرَى أحدهما مجرى صاحبه، فيُعْدَلُ في الاستعمال به إليه، ويُحتذى في تصرفه حذو صاحبه، وإن كان طريق الاستعمال والعرف ضد مأخذه، ألا ترى إلى قوله الله جل اسمه: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} ؟ 1 وأنت إنما تقول: هل لك في كذا؟ لكنه لما دخله معنى: أَجْذِبك إلى كذا وأدعوك إليه، قال: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} ؟ وعليه قول الفرزدق: كيف تراني قاليا مِجَنِّي ... قد قتل الله زياداً عني2 فاستعمل "عن" هاهنا لما دخله من معنى قد صرفه الله عني؛ لأنه إذا قتله فقد صُرف عنه. وعليه قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} 3، وأنت لا تقول: رفثتُ إلى المرأة، وإنما تقول: رفثت بها ومعها، لما كان الرفث بمعنى الإفضاء عُدي بإلى كما يُعدَّى أفضيت بإلى، نحو قولك: أفضيت إلى المرأة، وهو باب واسع ومنقاد، وقد تقصيناه في كتابنا "الخصائص"4، فكذلك قوله عز وجل: "وَمَا يُخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ" جاء على خَدعْتُه نفسَه، لما كان معناه معنى: انتقصتُه نفسَه، أو تخوَّنتُه نفسَه. ورأيتُ أبا علي -رحمه الله- يذهب إلى استحسان مذهب الكسائي في قوله "8و": إذا رَضِيَتْ عليَّ بنو قُشَيْر ... لعمر الله أعجنبي رضاها5
لأنه قال: عدى رضيت بعلى، كما يُعدى نقيضها وهي سخطت به، وكان قياسه: رضيت عني، وإذا جاز أن يجري الشيء مجرى نقيضه فإجراؤه مجرى نظيره أسوغ. فهذا مذهب الكسائي، وما أحسنه! وفيه غيره على سمت ما كنا بصدده، وذلك أنه إذا رضي عنه فقد أقبل عليه، فكأنه قال: إذا أقبلَتْ عليَّ بنو قشير، وهو غور1 من أنحاء العربية طريف ولطيف ومصون وبَطين2. ومن ذلك قال ابن دريد3 عن أبي حاتم عن الأصمعي عن أبي عمرو: "فِي قُلُوبِهِمْ مَرْضٌ"4 ساكنة. قال أبو الفتح: لا يحوز أن يكون "مَرْض" مخففًا من مَرَض؛ لأن المفتوح لا يخفف؛ وإنما ذلك في المكسور والمضموم كإِبِل وفَخِذ، وطُنُب وعَضُد، وما جاء عنهم من ذلك في المفتوح فشاذ لا يقاس عليه، نحو قوله: وما كل مبتاع ولو سَلْف صفقُه ... يراجع ما قد فاته برِداد5 يريد: سَلَف، فأسكن مضطرًّا، وعلى أننا قد ذكرنا هذا في كتابنا الموسوم "بالمنصف"6، وهو شرح تصريف أبي عثمان، وهذا ونحوه قد جاء في الضرورة، والقرآن يُتخير له ولا يتخير عليه.
وينبغي أن يكون "مَرْض" هذا الساكن لغة في "مرَض" المتحرك؛ كالحلْب والحلَب، والطرْد والطرَد، والشل والشلل، والعيب والعاب، والذَّيم والذَّام. وقد دللنا في كتابنا الخصائص على تقاود الفتح والسكون، ولأنهما يكادان يجريان مجرى واحدًا في عدة أماكن. منها أن كل واحد منهما قد يُفْزَع ويُسْتَروح إليه من الضمة والكسرة، ألا تراهم قالوا في غُرُفات ونحوها تارة: غُرَفَات بالفتح، وأخرى: غُرْفَات بالسكون، كما قالوا في سِدِرات تارة: سِدَرات بالفتح، وأخرى: سِدْرات بالسكون. وأجرَوْا أيضًا الياء المفتوحة في اقتضائها الإمالة مجرى الياء الساكنة، فأمالوا نحو: السَّيَال1 والصِّيَاح، كما أمالوا نحو: شَيْبان وقيس عَيْلان، وقالوا: ضرب يدها، فأمالوا فتحة الدال للياء المفتوحة، وقالوا أيضًا في تكسير جواد: جياد، فأعلُّوا العين كما أعلوها في ثوب وثياب، فأجروا "واو" جواد مجرى "واو" ثوب، وقالوا: مرِض مَرْضًا فهو مارض، كما قالوا: حَرِد2 حَرْدًا فهو حارد، والفعل كالأصل في مصادر الثلاثية لا سيما في المتعدي منها، والمتعدي أكثر من غير المتعدي؛ فلذلك ساغ فيها فَعْل. وإنما كان المتعدي أكثر من غيره من قِبَل أن الفعل قد يكون حديثًا عن المفعول به، نحو: ضُرب زيدٌ، كما يكون حديثًا عن الفاعل، نحو: قام زيد. فكما لَا بُدَّ للفعل من الفاعل، فكذلك كثر المتعدي؛ لأن في ذلك تسبُّبًا إلى أن يكون الفعل حديثًا عن المفعول. ومن ذلك قراءة يحيى بن يَعْمَر3 وابن أبي إسحاق وأبي السَّمال4: "اشتروِا الضَّلالة"5. قال أبو الفتح: في هذه الواو ثلاث لغات: الضم، والكسر، وحكى أبو الحسن فيها الفتح: "اشتروَا الضَّلالة"، ورويناه "8ظ" أيضًا عن قطرب، والحركة في جميعها لسكون الواو وما بعدها، والضم أفشى، ثم الكسر، ثم الفتح.
وإنما كان الضم أقوى لأنها واو جمع، فأرادوا الفرق بينها وبين واو "أو" و"لو"؛ لأن تلك مكسورة، نحو قول الله سبحانه: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ} 1، ومنهم مَن يضمها2، فيقول: "لوُ اطلعت"، كما كسر أبو السَّمَّال وغيره من العرب واو الجمع تشبيهًا لها بواو "لو". وأما الفتح فأقلها، والعذر فيه خفة الفتحة مع ثقل الواو، وأيضًا فإن الغرض في ذلك إنما هو التبلغ بالحركة لاضطرار الساكنين إليها، فإذا وقعت من أي أجناسها كانت أقنعت في ذلك، كما روينا عن قطرب من قراءة بعضهم: " قُمَ اللَّيْل"3 بالفتح، و"قُلَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ"4، وبِعَ الثوب. قال: وقيس تقول: "اشْتَرَءوا الضَّلالَةَ". قال: وقال بعض العرب: عصئوا الله مهموزة. قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون ذلك على إجراء غير اللازم مجرى اللازم، وقد كتبنا في هذا بابًا كاملًا في الخصائص5، وذلك أنه شبه حركة التقاء الساكنين -وليست بلازمة- بالضمة اللازمة في "أُقتت" وأدؤر وأُجُوه، إلا أن همز نحو "اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ" من ضعيف ذلك. ولو وقفتَ مستذكرًا وقد ضمت الواو؛ لقلت: اشتروُوا، ففصلت ضمة الواو، فأَنشأت بعدها واوا، كأنك تستذكر "الضَّلالَة" أو نحوها، فتمد الصوت إلى أن تذكر الحرف. ولو استذكرت وقد كسرت لقلت: اشتروِي، فأنشأت بعد الكسرة ياء. ولو استذكرت وقد فتحت الوو لقلت: اشتروَا6، كما أنك لو استذكرت بعد مِن، وأنت تريد الرجل ونحوه لقلت: مِنا؛ لأنك أشبعت فتحة من الغلام، وفي منذ: منذو، وفي هؤلاء: هؤلائي. وحَكى صاحب الكتاب: أن بعضهم قال في الوقف: قالا، وهو يريد قال. وحَكى أيضًا: هذا سَيْفُنِي، كأنه استذكر بعد التنوين، فاضطر إلى حركته فكسره، فأحدث بعده ياء. ولو استذكرت مع الهمز لقلت: اشترءوا، فالواو بعد الهمزة واو مَطْل الضمة، وليست كواو قولك: اجترءُوا، وأنت تريد: افتعلوا من الجرأة.
ومن ذلك قراءة الحسن وإبي السَّمَّال: "وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلْمَاتٍ"1 ساكنة اللام. قال أبو الفتح: لك في ظلمات وكسرات ثلاث لغات: إتباع الضم الضم، والكسر الكسر، ومَن استثقل اجتماع الثقيلين فتارة يعدل إلى الفتح في الثاني يقول: ظُلَمَات وكِسَرات، وأخرى يسكن فيقول: ظُلْمَات وكِسْرَات، وكل جائز حسن. فأما فَعْلة بالفتح فلَا بُدَّ فيه من التثقيل إتباعًا، فتقول: ثَمَرَة وثَمَرَات، قال: ولما رأونا باديًا رُكَبَاتُنا ... على موطن لا نخلط الجِد بالهزل2 وقال النابغة: وَمَقْعَدُ أيسار على رُكَبَاتهم ... ومربطُ أفراس وناد وملعب وعليه قراءة أبي جعفر3: "من وراء الْحُجَرات"4. وقال بشر: حتى سقيناهم بكأس مرة ... مكروهة حُسَواتها كالعلقم وقد أسكنوا "9و" المفتوح، وهو ضروة، قال لبيد: رُحلن لشقة ونُصبن نصبا ... لوغْرات الهواجرِ والسَّمُوم5 وقال ذو الرمة: أَبت ذكرٌ عَوَّدْنَ أحشاء قلبه ... خُفُوفًا ورفْضَاتُ الهوى في المفاصل6 روينا ذلك كله، وروينا أيضًا أن بعض قيس قال: ثلاث ظَبْيَات، فأسكن موضع العين، وروينا عن أبي زيد أيضًا عنهم: شَرْيَة وشَرْيات وهو الحنظل، والتسكين عندي في هذا أسوغ منه في نحو رفْضات ووغْرات، من قِبَل أن قبل الألف ياء محركة مفتوحًا ما قبلها، وهذا شرط اعتلالها بانقلابها ألفًا، وتحتاج أن تعتذر من ذلك بأن تقول: لو قلبت ألفًا لوجب حذفها لسكونها وسكون الألف بعدها، وليس في نحو: رفضات ما يوجب الاعتذار من الحركة، وكان رفضات أقرب مأخذًا من ثمرات من قِبَل أن رفضة حدث ومصدر،
والمصدر قوي الشبه باسم الفاعل الذي هو صفة، والصفة لا تحرَّك في نحو هذا، نحو: صَعْبة وصَعْبات، وخَدْلة1 وخَدْلات، ويدلك على قوة شبه المصدر بالصفة وقوع كل واحد منهما موقع صاحبه، وذلك نحو قول الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} 2 أي: غائرًا، وقولهم: قم قائمًا؛ أي: قيامًا، وعليه قول الفرزدق: ألم ترني عاهدت ربي وإنني ... لبين رِتاج قائمًا ومقام على حَلْفَة لا أشتُمُ الدهر مسلمًا ... ولا خارجًا من فيَّ زُورُ كلام3 أي: ولا يخرج خروجًا. وعليه أيضًا كسروا المصدر، وهو فَعْلٌ عى ما يكسر عليه فاعل في الوصف وهو فواعل. أنشدنا أبو علي: وإنك يا عم ابن فارس قُرْزُل ... معيدٌ على قيل الخنا والهواجر4 يريد جمع هُجْر، فكأنه كسَّر هاجرًا على هواجر. وأنشدنا أيضًا: فليتك حال البحر دونك كله ... وكنت لقى تجري عليه السوائل5 يريد السيول جمع سيل، وهو كثير جدًّا، فكذلك سَهُل شيئًا إسكان نحو: رَفْضة ووَغْرة؛ لكونهما حدثين ومصدرين لشبههما بالصفة. ويزيد في أُنْسك تسكن عين ما لامه حرف علة لما تُعقبُ من الاعتذار من تحريك عينه، امتناعهم من تحريك العين في فَعْلَة إذا كانت حرف علة، وذلك نحو: جَوْزَات ولَوْزَات وبَيْضَات، ألا ترى أنه لو حرك فقال: جَوَزَات وبَيَضَات؛ لوجب أن يعتذر من صحة العين مع حركتها وانفتاح ما قبلها بأن يقول: لو أعللتُ لوجب القلب، فأقول: جازات وباضات؛ فيلتبس ذلك بما عينه في الواحد ألف منقلبة نحو: قارة6 وقارات، وجارة
وجارات. وإذا جاز إسكان العين الصحيحة، نحو: تَمْرات وشَعْرات؛ صار المعتل أحرى بالضمة. نعم، وربما جاء الفتح في العين إذا كانت واوًا أو ياء كما قال الهذلي: أبو بَيَضَات رائحٌ متأَوِّبٌ ... رفيقٌ بمسع الْمَنْكِبَيْنِ سَبُوحُ1 وعذره في ذلك: أن هذه الحركة إنما وجبت في الجمع، وقد سبق العلم بكونها في الواحد ساكنة، فصارت الحركة في الجمع "9ظ" عارضة فلم تُحفل، وفي هذا بعد هذا ضعف، ألا ترى أن هذه الألف والتاء تبنى الكلمة عليهما، وليستا في حكم المنفصل؟ يدلك على ذلك صحة الواو في خُطُوات وكُسُوات، ولو كانت الألف والتاء في ذلك في حكم المنفصل لوجب إعلال الواو؛ لأنها لام وقبلها ضمة، كما أنك لو بنيت فُعُلَة على التذكير من غزوت لأعللت اللام فقلت: غُزُية، حتى كأنك نطقت بفُعِل منه فقلت: غُزٍ. ولو بنيتها على التأنيث لصحت اللام فقلت: غُزُوَة، فعليه قلت: خُطُوات؛ لأنه مبني على التأنيث، ولو كان على التذكير قلت: خُطِيات، كما قلت: غُزٍ في فُعُل من الغزو. قال أبو علي: يدلك على أن الكلمة مبنية على الألف والتاء اطِّراد إتباع الكسر للكسر في سِدِرات وكِسِرات مع عزة فِعِل في الواحد، وإنما حكى سيبويه منه: إبل لا غير، وهو كما ذَكر2، إلا أن مما يؤنس بكون حركة العين غير ملازمة ما رويناه عن قطرب فيما حكاه عن يونس من قوله في جِرْوة: إذا قلت جِرِوات فصحة الواو وهي لام بعد الكسرة تدلك على قلة الاعتداد بها، وعلى ذلك أن يقال: إن هذا شاذ، يدل على شذوذه امتناعهم أن يحركوا عين كُلْية ومُدْية، وأن يقولوا: كُلُيات ومُدُيات؛ لما كان يعقب ذلك من وجوب قلب الياء إلى الواو، فدلنا ذلك على أن نحو جِرِوات شاذ. وبإزاء هذا أن يقال: هلا قلبوا فقالوا: كُلُوات ومُدُوَات، كما أنهم لو بنوا مثل فُعُلة من قضيت ورميت على التأنيث قلبوا فقالوا: رُمُوَة وقُضُوَة، فهذه أشياء تراها متكافئة أو كذلك، وعلى كل حال فالاختيار خُطْوات بالإسكان، ألا ترى أن الألف والتاء وإن بني الاسم عليهما فإن الجمع على كل حال خارج من الواحد الذي هو الأصل، فمعنى الفرعية موجود في الجمع
بتلفُّته إلى الواحد، وليست فُعُلَة إذا بنيت على التأنيث مما خرج عن تذكيره فيراعى فيه حكمه، كما رُوعي في الألف والتاء حكم الواحد، فاعرفه فصلًا. ومن ذلك ما حكاه الفراء عن بعض القراء فيما ذكر ابن مجاهد "يَخَطَّف"1 بنصب الياء والخاء والتشديد. قال ابن مجاهد: ولم يُرْوَ لنا عن أحد. قال أبو الفتح: أصله يَخْتَطف، فآثر إدغام التاء في الطاء؛ لأنهما من مخرج واحد، ولأن التاء مهموسة والطاء مجهورة، والمجهور أقوى صوتًا من المهموس، ومتى كان الإدغام يُقوِّي الحرف المدغم حسن ذلك؛ وعلته أن الحرف إذا أدغم خفي فضعف، فإذا أدغم في حرف أقوى منه استحال لفظ المدغم إلى لفظ المدغم فيه فقوي لقوته، فكان في ذلك تدارك وتلاف لما جُني علي الحرف المدغم؛ فأَسكن التاءَ لإدغامها والخاءُ قبلها ساكنة، فنقلت الحركة إليها، وقلبت التاء طاء وأدغمت في الطاء؛ فصارت "يَخَطَّف". ومنهم من إذا أسكن التاء ليدغمها كسر الخاء لالتقاء الساكنين، فاستغنى بحركتها عن نقل الحركة إليها، فيقول: يَخِطِّف. ومنهم من يكسر حرف المضارعة إتباعًا لكسرة فاء الفعل ما بعده فيقول: يِخِطِّف، وأنا إِخِطِّف، وأنشدو لأبي النجم: "10و" تدافُعَ الشِّيبِ ولم تِقِتِّل2 أراد تقتتل، فأسكن التاء الأولى للإدغام، وحرك القاف6 لالتقاء الساكنين بالكسر فصار تَقتِّل، ثم أتبع أول الحرف ثانيه فصار تِقِتِّل. وعلى هذا قالوا في ماضيه: خِطَّف، وأصلها اختطف، فأسكن التاء للإدغام فانكسرت الخاء لسكونها وسكون التاء، فحذف همزة الوصل لتحرك الخاء بعدها، وأُدغمت التاء في الطاء فصار "خِطَّف".
ومنهم من يتبع الطاء كسرة الخاء فيقول: خِطِّف، وأنشدونا: لا حِطِّب القومَ ولا القومَ سقى1 أراد: احتطب على ما مضى. وحكى أبو الحسن عنهم: فِتِّحوا الأبواب؛ أي: افتتحوا، على ما تقدم. وكذلك الكلم في قوله: يَهَدِّي ويَهِدِّي ويِهِدِّي2، وجاء المعذِّورن والْمُعِذِّرون والْمُعُذِّورن3، ومُرَدِّفين ومُرِدِّفين ومُرُدِّفين4، تُتْبِع الضم الضم، كما أتبعت الكسر الكسر. وأصله كله: المعتذرون ومرتدفون، وهو باب منقاد، وهذه طريقه. ومن بعد فيسأل فيقال: ما مثال "يَخَطِّف"؟ قيل: إن أردت الأصل فيفتعِل؛ أي: يختطف، وإن أردت اللفظ ففيه الصنعة وعليه المسألة، فوزنه: يَفَطْعِل، وذلك أن التاء في يفتعل زائدة، فكما أنها لو ظهرت لكانت زائدة فكذلك إذا أَبدلت فالبدل منها زائد؛ لأن البدل من الزائد زائد، ألا ترى أن الطاء من "اصطبر" بدل من التاء في "اصتبر" الذي هو افتعل؟ فكما أن التاء زائدة فكذلك ما هو بدل منها -وهو
الطاء- زائد، فوزن اصطبر على أصله: افتعل، وعلى لفظه: افطعل، فكذلك وزن "يَخَطِّف" من الفعل على لفظه: يَفَطْعِل، فإذا ثبت ذلك -وقد ثبت بحمد الله- فوزن خِطِّف: فِطْعِل، ووزن تِقِتِّل: تِفِعْتِل، ووزن مُرُدِّفين: مُفُدْعِلِين؛ لأن الدال فيه بدل من التاء الزائدة، فهي زائدة من هذا الوجه، كما كانت الطاء في خِطِّف زائدة من هذا الوجه. وكذلك لو قائل: ما مثل "ازَّيَّنَتْ"1 على أصله؟ قلت: تفعَّلت؛ أي: تزينت، وعلى لفظه: ازْفَعَّلَت. وكذلك قالوا: "اطَّيَّرْنَا"2 ووزنه: اطْفَعَّلْنا، وكذلك قول العجلي: من عبس الصيف قرون الإِجَّل3 يريد الإِيَّل، فإن اعتقدت أنه فِعْوَل أو فِعْيَل في الأصل فوزنه بعد البدل: فِعْجَل؛ لأن الجيم على هذا بدل من واو فِعْوَل أو ياء فِعْيَل، وهما زائدتان، فهي زائدة، فاعرف ذلك وقسه. قال ابن مجاهد: وحكى الفراء أن بعض أهل المدينة يسكن الخاء والطاء ويشدد فيجمع بين ساكنين. قال ابن مجاهد: ولا نعلم أن هذه القراءة رُويت عن أهل المدينة. قال أبو الفتح: هذا الذي يجيزه الفراء من اجتماع ساكنين في نحو هذا لا يثبته أصحابنا؛
وإنما هو اختلاس وإخفاء عليهم فيرون أنه إدغام، وإنما هو إخفاء للحركة وإضعاف للصوت، وهذا كما يُروى في قوله: ومَسحِه مُرُّ عُقاب كاسِرِ1 أن الحاء مدغمة في الهاء، ويا ليت شعري كيف يجوز لذي نظر أو من يُخْلِد ألى أدني تفكير أن يدَّعِي أن هنا "10ظ " إدغامًا، أو أن تجمع بين ساكنين، وقد قابل به جزء التفعيل، وإذا وقع التحاكم إلى بديهة الحس؛ فقد سقطت كلفة إتعاب النفس، ألا ترى أن وزن قوله: "ومسحهِي" مفاعلن، فالحاء مقابَل بها عين "علن"، والعين أول الوتد، وهي كما ترى وتعلم محركة، أفيقابَل في الوزن الساكن بالمتحريك؟ وإذا أفضى الأمر في السفور إلى هاهنا حَسَر شبهة اللبس والعناء، وقد قلنا في كتابنا الموسوم "بسر الصناعة "2 في هذا ما فيه كفاية وغناء. قال ابن مجاهد: وقد رُوي عن مجاهد والحسن "يَخْطِف"، ولم يبلغنا أن أحدًا قرأ "خَطَف" بفتح الطاء، فيُقرأ هذا الحرف يَخْطِف، وأحسب أن هذا غلط ممن رواه. قال أبو الفتح: قد قلنا في كتابنا الموسوم "بالمنصف" وهو شرح تصريف عثمان في نحو هذا من قوله: وما كل مبتاع ولو سَلْفَ صَفْقُه ... يراجع ما قد فاته بِرِداد3 فإذا تأملته أغنى عن إعادته إن شاء الله، وجملته: أن يكون استُغني بِخَطِف عن خَطَف في الماضي، وجاء المضارع عليه كما أن قوله: "سَلْف" يكون مُسَكَّنًا من "سَلِف" وإن لم يستعمل؛ استغناء بسلَف عنه، وقد شرحناه هناك فتركناه هنا.
ومن ذلك قراءة الحسن بخلاف ومجاهد وطلحة بن مصرِّف1 وعيسى الهمداني2: "وُقُودُهَا النَّاسُ"3. قال أبو الفتح: هذا عندنا على حذف المضاف؛ أي: ذو وُقودِها، أو أصحاب وقودها الناس؛ وذلك أن الوُقود بالضم هو المصدر، والمصدر ليس بالناس؛ لكن قد جاء عنهم الوَقود بالفتح في المصدر؛ لقولهم: وَقَدَت النارُ وَقودًا، ومثله: أُولِعْتُ به وَلُوعًا، وهو حسن القبول منك، كله شاذ، والباب هو الضم. وكان أبو بكر يقول في قولهم: توضأت وَضوءًا: إن هذا المفتوح ليس مصدرًا؛ وإنما هو صفة مصدر محذوف، قال: وتقديره: توضأت وُضوءًا وَضُوءًا؛ لقولك: توضأت وُضوءًا حسنًا؛ لأن الوَضوء عنده صفة من الوضاءة. وقرأت على أبي علي في نوادر أبي زيد: رجل ساكوت بَيِّن الساكوتة، فقال: قياس مذهب أبي بكر في الوَضوء أن يكون هذا على أنه أراد رجل ساكوت بَيِّن السكتة الساكوتة. وعليه قولهم فيما حكاه الأصمعي: رجل بَيِّنُ الضارورة؛ أي: بين الضَّرة، أو المضرة الضارورة. وأما قولهم: لص بين اللَّصوصية، وحُرٌّ بين الحروية، وخصصته بالشيء خَصوصِيَّة، فإن شئت قلت: هو على مذهب أبي بكر لص بين اللَّصة اللَّصوصية، والْخَصَّة الْخَصوصية، والْحُرِّية الْحَرورية. وإن شئت قلت غير هذا؛ وذلك أن ما لا يجيء من الأمثلة بنفسه قد يجيء إذا اتصلت ياء الإضافة به، وذلك كقول الأعشى: وما أَيْبُلِيٌّ على هيكل ... بناه وصلَّب فيه وصارا4
فأيبلي كما ترى فَيْعُلِيّ، ولولا ياء الإضافة لم يجز ذلك، ألا ترى أنه لم يأتِ عنهم فَيْعُل؟ وكذلك قولهم في الإضافة إلى تحبة: تَحَوِيّ، ومثاله: تَفَلِيّ. وليس في كلامهم اسم على تفل، فكذلك جاز خَصوصية وأختاها، هذا مع ما حُكي "11و" عنهم من القَبول والوَضوء والوَلُوع والوَقود، فإذا جاء هذا المثال في المصدر من غير أن تصحبه ياء الإضافة فهو بأن يأتي معهما أجدر. ومن ذلك قراءة رؤبة: "مَثَلا مَا بَعُوضَةٌ"1 بالرفع. قال ابن مجاهد: حكاه أبو حاتم عن أبي عبيدة عن رؤبة. وقال أبو الفتح: وجه ذلك: أن "ما" هاهنا اسم بمنزلة الذي؛ أي: لا يستحيي أن يضرب الذي هو بعوضة مثلًا، فحذف العائد على الموصول وهو مبتدأ. ومثله قراءة بعضهم: "تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنُ"2 أي: على الذي هو أحسن. وحكى صاحب الكتاب عن الخليل: ما أنا بالذي قائل لك شيئًا؛ أي: الذي هو قائل لك شيئًا. وعليه قوله: لم أرَ مثل الفتيان في غِيَر الـ ... أيام ينسَوْن ما عواقبُها3 أي: ينسون الذي هو عواقبها، وحَذْفُ الضمير من هنا ضعيف؛ لأنه ليس فضلة كالهاء في نحو قولك: ضربت الذي كلمت؛ أي: كلمته. وإن شئت كان تقديره: ينسون أيُّ شيء عواقبها؟ فتكون ما استفهامًا، وعواقبها خبرًا عنها، والجملة في موضع نصب بينسون، وجاز فيها التعليق؛ لأنها ضد يذكرون ويعلمون، فيجري مجرى قولك: لا تنسَ أيُّنا أحق بكذا، وأَتذكُرُ أَزيدٌ أفضل أم عمرو؟ ومن ذلك قراءة يزيد البربري: "وَعُلِّمَ آدَمُ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا"4.
قال أبو الفتح: ينبغي أن يُعلم ما أذكره هنا؛ وذلك أن أصل وضع المفعول أن يكون فضلة وبعد الفاعل؛ كضرب زيد عمرًا، فإذا عناهم ذكر المفعول قدَّموه على الفاعل، فقالوا: ضرب عمرًا زيد، فإن ازدادت عنايتهم به قدموه على الفعل الناصبِه، فقالوا: عمرًا ضرب زيد، فإن تظاهرت العناية به عقدوه على أنه رَبُّ الجملة، وتجاوزوا به حد كونه فضلة، فقالوا: عمرو ضربه زيد، فجاءوا به مجيئًا ينافي كونه فضلة، ثم زادوه على هذه الرتبة فقالوا: عمرو ضرب زيد، فحذفوا ضميره ونَوَوه ولم ينصبوه على ظاهر أمره؛ رغبة به عن صورة الفضلة، وتحاميًا لنصبه الدال على كون غيره صاحب الجملة، ثم إنهم لم يرضوا له بهذه المنزلة حتى صاغوا الفعل له، وبنوه على أنه مخصوص به، وألغَوْا ذكر الفاعل مظهرًا أو مضمرًا، فقالوا: ضُرب عمرو، فاطُّرح ذكر الفاعل ألبتة. نعم، وأسندوا بعض الأفعال إلى المفعول دون الفاعل ألبتة، وهو قولهم: أُولعت بالشيء، ولا يقولون: أولعني له كذا، وقالوا: ثُلِجَ فؤاد الرجل، ولم يقولوا: ثَلَجَهُ كذا، وامتُقع لونه، ولم يقولوا: امتقعه كذا، ولهذا نظائر، فرفضُ الفاعل هنا ألبتة واعتماد المفعول به ألبتة دليل على ما قلناه، فاعرفه. وأظنني سمعت: أولعني1 به كذا، فإن كان كذلك فما أقله أيضا! وهذا كله يدل على شدة عنايتهم بالفضلة؛ وإنما كانت كذلك لأنها تجلو2 الجملة، وتجعلها تابعة المعنى لها، ألا ترى أنك إذا قلت: رغبت في زيد، أُفيد منه إيثارك له، وعنايتك به، وإذا قلت: رغبت عن زيد، أُفيد منه اطراحك له، وإعراضك عنه، ورغبت في الموضعين بلفظ واحد "11ظ"، والمعنى ما تراه من استحالة معنى رغبت إلى معنى زهدت، وهذا الذي دعاهم إلى تقديم الفضلات في نحو قول الله سبحانه: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} 3، وإنما موضع اللام التأخير؛ ولذلك قال سيبويه: إن الجفاة ممن لا يعلم كيف هي في المصحف يقرؤها: "وَلَمْ يَكُنْ كُفُوًا له أَحَدٌ"4. فإن قلت: فقد قالوا: زيدًا ضربته فنصبوه، وإن كانوا قد أعادوا عليه ضميرًا يشغل الفعل
بعده عنه حتى أضمروا له فعلًا ينصبه، ومع هذا فالرفع فيه أقوى وأعرب، وهذا ضد ما ذكرته من جعلهم إياه ربَّ الجملة ومبتدأها في قولهم: زيد ضربته. قيل: هذا وإن كان على ما ذكرتَه فإن فيه غرضًا من موضع آخر؛ وذلك أنه إذا نصب على ما ذكرت فإنه لا يعدم دليل العناية به، وهو تقديمه في اللفظ منصوبًا، وهذه صورة انتصاب الفضلة مقدمة لتدل على قوة العناية به، لا سيما والفعل الناصب له لا يظهر أبدًا مع تفسيره، فصار كأن هذا الفعل الظاهر هو الذي نصبه، وكذلك يقول الكوفيون أيضًا. فإذا ثبت بهذا كله قوة عنايتهم بالفضلة حتى ألغوا حديث الفاعل معها، وبنَوا الفعل لمفعوله فقالوا: ضُرب زيد -حَسُن. قوله تعالى: "وَعُلِّمَ آدَمُ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا" لما كان الغرض فيه أنه قد عَرَفَها وعَلِمَها، وآنس أيضًا علم المخاطبين بأن الله سبحانه هو الذي علمه إياها بقراءة مَن قرأ: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} ، ونحوه قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} 1، وقوله تعالى: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} 2، هذا مع قوله: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَق} 3، وقال سبحانه: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} 4، وقال تبارك اسمه: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} 5. فقد عُلم أن الغرض بذلك في جميعه أن الإنسان مخلوق ومضعوف، وكذلك قولهم: ضُرب زيد، إنما الغرض منه أن يُعلم أنه منضرب، وليس الغرض أن يُعلم مَن الذي ضربه، فإن أُريد ذلك ولم يدل دليل عليه فلَا بُدَّ أن يذكر الفاعل فيقال: ضرب فلان زيدًا، فإن لم يفعل ذلك كلف علم الغيب. ومن ذلك قراءة الحسن رحمه الله: "أَنْبِهِمْ"6 بوزن أَعْطِهِم، ورُوي عنه: "أَنبيهُمُ" بلا همز، ورُوي عن ابن عامر: "أَنْبِئْهِم" بهمز وكسر الهاء. قال ابن مجاهد: وهذا لا يحوز. قال أبو الفتح: أما قراءة الحسن: "أَنْبِهِمْ" كأعطهم، فعلى إبدال الهمزة ياء على أنه يقول: أَنْبَيْتُ كأَعْطَيْتُ، وهذا ضعيف في اللغة؛ لأنه بدل لا تخفيف، والبدل عندنا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر.
وحدثنا أبو علي قال: لقي أبو زيد سيبويه فقال: سمعت العرب تقول: قَرَيْتُ وتوضيت، فقال له سيبويه: فكيف تقول في المضارع؟ قال: أَقرأُ. هذا آخر الحكاية عن أبي علي1. وزاد أبو العباس محمد بن يزيد فيها: فقال له سيبويه: فقد تركت إذن مذهبك. ونحوه قراءة: "أن تَبَوَّيَا"2. ويجوز على هذه القراءة "أَنْبِهُم" على أصل حركة الهاء وهو الضم؛ كقراءة مَن قرأ: "فخسفنا بِهُو وبدارِهُو الأرض"3. وأما قراءته على الرواية الأخرى: "أَنبيهُم" فهو على قياس التخفيف الصريح، ولك في هذه الهاء على "12و" هذه القراءة الضم والكسر. أما الضم4 فمن وجهين: أحدهما: وهو الأظهر؛ إخراجها على الأصل فيه. والآخر: وفيه الصنعة؛ وهو أن هذه الياء ليست بلازمة؛ وإنما اجتلبها تخفيف الهمزة؛ وذلك أن الهمزة إذا سكنت مكسورًا ما قبلها فتخفيفها القياسي أن تخلصها في اللفظ ياء، وذلك قولك في ذئب: ذيب، وفي بئر: بير، فقوله: "أَنبِيهم" بياء ساكنة ينبغي أن يكون على التخفيف القياسي، لا على أنه أبدل الهمزة ياء إبدالًا مستكرهًا على حد قولهم في البدل: قريب كأعطيت، فإنما كان ذلك كذلك من قِبَل أنه لو أَبدل لكان قد أَخرج الهمزة على أصلها إلى ذوات الياء، ولو كان فعل ذلك لوجب حذفه كما تحذف لام: أَعطيت وأَغزيت للوقف والجزم، كما حذفها في القراءة الأخرى لما أبدل فقال: "أَنْبِهِمْ"، ولو اعتقد أنه قد أبدل ألبتة لما جاز إثبات الياء في موضع الوقف، كما لا يجوز: أَعطيهم ولا أَغزيهم، إلا أن يحمل ذلك على الضرورة، وإثبات الياء في موضع الجزم والوقف؛ كقوله: ألم يأْتيك والأنباء تنمي ... بما لاقت لبونُ بني زياد 5
فإن فعل ذلك ففيه على هذا ضرورتان: إحداهما: الإبدال، ولا ضرورة إليه. والآخر1: إثبات حرف العلة في موضع الوقف، وذلك ضرورة أفحش من الأولى؛ لكثرة الإبدال على قبحه، وقلة إثبات حرف اللين في موضع الوقف؛ لكن إذا اعتقد أنه خُفف لم يكن في هذه القراءة ضرورة ألبتة، وفي هذا كافٍ. وإذا كان "أَنبيهِم" إنما هو على التخفيف القياسي، فكأن الهمزة حاضرة لأنها هي الأصل؛ إذ كان التخفيف له أحكام التحقيق، ألا ترى إلى صحة الواو والياء في تخفيف ضوء وفيء؛ وذلك قولك: هذا ضَوٌ وفَيٌ ونَوٌ وشَيٌ، بضمة الواو والياء مع تحركهما وانفتاح ما قبلهما، وترك قبلهما ألفين لذلك يدل على أن الواو والياء لما تحركتا بحركة الهمزة المحذوفة للتخفيف كانتا لذلك في حكم الساكنين، فكما تصحان هنا سكانتين في ضوء ونوء وفيء وشيء، كذلك صحتا متحركتين في ضَوٍ ونَوٍ وشَيٍ، وعلى ذلك صحت الواو والياء أيضًا في تخفيف نحو: جَيْئَل2 وحَوْءَب3 إذا خَففت فقلت: جَيَل وحَوَب، فكما تكون الياء مضمومة مع التحقيق في قوله: "أَنْبِئْهُم"، فكذلك تكون مضمومة مع التخفيف في قولك: "أَنبيهُم"؛ لما بيناه من أن حكم الهمزة المخففة حكم المحققة. وسألت أبا علي -رحمه الله- فقلت: من أجرى غير اللازم مجرى اللازم فقال: في تخفيف الأحمر: لَحْمر، أيجوز له على هذا أن يقلب الواو والياء في حَوَب وجَيَل ألفًا، فيقول: حاب وجال؟ فقال: لا، وأومأ إلى أن حكم القلب أقوى من حكم الاعتداد بالحركة في لَحمر؛ أي: فلا يبلغ في الجواز ذلك لشناعته، وهو كما ذكر. وقد يجوز عندي في قراءة الحسن -رحمه الله- هذه أن يكون أراد "أَنبهم" كقراءته في الأخرى، إلا أنه أشبع الكسرة فأنشأ عنها ياء، فقال: "أَنْبِيهم"، كما قد يجوز ذلك في قوله: "أَلَم "12ظ" يَأْتِيَك"؛ فإنه أشبع الكسرة فمطها، فبلغت ياء، وعليه الرواية
الأخرى التي ذكرها أبو الحسن وهي قوله: "أَلَمْ يَأْتِك"، وعليه أيضًا ما وجه بعضهم قوله: كأن لم ترا قبلي أسيرًا يمانيا1 قال: أراد لم ترَ، ثم أشبع الفتحة فأنشا عنها ألفًا. فإذا جاز ذلك ساغ الضم في الهاء أيضًا على أصل ضمتها. فإن قلت: فهل يجوز أن تقول: إنه لم يعتدد بالياء لما كانت زائدة مجتلبة للإشباع، فجرت لذلك مجرى ما ليس موجودًا، كما أن من مد "أوائل" إتباعًا كما ترى، على حد قوله: نفي الدنانير تنقادُ الصياريف2 قال على هذا: أَوائيل، أقر الهمزة بحالها بدلًا من واو أواول؛ لبعدها من الطرف بالياء الحاجزة؛ لأن هذه الياء لَحَقٌ3 ونَيِّفٌ مجتلبة للإشباع، وليست لها عصمة ولا مُسكة، فجرت مجرى المنفردة ألبتة، كما يهمز فيقول: أوائل، فكذلك يهمز، فتقول: أوائيل، ولا يحفل بالياء حاجزًا لما ذكرنا، ولا يجرى عندي مجرى ياء طواويس ونواويس؛ إذ كانت الياء هناك ثابتة القدم؛ لكونها بدلًا من واو ناووس وطاووس الثانية؟ فالجواب: أنه إن ذهب إلى هذا على ما رمته كسر الهاء أيضًا؛ وذلك أن أقصى ما في
هذا أن تكون الياء في "أنبيهم" مدة إشباعًا لا حكم لها، فكأنها ليست هناك، وإذا لم تكن هناك كسرة الياء -وهي تدعو إلى كسر الهاء- فعلى أي الوجهين حملته، فكسر الهاء هو الكلام. وأما حديث كسرها من القسمة الأولى1 -وأنت تنوي بأنبيهم التخفيف القياسي- فهو على معاملة اللفظ؛ وذلك أن الملفوظ به الآن وإن كان تخفيفًا إنما هو الياء ألبتة، فعومل لفظها معاملة نحوه ونظيره، فكُسِرَت الهاء مع هذه الياء كما تكسر في نحو: عليهم وإليهم، كما أن قول الله عز وجل: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ} 2 أصله: لكن أنا، فخففت الهمزة وألقيت حركتها على النون فانفتحت، فصارت في التقدير: "لكنَنَا"، فلما التقى الحرفان المثلان متحركين كُره ذلك، وإن كانت حركة النون الأولى غير لازمة من حيث كانت من أعراض التخفيف، وأجريت مجرى اللازمة، فأُسكنت الأولى وأدغمت في الثانية؛ حملًا على حاضر الحال وإجراء غير اللازم مجرى اللازم3. وقد كتبنا في الخصائص بابًا مفردًا في إجراء العرب غير اللازم مجرى اللازم، وإجراء اللازم مجرى غير اللازم، فاكتفينا به عن إعادته؛ لئلا يطول هذا الكتاب4. نعم، وإذا كانت العرب قد أجرت الحرف الصحيح في نحو هذا مجرى ما لا يعتد به حتى لم يحفلوا بلفظ، نحو قولهم: منهِم واضربهِم، فأن يجروا الياء الساكنة مجرى ذلك لخفائها، ولأن لفظها نفسها داعٍ إلى الكسر -أجدر. وأما الرواية عن ابن عامر: أَنبئهِم" بالهمز وكسر الهاء، فطريقه أن هذه الهمزة ساكنة، والساكن ليس بحاجز حصين عندهم، فكأنه لا همزة هناك أصلًا، وكأن كسرة الباء على هذا مجاورة للهاء، فلذلك كسرت "13و" فكأنه على هذا قال: "أَنبهِم". ويدل على ما ذكرناه من ضعف الساكن أن يكون حاجزًا حصينًا قولهم: قِنْيَة5، وهي وهي من قَنَوْت، وصِبْيَة وهي من صَبَوْت، وعِلْية وهي من عَلَوْت، وعِذْي6 وهو من قولهم: أَرَضُون عَذَوات، وبِلْيُ سفر لقولهم في معناه: بِلْوُ، وهو من بلوت، ومنه ناقة عِلْيَان7 وهي من علوت، ودَبَّة8 مهيار وهو من تهور، وفلان قِدْيَة في هذا الأمر وهو من القِدْوة، وأصله
كله: قِنْوُ، وصِبْوة، وعِلْوة، وعِذْوُ، وبِلْو سفر، وناقة عِلْوان، ودَبة مِهْوَار، فقلبت الواو في ذلك كله للكسرة قبلها، ولم يعتدد الساكن بينهما حاجزًا لضعفه، فكأن الكسرة تباشر الواو فتقلبها لذلك ياء، كما تقلبها لو لم تجد بينهما حاجزًا، فكذلك الهمزة في "أَنْبِئهِم" لا تحجز على هذا النحو الذي ذكرناه. وروينا عن أبي زيد فيما أخذناه عن أبي علي، وعن غير أبي زيد: منهِم ومنهِ ومنكِم وبِكِم، وأجرى كاف المضمر مجرى هائه، وسترى هذا فيما بعد إن شاء الله. فقد علمت بذلك أن قول ابن مجاهد: هذا لا يجوز لأوجه له؛ لما شرحناه من حاله. ورحم الله أبا بكر؛ فإنه لم يأْلُ فيما علمه نصحًا، ولا يلزمه أن يُرِي غيره ما لم يُره الله تعالى إياه، وسبحان قاسم الأرزاق بين عباده، وإياه نسأل عصمة وتوفيقًا وسدادًا بفضله. ومن ذلك قراءة أبي جعفر يزيد: "لِلْمَلائِكَةُ اسْجُدُوا"1. قال أبو الفتح: هذا ضعيف عندنا جدًّا؛ وذلك أن "الملائكة" في موضع جر، فالتاء إذن مكسورة، ويجب أن تسقط ضمة الهمزة من "اسجدوا" لسقوط الهمزة أصلًا إذا كانت وصلًا، وهذا إنما يجوز ونحوه إذا كان ما2 قبل الهمزة حرف ساكن صحيح، نحو قوله عز وجل: "وَقَالَتُ اخْرُج"3، وادخلُ ادخلُ، فضُم لالتقاء الساكنين لتخرج من ضمة إلى ضمة، كما كنت تخرج منها إليها في قولك: اخرج. فأما ما قبل همزته هذه متحرك -ولا سيما حركة إعراب- فلا وجه لأن تحذف حركته ويحرك بالضم، ألا تراك لا تقول: قل للرجلُ ادخُل، ولا: قل للمراةُ ادخُلي؛ لأن حركة الإعراب لا تُستهلك لحركة الإتباع إلا على لغة ضعيفة، وهي قراءة بعض البادية: "الْحَمْدِ لِلَّه" بكسر الدال، ونحو منه ما حكاه لي أبو علي: أن أبا عبيدة حكاه من قول بعضهم: دعه في حِرُمِّه، فحذف كسرة راء "حر"، وألقى عليها ضمة همزة أمه، وهذا عندنا على شذوذه أعذر من قوله: "لِلْمَلائِكَةُ اسْجُدُوا"؛ وذلك أنه خفف همزة تثبت في الوصل وهو قولك: في هنِ أمه، فإذا كانت تثبت في الوصل جاز تخفيفها فيه؛ بل لا يكون التخفيف بإلقاء الهمزة ونقل الحركة إلا في الوصل، وليس فيه إلا شيء واحد؛ وهو حذفه حركة الإعراب لحركة غير ملازمة؛ وإنما هي للهمزة.
وأما قوله: "لِلْمَلائِكَةُ اسْجُدُوا" فإن همزة "اسجدوا" يحذفها في الواصل ألبتة، وإذا كانت محذوفة ألبتة لم يكن إلى تخفيفها سبيل؛ لأن الوصل يستهلكها أصلًا، فحركة ماذا -يا ليت شعري! - تنقل وقد حُذف المتحرك بحركته أصلًا فلم يبقَ إلا الإتباع، وحركة الإتباع لا تبلغ مبلغ حركة تخفيف الهمز؛ من حيث كانت "13ظ" حركة الهمزة موجودة فيها في الابتداء والوصل جميعًا، فعلمت بذلك قوتها، وحركة الإتباع تجري مجرى الصدى الذي لا اعتداد به، ولا هو عندهم مما يعقد على مثله، فإذا ضعفت الحركة القوية فما ظنك بالحركة الضعيفة؟ ونحو من هذه الحكاية عن أبي عبيدة: مارواه أحمد بن يحيى: قال: كنا عند سعيد بن سَلْم1 أنا وابن الأعرابي فخرجا لصلاة العصر، وتأخَّرت لتجديد الطهر بعدهما، فلما خرجتُ قال لي ابن الأعرابي: أين أنت؟ ألا تسمع لهذا؟ قلت: ما هو؟ وإذا أبو سَرَّار الغنوي يتحدث، قال: كنت أحضر العراق فإذا أردت أهلي وقد اشتريت منها وتبتَّتُّ2 أجتاز بامرأة عجوز لها بنيَّات، فإذا نزلت عليها بَهَشْن3 إلَيَّ وأَطَفْن بِي، فأَفرز لهن مما اشتريت شيئًا أدفعه إليهن، فغبرت زمانًا، ثم جئت العجوز فوجدتها غائبة عن بيتها، وإذا أولئك الجواري قد صرن نساء، فبهشن إليَّ على عادتهن، وجاءت العجوز فوجدَتني خاليًا معهن، فقالت: ما هذا؟ أفي السَّوَتَنْتُنَّه؟ أفي السوتنتنه؟ فقلت: وما في هذا؟ أردات: أفي السوءة أنتنه؟ فحذفت الهمزة من السوءة تخفيفًا، وألقت حركتها على الواو فانفتحت الواو، وألقت حركة الهمزة في أنتنه على كسرة التاء من السوءة فانفتحت، وحذفت همزة أنتنه فصارت: أفي السوتنتنه؟ 4 هكذا قال أحمد بن يحيى على كسرة التاء، وله وجه، إلا أنه مع هذا ضعيف؛ وذلك أن هذه الهمزة إذا خففت فحذفت، وألقيت حركتها على ما قبلها، لم يكن ذلك الذي قبلها إلا ساكنًا، نحو قوله تعالى في قراءة ورش عن نافع: "قَدَ افْلَحَ الْمُومِنُونَ"5، "وَالَارْض". وحكى أبو زيد في خُبَأَة6: انه سمع بعضهم يقرأ: "ويمسك السماء أن تقع عَلَّرضِ"7، يريد: على
الأرض، فحُذفت همزة أرض تخفيفًا، وأُلقي حركتها على اللام وهي ساكنة كما ترى، فصارت عَلَلَرض، فكره اجتماع اللامين متحركتين، فأسكن اللام الأولى وأدغمها في الثانية فصارت "علَّرض"، كما أسكن أبو عمرو: "لَكنَ نَا" حتى صار لذلك "لكنَّا"، فهذا التحفيف مع النقل إنما يكون إذا كان الأول الملقي عليه ساكنًا، فأما إذا كان متحركًا فقد حَمَتْه حركته أن يَقبل حركة أخرى غيرها. والتاء من السوءة محركة، فكيف يمكن إلقاء الحركة عليها مع وجود حركتها فيها؟ وعليه قراءة الكسائي فيما حدثنا به أبو علي سنة إحدى وأربعين: "بما أُنزلَّيك1" قياسًا -فيما قال أبو علي- على لكنَّا. قال أبو علي ما نحن عليه ونعى هذه القراءة، وقال لحركة لام أُنزل: فإذا قبح ذلك مع أن حركة اللام بناء، فما الظن بما حركته إعراب، وحرمة الإعراب أقوى من حرمة البناء، فالجناية إذن عليها فوقها عليها. وقول أحمد بن يحيى: إنه ألقى فتحة أَنْتُنه على كسرة الهاء، طريقه: أنه لما نقل فتحة همزة أنتن إلى ما قبلها صادفت كسرة السوءة على شناعة النقل مع ذلك، فهجمت الفتحة على الكسرة فابتزَّتها موضعَها، وكلا القولين خبيث وضعيف، وعلى أننا قد أفردنا في كتاب الخصائص بابًا لهجوم الحركات "14و" على الحركات، مختلفات كن أو متفقات2؛ لكنه ليس على هذا الذي كرهناه واستضعفناه. فهذا كله يشهد بضعف قوله: "قُلْنَا لِلْمَلائِكَةُ اسْجُدُوا". وفيه أكثر من هذا، ولولا تحامي الإملال لجئنا به، وفيما أوردناه كافٍ مما حذفناه. ومن ذلك قال عباس: سألت أبا عمرو عن "الشِّجَرة"3 فكرهها، وقال: يقرأ بها برابر مكة وسودانها.
وقال هارون الأعور عن بعض العرب: تقول الشِّجرة، وقال ابن أبي إسحاق: لغة بني سُليم الشِّجرة. قال أبو الفتح: حكى أبو الفضل الرياشي قال: كنا عند أبي زيد وعندنا أعرابي فقلت له: إنه يقول الشِّيَرَة، فسأله فقالها، فقالت له: سله عن تصغيرها، فسأله فقال: شُيَيْرَة. وأنشد الأصمعي لبعض الرجاز في أرجوزة طويلة: تحسبه بين الإكام شِيَرة1 وإذا كانت الياء فاشية في هذا الحرف -كما ترى- فيجب أن تجعل أصلًا يساوق الجيم، ولا تُجعل بدلًا من الجيم، كما تجعل الجيم بدلًا من الياء في قولهم: رجل فُقَيْمِج2؛ أي: فُقَيْمِي، وعَربَانِج؛ أي: عَرَبَانِيّ3، وقوله: حتى إذا ما أمسجت وأمسجا4 يريد أمست وأمسى. قال أبو علي: هذا يدلك على أن ما حذف لالتقاء الساكنين في حكم الحاضر الملفوظ به. قال: ألا ترى أنه أبدل من لام أمسيت بعد أن قدرها ملفوظًا بها، ولو كان الحذف ثابتًا هنا لما جاز أن يبدل من اللام شيء؛ لأن البدل إنما هو من ملفوظ به، كما أن البدل ملفوظ به. قال: وليست كذلك لام عَشِيَّة إذا حقرتها فقلت: عُشيَّة؛ لأن الياء الثانية من عُشَيِّية لم تحذف لالتقاء الساكنين؛ لأنه لا ساكنين هناك، وإنما حذفت حذفًا للتخفيف؛ فلذلك سقط
قول أبي العباس في تحقير العرب عَشِيَّة على عُشَيْشِيَة1؛ لأن الياء لم تثبت هنا فتبدل منها. وقال أبو الحسن: إن قومًا يقولون في تحقير فَعلية من الياء: إن المحذوف منها الياء الثانية، فعلى هذا قال أبو علي ما قال. ومما أبدلت فيه الجيم من الياء2 قوله -ورويناه عن غير وجه: خالي عُوَيف وأبو عَلِجِّ ... المطعمان اللحمَ بالعَشجِّ وبالغدواة فلق البَرْنِجِّ ... يُقْلَع بالوَد وبالصِّيصِجِّ3 وروينا أيضًا قوله: يا رب إن كنتَ قلبت حِجَّتِج ... فلا يزال شاحج يأتيك بِج4
قال أبو النجم: كأن في أذنابهن الشُّوَّلِ ... من عبس الصيف قرون الإجَّل1 يريد: الإيَّل. فقد يجوز أن تكون الجيم في شِجرَة بدلًا من الياء في شيرة لفشو شيرة، وقلة شِجرة. ومن ذلك قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي الطفيل2، وعبد الله بن أبي إسحاق، وعاصم الجحدري، وعيسى بن عمر الثقفي: "هُدَيَّ"3. قال أبو الفتح: هذه لغة فاشية في هذيل وغيرهم؛ أن يقلبوا الألف من آخر المقصور إذا أضيف إلى ياء المتكلم ياء. قال الهذلي4: سبقوا هَوَيَّ وأعنقوا لهواهم ... فتُخِرِّمُوا ولكل جنب مَصْرَعُ وروينا عن قطرب قول الشاعر5: يطوف بي عِكَبٌّ في مَعَدٍّ ... ويطعن بالصُّمُلَّة في قَفَيَّا فإن لم تَثْأَرَا لي من عِكَبٍّ ... فلا أرويتما أبدًا صَدَيَّا قال لي أبو علي: وجه قلب هذه الألف "14ظ" لوقوع ياء ضمير المتكلم بعدها، أنه موضع ينكسر فيه الصحيح، نحو: هذا غلامي، ورأيت صاحبي، فلما لم يتمكنوا من كسر الألف قلبوها ياء، فقالوا: هذه عَصَيّ، وهذا فتيّ؛ أي: عصاي وفتاي، وشبهوا ذلك بقولك: مررت بالزيدين، لما لم يتمكنوا من كسر الألف للجر قلبوها ياء، ولا يجوز على هذا أن تقلب ألف التثنية لهذه الياء، فتقول: هذان غلاميّ؛ لما فيه من زوال علم الرفع، ولو كانت ألف عصا ونحوها علمًا للرفع لم يجز فيها عصَيّ.
ومنهم من يبدل هذه الألفات في الوقف ياءات، فيقول: هذه عصيْ، ورأيت حبليْ، وهذه رَجَيْ؛ أي: الناحية؛ يريد رجًا. ومنهم من يبدلها في الوقف أيضًا واوًا، فيقول: هذه عَصَو وأَفعَو وحُبَلَو. ومنهم من يبدلها في الوصل واوًا أيضًا، فيقول: هذه حُبْلَو يا فتى. ومن البدل في الوقف ياء ما أنشده بعض أصحابنا؛ وهو محمد بن حبيب1: إن لِطيٍّ نسوة الفَضيْ ... يمنعهن الله ممن قد طغيْ2 بالمشرفيات وطعن بالقَنيْ ... يا حبذا جفانك ابن قَحْطَبيْ وحبذا قدورك الْمُنْصَّبيْ ... كأن صوت غليها إذا غَلَيْ صوت جمال هَدَرَيْ فَقَبْقَبيْ أراد: ابن قحطبة، فإما أن يكون حذف الهاء للترخيم في غير النداء، فبقيت الباء مفتوحة، فأشبع الفتحة للقافية؛ فصارت قحطبًا، ثم أبدل الألف ياء على ما مضى، وإما أن يكون أبدل الهاء ألفًا؛ فصارت قحطبة إلى قحطبا، ثم أبدل الألف ياء على ما مضى، وعلى ذلك يجوز أيضًا أن يكون قوله3: كفعل الْهِرِّ يحترِشُ العَظايا أراد: العَظَاية، ثم أبدل الهاء ألفًا؛ فصار العظايا. وإن شئت قلت: شبه ألف النصب بهاء التأنيث فقال: العظايا، كما تقول: العظاية، وهذا قول أبي عثمان.
وفيه قول لي ثالث؛ وهو أن يكون العَظايا جمع عَظَاية على التكسير، كما تقول في حمامة حمائم، فعظايا على هذا كمطايا وحوايا جمع حَوِيَّة1. وأما قوله: الْمُنَصَّبَيْ فأراد المنصبة، فأبدل الهاء ألفًا، ثم أبدل الألف ياء على ما مضى، ولا يجوز أن يكون أراد هنا الترخيم؛ لأنه فيه لام التعريف، وما فيه هذه اللام فلا يجوز نداؤه أصلًا، فهو من الترخيم أبعد، وهذا يفسد قول من قال في قول العجاج: أَوالِفًا مكة من وُرْقِ الْحَمِي2 إنه أراد الحمام ثم رخم؛ لأن ما فيه لام التعريف لا يُنادى اصلًا فكيف يرخم؟ 3 وأما قوله: هَدَرَيْ، فإنه أراد هدر، ثم أشبع الفتحة على حد قوله: ينباع من ذِفرى غضوب جَسْرَةٍ4 فصار هدَرَا، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف فقال: هدَرَيْ. وكذلك قوله: قَبْقَبيْ أراد قبقب5، ثم أشبع فصار قبقبا، وعلى هذا التخريج يسقط قول سيبويه عن يونس في قوله محتجًّا عليه بقول الشاعر: دعوت لما نا بني مِسْوَرًا ... فَلَبَّى فَلَبَّيْ يَدَيْ مِسْورِ6
قال سيبويه1: لو كان لبيك اسمًا واحدًا -كما يقول يونس، وإنما قُلب في لبيك لاتصاله بالمضمر كما يُقلب في إليك وعليك -لما قال: فَلَبَّيْ "15و" يَدَيْ مِسْوَرِ، ولقال: فَلَبَّى يدَيْ مِسْوَرِ، على حد قولك: على يَدَيْ فلان، وإلى يَدَيْ جعفر، فثبات الياء مع المظهر يدلك على أنه لم يقلب في لبيك على حد ما قلب في إليك وعليك، وفي ذلك رد لقول يونس: إن لبيك مفرد كإلبيك وعليك. قال أبو علي: يمكن يونس أن يقول: إنه أجرى الوصل مجرى الوقف، فكما تقول في الوقف: عَصيْ وفَتيْ كذلك قال: فَلَبَّيْ، ثم وصل على ذلك، هذا ما قاله أبو علي. وعليه أن يقال: كيف يحسن تقدير الوقف على المضاف دون المضاف إليه؟ وجوابه: أن ذلك قد جاء، إلا ترى إلى ما أنشده أبو زيد2 من قول الشاعر: ضَخْمٌ نجارى طيِّب عُنْصُرِّي أراد: عنصري، فثقَّل الراء لنية الوقف، ثم أطلق بالإضافة من بعد. نعم، وإذا جاز هذا التوهم مع أن المضاف إليه مضمر، والمضمر المجرور لا يجوز تصور انفصاله، فأن يجوز ذلك مع المظهر الذي هو "يَدي" أولى وأجدر، من حيث كان المظهر أقوى من المضمر. ومثله قوله: يا ليتها قد خرجت من فَمِّه3 أراد: من فمه، ثم نوى الوقف على الميم فثقلها، على حد قوله في الوقف: هذا خالدّ، وهو يجعلّ، ثم أضاف على ذلك فهذا كقولهم: عنصرِّي. ويُروى من فُمِّه بضم الفاء أيضًا، وفيه أكثر من هذا. ومن ذلك قراءة الحسن والزهري وابن أبي إسحاق وعيسى الثفقي والأعمش: "إسْراييل"4 بلا همز.
قال أبو الفتح: إن لم يكن ذلك همزًا مخففًا فخَفِيَ بتخفيفه فعُبر عنه بترك الهمز، فذلك من تخليط العرب في الاسم الأعجمي. قال أبو علي: العرب إذا نطقت بالأعجمي خلَّطت فيه، أنشدنا: هل تعرف الدار لأم الخزرج ... منها فظَلْتَ اليوم كالْمُزَرَّج1 قال: وقياسه كالمزرجَن؛ لأنه من الزَّرَجون وهو الخمر، والنون في زَرَجون ينبغي أن يكون أصلًا بمنزلة السين من قَرَبُوس2. وأنشدنا لرؤبة: في خِدْرِ ميَّاسِ الدُّمى الْمُعَرجن3 فهذا من العُرجون، وكذا كان قياسه أن يقول: المزرجن. وإذا جاز للعرب أن تخلِّط في العربي وهو من لغتها، فكيف يكون -ليت شعري- فيما ليس من لغتها؟! ومما خلطت فيه من لغتها قول لبيد: دَرَس المنا بِمُتالع فأَبان4
يريد: المنازل. وقال علقمة: مُفدَّم بسَبَا الكَتان مَلْثُومُ1 أراد: بسبائب2، وهو كثير، ونكره الاستكثار من الشواهد والنظائر؛ تحاميًا لطول الكتاب. ومن ذلك قراءة الزهري: "وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوَفِّ بِعَهْدِكُمْ"3 مشددة. قال أبو الفتح: ينبغي -والله أعلم- أن يكون4 قرأ بذلك؛ لأن فَعَّلت أبلغ من أفعلت؛ فيكون على "أوفوا بعهدي" أبالغ في توفيتكم؛ كأنه ضمان منه سبحانه أن يعطي الكثير عن القليل، فيكون ذلك كقوله سبحانه: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} 5، وهو كثير. ومن ذلك قراءة ابن محيصن: "يَذْبَحُونَ أَبْنَاءَكُمْ"6. قال أبو الفتح: وجه ذلك أن فعَلت بالتخفيف قد يكون فيه معنى التكثير؛ وذلك لدلالة الفعل على مصدره، والمصدر اسم الجنس، وحسبك "15ظ" بالجنس سَعَة وعمومًا، ألا ترى إلى قول عبد الرحمن بن حسان: وكنتَ أذلَّ من وتِد بقاعٍ ... يشجِّجُ رأسه بالفِهْرِاوجِي7 ولم يقل: مُوجِّئ، فكأنه قال: يشجج رأسه بالفهر شاج؛ لأن واجئ فاعل كشاج. وأنشد أبو الحسن: أنت الفداء لقِبْلَة هدَّمتَها ... ونقرتَها بيديك كلَّ مُنَقَّر
كأنه قال: ونقرتها؛ لأن قوله: كل منقَّر عليه جاء، وبعده قوله: فطار كل مطير فهذا على أنه كأنه قال: فطَيَّرَ كُلَّ مُطَيَّر، ولما في الفعل من معنى المصدر الدال على الجنس ما1 لم يجز تثنيته ولا جمعه؛ لاستحالة كل واحد من التثنية والجمع في الجنس. فأما التثنية والجمع في نحو قولك: قمت قيامين، وانطلقت انطلاقين، وعند القوم أفهام، وعليهم أشغال. فلم يُثَن شيء من ذلك، ولا يُجمع ولم يرد وهو مُرادٌ به الجنس؛ ولكن المراد به النوع. وقد شرحنا ذلك في غير موضع من كتبنا، وما خرج من التعليق عنا. ومن ذلك قراءة الزهري أيضًا: "وَإِذْ فَرَّقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ"2 مشددة. قال أبو الفتح: معنى "فرَّقنا" أي: جعلناه فِرَقًا، ومعنى "فرَقنا": شققنا بكم البحر، وفرَّقنا أشد تبعيضًا من فرَقنا، وقوله تعالى: {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} 3 يحتمل أن يكون فرقين، ويحتمل أن يكون أفراقًا؛ ألا ترى أنك تقول: قسمت الثوب قسمين، فكان كل قسم واحد منهما عشرين ذراعًا، كما تقول ذلك وهو جماعة أقسام. ومن ذلك فرَقتُ شعره أي: جعلته فرقين، وفرَّقت شعره أي: جعلته فِرَقًا، وجاز هنا لفظ الجمع؛ لأن كل رجل منهم قد خرق من البحر وفَرَق خَرْقًا وفِرْقًا. وقد يكون أيضًا في فرَقنا مخففة معنى فرَّقنا مشددة على ما مضى آنفًا في: "يَذْبَحُونَ أَبْنَاءَكُمْ". ومن ذلك قال ابن مجاهد: حدثني عبد الله بن محمد4 قال: حدثنا خالد بن مرداس قال: حدثنا الحكم بن عمر الرُّعَيْني قال: أرسلني خالد بن عبد الله القسري إلى قتادة5 أسأله
عن حروف من القرآن؛ منها قوله: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} ، فقال قتادة: "فاقتالوا أنفسكم"1 من الاستقالة. قال أبو الفتح: اقتال هذه افتعل، ويصلح أن يكون عينها واوًا كاقتاد، وأن يكون ياء كاقتاس. وقول قتادة: إنها من الاستقالة، يقتضي أن يكون عينها ياء؛ لما حكاه أصحابنا عمومًا: من قِلت الرجل في البيع بمعنى أقلته، وليس في قِلت دليل على أنه من الياء؛ لقولهم: خِفت ونِمت، وهما من الخوف والنوم؛ لكنه في قولهم في مضارعه: أقيله. وليس يحسن أن يحمله على مذهب الخليل في طِحت أطيح وتهت أتيه، أنهما فَعِلت أَفْعِل من الواو؛ لقلة ذلك. وعلى أن أبا زيد قد حكى: ما هت الركِيَّةُ تميهُ2، ودامت السماء تديم؛ لقلة ما هت تميه، ولأن أبا زيد قد حكى في دامت تديم المصدر وهو دَيْمًا، فقد يكون هذا على أن أصل عينه ياء. وحدثني أبو علي بحلب سنة ست وأربعين قال: قال بعضهم: إن قِلت الرجل في البيع ونحوه إنما هو من: قُلْتُ له افسخ هذا العقد، وقال لي: قد فعلتُ، فهي عند من ذهب إلى ذلك "16و" من الواو. قال أبو علي: ويفسد هذا ما حكوه في مضارعه من قولهم: أقيله، فهذا دليل الياء. قال: ولا ينبغي أن يحمل على أنه فَعِلَ يَفْعِلُ من الواو -يريد مذهب الخليل3- لقلة ذلك. قال: لكنه من قولهم: تَقَيَّلَ فلان أباه، إذا رَجَعَتْ إليه أشباه منه. فمعنى أقلته على هذا: أني رجعت له عما كنت عقدته معه، ورجع هو أيضًا؛ فقد ثبت بذلك أن عين استقال من الياء، ولا يعرف في اللغة افتعلت من هذا اللفظ في هذا المعنى ولا غيره؛ وإنما هو استفعلت استقلت. وقد يجوز أن يكون قتادة عرف هذا الحرف على هذا المثال، وعلى أنه لو كان بمعنى استقلت لوجب أن يُستعمل باللام، فيقال: استقلت لنفسي أو على نفسي، كما يقال: استعطفت فلانًا
لنفسي وعلى نفسي، وليس معناه أن يسأل نفسه أن يُقِيلَه؛ وإنما يريد: أن يسأل ربه -عز وجل- أن يعفو عن نفسه. وكان له حرى1 -لو كان على ذلك- أن يقال: فاقتالوا لأنفسكم؛ أي: استقيلوا لها، واستصفحوا عنها. فأما اقتال متعديًا، فإنما هو في معنى ما يجتره2 الإنسان لنفسه من خير أو شر ويقترحه، وهو من القول. قال: بما اقتال من حُكْم عَلَيَّ طبيبُ3 أي: بما أراده واقترحه واستامه، وليس معنى هذا معنى الآية، بل هو بضده؛ لأنه بمعنى استَلِينُوا واستعطفوا. هذا ما يُحْضِرُه طريق اللغة، ومذهب التصريف والصنعة، إلا أن قتادة ينبغي أن يحسن الظن به، فيقال: إنه لم يورد ذلك إلا بحجة عنده فيه من رواية أو دراية. ومن ذلك قراءة سهل بن شعيب النهمي4: "جَهَرةً"5 "وزَهَرةً"6، كل شيء في القرآن محرَّكًا. قال أبو الفتح: مذهب أصحابنا في كل شيء من هذا النحو مما فيه حرف حلقي ساكن بعد حرف مفتوح: أنه لا يحرك إلا على أنه لغة فيه؛ كالزَّهْرة والزَّهَرة، والنَّهْر والنهَر، والشَّعْر والشَّعَر، فهذه لغات عندهم كالنشْز7 والنشَز، والحلْب والحلَب، والطرْد8 والطرَد. ومذهب الكوفيين فيه أنه يحرك الثاني لكونه حرفًا حلقيًّا، فيجيزون فيه الفتح وإن لم يسمعوه؛ كالبحْر والبحَر والصخْر والصخَر. وما أرى القول من بعد إلا معهم، والحق فيه إلا في أيديهم؛ وذلك أنني سمعت عامة عُقَيل تقول ذاك ولا تقف فيه سائغًا غير مستكره، حتى لسمعت الشجري يقول: أنا محَموم بفتح الحاء، وليس أحد يدعي أن في الكلام مفَعول بفتح الفاء.
وسمعته مرة أخرى يقول -وقد قال له الطبيب: مَصَّ1 التفاح وارم بثُفله: والله لقد كنت أبغي مصه وعِلْيَتُهُ تَغَذُو بفتح الغين، ولا أحد يدعى أن في الكلام يفَعَل بفتح الفاء. وسمعت جماعة منهم -وقد قيل لهم: قد أقيمت لكم أَنزالكم2 من الخبز- قالوا: فاللحَم -يريدون: اللحْم- بفتح الحاء3. وسمعت بعضهم وهو يقول في كلامه: ساروا نَحَوه بفتح الحاء، ولو كانت الحاء مبنية على الفتح أصلًا لما صحت اللام لتحركها وانفتاح ما قبلها؛ ألا تراك لا تقول: "16ظ" هذه عصَوٌ ولا فتَوٌ؟ ولعمري إنه هو الأصل؛ لكن أصل مرفوض للعلة التي ذكرنا، فعلى هذا يكون جَهَرة وزَهَرة -إن شئت- مبنيًّا في الأصل على فَعَلة، وإن شئت كان إتباعًا على ما شرحنا الآن. ومن ذلك قراءة الأعمش: "اثْنَتَا عَشَرَةَ"4 بفتح الشين. قال أبو الفتح: القراءة في ذلك: "عَشْرة" و"عَشِرة"، فأما "عَشَرة" فشاذ، وهي قراءة الأعمش. وعلى الجملة فينبغي أن يعلم أن ألفاظ العدد قد كثر فيها الانحرافات والتخليطات، ونُقضت في كثير منها العادات؛ وذلك أن لغة أهل الحجاز في غير العدد نظير عشْرة: عشِرة، وأهل الحجاز يكسرون الثاني، وبنو تميم يسكنونه، فيقول الحجازيون: نَبِقة وفَخِذ، وبنو تميم تقول: نبْقة وفخذ، فلما ركب الاسمان استحال الوضع فقال بنو تميم: إحدى عشِرة وثنتا عشِرة إلى تسع عشِرة بكسر الشين، وقال أهل الحجاز: عشْرة بسكونها، ومنه قولهم في الواحد: واحد وأَحد، فلما صاروا إلى العدد قالوا: إحدى عشرة، فبنوه على فِعْلَى، ومنه قولهم: عشْر وعَشرة، فلما صاغوا منه اسمًا للعدد بمنزلة ثلاثون وأربعون قالوا: عشرون، فكسروا أوله، ومنه قولهم: ثلاثون وأربعون إلى التسعون، فجمعوا فيه بين لفظين ضدين؛ أحدهما يختص بالتذكير والآخر بالتأنيث. أما المختص بالتذكير فهو الواو والنون، وأما المختص بالتأنيث فهو قولهم: ثلاث وأربع وتسع في صدر ثلاثون وأربعون وتسعون. وكل واحد من ثلاث وأربع وخمس وست إلى تسع هكذا بغير هاء مختص بالتأنيث. ولما جمعوا في هذه الأعداد -من عشرين إلى تسعين- بين لفظي التذكير والتأنيث صلحت لهما جميعًا، فقيل: ثلاثون رجلًا، وثلاثون امرأة، وخمسون جارية وخمسون غلامًا، وكذلك إلى التسعين. ومنه أيضًا اختصارهم من ثلثمائة إلى تسعمائة على أن أضافوه إلى الواحد، ولم يقولوا: ثلاث مئين،
ولا أربع مئات إلا مستكرهًا وشاذًّا، فكما ساغ هذا وغيره في أسماء العدد قالوا أيضًا: "اثنتا عَشَرَة" في قراءة الأعمش هذه، وينبغي أن يكون قد روى ذلك رواية، ولم يره رأيًا لنفسه. وعلى ذلك ما يُروى: من أن أبا عمرو حضر عند الأعمش فروى الأعمش: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يتخولنا بالموعظة1، فقال أبو عمرو: إنما هو يتخوننا بالنون، فأقام الأعمش على اللام، فقال له أبو عمرو: إن شئت أعلمتك أن الله لم يعلمك من هذا الشأن حرفًا فعلت، فسأل عنه الأعمش، فلما عرف أبا عمرو وكبر عنده وأصغى إليه، وعلى أن هذا الذي أنكره أبو عمرو صحيح عندنا؛ وذلك أن معنى يتخولنا: يتعهدنا، فهو من قوله: يساقِطُ عنه ورقُه ضارياتِها ... سِقاط حديد القَين أَخول أَخولا2 أي: شيئًا بعد شيء، ومنه قولهم: فلان يَخُولُ على أهله: أي يتفقدهم، ويتعهد أحوالهم، ومنه قولهم: خالُ مالٍ، وخائل مال: إذا كان حسن الرِّعْيَة والتفقد للمال3. والتركيب مما تُغير فيه أوضاع الكلم عن حالها في موضع الإفراد؛ من ذلك حكاية أبي عمرو الشيباني من قول بعضهم في حضَرَمَوْت: حضْرَمُوت "17و" بضم الميم؛ ليصير على وزن المفردات نحو عَضْر فُوط4 ويَسْتَعُور5. ومن تحريف ألفاظ العدد ما أنشده أبو زيد في نوادره: علام قتل مسلم تعمُّدا ... مذ سنة وخَمِسُون عددا6 بكسر الميم من خمسون، وعذره وعلته عندي أنه احتاج إلى حركة الميم لإقامة الوزن، فلم ير أن يفتحها فيقول: خَمَسون؛ لأنه كان يكون بين أمرين: إما أن يُظن أنه كان الأصل فتحها ثم أُسكنت، وهذا غير مألوف؛ لأن المفتوح لا يسكن لخفة الفتحة، وإما أن يقال: إن الأصل السكون فاضظر ففتحها، وهذا ضرورة إنما جاء في الشعر، نحو قوله: مُشْتَبِهِ الأَعلَامِ لَمَّاعِ الْخَفَق7
أي: الْخَفْق. ومنه قول زهير: ثم استمروا وقالوا إن مشرَبكم ... ماء بشرقي سلمى فَيْدُ أو رَكَكُ1 قال أبو عثمان: قال الأصمعي: سألت أعرابيًّا -ونحن في الموضع الذي ذكره زهير- يعني هذا البيت؛ فقلت له: هل تعرف رككًا؟ فقال: قد كان هاهنا ماء يسمى رَكًّا. قال الأصمعي: فعلمت أن زهيرًا احتاج إليه فحركه، فعدل عن الفتح2؛ لئلا يُعرف بأثر الضرورة، فعدله إلى موضع آخر فكسر الميم، فكأنه راجَع بذلك أصلًا حتى كأنه كان خمِسون ثم أسكن تخفيفًا، فلما اضطر إلى الحركة كسر، فكان بذلك كمراجع أصلًا لا مستَكرَهًا على أن يُرى مضطرًّا. وأنَّسه أيضًا بذلك: ما جاء عنهم من قولهم: إحدى عشْرة وعشِرة، فصار خَمِس من خَمِسون بمنزلة عَشِرة، وصار خَمْسون بمنزلة عَشْر. ومن ذلك قراءة يحيى بن وثاب3 والأشهب: "وَقُثَّائِهَا"4. قال أبو الفتح: بالضم في القُثاء حسن الطريقة؛ وذلك أنه من النوابت، وقد كثر عنهم في هذه النوابت الفُعَّال كالزُّبَّاد5 والقُلَّام6 والعُلَّام7 والثُّقاء8، ومن هاهنا كان أبو الحسن يقول في رمان: أنه فُعَّال؛ لأنه من النبات، وقد كثر فيه الفعال على ما مضى، وأما قياس مذهب سيبيويه: فأن يكون فُعلان بزيادة النون؛ لغلبة زيادة النون في هذه المواضع بعد الألف. وله أيضًا وجه من القياس: أنه من معنى رَمَتْتُ الشيء: غذا جمعت أجزاءَه، وهذه حال الرمان، وقد جاء بهذا الموضع نفسه بعض المولدين فقال: ما يُحسِن الرُّمان يجمع نفسه ... في قِشِره إلا كما نحن
ويدل على أنه من معنى الاجتماع والتضام تسميتهم لرمان البر: الْمَظَّ؛ وذلك لقوة اجتماعه، واتصال أجزائه، فهو من معنى المماظَّة المعازَّة، وهو إلى الشدة، ويدل على صحة مذهب سيبويه في أن الألف والنون إذا جاءتا بعد المضاعف كانتا بحالهما وهما بعد غير المضاعف، ما ورد في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن قومًا وردوا عليه فقال لهم: "مَن أنتم؟ " فقالوا: بنو غيَّان، فقال عليه السلام: "بل أنتم بنو رَشْدان"، أفلا تراه كيف اشتق الاسم من الغي والغَوَاية حتى حكم بزيادة النون؛ لأنه قابله بضده وهو قوله: "رشدان"، وترك أن يشتقه من الغَيْن، وهو إلباس الغيم؟ 1 ألا ترى إلى قوله: كأني بَيْنَ خافِيتى عُقاب ... أصاب حَمامة في يوم غَيْن2 فصار "غَيَّان" عنده مع التضعيف "17ظ" الذي فيه بمنزلة ما لا تضعيف فيه من نحو: مَرْجان وسَعْدان، فكما يحكم بزيادة النون في مثل هذا من غير التضعيف، كذلك حكم بزيادتها مع التضعيف. ومن ذلك قراءة ابن مسعود وابن عباس: "وثُومِها3" بالثاء. قال أبو الفتح: يقال: الثُّوم والفُوم بمعنى واحد؛ كقولهم: جدث وجدف، وقام زيد ثم عمرو، ويقال أيضًا: فم عمرو؛ فالفاء بدل فيهما جميعًا؛ ألا ترى إلى سَعَة تصرف الثاء في جدث، لقولهم: أجداث، ولم يقولوا: أجداف، وإلى كثرة ثُمَّ وقلة فُمَّ؟ ويقال: الفوم: الحنطة، قال: قد كنت أحسبني كأغنى واجد ... وَرَد المدينة عن زراعة فُوم4 أي: حنطة. ومن ذلك قراءة زهير الفُرقُبي5: "الذي هو أَدْنَأ"6 بالهمز. قال أبو الفتح: أخبرنا أبو علي عن أبي الحسن علي بن سليمان عن أبي العباس محمد بن يزيد
عن الرياشي عن أبي زيد قال: تقول: دَنُؤ الرجل يَدْنُؤ دناءَة، وقد دَنأ يدنأ إذا كان دنيئًا لا خير فيه، غير أن القراءة بترك الهمز: "أدنى"، وينبغي أن يكون من دنا يدنو؛ أي: قريب. ومنه قولهم في المعنى: هذا شيء مقارب للشيء ليس بفاخر ولا موصوف في معناه، ومن هذه المادة قولهم: هذا شيء دونٌ؛ أي: ليس بذاك، وقولهم: هذا دونك، فينتصب هذا على الظرف؛ أي: هو في المحل الأقرب، وينبغي أن يكون "دون" من1 قولك: هذا رجل دون، وصفًا على فُعْل كحُلْو ومُر، ورجل جُدٍّ2؛ أي: ذي جَدٍّ. وقد يجوز أن يكون في الأصل ظرفًا ثم وصف به، ويُؤنِّسُ هذا المذهب الثاني أنَّا لا نعرف فعلًا تصرف من هذا اللفظ كدان يدون ولا نحوه، ولو كان في الأصل وصفًا لكان حرى أن يستعملوا منه فِعلا؛ كقولهم: قد حلا يحلو، ومن يَمَرُّ وأَمَرَّ يُمِرُّ، وقد جَدِدْتَ يا رجل. قال الكميت: وجدت الناس غير ابني نزار ... ولم أذمهم شرطًا ودُونَا3 ومن ذلك قراءة يحيى وإبراهيم: "ما سِأَلْتم"4 بكسر السين. قال أبو الفتح: فيه نظر؛ وذلك أن هذه الكسرة إنما تكون في أول ما عينه معتلة كبِعت وخِفت، أو في أول فُعِل إذا كانت عينه معتلة أيضًا كقِيل وبِيع وحِلَّ وبِلَّ؛ أي: حُلَّ وبُلَّ، وصِعْق الرجل نحوه، إلا أنه لا تكسر الفاء في هذا الباب إلا والعين ساكنة أو مكسورة كنعم وبئس وصِعْق، فأما أن تكسر الفاء والعين مفتوحة في الفعل فلا. فإذا كان كذلك فقراءتهما "سِأَلْتم" مكسورة السين مهموزة غريب، والصنعة في ذلك: أن في سأل لغتين: سِلْتَ تَسَال كخِفْتَ تَخَاف، وسأَلْتَ تَسْأَل كسَبَحَتَ تَسْبَح، فإذا أَسندت الفعل إلى نفسك قلت على لغة الواو: سِلْتُ كخِفْتُ، وهي من الواو؛ لما حكاه أصحابنا من قولهم: هما يتساولان. ومن همز قال: سألت، فأما قراءته5: "سِأَلْتم"، فعلى أنه كسر الفاء على قول مَن قال: "سِلْتُم" كخِفْتُم، ثم تنبه بعد ذلك للهمزة، فهمز العين بعدما سبق الكسر في الفاء فقال: "سِأَلْتم"؛ فصار ذلك من تركيب اللغة.
ومثله ما رويناه عن أبي بكر محمد بن الحسن عن أبي العباس أحمد بن يحيى من قول بلال بن جرير: إذا جِئْتَهم أو سآيلْتَهُم ... وجدتَ بِهِمْ علَّة حاضِرَه1 "18و" وذلك أنه أراد فاعلتهم ساءلتهم. ومن العادة أيضًا أن تُقلب الهمزة في هذا الثاني، فيقال: سايلت زيدًا، ثم إنه أراد الجمع بين العوض والمعوض منه، فلم يمكنه أن يجمع بينهما في موضع واحد كالعرف في ذلك؛ لأنه لا يكون حرفان واقعين في موضع واحد عينين كان أو غيرهما، فأجاءه الوزن إلى تقديم الهمزة التي هي العين قبل ألف فاعلت، ثم جاء بالياء التي هي بدل منها بعدها؛ فصار سآيلتهم2. فإن قيل ما مثال: سآيلتهم؟ قلت: هو فعاعلتهم؛ وذلك لأن الياء بدل من الهمزة التي هي عين، والبدل من الشيء يوزن بميزانه، ألا ترى أن من اعتقد في ياء أَيْنُق أنها عين أبدلت قال هي أَعْفُل؛ لأن الياء بدل من الواو التي هي عين نُوق، فالياء إذن عين في موضع العين، كما كانت الواو لو ظهرت في موضع العين، كما أن ياء ريح وعيد في المثال عين فِعْل، كما كانت الواو التي الياء بدل منها عين فعل في رِوْح وعِوْد، وهذا واضح. وكذلك قوله أيضًا: "سِأَلْتم" بكسر الفاء على حد كسرها في سِلتم، ثم استذكر الهمزة في اللغة الأخرى فقال: سِأَلْتم، ويجوز أيضًا أن يكون أراد سَأَلْتم، فأبدل العين ياء كما أبدلها الآخر في قوله: سالَتْ هذيلٌ رسول الله فاحشةً ... ضلَّتْ هذيلٌ بما قالت ولم تُصِبِ3 فصار تقديره على هذا إلى سِلْتُم من الوجه؛ أي: من طريق البدل، لا على لغة مَن قال: هما يتساولان، فلما كسر السين استذكر الهمزة فراجعه هنا، كما راجعه في القول الأول.
وقد أفردنا في كتاب الخصائص بابًا في أن صاحب اللغة قد يعتبر لغة غيره ويراعيها1؛ فأغنى عن إعادته هنا. ومن ذلك قراءة أبي السَّمَّال، رواها أبو زيد فيما رواه ابن مجاهد: "وَالَّذِينَ هَادَوْا"2 بفتح الدال. قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون فاعَلوا من الهداية؛ أي: رامُوا أن يكون أهدى من غيرهم، كقولك: رامَوْا من رميت3، وقاضَوْا من قضيت، وساعَوْا من سعيت، فيقول في مصدر هادَوا: مهاداة؛ كقاضوا مقاضاة، وساعوا مساعاة، وقد هودِي الرجل يُهَادى مهاداة، إذا كان حوله من يمسكه ويهديه الطريق، ومنه قولهم في الحديث: "مر بنا يهادى بين اثنين"، ومنه قوله: من أن يرى تهديه فتـ ... يان المقامة بالعشيه4 ومن ذلك قراءة قتادة: "وَإِنْ مِنَ الْحِجَارَةِ"5، وكذلك قراءته: "وَإِنْ مِنْهَا"6 مخففة. قال ابن مجاهد: أحسبه أراد بقوله مخففة الميم؛ لأني لا أعرف لتخفيف النون معنى. قال أبو الفتح: هذا الذي أنكره ابن مجاهد صحيح؛ وذلك أن التخفيف في إِنَّ المكسورة شائع عنهم؛ ألا ترى إلى قول الله تعالى: {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا} 7، {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} 8 أي: إنهم على هذه الحال. وهذه اللام لازمة مع تخفيف النون
فرقًا بين إِنْ مخففة من الثقيلة، وبين إِنْ التي للنفي بمنزلة "ما" في قوله سبحانه: {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} 1، وقوله: فما إنْ طبنا جُبْنٌ ولكن ... منايانا ودولة آخرينا2 وهذا واضح. ومن ذلك قراءة الأعمش: "لما يَهْبُطُ"3 بضم الباء. قال أبو الفتح: قد بينا في كتابنا "المنصف"4 -وهو تفسير تصريف أبي عثمان- "18ظ" أن باب فَعَل المتعدي أن يجيء على يفعِل مكسور العين؛ كضرب يضرب وحبس يحبس، وباب فَعَل غير المتعدي أن يكون على يفعُل مضموم العين؛ كعقد يقعد وخرج يخرج، وأنهما قد يتداخلان فيجيء هذا في هذا، وهذا في هذا؛ كقتل يقتُل، وجليس يجلِس، إلا أن الباب ومجرى القياس على ما قدمناه، فهبط يهبُط على هذا بضم العين أقوى قياسًا من يهبِط، فهو كسقط يسقط؛ لأن هبط غير متعدٍّ في غالب الأمر كسقط. وقد ذُهب في هذا الموضع إلى أن هبط هنا متعد، قالوا ومعناه: لما يهبُطُ غيره في طاعة الله عز وجل؛ أي: إذا رآه الإنسان خشع لطاعة خالقه، إلا أنه حُذف هنا المفعول تخفيفًا، ولدلالة المكان عليه، ونسب الفعل إلى الحجر؛ لأن طاعة رائيه لخالقه إنما كانت مسببة عن النظر إليه؛ أي: منها ما يهبُط الناظر إليه؛ أي: يُخْضِعه ويُخْشِعه، وقد جاء هبطته متعديًا كما ترى، قال: ما راعني إلا جناح هابطا ... على البيوت قَوطَهُ العلابِطَا5 وأعمله في القوط، فعلى هذا تقول: هبط الشيء وهبطته، وهلك الشيء وهلكته، قالوا في قول العجاج: ومهمهٍ هالِك من تَعرَّجا6
قولين؛ أحدهما: أنه كأنه قال: هالكِ المتعرجين، والآخر: هالكِ مَن تعرجا؛ أي: مهلك من تعرج1، فتقول على هذا: أصبحت ذا مال مهلوك، وهلكه الله يهلِكه هُلكًا. وإذا كانت كذلك، وكانت هبط هنا قد تكون متعدية، فقراءة الجماعة: "لما يَهْبِطُ" بكسر الباء أقوى قياسًا من يهبُط؛ لأن معناه لما يهبِط مبصرَه ويحطه من خشية الله. ومن ذهب فيه إلى أن يهبط هنا غير متعد فكأنه قال: وإن منها لما لو هبط شيء غير ناطق من خشية الله لهبط هو، لا أن غير الناطق تصح منه الخشية؛ ألا ترى أن قوله: لها حافِرٌ مثل قُعب الوليـ ... ـد تتخذُ الفار فيه مَغَارا أي: لو اتخذت فيه مغارًا لغوره وتقعبه لوسعها وصلح لها، لا أنها هي تتخذ ألبتة. ومثله مسألة الكتاب: أَخَذَتْنَا بالْجَودِ2 وفوقَه؛ أي: لو كان فوق الجود شيء من المطر لكانت قد أخذتْنا به. وكلام العرب لمن عرفه، ومَن الذي يعرفه؟ ألطف من السحر، وأنقى ساحة من مشوف الفكر، وأشد تساقطًا بعضًا على بعض، وأمس تساندًا نفلًا إلى فرض. ومن ذلك قراءة الأعمش: "يَسْمَعُونَ كَلِمَ اللَّهِ"3. الكلام كل ما استقل برأسه؛ أعني: الجمل المركبة، نحو: قام محمد، وأبوك منطلق. وقد فَصَلْنَا في أول باب من الخصائص4 بين الكلام والقول، وأن كل كلام قول، وليس كل قول كلامًا. فأما الكلم فلا يكون أقل من ثلاث، وذلك أنه جمع كلمة كثَفِنَة5 وثَفِن، ونَبِقَة ونَبِق، وسَلِمَة6 وسَلِم؛ ولذلك ما7 اختاره صاحب الكتاب على الكلام، فقال: هذا باب علم ما الكلم من العربية، ولم يقلك: ما الكلام؛ وذلك لأن الكلام كما قد يكون فوق الاثنين فكذلك أيضًا قد يكون اثنين، وسيبويه إنما أراد هنا8 ثلاثة أشياء:
الاسم والفعل والحرف، فترك اللفظ الذي قد يكون أقل من الجماعة إلى اللفظ الذي لا يكون إلا جماعة "19و". ومن ذلك قراءة أبي جعفر وشيبة1 والحسن بخلاف والحكم بن الأعرج2: "إِلَّا أَمَانِيْ وَإِنْ هُمْ"3، و"لَيْسَ بِأَمَانِيْكُمْ وَلا أَمَانِيْ أَهْلِ الْكِتَابِ"4 الياء فيه كله خفيفة ساكنة. قال أبو الفتح: أصل هذا كله التثقيل -أَمَانِيُّ جمع أُمْنِيَّة- والتخفيف في هذا النحو كثير وفاشٍ عندهم. قال أبو الحسن في قولهم أثاف: لم يسمع من العرب بالتثقيل ألبتة. وقال الكسائي: قد سمع فيها التثقيل، وأنشد: أثافي سُفعًا في مُعَرَّسِ مِرجل5 والمحذوف من نحو هذا هو الياء الأولى التي هي نظيرة ياء المد مع غير الإدغام، نحو ياء قراطيس، وجراميق6، وأراجيح، وأعاجيب، جمع أرجوحة وأعجوبة، ألا تراها قد حذفت في قوله: والبكراتِ الفُسَّجَ العطامسا7
وقوله: وغير سُفْع مثل يحامِم1 يريد: يحاميم وعطاميس. وروينا لعبيد الله بن الحر قوله: وبُدِّلْتُ بعد الزَّعْفَران وطيبه ... صَدا الدِّرع من مستحكِماتِ الْمَسامِر وعلى أن حذف الياء مع الإدغام أسهل شيئًا من حذفه ولا إدغام معه؛ وذلك أن هذه الياء لما أُدغمت خفيت وكادت تستهلك، فإذا أنت حذفتها فكأنك إنما حذفت شيئًا هو في حال وجوده في حكم المحذوف. نعم، وقد يحذف هذا الحرف ويؤتى بالعوض منه حرفًا في حال وجوده في حكم ما ليس موجودًا، وهو تاء التأنيث في نحو قولهم: فرازنة2 وزنادقة وجحاجحة3، فالتاء عوض من ياء فرازين وجحاجيح وزناديق، وكذلك قالوا مع الإدغام، وذلك قولهم في أثاني4 وأناسي: أثانية وأناسية، رواها أبو زيد. وإذا كانوا قد رضوا بالكسرة قبلها دليلًا عليها، وعوضًا منها فهم بأن يقنعوا بالتاء عوضًا منها أجدر. ومن ذلك ما رواه ابن مجاهد عن أبي عمرو "وَآيَدْنَاه"5. قال ابن مجاهد -على ما علمناه: ممدوة الألف خفيفة الياء. وقد رُوى عن مجاهد في قوله: {إِذْ أَيَّدْتُك} 6 آيدتك، قال ابن مجاهد: على فاعلتك. قال أبو الفتح: هذا الذي توهمه ابن مجاهد، وأن آيدتك فاعلتك لا وجه له، وإنما آيدتك أفعلتك من الأَيْد؛ وهو القوة. وقال أبو علي: إنما كثر فيه أيَّدتك فعَّلتك؛ لما يعرض في آيدتُك من تصحيح العين مخافة توالي إعلالين في آيدتك. وأنشدنا قوله: ي ُنْبي تجاليدي وأَقتادَها ... ناوٍ كرأس الفدَنِ الْمُويَد7
فهذا من آيدته؛ أي: قويته؛ لأنه مُفعَل كمُكْرَم ومُقتَل1 ومُؤدَم2، ولو كان آيدتك -كما ظن ابن مجاهد فاعلتك- لكان اسم المفعول منه مُؤايَد كمقاتَل ومضارَب؛ ولكن قراءة من قرأ: "آتَيْنَا بِهَا" فاعلنا3، ولو كان أفعلنا لما احتاج إلى حرف الجر؛ لأنه إنما يقال: أتيت زيدًا بكذا وآتيته؛ كقولك: أعطيته كذا، فكذاك لو كان آتينا أفعلنا لكان آتيناها كقولك: أعطيناها، أنت لا تقول: آتيته بكذا، كما لا تقول: أعطيته بكذا، فقوله في تلك القراءة: "آتيناها" كقولك: حاضرنا بها، وشاهدنا بها، وهذا واضح. ومعنى قول "19ظ" أبي علي: لو جاء آيدتك على ما يجب في مثله من إعلال عين أفعلت إذا كانت حرف علة فأقمت زيدًا وأشرته وأبعته -أي: عرضته للبيع- لتتابع فيه إعلالان؛ لأن أصل آيدت: أَأْيدت، كما أن أصل آمن: أَأْمن، فانقلبت الهمزة الثانية ألفًا لاجتماع الهمزتين في كلمة واحدة، والأولى منهما مفتوحة والثانية ساكنة، فهي كآمن وآلف، وفي الأسماء نحو: آدم وآدر4. فكان يجب أيضًا أن تلقى حركة العين على الفاء وتحذف العين، فكان يجب على هذا أن تقلب الفاء هنا واوًا؛ لأنها قد تحركت وانفتح ما قبلها، ولَا بُدَّ من بدلها لوقوع الهمزة الأولى قبلها، كما قلبت في تكسير آدم أوادم، فكان يلزم على هذا أن تقول: أَوَدتُه كأَقَمْتُه وأدرته، فتحذف العين كما ترى، وتقلب الفاء التي هي في الأصل همزة واوًا فتعتل الفاء والعين جميعًا، وإذا أدى القياس إلى هذا رُفض، وكثر فيه فعَّلْتُ أيدت ليؤمن ذانك الاعتلالان، فلما استُعمل شيء منه جاء قليلا شاذًّا؛ أعني: آيدت. وإذا كانوا قد أخرجوا عين أفعلت، وهي حرف علة على الصحة نحو قوله: صددت فأَطولتِ الصدود5 وقولهم: أغيلت6 المرأة، وأغيمت السماء، وأَخْوصَ الرِّمثُ7، وأعوز القوم،
وأليث الشجر1، وأسوأَ الرجل. ولو خرج على منهج إعلال مثله لم يُخَفْ فيه توالي إعلالين كان خروج آيدت على الصحة لما كان يعقب إعلال عينه من اجتماع إعلالها مع إعلال الفاء قبلها أولى وأجدر؛ فقد ثبت أن قراءة مجاهد: "إذ آيدتك" إنما هو أفعلتك لا فاعلتك، كما ظن ابن مجاهد. ومن ذلك قراءة يحيى بن يعمر: "جَبرَئِلّ"2 مشددة اللام، بوزن جبرَعِل، وعنه أيضًا وعن فياض بن غزوان3: "جَبْرَائيل" بوزن جَبْرَاعيل، بهمزة بعد الألف، وبهذا الوزن من غير همز بياءين عن الأعمش، و"مِيكاييل" من غير همز أيضًا ممدود، وقرأ "مِيكَئِلَ" بوزن ميكعل ابن هرمز الأعرج4 وابن محيصن. قال أبو الفتح: أما على الجملة فقد ذكرنا في كتابنا هذا وفي غيره من كتبنا: أن العرب إذا نطقت بالأعجمي خلَّطت فيه، وأنشدنا في ذلك ما أنشدَناه أبو علي من قول الراجز: هل تعرف الدار لأم الخزرج ... منها فظَلْت اليومَ كالمزَرَّج5 يريد: الذي شرب الزَّرجون وهي الخمر، وأنه كان قياسه المزرجن؛ من حيث كانت النون في الزرجون أصلية. نعم، وذكرنا أنهم قد يحرفون ما هو من كلامهم، فكيف ما هو من كلام غيرهم؟ إلا أن جبرَئِل قد قيل فيه: إن معناه عبد الله؛ وذلك أن الجبر بمنزلة الرجل، والرجل عبد الله، ولم يسمع الجبر بمعنى الرجل إلا في شعر ابن أحمر، وهو قوله: اشرب براووق حُبيت به ... وانْعم صباحًا أيها الجبر6 قالوا: وإلٌّ بالنبطية: اسم الله تعالى، ومن ألفاظهم في ذلك أن يقولوا: كورِيال، الكاف بين القاف والكاف، فغالب هذا أن تكون هذه اللغات كلها في هذا الاسم إنما يراد بها جبريال الذي هو كوريال، ثم لحقها من التحريف "20و" على طول الاستعمال ما أصارها إلى هذا التفاوت، وإن كانت على كل أحوالها متجاذبة يتشبث بعضها ببعض.
واستدل أبو الحسن على زيادة الهمزة في "جَبْرَئيل" بقراءة مَن قرأ "جبْريل" ونحوه، وهذا كالتعسف من أبي لحسن لما قدمناه من التخليط في الأعجمي، ويلزم فيه زيادة النون في زرجون؛ لقوله: كالمزرج، والقول ما قدمناه. وأما "جَبْرايِيل ومِيكاييل" بباءين بعد الألف والمد فيقْوَى في نفسي أنها همزة مخففة وهي مكسورة، فخفيت وقربت من الياء فعبر القراء عنها بالياء، كما ترى في قوله عز وجل: "آلاء"1 عند تخفيف الهمز "آلاي" بالياء؛ وسبب ذلك ما ذكرناه من خفاء الهمزة المكسورة وقربها بذلك من لفظ الياء، كما قالوا في "شهر رمضان"2 في إدغام أبي عمرو: إن الراء من شهر مدغمة في راء رمضان، وهيهات ذلك مذهبًا، وعز مطلبًا، حتى كأنا لم نعلم أن الهاء في شهر ساكنة، وإذا أُدغمت الراء في راء رمضان التقى ساكنان ليس الأول منهما حرف مد كشبابَّة ودابَّة، ولا يكون ذلك إلا أن تنقل حركة الراء الأولى إلى الهاء قبلها، ولو فُعل ذلك لوجب أن يقال: شَهُرّ رمضان بضم الهاء، وليس أحد من القراء يدَّعي هذا فيه: مَن أدغم ومَن لم يدغم. وأيضًا، فإنه إذا كان هذا النقل فإنما يكون3 في المتصل، نحو: يستعدّ ويردّ ويفرّ، فأما في المنفصل فإن ذلك لن يجيء في شيء منه إلا في حرف واحد شاذ اجتمع فيه شيئان، كل واحد منهما يحتمل التغيير له: أحدهما: كونه علمًا، والأعلام فيما يكثر فيه ما لا يكون في غيره، نحو: معديكرب ومَوْهَب وتَهْلَل4 وحَيْوَة. والآخر: كثرة استعماله، وهم لما كثر استعماله أشد تغييرًا، وذلك الحرف قولهم في عبد شمس: هذه عَبُشَمسَ بفتح السين، وأنت لا تقول في نحو هذا قوم موسى: هذا قَوْمُّوسى؛ لما ذكرناه من أن المنفصل في هذا النحو لم تنقله العرب كما نقلت المتصل. فعلى هذا ينبغي أن نوجه قولهم في "جَبْرايِيل وميكاييل" ببياءين والمد؛ وذلك لأن المد إنما كان فيه لبقاء نية الهمزة المخففة ولفظه فيه، هذا هو القول؛ كقولهم بالمد، وإن كانت الألف والياء بعدها أتَمَّ صوتًا وأبعد ندى منها وبعدها غيرها من الحروف الصحاح، نحو: غرابيل وسرابيل وسراحين وميادين، وقد يجوز من بعد هذا أن تكون ياء صريحة من حيث كان الأعجمي يُتلَعَّبُ فيه بالحروف تَلَعُّبًا، فاعرف ذلك.
ومن ذلك ما رواه ابن مجاهد عن رَوْح1 عن أبي السمال أنه قرأ: "أَوْ كُلَّمَا عَهِدُوا"2 ساكنة الواو. قال أبو الفتح: لا يجوز أن يكون سكون الواو في "أو" هذه على أنه في الأصل حرف عطف كقراءة الكافة: "أوَكلما"؛ من قِبَل أن واو العطف لم تُسكن في موضع علمناه، وإنما يسكن بعدها مما يُخلَط معها فيكونان كالحرف الواحد، نحو قول الله تعالى: "وَهْوَ اللَّه"3، وقوله سبحانه: "وَهْوَ وَلِيُّهُم"4 بسكون الهاء، فأما واو العطف فلا تسكن من موضعين: أحدهما: أنها في أول الكلمة، والساكن لا يبتدأ به. والآخر: أنها هنا وإن اعتمدت5 على همزة الاستفهام قبلها فإنها مفتوحة، والمفتوح لا يسكن استخفافًا "20ط" إنما ذلك في المضموم والمكسور نحو: كرْم زيد وعلْم الله، وقد مضى ذكر ذلك، فإذا كان كذلك كانت "أو" هذه حرفًا واحدًا، إلا أن معناها معنى بل للترك والتحول بمنزلة أم المنقطعة، نحو قول العرب: إنها لأبل أم شاء؛ فكأنه قال: بل أهي شاء؟ فكذلك معنى "أو" هاهنا، حتى كأنه قال: "وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ بل كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ"، يؤكد ذلك قوله تعالى من بعده: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُون} ، فكأنه قال: "بل كلما عاهدوا عهدًا.... بل أكثرهم لا يؤمنون". و"أو" هذه التي بمعنى أم المنقطعة -وكلتاهما بمعنى بل- موجودة في الكلام كثيرًا، يقول الرجل لمن يتهدده: والله لأفعلن بك كذا، فيقول له صاحبه: أَوْ يُحسن الله رأيك، أو يغير الله ما في نفسك؛ معناه: بل يحسن الله رأيك، بل يغير الله ما في نفسك، وإلى نحو هذا ذهب الفراء في قول ذي الرمة: بدت مثلَ فرنِ الشمس في رَونَقِ الضُّحى ... وصورتِها أو أنت في العين أملحُ6
قال: معناه بل أنت في العين أملح، وكذلك قال في قوله الله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} 1 قال: معناه بل يزيدون، وإن كان مذهبنا نحن في هذا غير هذا؛ فإن هذا طريق مذهوب فيه على هذا الوجه. وقراءته هنا: "عَهِدُوا عَهْدًا" كأنه أشبه بجريان المصدر على فعله؛ لأن عهِدت عهدًا أشبه في العادة من عاهدت عهدًا، ومن ذلك الحديث المأثور: "مَن وعد وعدًا فكأنما عَهِدَ عهدًا"، وقراءة الكافة: "عاهَدُ واعَهْدا" على معنى أعطَوا عهدًا، فعهدًا على مذهب الجماعة كأنه مفعول به. وعلى قراءة أبي السمال هو منصوب نصب المصدر، وقد يجوز أن ينتصب على قراءة الكافة على المصدر؛ إلا أنه مصدر محذوف الزيادة؛ أي: معاهدة أو عِهاداً؛ كقاتلت مقاتلة وقتالًا، إلا أنه جاء على حذف الزيادة كقوله: عمرَكِ الله ساعةً حدِّثِينَا ... ودَعِينَا من قولِ مَن يؤذينا2 إنما هو: عمَّرتُكِ الله تعميرًا -دعاء لها- فحذفت زيادة التاء والياء، وعليه: جاء زيد وحده؛ أي: أُوحِدَ بهذه الحال إيحادًا، ومررت به وحده؛ أي: أَوحدته بمروري إيحادًا. وقد يمكن أن يكون وحده مصدر هو يَحِد وحدًا فهو واحد، والمصدر على حذف زيادته كثير جدًّا، إلا أنه ليس منه قولهم: سلمت عليه سلامًا وإن كان في معنى تسليمًا؛ من قِبَل أنه لو أريد مجيئه على حذف الزيادة لما أُقِرَّ عليه شيء من الزيادة، وفيه ألف سلام زائدة، ومثله: كملته كلامًا، والسلام والكلام ليسا على حذف الزيادة؛ لكنهما اسمان على فَعال بمعنى المصدر، فاعرف ذلك. ومن ذلك قراءة الحسن وابن عباس والضحاك بن مزاحم3 وعبد الرحمن بن أَبزَى4: "وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلِكَيْنِ"5بكسر اللام. قيل: أراد "بالملِكين" داود وسليمان عليهما السلام. قال أبو الفتح: إن قيل: كيف أطلق الله سبحانه على داود وسليمان اسم الملِك؛ وإنما هما عبدان له تعالى كسائر عبيده من الأنبياء وغيرهم؟
قيل: جاز ذلك لأنه أَطلق عليهما اللفظ الذي يُعتاد حينئذ فيهما، ويطلقه الناس عليهما، فخوطب الإنسان "21و" على ذلك باللفظ الذي يعتاده أهل الوقت إذ ذاك، ونظيره قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} 1؛ وإنما هو في النار الذليل المهان؛ لكنه خوطب بما يخاطب به في الدنيا، وفيه مع هذا ضرب من التبكيت له، والإذكار بسوء أفعاله، وقد مضى نحو هذا. ومن ذلك قراءة الحسن وقتادة: "بَيْنَ الْمَرِ وَزَوْجِهِ"2 بفتح الميم وكسر الراء خفيفة من غير همز. وقراءة الزهري: "الْمَرِّ" بفتح الميم وتشديد الراء. وقراءة ابن أبي إسحاق: "الْمُرْء" بضم الميم وسكون الراء والهمز. وقراءة الأشهب3: "الْمِرْء" بكسر الميم والهمز. قال أبو الفتح: أما قراءة الحسن وقتادة: "بينَ الْمَرِ" بفتح الميم وخفة الراء من غير همز فواضح الطريق؛ وذلك أنه على التخفيف القياسي؛ كقولك في الخبء4: هذا الْخَبُ، ورأيت الْخَبَ، ومررت بالْخَبِ، تخذف الهمزة وتلقى حركتها على الباء قبلها. وتقول في الجزء: هذا الْجُزُ، ورأيت الْجُزَ، ومررت بالْجُزِ، وعليه القراءة: "الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ"5. وأما قراءة الزهري: "الْمَرِّ" بتشديد الراء فقياسه: أن يكون أراد تخفيف المرء على قراءة الحسن وقتادة، إلا أنه نوى الوقف بعد التخفيف؛ فصار "الْمَر" ثم ثقل للوقوف على قول من قال: هذه خالدّ، وهو يجعلّ، ومررت بفرجّ6، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف فأقر التثقيل بحاله، كما جاء عنهم قوله:
بِبازلٍ وجناء أو عَيْهَلِّ ... كأن مهواها على الكَلْكَلِّ1 يريد: العيهل والكلكل، وكبيت الكتاب: ضخما يحب الخُلق الأضخمَّا2 فيمن فتح الهمزة3، يريد: الأضخم، فثقل ثم أطلق. وفي هذا شذوذان؛ أحدهما: التثقيل في الوقف، والآخر: إجراء الوصل مجرى الوقف؛ لأنه من باب ضرورة الشعر. وأما قراءة ابن أبي إسحاق: الْمُرْء بضم الميم والهمز فلغة فيه، وكذلك من قرأ: الْمِرء بكسر الميم، ومنهم من يضم الميم في الرفع ويفتحها في النصب ويكسرها في الجر فيقول: هذا الْمُرء، ورأيت الْمَرء، ومررت بالْمِرء؛ وسبب صنعة هذه اللغة: أنه قد أُلِف الإتباع في هذا الاسم في نحو قولك: هذا امرؤٌ، ورأيت امرأً، ومررت بامرئٍ، فيتُبع حركة الراء حركة الهمزة، فلما أن تحركت الميم وسكنت الراء لم يمكن الإتباع في الساكن فنُقل الإتباع من الراء إلى الميم؛ لأنها متحركة، فجرى على الميم لمجاورتها الراء ما كان يجري على الراء، كما يقول ناس في الوقف: هذا بكُر، ومررت ببكِر؛ لما جفا عليهم اجتماع الساكنين في الوقف وشحوا على حركة الإعراب أن يستهلكها الوقوف عليها نقلوها إلى الكاف، وكما قال من قال في صُوَّم: صُيَّم، وفي قُوَّم:
قُيَّم، لما جاورت العين اللام أجراها في الاعتلال مجرى عات وعُتي1 وجاث2 وجُثي، وقد ذكرنا في تفسير ديوان المتنبي ما في هذا الحرف؛ أعني: المرء والمرأة من اللغات. ومن ذلك قراءة الأعمش: "وَمَا هُمْ بِضَارِّي بِهِ مِنْ أَحَدٍ"3. قال أبو الفتح: هذا من أبعد الشاذ؛ أعني: حذف النون هاهنا، وأمثل ما يقال فيه: أن يكون أراد: وما هم بضارِّي أحدٍ، ثم فصَل بين المضاف والمضاف إليه بحرف الجر. وفيه شيء آخر وهو أن هناك أيضًا "21ظ" "مِن" في من أحد، غير أنه أجرى الجار مجرى جزء من المجرور؛ فكأنه قال: وما هم بضاري به أحد، وفيه ما ذكرنا. ومن ذلك قراءة قتادة وابن بُريدة وأبي السمال: "لَمثْوَبَةٌ4". قال أبو الفتح: قد ذكرنا شذوذ صحتها عن القياس فيما مضى. ومن ذلك قراءة أبي رجاء5: "مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنَسِّهَا"6 مشددة السين. وقرأ سعد بن أبي وقاص والحسن ويحيى بن يعمر: "أو تَنْسَها" بتاء مفتوحة. وقراءة سعيد بن المسيب والضحاك "تُنْسَها" مضمومة التاء مفتوحة السين. وفي حرف ابن مسعود: "ما نُنْسِكَ من آية أو نَنسخْها". قال أبو الفتح: أما "نُنَسِّها" فنُفَعِّلها من النسيان، فيكون فَعَّلْت في هذا كأفعلت في قراءة أكثر القراء: "نُنْسِها"، وهو في الموضعين على حذف المفعول الأول؛ أي: أو ننس أحدًا إياها؛ كقولك: ما نَهبُ من قرية أو نُقْطِعُها؛ أي: أو نُقطع أحدًا إياها. ومن قرأ: "تَنْسَها" أراد: أو تَنْسها أنت يا محمد.
ومن قرأ "تُنْسَها" مر أيضًا على تنسها أنت، إلا أن الفاعل في المعنى هنا يحتمل أمرين: أحدهما: أن يكون الْمُنْسِي لها هو الله تعالى. والآخر: أن يكون الْمُنْسِي لها ما يعتاد بني آدم من أعراض الدنيا غمًّا أو همًّا، أو عدواة من إنسان، أو وسوسة من شيطان. فأما قوله عز اسمه: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى، إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} 1 فقد يمكن أن يكون ما يحدثه من النسيان أعراض الدنيا مما شاء الله زيادة في التكليف، وتعرضًا بمقاساته ومقاومته للثواب. ويدل على جواز كون المنسي هو الله تعالى -وإن كانت التلاوة "أو تُنْسَها"- قوله تعالى: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} 2، وقوله: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} 3 مع قوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ} 4، وقال: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} 5. ويؤكد هذا قراءة ابن مسعود: "ما نُنْسِك من آية"، وفيه بيان، وقد يقول الإنسان: ضُرب زيد، وإن كان القائل لذلك هو الضارب، وهذا يدل على أن الغرض هنا: أن يُعلم أنه مضروب، وليس الغرض أن يعلم مَن ضربه؛ ولذلك بُني هذا الفعل للمفعول، وأُلغي معه حديث الفاعل؛ فقام في ذلك مقامه ورُفع رفعه، فهذه طريق ما لم يُسم فاعله. ومن ذلك قراءة ابن عباس فيما رواه سليمان بن أرقم6 عن أبي يزيد المدني عن ابن عباس: "فَأَمْتِعْهُ قَلِيلًا ثُمَّ اضْطَّرَّهُ"7، على الدعاء من إبراهيم صلى الله عليه وسلم. قال أبو الفتح: أما على قراءة الجماعة: {فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ} فإن الفاعل في "قال" هو اسم الله تعالى؛ أي: لما قال إبراهيم: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} قال الله: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ} . وأما على قراءة ابن عباس: "فَأَمْتِعْهُ قَلِيلًا ثُمَّ اضْطَّرَّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ" فيحتمل أمرين:
أحدهما: وهو الظاهر، أن يكون الفاعل في "قال" ضمير إبراهيم عليه السلام؛ أي: قال إبراهيم أيضًا: ومن كفر فأَمْتِعه يارب ثم اضطرَّه يا رب "22و". وحَسُنَ على هذا إعادة "قال" لأمرين: أحدهما: طول الكلام، فلما تباعد آخره من أوله أُعيدت "قال" لبُعْدِها، كما قد يجوز مع طول الكلام ما لا يحوز مع قصره. والآخر: أنه انتقل من الدعاء لقوم إلى الدعاء على آخرين، فكأن ذلك أَخْذٌ في كلام آخر، فاستؤنف معه لفظ القول، فجرى ذلك مجرى استئناف التصريع في القصيدة إذا خرج من معنى إلى معنى؛ ولهذا ما1 يقول الشاعر في نحو ذلك: فدع ذا ولكن هل ترى ضوء بارق2 ويقول: دع ذا وبهج حَسَبا مُبهَّجا3 فإذا جاز أن يصُرِّع وهو في أثناء المعنى الواحد نحو قوله: ألا نادِ في آثارهن الغوانيا ... سُقين سِمَامًا ما لهن وما ليا كان التصريع مع الانتقال من حال إلى حال أحرى بالجواز، فهذا أحد الوجهين. وأما الآخر: فهو أن يكون الفاعل في "قال" ضمير اسم الله تعالى؛ أي: فأَمْتِعه يا خالق، أو فأمتعه يا قادر أو يا مالك أويا إله، يخاطب بذلك نفسه -عز وجل- فجرى هذا على ما تعتاده العرب من أمر الإنسان لنفسه؛ كقراءة من قرأ: "قَالَ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"4 أي: اعلم يا إنسان، وكقول الأعشى: وهل تُطيق وداعًا أيها الرجل5
وهذا يتصل بباب من العربية غريب لطيف وهو باب التجريد؛ كأنه يجرد نفسه منه ثم يخاطبها، وقد ذكرنا هذا الباب في كتابنا الخصائص1. وهذا وإن كان مما لا ينبغي أن يُجرى في الحقيقة مثله على الله -سبحانه- لأنه لا تجزؤ هناك؛ فإنه يُجرى على عادة القوم ومذهب خطابهم، وقد نطقوا بهذا نفسه معه -تقدست أسماؤه- أنشدنا أبو علي: أفاءت بنو مروان ظلمًا دماءنا ... وفي الله إن لم يَعدلوا حَكَمٌ عدل2 فجرى اللفظ على أنه جُرد منه شيء يسمى حكَمًا عدلًا، وهو مع التحصيل على حذف المضاف؛ أي: وفي عدل الله حَكَمٌ عدل. فتفهَّم هذه المواضع، فإن قدر الإعراب يضيع إلى معناها، وإن كان هو أول الطريق ونهجه إليها. ويجوز في العربية: "ثم اضطَرِّهِي" بكسر الراء لالتقاء الساكنين، ثم تُبَيَّن الهاء بياء بعدها. ويجوز أيضًا: "ثم اضطَرِّهِ" تكسر الهاء ولا تتم الياء. ويجوز: "اضطَرِّهْ" بكسر الراء وفتحها والهاء الساكنة. ويجوز: "ثم اضطَرُّهُو" بضم الراء كما روينا عن قطرب أن بعضهم يقول: شَمُّ يا رجل. ويجوز الضم بلا واو. ويجوز مع ضم الراء وفتحها تسكين الهاء. وقد ذكرت ذلك كله في أماكنه. ومن ذلك قراءة ابن محصين: ثم "أَطَّرُّه"3 يدغم الضاد في الطاء. قال أبو الفتح: هذه لغة مرذولة؛ أعني: إدغام الضاد في الطاء؛ وذلك لما فيها من الامتداد والفشو؛ فإنها من الحروف الخمسة التي يدغم فيها ما يجاورها، ولا تدغم هي فيما يجاورها. وهي: الشين والضاد والراء والفاء والميم، ويجمعها في اللفظ قولهم: ضُمَّ شَفْر، وقد أخرج بعضهم الضاد من ذلك وجمعها في قولهم: مِشفر. قال: لأنه قد حُكي إدغام الضاد في الطاء في قولهم في "اضطجع": "22ظ" اطَّجع.
وأنشدوا قوله: يا رُبَّ أبَّاز من العُفْر صدع ... تقبَّض الظلُّ إليه واجتمع1 لما رأى أن لا دعه ولا شِبع ... مال إلى أرطاة حِقْف فاطجع ويُروى: "فاضطجع" وهو الأكثر والأقيس. ويُروى أيضًا: "فالْطَجع" يبدل أيضًا اللام من الضاد. فإن قيل: فقد أحطنا علمًا بأن أصل هذا الحرف اضتجع افتعل من الضجعة، فلما جاءت الضاء قبل تاء افتعل أُبدلت لها التاء طاء، فهلا لما زالت الضاد فصارت بإبدالها إلى اللام رُدت التاء فقيل: التجع، كما تقول: التجم والتجأ؟ قيل: هذا إبدال عَرَضَ للضاد في بعض اللغات، فلما كان أمرًا عارضًا، وظِلًّا في أكثر اللغات خالصًا؛ أقروا الطاء بحالها إيذانًا بقلة الحفل بما عرَض من البدل، ودلالة على الأصل المنحو المتعمد، وله غير نظير. ألا ترى إلى قوله: وكَحَل العينين بالعَوَاوِر2 وكيف صحح الواو الثانية وإن كان قبلها الواو الأولى بينهما ألف وقد جاوزت الثانية
الطرف، ولم يقلبها كما قلبها في أوائل، وأصلها أواول لما ذكرنا؛ إذ كان الأصل هاهنا العواوير، وإنما حذفت الياء تخفيفًا وهي مرادة، فجعل تصحيح الواو في العواور دليلًا على إرادة الياء في عواوير، وكما جعل حذف النون من قوله: إرهن بنيك عنهم أراهن بني1 أراد: بني، فحذف الياء الثانية لتخفيف القافية، وترك أن يرد النون من "بنين"؛ لأنه لم يَبْنِ الأمر على حذف الياء الثانية ألبتة؛ وإنما حذفها للوقف على الحرف المشدد في الروي المقيد، وكما أنشدنا أبو علي للفرزدق من قوله: تنظرت نصرًا والسِّماكين أيهما ... علَيَّ من الغيث استهَلَّت مواطرُهُ2 أراد: أيهما، فاضطر إلى تخفيف الحروف فحذف الياء الثانية، وكانت ينبغي أن يرد الياء الأولى إلى الواو؛ لأن أصلها الواو، وأن يكون قياسًا واشتقاقًا جميعًا أولى، ولم يقل: أوهما، فيرد الواو الأصلية؛ لأنه لم يَبْنِ الكلمة على حذف الياء ألبتة، فيرد الواو، فيقول: أوهما؛ لأنه إنما اضطر إلى التخفيف هناك وهو ينوي الحرف المحذوف كما ينوي الملفوظ به، ويأتي نظيره في سورة القصص، وقد ذكرنا أخوات لهذا أكثر من عشر في كتاب الخصائص3؛ فلذلك قال: فالطجع، فترك الطاء بحالها كما قدمنا ذكره. ومن ذلك ما رواه ابن مجاهد عن ابن عباس في مصحف ابن مسعود: "وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ وَيَقُولَانِ رَبَّنَا"4، وفيه: "وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَالُوا مَا نَعْبُدُهُمْ"5، وفيه: "وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ يَقُولُونَ أَخْرِجُوا"6. قال أبو الفتح: في هذا دليل على صحة ما يذهب إليه أصحابنا من أن القول مراد مقدَّر
في نحول هذه الأشياء، وأنه ليس كما يذهب إليه الكوفيون من أن الكلام محمول على معناه، دون أن يكون القول مقدرًا معه؛ وذلك كقول الشاعر: رَجْلانِ من ضبة أخبرانا ... إنا رأينا رجلا عريانا1 فهو عندنا نحن على: قالا: إنا رأينا، وعلى قولهم لا إضمار قول هناك؛ لكنه لما كان أخبرانا في معنى قالا لنا؛ صار كأنه "22و": قالا لنا، فأما على إضمار قالا في الحقيقة فلا. وقد رأيت إلى قراءة ابن مسعود كيف ظهر فيها ما نقدره من القول؛ فصار قاطعًا على أنه مراد فيما يجري مجراه. وكذلك قوله: يدعون عنترُ والرماح كأنها2 فيمن ضم الراء من عنتر؛ أي: يقولون: يا عنتر، وكذلك من فتح الراء، وهو يريد: يا عنترة. وكذلك {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ} 3 أي: يقولون، وقد كثر حذف القول من الكلام جدًّا. ومن ذلك قال ابن مجاهد: قال عباس: سألت أبا عمرو عن {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} فقال: أهل الحجاز يقولون: "يعلِّمُهم ويلْعَنُهم"4 مثقلة، ولغة تميم: "يُعْلِمْهم ويلْعَنْهم. قال أبو الفتح: أما التثقيل فلا سؤال عنه ولا فيه؛ لأنه استيفاء واجب الإعراب؛ لكن من حذف فعنه السؤال، وعلته توالي الحركات مع الضمات، فيثقل ذلك عليهم فيخففون بإسكان حركة الإعراب، وعليه قراءة أبي عمرو: "فَتُوبُوا إِلَى بَارِئْكُمْ"5 فيمن رواه بسكون الهمزة. وحكى أبو زيد: "بَلَى وَرُسُلْنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ"6 بسكون اللام. وأنشدنا أبو علي لجرير:
سيروا بني العم فالأهواز منزلكم ... ونهر تيرى فلا تعرفْكم العرب1 يريد: تعرفُكم. ومن أبيات الكتاب: فاليوم أشربْ غير مُستَحقِبٍ ... إثمًا من الله ولا واغِلِ2 أي: أشربُ. وأما اعتراض أبي العباس هنا على الكتاب، فإنما هو على العرب لا على صاحب الكتاب؛ لأنه حكاه كما سمعه، ولا يمكن في الوزن أيضًا غيره. وقول أبي العباس: إنما الرواية: "فاليوم فاشرب"، فكأنه قال لسيبويه: كذبتَ على العرب، ولم تَسمع ما حكيته عنهم. وإذا بلغ الأمر هذا الحد من السرَف فقد سقطت كلفة القول معه. وكذلك إنكاره عليه أيضًا قول الشاعر: "وقد بدا هَنْكِ من المئزر3
فقال: إنما الرواية: وقد بدا ذاك من المئزر وما أطيب العرس لولا النفقة! وكذلك الاعتراض عليه في إنشاده قوله: لا بارك الله في الغواني هل ... يُصبحن إلا لهن مُطَّلَبُ1 وقول الأصمعي: "في الغواني ما" يريد: في الغواني2 أَما، ويخفف الهمزة. وقول غيره: "في الغوان أَما"، ولو كان إلى الناس تخير ما يحتمله الموضع والتسبب إليه لكان الرجل أقوم من الجماعة به، وأوصل إلى المراد منه، وأنفى لشغب الزيغ والاضطراب عنه. فأما قول لبيد: تراك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يرتبط بعض النفوس حِمامُها3 فحملوه على هذا؛ أي: أو يرتبط بعض النفوس حمامها؛ معناه: إلا أن يرتبط، فأسكن المفتوح لإقامة الوزن واتصال الحركات. وقد يمكن عندي أن يكون يرتبط عطفًا على أرضها؛ أي: أنا تراك أمكنة إذا لم أرضها ولم يرتبط نفسي حمامها؛ أي: ما دمت حيًّا فأنا متقلقل في الأرض من هذه إلى هذه، ألا ترى إلى قوله: قَوَّال مُحكَمَة جوَّاب آفاق4 وهو كثير في الشعر، فكذلك قول بني تميم: "يُعلِّمْهم ويلْعَنْهم" على ما ذكرنا. ومن ذلك قراءة الزهري: "إلا لِيُعْلَم من يتبع الرسول"5 بياء مضمومة وفتح اللام. "23ظ" قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون يُعلم هنا بمعنى يعرف؛ كقوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ
اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} 1 أي: عرفتم، وتكون "مَن" بمعنى الذي؛ أي: ليُعرف الذي يتبع الرسول، ولا تكون "مَن" هاهنا استفهامًا؛ لئلا يكون الكلام جملة، والجمل لا تقوم مقام الفاعل؛ ولذلك لم يجيزوا أن يكون قوله2: "هذا باب علم ما الكلم" أي: أي شيء الكلم، وعلم في معنى: أن يُعلَم، وقد ذكرنا ذاك هناك. ومن ذلك قراءة ابن عباس والحسن ويحيى بن يعمر وعاصم الجحدري وأبي رجاء بخلاف: "وإلَه أَبِيكَ"3 بالتوحيد. قال أبو الفتح: قول ابن مجاهد بالتوحيد لا وجه له؛ وذلك أن أكثر القراءة: {وَإِلَهَ آبَائِكَ} جمعًا كما ترى، فإذا كان أبيك واحدًا كان مخالفًا لقراءة الجماعة؛ فتحتاج حينئذ إلى أن يكون أبيك هنا واحدًا في معنى الجماعة، فإذا أمكن أن يكون جمعًا كان كقراءة الجماعة، ولم يحتج فيه إلى التأول لوقوع الواحد موقع الجماعة، وطريق ذلك أن يكون "أبيك" جمع أب على الصحة، على قولك للجماعة: هولاء أبون أحرار؛ أي: آباء أحرار، وقد اتسع ذلك عنهم. ومن أبيات الكتاب: فلما تبين أصواتنا ... بكين وفدَّيْنَنَا بالأبينا4 وقال أبو طالب: ألم ترَ أني بعد همٍّ هممته ... لفرقة حرمن أبين كرام5 وقال الآخر: فهو يُفَدَّى بالأبين والخالْ6
وقد أشبعنا هذا الموضع1 في شرح ديوان المتنبي. ويؤكد أن المراد به الجماعة ما جاء بعده من قوله: {إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} فأبدل الجماعة من أبيك، فهو جماعة لا محالة؛ لاستحالة إبدال الأكثر من الأقل؛ فيصير قوله تعالى: "وإله أبيك " كقوله: وإله ذويك، هذا هو الوجه، وعليه فليكن العمل. ومن ذلك ما حكاه ابن مجاهد عن ابن عباس: أنه قال: لا تقرأ {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} 2؛ فإن الله ليس له مثل؛ ولكن اقرأ: "بما آمنتم به". قال: وروى عنه أيضًا أنه كان يقرأ: "بالذي آمنتم به". قال: وقال عباس في مصحف أنس3 وأبي صالح وابن مسعود: "فإن آمنوا بما آمنتم به". قال أبو الفتح: هذا الذي ذهب إليه ابن عباس حسن؛ لكن ليس لأن القراءة المشهورة مردودة. وصحة ذلك أنه إنما يراد: فإن آمنوا بما آمنتم به، كما أرداه ابن عباس وغيره، غير أن العرب قد تأتي بمثل في نحو هذا توكيدًا وتسديدًا، يقول الرجل إذا نفى عن نفسه القبيح4: مثلي لا يفعل هذا؛ أي: أنا لا أفعله، ومثلك إذا سئل أعطى؛ أي: أنت كذاك، قال: مثلي لا يُحسن قولًا فَعْ فَعْ5 أي: أنا لا أحسنه. وفي حديث سيف بن ذي يزن: "أيها الملك، مثل من سَرَّ وبَر" أي: أنت كذاك. وهو كثير في الشعر القديم والمولد جميعًا.
وسبب توكيد هذه المواضع "بمثل" أنه يراد أن يُجعل من جماعة هذه أوصافهم تثبيتًا للأمر وتمكينًا له، ولو كان فيه وحده لقلق منه موضعه، ولم تَرْسُ فيه قدمه، ولم يؤمن عليه انتقاله إلى ضده. ومثل ذلك أيضًا قولهم في مدح الإنسان: أنت من القوم الكرام، ومنْزِعُك إلى السادة؛ أي: لك في هذا الفعل سابقة وأول، فأنت مقيم عليه ومحقوق به، ولست "24و" دخيلًا فيه عن غير أول ولا أصل، فيخشى عليك نُبوك عنه. ولما أريد مثل هذا في الثناء على الله -تعالى- ولم يجز أن يكون تابعًا لسلف، ولا موجودًا له فيه نظير؛ عدلوا به إلى وجه ثالث غير الاثنين المذكورين؛ وهو أن جُعل قديمًا فيه، راسخًا عليه، فكان أثبت له من أن يكون -عز وجهه- مبتدئه أو مرتجله، وذلك قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} 1، {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} 2 ونحو ذلك من الآى، فاعرف ذلك أولًا ومبتكرًا. فكذلك قوله عز وجل: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} أي: كانوا ممن يؤمن بالحق هذا الجنس على سَعته وانتشار جهاته فقد اهتدوا. ورحم الله ابن عباس! فإن هذا القول وإن كان اعتراضًا عليه، فعنه أيضًا أُخذ وإليه رُد، وغير ملوم مَن نصر الجماعة، وبالله الحول والاستطاعة. ومن ذلك قراءة الزهري: "لرَوُوف"3 بلا همز، ويُثقِّل. قال أبو الفتح: ينبغي أن تكون الهمزة فيه مخففة، فلما أخفاها التخفيف ظُنت واوًا للطف هذا الموضع أن تضبطه القراء؛ وذلك أنا لا نعرف في غير هذه اللفظة إلا الهمز، يقال: رؤُف به، ورأَف به، ورئِف، ولم نسمع فيه راف4 ولا رُفْتُ، والهمزة إذا خففت في نحو هذا لم تبدل، وإنما تُخْفَى، كقولك في سئول فعول من سألت: سَوُول، فاعرف ذلك. ومن ذلك قراءة زيد بن علي عليه السلام: "أَلَا الَّذِينَ ظَلَمُوا"5 بفتح الهمزة خفيفة اللام، تنبيه.
قال أبو الفتح: وجهه أن الوقوف في هذه القراءة على قوله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} ثم استأنف مُنبِّهًا فقال: "أَلَا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي"، كقولك مبتدئًا: ألا زيد فأعرض عنه وأقبل عليَّ، وكأنه -عليه السلام- إنما رأى لقول الله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} ؛ فلو قال: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا} لم يقوَ معناه عنده؛ لأنه لا حجة للظالمين على المطيعين، والذي يقوِّي قراءة الجماعة قوله تعالى: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} فهو معطوف على قوله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} . وإذا كان عطفًا عليه فأن يكون فهي عقد واحد معه أولى من أن يتراخى عنه، ويكون قوله على هذا: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} استثناء منقطعًا؛ أي: لكن الذين ظلموا منهم يعتقدون أن لهم حجة عليكم، فأما في الحقيقة وعند الله تعالى فلا. فإن قلت: فقد فَصَل بقوله: {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} ثم عطف بقوله: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} ، وقد كرهت الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه. قيل: لما كان الأمر للمسلمين بترك خشية الظالمين إنما هو مسبب عن ظلمهم اتصل به اتصال المسبَّب بسببه، فجرى مجرى الجزء من جملته، وليس كذلك استئناف التنبيه بأَلَا، ألا تراها إنما تقع أبدًا في أول الكلام ومرتجلة؟ فاعرف ذلك فرقًا. ومن ذلك قراءة علي وابن عباس -كرم الله وجوههما- بخلاف وسعيد بن جبير، وأنس بن مالك، ومحمد بن سيرين1، وأبي بن كعب2، وابن مسعود، وميمون بن مهران: "أَلَّا يَطَّوف بهما"3. "23ظ" قال أبو الفتح: أما قراءة الجماعة: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} تقرُّبًا بذاك؛ أي: فلا جناح عليه أن يطوف بهما تقربا بذاك إلى الله تعالى؛ لأنهما من شعائر الحج والعمرة، ولو لم يكونا من شعائرهما لكان التطوف بهما بدعة؛ لأنه إيجاب أمر لم يتقدم إيجابه، وهذا
بدعة، كما لو تطوف بالبصرة أو بالكوفة أو بغيرهما من الأماكن على وجه القربة والطاعة كما تطوف بالحرم؛ لكان بذلك مبتدعًا. وأما قراءة مَن قرأ: "فلا جُناح عليه ألَّا يطَّوَّف بهما"، فظاهره أنه مفسوح له في ترك ذلك، كما قد يفسح للإنسان في بعض المنصوص عليه المأمور به تخفيفًا؛ كالقصر بالسفر، وترك الصوم، ونحو ذلك من الرخص المسموح فيها. وقد يمكن أيضًا أن تكون "لا" على هذه القراءة زائدة؛ فيصير تأويله وتأويل قراءة الكافة واحدًا؛ حتى كأنه قال: فلا جناح عليه أن يطَّوف بهما، وزاد "لا"، كما زيدت في قوله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} 1 أي: ليعلم. وكقوله: من غير لا عَصْف ولا اصطرافِ2 أي: من غير عصف، وهو كثير. ومن ذلك قراءة الحسن: "أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةُ وَالنَّاسُ أَجْمَعُونَ"3. قال أبو الفتح: هذا عندنا مرفوع بفعل مضمر يدل عليه قوله سبحانه: "لَعْنَةُ اللَّهِ" أي: وتعلنهم الملائكة والناس أجمعون؛ لأنه إذا قال: عليهم لعنة الله، فكأنه قال: يلعنهم الله، كما أنه قال: تذكَّرت أرضًا بها أهلها ... أخوالَها فيها وأعمامَها4
فقد عُلم أنها إذا تذكرت الأرض التي فيها أخوالها وأعمامها فقد دخلوا في جميع ما وقع الذكر عليه، فقال بعد: تذكرت أخوالها وأعمامها. وكانه لما قال: أسقَى الإله عُدُوات الوادي ... وجوفَه كل مُلِثٍّ غادي كل أجش حالك السواد1 فقد سقى الأجش فرفعه بفعل مضر؛ أي: سقاها كل أجش. وهو كثير جدًّا. ومن ذلك قراءة علي عليه السلام والأغرج، ورُويت عن عمرو بن عبيد2: "خُطُؤات"3 بضمتين وهمزة، وهي مرفوضة وغلط. وقرأ أبو السمال: "خَطَوات" بفتح الخاء والطاء. قال أبو الفتح: أما الهمز في هذا الموضع فمردود؛ لأنه من خطوات لا من أخطأت، والذي يُصرف هذا إليه أن يكون كما تهمزه العرب ولا حظَّ له في الهمز، نحو: حَلَّأت السويق، ورَثَأْثُ رُوحي بأبيات، والذئب يستنشئ4 ريح الغنم. والحمل على هذا فيه ضعف؛ إلا أن الذي فيه من طريق العذر أنه لما كان من فعل الشيطان غلب عليه معنى الخطأ، فلما تصور ذلك المعنى أَطلعت الهمزة رأسها، وقيل: "خُطُؤات". وأما خَطَوات فجمع خَطْوة، وهي الفَعْلَة، والْخُطوة ما بين القدمين، والْخُطُوات كقولك: طرائق الشيطان، والْخَطَوات كقولك: أفعال الشيطان. ومن ذلك قراءة أُبي وابن مسعود: "ليس البر بأن تولوا وجوهكم"5، قال ابن مجاهد: فإذا كان هكذا لم يجز أن يُنْصب البر. قال أبو الفتح: الذي قاله ابن مجاهد هو الظاهر في هذا؛ لكن قد يجوز أن يُنْصب "24و" مع الباء، وهو أن تجعل الباء زائدة؛ كقولهم: كفى بالله؛ أي: كفى الله؛ وكقوله تعالى: {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} 6 أي: كفينا، فكذلك "ليس البر بأن تولوا" بنصب البر كما في قراءة السبعة.
فإن قلت: فإن "كفى بالله" شاذ قليل، فكيف قست عليه "ليس"، ولم نعلم الباء زيدت في اسم ليس؛ إنما زيدت في خبرها، نحو قوله: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ} 1؟ قيل: لو لم يكن شاذًّا لما جوزنا قياسًا عليه ما جوزناه؛ ولكنا نوجب فيه ألبتة واجبًا، فاعرفه. ومن ذلك قراءة ابن عباس بخلاف وعائشة -رحمهما الله- وسعيد بن المسيب، وطاوس بخلاف، وسعيد بن جبير، ومجاهد بخلاف، وعكرمة، وأيوب السختياني، وعطاء: "يُطَوَّقُونَه"2. وقرأ "يَطَّوَّقُونَه" على معنى: يتطوقونه مجاهد. ورُويت عن ابن عباس، وعن عكرمة. وقرأ "يَطَّيَّقُونَه" ابن عباس بخلاف، وكذلك مجاهد وعكرمة. وقرأ "يُطَيِّقُونَه" ابن عباس بخلاف. قال أبو الفتح: أما عين الطاقة فواو؛ لقوهم: لا طاقة لي به ولا طوق لي به؛ وعليه مَن قرأ "يُطَوَّقُونَه" فهو يُفَعَّلُونه منه، فهو كقوله: يُجَشَّمُونه، ويكلفونه، ويجعل لهم كالطوق في أعناقهم. وأما "يطَّوَّقُونه" فيتَفعَّلونه منه، كقولك: يتكلفونه ويتجشمونه، وأصله: يتطوقونه، فأبدلت التاء طاء، وأدغمت في الطاء بعدها كقولهم: اطَّير يطَّير؛ أي: يتطير. وتجيز الصنعة أن يكون يتفوعلونه ويتفعولونه جميعًا، إلا أن يتفعَّلونه الوجه؛ لأنه الأكثر والأظهر. وأما "يَتَطَيَّقُونَه" فظاهره لفظًا أن يكون يتفيعلونه، كتحيَّز أي تفيعل. أنشدنا أبو علي للهذلي: فلما جلاها بالإِيَامِ تحيزت ... ثُبات عليه ذلها واكتئابها3 فهذا تفيعلت من حاز يحوز، ومثله تفيهق. وقد يمكن أن يكون أيضًا يَتَطَيَّقُونه يتفَعَّلُونه، إلا أن العينين أبدلتا ياءين، كما قالوا في تهور الجرف: تهيَّر، وعلى أن أبا الحسن قد حكى هار يَهير.
وقد يمكن أيضًا أن يكون هار يهير من الواو فعِل يفعِل، كرأي الخليل في طاح يطيح، وتاه يتيه. وليس يقوى أن يكون تيطوَّقونه يتفوعلونه ولا يتفعولونه، وإن كان اللفظ هنا كاللفظ بيتَفَعَّل؛ لقلته وكثرته. ويُؤنِّس بكون يتطيقونه يتفعلونه قراءة مَن قرأ: "يَتَطَوَّقُونه"، وكذلك يُؤنِّس بكون يُطَيَّقُونَه يُفعَّلونه قراءة مَن قرأ: "يُطَوَّقُونه"، والظاهر من بعد هذا أن يكون يُفَيعلُونه. ومن ذلك قراءة سعيد بن جبير: "ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسِي} 1 يعني: آدم -عليه السلام- لقوله تعالى: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} 2. قال أبو الفتح: في هذه القراءة دلالة على فساد قول مَن قال: إن لام التعريف إنما تدخل الأعلام للمدح والتعظيم، وذلك تحو: العباس، والمظفر، وما جرى مجراهما. ووجه الدلالة من ذلك: أن قوله "الناسي" إنما يُعنى به آدم -عليه السلام- فصارت صفة غالبة كالنابغة والصَّعِق، وكذلك الحارث والعباس والحسن والحسين، هي وإن كانت أعلامًا فإنها تجري مجرى "25ظ" الصفات؛ ولذلك قال الخليل: إنهم جعلوه الشيء بعينه؛ أي: الذي حرَث وعَبَسَ، فمحمول هذا أن في هذه الأسماء الأعلام التي أصلها الصفات معاني الأفعال؛ ولذلك لحقتها لام المعرفة كما تعرف الصفات، وإذا كان فيها معاني الأفعال، وكانت الأفعال كما تكون مدحًا فكذلك ما3 تكون ذمًّا، فهي تحقق في العلم معنى الصفة، مدحًا كانت الصفة أو ذمًّا. فالمدح ما ذكرناه من نحو: الحارث والمظفر والحسين والحسن، والذم ما جاء في نحو قولهم: فلان بن الصَّعِق؛ لأن ذلك داء ناله4، فهي بلوى، وأن يكون ذمًّا أولى من أن يكون مدحًا، ألا ترى أن المدح ليس من مَقَاوم ذكر الأمراض والبلاوي، وإنما يقال فيه: إنه كالأسد، وإنه كالسيف؟ ومنه عمرو بن الحمِق، فهذا ذم له لا مدح، وعلى أنهم قد قالوا في الحمق: إنه الصغير اللحية، والمعنى الآخر أشيع فيه، ألا ترى إلى قوله: فأما كيس فنجا ولكن ... عسى يغتر بي حَمِق لئيم؟ 5 ومنه قولهم: فلان بن الثعلب، فدخلته اللام، هو علم لما فيه من معنى الخِبِّ والْخُبث،
وذلك عيب فيه لا ثناء عليه، والباب فيه فاشٍ واسع؛ فقد صح إذن أن ما جاء من الأعلام وفيه لام التعريف فإنما ذلك لما فيه من معنى الفعل والوصفية، ثناء عليه كان ذلك أو ذمًّا له، وإنما دعا الكُتَّاب ونحوهم إلى أن قالوا: إن دخول اللام هنا إنما هو لمعنى المدح أن كان أكثره كذلك؛ لأنه إنما العرف فيه أن يسمى من الأسماء الحاملة لمعاني الأفعال مما كان فيه معنى المدح، لا أن هذا مقصور على المدح دون الذم عندنا لما ذكرنا. ومن ذلك ما روى ابن مجاهد عن الزِّمْل بن جَرْوَل قال: سألت سالم بن عبد الله بن عمر عن النَّفْر فقرأ: "فمن تعجل في يومين فَلَثْمَ عليه، ومن تأخر فَلَثْمَ عليه"1. قال أبو الفتح: أصله قراءة الجماعة: {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} إلا أنه حذف الهمزة ألبتة، فالتقت ألف "لا" وثاء "الاثم" ساكنين، فحذف الألف من اللفظ لالتقاء الساكنين، فصارت "فَلَثْمَ عليه". وقد مر بنا من حذف الهمزة اعتباطًا وتعجرفًا من نحو هذا أشياء كثيرة؛ من ذلك قراءة ابن كثير: "إنها لَحْدَى الكُبَر"2، فهذا في الحذف كقوله: "فَلَثْمَ عليه"، إلا أن بينهما من حيث أذكر فرقًا؛ وذلك أن قوله: "لَحْدَى الكُبَر" إنما فيه حذف الهمزة لا غير، وقوله: "فَلَثْمَ عليه" أصله "فلا إثم"، فلما حذف الهمزة تخفيفًا -وإن لم يكن قياسًا- التقت الألف مع ثاء إثم وهي ساكنة، فحذفت الألف من "لا" لالتقاء الساكنين؛ فصار "فَلَثْمَ عليه". ومثل ذلك سواء مذهب الخليل في "لن"، ألا ترى أن أصلها عنده "لا أن"، فلما حذفت الهمزة التقت ألف "لا" مع نون "أن" فحذفت الالف من "لا" لالتقاء الساكنين، وقد جاء نظيرًا لهذا من حذف الهمزة شيء صالح الكثرة؛ منه قوله: إن لم أُقاتل فالبسوني برقعا3 أراد: فألبسوني، ثم حذف الهمزة. وأنشد أبو الحسن: تَضِبُّ لِثَاتُ الخيل في حَجَراتها ... وتسمع من تحت العجاج لَهَزْمَلا4
أراد: لها أزملا، فحذف الهمزة. نعم، ثم حذف ألف "ها" لفظًا لسكونها وسكون الزاي من بعدها "26و" وعليه القراءة: "أريتَكَ هذا الذي كرَّمتَ عليَّ"1 يريد: أرأيتك. وأنشد أحمد بن يحيى: أريتك إن شطَّت بك العام نية ... وغالك مُصطَافُ الحِمى ومرابعه وجاء عنهم: سا يسو، وجا يجي، بحذف الهمزة فيهما، وقد أثبتنا من هذا حروفًا جماعة في كتابنا الخصائص2، وعلى كل حال فحذف الهمزة هكذا اعتباطًا ساذجًا ضعيف في القياس، وإن فشا في بعضه الاستعمال. ومن ذلك ما رواه هارون عن الحسن وابن أبي إسحاق وابن محيصن: "وَيَهْلَكُ"3 بفتح الياء واللام ورفع الكاف "الحرثُ والنسلُ" رفع فيهما. قال ابن مجاهد: وهو غلط. قال أبو الفتح: لعمري إن ذلك تَرْك لما عليه اللغة، ولكن قد جاء له نظير؛ أعني قولنا: هلَك يهلَك، فعَل يفعَل، وهو ما حكاه صاحب الكتاب من قولنا: أَبى يأبَى، وحكى غيره: قنَط يقنَط، وسلَا يسلَى، وجبا4 الماء يجبَاه، وركَن يركَن، وقلا يقلَى، وغسا 5 الليل يغسَى. وكان أبو بكر يذهب في هذا إلى أنها لغات تداخلت؛ وذلك أنه قد يقال: قنَط وقنِط، وركَن وركِن، وسلَا وسلِي، فتداخلت مضارعاتها، وأيضًا فإن في آخرها ألفًا، وهي ألف سلا وقلا وغسا وأبي؛ فضارعت الهمزة نحو: قرأ وهدأ. وبعد، فإذا كان الحسن وابن أبي إسحاق إمامين في الثقة وفي اللغة؛ فلا وجه لدفع ما قرآ به، لا سيما وله نظير في السماع. وقد يجوز أن يكون يهلَك جاء على هلِك بمنزلة عطِب، غير أنه استغنى عن ماضيه بهلَك، وقد ذكرنا نحو هذا في كتبانا المنصف6.
ومن ذلك قراءة أبي السمال: "فإن زَلِلْتُمْ"1 بكسر اللام. قال أبو الفتح: هما لغتان: زلَلْت وزلِلْت، بمنزلة ضلَلْت وضلِلْت، إلا أن الفتح فيهما أعلى اللغتين، واسم الفاعل منهما ضال، ولو جاء ضليل لكان قياسًا على ما جاء عنهم من فعيل في فَعَل من المضاعف، نحو: خَفَّ فهو خفيف، وعز فهو عزيز، وقل فهو قليل، وجد فهو جديد، وذلك أنه قد جاء فعيل في فعل من غير المضاعف، وذلك كسد البيع فهو كسيد، وفسد فهو فسيد، فلما جاء ذلك في غير المضاعف كان المضاعف أولى به؛ لثقل الإدغام في ضال وفار، وقد ذكرنا ذلك مشروحًا في غير هذا الموضع من كلامنا. ومن ذلك ما رُوي عن قتادة في قول الله سبحانه: "فِي ظِلَالٍ مِنَ الْغَمَامِ"2. قال ابن مجاهد: هو جمع ظِل. قال أبو الفتح: الوجه أن يكون جمع ظُلة، كجُلة3 وجِلال، وقُلة وقِلال؛ وذلك أن الظل ليس بالغيم، وإنما الظُّلة الغيم، فأما الظل فهو عدم الشمس في أول النهار، وهو عرَض والغيم جسم. ومن ذلك ما رواه ابن طاوس عن أبيه أنه قرأ: "وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ أَصْلِحْ إِلَيْهِمْ خَيْرٌ"4. قال أبو الفتح: خير مرفوع؛ لأنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: أصلح إليهم فذلك خير. وإذا جاز حذف هذه الفاء مع مبتدئها في الشرط الصحيح نحو قوله: بني ثُعَل لا تنكَعوا العنز شِرْبَها ... بني ثعل من ينكع العنز ظالم5 "26ظ" أي: فهو ظالم، كان حذف الفاء هنا، وإنما الكلام بمعنى الشرط لا بصريح لفظه، أجدر وأحرى بالجواز. وقال: "إليهم" لما دخله معنى الإحسان إليهم، وقد ذكرنا نحو ذلك كثيرًا مما هو محمول على المعنى. ومن ذلك قراءة مسلمة بن محارب6: "وَبُعُولَتْهُنَّ أَحَقُّ"7 ساكنة التاء.
قال أبو الفتح: قد سبق نحو هذا في قراءة أبي عمرو: "يأمُرْكم"، وأنشدنا فيه الأبيات التي أحدها قول جرير: سيروا بني العم فالأهواز منزلكم ... ونهر تيرى ولا تعرفْكم العرب1 أراد: لا تعرفُكم، فأسكن الفاء استخفافًا لثقل الضمة مع كثرة الحركات. ومن ذلك ما رواه هارون عن أَسِيد عن الأعرج أنه قرأ: "لا تُضارْ والدة"2 جزم، كذا قال، جزم. قال أبو الفتح: إذا صح سكون الراء في "تضار" فينبغي أن يكون أراد: لا تضارِر، كقراءة إبي عمرو، إلا أنه حذف إحدى الراءين تخفيفًا، وينبغي أن تكون المحذوفة الثانية؛ لأنها أضعف، وبتكريرها وقع الاستثقال. فأما قول الله تعالى: {ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} 3 فإن المحذوف هي الأولى؛ وذلك أنهم شبهوا المضعف بالمعتل العين، فكما قالوا: لستَ قالوا: ظلت، ومثله مَستُ في مسِستُ، وأحسْتُ في أحسستُ، قال أبو زُبيد: خلا أن العِتاق من المطايا ... أحسن بن فهُنَّ إليه شُوسُ4 فإن قلت: فهلا كانت الأولى هي المحذوفة من تضارِر كما حذفت الأولى من ظلِلت ومسِست وأحسست؟ قيل: هذه الأحرف إنما حُذفن لأنهن شُبهن بحروف اللين، وحروف اللين تصح بعد هذه الألف نحو: عَاوَدَ وطَاوَلَ وبَايَعَ وسَايَر، والثانية في موضع اللام المحذوفة، نحو: لا تُرامِ. فإن قيل: فكان يجب على هذا "لا تضارِ"؛ لأن الأولى مكسورة في الأصل؛ فيجب أن تُقر على كسرها.
قيل: لا، بل لما حذفت الثانية وقد كانت الأولى ساكنة؛ لأنها كانت مدغمة في الثانية أُقرت على سكونها؛ ليكون دليلًا على أنها قد كانت مدغمة قبل الحذف، ولذلك نظائر منها قوله: وكحَل العينين بالعواوِر1 صحح الواو الثانية وإن كانت تلي الطرف، وقبل الألف التي قبلها واو؛ لأنه جعل الصحة في الواو دليلًا على أنه أراد العواوير، ولو لم يرد لذلك لوجب أنه يهمز فيقول: العوائر، كما همزوا في أوائل وأصلها أواول، وكما جعلوا صحة العين في حَوِلَ وعَوِرَ دليلًا على كون المثال في معنى ما لا بد من صحته، وهو احولَّ واعورَّ، وكما جعلوا ترك رد النون في قوله: ارهن بنيك عنهم أرهن بني2 دليلًا على أنه أراد بنيّ، فلما حذف الياء الثانية التي هي ضمير المتكلم لم يرجع النون من بنين؛ لأنه جعله دليلًا على إرادة الياء في بَنيّ، وأنه إنما حذفها للقافية، وهي في نفسه مرادة. وكما قال: مال إلى أرطاة حِقف فاضطجع3 ثم أبدل الضاد لامًا فقال: الطجع، وقد كان يجب إذا زالت الضاد أن ترجع تاء افتعل إلى اللفظ، وذلك "27و" أن أصله اضتجع افتعل من الضجعة، فيظهر التاء كما يقال: التجأ إليه والتفت والتقم؛ لكنه ترك الطاء بحالها تنبيهًا على أنه يريد الضاد، وأنه لما أبدلها لامًا اعتدها مع ذلك اعتداد الثابت. ولذلك نظائر كثيرة، فكذلك ترك الراء من "تُضَارْ"ساكنة كما كانت تكون ساكنة لو خرجت على الإدغام المراد فيها. نعم، وإذا كان نافع قد قرأ: "ومَحْيايْ ومماتي"4 ساكن الياء من "محيايْ"، ولا تقدير إدغام هناك كان سكون الراء من "لا تضارْ" -وهو يريد تضارّ- أجدر. وبعد هذا كله ففيه ضعف، ألا ترى أنك لو رخمت قاصًّا -اسم رجل- على قولك: يا حارِ؛ لقلت: يا قاصِ، فرددت عين الفعل إلى الكسر لأنه فاعل، وأصله قاصِص، فمن هنا ضعفت هذه القراءة وإن كان فيها من الاعتذار والاعتلال ما قدمنا ذكره.
وقد روي فيها تشديد الراء مع السكون، ويجب أن يكون هذا على نية الوقف عليها، رُوي ذلك عن أبي جعفر يزيد بن القعقاع1. ومن ذلك ما رواه أبو عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب عليه السلام: "وَالَّذِينَ يَتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ"2 بفتح الياء. قال ابن مجاهد: ولا يُقرأ بها. قال أبو الفتح: هذا الذي أنكره ابن مجاهد عندي مستقيم جائز؛ وذلك أنه على حذف المفعول؛ أي: والذين يتوفون أيامهم أو أعمارهم أو آجالهم، كما قال "سبحانه": {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ} 3، و {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} 4، وحَذْفُ المفعول كثير من القرآن وفصيح الكلام، وذلك إذا كان هناك دليل عليه، قال تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} 5 أي: شيئًا، وأنشدنا أبو علي للحطيئة: منعمة تصون إليك منها ... كصونك من رداء شَرعَبِيِّ6 أي: تصون الكلام منها، وهو كثير جدًّا. ومن ذلك قراءة الحسن: "أو يعفُو الذي" 7 ساكنة الواو. قال أبو الفتح: سكون الواو من المضارع في موضع النصب قليل، وسكون الياء فيه أكثر، وأصل السكون في هذا إنما هو للألف؛ لأنها لا تحرك أبدًا، وذلك كقولك: أريد أن تحيا، وأحب أن تسعى، ثم شُبهت الياء بالألف لقربها، فجاء عنهم مجيئًا كالمستمر، نحو قوله: كأن أيديهن بالْمَومَاة ... أيدي جَوارٍ بِتْنَ ناعماتِ8
وقال الآخر: كأن أيديهن بالقاع القَرِق ... أيدي جوار يتعاطين الورِق1 وقال الأعشى: إذا كان هادي الفتى في البلا ... دِ صدرُ القناة أطاع الأميرا2 فيمن رواه برفع الصدر. وقال الآخر: حُدْبًا حَدابير من الوَخْشَنِّ ... تركنَ راعيهن مثل الشَّنِّ3 وقال الآخر: يا دار هند عفت إلا أثافيها4 وقال رؤبة: سوَّى مساحيهن تقطيط الْحُقَقْ ... تَفْليلُ ما قارعْن من سُمرِ الطُّرَق5 وكان أبو العباس يذهب إلى أن إسكان هذه الياء في موضع النصب من أحسن الضرورات؛ وذلك لأن الألف ساكنة في الأحوال كلها، فكذلك "26ظ" جعلت هذه، ثم شبهت الواو في ذلك بالياء، فقال الأخطل: إذا شئت أن تلهو ببعض حديثها ... رفعن، وأنزلن القطين المولَّدا6
وقال الآخر: فما سوَّدتني عامر عن وراثة ... أبى الله أن أسمو بأم ولا أب1 فعلى ذلك ينبغي أن تحمل قراءة الحسن: "أو يعفُو الذي"، فقال ابن مجاهد: وهذا إنما يكون في الوقف، فأما في الوصل فلا يكون، وقد ذكرنا ما فيه، وعلى كل حال فالفتح أعرب: "أو يعفُوَ الذي". ومن ذلك قراءة علي -عليه السلام- وأبي رجاء وجُؤيَّة بن عائذ2: "ولا تَنَاسَوُا الفضل بينكم"3. قال أبو الفتح: الفرق بين تَنْسَوْا وتَنَاسَوْا أن تنسوا نَهْي عن النسيان على الإطلاق: انْسُوه أو تَنَاسَوه. فأما تناسوا فإنه نهي عن فعلهم الذي اختاروه، كقولك: قد تغافل وتصامَّ وتناسى: إذا أظهره من فعله، وتعاطاه وتظاهر به، وأما تَفَعَّل فإنه تَعَمُّلُ الأمر وتكلفه، كقوله: ولن تستطيع الحلم حتى تحلما4 أي: حتى تَكَلَّفه. ومثل الأول قوله: إذا تخازَرتُ وما بي من خَزَر5 فإن قيل: ومَن ذا الذي يتظاهر بنسيان الفضل؟ قيل: معناه -والله أعلم- إنكم إذا استكثرتم من هجر الفضل، وتثاقلتم عنه؛ صرتم كأنكم متعاطون لتركه، متظاهرون بنسيانه. وهذا كقولك للرجل يكثر خَطَؤُه: أنت تتحايد الصواب تَوقِّيَ، عرف به، وأنت معتمِلٌ لما لا يحسن، وإن لم يقصد هو لذلك.
ويُحسِّن هذه القراءة: أنك إنما تنهى الإنسان عن فعله هو، والتناسي من فعله، فأما النسيان فظاهره أنه من فعل غيره به، فكانه أُنسي فنَسِيَ، قال الله سبحانه: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ} 1. وزاد في حسنه شيء آخر؛ وهو أن المأمور هنا جماعة، وتفاعَلَ لائق بالجماعة؛ كتقاطعوا وتواصلوا وتقاربوا وتباعدوا. فأما قوله تعالى: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} 2 فلاقَ به فعل "نسي"؛ لأن المأمور هنا واحد، ولأن العرف والعادة أن الإنسان لا يكاد يُحض على ما هو حلال له؛ بل الغالب المعتاد أن يُكفَّ عما ليس له تناوله، وعليه وضع التكليف لما يُستحق عن الطاعة فيه من الثواب، قال تعالى: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ} 3، وقال: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} 4، والآي في ذلك كثيرة. فقوله إذن: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} 3 أي: لك فيها حظ وحلال فتناوله، فلا بأس بتناول الحلال. ولو قيل: "ولا تناس نصيبك" لكان فائدته: لا تُظهر سهوك عنه، وتتظاهر بنسيانك إياه، وذلك إذا ترك الحلال وهو في صورة الساهي عنه لم تكن له في النفوس منزلة الذي يتركه وهو عالم بحِلِّه له، وإباحته إياه، هذا هو العادة والعرف فيما يتعاطاه أهل الدنيا بينهم. ومن ذلك قراءة أبي عبد الرحن السلمي: "ألم تَرْ إلى الملأ"5 ساكنة الراء. "27و" قال أبو الفتح: هذا لعمري هو أصل الحرف: رأَى يرأَى كرعَى يرعَى، إلا أن أكثر لغات العرب فيه تخفيف همزته؛ بحذفها وإلقاء حركتها على الراء قبلها على عبرة التخفيف في نحو ذلك، وصار حرف المضارعة كأنه بدل من الهمزة، وهو قولهم: انت ترى وهو يرى ونحن نرى، وكذلك أفعل منه، كقول الله سبحانه: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} 6 وأصله: أَرْآك الله، وحكاها صاحب الكتاب عن أبي الخطاب7، ثم إنه قد جامع هذا تحقيق هذه الهمزة وإخراجها على أصلها، وذلك كقول سراقة البارقي: أُرِي عينيَّ ما لم تَرْأَيَاه ... كلانا عالم بالتُّرَّهَات8
فخفف أري، وحقق ترأياه كقولك: تَرْعَيَاه، ورواه1 أبو الحسن ترياه على زحاف الوافر، وأصله "ترأياه" على أن مفاعلَتن لحقها العصب بسكون لامها؛ فنقلت إلى مفاعي لن، ورواية أبي الحسن: "بما لم تَـ" مفاعيل؛ فصار الجزء بعد العصب إلى النقص. وقرأت على أبي علي في نوادر أبي زيد: ألم تَرءَ ما لاقيت والدهر أعصر ... ومَن يَتَمَلَّ العيش يرء ويسمع2 فأخرجه على أصله. وقرأت عليه عنه أيضًا: هل ترجعَنَّ ليال قد مضَين لنا ... والعيشُ منقلب إذ ذاك أفنانا إذ نحن في غرة الدنيا وبهجتها ... والدار جامعة أزمان أزمانا ثم استمر بها شَيْحانُ مبتجِحٌ ... بالبين عنك بما يَرْآك شَنْآنا3 وقال آخر، وقرأته على أبي بكر محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى فيما أظن: ألا تلك جارتنا بالغضا ... تقول أَتَرأَينَه لن يضيعَا4 وله نظائر مما خرج من هذا الأصل على أولية حاله. ومن ذلك قال أبو بكر بن مجاهد: "التابوت"5 بالتاء قراءة الناس جميعًا، ولغة للأنصار6 "التابوه" بالهاء. قال أبو الفتح: أما ظاهر الأمر، فأن يكون هذان الحرفان من أصلين؛ أحدهما: تَ بَ ت، والآخر: ت ب هـ، ثم من بعد هذا فالقول أن الهاء في "التابوه" بدل من التاء في "التابوت"، وجاز ذلك لما أذكره: وهو أن كل واحد من التاء والهاء حرف مهموس، ومن حروف الزيادة في غير هذا الموضع، وأيضًا فقد أبدلوا الهاء من التاء التي للتأنيث في الوقف، فقالوا: حمزهْ،
وطلحهْ، وقائمهْ، وجالسهْ، وذلك منقاد مطرد في هذه التاء عند الوقف، ويؤكد هذا أن عامة عُقيل فيما لا نزال نتلقاه من أفواهها تقول في الفرات: الفراه، بالهاء في الوصل والوقف. وزاد في الأُنس بذلك أنك ترى التاء في الفرات تشبه في اللفظ تاء فتاة وحصاة وقطاة، فلما وقف وقد أشبه الآخِر الآخر أبدل التاء هاء، ثم جرى على ذلك في الوصل؛ لأنه لم يكن البدل عن استحكام العلة علة، فيُراعى حال الوقف من حال الوصل ويفصل بينهما، فأشبه ذلك قولهم في صِبيان وصِبية: صُبينا وصُبية؛ وذلك أن الأصل صِبوان وصِبوة، ثم قلب الواو ياء استخفافًا للكسرة قبلها، ولم يعتد بالساكن بينهما حاجزًا لضعفه، ثم لما ضموا "28ظ" وزال الكسر أقروا الياء بحالها؛ جنوحًا إليها لخفتها، ولعلمهم أيضًا أن البدل من الواو لم يكن عن استحكام علة فيعادوا الأصل لزوالها، فلما تصوروا ضعف سبب القلب قنَّعوا1 أنفسهم بالعدول إلى جهة الياء، فقالوا: صُبيان وصُبية، حتى كأن قائلا قال لهم: هلا لما زالت الكسرة راجعتم الواو، فقالوا: أَوَكَان القلب إنما كان عن وجوب أحدثته الكسرة حتى إذا فارقناها عاودنا الواو؟ إنما كان استحسانًا، وكذلك فليكن مع الضمة أيضًا استحسانًا. ومن ذلك ما رُوي عن الزهري والأعرج وأبي جعفر بخلاف عنهم: "ولا يَوُودُه حِفْظَهُمَا"2 بلا همز، ولم يُقَل: كيف قالوا؟ قال ابن مجاهد: من لم يهمز قال: "يَوُودُه" فخلف الهمزة بواو ساكنة، فجمع بينها وبين الواو، فيجتمع ساكنان، فإن شاء ضمها فقال: "يَوُودُه"، ومن ترك الهمز أصلًا قال: "يَوْدُه"3. قال أبو الفتح: خلَّط ابن مجاهد في هذا التفسير تخليطًا ظاهرًا غير لائق بمن يُعتد إمامًا في روايته، وإن كان مضعوفًا في فقاهته؛ وذلك أن قوله تعالى: {يَؤُودُهُ} لك فيه التحقيق والتخفيف، فمن حقَّق أخلصها همزة، قال: {يَؤُودُهُ} كيعوده، ومن خفَّف جعل الهمزة بين بين؛ أي: بين الهمزة والواو؛ لأنها مضمومة، فجرى مجرى قولك في تخفيف لَؤم: لَوُم، وفي مئونة: موُونة، ولا يخلصها واوًا لأنها مضمومة، فقوله: بلا همز؛ أي: يخففها، كذا أُحسِن الظن بهؤلاء المشيخة.
فأما ترك الهمز أصلًا فشاذ، وينبغي لمن هو دونهم أن يصان عن أن يُظن ذلك به، فقول ابن مجاهد: إنه يخلف من الهمزة واو ساكنة فيجتمع ساكنان شديد الاضطراب؛ وذلك أنه قد سبق أن سبيل هذا أن يُخفِّف ولا يبدل، وإذا كان مخفِّفًا فالواو متحركة لا ساكنة، فلا ساكنين هناك أصلًا. نعم، ثم لما قال: إنه يجتمع ساكنان لم يذكر ماذا يُعْمَل فيهما؟ قال: وإن شاء ضمها فقال: "يَوُودُه"، وهذا هو الذي ينبغي أن يعمل عليه؛ ولكن ينبغي أن يعلم أنه لا يُضم الواو؛ بل الضمة على الهمزة، إلا أنها مخففة فقربت بذلك من الواو لضعفها مع ضمها. وقوله فيما بعد: ومَن ترك الهمز أصلًا قال: "يَوْدُه" يؤكد ما كنا قدمناه من أن قوله: لا يهمز، إنما يريد به التخفيف لا يريد البدل والحذف، ولولا ذلك لم يَقل: ومن ترك الهمز أصلًا، فقوله: "أصلًا" يدل على أنه لا يريد التخفيف الذي كان قدَّمه. وبعد، فمن ترك الهمزة أصلًا؛ أي: حذفها ألبتة كما يحذفها من قولهم: لاب لك؛ أي: لا أب لك، ومن قولهم: وَيَلُمِّه، وأصلها: ويلٌ لأُمه، ومن قولهم: ناس وأصلها أناس، والله في أحد قولي سيبويه الذي أصله فيه إله، وغير ذلك، فإنه إذا هو حذفها بقيت بعدها الواو التي هي عين الفعل ساكنة فصارت: "يَوْدُه" ومثاله على هذا اللفظ يَعلُه، وأصل هذا كله يَأْودُه كيعوده، يَفعُله كيقتله ونعبده، ثم نقلت الضمة من الواو التي هي عين الفعل "28و" إلى الهمزة التي هي فاء فعله، كما نقلت في يعود من الواو إلى العين فصارت "يئوده" كيعوده، ووزنه الآن يفْعُله، هكذا محصول لفظه، فإذا هو حذف الهمزة ألبتة -وهي فاء الفعل- بقي يَوْدُه في ومن يعلُه، والفاء على ما مضى محذوفة، وعلى أن هذا الحذف لا يُقْدِم أحدٌ عليه قياسًا لنكارته وضيق العذر في اقتباسه، اللهم أن يسمع شيء منه فيودَّى على ما فيه، ويُشرح حديثه بواجب مثله، ولا يحمل سواه على مثل حاله. ومن ذلك ما رواه جويرية بن بشير، قال: سمعت الحسن قرأها: "أولياؤهم الطَّواغيت"1. قال أبو الفتح: ينبغي أن يُفهم هذا الموضع؛ فإن فيه صنعة؛ وذلك أن الطاغوت وزنها في الأصل فَعَلُوت، وهي مصدر بمنزلة الرغَبوت والرهَبوت والرحَموت، وقد يقال فيها: الرَّغَبُوتَى والرهبوتى والرحموتى، ويدل على أنها في الأصل مصدر وقوع الطاغوت على الواحد والجماعة
يلفظ واحد، فجرى لذلك مجرى قوم عدل ورضًا، ورجل عَدلٌ ورضا، ورجلان عدل ورضا، فأما أصلها فهو طغيُوت؛ لأنها من الياء، ويدل على ذلك قوله عز وجل: {فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُون} 1، هذا أقوى اللغة فيها؛ لأن التنزيل ورد به. وروينا عن قطرب وغيره فيها الواو، طغا يطغو طُغُوًّا، وقد يجوز على هذا أن يكون أصله: طَغَوُوت، كفَعَلُوت من غَزَوتُ: غَزَوُوت، وأنا آنس بالواو في هذه اللفظة لما أذكره لك بعد. ثم إن اللام قدمت إلى موضع العين، فصارت بعد القلب طَيَغُوت أو طَوَغُوت، فلما تحركت الياء أو الواو وانفتح ما قبلها قلبت في اللفظ ألفًا؛ فصارت طاغوت كما ترى. ووزنها الآن بعد القلب فَلَعُوت، ومثالها من ضربت: ضَرَبُوت، ومن قتلت قتلوت، هذا إلى هنا بلا خلاف. وإذا جمع فصار طواغيت احتاج إلى نظر؛ فأما على أن يكون من طغوت فلا سؤال فيه؛ وذلك أن الألف على هذا كانت بدلًا من لام طغوت، فلما احتاج إلى تحريك الألف المنقلبة عنها ردها إلى أصلها وهو الواو، فقال: طواغيت، ووزنها الآن فلاعيت، ولو جاءت على واجب أصلها لكان طغاويت أو طغاييت، كقولك في ملكوت لو كسرتها: ملاكيت، ولو قلبت الواحد على حد قلب الطاغوت لقلت: مكلوت، وإن جمعت على هذا -أعني مقلوبًا- قلت: مكاليت، هذا على أن لام طاغوت واو، ماض منقاد على ما تراه. لكن مَن ذهب إلى أن لام طاغوت ياء وجب عليه أن يجيب عن قلب الألف من طاغوت واوًا في قولهم: طواغيت، وكان قياسه على الطغيان أن يكون طياغيت. والجواب: أن طاغوتًا وإن كان من ط غ ى فإنه بعد نقله وقلبه قد صار كأنه فاعول، فلما كسر قلبت ألفه واوًا كما تقلب في نحو تكسير عاقول وعواقيل2، وراقود3 ورواقيد، وهذا الشبه اللفظي كثير عنهم فاشٍ متعالَم بينهم؛ ألا تراهم قالوا: مررت بمالِكَ فأمالوا لشبهها بأَلف مالكٍ، وقالوا: طلبتا وعتَتا4، فأمالوا لشبه "28ظ" آخره بألف سكرى وبشرى؟ فكذلك شبهوا ألف طاغوت بألف جاموس وعاقول. وحكى يونس في تحقير الناب نويب؛ وذلك أنه حمل الألف هنا إذا كانت عينًا على أحكام ما يكثر؛ وهو قلب العين عن الواو في غالب الأمر، وهو: باب ودار وساق ونار، فقال:
نُوَيب، وإن كان من الياء حملا على الباب الأكثر، وهو قولك في مال: مُويل، وفي ساق: سُويقة، وفي دار: دُوبرة. وروينا عن قطرب في كتابه الكبير: طغى يطْغَى ويطغو، وطَغَيتُ وطغِيتُ وطَغوت طُغْيانًا وطُغْوَانًا وطَغْوًا وطُغُوًّا وطَغْوَى، فاعلم. وألقى علينا أبو علي بحلب سنة ست وأربعين الكلام في طغيان، واعتزم في اللام الياء، فقال له فتى كان هناك من أهل مَنْبِج: فقد قالوا الطَّغوى، فقال أبو علي: خذ الآن إليك، هذا تصريفي، ينكر عليه احتجاجه بذلك؛ أي: ألا تعلم أن طَغْوَى اسم، وأن فَعلى إذا كانت اسمًا وكانت لامها ياء فإنها تقلب إلى الواو، نحو: التقوى والبقوى والفتوى والرَّعْوى والثَّنْوى والعوَّى1. وبعد، فإن كانت طغوى من طغوت فواوه أصلية كواو العدوى والدعوى، وإن كانت من طغيت فإنها بدل من الواو كالفتوى وبابها. وأما الطواغي فجمع طاغية، قال الله سبحانه: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} 2 فهو يحتمل أمرين: أحدهما: أن يكون أُهلكوا بطغيانهم، كقولك: أُهلكوا بالبلية الطاغية؛ أي: التي لا قِبَل لهم بها. والآخر: أن يكون أُهلكوا بطغيانهم؛ أي: بكفرهم. ومثل الطاغية وكونها مصدرًا على فاعلة قوله: "لا يُسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةٌ"3 أي: لغو، وتكسير اللاغية لواغ، كعافية وعواف، وعاقبة وعواقب، ومثل الطاغوت الحانوت، وهي فَعَلوت من حنوت؛ وذلك أن الحانوت يشتمل على من فيه، فكأنه يحنو عليه، فهي من الواو، وقُلبت لامها إلى موضع العين فصار حَوَنوت، ثم قلبت الواو ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها فصارت حانوت.
وقول علقمة: حَانيَّةٌ حُومُ1 منسوب إلى حانيَة فاعلة من هذا اللفظ والمعنى، ألا ترى إلى قول عُمارة: وكيف لنا بالشرب فيها وما لنا ... دوانيق عند الحانَوِيِّ ولا نقد فأما الحانة فمحذوفة من الحانية، ومثالها فاعة، ومثلها البالة من قولهم: ما باليت بهم بالة، أصلها: بالية فاعلة من هذا الموضع، ثم حذفت اللام تخفيفًا، وإلى مثل ذلك ذهب الكسائي في "آية" أنها محذوفة من فاعلة: آيِية. ومن ذلك قراءة ابن السَّمَيفَع2: "فبَهَتَ الذي كَفَرَ"3 بفتح الباء والهاء والتاء، وكذلك قرأ أيضًا نُعيم بن ميسرة4، وقرأنة أبو حيوة شريح بن يزيد: "فبَهُتَ" بفتح الباء وضم الهاء، والقراءة العامة: "فَبُهِتَ". قال أبو الفتح: زاد أبو الحسن الأخفش قراءة أخرى لا يحضرني الآن ذكر قارئها، لم يسندها5 أبو الحسن: "فبَهِتَ" بوزن عَلِمَ، فتلك أربع قراءات. فأما "بُهِتَ" قراءة الجماعة، فلا نظر فيها. وأما "بَهِتَ" فبمنزلة خَرِق وفرِق وبرِق. وأما "بَهُتَ" فأقوى "29و" معنى من بَهِتَ؛ وذلك أن فعُل تأتي للمبالغة كقولهم: قَضُو الرجل إذا جاد قضاؤه، وفقُه إذا قوي في فقهه، وشعُر إذا جاد شعره. وروينا عن أبي بكر محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى: أن العرب تقول:
ضرُبت اليد: إذا جاد ضربها، وكذلك بَهُت: إذا تناهى في الْخَرَق والبَرَق والحيرة والدَّهَش. وأما "بَهَتَ" فقد يمكن أن يكون من معنى ما قبله، إلا أنه جاء على فَعَل كذَهَل ونَكَل وعجز وكَلَّ ولَغَب، فيكون على هذا غير متعدٍّ كهذه الأفعال. وقد يمكن أن يكون متعديًا ويكون مفعوله محذوفًا؛ أي: فبَهَتَ الذي كفر إبراهيم عليه السلام. فإن قيل: فكيف يجوز على هذا أن يجتمع معنى القراءتين؟ ألا ترى أن بُهِتَ قد عُرف منه أنه كان مبهوتًا لا باهتًا، وأنت على هذا القول تجعله الباهت لا المبهوت. قيل: قد يمكن أن يكون معنى قوله: بَهت أي رام أن يبهَت إبراهيم عليه السلام، إلا أنه لم يستوِ له ذلك، وكانت الغلبة فيه لإبراهيم عليه السلام. وجاز أن يقول: بَهَتَ، وإنما كانت منه الإرادة، كما قال جل وعز: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} 1 أي: إذا أردتم القيام إليها، كقوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} 2 أي: إذا أردت قراءته، فاكتفى بالمسبب3 الذي هو القيام، والقراءة من السبب الذي هو الإرادة. وقد أفردنا لهذا الموضع بابًا في كتابنا الخصائص4. ويجوز جوازًا حسنًا أن يكون فاعل "بَهَتَ" إبراهيم؛ أي: فبَهَت إبراهيمُ الكافرَ؛ ليلتقي معنى هذه القراءة مع معنى الأخرى التي هي: "فبُهِتَ الذي كفر"، وعليه قطع أبو الحسن. فإن قيل: فما معنى هذا التطاول والإبعاد في اللفظ، ولم يقل: "بُهِتَ" وإبراهيم عليه السلام هو الباهت؟ قيل: إن الفعل إذا بُني للمفعول لم يلزم أن يكون ذلك للجهل بالفاعل؛ بل ليعلم أن الفعل قد وقع به، فيكون المعنى هذا لا ذكر الفاعل، ألا ترى إلى قول الله تعالى: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} 5، وقوله: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} 6، وهذا مع قوله عز وجل: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} 7، وقال سبحانه: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَق} 8، فالغرض في نحو هذا المعروف الفاعل إذا بني للمفعول إنما هو الإخبار عن وقوع الفعل به حسب، وليس الغرض فيه ذكر من أوقعه به، فاعرف ذلك.
ومن ذلك قراءة ابن عباس: "فَصِرَّهُنَّ"1 مكسورة الصاد مشددة الراء وهي متفوحة، وقراءة عكرمة: "فَصَرِّهُنَّ إليك" بفتح الصاد، وقال: قَطِّعهُن، وعن عكرمة أيضًا: "فَصُرّهُنَّ" ضم الصاد وشدد الراء، ولم يقل مفتوحة أو مكسورة أو مضمومة، قال: وهو يحتمل الثلاثة، كمُدُّ ومُدَّ ومُدِّ. قال أبو الفتح: أما "فَصِرَّهُنَّ" بكسر الصاد وتشديد الراء فغريب؛ وذلك أن يفْعِل في المضاعف المتعدي شاذ قليل، وإنما بابه فيه يفْعُل، كصَبَّ الماء يَصُبُّه، وشد الحبل يشده، وفرَّ الدابة يفرها2، ثم إنه قد مر بي مع هذا مِن يفْعِل في المتعدي حروف صالحة؛ وهي: ثم الحديث يَنُمه ويَنِمه، وعلَّه بالماء يعُلَّه ويعِلَّه، وهَرَّ الحرب يهُرُّها ويهِرُّها3، وغَذَّ العِرقُ الدم يغُذه ويغِذه4 "29ظ". وقالوا: حبَّه ويحِبُّه بالكسر لا غير، وأخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن أن بعضهم قرأ: "لن يَضِرُّوا الله شيئًا"5 بكسر الضاد في أحرف سوى هذه، ولمجيء المتعدي من هذا مضمومًا -وبابه وقياسه الكسر- نَظَرٌ ليس هذا موضعه، فيكون صِرَّهُن من هذا الباب على صَرَّه يصِرُّه. وأما "صُرَّهن" بضم الصاد فعلى الباب؛ أعني: ضم عين يفعُل في مضاعف المتعدي، والوجه ضم الراء لضمة الهاء من بعدها، والفتح والكسر من بعد. وأما "فصَرِّهُنَّ" فهذا فَعِّلْهُنَّ6 من صَرَّى يُصَرِّي: إذا حَبس وقَطع. قال: رُب غلام قد صرَى في فقرته ... ماء الشباب عنفوانَ سَنْبته7
أي: حبسه وقطعه، ومنه الشاة المصراة؛ أي: المحبوسة اللبن المقطوعته في ضرعها عن الخروج. وماء صَرًى وصِرًى: إذا طال حبسه في موضعه، ومنه الصراء للملاح1؛ وذلك أنه يمسك السفينة ويحفظها ويصريها عما يدعو إلى هلاكها. ومن ذلك قراءة أبي جعفر والزهري: "جُزًّا"2. قال أبو الفتح: أصله الهمز جزءًا، ثم خففت همزته على قولك في تخفيف الخبء: الخبُ، ثم إنك إذا خففت نحو ذلك ووقفت عليه كان لك فيه السكون على العبرة، وإن شئت الإشمام الجزُ، وإن شئت روم الحركة الجزُ، وإن شئت التشديد على خالدّ وهو يجعلّ، فيقول على هذا: الْجُزَّ، ثم إنه وصل على وقفه، فقال: جُزًّا. ومثله مما أجرى في الوصل مجراه في الوقف من التشديد، ما أنشدناه أبو علي وقرأته على أبي بكر محمد بن الحسن عن أحمد ين يحيى: ببازلٍ وجناء أبو عيهَلِّ ... كأن مهواها على الكلْكَلِّ3 يريد: العيهل والكَلْكَل. وفيها ما قرأته على أبي بكر دون أبي علي: تعرَّضتْ لي بمجاز حِلِّ ... تعرُّضَ الْمُهْرةِ في الطِّوَلِ4 وفيها: ومُقلتان جوْنَتَا الْمَكْحَلِّ وقد كان ينبغي إذ كان إنما شدد عوضًا من الإطلاق أن إذا أطلق عاد إلى التخفيف، إلا أن العرب قد تجري الوصل مجرى الوقف تارة، الوقف مجرى الأصل، فعلى هذا وجه القراءة المذكورة "جُزًّا"، فاعرفه. ومن ذلك قراءة سعيد بن المسيِّب والزهري: "كمثل صَفَوانٍ عليه ترابٌ"5 بفتح الفاء.
قال أبو الفتح: أكثر ما جاء فعلان في الأوصاف والمصادر؛ فالأوصاف كقولهم: رجل شَقَذَان للخفيف، وقالوا: أكذب من الأَخيذ الصَّبَحَان1 بفتح الباء كما ترى، وقد رُوي الصبْحان بتسكينها، ويومٌ صَخَدان ولَهَبَان لشدة الحر، وعير فَلَتان2، ورجل صَمَيان: ماض منجرد. وأما المصادر فنحو الوهجان والنَّزَوَان والغَلَيَان والغثيان والقفزان والنقران. والمعنى -في الوصف والمصدر جميعًا من هذا المثال- الحركة والخفة والإسراع، وهو في الأسماء غير الصفات والمصادر قليل، غير أنهم قد قالوا: الوَرَشان3 والكَرَوَان والشبهان لضرب من النبت4، وقيل: الشَّبُهان بضم الباء، وقالوا: العنَبان للتيس من الظباء النشيط، فإذا كان كذلك كان الصفَوان أيضًا مما جاء من غير الأوصاف والمصادر على فعَلان. ومن ذلك قراءة "30و" الزهري ومسلم بن جندب5: "ولا تُيمِّموا الخبيث"6 بضم التاء وكسر الميم. قال أبو الفتح: فيها لغات: أمَمْتُ الشيء ويممْتُه وأَمَّمْتُه ويَمَّمْتُه وتَيمَّمْتُه، وكله قَصَدتُه. قال الأعشى: تؤمُّ سنانا وكم دونه ... من الأرض مُحْدَوْدِبا غارُها7 وقال الآخر: يمْمتُ بها أبا صخر بن عمرو
وقال: تيممت العين التي عند ضارج ... يفيء عليها الظل عَرْمضُها طام1 الأَمُّ: القصد، ومثله الأَمْتُ، ومنه الإمام لأنه المقصود المعتمد، والإمام أيضًا: خيط البنَّاء؛ لأنه يمده ويعتمد بالبناء عليه، والأُمَّة: الطريقة لأنها متعمدة، قال الله سبحانه: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} 2 أي: على طريقة مقصودة. ومن ذلك قراءة الزهري: "إلا أن تَغْمُضُوا فيه"3 بفتح التاء من غمض، ورُوي أيضًا: "تُغَمِّضُوا فيه" مشددة الميم، وقرأ قتادة: "إلا أن تُغْمَضُوا فيه" بضم التاء وفتح الميم. قال أبو الفتح: أما قراءة العامة؛ وهي: {إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} فوجهها أن تأتوا غامضًا من الأمر لتطلبوا بذلك التأول على أخذه، فأغمض على هذا: أتى غامضًا من الأمر، كقولهم: أعمن الرجل: أتى عَمان، وأعرق: أتى العراق، وأنجد: أتى نجدًا، وأغار: أتى الغور. واختيار الأصمعي هنا غار، وليس هذا على قول الأصمعي أتى الغور، وإنما هو غار؛ أي: غمض وانشام4 هناك، كقولك: ساخ وسرب، ولو أراد معنى صار إلى هناك لكان أغار، كما قال: نَبِيٌّ يرى ما لا تَرون وذكره ... أغار لعمري في البلاد وأنجدا5 ورواية الأصمعي: غار، على ما مضى، وليس المعنى على ما قدمنا واحدًا. وأما "تُغْمَضُوا فيه" فيكون منقولًا من غَمَض هو وأغمضه غيره، كقولك: خفي وأخفاه غيره، فهو كقراءة مَن قرأ: "أن تَغْمُضُوا فيه"، ولم يذكر ابن مجاهد هل الميم مع فتح التاء مكسورة أو مضمومة، والمحفوظ في هذا غَمَض الشيء يغمُض، كغار يغور، ودخل يدخُل، وكمن يكمُن، وغرب يغرُب. والمعنى: أن غيرهم يُغْمِضُهم فيه من موضعين: أحدهما: أن الناس يجدونهم قد غَمَضُوا فيه، فيكون من أفعلت الشيء وجدته كذلك، كأحمدت الرجل: وجدته محمودًا، وأذممته: وجدته مذمومًا، ومنه قوله: وقومٍ كرامٍ قد نقلنا قِرَاهمُ ... إليهم فأَتلفنا المنايا وأتلفوا6
أي: وجدناها مُتْلِفة. وقوله: فمضى وأخاف من قُتَيلة موعِدا1 أي: صادفه مخلفًا. وقول رؤبة: وأهيج الخلطاء من ذات البرق2 أي: صادفها مهتاجة النبت. ومنه قوله الله تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} 3 أي: صادفناه غافلًا، ولو كان أغفلنا هنا منقولًا من غفل -أي: منعناه وصددناه- لكان معطوفًا عليه بالفاء "فاتَّبَعَ هواه". وذلك أنه كان يكون مطاوعًا، وفعل المطاوعة إنما يكون معطوفًا بالفاء دون الواو، وذلك كقوله: أعطيته فأخذ، ودعوته فأجاب، ولا تقول هنا: أعطيته وأخذ، ولا دعوته وأجاب، كما لا تقول: كسرته وانكسر، ولا جذبته "30ظ" وانجذب؛ إنما تقول: كسرته فانكسر، وجذبته فانجذب، وهذا شديد الوضوح والإنارة على ما تراه. وكذلك لو كان معنى أغفلنا في الآية منعنا وصددنا لكان معطوفًا عليه بالفاء، وأن يقال: ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا فاتبع هواه4، وإذ لم يكن هكذا، وكان إنما هو "واتبع" فطريقه أنه لما قال: "أغفلنا قبله عن ذكرنا" فكأنه قال: وجدناه غافلًا، وإذا وُجد غافلًا فقد غفل لا محالة، فكأنه قال إذن: ولا تطع من غفل قبله عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطًا؛ أي: لا تطع مَن فعل كذا، يعدد أفعاله التي توجب ترك طاعة الله سبحانه، ونسأل الله توفيقًا من عنده ودُنُوًّا من مرضاته بمنِّه ومشيئته، فهذا أحد وجهي "تُغْمَضُوا فيه"؛ أي: إلا أن توجدوا مُغْمِضين متغاضين عنه. والآخر: أن يكون "تُغْمَضُوا فيه" أي: إلا أن تُدخلوا فيه وتُجذبوا إليه، وذلك الشيء الذي يدعوهم إليه، ويحملهم عليه هو: رغبتهم في أخذه ومحبتهم لتناوله، فكأنه -والله أعلم-
إلا أن تسوِّل لكم أنفسُكم أَخْذه فتُحسِّن ذلك لكم، وتعترض بشكه على يقينكم حتى تكاد الرغبة فيه تكرهكم عليه. ويزيد في وضوح هذا المعنى لك ما روي عن الزهري أيضًا من قراءته: "إلا أن تُغَمِّضُوا فيه" أي: إلا أن تغمِّضوا بصائركم وأعين علمكم عنه؛ فيكون نحوًا من قوله: إذا تخازرت وما بي من خزر1 وهو معنى مطروق، منه قول الله تعالى: {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ} 2، وجاء به بعض المولدين فقال: خالدَ اللُّؤْمِ أمغض ... أنت لا بل متغاضي وآخرُ ذلك قول شاعرنا3: تصفو الحياة لجاهل أو غافل ... عما مضى منها وما يُتوقع ولمن يغالط في الحقائق نفسَه ... ويسومها طلب المحال فتتبع وما أظرف الأول وأدمثه في قوله: أبكي إلى الشرق ما كانت منازلها ... مما يلي الغرب خوف القِيل والقال وأذكر الخال في الخد اليمين لها ... خوف الوُشاة وما بالخد من خال4 ومن ذلك قراءة الحسن: "اتقوا الله وذروا ما بَقِي من الربا "5 بكسر القاف وسكون الياء. قال أبو الفتح: قد سبق ما في سكون هذه الياء المكسور ما قبلها في موضع النصب والفتح بشواهده، ومنه قول جرير: هو الخليفة فارضَوْا ما رضِي لكم ... ماضي العزيمة ما في حكمه جَنَفُ6
ومن ذلك ما رواه ابن مجاهد عن أبي زيد عن أبي السمال: أنه كان يقرأ: "ما بقِي مِن الرِّبُو"1 مضمومة الباء ساكنة الواو. قال أبو الفتح: في هذا الحرف ضربان من الشذوذ: أحدهما: الخروج من الكسر إلى الضم بناء لازمًا. والآخر: وقوع الواو بعد الضمة في آخر الاسم، وهذا شيء لم يأتِ إلا في الفعل نحو: يغزو ويدعو ويخلو، فأما "ذو" الطائية التي بمعنى الذي نحو قوله: لأَنْتحيا للعظم ذو أنا عارقه2 فشاذ، وعلى أن منهم مَن يغير هذه الواو إذا فارق الرفع "31و" فيقول: رأيت ذا قام وأخوه، ومررت بذي قام أخوه. وسألت أبا علي عن حكاية أبي زيد "فعلتُه من ذي إلينا"، فقال: أراد من الذي إلينا. فقلت: فهذا يوجب عليه أن يقول: من ذو إلينا. فقال -وهو كما قال: قد تغير هذه الواو في النصب والجر، وعلى أن "ذو" هذه لما كانت موصولة وقعت واوها حشوًا فأَشبهت واو طُومار3، كما أَشبهت عند صاحب الكتاب ياء معديكرب ياء دردبيس4. والذي ينبغي أن يُتعلَّل به في الرِّبُو بالواو هو أنه فخَّم الألف انتحاء بها إلى الواو التي الألف بدل منها على حد قولهم: الصلاة والزكاة، وكمشكاة، وكقولهم: عالم وسالم وسالف وآنف، وكأنه بيَّن التفخيم فقوي الصوت فكان الواو أو كاد، إلا أن الراوي أبو زيد، وما أبعده مع علمه وفقهه باللغة من أن تتطرق ظِنَّةٌ عليه في تحصيل ما يسمعه. فإن قلت: فلعله شبه ذوات العلة بذوات الهمز فوقف على الواو، كما قالوا: هو الرِّدُو والبُطُو5. قيل: هذه الواو إنما تكون مع الهمزة في هذا الكَلَو ومررت بالكَلَيْ في موضع الرفع، وموضع
الرِّبُو جر بمن في قوله: "مِنَ الرِّبُو"، وعلى أن الكَلو مفتوح ما قبل الواو، والباء من الرِّبُو مضمومة، وعلى أي الأمر حملته فهو شاذ. ومن ذلك قراءة الزهري ويعقوب: "ومن يُوتِ الحكمةَ"1 بكسر التاء. قال أبو الفتح: وجهه على أن الفاعل فيه اسم الله تعالى؛ أي: ومَن يُوت الله الحكمة، مَن منصوبة على أنها المفعول الأول والحكمة المفعول الثاني، كقولك: أيَّهم تعطي درهمًا يشكرك. ومن ذلك قراءة الحسن بخلاف وأبي رجاء ومجاهد فيما رُوي عنه: "فنَظْرَة إلى ميْسُرة"2، وقراءة عطاء بن أبي رباح: "فناظِرُهُ"3 بالألف، والهاء كناية، ورُوي أيضًا عن عطاء: "فنِاظِرْهُ إلى ميْسُرِه" أمر. قال أبو الفتح: أما "فنَظْرَة" بسكون الظاء فمسكَّنة للتخفيف من "نَظِرة "، كقولهم في كلمة: كَلْمة، وفي كَبِد كَبْد، لغة تميمية، وهم الذين يقولون في كَرُم: كَرْم، وفي كُتُب: كُتْب. وأما "فنَاظِرْه" فكقولك: فياسره فسامحه وليس أمرًا من المناظرة؛ أي: المحاجة والمجادلة؛ لكنها من المساناة4 والمسامحة، فيقول على هذا: قد تناظر القوم بينهم الحقوق، كقولك: قد تسامحوا فيها ولم يضايق بعضُهم بعضًا. ويقول عليه: لله متبايعان رأيتهما، فقد تناظرا؛ أي: تسامحا ولم يتحاجا.
وأما "إلى مَيْسُره" فغريب؛ وذلك أنه ليس في الأسماء شيء على مفْعُل بغير تاء؛ لكنه بالهاء، نحو: المقْدُرة والمقْبُرة والمشرُقة1 والمقنُوة2، وأما قوله: أَبلغ النعمان عني مألُكا ... أنه قد طال حبسي وانتظار3 فطريقه عندنا: أنه أراد مألُكة -وهي الرسالة- غير أنه حذف الهاء وهو يريدها، كما قال كثير: خليلي إنْ أمُّ الحكيم تَحَملت ... وأَخْلت لخيمات الْعُذَيب ظلالها4 يريد: العُذيْبَة "31ظ"، وكما قال ملك بن جبار الطائي: إنا بنو عمكم لا أن نُباعلكم ... ولا نصالحكم إلا على ناح5 يريد ناحية. وكذلك قول الآخر: بُثَيْن الزمى لا إن لا إن لزمتِه ... على كثرة الواشين أيُّ معون6 يريد معونة فحذف، وقيل: أراد جمع معونة، وكذلك قول الآخر: ليوم روع أو فَعالِ مَكْرُم7 يريد: مكرمة ثم حذف، وقيل: أراد جمع مكرمة، وكذلك أراد هنا إلى ميسرته، فحذف الهاء. وحسن ذلك شيئًا أن ضمير المضاف إليه كاد يكون عوضًا من علم التأنيث، وإليه ذهب الكوفيون في قوله تعالى: {وَإِقَامِ الصَّلاةِ} 8 أنه أراد إقامة، وصار المضاف إليه كأنه عوض من التاء.
ويشهد لهذا قراءة مَن قرأ: "فنَظِرَةٌ إلى مَيْسُرة"، قرأ بها نافع في جماعة من الصحابة، فاعرف. ومن ذلك قراءة الحسن: "واتقوا يومًا يُرجعون فيه"1 بياء مضمومة. قال أبو الفتح: فيه أنه ترك الخطاب إلى لفظ الغيبة كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} 2، غير أنه تصور فيه معنى مطروقًا هنا فحمل الكلام عليه؛ وذلك أنه كأنه قال: واتقوا يومًا يَرجع فيه البشر إلى الله فأَضمر على ذلك، فقال: يُرجعون فيه إلى الله. وقد شاع واتسع عنهم حمل ظاهر اللفظ على معقود المعنى، وترك الظاهر إليه، وذلك كتذكير المؤنث وتأنيث المذكر وإفراد الجماعة وجمع المفرد، وهذا فاشٍ عنهم، وقد أفردنا له بابًا في كتابنا في الخصائص ووسمناه هناك بشجاعة العربية3، وكأنه -والله أعلم- إنما عدل فيه عن الخطاب إلى الغيبة فقال: يُرْجَعُون بالياء رفقًا من الله -سبحانه- بصالحي عباده المطيعين لأمره. وذلك أن العود إلى الله للحساب أعظم ما يخوَّفُه ويُتَوعَّدُ به العباد، فإذا قرئ: "تُرجعون فيه إلى الله" فقد خوطبوا بأمر عظيم يكاد يستهلك ذكره المطيعين العابدين، فكأنه -تعالى- انحرف عنهم بذكر الرجعة فقال: "يرجعون فيه إلى الله". ومعلوم أن كل وارد هناك على أهول أمر وأشنع خطر، فقال: يرجعون فيه، فصار كأنه قال: يجازَوْن أو يعاقبون أو يطالبون بجرائرهم فيه، فيصير محصوله من بعد؛ أي: فاتقوا أنتم يا مطيعون يومًا يُعذَّب فيه العاصون. ومَن قرأ بالتاء "ترجعون" فإنه فضل تحذير للمؤمنين نظرًا لهم واهتمامًا بما يُعقِب السلامة بحذرهم، وليس ينبغي أن يُقْتَصَر في ذكر علة الانتقال من الخطاب إلى الغيبة ومن الغيبة إلى الخطاب بما عادة توسط أهل النظر أن يفعلوه، وهو قولهم: إن فيه ضربًا من الاتساع في اللغة لانتقاله من لفظ إلى لفظ، هذا ينبغي أن يقال إذا عَرِي الموضع من غرض معتمد، وسر على مثله تنعقد اليد.
فمنه قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 1، هذا بعد قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فليس ترك الغيبة إلى الخطاب هنا اتساعًا وتصرفًا؛ بل هو لأمر أعلى ومهم من الغرض أَعْنَى، وذلك أن الحمد معنًى دون العبادة، ألا تراك قد تحمد نظيرك ولا تعبده؛ لأن العبادة غاية الطاعة والتقرب بها هو النهاية "32و" والغاية؟ فلما كان كذاك استعمل لفظ "الحمد" لتوسطه مع الغيبة، فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} ولم يقل: لك، ولما صار إلى العبادة التي هي أقصى أمد الطاعة قال: {إِيَّاكَ نَعْبُد} فخاطب بالعبادة إصراحًا بها، وتقربًا منه -عز اسمه- بالانتهاء إلى محدوده منها. وعلى نحو منه جاء آخر السورة، فقال: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} 2 فأصرح بالخطاب لَمَّا ذكر النعمة، ثم قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} ولم يقل: غير الذين غضبتَ عليهم؛ وذلك أنه موضع تقرب من الله بذكر نعمه، فلما صار الكلام إلى ذكر الغضب قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} ، حتى كأنه قال: غير الذين غُضِب عليهم، فجاء اللفظ مُنْحَرَفًا به عن ذكر الغاضب، ولم يقل: غير الذين غضبتَ عليهم، كما قال: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} فأسند النعمة إليه لفظًا، وزَوَى عنه لفظ الغضب تحسنًا ولطفًا. فانظر إلى هذه اللغة الكريمة وشرفها، وتلاقي هذه الأغراض اللطيفة وتعطفها، الأقدام تكاد تطؤها، والأفهام مع ثقوبها صافحة عنها، ويا ليت شعري هل تكون سورة أكثر استعمالًا من سورة الحمد، وهذا جزء من أجزاء ما فيها ولم توضع عليه يد؟ شرح الله لإعظام أوامره صدرونا، وأحسن الأخذ إلى طاعته بأيدينا بقدرته وماضي مشيئته. ومما يتلقاه عامة من يُسْأَل عنه بأنه أَخْذٌ باللغتين، وسعة باختلاف اللفظين: قراءة أبي عمرو: "وتفقَّد الطير فقال ما لِي لا أرى الهدهد"3 بسكون الياء من "لي"، وقراءته أيضًا: "وما لِيَ لا أعبد الذي فطرني"4 بتحريك الياء. وعلة ذلك ليس الجمع بين اللغتين كما يُفتي به جميع من تسأله عنه؛ لكنه لما جاز الوقف على قوله تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ} ، وأن يستأنف فيقول: {لا أَرَى الْهُدْهُدَ} ، سكن الياء من "لي"؛ أمارة لجواز الوقوف عليها، ولما لم يحسن الابتداء بقوله: {لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} حرك الياء من "لي" قبلها؛ أمارة لإدراج الكلام ووصله؛ وذاك أن الحركة من أعراض الوصل،
والسكون من أعراض الوقف، فهل يحسن مع وجود هذا الفرق الواضح الكريم أن يُخلد دونه إلى التعذر بما يُخْلِدُ إليه الموهون المضيم؟ اللهم انفعنا بما استودعتناه1، واجعل بك اعتصامنا، وإلى طاعتك توجهنا، إنك لطيف بنا وأنت حسبنا. ومن ذلك ما رواه مَتُّ بن عبد الرحمن2 قال: كان أهل مكة يقرءون: "وامرأْتَان"3 بسكون الهمزة. قال أبو الفتح: وجه ذلك -والله أعلم- أنهم كانوا يخففون الهمزة فيضعفون حركتها على المعتاد من أمرها، فتقرب من الساكن. ويدل على أن الهمزة المحركة إذا خففت في نحو هذا قريبة من الساكن، امتناعُ العرب من أن تبتدئ بها مخففة كما تمتنع من الابتداء بالساكن، فلما صارت إلى قولك: "وامراتان" بالَغوا في ذلك فأبدلوها ألفًا؛ فصارت: "وامراتان" بألف ساكنة، كما قال: يقولون جهلًا ليس للشيخ عَيِّل ... لعمري لقد أعيلت وانَ رَقُوب4 يريد: وأنا، فخفف الهمزة فصار "وان"، ثم تجاوز ذلك إلى البدل فأخلصها في اللفظ ألفًا فقال: وان، فكذلك لما "32ظ" أبدل من همزة "وامرأتان" ألفًا فصار تقديره: "وامراتان"، ثم أبدل الهمزة من الألف وإن كانت ساكنة على ما قدمنا ذكره فيما قبل، وعليه قراءة ابن كثير: "وكَشفَتْ عن سأْقَيْها"5، ومنه: البأز والخأتم والعألم وتَأْبَلْتُ6 القدر، ونحو ذلك مما قدمنا ذكره، هذا طريق الصنعة فيه والتأتي له. فأما أن يقدِّر به مقدِّرٌ على أنه أسكن الهمزة المتحركة اعتباطًا ألبتة هكذا فلا؛ لأنه لا نظير له، ألا ترى أن ما قبل تاء التأنيث لا يكون أبدًا إلا مفتوحًا، نحو: جوزة ورطبة، إلا أن تكون الألف المدة نحو: قتادة وقطاة؟ فأما الهمزة فحرف صحيح حامل للحركة؛ فتجب فتحته ألبتة.
فإن قلت: أسكن الهمزة تشبيهًا لها بالألف من حيث تساوتا في الجهر، وفي الزيادة، وفي البدل، وفي الحرف، وفي قرب المخرج، وفي الخفاء -فقولٌ ما، غير أنه مخشوب1 لا صنعة فيه، ولا يكاد يُقنع بمثله. ومن ذلك قراءة عمرو بن عبيد وأبي جعفر يزيد بن القعقاع2: "ولا يُضارّْ"3 بتشديد الراء وتسكينها. قال أبو الفتح: أما تشديد الراء فلا سؤال فيه؛ لأنه يريد يضارَِر، بفتح الراء الأولى أو بكسرها، وكلاهما قد قرئ به؛ أعني: الفتح في الراء الأولى والكسر، والإدغام لغة تميم، والإظهار لغة الحجازيين على ما مضى؛ لكن تسكين الراء مع التشديد فيه نظر. وطريقه: أنه أَجرى الوصل مجرى الوقف4، كقوله: سَبْسَبًّا5
وكلْكَلَّا1، وقد ذكرنا هذا الوصل على نية الوقف فيما مضى، وقد كنا ذكرنا فيما قبل ما يُروى عن الأعرج عن أبي جعفر من تسكين الراء على أنها مخففة، وأيًّا كان ففيه ما مضى. وقراءة ابن محيصن: "ولا يضارُّ" رفع2، قال ابن مجاهد: لا أدري ما هي؟ وهذا الذي أنكره ابن مجاهد معروف؛ وذلك على أن تجعل "لا" نفيًا؛ أي: وليس ينبغي أن يضار، كقوله: على الحكم المأتي يومًا إذا قضى ... قضيتَه ألا يجور ويقصِدُ3 فرفع "ويقصد " على أنه أراد: وينبغي له أن يقصد، فرفع يقصد كما يرتفع ينبغي. فكذا هذا؛ أي: وينبغي ألا يضار. وإن شئت كان لفظ الخبر على معنى النهي حتى كأنه قال: ولا يضارِرْ، كقولهم في الدعاء: يرحمه الله؛ أي: ليرحمه الله، ويغفرُ الله لك؛ أي: ليغفر الله لك، ولا يرحمُ الله قاتلك، فرُفع على لفظ الخبر وأنت تريد: لا يرحمْه الله جزمًا، فتأتي بلفظ الخبر وأنت تريد معنى الأمر والنهي على ما ذكرنا. ومن ذلك ما رواه الأعمش قال: في قراءة ابن مسعود: "يحاسِبْكم به الله يغفرْ لمن يشاء ويعذبْ من يشاء"4 جزمٌ بغير فاء. قال أبو الفتح: جزم هذا على البدل من "يحاسبكم" على وجه التفصيل لجملة الحساب، ولا محالة أن التفصيل أوضح من المفصَّل، فجرى مجرى بدل البعض أو الاشتمال، والبعض
كضربت زيدًا رأسه، والاشمال كأُحب زيدًا عقله. وهذا البدل ونحوه واقع في الأفعال وقوعه في الأسماء لحاجة القبيلين إلى البيان، فمن ذلك قول الله سبحانه: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} 1؛ لأن مضاعفة العذاب هو لُقِيُّ الأثام، وعله قوله "33و": رُويدًا بني شيبان بعض وعيدكم ... تُلاقوا غدا خيلي على سَفَوان تلاقوا جيادًا لا تَحيد عن الوغى ... إذا ما غَدَت في المأزِق المتداني تلاقوهم فتعوفوا كيف صبرهم ... على ما جَنَتْ فيهم يدا الحدثان2 فأبدل تلاقوا جيادًا من قوله: تلاقوا غدا خيلي، وجاز إبداله منه للبيان وإن كان من لفظه وعلى مثاله؛ لما اتصل بالثاني من قوله: جيادًا لا تحيد عن الوغى، وأبدل تلاقوهم من تلاقوا جيادًا؛ لما اتصل به من المعطوف عليه وهو قوله: "فتعلموا3 كيف صبرهم"، وإذا حصلت فائدة البيان لم تُبل أَمِنْ نفس المبدل كانت، أم مما اتصل به فضلةً عليه، أم من معطوف مضموم إليه؟ فإن أكثر الفوائد إنما تجتنى من الألحاق والفضلات. نعم، وما أكثر ما تُصْلِحُ الجمل وتتممها، ولولا مكانها لَوَهتْ فلم تستمسك. ألا تراك لو قلت: زيد قامت هند لم تتم الجملة؟ فلو وصلت بها فضلة ما لتمت؛ وذلك كأن تقول: زيد قامت هند في داره، أو معه، أو بسببه، أو لتكرمه، أو فأكرمته، أو نحو ذلك، فصحت المسألة؛ لعود الضمير على المتبدأ من الجملة. وعليه قول كثير فيما أظن: وإنسان عيني يحسر الماء تارة ... فيبدو وتاراتٍ يَجُم فيغرَق4 فبالمعطوف على يحسر الماء ما تمت5 الجملة، وفي هذا بيان.
سورة آل عمران
سورة آل عمران: بسم الله الرحمن الرحيم من ذلك قراءة عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان -رضي الله عنهما- وابن مسعود وإبراهيم النخعي والأعمش وأصحاب عبد الله وزيد بن علي وجعفر بن محمد وأبي رجاء بخلاف ورُويت عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الحيُّ القيَّام"1، وقرأ علقمة2: "الحيُّ القَيِّم". قال أبو الفتح: أما "القيَّام" ففيعال من قام يقوم؛ لأن الله تعالى هو القيم على كل نفس، ومثله من الصفة على فيعال الغيْداق3 والبَيْطار، وأصله: القيْوَام، فلما التقت الواو والياء وسبقت الأولى بالسكون قلبت الواو ياء وأدغمت فيها الياء فصارت القيام، ومثله قولهم: "ما بالدار ديَّار"، وهو فيعال من دار يدور وأصلها دَيْوار، وأهل الحجاز يقولون للصَّوَّاغ: الصَّيَّاغ، فعلى هذا ينبغي أن يحمل لا على فَعَّال؛ لأنه كان يجب أن يكون صوَّاغًا، هذا هو الباب. وأما الفيَّاد لِذَكر البوم فحمله أبو علي على أنه فَعَّال من الأسماء؛ وذلك أنه من فاد يفيد إذا تبختر. وأما الجيَّار للسُّعال فكذا يجب أن يكون أيضًا، وهو فَعَّال من لفظ "جَيْر" بمعنى نعم ومعناها؛ وذلك أن السَّعلة تجيب أختها كما أن جير جواب. قال العجاج: تجاوب الرَّعْدِ إذا تبوَّجا4 وأنشدنا أبو علي: إذا حنَّت الأولى سَجَعْنَ لها معا
والحديث طويل لكن هذا طريقه. وأما القَيِّم من قام يقوم بأمره، وهو من لفظ قيَّام ومعناه قال: الله بيني وبين قيِّمها ... يفر مني بها وأَتَّبع لما قال الشاعر هذا قيل له: لا، "33ظ" بل الله بين قيمها وبينك. و"القيوم" قراءة الجماعة، فيعول من هذا أيضًا، ومثله الدَّيُّور في معنى الدَّيَّار. ومن ذلك قراءة الحسن: "الأَنجيل"1 بفتح الهمزة. قال أبو الفتح: هذا مثال غير معروف النظير في كلامهم؛ لأنه ليس فيه أفعيل بفتح الهمزة، ولو كان أعجميًّا لكان فيه ضرب من الحِجاج؛ لكنه عندهم عربي، وهو أفعيل من نجل ينجُل: إذا أثار واستخرج، ومنه نَجْلُ الرجل لولده؛ لأنه كأنه استخرجهم من صلبه وبطن امرأته، قال الأعشى: أنجب أزمان والداه به ... إذ نَجَلاه فنعم ما نَجلا2 أي: أنجب والداه به أزمان إذ نجلاه، ففصل بالفاعل بين المضاف الذي هو أزمان وبين المضاف إليه الذي هو إذ، كقولهم: حينئذ، ويومئذ، وساعتئذ، وليلتئذ. وقال أبو النجم: تنجُل أيديهن كل منْجل يريد: أيدي الإبل؛ أي: تثير بأيديها في سيرها ما تمر به من نبت وحجر وغيرهما. وقيل له: إنجيل؛ لأن به ما3 استخرج علم الحلال والحرام ونحوهما، كما قيل: توراة، وهو فوعلة من وَرَى الزنْد إذا قدح وأصله وَوْرَيَة، فأبدلت الواو التي هي الفاء تاء كما قالوا: التُّجاه والتُّخَمة والتُّكْلان والتَّيقُور4، وهي من الوجه والوخامة والوكيل والوقار، وقلبت الياء ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها فصارت توراة، فهذه من ورى الزند: إذا ظهرت ناره، وهذا من نَجَل ينجُل: إذا استَخْرج؛ لما في هذين الكتابين من معرفة الحِل والحِرْم كما قيل لكتاب نبينا -صلى الله عليه وسلم- الفرقان؛ لأنه فرَّق بين الحق والباطل، وهذا الحديث الذي نحن عليه من بابٍ
ضُمنه كتابنا الخصائص وسَمتُه: باب في تلاقي المعاني على اختلاف الأصول والمباني1؛ وذلك أن التوراة من لفظ ورى، والإنجيل من لفظ ن ج ل، والفرقان من ف ر ق، والتوارة فوعلة، والإنجيل إفعيل، والفرقان فُعلان. فالأصول مختلفة والمباني كذلك، والمعاني واحدة ومعتنقة، وكلها للإظهار والإبراز والفرق بين الأشياء، أفلا ترى إلى هذه الحكمة الممرور بها، الواطئة الأقدام عليها، المسهو لعادة الدعة وقلة المراعاة والمراجعة عنها؟ وفي كل شيء له شاهد ... يدل على أنه واحد2 ونظائره تكاد تكون أكثر من الرمل، منه قولهم للمسك: صِوَار، فأصلاهما مختلفان: هذا من م س ك، وهذا من ص ور، ومثالاهما كذلك؛ لأن مِسْكًا فِعْلٌ، وصِوَار فِعَال، ومعنياهما واحد؛ وذلك لأنه سمي مسكًا لأنه بطيب رائحته يمسك الحس عليه استلذاذًا له، وصِوَار من صار يصور إذا عطف وجمع فأمسكت الشيء وعطفته وجمعته شيء واحد، ومنه قولهم: سحاب، قيل له ذلك كما قيل له حَبِيّ، فهذا من ح ب و، وهذا من س ح ب، وسحاب فَعال، وحبي فعيل، فالأصلان مختلفان، والمثالان اثنان، والمعنيان واحد، وذلك أنه لثقله ما3 ينسحب على وجه الأرض، وكذلك ما يحبو عليها، قالت امرأة "34و" تصف غيثًا: وأقبل يزحف زحف الكسير ... كأن على عضديه رِفَاقا4 وقال أوس5 أو عبيد: دانٍ مسفٌ فويق الأرض هَيْدبُه ... يكاد يدفعه مَن قام بالرَّاح واللطيف الحسن الجميل كثير؛ لكن أين لك بالمحسن المستثير؟ فهذا حديث هذا المثال الذي هو الإنجيل، وأما فتحه فغريب؛ ولكنه الشيخ أبو سعيد -نضر الله وجهه ونوَّر ضريحه- ونحن نعلم أنه لو مر بنا حرف لم نسمعه إلا من رجل من العرب لوجب علينا تسليمه له إذا أُونست فصاحته، وأن نَبْهأَ6 به، ونتحلى بالمذاكرة بإعرابه، فكيف الظن بالإمام في فصاحته وتحريه وثقته؟ ومعاذ الله أن يكون ذلك شيئًا جنح فيه إلى رأيه دون أن يكون أخذه عمن
قبله، وبعد فقد حكى أبو زيد في السِّكِّينة: السَّكِّينة، بفتح السين وتشديد الكاف. فهذا فَعِّيلة وإن لم يكن لها نظير، وإفعيل أخو فِعِّيل، وأحسبني سمعت في بِرْطيل بَرْطيل، فهذا فَعليل بفتح الفاء، وأَفعيل وفَعليل وفَعِّيل يكاد يكون مثالًا واحدًا. ومن ذلك قراءة أبي واقد الجراح: "رَبَّنَا لا تَزِغْ قُلُوبُنا"1. قال أبو الفتح: هذا في المعنى عائد إلى قراءة الجماعة: "لا تُزغْ قلوبَنا"؛ وذلك أنه في الظاهر طلب من القلوب ورغبة إليها، فهو كقول الراجز فيما أنشده ابن الأعرابي: يا رب لا يرجع إلينا طِفْيلا2 وفسره طفلًا، فظاهره الطلب والرغبة إلى ذلك الإنسان المدعو إليه؛ وإنما المسئول الله سبحانه، حتى كأنه قال: اللهم لا ترجعه إلينا، ويؤكد في ذلك النداء في قوله تعالى: "ربنا"، ويزيد في شرحه لك أنك تقول للأمير: لا ترهقني؛ لأنه يملك التنفيس عنك، ولا تقول له: أيها الأمير، أدخلني الجنة؛ لأن ذلك ليس له ولا إليه؛ فقد علمت إذن أن معنى "لا تَزِغْ قلوبُنا" هو معنى "لا تُزغ قلوبَنا"؛ ألا ترى أن القلوب لا تملك شيئًا فيطلب منها؟ فالمسئول إذن واحد وهو الله سبحانه. ومن ذلك قراءة ابن عباس وطلحة: "يُرَوْنَهم مِثلَيهم"3 بياء مضمومة4. قال أبو الفتح: هذه قراءة حسنة المعنى؛ وذلك أن رَأيتُ وأرى أقوى في اليقين5 من أُريتُ وأُرَى، تقول: أرى أن سيكون كذا؛ أي: هذا غالب ظني، وأرى أن سيكون كذا؛ أي: أعلمه وأتحققه؛ وسبب ذلك أن الإنسان قد يُريه غيره الشيء فلا يصح له، فمعناه إذن أن غيره يشرع في أن يراه ولا أنه هو لا يراه، وأما أرى فإخبار بيقين منه، فكذلك هذه الآية: "يُرَوْنَهم مِثلَيهم" أي: يُصوَّر لهم ذلك وإن لم يكن حقًّا؛ لأن الشيء الواحد لا يكون اثنين
في حال واحد؛ ولكن قد يُظن ويتوهم شيئين بل أشياء كثيرة، ومثله قول الله تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا} 1، فهذا يُحسِّن هذه القراءة. وأما قراءة الجماعة: "يَرَوْنَهم " فلأنها أقوى معنى؛ وذلك أنه أوكد لفظًا؛ أي: حتى لا يقع شك فيهم ولا ارتياب بهم أنهم مثلاهم، فهذا أبلغ في معناه من أن يكون مُرٍ يُرِيهم ذلك، فقد يجوز أن يتم له ذلك وقد لا، هذا في ظاهر الأمر؛ فأما على اليقين ومع الحقيقة فلا يجوز أن يكون "34ظ" الشيء الواحد شيئين اثنين فيما له كان واحدًا، ومما جاء مفصولًا فيه بين أَرَى وأُرَى قوله: تَرَى أو تُراءَى عند معقِد غَرْزِها ... تهاويل من أجلاد هر مؤوَّم2 فلما قال: "ترى" استكثر ذلك؛ لأنه مع التحصيل لا حقيقة له، فأتبعه بما لان له القول الأول، فقال: أو تراءى، فاعرف ذلك. ومن ذلك قراءة مجاهد: "زَيَّنَ لِلنَّاسِ حُبَّ الشَّهَوَاتِ"3 بفتح الزاي والياء. قال أبو الفتح: فاعل هذا الفعل إبليس، ودل عليه ما يتردد في القرآن من ذكره، فهذا نحو قول الله تعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ} 4، وما جرى هذا المجرى. ومن ذلك قراءة الناس: {شَهِدَ اللَّهُ} ، وقرأ أبو المهلب محارب بن دِثار5: "شُهَدَاءَ اللَّهِ"6 مضمومة الشين، مفتوحة الهاء، ممدودة على فعلاء.
قال أبو الفتح: هو منصوب على الحال من الضمير في المستغفرين؛ أي: يستغفرونه شهداء لله أنه لا إله إلا هو، وهو جمع شهيد، ويجوز أن يكون جمع شاهد؛ كعالم وعلماء، والأول أجود. ومن ذلك قراءة الناس: {ذُرِّيَّةً} 1، وقرأ زيد بن ثابت: "ذِرِّيَّة" بكسر الذال، و"ذَرِّيَّة" بفتح الذال. قال أبو الفتح: يحتمل أصل هذا الحرف أربعة ألفاظ: أحدها: ذرأ، والثاني: ذرر، والثالث: ذرو، والرابع: ذرى. فأما الهمز، فمن ذرأ الله الخلق. وأما ذرر، فمن لفظ الذر ومعناه؛ وذلك لما ورد في الخير أن الخلق كان في القديم كالذر. وأما الواو والياء، فمن ذرَوت الحَب وذَريته، يقالان جمعيًا؛ وذلك لقوله2 سبحانه: {فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} 3، وهذا للطفه وخفته، وتلك حال الذر أيضًا. فهذه الأصول المنزوع إليها، المقود تصريف هذا الموضع عليها. فأما "ذُرية" المضمومة، فإن أخذتها من ذرأ؛ فإنها في الأصل فُعِّيلة كمُرِّيق4، وأصلها ذُرِّيئة، فألزمت التخفيف أو البدل كنبِيٍّ في أكثر اللغة، وكالخابية5، وكالبرية، فيمن أخذها من برأ الله الخلق، وغير ذلك مما أُلزم التخفيف. ومثلها: {كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} 6 فيمن جعله فُعِّيلًا من درأَت؛ وذلك لأنه يدرأ الظلمة عن نفسه بضوئه، وأصله على هذا دُرِّيءٌ فخفف، وقد قرئ به مهموزًا7. وإن أَخذت الذُّرية من الذَّرِّ احتمل خمسة أوجه: أحدها: أن يكون فُعْلِيَّة كبختية وقمرية8. والآخر: أن تكون منسوبة إلى الذر، إلا أنه غُير أولها؛ لما قد يعرض من التغيير لياءي الإضافة، كقولهم في الإضافة إلى أمس: إمسي، وإلى الأفق: أَفَقِي، وإلى الحرَم: حِرْمي، وإلى جَذِيمة: جُذمِيّ، وإلى عبيدة: عُبدِي، وإلى الدهر: دُهْرِي، وإلى السهل: سُهْلِي. والثالث: أن تكون ذرية فُعِّيلة كمُرِّيقة؛ إلا أن أصلها ذُرِّيرة على هذا، فلما كثرت
الراءات أبدلوا الآخرة ياء وأدغموا فيها ياء فُعِّيلة التي قبلها، ونحو منه مما أبدل فيه أحد الأمثال ياء هربًا من تكريرها قولهم: تظنَّيْتُ، وتَسَرَّيْتُ، وتَلعَّيْتُ1 من اللُّعَاعة وهي يقلة، وقَصَّيتُ أظافري، وتفَضَّيْتُ من الفضة، وكقوله: تقضِّيَ البازي إذا البازي كسر2 هو تَفعُّل من الانقضاض، وأصله تقَضُّض، كما أن أصل تظنيت تظننت، وتسريت تسررت؛ لأنه تفعلت من السُّرِّية فيمن أخذها من السِّر "35و" وهو النكاح، أو من السر لأنه3 في غالب الأمر مكتومة الأمر من صاحبة المنزل. وهذا قول أبي الحسن الكرخي. وأصل تلعيت تلععت، وأصل قصيت أظفاري قصصت، ويمكن أن يكون أُخِذت من أَقاصِيها فلا يكون مبدلًا، وأصل تفضيت تَفَضَّضْتُ، وقالوا: فأبدالوا مع الاثنين4 في أمللت الكتاب: أمليت، وقال الأسود بن يعفر: وأقسمت لا أملاه حتى يفارقا5 يريد: أَملُّه، فأبدلوا الثاني منها ياء للتكرير، ثم أُبدلت الياء ألفًا؛ فصار أملاه. وأخبرنا أبو علي قال: قال أحمد بن يحيى عنهم: "لا وَرَبْيِك لا أفعل"، يريد: لا وربك، ونظائره كثيرة. فأصل ذرية على هذا ذُرِّيرة فُعِّيلة كمُرِّيقة، فأُبدلت الراء الأخيرة لما ذكرنا ياء6، وأدغمت فيها ياء فُعِّيلة؛ فصارت ذُرِّيَّة. والرابع: أن تكون فُعُّولة كجُبُّورة7 وكسبوح وقدوس، وأصله على هذا ذُرُّورة، فأبدلت الراء الأخيرة -لما ذكرنا من اجتماع الأمثال- ياء؛ فصارت ذُرُّويَة، ثم أبدلت الواو لوقوعها ساكنة قبل الياء ياء والضمة قبلها كسرة، وأدغمت في الياء المبدلة من الراء؛ فصارت ذُرِّية كما ترى.
والخامس: أن تكون فُعْلولة منه؛ كقُرْدودة1 وحُبْرورة2، وأصلها على هذا ذُرُّورة؛ فعُمل فيها ما عمل فيما يليها، فهذا حديث ذرية إذا كانت من ذرر. وإن كانت من لفظ ذرو أو ذرى احتملت مثالين: أحدهما: أن يكون فُعُّولة. والآخر: أن يكون فُعِّيلة. فإذا كانت فعولة من الواو فأصلها ذُرُّوَّة، كفعولة من غروت غُزُّوَّة، إلا أن الاسم طال وضوعفت في آخره الواو فاستثقلت، فأُبدلت اللام ياء للتخفيف فصار ذُرُّوية، فأبدلت الواو لوقوع الياء بعدها والواو ساكنة ياء والضمة قبلها كسرة كما قلبت هي ياء وأدغمت في الياء؛ فصارت ذُرِّيَّة. ومثل ذلك مما أبدل لطوله وثِقَل تضعيف الواو أُدْحيَّة3، وأصلها أُدحُوَّة؛ لأنها من دحوت، وأَدعيَّة وأصلها أُدعُوَّة؛ لأنها من دعوت، وأُحْجِيَّة وأصلها أُحجوَّة؛ لأنها من حجوت؛ أي: ثَبَتُّ، وأُضحيَّة وأصلها أُضْحُوَّة؛ لأنها من الضحوة، فأبدلت لما ذكرنا؛ فصار جميعها إلى الياء. وإن كانت ذُرية من الياء -وهي فُعُّولة- فخطبها أيسر؛ لأن أصلها ذروية، ولزمها من إبدال الواو وإدغامها ما لزم فيما قبلها. انقضى أمر ذُرية بضم الذال. وأما "ذِرِّيَّة" بكسر الذال فتكون من ذرأ الله الخلق، فلا يجوز فيها إلا أن تكون فِعِّيلة، وأصلها ذِرِّيئة، ثم أُلزمت التخفيف أو البدل على ما مضى؛ فصارت ذِرِّيَّة. فإن أَخذت ذِرِّية من الذر احتتملت أربعة أوجه: أحدها: أن تكون فِعْليَّة كحِيريِّ4 دهر. والآخر: أن تكون منسوبة إلى الذر؛ إلا أنها كسر أولها للتغيير المعتاد مع ياءي الإضافة؛ كقولهم في أمس: إِمسي. والثالث: أن تكون فِعِّيلة؛ كبِطيخة وجرِّيَّة5، وأصلها ذِرِّيرة، ثم غيرت الراء الأخيرة لكثرة الراءات ياء على ما مضى، ثم أُدغمت فيها الياء قبلها؛ فصارت ذِرِّيَّة.
الرابع: أن تكون "35ظ" فِعْليلَة كحِلتيت1 وحِبرير2، وأصلها على هذا ذِرِّيرَة، ثم فيها ما عمل في الذي يليها. فإن أَخذت ذِرية من ذرو أو من ذرى لم تكن إلا فِعِّيله ألبتة، وأصلها من الواو ذِريوة، فأبدلت الواو ياء، وأدغمت فيها ياء المد قبلها؛ فصارت ذِرية. وإن كانت من الياء فلا صنعة فيها، فهي كفِعِّيلة من رميت رِمِّيَّة. انقضت ذِرية بكسر الذال. وأما ذَرِّيَّة بفتح الذال فتكون من لفظ الذَّر، وتكون من لفظ ذرأ، وتكون من لفظ ذرو، وتكون من لفظ ذرى. فإذا كانت من لفظ ذرر احتملت أن تكون فَعْلِيَّة كبَرْنِيَّة3، وأن تكون فَعُّولَة كخَرُّوبَة، وأن تكون فَعْلُولة كبَعْكُوكَة4، وأن تكون فِعِّيلة كسكينة، فتلك أربعة أوجه. أما فَعْلِيَّة فأمرها واضح. وأما فَعُّولَة فأصلها ذَرُّورة، فاجتمعت الراءات فأبدلت الآخرة ياء على ما قدمنا ذكره من تظنيت وتقضيت، فصارت ذَرُّوية، فلما اجتمعت الواو والياء وسكن الأول منهما قلبت الواو ياء، وأُدغمت الياء في الياء؛ فصارت ذَرِّية. وأما فَعْلُولة فأصلها أيضًا ذَرُّورَة، فعُمل فيها من البدل والإدغام ما عمل في فَعُّولة. وأما فَعِّيلة فأصلها ذَرِّيرَة، فأبدلت الراء الأخيرة لما ذكرنا ياء، وأدغمت فيها ياء المد قبلها؛ فصارت ذَرِّية. فإذا كانت من لفظ ذرأ احتملت أن تكون فَعِّيلة كسكينة، وأن تكون فَعُّولة كخَرُّوبة. فإذا كانت فَعِّيلة فأصلها ذَرِّيئة، فألزمت الهمزة التخفيف ألبتة أو البدل فقلبت ياء، ثم أدغمت فيها الياء قبلها؛ فصارت ذَرِّية. وأما إذا كانت فَعُّولة فأصلها ذَرُّوءة، فأبدلت الهمزة ياء فصارت ذَرُّويَة، ثم أبدلت الواو ياء للياء بعدها، وأدغمت الياء المبدلة في الياء الثانية؛ فصارت ذَرِّيَّة. ولا يجوز على هذا أن تكون همزة ذَرُّوءَة خففت؛ لأنه لو كان كذلك لقلبت واوًا لوقوع الواو قبلها، ثم أدغمت واو فَعُّولة فيها فصارت ذَرُّوَّة، كما أنك لو خففت مقروءة لقلت: مَقْرُوَّة، وهذا واضح.
وأما فَعِّلية -أعني: ذَرِّيئة- فإنك إن أبدلتها أو خففتها استوى فيها اللفظان، فقلت: ذَرِّيَّة، كما تقول في تخفيف جِرِّيئة1 وأبدالها جِرِّيَّة، وهذا واضح. وإذا كانت من لفظ الذَّرْوِ فإنها فَعِّيلة، وأصلها ذَرِّيوَة، فقلبت الواو لسكون الياء قبلها، وأدغمت الياء الأولى فيها؛ فصارت ذَرِّيَّة. ولا تحتمل وهي من الواو أن تكون فَعُّولة؛ لأنه كان يجب على هذا أن تكون ذَرُّوَّة، والحمل على أُدْحِيَّة جائز، إلا أنه ليس بالظاهر، وليس كذلك أُدْعِيَّة وأدحية وأضحية؛ لأنه قد أُمن أن يكون في الكلام أُفْعِيل؛ لأنه لم يأتِ عنهم، فلا بد إذن من أن يكون أصلها أُدْحُوَّة وأدعوة وأضحوة، فغيرت إلى الياء تخفيفًا استحسانًا لا وجوبًا، وليس كذلك ذَرِّية لو كانت من الذَّرْو؛ لأنه ليس واجبًا أن تكون فَعُّولة؛ بل قد يجوز أن تكون فَعِّيلة، فافهم ذلك. وأما إذا كانت من ذرى، فإنها تحتمل أن تكون "36و" فَعُّولة وفَعِّيلة، فأصل فَعُّولة ذَرُّويَة، فأبدلت الواو للياء بعدها، وأدغمت الأولى في الثانية؛ فصارت ذَرِّيَّة. وأصل فَعِّيلة ذَرِّية هكذا وكما ترى؛ لأنك أدغمت الياء الأولى في الثانية فصارت ذَرِّية، ومثلها من قَضَيْتُ قَضِيَّة، ومن رميت رمية. انتهى القول في ذُرية وذِرية وذَرية، ودعانا إلى إشباع القول عليها أن لم يتقدم أحد ببسطها، وحسبنا الله. ومن ذلك قراءة إبراهيم2 فيما رواه المغيرة3 والأعمش عنه: "نَزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابُ بِالْحَقِّ"4 خفيفة الزاي، ورفع الباء من الكتاب. قال أبو الفتح: هذه القراءة تدل على استقلال الجملة التي هي قوله عز اسمه: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ} . ألا ترى أنه لا ضمير في قوله: "نَزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابُ" يعود على اسم الله تعالى؟ فعلى هذا ينبغي أن تكون جملة مستقلة أيضًا في قول مَن شدَّد الزاي ونصب الكتاب، فيكون اسم
الله مرفوعًا بالابتداء، وقوله: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} خبر عنه، ويكون {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} صفة له وثناء عليه، وإن شئت جعلت قوله: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ثناء عليه معترضًا بين المبتدأ والخبر، ويكون {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} خبرين عنه، كحلو حامض. وإن شئت جعلت قوله: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} خبرًا عنه، و {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} أيضًا خبرين عنه؛ فيكون له ثلاثة أخبار. وإن شئت أن تخبر عن المبتدأ بعشرة أخبار أو بأكثر من ذلك جاز وحسن؛ لما يتضمنه كل خبر منها من الفائدة، فكأنه أخبر عنه وآثنى عليه، ثم أخذ يقص الحديث فقال: "نَزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابُ". ومَن شدد الزاي ونصب "الكتاب" جاز أن يكون على قوله خبرًا رابعًا، وجاز أن يكون أيضًا جميع ما قبل "نزل" ثناء وإعظامًا، ويفرد قوله: "نَزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابُ" فيجعل خبرًا عنه؛ كقولك: الله سبحانه، وجل ثناؤه، وتقدست أسماؤه، يأمر بالعدل، وينهى عن السوء. وفيه اكثر من هذا؛ إلا أن في هذا مقنعًا بحمد الله. ومن ذلك قراءة مجاهد وحميد الأعرج1: "أَنَّ اللَّهَ يُبْشِرُكَ"2 بضم الياء وسكون الباء وكسر الشين خفيفة. قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون هذا منقولًا من بَشِرْتُ بالأمر في وزن أَنِفْتُ وفَرِحْتُ؛ كقولك: بَطِر وأبطرته، وخرِق وأخرقته، يقال: بَشِر الرجل بالخير وأبشرته وبشَّرته وبَشَرْتُ خفيفة أيضًا. ومن ذلك قراءة الأعمش: "إِلَّا رُمُزًا"3 بضمتين. قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون هذا على قول مَن جعل واحدتها رُمْزَة، كما جاء عنهم ظُلْمَة
وظُلُمة، وجُمْعَة وجُمُعَة، ويجوز أن يكون جَمَع رُمْزَة على رُمْز، ثم أتبع الضم الضم، كما حكى أبو الحسن عن يونس أنه قال: ما سُمع في شيء فُعْل إلا سُمع فيه فُعُل، وعليه قول طرفة: وِرَادًا وشُقُر1 يريد: شُقْرًا. ومن ذلك قراءة إبراهيم وأبي بكر الثقفي: "الْحَوَارِيُون"2 مخففة الياء في جميع القرآن. قال أبو الفتح: ظاهر هذه القراءة يوجب التوقف عنها والاحتشام منها؛ وذلك لأن فيها "36ظ" ضمة الياء الخفيفة المكسور ما قبلها، وهذا موضع تعافه العرب وتمتنع منه. ألا ترى إلى قول الله سبحانه: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} 3 وأصله العاديُون، فاستثقلت الضمة على الياء، فأسكنت وحذفت لسكونها وسكون الواو بعدها؟ فكان يجب على هذا أن يكون الحوارُون كالقاضُون والساعون، إلا أن هنا غرضًا وفرقًا بين الموضعين يكاد يقنع مثله؛ وذلك أن أصل هذه الياء أن تكون مشددة، وإنما خففت استثقالًا لتضعيف الياء، فلما أريد فيها معنى التشديد جاز أن تُحَمَّل الضمة تصورًا لاحتمالها إياها عند التشديد، كما ذهب أبو الحسن في تخفيف يستهزيون إلى أن أخلص الهمزة ياء ألبتة، وحَمَّلها الضمة تذكُّرًا لحال الهمز المراد فيها، وكما قال في مثال عضْرَفُوط4 من قرأت: قَرْأَ يُوء، فأبدل الهمزة الثانية التي كانت في قَرْأَءُوء ياء، ثم ضمها بعد أن أخلصها ياء وجرت مجرى الياء التي لا حظَّ فيها لشيء من الهمز. فإن قيل: فأي الياءين حذف من الحواريين؟ قيل: المحذوفة هي أشبهها بالزيادة، وهي الأولى؛ لأنها بإزاء ياء العطاميس5 والزناديق. فإن قيل: فبالثانية وقع الاستثقال، فهلَّا حذفت دون الأولى؟
قيل: قد يُغيَّر الأول من المثلين تخفيفًا كما يغير الآخر، وذلك قوله: يا ليتما أُمُّنا شالت نعامتها ... إيما إلى جنة أيما إلى نار1 يريد: أَمَّا، وكذلك القول في قيراط ودينار وديماس2 فيمن قال: دماميس، وديباج فيمن قال: دبابيج، وقد حذفت هذه الياء في الواحد من هذا الجمع. أنشدنا أبو علي وقرأته عليه أيضًا في نوادر أبي زيد: بَكِّي بعينك واكف القَطْر ... ابن الحوارِي العالي الذِّكْرِ3 يريد: الحوارِيّ. وقد خففت ياء النسب في غير موضع مع كونها مفيدة لمعنى النسب، فكيف بها إذا كان لفظها لفظ النسب ولا حقيقة له هناك؟ ألا ترى أن الحواريَّ بمنزلة كرسي في أنه نسب لفظي، ولا حقيقة إضافة تحته؟ ومن ذلك قراءة الحسن: "أَنْ يُوتِيَ أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ"4، قال أحمد بن صالح5: كذا قال، قال ابن مجاهد: وعلى هذا ينبغي أن يكون أن يوتِيَ أحدًا. قال أبو الفتح: لا وجه لإنكار ابن مجاهد رفع "أحد" مع قوله "يوتِيَ" مسمى الفاعل؛ وذلك أن معناه أن يوتِي أحد أحدًا مثل ما أوتيتم؛ كقولك: أن يحسن أحد مثل ما أُحْسِنَ إليكم؛ أي: أن يحسن أحد إلى أحد مثل ما أُحْسن إليكم، فتحذف المفعول ويكون معناه ومفاده أن نعمة الله سبحانه لا تُقاس بها نعمة. وهذا مع أدنى تأمل واضح. ومن ذلك قراءة أبي حيوة6: "تُدْرِسُون"7 بضم التاء ساكنة الدال مكسورة الراء.
قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون هذا منقولًا من درس هو وأَدرس غيره؛ كقولك: قرأ وأَقرأَ غيره. وأكثر كلام العرب درس ودرَّس غيره، وعليه جاء المصدر على التدريس "37و". ومن ذلك قراءة الأعرج فيما يُروى عنه: "لَمَّا آتيناكم"1 بفتح اللام وتشديد الميم، "آتيناكم" بألف قبل الكاف. قال أبو الفتح: في هذه القراءة إغراب، وليست "لَمَّا" هاهنا بمعروفة في اللغة؛ وذلك أنها على أوجه: تكون حرفًا جازمًا كقوله الله تعالى: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} 2. وتكون ظرفًا في نحو قوله: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} 3. وتكون بمعنى إلا في نحو قولهم: أقسمت عليك لَمَّا فعلت؛ أي: إلا فعلت. ولا وجه لواحدة منهن في هذه الآية. وأقرب ما فيه أن يكون أراد: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لَمِنْ ما آتيناكم، وهو يريد القراءة العامة4: "لَمَا آتيناكم"، فزاد مِن على مذهب أبي الحسن في الواجب؛ فصارت "لَمِمَّا"، فلما التقت ثلاث ميمات فثقلن حذفت الأولى منهن، فبقي "لَمَّا" مشددًا كما ترى، ولو فُكت لصارت لَنْما، غير أن النون أُدغمت في الميم كما يجب في ذلك فصارت "لَمَّا". هذا أوجه ما فيها إن صحت الرواية بها. وأما "آتيناكم" بالجمع فطريقه أنه لما ورد مع لفظ الجماعة من النبيين جاء أيضًا مجموعًا تعاليًا في اللفظ؛ كقوله تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا} 5، وقال سبحانه: {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} 6، ولو كانت: وضربت لكم الأمثال، لم تبلغ في سمو اللفظ وتعاليه7 في قوله: {وَضَرَبْنَا لَكُمُ} ، فتفهَّم معناه.
ومن ذلك قراءة أبان بن تغلب1: "قُل صَّدَقَ اللَّهُ"2 بإدغام اللام في الصاد، وكذلك: "قُل سِّيرُوا"3. قال أبو الفتح: علة جواز ذلك فُشو هذين الحرفين -أعني: الصاد والسين- في الفم وانتشار الصدى المنبث عنهما، فقاربتا بذلك مخرج اللام فجاز إدغامها فيهما، وكذلك هي أيضًا مع الزاي ومع الطاء، والدال والتاء. قرئ: "فَهَل تَّرى لهم"4، ومع الظاء والثاء والذال، قرئ: "هل ثُّوب الكفار"5، فأما اللام التي للتعريف فتُدغم في ثلاثة عشر حرفًا، وذلك معروف في موضعه، فلا وجه لإعادته. ومن ذلك ما رواه مبارك6 عن الحسن أنه كان يقرأ: "بِثَلاثَهْ آلافٍ"7 و"بِخَمْسَهْ آلافٍ"8، وَقْفٌ ولا يُجري واحدًا منهما. قال أبو الفتح: وجهه في العربية ضعيف؛ وذلك أن ثلاثة وخمسة مضافان إلى ما بعدهما، والإضافة تقتضي وصل المضاف بالمضاف إليه؛ لأن الثاني تمام الأول، وهو معه في أكثر الأحوال كالجزء الواحد، وإذا وصلت هذه العلامة للتأنيث فهي تاء لا محالة؛ وذلك أن أصلها التاء، وإنما يبدل منها في الوقف الهاء، وإذا كان كذلك -وهو كذلك- فلا وجه للهاء؛ لأنها من أمارات الوقف، والموضع على ما ذكرنا متقاضٍ للوصل، غير أنه قد جاء عنهم نحو هذا، حكى الفراء أنهم يقولون: أكلت لحمَا شاة، يريدون: لحم شاة، فيمطلون الفتحة فينشئون عنها ألفًا، كما يقولون في الوقف: قالا، يريدون: قال، ثم يمطلون الفتحة فتنشأ عنها الألف، وهذا المطل لا يكون مع الإسراع والاستحثاث؛ إنما يكون مع الروية والتثبت، وأنشد أبو زيد: مَحْضٌ نِجَارى طيِّب عنصري9
يريد: عُنْصُرِي بتخفيف الراء، غير أنه "37ظ" ثقَّلها كما يفعل في الوقف، نحو: خالدّ وجعفرّ، وإذا جاز أن يُنوى الوقف دون المضمر المجرور، وهو على غاية الحاجة -للفطه عن الانفصال- إلى ما قبله جاز أيضًا أن يعترض هذا التلوم والتمكث دون المظهر المضاف إليه؛ أعني: قوله: "آلاف"؛ بل إذا جاز أن يعترض هذا الفتور والتمادي بين أثناء الحروف من المثال الواحد نحو قوله: أقول إذ خَرَّت على الكَلْكالِ ... يا ناقتا ما جُلْت من مجالِ1 وقوله فيما أَنشدناه: ينباع من ذفرى غضوب جسرة2 يريد: ينبع. وقوله أُنشدناه: وأنت من الغوائل حين تُرْمى ... ومن ذم الرجال بِمُنْتَزَاح3 يريد: منتزَح مُفْتعَل من نزح، كان التأني والتمادي بالمد بين المضاف والمضاف إليه؛ لأنهما في الحقيقة اسمان لا اسم واحد أمثل، ونحوه قراءة الأعرج عن ابن أبي الزناد: "بثلاثهْ آلاف" بسكون الهاء، وقد ذكرناه فيما قبل، فهذا تقوية وعذر لقراءة أبي سعيد، وقد أفردناه في الخصائص4 بابًا قائمًا برأسه، وذكرناه أيضًا في هذا الكتاب. ومن ذلك قراءة محمد بن السميفع: "قَرَحٌ"5 بفتح القاف والراء. قال أبو الفتح: ظاهر هذا الأمر أن يكون فيه لغتان: قرْح، وقرَح، كالحلْب والحلَب، والطرْد والطرَد، والشل والشلل. وفيه أيضًا قُرْح على فُعْل، يقرأ بهما جميعًا6.
ثم لا أُبْعدُ من بَعْدُ أن تكون الحاء لكونها حرفًا حلقيًّا يفتح ما قبلها كما تفتح نفسها فيما كان ساكنًا من حروف الحلق، نحو قولهم في الصخْر: الصخَر، والنعْل: النعَل. ولعمري، إن هذا عند أصحابنا ليس أمرًا راجعًا إلى حرف الحلق؛ لكنها لغات، وأنا أرى في هذا رأي البغداديين في أن حرف الحلق يؤثر هنا من الفتح أثرًا معتدًّا معتمدًا؛ فلقد رأيت كثيرًا من عقيل لا أحصيهم يحرك من ذلك ما لا يتحرك أبدًا لولا حرف الحلق، وهو قول بعضهم: نَحَوَه، يريد: نَحْوه، وهذا ما لا توقف في أنه أمر راجع إلى حرف الحلق؛ لأن الكلمة بنيت عليه ألبتة، ألا ترى أن لو كان هذا هكذا لوجب أن يقال: نحاة؛ لأنه فَعَلٌ مما لامُه واو، فيجري مجرى عصاة1 وفتاة. نعم، وسمعت الشجري يقول في بعض كلامه: أنا مَحَموم، بفتح الحاء. وقال مرة وقد رسم له الطبيب أن يمص التفاح ويرمي بثُفْله فلم يفعل ذلك، فأنكره الطبيب عليه، فقال: إني لأبغي مصه وعِلْيَته تَغَذُو، يريد: تَغْذُو، ولا قرابة بيني وبين البصريين؛ لكنها بيني وبين الحق، والحمد لله، ويكون فتح الحاء من القَرَح لها ما قبلها كفتحها لها عين الفعل المضارع2، نحو: يسنَح ويسفَح ويسمَح. ويُؤنِّس بذلك أن هذه الحروف حلقية، فضارعت بذلك الألف التي لا يكون ما قبلها إلا مفتوحًا، وهذا قدر ما يتعلَّل به، إلا أن الاختيار أن تكون "القَرَح" لغة. ومن ذلك قراءة إبراهيم: "مِنْ قَبْلِ أَنْ تُلاقُوه"3. قال أبو الفتح: وجه ذلك أنك إذا لقيتَ الشيء فقد لقيَك هو أيضًا، فلما كان كذلك دخله معنى المفاعلة؛ كالمضاربة والمقاتلة، وقد جاء ذلك عينه في هذه "38و" اللفظة عينها، قالت امرأة: هل الَّا الموت يغلي غاليهْ ... مختلطًا سافله بعاليهْ لا بد يومًا أنني ملاقيهْ4 فأما ما قرأته على أبي علي في نوادر أبي زيد من قوله: فارقَنا قبل أن نفارقه ... لما قضى من جماعنا وطَرا5
فظاهره إلى التناقض؛ لأنا إذا فارقَنا فقد فارقْناه لا محالة، فما معنى قوله بعد: قبل أن نفارقه؟ وهو عندنا على إقامة المسبب مقام السبب في تفسيره: فارقَنا قبل أن نريد فراقه، فوضع المفارقة وهي المسبب موضع الإرادة لها وهي السبب؛ وذلك لقرب أحدهما من صاحبه. ومثله قوله الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} 1 أي: إذا أردت القراءة، وهو كثير قد مر في هذا الكتاب، وقد أفردنا له في الخصائص2 بابًا قائمًا برأسه. ومن ذلك قراءة حطان بن عبد الله:3 "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ رُسُل"4، وكذلك هي في مصحف ابن مسعود. قال أبو الفتح: هذه القراءة حسنة في معناها؛ وذلك أنه موضع اقتصاد بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وإعلام أنه لا يلزم ذمته ممن يخالفه تبعة؛ لقوله تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} 5، وقوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} 6، وقوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} 7، وقوله: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ} 8. ومعلوم أن "إنما" موضوعة للاقتصاد والتقليد، ألا ترى إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 9؟ فهذا كقوله: {مَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} 10، وقوله: {وَقَلِيل مَا هُمْ} 11، وقوله: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} 12. فلما كان موضع اقتصاد به، وفكٍّ ليد الذم عن ذمته، وكان من مضى من الأنبياء -عليهم السلام- في هذا المعنى مثله، لاق بالحال تنكير ذكرهم بقوله: "قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ رُسُلُ". وذلك أن التنكير ضرب من الكف والتصغير، كما أن التعريف ضرب من الإعلام والتشريف، ألا ترى إلى قوله: فمن أنتم إنانسينا من أنتم ... وريحكم من أي ريح الأعاصر13
فأين هذا من قوله: هذا الذي تَعْرِف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحل والحرم؟ 1 ولهذا قال: من حديث نَمَى إليَّ فما أطـ ... ـعَمُ غُمْضًا ولا ألذ شرابي2 فنكَّر الغمض احتقارًا له إذ كان لا يعرفه، وعرَّف الشراب إذ كان لا بد أن يشرب وإن قل. قال: على كل حال يأكل المرء زادَه ... من الضر والبأساء والحدَثان ولأجل ذلك لم تندب العرب المبهم ولا النكرة لاحتقارها، وإنما تندب بأشهر أسماء المندوب؛ ليكون ذلك عذرًا لها في اختلاطها وتفجعها، ويؤكده أيضًا قوله تعالى: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} 3، فجرى قوله سبحانه: "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ رُسُلُ" مجرى قولك لصاحبك: اخدم كما خَدَمَنَا غيرُك من قبلك ولا تبعة عليك بعد ذلك، فهذا إذن موضع إسماح له، فلا بد إذن من إلانة ذكره، وعليه جاء قوله تعالى: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ} 4 فأضاف "38ظ" سبحانه من عذرهم، وأعلَمَ ألا متعلق عليه بشيء من أمرهم، فلهذا حسن تنكير "رسل" هاهنا، والله أعلم. وأما من قرأ: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} فوجه تعريفهم ومعناه: أنكم قد عرفتم حال مَن قبله من الرسل في أنهم لم يطالبوا بأفعال مَن خالفهم، وكذلك هو صلى الله عليه وسلم، فلما كان موضع تنبيه لهم كان الأليق به أو يومئ إلى أمر معروف عندهم. ومن ذلك قراءة الأعمش، فيما رواه القطعي5 عن أبي زيد عن المفضَّل عن الأعمش: "ومَن
يُرِدْ ثواب الدنيا يُوتِه منه ومَن يُرِدْ ثوابَ الآخرة يُوتِه منها وسنجزي الشاكرين"1 بالياء فيهما. قال أبو الفتح: وجهه على إضمار الفاعل لدلالة الحال عليه؛ أي: يوته الله، يدل على ذلك قراءة الجماعة: {نُؤْتِهِ مِنْهَا} بالنون. وحديث إضمار الفاعل للدلالة عليه واسعٌ فاشٍ عنهم، منه حكاية الكتاب أنهم يقولون: إذا كان غدًا فائتني؛ أي: إذا كان ما نحن عليه من البلاء في غد فائتني، ومثله حكايته أيضًا: مَن كذب كان شرًّا له؛ أي: كان الكذب شرًّا له. وعليه قول الآخر: ومجوَّفات قد علا ألوانها ... أسآر جُرد مُتْرَصاتٍ كالنَّوَى2 أي: قد علا التجويف ألوانَها. وقول الآخر: إذا نُهِيَ السفيهُ جرى إليه ... وخالَف والسفيهُ إلى خلاف3 وكما أضمر المصدر مجرورًا؛ أعني: الهاء في إليه -يعني إلى السفه- كذلك أيضًا أضمره مرفوعًا بفعله. ومن ذلك قراءة ابن محيصن والأشهب والأعمش: "وكَأْيٍ"4 بهمزة بعد الكاف ساكنة، وياء بعدها مكسورة خفيفة، ونون بعدها، في وزن كَعْيٍ. قال أبو الفتح: فيها أربع لغات: كأَيّ، وكاءٍ، وكأْي -وهي هذه القراءة- وَكَاءٍ في وزن كَعٍ. ثم اعلم أن أصل ذلك كله "كأَيٍّ" في معنى كم كأكثر القراءة "وكأَيٍّ من قرية"5، وهي أَيٌّ دخلت عليها كان الجر، فحدث لها من بعد معنى كم، ولهذه الكاف الجارة حديث طويل في دخولها وفيها معنى التشبيه، وفي دخولها عارية من التشبيه، نحو: كأن زيدًا عمرو، وله كذا وكذا درهمًا، وكأَيٍّ من رجل، ثم إنها لما كثر استعمالها لها تلعبت بها العرب كأشياء يكثر تصرفها فيها لكثرة نقطها بها، فقَدَّمت الياء المشددة على الهمزة فصارت كَيَّأٍ بوزن كَيَّع،
ثم حذفت الياء المتحركة تشبيهًا لها بسيَّد وميت؛ فصارت "كَيْءٍ" بوزن كَيْعٍ، ثم قلبت الياء ألفًا وإن كانت ساكنة، كما قبلت في ييئس فقيل: ياءس؛ فصارت كاءٍ بوزن كَاعٍ. وذهب يونس في "كاء" إلى أنه فاعل من الكون، وهذا يبعد؛ لأنه لو كان كذلك لوجب إعرابه؛ إذ لا مانع له من الإعراب. وأما كأْي بوزن كَعْي، فهو مقلوب كَيْء الذي هو أصل كاء، وجاز قلبه لأمرين: أحدهما: كثرة التلعب بهذه الكلمة. والآخر: مراجعة أصل، ألا ترى أن أصل الكلمة كأي؟ فالهمزة إذن قيل الياء. وأما كَأٍ بوزن كَعٍ فمحذوفة من كَاءٍ، وجاز حذف الألف لكثرة الاستعمال، كما قال الراجز "39و": أصبح قلبي صَرِدا ... لا يشتهي أن يردا إلا عرادا عردا ... وصلِّيانا بردا وعَنْكَثًا ملتبِدا1 يريد: عاردًا وباردًا. ألا ترى إلى قول أبي النجم: كأن في الفُرْش العَرَادَ العاردا2 وكما قالوا: أَمَ والله لقد كان كذا، يريد أَما، وحَذف الألف. فإن قلت: فما مثال هذه الكلم من الفعل فإن كَأَيٍّ مثاله كفَعْل؛ وذلك أن الكاف زائدة، ومثال أَيٍّ فَعْل كطَيٍّ وزَيٍّ، مصدر طويت وزويت، وأصل أي أوى؛ لأنها فَعْلٌ من أويت، ووجه التقائها أن "أي" أين وقعت فهي بعض من كل، وهذا هو معنى أَوَيْتُ؛ وذلك أن معنى أويت إلى الشيء تساندت إليه، قال أبو النجم: يأوي ألى مُلْط له وكَلْكَلِ3 أي: يتساند هذا العير إلى ملاطيه وكلكله.
ونحوه قول طفيل الغنوي: وآلت إلى أجوازها وتَقَلْقَلت ... قلائد في أعناقها لم تُقَضَّب1 فمعنى آلت: أي رجعت، والآوي إلى الشيء: معتصم به وراجع إليه، هذا طريق الاشتقاق. وأما القياس فكذلك أيضًا؛ وذلك أن باب أويت وطويت وشويت مما عينه واو ولامه ياء أكثر من باب حيِيت وعَيِيت مما عينه ولامه ياءان، ولو نَسبتَ إلى "أَيّ" لقلت: أَوَويّ، كما أنك لو نسبت إلى طيّ ولَيّ لقلت: طَوَوِيّ ولَوَوِيّ، وكذلك لو أضفت إلى الري لكان قياسه رَوَويّ. وأما قولهم: رازِيّ، فشاذ بمنزلة كلابِزِي وإصطخْرِزي. وأما "كَاءٍ" فوزنه كعف وأصله "كَيَّأٍ"، ومثاله كعلَف، فحذفت الياء الثانية وهي لام الفعل، كما حذفت الثانية من ميت، فبقي كَيْء، ووزنه كَعْف، وقَلْبُ الياء ألفًا لا يخرجها أن تكون كما كانت عينًا، ألا ترى أن وزن قام في الأصل فعل لأنه قوم، ومثال قام في اللفظ فَعْل؟ فالألف عين كما كانت الواو التي الألف بدل منها عينًا، وأيًّا كان مثال "كأي" فإنه كفع؛ لأن الهمزة التي هي فاء عادت إلى مكانها من التقدم. وأما "كَأٍ" بوزن كَعٍ فإنه كف، والعين واللام محذوفتان. فإن قيل: لَمَّا حذفت الياء الثانية من "كَيَّأٍ" هلا رددت الواو على مذهبك؛ لأنه قد زالت الياء التي قُلبت لها العين قبلها ياء فقدرته كَوْءٍ. قيل: لما تُلُعِّب بالكلمة تُنوسى أصلها فصارت الياء كأنها أصل في الحرف، ودعانا إلى اعتماد هذا وإن لم تظهر الياء إلى اللفظ أن الألف أُبدلت منها وهي ساكنة، وقلب الألف من الياء الساكنة أضعاف قلبها من الواو الساكنة، ألا تراهم قالوا: حاحيت2 وعاعيت وهاهيت، وأصلها: حيحيت وعيعيت وهيهيت، فقلبت الياء ألفًا؟ نعم، وقلبوها مكسورًا ما قبلها ألفًا، فقالوا في الحِيرة: حَارِي، كما قالوا في المفتوح
ما قبلها: طائي، وقالوا: ضرب عليه سَاية1، وهي فَعْلَة من سوَّيت، يُعْنى به الطريق، وأصلها سَوْيَة، فقلبت الواو ياء لوقوعها ساكنة قبل الياء فصارت سَيّة، ثم قلبت الياء ألفًا فقيل: "ساية"، وهو أولى من أن تكون قلبت الواو من سوية ألفًا قبل القلب والإدغام، وإن أعطيت القول ثني مِقوده طال وطغى وأَمَلَّ وتمادى "39ظ". ومن ذلك قراءة قتادة: "وكَأَي من نبي قُتِّل معه ربيون كثير"2 مشددة. قال أبو الفتح: في هذه القراءة دلالة على أن مَن قرأ مِن السبعة قُتل أو قاتل معه ربيون، فإن "ربيون" مرفوع في قراءته بقُتِل أو قاتل، وليس مرفوعًا بالابتداء ولا بالظرف الذي هو معه، كقولك: مررت برجل يَقْرأُ عليه سلاح، ألا ترى أنه لا يجوز كم نبي قُتِّل بتشديد التاء على فُعِّل؟ فلا بد إذن أن يكون ربيون مرفوعًا بقتِّل، وهذا واضح. فإن قلت: فهلا جاز فُعِّل حملًا على معنى كم؟ قيل: لو انصُرِف عن اللفظ إلى المعنى لم يحسن العود من بعد إلى اللفظ، وقد قال تعالى كما تراه: "معه"، ولم يقل: معهم، فافهم ذلك3. ومن ذلك قراءة علي وابن مسعود وابن عباس وعكرمة والحسن وأبي رجاء وعمرو بن عبيد وعطاء بن السائب4: "رُبِّيون" بضم الراء، وقرأ بفتحها ابن عباس فيما رواه قتاده عنه. قال أبو الفتح: الضم في "رُبِّيون" تميمية، والكسر ايضًا لغة. قال يونس: الرُّبَّة: الجماعة. وكان الحسن يقول: الرِّبِّيون: العلماء الصُّبُر. قال قطرب: والجماعة أيضًا مع يونس؛ أي: فرق وجماعات.
وكان ابن عباس يقول: الواحدة رِبْوَة، وهي عنده عشرة آلاف، وأنكرها قطرب، قال: لدخول الواو في الكلمة، وهذا لا يلزم؛ لأنه يجوز أن يكون بنَى من الرِّبوة فعِّيلًا كبطيخ، فصار رِبِّيّ، ومثله من عزوت عِزِّي، ثم جمع فقيل: رِبِّيون، وأما رَبيون بفتح الراء، فيكون الواحد منها منسوبًا إلى الرَّب، ويشهد لهذا قول الحسن: إنهم العلماء الصُّبُر، وليس ننكر أيضًا أن يكون أراد رِبيون ورُبيون، ثم غيَّر الأول لياء الإضافة كقولهم في أمس: إمسي. ومن ذلك قراءة الحسن: "فَمَا وَهِنُوا"1 بكسر الهاء. قال أبو الفتح: فيه لغتان: وهَن يهِن، ووهِن يوهَن، وقولهم في المصدر: الوهَن بفتح الهاء يُؤنِّس بكسر الهاء من "وهِن"، فيكون كفرِق فرَقًا وحذر حذرًا. وحدثنا أبو علي أن أبا زيد حكى فيه كسر الهاء في الماضي، وقولهم فيه: الوَهْن، بسكون الهاء يؤنس بفتح عين الماضي كفَتَر فَتْرُا. ومن ذلك قراءة ابن محيصن، ورُويت عن يحيى وإبراهيم: "أَمْنَةً نُعَاسًا"2 بسكون الميم. قال أبو الفتح: روينا عن قطرب أنه قال: الأَمْنة: الأمن، والأَمَنَة بفتح الميم: أشبه بمعاقبة الأمن، ونظير ذلك قولهم: الحبَطَ3 والحبَجَ4 والرَّمَث5، كل ذلك في أدواء الإبل. فلما أسكنوا العين جاءوا بالهاء فقالوا: مَغِل مَغْلَة6 وحَقِل حقلة7، وقد أفردنا بابًا في كتاب الخصائص لنحو هذا، وهو باب في ترافع الأحكام8.
ومن ذلك قراءة الحسن والزهري: "أَوْ كَانُوا غُزًا"1 خفيفة الزاي. قال أبو الفتح: وجهه عندي أن يكون أراد غزاة، فحذف الهاء إخلادًا إلى قراءة من قرأ: "غُزَّى" بالتشديد، ولا يُستنكر هذا؛ فإن الحرف إذا كان فيه لغتان متقاربتان فكثيرًا ما تتجاذب هذه طرفًا من حكم هذه. قرأت على أبي بكر محمد بن الحسن2 عن أحمد بن يحيى لبلال بن جرير: إذا خفتهم أو سآيلتهم ... وجدتَ بهم علة حاضره3 وذلك أنه يقال: سألته عن حاله وسايلته على البدل، فلما ألف استماعهما تجاذبتا لفظه فجمع بينهما "40و" فيه لتداخلهما وتزاحم حروفهما، وقد حُذفت تاء التأنيث في أماكن قد ذكرناها: ناحٍ في ناحية، ومألُك في مألُكة. وأنشد ابن الأعرابي للعتابي يمدح الكسائي: أبَى الذمَّ أخلاق الكسائي وانتحى ... به المجد أخلاق الأُبُو السوابق4 يريد: الأبوة جمع أب، كالعمومة جمع عم، والْخُئولة جمع خال، وهذا عندي أمثل من أن يكون خرَّج "أُبُوًّا" على أصله من الصحة، وأن يكون من باب نَحْو ونُحوّ، وبَهْو وبُهُو للصدر، ونجو ونجو للسحاب، وعلى أنه قد يمكن أن تكون الهاء مرادة في جميع ذلك، وقد قالوا أيضًا: ابن وبُنُوّ، والقول فيهما سواء. ووجه آخر؛ وهو أن يكون مخففًا من "غُزًّى"، ونظيره قراءة علي عليه السلام: "وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا كِذَابًا"5، وبابه "كذَّابًا" كقراءة الجماعة. وقد يجوز أن يكون "كِذَابًا" مصدر كذَب الخفيفة، جرى على الثقيلة لدلالة الفعل على صاحبه، والقول الأول أقوى. ومن ذلك قراءة ابن عباس فيما رواه عنه عمرو: "وشاوِرْهُمْ في بَعْض الأمر"6.
قال أبو الفتح: في هذه القراءة دلالة على أنك إذا قلت: شربت ماءك -وإنما شربت بعضه- كنت صادقًا، وكذلك إذا قلت: أكلت طعامك، وإنما أكلت بعضه. ووجه الدلالة منه قراءة الباقين: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} والمعنى واحد في القراءتين، ونحن أيضًا نعلم أن الله سبحانه لم يأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} أي: في جميعه؛ كشرب الماء، وتناول الغذاء؛ وإنما المراد به العاني من أمر الشريعة وما أُرسل عليه السلام له، ومع هذا فقد قال سيبويه في باب الاستقامة والاستحالة من الكلام1: فأما المستقيم الكذب فهو قولك: حملت الجبل، وشربت ماء البحر ونحوه، فجعْلُه إياه كذبًا يدلك على أن مراده هنا بقوله: ماء البحر جميعه؛ لأنه لا يجوز أن يشرب جميع مائه، فأما على العرف في ذلك على ما مضى فلا يكون كذبًا. ومن ذلك قراءة جابر بن يزيد وأبي نهيك وعكرمة وجعفر بن محمد: "فإذا عَزَمْتُ"2 بضم التاء. قال أبو الفتح: تأويله عندي -والله أعلم- فإذا أَريتُك أمرًا فاعمل به وصِرْ إليه. وشاهده قول الله تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} 3، وهذا ليس من رؤية العين؛ لأنه لا مدخل له في الأحكام، ولا من العلم؛ لأن ذلك متعد إلى مفعولين. فإذا نقل بالهمزة وجب أن يتعدى إلى ثلاثة، والذي معنا في هذا الفعل إنما هو مفعولان؛ أحدهما: الكاف، والآخر: الهاء المحذوفة العائدة على "ما"؛ أي: بما أراكه الله. فثبت بذلك أنه من الرأي الذي هو الاعتقاد، كقولك: فلان يرى رأي الخوارج، ويرى رأي أبي حنيفة ورأي مالك، ونحو ذلك؛ فرأيتُ هذه إذن قسم ثالث ليست من رؤية العين ولا من يقين القلب. وجاز أن يَنْسب سبحانه العزم إليه؛ إذ كان بهدايته وإرشاده، فهو كقوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} 4، وقد جاء فيه ما هو أقوى معنى من هذا؛ وهو قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} 5، فخرج اللفظ فيه نافيًا أوله ما أثبته آخره، والغرض فيه
ما قدمناه من أن الرمي لما كان بإقداره ومشيئته صار كأنه هو الفاعل له "40ظ" وهو كثير، منه قول الإنسان لمن ينتسب إليه: إنما أَرى بعينك وأسمع بأذنك والفعل منك؛ وإنما أنا آلة لك، ومن عَرف طريق القوم في اللغة سقطعت عنه مئونات التعسف والشُّبَه. ومن ذلك قراءة ابن عباس وعكرمة وعطاء: "يُخَوِّفُكُمْ أَوْلياءَه"1. قال أبو الفتح: في هذه القراءة دلالة على إرادة المفعول في يخوف وحذفه في قراءة أكثر الناس: {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} . وليس هذا كقولنا: فلان يُخوِّف غلامه ويخوف جاريته مِن ضربه إياهما وإساءته إليهما. فالمحذوف هنا هو المفعول الثاني، وهو في الآية المفعول الأول على ما قدمنا. ومن ذلك قراءة الحر النحوي2: "يُسْرِعون"3 في كل القرآن. قال أبو الفتح: معنى "يسارعون" في قراءة العامة: أي يسابقون غيرهم، فهو أسرع لهم وأظهر خفوفًا بهم، وأما "يسرعون" فأضعف معنى في السرعة من يسارعون؛ لأن مَن سابق غيره أحرص على التقدم ممن آثر الخفوف وحده، وأما سَرُع فعادة ونحيزة؛ أي: صار سريعًا في نفسه. وفعَل من لفظ فَاعلتُ ضربان: متعد، وغير متعد؛ فالمعتدي كضربت زيدًا وضاربته، وغير المتعدي كقمت وقاومت زيدًا. وأما أسرع وسَرُع جميعًا فغير متعديين؛ لكن سَرُع غريزة، وأسرع كلَّف نفسه السرعة؛ لكن سارع متعد4. ومن ذلك ما رواه رَوْح5 عن أحمد عن عيسى أنه كان يقرأ: "بقُرُبان"6 بضم الراء.
قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون أصله "قُرْبان" ساكنة الراء والضمة فيها إتباع؛ لتعذر فُعُلان في الكلام. وحكى صاحب الكتاب منه السُّلُطان، وذهب إلى أن ضمة اللام إتباع كضمة الراء من القُرُفْصاء1؛ وإنما هي القُرْفُصاء بسكون الراء. ومثله من الإتباع ما حكاه من قولهم: مُنْتُن بضم التاء، وهو مُنْحَدُر2 من الجبل؛ أي: منحدر. وحكى أيضًا: أجُوءُك وأُنْبُؤُك. فأما العَرَقُصان3 والعَرَتُن4 فليس إتباعًا؛ لكنه يراد به العريْقُصان بالياء والعَرَنْقُصان يقال أيضًا، فحذفت الياء والنون، وكذلك العرَتُن إنما هو العَرَنْتُن، فحذفت النون. وكذلك العَبَقُر5 أصله العَبَيْقُر، فحذفت الياء، فهذا طريق حذف وليس طريق إتباع.
سورة النساء
سورة النساء: بسم الله الرحمن الرحيم من ذلك قراءة أبي عبد الرحمن عبد الله بن يزيد1: "الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامُ"2 رفعًا، قراءة ثالثة. قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون رفعه على الابتداء وخبره محذوف؛ أي: والأرحام مما يجب أن تتقوه، وأن تحتاطوا لأنفسكم فيه، وحسن رفعه لأنه أوكد في معناه، ألا ترى أنك إذا قلت: ضربت زيدًا، فزيد فضلة على الجملة، وإنما ذكر فيه مرة واحدة، وإذا قلت: زيد ضربته، فزيد رب الجملة، فلا يمكن حذفه كما يحذف المفعول على أنه نيِّف وفضلة بعد استقلال الجملة؟ نعم، ولزيد فيها ذكران: أحدهما: اسمه الظاهر، والآخر: ضميره وهو الهاء. ولما كانت الأرحام فيما يُعنى به ويُقَوَّى الأمر في مراعاته؛ جاءت بلفظ المبتدأ الذي هو أقوى من المفعول. وإذا نُصبت الأرحام أو جُرت فهي فضلة، والفضلة متعرضة للحذف والبِذْلة. فإن قلت: فقد "41و" حُذف خبر الأرحام أيضًا على قولك، وقيل: أجل؛ ولكنه لم يحذف إلا بعد العلم به، ولو قد حُذفت الأرحام منصوبة أو مجرورة فقلت: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ} لم يكن في الكلام دليل على الأرحام أنها مرادة أو مقدرة، وكلما3 قويت الدلالة على
المحذوف كان حذفه أسوغ، ونحو من رفع الأرحام هنا بعد النصب والجر قول الفرزدق: يأيها المشتكي عُكْلًا وما جَرَمت ... إلى القبائل من قتل وإبآسُ إنا كلك إذ كانت هَمرَّجةٌ ... نَسْبِي ونَقْتُل حتى يُسْلمَ الناس1 أي: من قتل وإبآس أيضًا كذلك، فقوَّى لفظه بالرفع؛ لأنه أذهب في شكواه إياه، وعليه أيضًا قوله: إلا مُسْحَتا أو مُجَلَّف2 فيمن قال: أراد أو مجلَّف كذاك. ومَن حمله على المعنى فرفعه وقال: إذا لم يَدَع إلا مسحتا فقد بقي المسحت وبقي أيضًا المجلَّف، سلك فيه غير الأول. ومن ذلك ما رواه المفضل عن الأعمش عن يحيى وإبراهيم وأصحابه: "ألا تَقْسِطُوا3" بفتح التاء. قال ابن مجاهد: ولا أصل له. قال أبو الفتح: هذا الذي أنكره ابن مجاهد مستقيم غير منكر؛ وذلك على زيادة "لا"، حتى كأنه قال: وإن خفتم أن تَقْسطوا في اليتامى؛ أي: تجوروا. يقال: قسط: إذا جاز، وأقسط: إذا عدل. قال الله جل وعلا: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} 4، وزيادة "لا" قد شاعت عنهم واتسعت، منه قوله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} 5، وقوله: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا
إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} 1، فيمن ذهب إلى زيادة "لا"، وقال: معناه: وما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون، وعليه قول الراجز: وما ألوم البِيضَ ألَّا تَسْخَرَا ... إذا رأين الشَّمَطَ القَفَنْدَرا2 أي: أن تسخر، والأمر فيه أوسع، فبهذا يعلم صحة هذه القراءة. ومن ذلك ما رواه الأعمش عن يحيى بن وثاب والمغيرة عن إبراهيم قراءتهما: "وَرُبَعَ"3 مرتفعة الراء، منتصبة العين بغير ألف. قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون محذوفًا من "رُباع" تخفيفًا، كما روينا عن قطرب: إلا لا بارك الله في سهيل ... إذا ما الله بارك في الرجال4 فحذف ألف "الله". وقال الآخر: مثل النَّقا لبّدَه ضربُ الطِّلَلْ5 يريد: الطِّلال جمع طَل6، كما قال القُحيف العقيلي: ديار الحي تضاربها الطلال ... بها أهل من الخافي ومالُ7 ويقوى أنه أراد "رباع" ثم حذف الألف ترك صرفه كما كان قبل الحذف غير مصروف. وأما رُبَعٌ فلا نعلم إلا ولد الناقة في أيام الربيع، وذلك مصروف في المعرفة والنكرة، وهذا واضح. ومما حذفت ألفه تخفيفًا أيضًا قولهم: أَمَ والله لأفعلن كذا، يريد: أَمَا. وكذلك قراءة من قرأ: "هأَنْتُمْ"8 في وزن أَعَنْتُمْ، الألف محذوفة من "ها". وأما قول الآخر: وأتى صواحبُها فقلن هذا الذي ... منح المودة غيرنا وقلانا فإنه لا يريد هذا الذي؛ بل يريد أَذا الذي، ثم أبدل همزة الاستفهام هاء، كقولهم: هرقتُ في أرقت، وهرحتُ الدابة في أرحتها، وهردتُ ذلك في أردت، وهِنْ فعلن في إِنْ
فعلتُ، وقد يجوز مع هذا أن يكون "41ظ" أراد هذا الذي مخبرًا، ثم حذف الألف على ما مضى. ومن ذلك ما ذكره ابن مجاهد في "قيامًا وقِيَمًا"1، وهما في السبعة2 "قِوَامًا"، وقيل: "قَوَامًا"، واللغة بكسر القاف. قرأ "قَوَامًا" بالواو وفتح القاف ابن عمر. انتهى كلام ابن مجاهد ولم يذكر "قِوَامًا" عن أحد؛ لكنه أثبته. قال أبو الفتح: يقال: هذا قِوَام الأمر: أي مِلاكه، ويقال: قاومته قِوَامًا كقولك: عاودته عِوادًا، كما قال: وإن شئتم تَعَاودْنا عِوادا3 وأما "القَوَام" فمصدر جارية حسنة القَوام، فهو كالشَّطَاط4، فقد يجوز مع هذا أن يراد بِقِوام ما أراده من قرأ: "قِيامًا" فيخرجه على الصحة، كما قال العجاج: يَخْلِطن بالتأَنُّس النِّوارا ... زَهوك بالصَّريمة الصِّوارا5 وقياسه النِّيار؛ لأنه مصدر فعل معتل العين، وهو نار ينور: أي نفر. قال: أنورًا سَرْع ماذا يا فَروقُ ... وحبلُ الوصْل منتكِثٌ حذيقُ6 وقد ذكرت هذا الموضع في كتابي المنصف7. ومن ذلك قراءة الحسن: "يُورِثُ كَلالَةً"8، ويُورث أيضًا كالمقروء به في السبعة. وقرأ عيسى بن عمر الثقفي: "يُورِّثُ كَلالَةً".
قال أبو الفتح: يُورِث ويُورِّث كلاهما منقول من ورِث، فهذا من أورث، وهذا من ورث، فورِث وأورثته كوغِر صدره وأوغرته، وورِث وورَّثته كورِم وورمته. قال الأعشى: مورِّثةٍ مالًا وفي المجد رفعة ... لِمَا ضاع فيها من قروء نِسائِكا1 وفي كلتا القراءتين هناك المفعولان محذوفان، كأنه قال: يورِث وارثه مالَه، أو يورِّث وارثَه ماله. وقد جاء حذف المفعولين جميعًا، قال الكميت: بأَيِّ كتاب أَم بأَية سنة ... ترى حُبهم عارًا عليَّ وتحسب2 فلم يُعدِّ تحسب. و"كلالة" على نصبها في جميع القراءات. ومن ذلك قراءة الحسن: "غَيْرَ مُضَارِ وَصِيَّةٍ"3 مضاف. قال أبو الفتح: أي غير مضار من جهة الوصية، أو عند الوصية، كما قال طرفة: بَضَّةُ المتجرَّد4 أي: بضة عند تجردها، وهو كقولك: فلان شجاعُ حربٍ وكريمُ مسألةٍ؛ أي: شجاع عند الحرب، وكريم عند المسألة، وعليه قولهم مِدْره5 حرب؛ أي: مِدْرَه عند الحرب، فهو راجع إلى معنى قولهم: يا سارق الليلة أهل الدار6 ومن ذلك قراءة ابن عباس: "فَاحِشَةٍ مُبِينَةٍ"7 مكسورة الباء ساكنة الياء، وقال: "بيِّنة". قال أبو الفتح: يقال: بان الشيء وأبنته، وأبان وأبنته، واستبان واستبنته، وتبين وتبينته.
ومن أبيات الكتاب: سلِّ الهموم بكل معطي رأسه ... ناج مخالط صُهبة مُتَعيِّسِ مُغتالِ أحبُله مُبينٍ عنقُه ... في مَنكِب زَبَن المطيَّ عرندسِ1 وقرأت على أبي علي في نوادر أبي زيد: يبينُهم ذو اللب حتى تراهم ... بسيماهم بيضًا لحاهم وأَصْلُعَا2 ومن كلامهم: قد بَيَّن الصبحُ لذى عينين3، وقال: تبين لي أن القَماءَة ذلة ... وأن أشداء الرجال طِيالُها4 وأنشدنا أبو علي: فلما تبينْ غِبّ أمري وأمره ... وولَّت بأعجاز الأمور صدورُ5 وهو كثير "42و". ومن ذلك قراءة ابن محيصن: "وَآتَيْتُمُ احْدَاهُنَّ قِنْطَارًا"6 وصل ألف إحداهن. قال أبو الفتح: قد تقدم نحو هذا فيمن7 قرأ: "فَلا اثْمَ عَلَيْهِ"، يريد: فلا إثم عليه بشواهده، وهذا حذف صريح، واعتباط مريح، نحو قوله: وتسمع من تحت العجاج لها ازْملا8 وقد مضى.
ومن ذلك قراءة ابن هُرْمُز: "الَّتِي أَرْضَعْنَكم"1 بلفظ الواحد. قال أبو الفتح: ينبغي أن تكون التي هنا جنسًا فيعود الضمير عليه على معناه دون لفظه، كما قال سبحانه: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} 2، ثم قال: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} ، فهذا على مذهب الجنسية، كقولك: الرجل أفضل من المرأة، وهو أمثل من أن يُعتقد فيه حذف النون من "الذي" كما حذفت من "اللذا" في قوله: إن عَمَّيَّ اللذا3 ألا ترى أن قوله: "التي ارضعنكم" لا يجوز أن يُعتقد فيه حذف النون؛ لأنه لا يقال: اللتين، والقول الآخر وجه، إلا أن هذا أقوى لهذه القراءة، وعليه قول الأشهب بن رُميلة: وإن الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كل القوم يا أُمَّ خالد4 يحتمل المذهبين: حذف النون من الذين، واعتقاد مذهب الجنسية على ما مضى. ومن ذلك قراءة محمد بن السميفع: "كَتَبَ اللَّهُ عَلَيكم"5 مفتوحة الكاف، وليس بعد التاء ألف، والباء نصب. قال أبو الفتح: في هذه القراءة دليل على أن قوله: "عليكم" من قوله: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} في قراة الجماعة مُعلَّقة6 بنفس كتاب، كما تعلقت في "كَتَبَ اللَّهُ عَلَيكم" بنفس كتب، وأنه ليس "عليكم" من {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} اسمًا سُمي به الفعل7، كقولهم: عليك زيدًا، إذا أردت: خذ زيدًا؛ وذلك أن عليك ودونك وعندك إذا جُعلن أسماء للفعل لسن منصوبات المواضع، ولا هن متعلقات بالفعل مُظْهَرًا ولا مُضْمَرًا، ولا الفتحة في نحو: دُونك زيدًا فتحة إعراب كفتحة الظرف في نحو قولك: جلست دونك؛ بل هي فتحة بناء؛ لأن الاسم الذي هو عندك8 زيدًا
بمنزلة صه ومه لا إعراب فيه، كما لا إعراب في صه ومه وحَيْهَل، غير أنه بُني على الحركة التي كانت له في حال الظرفية، كما أن فتحة لام رجل من قولك: لا رجل في الدار1، وهي الحركة التي تحدثها "لا" إعرابًا في المضاف والممطول، نحو: لا غلام رجل عندك، ولا خيرًا منك فيها، وكذلك قول الله تعالى: {مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ} 2، الفتحة في نون "مكانكم" فتحة بناء؛ لأنه اسم لقولك: اثبُتوا، وليست كفتحة النون من قولك: الزموا مكانكم، هذه إعراب، وتلك في الآية بناء. وهذا موضع فيه لطف فتفهمه. ولما دخل شيخنا أبو علي -رحمه الله- الموصل سنة إحدى وأربعين، قال لنا: لو عرفتُ في هذا البلد من يعرف الكلام على قولك: دونك زيدًا؛ لغدوت إلى بابه ورُحت. وكذلك قوله تعالى: "كَتَب الله عليكم" و {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُم} ، و {عَلَيْكُمْ} في الموضعين جميعًا منصوبة الموضع بنفس كَتَب وكتاب، ولو قلت: عليكم كتاب الله لما كان لقولك عليكم موضع من الإعراب أصلًا، ولا كانت متعلقة بشيء ظاهر ولا محذوف ولا مضمر على ما تقدم، فاعرفه "42ظ". ومن ذلك قراءة إبراهيم والأعمش وحُميد: "فَسوْف نَصْليه نارًا"3 بفتح النون، وسكون الصاد. قال أبو الفتح: يُروى في الحديث أنه أُتِيَ بشاة مَصْلِيَّة؛ أي: مشوية، يقال: صلاه يصليه: إذا شواه، ويكون منقولًا من صَلِي نارًا وصَلَيتُه نارًا، كقولك: كَسِي ثوبًا وكَسَوتُه ثوبًا، ومثله -إلا أنه قبل النقل غير متعد- شَتِر4 وشَتَرْتُه، وغارت عينُه وغُرْتُها. وعليه قوله: وصالياتٍ كَكَما يؤثفَيْن5 فهذا من صلي. فأما قراءة العامة: {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا} بضم النون، فهو منقول من صلِي أيضًا، إلا أنه
نُقل بالهمزة لا بالمثال، كقولك: طعِم خبزًا وأطعمته خبزًا، وعلِم الخبر وأعلمته إياه؛ أي: عرف وعرفتُه. والصَّلَى: النار منه، وهو من الياء لقولهم: صلَيْتُه نارًا. وليست الصلاة من الياء لقولهم في جمعها: صلوات. قال لنا أبو علي سنة سبع وأربعين: الصلاة من الصَّلَويْنِ1، قال: وذلك لأن أول ما يشاهد من أحوال الصلاة إنما هو تحريك الصَّلَويْنِ للركوع، فأما القيام فلا يخص الصلاة دون غيرها، وهو حسن. ومن ذلك قراءة طلحة: "فالصَّوالِحُ قوانِتُ حوافِظُ للغيب"2. قال أبو الفتح: التكسير هنا أشبه لفظًا بالمعنى؛ وذلك أنه إنما يراد هنا معنى الكثرة، لا صالحات من الثلاث إلى العشر، ولفظ الكثرة أشبه بمعنى الكثرة من لفظ القلة بمعنى الكثرة، والألف والتاء موضوعتان للقلة، فهما على حد التثنية بمنزلة الزيدون من الواحد إذا كان على حد الزيدان. هذا موجب اللغة على أوضاعها، غير أنه قد جاء لفظ الصحة والمعنى الكثرة، كقوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} إلى قوله تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} 3، والغرض في جميعه الكثرة، لا ما هو لما بين الثلاثة إلى العشرة. وكان أبو علي ينكر الحكاية المروية عن النابغة وقد عرض عليه حسان شعره، وأنه لما صار إلى قوله: لَنا الجَفَناتُ الغُرُّ يَلمَعنَ بِالضُحا ... وَأَسيافُنا يَقطُرنَ مِن نَجدَةٍ دَما4 قال له النابغة: لقد قللت جفانك وسيوفك. قال أبو علي: هذا خبر مجهول لا أصل له؛ لأن الله تعالى يقول: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} 5، ولا يجوز أن تكون الغرف كلها التي في الجنة من الثلاث إلى العشر. وعذر ذلك عندي أنه قد كثُر عنهم وقوع الواحد على معنى الجميع جنسًا، كقولنا: أَهْلَكَ الناسَ الدنيارُ والدرهم، وذهب الناسُ بالشاة والبعير. فلما كثر ذلك جاءوا في موضعه بلفظ الجمع الذي هو أدنى إلى الواحد أيضًا؛ أعني: الجمع بالواو والنون والألف والتاء. نعم، وعلم أيضًا أنه إذا
جيء في هذا الموضع بلفظ جمع الكثرة لا يتدارك معنى الجنسية، فلهوا عنه، وأقاموا على لفظ الواحد تارة ولفظ الجمع المقارِب للواحد تارة أخرى؛ إراحة لأنفسهم من طلب ما لا يُدرك، ويأسًا منه، وتوقفًا دونه. فيكون هذا كقوله: رَأى الأَمرَ يُفضي الي آخِرٍ ... فَصيَّر آخِرَهُ أوَّلا1 ومثل الجمع بالواو والنون والألف والتاء مجيئهم في هذا الموضع بتكسير القلة، كقوله تعالى: {وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} 2. وقول حسان: "43و" وَأَسيافُنا يَقطُرنَ مِن نَجدَةٍ دَما3 ولم يقل: عيونُهم ولا سيوفُنا. وقد ذكرنا هذا ونحوه في كتابنا الخصائص. ومن ذلك قراءة يزيد بن القعقاع: "بما حَفِظَ اللهَ" بالنصب4 في اسم الله تعالى. قال أبو الفتح: هو على حذف المضاف؛ أي: بما حفظ دين الله وشريعة الله وعهود الله، ومثله: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} 5 أي: دين الله وعهود الله وأولياء الله، وحَذْفُ المضاف في القرآن والشعر وفصيح الكلام في عدد الرمل سعة، وأستغفر الله. وربما حَذفت العرب المضاف بعد المضاف مكررًا؛ أُنسًا بالحال ودلالة على موضوع الكلام، كقوله عز وجل: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} 6 أي: من أثر حافر فرس الرسول. وقد ذكرنا في كتابنا ذلك هذا وغيره من كتبنا وكلامنا. ومن ذلك قراءة الأعمش: "لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكْرَى"7 مضمومة السين، ساكنة الكاف من غير ألف. وقراءة إبراهيم: "وَأَنْتُمْ سَكْرَى". وفي قراءته أيضًا: "تُرَى النَّاسَ سَكْرَى وَمَا هُمْ بِسَكْرَى"8.
قال أبو الفتح: أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن وكيع عن الدمشقي عن ابن قطرب عن قطرب1 في كتابه الكبير: أن قراءة أبي زرعة الشامي: "وتَرَى النَّاسَ سُكْرَى وَمَا هُمْ بِسُكْرى". وسألت أبا علي عن "سُكْرَى" فردد القول فيها، ثم استقر الأمر فيها بيننا على أنها صفة من هذا اللفظ والمعنى، بمنزلة حبلى مفردة كما ترى. فأما "سَكْرَى" بفتح السين فيمن قرأ كذلك فيحتمل أمرين: أحدهما: أن يكون جمع سكران؛ إلا أنه كُسِّر على فَعْلَى؛ إذ كان السكر علة تلحق العقل، فجرى ذلك مجرى قوله: فَأَمَّا تَميمٌ تَميمُ بنُ مُرٍّ ... فَأَلفاهُمُ القَومُ رَوْبَى نِياما2 فهذا جمع رائب؛ أي: نومى خُثَراءُ الأنفس3؛ فيكون ذلك كقولهم: هالك وهلكى ومائد ومَيْدَى4، فيجري مجرى صريع وصرعى وجريح وجرحى؛ إذ كان ذلك علة بُلوا بها، وإن كان هالك ومائد ورائب فعلًا منسوبًا إليهم، لا مُوقَعًا في اللفظ بهم. والآخر: أن يكون "سَكْرَى" هنا صفة مفردة، مذكرها سكران، كامراة سكرى. ويشهد لهذا الأمر قراءة مَن قرأ: "سُكْرى" بالضم، وهذا لا يكون إلا واحدًا. ويشهد للقول الأول قراءة العامة: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} . وجاز أن يوقع على الناس كلهم صفة مفردة تصورًا لمعنى الجملة والجماعة وهي بلفظ الواحد، كما جاز للَبيدٍ أن يشير أيضًا إلى الناس بلفظ الواحد في قوله: وَلَقَد سَئِمتُ مِنَ الحَياةِ وَطولِها ... وَسُؤالِ هَذا الناسِ كَيفَ لَبيدُ5 ومن معكوسه في إيقاع لفظ الجماعة على معنى الواحد قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} 6 والمراد به الواحد7، كلٌّ من كلام العرب.
وقراءته: "وتُرَى الناسَ سُكرى" بضم التاء يقوي ما قدمناه من أن أُرَى في اليقين دون أَرى؛ لقوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} . ومن ذلك قراءة ابن مسعود والزهري أيضًا: "أو جاء أحد منكم من غَيْط"1. قال أبو الفتح: فيه صنعة، وذلك "43ظ" أن هذا الحرف مما عينه واو؛ لقوهم تغوَّط الرجل: إذا أتى الغائط، وهو مُطْمَأَنٌّ من الأرض كانوا يقضون فيه حوائجهم. وظاهر أمر غَيْط أنه فَعْل مما عينه ياء، بمنزلة شيخ وبيت. وأمثل ما ينبغي أن يقال فيه: إنه محذوف من فَيْعِل، كأنه في الأصل غيِّط كميت وسيد، ثم حذفت عينه تخفيفًا فبقي مَيْت وسيْد، ومثاله قَيْل2؛ لأن العين محذوفة. فإن قلت: فإنا لا نعرف في الكلام غَيِّطًا كما عرفنا سيِّدًا وميِّتًا؟ قيل: قد يجوز أن يكون محذوفًا من فيعِل مقدرًا غير مستعمل، كما أن قولهم: يَذَر ويدع استُغني عنهما بِتَرَك، كما استُغني أيضًا بغائط عن غيِّط، وكما استغني أيضًا بذَكَر ولَمْحة عن مِذْكار ومَلْمَحة اللتين عليهما3 كسر ملامح ومذاكير. ويؤكد هذا أن غائطًا إلى غيِّط أقرب من ذَكَر ولَمْحة إلى مِذْكار ومَلْمَحة؛ وذلك لأن ثاني فاعل ألف زائدة كما أن ثاني فيعِل ياء زائدة، والعين فيهما كليهما مكسورة، واللام تلي العين فيهما جميعًا، والياء أيضًا أخت الألف، فكأنهما مثال واحد من حيث ذكرنا، فَبِقدر هذا القرب بينهما ما4 حسنت إنابة فاعل عن فيعِل، لا سيما وكأن غَيْطًا في اللفظ غيِّط لقربه منه وزنًا. وفيه قول ثانٍ؛ وهو أن يكون غَيْط فَعْلًا وأصله غَوْط، إلا أن الواو قلبت للتخفيف ياء، كما قلبوها إليها لذلك في قولهم: لا حَيْل ولا قوة إلا بالله؛ أي: لا حول ولا قوة إلا بالله. وقالوا: هو أَليط بقلبي من كذا، وظاهر أمره أن يكون من لُطت الحوض أَلوطه؛ أي: ألصقت بعضه ببعض، فكذلك هو أَليط بقلبي: إذا لصق به، وأصله على هذا أَلْوط، وقلبت الواو ياء استحسانًا كأشياء نحو ذلك، نحو: العلياء وهي من علوت، والعَيْصاء بمعنى العوصاء5، فهذا الوجه أقرب، والأول أشد وأصنع.
ومن ذلك1 قراءة حميد بن قيس2: "سَوْفَ نَصْلِيهِمْ نَارًا"3. قال أبو الفتح: قد أتينا على ما في ذلك فيما مضى من هذا الكتاب آنفًا4. ومن ذلك قراءة الحسن فيما رواه عنه قتادة: "تعالُوا"5 بضم اللام. قال أبو الفتح: وجه ذلك أنه حذف اللام من تعاليت استحسانًا وتخفيفًا، فلما زالت اللام من "تعالى" ضُمت لام تعال لوقوع واو الجمع بعدها، كقولك: تقدموا وتأخروا. ونظير ذلك في حذف اللام استخفافًا قولهم: ما باليت به بالةً، وأصلها بالِيَة، كالعافية والعاقبة، ثم حذفت اللام كما ترى. وذهب الكسائي في "آية" إلى أن أصلها: آيِيَة فاعلة، فحذفت اللام كما ذكرنا، ولو كانت إنما حذفت لام "تعالُوا" لالتقاء الساكنين كما حذفت لذلك في قولك للجماعة آمرًا: ترامَوا وتغازَوا؛ لبقيت العين مفتوحة دلالة على الألف المحذوفة، وكنحو قولك: اخشَوا واسعَوا، إذا أمرت الجماعة. ونظير حذف اللام استحسانًا في هذه القراة قراءة الحسن أيضًا في قوله الله تعالى: "إِلَّا مَنْ هُوَ صَالُ الْجَحِيمِ"6. حدثنا بذلك أبو علي، وذهب إلى ما ذكرناه من حذف اللام استخفافًا، وإلى أنه يجوز أن يكون أراد: إلا من هو صالون الجحيم؛ فحذف النون للإضافة، وحذف "44و" الواو التي هي عَلَم الجمع لفظًا لالتقاء الساكين، واستعمل لفظ الجمع حملًا على المعنى دون اللفظ، كقول الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} 7، وله نظائر، إلا أن الظاهر ما ذهب إليه أبو علي. وأما حديث "تَعَالَ" والقول على ماضيه ومضارعه وتصرفه، ومن أين جاز استعمال لفظ العلو في التقدم، فأَمْرٌ يحتاج إلى فضل قول، وقد ذكرناه في غير هذا الموضع، إلا أن من جملته أنهم استعملوا لفظ التقدم والارتفاع على طريق واحد، من ذلك قولهم: قدَّمته إلى الحاكم، فهذا
كقولك: ترافعنا إلى الحاكم، كذلك قولك للرجل: تعال، كقولك له: تقدم. وأصله أن التقدم تعالٍ، والتأخر انخفاض وتراخٍ، فافهمه. ومن ذلك قراءة الحسن أيضًا: "لَيَقولُن"1 بضم اللام على الجمع. قال عبد الوارث2: سئل أبو عمرو3 عن قراءة الحسن: "لَيَقولُن" برفع اللام، فسكت. قال أبو الفتح: أعاد الضمير على معنى "مَنْ" لا على لفظها الذي هو قراءة الجماعة؛ وذلك أن قول الله تعالى: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} 4 لا يُعنى به رجل واحد؛ لكن معناه أن هناك جماعة هذا وصف كل واحد منهم، فلما كان جمعًا في المعنى أعيد الضمير على معناه دون لفظه، كقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} 5، الحال فيهما واحدة، وكأن الموضع لحقه احتياط في اللفظ؛ خوفًا من إشكال معناه، فضُمَّ اللام من "ليقولُن" ليُعلم أن هذا حكم سارٍ في جماعة، ولا يُرى أنه واحد ولا أكثر منه، فاعرفه. ومن ذلك قراءة الحسن ويزيد النحو: "يا لَيتَني كنْتُ معهم فأفوزُ فوزًا عظيمًا"6 بالرفع، قال روح: لم يجعل لليت جوابًا. قال أبو الفتح: محصول ذلك أن يتمنى الفوز، فكأنه قال: يا ليتني أفوز فوزًا عظيمًا، ولو جعله جوابًا لنصبه؛ أي: إن أكن معهم أفز، هذا إذا أصبحت بالشرط، إلا أن الفاء إن دخلت جوابًا للتمني نُصب الفعل بعدها بإضمار أن، وعُطف أفوز على كنت معهم لأنهما جميعًا متمنيان، إلا أنه عطف جملة على جملة لا الفعل على انفراده على الفعل؛ إذ كان الأول ماضيًا والثاني مستقبلًا. وذهب أبو الحسن في قوله عز وجل: "يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ"7 بالرفع إلى أنه عطف عل اللفظ، ومعناه معنى الجواب: قال: لأنهم لم يتمنوا
ألا يكذبوا؛ وإنما تمنوا الرد، وضَمِنوا أنهم إن رُدوا لم يكذِّبوا، وعليه جاء قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} 1. وعليه قول الآخر: فَلَقَد تَرَكتِ صِبيَّةً مَرحومَة ... لَم تَدرِ ما جَزَعٌ عَلَيك فَتَجزَعُ2 والقوافي مرفوعة؛ أي: هي تجزع، ولو كان جوابًا لقال فتجزعا، وقد ذكرنا هذا ونحوه في كتابنا الموسوم بالتنبيه، وهو تفسير مشكل أبيات الحماسة. ومن ذلك قراءة طلحة بن سليمان: "أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ"3 برفع الكافين، قال ابن مجاهد: وهذا مردود في العربية. قال أبو الفتح: هو لعمري ضعيف في العربية، وبابه الشعر والضرورة، إلا أنه ليس بمردود؛ لأنه قد جاء عنهم. ولو قال: مردود في "44ظ" القرآن لكان أصح معنى؛ وذلك أنه على حذف الفاء، كأنه قال: فيدركُكُم الموت، ومثله بيت الكتاب: مَن يَفعَلِ الحَسَناتِ اللهُ يَشكُرُها ... وَالشَرُّ بِالشَرِّ عِندَ اللهِ مِثلانِ4 أي: فالله يشكرها، ومثله بيته أيضًا: بنو ثُعل لا تنكَعوا العنز شِرْبَها ... بني ثعل من ينكَع العنزَ ظالِم5 فكأنه قال: فهو ظالم، فحذف الفاء والمبتدأ جميعًا، إلا أنه لما ترك هناك اسم الفاعل فهو لشبهه بالفعل كأنه هو الفعل؛ فيصير إلى أنه كأنه قال: من ينكع العنز يَظْلِمُ، وشَبَهُ الفعل في هذه اللغة أفشى من الشمس، حتى إنهم استجازوا لذلك أن يُولُوه نون التوكيد المختصة بالفعل، فقالوا: أَريتَ إن جئتُ به أُملودا ... مُرَجَّلا ويَلبس البُرودا أَقائِلُن أَحضِرِي الشهودا6
فكأنه قال: أيقولن، والنظائر فيه كثيرة جدًّا. ومن ذلك قراءة ابن مسعود: "إِلَى الْفِتْنَةِ رُكِّسُوا فِيهَا"1 مثقل بغير ألف. قال أبو الفتح: وجه ذلك أنه شيء بعد شيء؛ وذلك لأنهم جماعة، فلما كانوا كذلك وقع شيء منه بعد شيء فطال، فلاق به لفظ التكثير والتكرير، كقولك: غلَّقتُ الأبواب، وقطَّعتُ الحبال، وقد يكون معنى التكرير مع لفظ التخفيف، أنشد أبو الحسن: أنت الفداء لقبلة هدَّمْتَها ... ونَقَرتها بيديك كلَّ مُنَقَّر فصار "ونقرتها" كأنه قال: ونقَّرتها، يدل عليه مصدره الذي هو "مُنَقَّر". وهذا ونحوه مما يدل على اشتمال لفظ الأفعال على معاني الأجناس، حتى إن اللفظة الواحدة تصلح لكثيره صلاحها لقليله. ومن ذلك قراءة الزهري فيما رواه عنه الوقاصي: "إلا خَطًا"2 مقصورًا خفيفًا بغير همز. قال أبو الفتح: أصله خطأً بوزن خَطَعًا كقراءة العامة، غير أنه حذف الهمزة حذفًا على ما حكيناه عنهم من قولهم: جَا يجَى، وسَا يسُو. وهذا ضعيف عند أصحابنا وإن كان قد جاء منه حروف صالحة، إلا أنه ليس تخفيفًا قياسيًّا؛ وإنما هو حذف وخبط للهمزة ألبتة، وقد ذكرناه فيما قبل. ويجوز أن يكون أبدل الهمزة إبدالًا على حد قَرَبْتُ، فجرى مجرى عصا ومطا. ومن ذلك قراءة إبراهيم: "إِنَّ الَّذِينَ تُوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ"3. قال أبو الفتح: معنى هذا كقولك: إن الذين يُعَدُّون على الملائكة يُرَدُّون إليهم يحتسبون عليهم، فهو نحو من قولك: إن المال الذي تُوفَّاه أَمَةُ الله؛ أي: يُدفع إليها ويحتسب عليها، كأن كل ملَك جُعل إليه قبض نفس بعض الناس، ثم مُكن من ذلك ووفيه، أو كأن ذلك في بعض الملائكة، فجرى اللفظ على الجميع، والمراد البعض على ما مضى في هذا الكتاب.
ومن ذلك ما رواه الواقدي1 عن عباس عن الضبي2 عن أصحابه: "مَرْغَمًا"3، وقراءة الجماعة: {مُرَاغَمًا} . قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون هذا إنما جاء على حذف الزيادة من راغَمَ، فعليه جاء مَرْغم؛ كمضرب من ضرب، ومذهب من ذهب. وأصل هذه المادة ر غ م، فمنه الرَّغام التراب "45و" وهو إلى الذل والشدة، والمراغِم: الْمُغَارُّ الذي يروم إذلال صاحبه، ومنه الحديث المرفوع: "إذا صلى أحدكم فليُلزم جبهته وأنفه الأرض حتى يخرج منه الرَّغْمُ" أي: حتى يذل ويخضع لله عز وجل، وعليه بقية الباب. ومن ذلك قراءة طلحة بن سليمان4: "ثُمَّ يُدْرِكُهُ الْمَوْتُ"5 برفع الكاف، وقراءة الحسن والجراح: "ثُمَّ يُدْرِكَهُ الْمَوْتُ" بنصب الكاف. قال أبو الفتح: ظاهر هذا الأمر أن "يدركُه" رفع على أنه خبر ابتداء محذوف؛ أي: ثم هو يدركه الموت، فعطف الجملة التي من المبتدأ والخبر على الفعل المجزوم بفاعله، فهما إذن جملة، فكأنه عطف جملة على جملة. وجاء العطف هاهنا أيضًا لما بين الشرط والابتداء من المشابهات، فمنها أن حرف الشرط يجزم الفعل، ثم يعتور الفعل المجزوم مع الحرف الجازم على جزم الجواب، كما أن الابتداء يرفع الاسم المبتدأ، ثم يعتور الابتداء والمبتدأ جميعًا على رفع الخبر؛ ولذلك قال يونس في قول الأعشى: إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا ... أو تنزلون فإنا معشر نُزُل6
إنما أراد: أو أنتم تنزلون، أفلا تراه كيف عطف المبتدأ والخبر على فعل الشرط الذي هو تركبوا؟ وعليه قول الآخر: إن تُذنبوا ثم تأْتيني بقيتكم ... فما عليَّ بذنب منكم فوت1 فكأنه قال: إن تذنبوا ثم أنتم تأتيني بقيتكم، هذا أوجه من أن يحمله على أنه جعل سكون الياء في تأْتيني علَم الجزم، على إجراء المعتل مجرى الصحيح نحو قوله: ألم يأْتيك والأنباء تنمي2 فهذا جواب كما تراه. وإن شئت ذهبت فيه مذهبًا آخر غيره، إلا أن فيه غموضًا وصنعة؛ وهو أن يكون أراد: ثم يدركْه الموت جزمًا، غير أنه نوى الوقف على الكلمة فنقل الحركة من الهاء إلى الكاف؛ فصار يدركُه، على قوله: من عنَزِيِّ سبَّني لَمْ أضربُه3 أراد: لم أضربْه، ثم نقل الضمة إلى الباء لما ذكرناه، كقوله: أَلْهَى خليلي عن فراشي مسجدُهْ ... يأيها القاضي الرشيد أَرشِدُهْ أي: أَرشِدْه، ثم نقل الضمة، فلما صار يدركُهْ حرك الهاء بالضم على أول حالها، ثم لم يُعِدْ إليها الضمة التي كان نقلها إلى الكاف عنها؛ بل أقر الكاف على ضمها، فقال: "ثُمَّ يُدْرِكُهُ الْمَوْتُ"، وقد جاء ذلك عنهم. أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن بقول الشاعر: إن ابن أحوص معروفًا فبلِّغُهُ ... في ساعديه إذا رام العلا قِصَرُ
أراد: فبلِّغْه، ثم نقل الضمة من الهاء إلى الغين فصار فبلِّغُهْ، ثم حرك الهاء بالضم وأقر ضمة الغين عليها بحالها، فقال: فبلغُهُ؛ وذلك أنه قد كثر النقل عنهم لهذه الضمة عن هذه الهاء، فإذا نُقلت إلى موضع قرَّت عليه وثبتت ثبات الواجب فيه. وفي إقرار الحركة بحالها مع تحريك ما بعدها دلالة على صحة قول سيبويه بإقرار الحركة التي "45ظ" يحرك بها الساكن عند الحذف إذا رُد إلى الكلمة ما كان حُذف منها في نحو قوله في النسب إلى شِيَهٍ: وِشَوِيّ، وهذا مشروح هناك في موضعه، فهذا وجه ثانٍ كما تراه في قوله: "ثُمَّ يُدْرِكُهُ الْمَوْتُ" بضم الكاف، فاعرفه. وأما قراءة الحسن: "ثُمَّ يُدْرِكَهُ الْمَوْتُ" بالنصب فعلى إضمار "أن"، كقول الأعشى: لنا هضبة لا يَنْزل الذلُّ وسطها ... ويأْوي إليها المستجير فيُعْصَمَا1 أراد: فأَن يعصما، وهو ليس بالسهل؛ وإنما بابه الشعر لا القرآن. ومن أبيات الكتاب: سأَترك منزلي لبني تميم ... وأَلحقُ بالحجاز فأَستريحا2 والآية على كل حال أقوى من ذلك؛ لتقدم الشرط قبل المعطوف، وليس بواجب، وهذا واضح. وفيه أكثر من هذا، إلا أنا نكره ونتحامى الإطالة لا سيما في الدقيق؛ لأنه مما يجفو على أهل القرآن. وقد كان شيخنا أبو علي عمل كتابه الحجة، وظاهرُ أمره أنه لأصحاب القراءة، وفيه أشياء كثيرة قلما ينتصف فيها كثير ممن يدعي هذا العلم؛ حتى إنه مجفو عند القراءة لما ذكرناه. ومن ذلك قراءة أبي عبد الرحمن الأعرج: "أَنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ"3 بفتح الألف. قال أبو الفتح: أن محمولة على قوله تعالى: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ} أي: لا تهنوا لأنكم تألمون، كقولك: لا تجبن عن قرنك لخوفك منه، فمن اعتقد نصب أن بعد حذف الجر عنها فأن هنا منصوبة الموضع، وهي على مذهب الخليل مجرورة الموضع باللام المرادة، وصارت "أن" لكونها كالعوض في اللفظ من اللام.
ومن ذلك قراءة يحيى: "فإنهم يِيلَمون كما تِيلَمون"1. قال أبو الفتح: العرف في نحو هذا أن من قال: أنت تِئمن وتِئلف وإِيلف، فكسر حرف المضارعة في نحو هذا إذا صار إلى الياء فتحها ألبتة، فقال: هو يَأْلف، ولا يقول: هو يِيلف؛ استثقالًا للكسرة في الياء. فأما قولهم في يَوْجَل ويَوْحَل ونحوهما: يِيجل ويِيحل بكسر الياء، فإنما احتُمل ذلك هناك من قِبَلِ أنهم أرادا قلب الواو ياء هربًا من ثقل الواو؛ لأن لياء على كل حال أخف من الواو، وعلموا أنهم إذا قالوا: يَيْجل ويَوحَل2، فقلبوا الواو ياء والياء قبلها مفتوحة كان ذلك قلبًا من غير قوة علة القلب، فكأنهم حملوا أنفسهم بما تجشموه من كسر الياء توصلًا إلى قوة علة قلب الواو ياء، كما أبدلوا من ضمة لام أَدلُو جمع دَلْوٍ كسرة فصار أَدلِوٌ لتنقلب الواو ياء بعذر قاطع؛ وهو انكسار ما قبلها وهي لام، وليس كذلك الهمزة؛ لأنها إذا كسر ما قبلها لم يجب انقلابها ياء، وذلك نحو: بئر وذئب، ألا تراك إذا قلت: هو يِئْلف، لم يجب قلب الهمزة ياء؟ فلهذا قلنا: إن كسرة ياء يِيجل لما يعقب من قلب الأثقل إلى الأخف مقبول، وليس في كسر ياء يئلف ما يدعو إلى ما تُحْتَمل له الكسرة، وليس فيه أكثر من أنه إذا كسر الياء ثم خفَّف الهمزة صار يِيلمون فأشبه في اللفظ ييجل، وهذا "46و" له قدر لا يُحتمل له كسر الياء، فاعرفه. ومن ذلك قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما روته عائشة رضي الله عنها: "أُثُنا"3 بثاء قبل النون، ورُوي أيضًا عنها عنه عليه السلام: "أُنُثا" النون قبل الثاء. وقراءة ابن عباس: "إلا وُثْنا"، ورُوي عنه أيضًا: "إلا أُنُثا" بضمتين والثاء بعد النون، وقراءة عطاء بن أبي رباح: "ألا أُثْنا" الثاء قبل، وهي ساكنة. قال أبو الفتح: أما "أُثُن" فجمع وَثَن، وأصله وُثُن، فلما انضمت الواو ضمًّا لازمًا قلبت همزة، كقول الله تعالى: {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَت} 4، وكقولهم في وُجوه: أجوه، وفي وُعِد: أُعِد، وهذا باب واسع. ونظير وَثَن وأُثُن أَسَد وأُسُد. ومن قال: "أُثْنا" بسكون الثاء فهو كأُسْد، بسكون السين.
حكى سيبويه هذه القراءة: "أُثْنا" بسكون الثاء. وذهب أبو بكر محمد بن السري في قولهم: أَسَد وأُسُد إلى أنها محذوفة من أُسُود، ويقوي قوله هذا بيت الأخطل: كَلَمْعِ أَيدي مَثاكيلٍ مُسَلِّبَةٍ ... يَندُبنَ ضَرس بنَاتِ الدَهرِ وَالخُطُبِ1 يريد: الخُطُوب، فقصر الكلمة بحذف واوها، ومثله قول الآخر: إن الفقير بيننا قاضٍ حَكَمْ ... أن ترِد الماءَ إذا غاب النُّجُم2 يريد: النجوم. وأما "أُنُثًا" بتقديم النون على الثاء، فينبغي أن يكون جمع أَنيث، كقولهم: سيفٌ أنيث الحديد، وذلك كقراءة العامة: {إِلَّا إِنَاثًا} يعني: به الأصنام. قال الحسن: الإناث كل شيء ليس فيه رُوح: خشبة يابسة وحجر يابس، قال: وهو اسم صنم لحي من العرب، كانوا يعبدونها ويسمونها أُنثى بني فلان، وعليه القراءة: "إِلَّا أوثانًا". ومن ذلك قال حماد بن شُعيب3: قلت للأعمش: "يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ"4، فقال: أيعدُهم؟ إنما هو: "يَعِدْهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدْهُم" ساكنة. قال أبو الفتح: قد تقدم القول على نحو هذا ما أُسكن في موضع الرفع تخفيفًا لثقل الضمة. قال أبو زيد فيما حكاه عنهم: "بَلَى وَرُسُلْنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ"5 بسكون اللام تخفيفًا على هذا.
ومن ذلك ما رواه الضبي عن أبي عبد الله المدني: "في يَيامَى النساء"1 بياءين. قال أبو الفتح: القراءة المجمع عليها: {فِي يَتَامَى النِّسَاءِ} بياء وتاء بعدها. ولا يجوز قلب التاء هنا ياء. والقول عليه -والله أعلم- أنه أراد أَيامى، فأبدل الهمزة ياء، فصارت "يَيامى"، وقلبت الهمزة ياء كما قلبت الهمزة ياء في قولهم: "قطع الله أَدْيَه"، يريدون: يده، فرد لام الفعل، وأعاد العين إلى سكونها؛ فصارت يَدْيَه، ثم أبدل الياء همزة فصارت أَدْيه، ولم أسمع هذا إلا من جهته، وأيًّا ما كان فقد قُلب الياء همزة. ونظير قلب الهمزة في "أَيامى" إلى الياء حتى صارت "يَيامى" قولهم: باهلة بن يعصُر، فالياء فيه بدل من همزة أَعصُر؛ وذلك لأنه يقال: باهلة بن أَعصُر2 ويعصُر، وإنما سُمي أعصر ببيت قاله: أبُنَي إن أباك غيَّر لونَه ... كرُّ الليالي واختلاف الأعصر3 فهذا دليل على كون "46ظ" الهمزة أصلًا والياء بدل منها. وأما "أَيامى" فقالوا: إنها جمع أَيِّم، وأصلها عندهم أيائم كسيد وسيائد، كذا رواها ابن الأعرابي: سيد وسيائد بالهمز كما ترى، وفي هذا شاهد لقول سيبويه: إنه متى اكتنف ألف التكسير حرفا علة أَيَّيْنِ كانا وجاور الآخر منهما الطرف فإنه يهمز. وشاهد ذاك أيضًا ما رواه أبو عثمان عن الأصمعي: أنهم قالوا: عيِّل وعيائل بالهمز. وحكى أبو زيد:" سَيِّقة4 وسيائق بالهمز. وكان أبو علي يُسَر بما حكاه أبو زيد من همز سيائق، ولم يقع له إذ ذاك ما حكيناه عن ابن الأعرابي من همز سيائد، ولا كان إذا ذاك وقع هذا الحرف إليَّ فأذكره له، كأشياء كانت تخطر لي أو تنتهي إليَّ فأحكيها له، فنقع مواقعها المرضية عنده. ومذهب أبي الحسن بخلاف ذلك، فلما صارت إلى أَيائم قُدِّمت اللام وأُخرت العين فصارت "أَيامِي"، ثم أبدلت من الكسرة فتحة ومن الياء ألف فصارت "أَيامَى"، ووزنها الآن فيالع، وأصلها أَيائِم فياعل؛ لأن أَيما فيْعِل، هذا مذهب الجماعة في أيِّم وأَيامى.
ولو ذهب به ذاهب إلى ما أذكره لم أرَ به بأسًا؛ وذلك أنه كأنه كسَّر آيِم فاعِل على فَعْلى، وهو أَيْمَى، من حيث كانت الأَيْمَة بليَّة ندفع إليها، فجرى مجرى هالك وهلكى، ومائد وميدى1، وجريح وجرحى، وزمن وزمنى، وسكران وسكرى، ثم كُسرت أيمى على أيامى، فوزن أيامى الآن على هذا فَعالى، ولا قلب فيها. وأنت إذا سلكت هذه الطريق أحرزت غنمين، وكُفيت مئونتين: إحداهما: أن تكون الكلمة على أصلها لم تقلب ولم يغير شيء من حروفها، والآخر: أنه لو كان الأصل "أيائم" لجاز؛ بل كان الوجه أن يُسمع؛ وإنما المسموع أيامى كما ترى، فاعرف ذلك، "فالييامى" على هذا القول فعالى، تكسير أَيْمَى على فَعْلَى، كهَلْكَى. وعلى القول الآخر فيالِع. ومما كُسِّر على فَعْلى ثم كسرت فعلى على فَعالى ما رويناه عن أبي بكر محمد بن الحسن عن أبي العباس أحمد بن يحيى في أماليه من قول بعضهم: مثل القتالى في الهشيم البالي2 فهذا تكسير قتيل على قَتْلى، ثم قَتْلى على قَتَالى. ومن ذلك قراءة عاصم الجحدري: "أَنْ يَصَّلِحَا"3. قال أبو الفتح: أراد: يصطلحا أي يفتعلا، فآثر الإدغام فأبدل الطاء صادًا، ثم أدغم فيها الصاد التي هي فاء، فصارت يصَّلحا، ولم يجز أن تبدل الصاد طاء لما فيها من امتداد الصفير، ألا ترى أن كل واحد من الطاء وأختيها والظاء وأختيها يُدغمن في الصاد وأختيها، ولا يدغم واحدة منهن في واحدة منهن؟ فلذلك لم يجز "إلا أن يَطَّلحا"، وجاز "يصَّلحا".
ومن ذلك قراءة أبي عبد الرحمن في رواية عطاء عنه وقراءة عاصم الجحدري أيضًا: "وملائكتِه وكتابِه"1 على التوحيد. قال أبو الفتح: اللفظ لفظ الواحد والمعنى معنى الجنس؛ أي: وكتبه، ومثله قوله سبحانه {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} 2 "47و" أي: كتبنا، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} 3، وقال تعالى: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} 4، فلكل إنسان كتاب، فهي جماعة كما ترى، وقد قال: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} . ووقوع الواحد موقع الجماعة فاشٍ في اللغة، قال الله تعالى: {نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} 5 أي: أطفالًا، وحَسَّن لفظ الواحد هنا شيء آخر أيضًا؛ وذلك أنه موضع إضعاف للعباد وإقلال لهم، فكان لفظ الواحد لقلته أشبه بالموضع من لفظ الجماعة؛ لأن الجماعة على كل حال أقوى من الواحد، فاعرف ذلك. ومن ذلك قراءة عبد الله بن أبي إسحاق6 والأشهب العقيلي: "يُرَءُّون الناس"7، مثل يُرَعُّون، والهمزة بين الراء والواو من غير ألف. قال أبو الفتح: معناه يُبصِّرون الناس، ويحملونهم على أن يروهم يفعلون ما يتعاطونه، وهي أقوى معنى من "يُراءُون" بالمد على يفاعِلون؛ لأن معنى يراءونهم يتعرضون لأن يروهم، و"يُرَءُّونهم" يحملونهم على أن يروهم. قال أبو زيد: رأت المرأة الرجل المرآة إذا أمسكتها له ليرى وجهه، ويدلك على أن يرائي أضعف معنى من يُرَئِّي قوله: تَرَى أو تُرَاءَى عند معقد غرزها ... تهاويل من أجلاد هِرٍّ مووَّم8
ومن ذلك قراءة ابن عباس وعمرو بن فايد1: "مُذَبْذِبِين"2 بكسر الذال الثانية. قال أبو الفتح: هو من قوله: خيالٌ لأمِّ السلسبيل ودونه ... مسيرة شهر للبريد المذبذِب3 أي: المهتز القلق الذي لا يثبت في مكان، فكذلك هؤلاء: يخِفُّون تارة إلى هؤلاء وتارة إلى هؤلاء، فهو مثل قوله: {لَا إِلَى هَؤُلاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلاءِ} 4، وهو من ذَبَّبْتُ عن الشيء: أي صرفت عنه شيئًَا يريده إلى غير جهته، وقريب من لفظه، إلا أنه ليس من لفظه، كما يقول البغداديون وأبو بكر معهم؛ وذلك أن ذَبَّبْتُ من ذوات الثلاثة، وذبذب من مكرر الأربعة، فهو كقولهم: عين ثرّة وثرثارة، وهو كثير في معناه. وقد ذكرنا ذلك في كتابنا المنصف. ومن ذلك قراءة ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك5 بن مزاحم وزيد بن أسلم6 وعبد الأعلى بن عبد الله بن مسلم بن يسار وعطاء بن السائب7 وابن يسار: "إِلَّا مَنْ ظَلَمَ"8 بفتح الظاء واللام. قال أبو الفتح: ظَلَم وظُلِم جميعًا على الاستثناء المنقطع؛ أي: لكن من ظلم فإن الله لا يخفى عليه أمره، ودل على ذلك قوله: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} . ومن ذلك قراءة مالك بن دينار وعيسى الثقفي وعاصم الجحدري: "والمقيمون"9 بواو.
قال أبو الفتح: ارتفاع هذا على الظاهر الذي لا نظر فيه؛ وإنما الكلام في "المقيمين" بالياء، واختلاف الناس فيه معروف، فلا وجه للتشاغل بإعادته؛ لكن رفعه في هذه القراءة يمنع من توهمه مع الياء مجرورًا؛ أي: يؤمنون بما أَنزل إليك وبالمقيمين الصلاة، وهذا واضح. ومن ذلك قراءة إبراهيم: "وَكَلَّمَ اللَّهَ مُوسَى"1 اسم الله نصب. قال أبو الفتح: يشهد لهذه قوله -جل وعز- حكاية عن موسى: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} 2، وغير من الآي "47ظ" التي فيه كلامه لله تعالى. ومن ذلك قراءة العامة: {سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} 3 بالفتح، وقراءة الحسن: "إِنْ يَكُونُ" بكسر الألف. قال أبو الفتح: هذه القراءة توجب رفع يكون، ولم يذكر ابن مجاهد إعراب يكون؛ وإنما يجب رفعه لأن "إن" هنا نفي كقولك: ما يكون له ولد، وهذا قاطع. ومن ذلك قراءة مسلمة: "فَسَيَحْشُرْهُمْ"4 "فَيُعَذِّبْهُم" ساكنة الراء والباء. قال أبو الفتح: قد سبق نحو هذا، وأنه إنما يسكن استثقالًا للضمة. نعم، وربما كان العمل خَلْسًا فظُن سكونًا، وقد سبقت شواهد السكون بما فيه.
سورة المائدة
سورة المائدة: بسم الله الرحمن الرحيم من ذلك قراءة الحسن وإبراهيم ويحيى بن وَثَّاب: "وَأَنْتُمْ حُرْم"1 بإسكان الراء. قال أبو الفتح: هذه اللغة تميمية، يقول في رُسُل: رُسْل، وفي كُتُب: كُتْب، وفي دجاج بُيُض2: دجاج بِيض؛ وذلك أنه صار إلى فُعْل، فجرى مجرى جمع أبيض إذا قلت: بِيض. واعلم من بعد هذا أن إسكان "حُرْم" كأن له مزية على إسكان كُتُب؛ وذلك أن في الراء تكريرًا، فكادت تكون الراء الساكنة لما فيها من التكرير في حكم المتحركة لزيادة الصوت بالتكرير نحوًا من زيادته بالحركة، وكذلك الكلام في جِراب وجُرُب وسِراج وسُرُج، وكذلك القول فيما جاء عنهم من تكسير فرد على أفراد، فيه هذا المعنى الذي ذكرناه؛ وذلك أن التكرير في راء فرد كاد يكون كالحركة فيها فصار "فَرْد" وإن كان فَعْلًا ساكن العين، كأنه فَعْلٌ محركها، وقد تقصيت في هذا كتاب المحاسن وبسطته هناك ونظائره. ومن ذلك قراءة أبي واقد والجراح ونُبَيْج والحسن بن عمران: "فِاصْطادُوا"3 بكسر الفاء. قال أبو الفتح: هذه القراءة ظاهرة الإشكال؛ وذلك أنه لا داعي إلى إمالة فتحة هذه الفاء كما أُميلت فتحة الراء الأولى من الضرر لكسرة الثانية، وكما أُميلت فتحة النون من قولهم: "وإنا إليه راجعون"؛ لكسر الهمزة، ونحو ذلك. فمن هنا أَشْكل أمر هذه الإمالة، إلا أن هنا ضربًا من التعلل صالحًا؛ وهو أنه لك أن تقول: فاصطادوا، فتميل الألف بعد الطاء إذ كانت منقلبة عن ياء الصيد، فإن قلت: فهناك الطاء، فهلَّا منعت الإمالة، وكذلك الصاد.
قيل: إن حروف الاستعلاء لا تمنع الإمالة في الفعل؛ إنما تمنع منها في الاسم، نحو: طالب وظالم، فأما في الفعل فلا، ألا تراهم كيف أمالوا طغى وقضى وهناك حرفان مستعليان مفتوحان؟ وسبب ذلك إيغال الأفعال في الاعتلال، وأنها أقعد فيه من الأسماء. فإن قلت: فإنه لم يُحكَ في الطاء إمالة. قيل: هي وإن لم تسمع معرضة، والكلمة لها معرضة فكأنها لذلك ملفوظ، كما أن مَن قال في الوقف هذا ماشْ، فأمال مع سكون الشين نظرًا إلى الكسرة إذا وصل فقال: هذا ماش، وكما أن من قال: أغزيت نظر إلى وجوب الياء في "48و" المضارع لانكسار ما قبل الواو في يُغزى، وكما أن من أعلَّ يخاف وأصلها يَخْوَفُ نظر إلى اعتلالها في الماضي وأصلها خَوِف، ولولا ذلك لوجب أَغْزَوْتُ ويَخْوَفُ؛ لأنه لا علة فيهما في مكانهما، وكما أن من قال في الإضافة إلى الصِّعِق1 صِعْقِي أقر كسرة الصاد مع فتحة العين نظرًا إلى أصل ما كان عليه من كسرة العين، ولذلك نظائر. وإن شئت قلت: لما كان يقول في الابتداء: اصطادوا، فيكسر همزة الوصل، نظر إليها بعد حذف الهمزة فقال: "فِاصطادوا" تصورًا لكسرة الهمزة إذا ابتدأت فقلت: اصطادوا. فهذا وجه ثانٍ لما مضى. ومن ذلك قراءة ابن مسعود: "وَلا يُجْرِمَنَّكُم" بضم الياء "شَنَآنُ قَوْمٍ إِنْ يصَدُّوكُمْ"2 بكسر الألف. قال أبو الفتح: في هذه القراءة ضعف؛ وذلك لأنه جزم بإن ولم يأتِ لها بجواب مجزوم أو بالفاء، كقولك: إن تزرني أعطك درهمًا أو فلك درهم، ولو قلت: إن تزرني أعطيتك درهمًا قبح لما ذكرنا؛ وإنما بابه الشعر: إن يسمعوا رِيبة طاروا لها فرحًا ... يومًا وما سمعوا من صالح دفنوا3
ومن ذلك قراءة ابن عباس: "وأَكيلُ السَّبُع"1. قال أبو الفتح: ذهب بالتذكير إلى الجنس والعموم، حتى كأنه قال: وما أكل السبع، ولو قال ذلك لما كان لفظ "ما" إلا إلى التذكير، والأَكيل هنا إذن يصلح للمذكر والمؤنث، وأما الأَكيلة فكالنطيحة والذبيحة، اسم للمأكول والمنطوح كالضحية والبلية في قوله: مثل البليَّة قالصا أهدامُها2 فنقول على هذا: مررت بشاة أكيل؛ أي: قد أكلها السبع ونحوه، وتقول: ما لنا طعام إلا الأَكلية؛ أي: الشاة أو الجزور المعدة لأن تؤكل، فإن كانت قد أُكلت فهي أَكيل بلا هاء، وكذلك أَكيل السبع هنا ما قد أَكل السبع بعضه. ومن ذلك قراءة يحيى وإبراهيم: "غَيْرَ مُتَجَنِّفٍ لإِثْمٍ"3 بغير ألف. قال أبو الفتح: كأن متجنفًا أبلغ وأقوى معنى من متجانف؛ وذلك لتشديد العين، وموضوعها لقوة المعنى بها نحو تَصوَّن هو أبلغ من تصاون؛ لأن تصون أوغل في ذلك، فصح له وعرف به، وأما تصاون فكأنه أظهر من ذلك وقد يكون عليه، وكثيرًا ما لا يكون عليه، ألا ترى إلى قوله: إذا تخازرتُ وما بي من خَزر4 فصار متجنِّف بمعنى مُتَمَيِّل ومتَثنٍّ، ومتجانف كمتمايل، ومتأَوِّد أبلغ من متاوِد، وعليه قراءة عبد الله بن أبي إسحاق والأشهب العُقيلي: "يُرَءُّون الناس"؛ أي: يُكرهونَهم على أن يروهم على ما يتجمَّلون به، ويراءُون يتصنعون لذلك فربما تم لهم، وقد ذكرنا ذلك فيما مضى من كتابنا هذا.
ومن ذلك قراءة أبي رزين: "مُكْلِبين"1 ساكنة الكاف. قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون "مُكْلبين" من قولهم: آسدتُ الكلب؛ أي: أغريته، وكذلك إكلاب الجوارح هو إغراؤها بالصيد وإسآدها عليه2 ليكون كالكلب الكلِب، كلِب وأكلبته كضرِي "48ظ" وأضريته، وغَرِي وأغريته، وأَسِدَ وآسدته، وعَرِص وأعرصته3، وهَبِصَ وأَهْبَصْتُه4. ومن ذلك ما رواه عمرو عن الحسن: "وَأَرْجُلُكُم"5 بالرفع. قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون رفعه بالابتداء والخبر محذوف، دل عليه ما تقدمه من قوله سبحانه: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} أي: وأرجلُكم واجبٌ غسلُها، أو مفروض غسلُها، أو مغسولة كغيرها، ونحو ذلك. وقد تقدم نحو هذا مما حذف خبره لدلالة ما هناك عليه، وكأنه بالرفع أقوى معنى؛ وذلك لأنه يستأنف فيرفعه على الابتداء، فيصير صاحب الجملة، وإذا نصب أو جر عطفه على ما قبله، فصار لَحَقا وتبعًا، فاعرفه. ومن ذلك قراءة الجحدري: "وَعَزَرْتُمُوهُمْ"6 خفيفة. قال أبو الفتح: عزَرت الرجل أعزِرُه عَزْرًا: إذا حُطتَه وكنفتَه، وعزَّرْتُه: فخَّمت أمره وعظمته، وكأنه لقربه من الأزر وهو التقوية معناه أو قريبًا منه، ونحوه عَزَر7 اللبنُ وحَزَر: إذا حمَض فاشتد، فانظر إلى تلامح كلام العرب واعْجَبْ. ومن ذلك قراءة سعيد بن جبير8 ومجاهد: "قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يُخَافُونَ"9 بضم الياء. قال أبو الفتح: يحتمل أمرين: أحدهما: أن يكون من المؤمنين الذين يُرْهَبون ويُتَّقَوْن
لما لهم في نفوس الناس من العفة والورع والستر؛ وذلك أنه مَن كان في النفوس كذلك رُهب واحتُشم وأُطيع وأُعظم؛ لأن من أطاع الله سبحانه أُكرم وأُطيع، ومن عصاه امتُهن وأُضيع. والآخر: أن يكون معناه من الذين إذا وُعِظُوا رَهِبُوا وخَافُوا، فإذا أتاهم الرسول بالحق أطاعوا وخضعوا؛ أي: ليسوا ممن يركب جهله ولا يُصغي إلى ما يُحد له، فيكون كقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} 1، وكقوله تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} 2، ونحو ذلك من الآي الدالة على رهبة المؤمنين وطاعتهم، فهذا إذن من أُخِيفَ والأول من خِيف. ومن ذلك قراءة الحسن بن عمران وأبي واقد والجراح، ورُويت عن الحسن: "فطَاوَعَتْ له نَفْسُهُ"3. قال أبو الفتح: ينبغي -والله أعلم- أن يكون هذا على أن قَتْل أخيه جذبه إلى نفسه ودعاه إلى ذلك، فأجابته نفسه وطاوعته. وقراءة العامة: {فَطَوَّعَتْ لَهُ} أي: حسنته له وسهلته عليه. ومن ذلك قراءة طلحة بن سليمان: "فَأُوَارِي سَوْءَةَ أَخِي"4 بسكون الياء في "أوارِي". قال أبو الفتح: قد سبق القول على سكون هذه الياء في موضع النصب في نحو قوله: كأن أيديهن بالْمَوْماةِ ... أيدي جوارٍ بِتْنَ ناعماتِ5 وقول أبي العباس: إنها من أحسن الضرورات. ومن ذلك قراءة أبي جعفر يزيد: "مِنِ اجْلِ ذَلِكَ"6 غير مهموز والنون مكسورة. قال أبو الفتح: يقال: فعلت ذلك من أَجلك ومن إِجْلِك بالفتح والكسر، ومن إجلاك ومن جلَلِك ومن جلالِك ومن جَرَّاك، فيجب على هذا أن تكون قراءة أبي جعفر: "مِنِ اجْلِ ذَلِكَ"
على تخفيف همزة "إِجْل" بحذفها وإلقاء حركتها على نون مِن، كقولك في تخفيف: كم إبلُك "49و": كم بِلُك، وفي من إبراهيم: منِ بْراهيم، وهو واضح. ومن ذلك قراءة الحسن: "مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادًا فِي الْأَرْضِ"1 بنصب الفساد. قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون ذلك على فعل محذوف يدل عليه أول الكلام؛ وذلك أن قتل النفس بغير النفس من أعظم الفساد، فكأنه قال: قال أو أتى فسادًا، أو ركب فسادًا، أو أحدث فسادًا. وحذفُ الفعل الناصب لدلالة الكلام عليه وإبقاء علمه ناطقًا به ودليلًا عليه مع ما يدل من غيره عليه -أكثرُ من أن يؤتى بشيء منه مع وضوح الحال به، إلا أن منه قول القطامي: فكرت تبتغيه فوافقته ... على دمه ومَصرَعِه السباعا2 فنصب السباع لأنها داخلة في الموافقة، ألا تراها إذا وافقت السباع على دمه فقد دخلت السباع في الموافقة، فيصير كأنه قال: وافقت السباع؟ وهو عندنا بعد على حذف المضاف؛ أي: آثار السباع؛ لأنها لو صادفت السباع هناك لأكلتها أيضًا، وهناك مضاف آخر محذوف؛ أي: صادفت السباع على أشلائه وبقاياه، لأنها إذا وافقت آثار السباع على دمه ومصرعه؛ فإنما وافقت بقاياه لا جميعه. وسمعت سنة خمس وخمسين غلامًا حدثًا من عُقيل ومعه سيف في يده، فقال له بعض الحاضرين وكنا مُصْحِرين: يا أعرابي، سيفك هذا يقطع البطيخ؟ فقال: إي والله وغواربَ الرجل، فنصب الغوارب على ذلك؛ أي: ويقطع غواربَ الرجال. ومن ذلك قراءة يحيى وإبراهيم والسلمي: "أَفَحُكْمُ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ"3 بالياء ورفع الميم.
قال ابن مجاهد: وهو خطأ. قال: وقال الأعرج: لا أعرف في العربية "أفحكمُ"، وقرأ: "أفحكمَ" نصبًا. وقرأ الأعمش: "أفَحكَمَ الجاهلية"1 بفتح الحاء والكاف والميم. قال أبو الفتح: قول ابن مجاهد إنه خطأ فيه سرف؛ لكنه وجه غيره أقوى منه، وهو جائز في الشعر، قال أبو النجم: قد أصبحَتْ أَمُّ الخيار تدَّعي ... عليَّ ذنبًا كلُّه لم أصنع2 أي: لم أصنعه، فحذف الهاء. نعم، ولو نصب فقال: "كلَّه" لم ينكسر الوزن، فهذا يؤنسك بأنه ليس للضرروة مطلقة؛ بل لأن له وجهًا من القياس، وهو تشبيه عائد الخبر بعائد الحال أو الصفة، وهو إلى الحال أقرب؛ لأنها ضرب من الخبر، فالصفة كقولهم: الناس رجلان: رجل أكرمت ورجل أهنت؛ أي: أكرمته وأهنته، والحال كقولهم: مررت بهند يضرب زيد؛ أي: يضربها زيد، فحذف عائد الحال وهو في الصفة أمثل؛ لشبه الصفة بالصلة في نحو قولهم: أكرمت الذي أهنت؛ أي: أهنته، ومررت بالتي لقيتُ؛ أي: لقيتها، فغير بعيد أن يكون قوله: "أَفَحُكْمُ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ" يراد به يبغونه، ثم يُحْذَف الضمير، وهذا وإن كانت فيه صنعة فإن ليس بخطأ. وفيه من بَعْدِ هذا شيئان نذكرهما: الأول: وهو أن قوله: "كله لم أصنع" وإن كان قد حذف منه الضمير، فإنه قد خلفه وأُعيض منه ما يقوم مقامه في اللفظ؛ لأنه يعاقبه ولا يجتمع معه، وهو حرف الإطلاق؛ أعني: الياء في "أصنعي"، فلما حضر ما يعاقب الهاء فلا يجتمع معها صارت لذلك كأنها حاضرة "49ظ" غير محذوفة، فهذا وجه. والثاني: أن هناك همزة استفهام، فهو أشد لتسليط الفعل، ألا ترى أنك تقول: زيد ضربته فيختار الرفع، فإذا جاء همزة الاستفهام اخترت النصب ألبتة، فقلت: أزيدًا ضربته، فنصبته بفعل مضمر يكون هذا الظاهر تفسيرًا له. فإذا قلت: "أفحكمَ الجاهلية تبغون" ولم تُعد ضميرًا ولا عوضت منه ما يعاقبه، وحرف الاستفهام
الذي يختار معه النصب والضمير ملفوظ به موجود معك، فتكاد الحال تختلف على فساد الرفع، وبإزاء هذا أنه لو نصب فقال: "كلَّه لم أصنع" لما كَسَر وزنًا، فهذا يؤنسك بالرفع في القراءة. وإن شئت لم تجعل قوله "يبغون" خبرًا؛ بل تجعله صفة خبر موصوف محذوف، فكأنه قال: أفحكمُ الجاهلية حكمٌ يبغونه، ثم حذف الموصوف الذي هو حكم، وأقام الجملة التي هي صفته مقامه؛ أعني: يبغون، كما قال الله سبحانه: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} 1 أي: قوم يحرفون، فحُذف الموصوف وأُقيمت الصفة مقامه، وعليه قوله: وما الدهر إلا تارتان فمنهما ... أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح2 أي: فمنهما تارة أموت فيها، فحذف تارة وأقام الجملة التي هي صفتها نائبة عنها فصار أموت فيها، ثم حذف حرف الجر فصار التقدير أموتها، ثم حذف الضمير فصار أموت. ومثله في الحذف من هذا الضرب؛ بل هو أطول منه: تروَّحي يا خيرَةَ الفَسيلِ ... تروَّحي أجدرَ أن تقيلي3 أصله: ائتي مكانًا أجدر بأن تقيلي فيه، فحذف الفعل الذي هو "ائتي" لدلالة تروحي عليه، فصار مكانًا أجدر بأن تقيلي فيه، ثم حذف الموصوف الذي هو مكانًا فصار تقديره أجدر بأن تقيلي فيه، ثم حذف الباء أيضًا تخفيفًا فصار أجدر أن تقيلي فيه، ثم حذف حرف الجر فصار أجدر أن تقيليه، ثم حذف العائد المنصوب فصار أجدر أن تقيلي. ففيه إذن خمسة أعمال؛ وهي: حذف الفعل الناصب، ثم حذف الموصوف، ثم حذف الباء، ثم حذف "في"، ثم حذف الهاء، فتلك خمسة أعمال. وهناك وجه سادس؛ وهو أن أصله: ائتي مكانًا أجدر بأن تقيلي فيه من غيره، كما تقول: مررت برجل أحسن من فلان، وأنت أكرمُ عليَّ من غيرك. فإذا جاز في الكلام توالي هذه الحذوف ولم يكن معيبًا ولا مَشِينًا ولا مُستكرَهًا كان حذف الهاء من قوله تعالى: "أَفَحُكْمُ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ"، والمراد به حكمٌ يبغونه، ثم حذف الموصوف وعائده أسوغ وأسهل وأسير. وأما قوله:
"أَفَحَكَمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ" فيمن قرأه كذلك، فأمره ظاهر في إعرابه، غير أن "حَكَمًا" هنا ليس مقصودًا به قصد حاكم بعينه؛ وإنما هو بمعنى الشِّياع والجنس؛ أي: أفحكامَ الجاهلية يبغون؟ وجاز للمضاف أن يقع جنسًا كما جاء عنهم في الحديث من قولهم: منعت العراق قَفِيزها1 ودرهمها، ومنعت مصر إردبها، وله نظائر. ثم يرجع المعنى من بعد إلى أن معناه معنى: "أَفَحُكْمُ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ"؛ لأنه ليس المراد والْمَبْغيّ هنا نفس "50و" الحكام، فإنما المبغي نفس الحُكْم، فهو إذن على حذف المضاف؛ أي: أفحُكمَ حَكَمِ الجاهلية يبغون؟ وهذا هو الأول في المعنى، فاعرف ذلك. ومن ذلك قراءة يحيى وإبراهيم: "فَيرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ"2 بالياء. قال أبو الفتح: فاعل يرى مضمر دلت عليه الحال؛ أي: فيرى رائيهم ومتأمِّلُهم، والذين في موضع نصب كقراءة الجماعة، وقد كثر إضمار الفاعل لدلالة الكلام عليه، كقولهم: إذا كان غدًا فائتني؛ أي: إذا كان ما نحن عليه من البلاء في غد فائتني، وهو كثير، ودل عليه أيضًا القراءة العامة؛ أي: فترى أنت يا محمد -أو يا حاضر- الحال الذين في قلوبهم مرض يسارعون في ولاء المشركين ونصرهم. ومن ذلك قراءة الحسن وابن هُرْمُز وابن عمران ونُبيج وابن بريدة: "مَثْوبة"3 ساكنة الثاء. قال أبو الفتح: هذا مما خرج على أصله، شاذًّا عن بابه وحال نظائره، ومثله مما يحكى عنهم من قولهم: الفُكاهة مَقْوَدةٌ إلى الأذى، وقياسهما مَثابة ومَقادة، كما جاء عنهم من منامة وهي القطيفة، ومزادة، ومثله مزْيد، وقياسه مزاد، إلا أن مَزْيَدًا عَلَم، والأعلام قد يحتمل فيها ما يكره في الأجناس، نحو: مَحبب ومَكوزة ومريم ومدين ومعد يكرب ورجاء بن حيوة، ومنه: موظب ومورق اسم رجلين، ومَثْوَبة مَفْعَلةٌ ومَثُوبة مَفْعُلة، ونظيرها الْمَبْطَخة والْمَبْطُخة والمشرَفة والمشرُفة، وأصل مَثُوبَة مَثْوُبَة، فنقلت الضمة من الواو إلى الثاء، ومثلها معونة. وأما مئونة
فمختلف فيها، فمذهب سيبويه أنها فَعُولة من مُنت الرجل أَمونه، وأصلها مَوُونة بلا همز، كما تقول في فَعول من القيام: قَوُوم، ومن النوم: نَوُوم، ثم تُهمز الواو استحسانًا للزوم الضمة لها؛ فتصير مئونة. وقال غيره: هي مَفْعُلة من الأَوْن؛ وهو الثِّقْل من قول رؤبة: سِرًّا وقد أوَّن تأْوينَ العُقُق1 أي: ثقلت أجوافهن فصار كأن هناك أَونَين؛ أي: عِدْلين، فمئونة على هذا كمعونة، هذا من الأَوْن، وهذا من الْمَوْن، وأجاز الفراء أن تكون من الأَيْن -وهو التعب- من حيث كانت المئونة ثِقْلًا على ملتزها، فسلك الفراء في هذا مذهب أبي الحسن في قوله في مَفْعُلَة من البيع: مَبْوُعَة، وحجته في هذا ما سمع منهم في قول الشاعر: وكنتُ إذا جارِي دَعَا لمضوفة ... أُشَمِّر حتى يَنْصُفَ الساقَ مئزري2 وهي من الضيف. والكلام هنا يطول، وقد أشبعناه في كتابنا المنصف3. ومن ذلك ما يُروى في قول الله تعالى: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} 4، وهو عشر قراءات: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} على فَعَل ونصب الطاغوت. "وعَبُدَ الطاغوتِ" بفتح العين، وضم الباء، وفتح الدال، وخفض الطاغوت، وهما في السبعة. ابن عباس، وابن مسعود، وإبراهيم النخعي، والأعمش، وأبان بن تغلب، وعلي بن صالح، وشيبان: "وعُبُد الطاغوتِ"بضم العين والباء، وفتح الدال، وخفض الطاغوت. وروى عكرمة عن ابن عباس: "وعُبَّدَ الطاغوتِ" "50ظ" بضم العين، وفتح الباء وتشديدها، وفتح الدال، وخفض الطاغوت.
وأبو واقد: "وعُبَّادَ الطاغوتِ"، و"وعِبَادَ الطاغوتِ" قراءة البصريين1. وقال معاذ: قرأ بعضهم: "وعُبِدُ الطاغوتُ"، كقولك: ضُرب زيد لم يسم فاعله. وقرأ عون العقيلي2 وابن بُرَيدة: "وعابِدَ الطاغوتِ". وقرأ أبي بن كعب: "وعَبدُوا الطاغوتَ" بواو. وقرأ ابن مسعود فيما رواه عبد الغفار عن علقمة3 عنه: "وعُبَدَ الطاغوتِ" كصُرد. قال أبو الفتح: أما قوله: "وعَبد الطاغوتَ" فماض معطوف على قوله سبحانه: "وَجَعَلَ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ". وأما "وعَبُد الطاغوتِ" فاسم على فَعُل. قال أبو الحسن: جاء به نحو حَذُر وفَطُن. قال: وأما "وعُبُدَ" فجمع عبيد، وأنشد: انسب العبدَ إلى آبائه ... أسود الجلد ومن قوم عُبُد4 هكذا قال أبو الحسن، وقد يجوز أن يكون عُبُد جمع عَبْد، كرَهْن ورُهُن، وسَقْف وسُقُف، ومن جهة أحمد بن يحيى: عُبُد جمع عابد، وهذا صحيح، كبازل وبُزُل، وشارف وشُرُف. وقال أبو الحسن: والمعنى -فيما يقال- خَدمُ الطاغوت. وأما "عُبَّد الطاغوت" فجمع عابد، ومثله عُبَّاد، كضارب وضُرَّب وضُرَّاب، وعليه القراءتان: "عُبَّد الطاغوت" و"عُبَّاد الطاغوت"، وعليه قراءة من قرأ: "وعِبَادَ الطاغوت"، عابد وعباد، كقائم وقيام، وصائم وصيام. وقد يجوز أن يكون "عِبَادَ الطاغوت" جمع عَبْد، وقلما يأتي عِباد مضافًا إلى غير الله. وقد أنشد سيبويه: أتوعدني بقومك يابن حَجْل ... أُشَاباتٍ يُخالون العِبادَا5
يريد: عبيدًا لبني آدم، ولا يجوز أن يكون في المعنى عباد الله، لأن هذا ما لا يُسب به أحد، والناس كلهم عباد الله تعالى1، وأما قول الآخر: لا والذي أنا عبد في عبادته ... لولا شماتة أعداء ذوي إحن ما سرني أنَّ إبْلي في مبارِكها ... وأن شيئًا قضاه الله لم يكن فيحتمل أن يكون جمع عبد، إلا أنه أنثه فصار كَذِكارة2 وحجارة وقصارة، جمع قصير. ويجوز أن تكون العبادة هنا مصدرًا؛ أي: أنا عبد في طاعته. وأما "عُبِدَ الطاغوتُ" فظاهر، وعليه قراءة أُبي: "وَعَبَدُوا الطَّاغُوتَ" بواو. وأما "وعابِدَ الطاغوتِ" فهو في الإفراد كعبد الطاغوت، واحد في معنى جماعة على ما مضى. وعليه أيضًا: "وعُبَد الطاغوتِ" لأنه كحُطَم3 ولُبَد4، كما أن عبُدًا كندُسٍ5 وحذُرٍ ووظيف عَجُرٍ6، ومن جهة أحمد بن يحيى "وعَبُدَ الطاغوتُ" أي: صار الطاغوتُ معبودًا؛ كفقُه الرجل وظرف: صار فقيهًا وظريفًا، ومن جهته أيضًا: "وعبدَ الطاغوتِ" وقال: أراد عبَدَة فحذف الهاء، قال: ويقال: عَبَدة الطاغوتِ والأوثان، ويقال للمسلمين: عُبَّاد. ومن ذلك قراءة الحسن والزهري: "والصَّابِيُون"7 يثبت الياء ولا يهمز. وقرأ: "الصابُون" بغير همز ولا ياء أبو جعفر وشيبة، و"الخاطون"8 و"مُتَّكُون"9. قال أبو الفتح "51و": أما "الصابيون" بياء غير مهموزة، فعلى قياس قول أبي الحسن في "يستهزئون": يَستهزيُون بياء غير مهموزة، ويحتمل ذلك فيها لتقدير الهمزة في أصلها؛ فيكون ذلك فرقًا بينها وبين ياء يَسْتَقْضُون، ألا ترى أن أصله يستقضِيوه، كما فرَّق
أبو الحسن بقوله في مثل عنكبوت من قرأت: قرْأَيوُت بضمة الياء بينه وبين مثال عنكبوت من رميت رَمْيَوُوت. وأصلها رَمْيَيُوت، وقد مضى هذا في موضعه. وأما "الصابُونَ" و"مُتَّكُون" فعلى إبدال الهمزة ألبتة، فصارت كالصابون من صبوت، وكمتَجَنُّون من تَجَنَّيْتُ، والوجه أن يكون الصابيون بلا همز تخفيفًا لا بدلًا، وإن جعلته بدلًا مُراعي به أولية حاله كقرْأَيوت جاز أيضًا. ومن ذلك قراءة عثمان وأُبي بن كعب وعائشة وسعيد بن جبير والجحدري رضي الله عنهم: "والصابِيين" بياء. قال أبو الفتح: الخطب في هذا أيسر من "الصابيون" بالرفع؛ لأن النصب على ظاهره؛ وإنما الرفع يحتاج إلى أن يقال: إنه مقدم في اللفظ مؤخر في المعنى على ما يقال في هذا، حتى كأنه قال: لا خوف عليهم ولاهم يحزنون والصابئون كذلك. ومن ذلك قراءة يحيى والنخعي: "ثُمَّ عُمُوا وَصُمُّوا"1 بضم العين والصاد. قال أبو الفتح: يجب أن يكون هذا على تقدير فُعِلَ، كقولهم: زُكِمَ وأزكمه الله، وحُمَّ وأَحَمَّه الله، فكذلك هذا أيضًا، جاء على عُمِي وصُمَّ، وأعماه الله وأصمه الله، ولا يقال: عَمَيتُه ولا صَممْته، كما لا يقال: زكَمه الله ولا حَمَّه، فاعرف ذلك. ومن ذلك قراءة جعفر بن محمد: "مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهَالِيكُمْ"2. قال أبو الفتح: يقال أَهل وأَهْلَة، قال: وأَهْلةِ وُدٍّ قد تَبَرَّيْتُ ودَّهم ... وأبليتهم في الحمد جهدي ونائلي3
فأما أهالٍ فكقولهم: ليالٍ؛ كأن واحدها أهلاة وليلاة، وقد مر بنا تصديقًا لقول سيبويه: فإن واحده في التقدير ليلاة -ما أنشده ابن الأعرابي من قوله: في كل يوم ما وكل ليلاهْ ... حتى يقول من رآه إذ رآهْ يا ويحه من جمل ما أَشقاهْ1 ومن ذهب إلى أن "أهالٍ" جمع أهلون فقد أساء المذهب؛ لأن هذا الجمع لم يأتِ فيه تكسير قط، قل الشنفرى: ولي دونكم أهلون سِيد عملَّسٌ ... وأرقط زهلول وعرفاء جيئل2 ونحو من ذلك أرض وأراضٍ، القول فيهما واحد، ويقال: أرض وأرَضُون وأَرْضون، بفتح الراء وتسكينها أيضًا. قال كعب بن معدان الأشقري: لقد ضجت الأَرْضون إذ قام من بنى ... هَداد خطيبٌ فوق أعواد منبر3 وحكى أبو زيد فيه: أَرَض، وقيل: آراض. وأسكن الياء من أهاليكم في موضع النصب تشبيهًا لها بالألف، وقد سبق مثل ذلك. ومن ذلك قراءة سعيد بن جبير ومحمد بن السميفغ: "أو كإِسْوتِهِم"4 من الإِسْوة. قال5 أبو الفتح: كأنه -والله أعلم- قال: أو كما يكفي مثلهم، فهو على حذف المضاف، أو ككفاية إسوتهم، وإن شئت جعلت الإسوة هي الكفاية ولم تحتج "51ظ" إلى حذف المضاف. ومن ذلك قراءة أبي عبد الرحمن: "فجزاءٌ"6 رفع منون، "مثلَ" بالنصب. قال أبو الفتح: "مثلَ" منصوبة بنفس الجزاء؛ أي: فعليه أن يجزِي مِثْلَ ما قَتَلَ، "فمثلَ" إذن
في صلة الجزاء، والجزاء مرفوع بالابتداء، وخبره محذوف؛ أي: فعليه جزاءٌ مثلَ ما قتل، أو فالواجب عليه جزاءٌ مثل ما قتل، فلما نوَّن المصدر أَعمله كقوله: بضربٍ بالسيوف رءوسَ قوم ... أزَلْنَا هَامَهُنَّ عن الْمَقيل1 ومن ذلك قراءة محمد بن علي وجعفر بن محمد: "يَحْكُمُ بِهِ ذُو عَدْلٍ مِنْكُمْ"2. قال أبو الفتح: لم يوحِّد ذو؛ لأن الواحد يكفي في الحكم؛ لكنه أراد معنى مَنْ؛ أي: يحكم به مَنْ يعدل، ومن تكون للاثنين كما تكون للواحد، نحو قوله: نَكُنْ مثلَ من يا ذئبُ يصطحبانِ3 ومن ذلك قراءة ابن عباس: "وحَرَّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدَ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حَرَمًا"4. قال أبو الفتح: معنى "حَرَمًا" راجع إلى معنى قراءة الجماعة "حُرُمًا"؛ وذلك أن الْحُرُم جمع حرام، والْحَرَم المحرَّم، فهو في المعنى مفعول، فجعلهم حَرَمًا؛ أي: هم في امتناعهم مما يمتنع منع الْمُحْرِم، وامتناع ذلك أيضًا منهم كالْحَرَم، فالمعنينان إذن واحد من حيث أَرينا. ومن ذلك قراءة إبراهيم: "قد سِالَهَا"5 بكسر السين. قال أبو الفتح: يعني ويريد الإمالة؛ لأن الألف لا يكون ما قبلها أبدًا إلا مفتوحًا، ووجه الإمالة أنه على لغة من قال: سِلتَ تسال، فهي في هذه اللغة كخفتَ تخاف، فالإمالة إذن إنما
جاءت لانكسار ما قبل اللام سِلت، كمجيئها في خاف1 لمجيء الكسرة في خاءِ خِفت، ويدلك على أن هذه اللغة من الواو لا من الهمزة ما حدثنا به أبو علي من قوله: هما يتساولان، وهذه دلالة على ما ذكرنا قاطعة. ومن ذلك قراءة الحسن: "لا يضُرْكُم"2، وقراءة إبرهيم: "لا يَضِرْكُم". قال أبو الفتح: فيها أربع لغات: ضاره يَضيره، وضاره يَضُوره، وضرَّه يَضُرَّه، وضَرَّه يَضِرَّه -بكسر الضاد وتشديد الراء- وهي غريبة؛ أعني: يفعِل في المضاعف متعدية، وقد ذكرناها وقراءة من قرأ: "لَنْ يَضِرُّوا اللَّهَ شَيْئًا"3، وجزم يَضُرْكم ويَضِرْكم لأنه جُعل جواب الأمر؛ أعني قوله: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} ، ويجوز أن تكون "لا" هنا نهيًا كقولك: لا تقم إذا قام غيرك، والأول أجود. ومن ذلك قراءة الأعرج والشعبي4 والحسن والأشهب: "شهادةٌ بَيْنَكم"5 رفع، وعن الأعرج بخلاف: "شهادةً بينَكم" نصب. قال أبو الفتح: أما الرفع بالتنوين فعلى سمت قراءة العامة {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} بالإضافة، فحذف التنوين فانجرَّ الاسم. وأما "شهادةً بينَكم" بالنصب والتنوين، فنصبها على فعل مضمر؛ أي: ليُقِمْ شهادةً بينكم اثنان ذوا عدل منكم، كما أن من رفع فنَوَّن أو لم يُنوِّن فهو على نحو من هذا؛ أي: مقيمُ شهادةِ بينِكم أو شهادةٍ بينَكم اثنان ذوا عدل منكم، ثم حُذف المضاف وأُقيم المضاف إليه مقامه. وإن شئت كان "25و" المضاف محذوفًا من آخر الكلام؛ أي: شهادةٌ بينَكم شهادةُ اثنين ذوَي عدل منكم؛ أي: ينبغي أن تكون الشهادة المعتمدة هكذا.
ومن ذلك قراءة علي -كرم الله وجهه- والشعبي بخلاف ونعيم بن ميسرة1: "شهادةً آلله"2. ورُوي عن الشعبي: "شهادةً أًللهِ" مقصور وينون شهادة. ورُوي عنه أيضًا: "شهادهْ آللهِ" مجزومة الهاء ممدودة الألف. ورُوي عنه "شهادهْ أللهِ" بجزم شهادة وقصر الله. فهذه أربعة أوجه رُويت عن الشعبي، وتابعه على "شهادةً أَللهِ" السلمي ويحيى وإبراهيم وسعيد بن جبير ويحيى بن يعمر والحسن والكلبي. قال أبو الفتح: أما "شهادةً" فهي أعم من قراءة الجماعة: {شَهَادَةَ اللَّهِ} بالإضافة، غير أنها بالإضافة أفخم وأشرف وأحرى بترك كتمانها لإضافتها إلى الله سبحانه، وأما "ألله" مقصورة بالجر فحكاها سيبويه: أن منهم من يحذف حرف القسم ولا يعوض منه همزة الاستفهام، فيقول: أللهِ لقد كان كذا، قال: وذلك لكثرة الاستعمال. وأما "آلله" بالمد، فعلى أن همزة الاستفهام صارت عوضًا من حرف القسم، ألا تراك لا تجمع بينهما فتقول: أولله لأفعلن؟ وأما سكون هاء "شهادة"، فللوقف عليها ثم استؤنف القسم، وهو وجه حسن؛ وذلك ليُستأنف القسم في أول الكلام فيكون أوقر له وأشد هيبة من أن يدرج في عرض القول؛ وذلك أن القسم ضرب من الخبر يُذْكَر ليؤكد به خبر آخر، فلما كان موضع توكيد مُكِّنَ من صدر الكلام، وأُعطي صورة الإعلاء والإعظام. ويزيد في وضوح هذا المعنى وبيانه أنه لما نون شهادة فأَدرج وقَّر الهمزة عن حذفها كما يجب فيها من حيث كانت همزة وصل، فأقرها مقطوعة كما تُقطع مبتدأة، فقد جمع في هذه القراءة بين حالي الوصل والوقف. أما الوصل فلتنوين شهادة، وأما الوقف فلإثباته همزة الوصل التي إنما تُقطع إذا وُقف على ما قبلها ثم استؤنفت، والعناية بقطعها واستئنافها ما قدمت ذكره لك من تمكن حال القسم بتوفية
اللفظ جميع وجوهها، وقُطع ليكون في حال إدراجها في لفظ المبدوء بها لا الآتية مأتى النَّيِّف الذي لم يُوَفَّ من صدر الكلام ما يجب لها، فافهمه. ويؤكد عندك شدة الاهتمام بهذا القسم لما فيه مجيئُه وحرفُ الاستفهام قبله، فكأنه- والله أعلم- قال: أنقسم بالله إنا إذن لمن الظالمين"1، ففي هذا تهيب منهم للموضع، وتكعكع2 عن القسم عليه باستحقاق الظلم عنه؛ كأنه يريد القسم بالله عليه كما أقسم في الأخرى بلا استفهام، ثم إنه هاب ذلك فأخذ يشاور في ذلك كالقائل: أَؤُقدِم على هذه اليمين يا فلان أم أتوقف عنها؛ إعظامها لها ولا أرتكب ما أُقسِم عليه بها؟
سورة الأنعام
سورة الأنعام: بسم الله الرحمن الرحيم ومن ذلك قراءة الأعرج: "وهُمْ لا يُفْرِطُون"1. قال أبو الفتح: يقال: أفرط في الأمر إذا زاد فيه، وفرَّط فيه "52ظ": إذا قصَّر، فكما أن قراءة العامة: {لا يُفَرِّطُونَ} : لا يقصرون فيما يؤمرون به من تَوَفِّي من تحضر منيته، فكذلك أيضًا لا يزيدون، ولا يَتَوَفَّوْنَ إلا من أُمروا بتَوَفِّيه. ونظيره قوله جل وعز: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَار} 2. ومن ذلك قراءة أُبي وابن عباس والحسن ومجاهد والضحاك وابن يزيد المدني ويعقوب، ورُويت عن سليمان التيمي3: "لِأَبِيهِ آزَرُ"4. وقرأ ابن عباس بخلاف: "أَأَزْرًا نَتَّخِذ" بهمزتين، واستفهام، وينصبهما، وينون. وقرأ أبو إسماعيل رجل من أهل الشام: "أَئزرًا" مسكورة الألف منونة "تتَّخذ". قال أبو الفتح: أما "آزَرُ" فنداء، وأما "أَئِزْرًا" فقيل: "إِزْرًا" هو الصنم، و"أَزْرًا" بالفتح أيضًا. ومن ذلك قراءة الأعرج: "قَنْوَان"5 بالفتح. قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون قَنْوَان هذا اسمًا للجمع غير مكسر، بمنزلة رَكْب عند سيبويه والجامل والباقر6؛ وذلك أن فَعْلان ليس من أمثلة الجمع.
وقرأت على أبي علي في بعض كتب أبي زيد قوله: خلع الملوك وسار تحت لوائه ... شَجَرُ العُرا وعُرَاعِرُ الأقوام1 وقال أبو زيد: عُراعِر جمع عُرْعُرة، فقلت لأبي علي: كيف يكون هذا وأوله مضموم؟ فقال -يعني أبو زيد: إنه اسم للجمع يفيد مفاد التكسير. ومن ذلك قراءة ابن يعمر: "وخَلْقَهم"2 بجزم اللام. قال أبو الفتح: أي وخَلْق الجن، يعني ما يَخْلُقونه: ما يأفكون فيه ويتكذَّبونه. يقول: جعلوا له الجن شركاء، وأفعالهم شركاء أفعاله أو شركاء له إذا عَني بذلك الأصنام ونحوها. ومن ذلك قراءة عمر وابن عباس رضي الله عنهما: "وحَرَّفُوا له" بالحاء والفاء. وقال أبو الفتح: هذا شاهد بكذبهم، ومثله: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} 3 وأصله من الانحراف؛ أي: الانعدال عن القصد، وكلاهما من حرْفِ الشيء؛ لأنه زائل عن المقابلة والمعادلة، وهو أيضًا معنى قراءة الجماعة: {وَخَرَقُوا} بالخاء والقاف، ومعنى الجميع: كَذبوا. ومن ذلك قراءة إبراهيم: "وَلَم يَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ"4 بالياء. قال أبو الفتح: يحتمل التذكير هنا ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون في "يكن" ضمير اسم الله؛ أي: لم يكن الله له صاحبة، وتكون الجملة التي هي "له صاحبة" خبر كان. والثاني: أن يكون في "يكن" ضمير الشأن والحديث على شريطة التفسير، وتكون الجملة بعده تفسيرًا له وخبرًا، كقولك: كان زيد قائم؛ أي: كان الحديث والشأن زيد قائم.
والثالث: أن تكون "صاحبة" اسم "كان"، وجاز التذكير هنا للفصل بين الفاعل والفعل بالظرف الذي هو الخبر؛ كقولنا: كان في الدار هند. ومثل ما حكاه صاحب الكتاب من قولهم: حضر القاضيَ اليوم امرأةٌ. وأنا أرى أن تذكير "كان" مع تأنيث اسمها أسهل من تذكير الأفعال سواها وسوى أخواتها مع فاعليها. وكان في الدار هند أسوغ من قام في الداره هند؛ وذلك أنه إنما احتيج إلى تأنيث الفعل عند تأنيث فاعله؛ لأن الفعل انطبع "53و" بالفاعل حتى اكتسى لفظه من تأنيثه، فقيل: قامت هند وانطلقت جُمْل، من حيث كان الفعل والفاعل يجريان مجرى الجزء الواحد، وإنما كان ذلك كذلك لأن كل واحد منهما لا يستغني عن صاحبه، فأنث الفعل إيذانًا بأن الفاعل الموقع بعده مؤنث، وليس كذلك حديث كان وأخواتها؛ لأنه ليست "كان" مع اسمها كالجزء الواحد، من قِبَل أنك لو حذفت "كان" لاستقل ما بعدها برأسه، فقلت في قولك: كان أخوك جالسًا: أخوك جالس، فلما أن قام ما بعدها برأسه، ولم يحتج إليها؛ لم يتصل به اتصال الفاعل بفعله، نحو: قام جفعر وجلس بِشر. ألا تراك لو حذفت الفعل هنا لانفرد الفاعل جزءًا برأسه، فلم يستقل بنفسه استقلال الجملة بعد "كان" بنفسها؟ فلما لم تَقْوَ حاجته إلى "كان" قوة حاجة الفاعل إلى الفعل انحطت رتبته في حاجته إلى "كان"، فامتاز منها امتيازًا قد أحطنا به، فساغ لذلك ألا يلزم تأنيث "كان" لاسمها إذا كان مونثًا تأنيث الفعل لفاعله إذا كان مؤنثًا، ولم يذكر أحد من أصحابنا هذا، فافهمه؛ فإن هذه حاله. ومن ذلك قراءة ابن عباس بخلاف وقتادة، ورُويت عن الحسن: "دُرِسَتْ"1، ابن مسعود وأُبي: "دَرَسَ". ابن مسعود أيضًا: "دَرسْن".
قال أبو الفتح: أما "دُرِسَتْ" ففيه ضمير الآيات، معناه: وليقولوا درستَها أنت يا محمد، كالقراءة العامة "دراسْتَ"1. ويجوز أن يكون "دُرِسَتْ" أي: عفت وتنوسيت؛ لقراءة ابن مسعود: "دَرَسْن" أي: عفون، فيكون كقوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} 2، ونحو ذلك. وأما "دَرَس" ففيه ضمير النبي -صلى الله عليه وسلم- وشاهد هذا: دارسْتَ؛ أي: فإذا جئتهم بهذه القصص والأنباء قالوا: شيء قرأه أو قارأه فأَتى به، وليس من عند الله؛ أي: يفعل هذا بهم لتقوى أثرة التكليف عليهم زيادة في الابتلاء لهم؛ كالحج والغزو وتكليف المشاق المستحق عليها الثواب، وإن شئت كان معناه فإذا هم يقولون كذا، كقوله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا} 3 أي: فإذا هو عدو لهم. ومن ذلك قراءة الحسن وأبي رجاء وقتادة وسلام4 يعقوب وعبد الله بن يزيد: {فَيَسُبُّوا اللَّهَ عُدُوًّا} 5، ورُوي عنهم أيضًا: "بَغْيًا وعُدُوًّا"6. قال أبو الفتح: العَدْوُ والعُدُوُّ جميعًا: الظلم والتعدي للحق، ومثلهما العدوان والعداء، قال الراعي: كتبوا الدُّهَيْمَ على العَداء لمسرِف ... عادٍ يريدُ خيانةً وغُلُولا7 ومثله الاعتداء، قال أبو نُخَيْلَة: ويعتدى ويعتدى ويعتدى ... وهو بعين الأسد المسوَّد
ومثل العُدُوِّ والعَدْوِ من التعدي الرُّكوب والرَّكب، قال: أو رَكب البراذين يريد: ركوب. ومن ذلك قراءة الحسن وأبي رجاء وقتادة وسلام ويعقوب وعبد لله بن يزيد والأعمش والهمذاني: "وَيَذَرْهُم"1 بالياء وجزم الراء. قال أبو الفتح: قد تقدم ذكر إسكان المرفوع تخفيفًا، وعليه قراءة مَن قرأ أيضًا: "وَمَا يُشْعِرْكُم"2 بإسكان الراء، وكأن "يشعرْكم" أعذر من "يَذَرْهُم"؛ لأن فيه "53ظ" خروجًا من كسر إلى ضم، وهو في "يَذَرْهُم" خروج من فتح إلى ضم. ومن ذلك قراءة عطية العَوْفِي: "وقدْ فَصَلَ لكم"3 خفيفة. قال أبو الفتح: هو من قولك: قد فَصَلَ إليكم وخرج نحوكم. ومن ذلك قراءة الحسن وابن شرف: "ولْتَصْغَى، ولَيَرْضَوْه، ولْيَقْتَرِفُوا"4 بجزم اللام في جميع ذلك. قال أبو الفتح: هذه اللام هي الجارة؛ أعني: لام كي، وهو معطوفة على الغرور من قول الله تعالى: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} أي: للغرور "وَلِأَنْ تصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ"، إلا أن إسكان هذه اللام شاذ في الاستعمال على قوته في القياس؛ وذلك لأن هذا الإسكان إنما كثر عنهم في لام الأمر نحو قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا} 5، وإنما أُسكنت تخفيفًا لثقل الكسرة فيها، وفرقوا بينها وبين لام كي بأن لم يسكنوها، فكأنهم إنما اختاروا
السكون للام الأمر، والتحريك للام كي من حيث كانت لام كي نائبة في أكثر الأمر عن أن، وهي أيضًا في جواب كان سيفعل إذا قلت: ما كان ليفعل، محذوفة مع اللام ألبتة، فلما نابت عنها قووها بإقرار حركتها فيها؛ لأن الحرف المتحرك أقوى من الساكن، والأقوى أشبه بأن ينوب عن غيره من الأضعف. نعم، وقد رأيناهم إذا أسكنوا بعض الحروف أنابوه عن حركته وعاقبوا بينه وبينها، وذلك نحو: الجواري والغواشي، صارت الياء في موضع الرفع والجر معاقِبة لضمتها وكسرتها في قولك: هؤلاء الجواري ومررت بالجواري، فكأن لام كي على هذا إذا أُسكنت معاقبة لأن، وكالمعاقِبة أيضًا لكسرتها؛ فلذلك أقروها على كسرتها، ولم يجمعوا عليها منابها في أكثر الأمر عن أن وقد ابْتُزَّت حركة نفسها أيضًا. وأيضًا فإن الأمر موضع إيجاز واستغناء، ألا تراهم قالوا: صه ومه، فأنابوهما عن الفعل المتصرف، وكذلك حاءِ وعاءِ وهاءِ. ومن ذلك قراءة الحسن: "إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يُضِلُّ عَنْ سَبِيلِه"1 بضم الياء. قال أبو الفتح: لا يجوز أن تكون "مَنْ" في موضع جر بإضافة "أعلم" إليها، لا فيمن ضم ياء يُضل، ولا فيمن فتحها؛ من حيث كانت "أعلم" أفعل، وأفعل هذه متى أضيفت إلى شيء فهو بعضه، كقولنا: زيد أفضل عشيرته؛ لأنه واحد منهم، ولا نقول: زيد أفضل إخوته؛ لأنه ليس منهم، لا نقول أيضًا: النبي -صلى الله عليه وسلم- أفضل بني تميم على هذا؛ لأنه ليس منهم؛ لكن تقول: محمد -صلى الله عليه وسلم- أفضل بني هاشم؛ لأنه منهم، والله يتعالى علوًّا عظيمًا أن يكون بعضَ المضلين أو بعض الضالين. فأما قوله تعالى: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} 2 فليس من هذا؛ إنما تأويل ذلك -والله أعلم- وجده ضالًّا، كقوله: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} 3، وذلك مشروح في موضعه، فقوله أيضًا: "أَعْلَمُ مَنْ يُضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ" أي: يُجيرُه عن الحق ويصد عنه.
كما أن قراءة مَن قرأ: "أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ": مَنْ يجور عنه، ألا ترى إلى قوله قبل ذلك: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} فلا محالة "54و" أنه -سبحانه- أراد بمن يضل عن سبيله، فحذف الباء وأوصل "أعلم" هذه بنفسها، أو أضمر فعلًا واصلًا تدل هذه الظاهرة عليه، حتى كأنه قال: يعلم، أو علم مَن يُضِلُّ عن سبيله. يؤكد ذلك ظهور الباء بعده معه في قوله: {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} ، وقوله بعده: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} . وقد يجوز أن تكون "مَنْ" هذه مرفوعة بالابتداء، و"يُضل" بعدها خبر عنها، و"أعلم" هذه معلقة عن الجملة، حتى كأنه قال: إن ربك هو أعلم أيُّهم يُضِلُّ عن سبيله، كقوله تعالى: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} 1. فأما الجر فمدفوع من حيث ذكرنا، وإذا كان ذلك كذلك علمت أن "مَن" في قول الطائي: غدوتُ بهم أَمَدَّ ذَوِيَّ ظِلًّا ... وأكثَرَ مَنْ ورَائِي ماءَ وادِي2 لا يجوز أن تكون "مَنْ" في موضع جر بإضافة أكثر إليه؛ إذ ليس واحدًا ممن وراءه، فهو إذن منصوب الموضع لا محالة بأكثر أو بما دل عليه أكثر؛ أي كَثَرتُهم: كنتُ أكثرَهم ماء واد. ولا يجوز فيه الرفع الذي جاز مع العلم؛ لأن كثرت ليس من الأفعال التي يجوز تعليقها؛ إنما تلك ما كان من الأفعال داخلًا على المبتدأ وخبره، وأظنني قد ذكرت نحو هذا في صدر هذا الكتاب. ومن ذلك قراءة أبي عبد الرحمن السلمي: "وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلُ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ"3. قال أبو الفتح: يحتمل رفع شركاء تأويلين: أحدهما: وهو الوجه؛ أن يكون مرفوعًا بفعل مضمر دل عليه قوله: "زُين"؛ كأنه لما قال: زُين لكثير من المشركين قتلُ أولادهم، قيل: مَن زينه لهم؟ فقيل: زينه لهم شركاؤهم، فارتفع الشركاء بفعل مضمر دل عليه "زُين"، فهو إذن كقولك: أُكل اللحمُ زيدٌ، ورُكِبَ
الفرسُ جعفرٌ، وترفع زيدًا وجعفرًا بفعل مضمر دل عليه هذا الظاهر، وإياك وأن تقول: أنه ارتفع بهذا الظاهر؛ لأنه هو الفاعل في المعنى لأمرين: أحدهما: أن الفعل لا يرفع إلا الواحد فاعلًا أو مفعولًا أقيم مقام الفاعل، وقد رفع هذا الفعل ما أقيم مقام فاعله وهو "قَتْلُ أَوْلادِهِمْ"، فلا سبيل له إلى رفع اسم آخر على أنه هو الفاعل في المعنى؛ لأنك إذ انصرفت بالفعل نحو إسنادك إياه إلى المفعول لم يجز أن تتراجع عنه فتسنده إلى الفاعل؛ إذ كان لكل واحد منهما فعل يخصه دون صاحبه، كقولك: ضَرَب وضُرِب، وقَتَل وقُتِلَ، وهذا واضح. والآخر: أن الفاعل عندنا ليس المراد به أن يكون فاعلًا في المعنى دون ترتيب اللفظ، وأن يكون اسمًا ذكرته بعد فعل وأسندته ونسبته إلى الفاعل؛ كقام زيد وقعد عمرو. ولو كان الفاعل الصناعي هو الفاعل المعنوي للزمك أن تقول: مررت برجلٌ يقرأ، فترفعه لأنه قد كان يفعل شيئًا وهو القراءة، وأن تقول: رأيت رجلٌ يحدث، فترفعه بحديثه، وأن تقولم في رفع زيد من قولك: زيد قام: إنه مرفوع بفعله؛ لأنه الفاعل في المعنى؛ لكن طريق الرفع في "شركاؤهم" هو ما أَريتك من إضمار الفعل له لترفعه به، ونحوه ما أنشده صاحب الكتاب من قول الشاعر: لِيُبْك يزيد ضارِعٌ لخصومة ... ومُخْتبِطٌ مما تُطيح الطوائح1 كأنه لما قال: ليبك يزيد، قيل: مَن يبكيه؟ فقال: ليبكه ضارع لخصومة، والحمل على المعنى كثير جدًّا، وقد أفردنا له فصلًا في جملة شجاعة العربية من كتابنا الموسوم بالخصائص2. فهذا هو الوجه المختار في رفع الشركاء "54ظ" وشاهده في المعنى قراءة الكافة: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} ، ألا ترى أن الشركاء هم المزيِّنون لا محالة؟ وأما الوجه الآخر: فأجازه قطرب؛ وهو أن يكون الشركاء ارتفعوا في صلة المصدر الذي هو القتل بفعلهم، وكأنه: وكذلك زُين لكثير من المشركين أنْ قَتَلَ شركاؤهم أولادَهم، وشبهه بقوله: حُبِّبَ إليَّ ركوبُ الفرس زيدٌ؛ أي: أن ركب الفرسَ زيدٌ. هذا -لعمري- ونحوه صحيح المعنى، فأما الآية فليست منه، بدلالة القراءة المجتمع عليها، وأن المعنى أن المزيِّن هم الشركاء، وأن القاتل هم المشركون، وهذا واضح.
ومن ذلك قراءة إبراهيم: "وَلِيَلْبَسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ"1 بفتح الباء. قال أبو الفتح: المشهور في هذا لَبِست الثوب أَلْبَسه، ولَبَست عليهم الأمر أَلْبِسُه. فأما أن تكون هذه لغة لم تتأد إلينا: لبِست عليهم الأمر ألبَسه، في معنى لبَسته ألبِسه. وإما أن تكون غير هذا؛ وهو أن يراد به شدة المخالطة لهم في دينهم، فالاعتراض فيه بينه وبينهم ليشكُّوا فيه ولا يتمكنوا من التفرد به، كما أن لابس الثوب شديد المماسة له والالتباس به، فيقول على هذا: لبِست إليك طاعتَك، واشتملْتُ الثقة بك؛ أي: خالطت هذه الأشياء وماسستها؛ تحققًا بها وملابسة لها، وعليه قول القُلاخ السعدي: نكسوهُم مخشونَةً لِبَاسًا يعني: السيوف. وقد مر به لفظًا ألبتة شاعرنا فقال: وإنا إذا ما الموت صرَّح في الوغى ... لَبِسنا إلى حاجاتنا الضرب والطعنا2 فإما أن يكون هذا الشاعر نظر إلى هذه القراءة، وإما أن يكون أراد المراد بها فسلك سنة قارئها، فاعرف ذلك ولا تقل ما يقوله من ضعفت نحيزته3، ورَكَّت طريقته: هذا شاعر مُحْدث، وبالأمس كان معنا، فكيف يجوز أن يحتج به في كتاب الله جل وعز؟ فإن المعاني لا يرفعها تقدُّم، ولا يُزري بها تأخر. فأما الألفاظ فلعمري إن هذا الموضع معتبرٌ فيها، وأما المعاني ففائتة بأَنفسها إلى مغرسها، وإذا جاز لأبي العباس أن يحتج بأبي تمام في اللغة كان الاحتجاج في المعاني بالمولَّد الآخر أشبه. ومن ذلك قراءة أُبي بن كعب وابن مسعود وابن عباس وابن الزبير والأعمش وعكرمة وعمرو بن دينار: "حَرْثٌ حِرْج"4، وقراءة الناس: {حِجْرٌ} . قال أبو الفتح: قد قدمنا في كتابنا الخصائص5 صدرًا صالحًا من تقلب الأصل الواحد والمادة الواحدة إلى صور مختلفة يَخْطِمها6 كلها معنى واحد، ووسمناه بباب الاشتقاق الأكبر،
نحو: ك ل م، ك م ل، م ل ك، م ك ل، ل ك م، ل م ك، وإنها مع التأمل لها ولين مَعطِف الفكر إليها آئلة إلى موضع واحد ومترامية نحو غرض غير مختلف، كذلك أيضًا يقال: ح ج ر، ج ر ح، ح ر ج، ر ج ح، ج ح ر. وأما ر ح ج فمهمل فيما علمنا، فالتقاء معانيها كلها إلى الشدة والضيق والاجتماع، من ذلك الحِجْر وما تصرف منه، نحو: انحجر، واستحجر الطين، والحُجرة وبقيته، وكله إلى التماسك في الضيق. ومنه الحرَج: الضيق، والحِرْج مثله، والْحَرجَةُ: "55و" ما التف من الشجر فلم يكن دخوله، ومنه الْحُجر وبابه لضيقه، ومنه الْجَرْح لمخالطة الحديد للحم وتلاحمه عليه، ومنه رجح الميزان؛ لأنه مال أحد شقيه نحو الأرض؛ فقرب منها، وضاق ما كان واسعًا بينه وبينها. فإن قلت: فإنه إذا مال أحدهما إلى الأرض فقد بعُد الآخر منها، قيل: كلامنا على الراجح، والراجح هو الداني إلى الإرض. فأما الآخر فلا يقال له: راجح، فليزم ما ألزمته، وإذا ثبت ذلك -وقد ثبت- فكذلك قوله تعالى: "حَرثٌ حِرْج" في معنى "حِجْر"، معناه عندهم: أنها ممنوعة محجورة أن يَطْعَمَها إلا من يشاءون أن يُطعموه إيَّاها بزعمهم. ومن ذلك قراءة ابن عباس بخلاف والأعرج وقتادة وسفيان بن حسين: "خالِصَةً"1. وقرأ: "خالصًا" سعيد بن جبير. وقرأ: "خالِصُه" ابن عباس بخلاف والزهري والأعمش وأبو طالوت. وقرأ: "خالِصٌ" ابن عباس وابن مسعود والأعمش بخلاف. قال أبو الفتح: أما قراءة العامة: {خَالِصَةٌ} فتقديره: ما في بطون هذه الأنعام خالصة لنا؛ أي: خالص لنا، فأنث للمبالغة في الخلوص، كقولك: زيد خالِصَتِي، كقولك: صَفِيِّي وثقتي؛ أي: المبالغ في الصفاء والثقة عندي، ومنه قولهم: فلان خاصَّتي من بين الجماعة؛ أي: خاصِّي الذي يخصني، والتاء فيه للمبالغة وليكون أيضًا بلفظ المصدر، نحو: العاقبة والعافية، والمصدر إلى الجنسية، فهي أعم وأوكد. ويدلك على إرادة اسم الفاعل هنا -أي: خالص- قراءة سعيد بن جبير "خَالِصًا"، وعليه
القراءة الأخرى: "خَالِصٌ لذكورنا"، والقراءة الأخرى: "خالِصُه لِذكورنا"1، ألا تراه اسم فاعل وإن كان مضافًا؟ لكن الكلام في نصب خَالِصًا وخالِصةً، وفيه جوابان: أحدهما: أن يكون حالًا من الضمير في الظرف الجاري صلة على "ما"، كقولنا: الذي في الدار قائمًا زيد. والآخر: أن يكون حالًا من "ما" على مذهب أبي الحسن في إجازته تقديم الحال على العامل فيها إذا كان معنى بعد أن يتقدم صاحب الحال عليها، كقولنا: زيد قائمًا في الدار. واحتج في ذلك بقول الله تعالى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 2، فيجوز على هذا في العربية لا في القراءة؛ لأنها سنة لا تُخالَف "وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٍ بِيَمِينِهِ"3. فإن قلت: فهل يجوز أن يكون "خالصًا" "وخالصةً" حالًا من الضمير في لنا؟ 4 قيل: هذا غير جائز؛ وذلك أنه تَقدَّم على العامل فيه وهو معنى وعلى صاحب الحال، وهذا ليس على ما بَيَّنَا. ولا يجوز أن يكون "خالصةً" حالًا من الأنعام؛ لأن المعنى ليس عليه، ولعزَّة الحال من المضاف إليه. ومن ذلك قراءة على -عليه السلام- والأعرج وعمرو بن عبيد: "خُطُؤات"5 بالهمز مثقلًا، وقرأ: "خَطَوات" أبو السمال. قال أبو الفتح: أما "خُطُؤات" بالهمز فواحدها خُطْأَة؛ بمعنى الخَطَأ، أثبت ذلك أحمد بن يحيى. وأما "خَطَوات" فجمع خَطْوة، وهي الفَعْلَة الواحدة من خَطوت، كغزوت غزوة، ودعوت دعوة. والمعنى: لا تتبعوا خَطوات الشيطان؛ أي: آثاره، لا تقتدوا به، وتقديره على هذا حذف المضاف؛ أي: لا تتبعوا مواضع خَطوات الشيطان. وإن شئت أجريته على ظاهره من غير تقدير حذف كقولك: لا تتبع أفعال المشركين "55ظ"
ولا تأْتَم بأديان الكافرين. ومن قرأ: "خُطُوات" بلا همز فأمره واضح، وهو جمع خُطْوة، وهي ذَرْع ما بين القدمين، وهذا واضح. ومن ذلك قراءة طلحة: "الضَّأَن"1 بفتح الهمزة. قال أبو الفتح: الضَّأْنُ جمعٌ، واحدته ضائِن وضائنة، وصرَّفوا فعله فقالوا: ضَئِنَت العَنْز ضَأَنًا، إذا أشبهت الضأن. وأما الضَّأَن بفتح الهمزة في هذه القراءة، فمذهب أصحابنا فيه وفي مثله مما جاء في فَعْل وفَعَل وثانيه حرف حلق؛ كالنهْر والنهَر، والصخْر والصخَر، والنعْل والنعَل، وجميع الباب، أنها لغات كغيرها مما ليس الثاني فيه حرفًا حلقيًّا، كالنشْز والنشَز، والقص والقصَص. ومذهب البغداديين أن التحريك في الثاني من هذا النحو إنما هو لأجل حرف الحلق، وقد ذكرنا ذلك فيما مضى من هذا الكتاب وغيره، ويؤنسني بصحة ما قالوه أني أسمع ذلك فاشيًا في لغة عُقيل، حتى لسمعت بعضهم يومًا قال: نَحَوَه، يريد: نَحْوه. فلو كانت الفتحة في الحاء هنا أصلًا معتزمة غير إتباع لكونها حرفًا حلقيًّا لوجب إعلال اللام التي هو واو ألفًا؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها، كغَضَاة وشَجَاة2، فكان يقال: نحاة، وهذا واضح، غير أن لأصحابنا ألا يقبلوا من اللغة إلا ما رُوي عن فصيح موثوق بعربيته، ولست أُثبت هذه الفصاحة المشروطة لمن سمعت منه هذه اللفظة؛ أعني: نَحَوَه. ومن ذلك قراءة ابن يعمر: "تَمَامًا عَلَى الَّذي أَحْسَنُ"3. قال أبو الفتح: هذا مستضعف الإعراب عندنا؛ لحذفك المبتدأ العائد على الذي؛ لأن تقديره: تمامًا على الذي هو أحسن، وحذْف "هو" من هنا ضعيف؛ وذلك أنه إنما يُحذف من صلة الذي الهاء المنصوبة بالفعل الذي هو صلتها، نحو: مررت بالذي ضربتَ؛ أي: ضربتَه، وأكرمتَ الذي أهنتَ؛ أي: أهنتَه، فالهاء ضمير المفعول، ومن المفعول بُدٌّ، وطال الاسم بصلته، فحذفت الهاء لذلك، وليس المبتدأ بنيِّف ولا فضلة فيحذف تحفيفًا، لاسيما وهو عائد الموصول،
وأن هذا قد جاء نحوه عنهم؛ حكى سيبويه عن الخليل: "ما أنا بالذي قائل لك شيئًا سوءًا" أي: بالذي هو قائل، وقال: لم أرَ مثل الفتيان في غبن الـ ... أيام ينسَون ما عواقبها1 أي: ينسون الذي هو عواقبها. ويجوز أن يكون "ينسون" معلقة كما علقوا نقيضتها التي هي يعلمون، وتكون "ما" استفهامًا وعواقبها خبر "ما"، كقولك: قد علمت مَن أبوك وعرفت أيُّهم أخوك؟، وعلى الوجه الأول حمله أصحابنا. ومن ذلك قراءة يحيى وإبراهيم: "مِمَّنْ كَذَبَ بِآياتِ اللهِ"2 خفيفة الذال. قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون دخول الباء هنا حملًا على المعنى؛ وذلك لأنه في معنى مَكَرَ بها، وكفر بها، وما أكثر هذا النحو في هذه اللغة، وقد ذكرناه فيما مضى، ومنه قوله: ألم يأْتيك والأنباءُ تَنمي ... بما لاقت لبون بني زياد3 زاد الباء في بما لاقت لما كان معناه ألم تسمع بما لاقت لبونهم، وفيه ما أنشدَناه أبو علي: "56و" أم كيف ينفعُ ما تعطى العَلوقُ به ... رئْمانَ أنف إذا ما ضُنَّ باللبِن4 ألحق الباء في به لما كان تعطى في معنى تسمح به، ألا تراه قال في آخر البيت: إذا ما ضُنَّ باللبن؟ فالضن نقيضُ السماحة والبذل.
ومن ذلك قراءة زهير الفُرْقُبي1: "يَوْمُ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ"2 بالرفع. قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون ارتفاع اليوم بالابتداء، والجملة التي هي قوله تعالى: {لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} خبر عنه، والعائد من الجملة محذوف لطول الكلام والعلم به، وإذا كانوا قد قالوا: السمن مَنَوان بدرهم، فحذفوا وهم يريدون "منه" مع قصر الكلام؛ كان حذف العائد هنا لطول الكلام أسوغ، وتقديره: لا ينفع فيه نفسًا إيمانها، ومثله قولهم: البُرُّ الكْرُّ3 بستين؛ أي: الكُرُّ منه. وفي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} 4 ثلاثة أقوال: أحدها: أن يكون على حذف العائد؛ أي: إنا لا نضيع أجر من أحسن عملًا منهم، وله نظائر كثيرة؛ لكنا نحذف5 الإطالة إذ كان هذا كتابًا مختصرًا ليقرب على القراء ولا يلطُف عنهم، وقد كان شيخنا أبو علي عمل كتاب الحجة في قراءة السبعة، فأغمضه وأطاله حتى منع كثيرًا ممن يدَّعي العربية -فضلًا على القَرَأة- منه، وأجفاهم عنه. ومن ذلك قراءة أبي العالية: "لا تَنْفع نفسًا إيمانُها" بالتاء فيما يروى عنه، قال ابن مجاهد: وهذا غلط. قال أبو الفتح: ليس ينبغي أن يُطْلَق على شيء له وجه في العربية قائم -وإن كان غيره أقوى منه- أنه غلط، وعلى الجملة فقد كثر عنهم تأنيث فعل المضاف المذكر إذا كانت إضافته
إلى مؤنث، وكان المضاف بعض المضاف إليه أو منه أو به. وأنشدنا أبو علي لابن مقبل: قد صرَّح السيرُ عن كُتْمَان وابتُذِلت ... وقعُ المحاجن بالْمَهرية الذُّقُن1 فأنث "الوقع" وإن كان مذكرًا لَمَّا كان مضافًا إلى "المحاجن"، وهي مؤنثة؛ إذ كان الوقع منها. وكذلك قول ذي الرمة: مشَيْن كما اهتزَّت رماح تسفهت ... أعاليَهَا مرُّ الرياح النواسِم2 فأنث "الْمَر" لإضافته إلى الرياح وهي مونثة؛ إذ كان "الْمَر" من الرياح، ونظائر ذلك كثيرة جدًّا لا وجه للإطالة بذكرها، فهذا وجه يشهد لتأنيث الإيمان؛ إذ كان من النفس وبها. وإن شئت حملته على تأنيث المذكر لَمَّا كان يعبر عنه بالمؤنث، ألا ترى إلى قول الله سبحانه: {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} 3، فتأنيث الْمِثل لأنه في المعنى حَسَنة. فإن قلت: فهلَّا حملته على حذف الموصوف، فكأنه قال: فله عشر حسنات أمثالها، قيل: حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه قبلُ ليس بمستحسن في القياس، وأكثر مأتاه إنما هو في الشعر؛ ولذلك ضعف حمل "دانيةً" من قوله: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا} 4 على أنه وصف جنة؛ أي: وجنةً دانيةً عليهم ظلالها، عطفًا على جنة من قوله: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} وجَنةً دَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا؛ لما فيه من حذف الموصوف "56ظ" وإقامة الصفة مقامه حتى عطفوها على قوله: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ} ودانيةً عليهم ظلالها، فكانت حالًا معطوفة على حال قبلها، فلهذا يضعف أن يكون تقدير الآية على: فله عشر حسنات أمثالها؛ بل تكون أمثالها غير صفة لكنه محمول على المعنى؛ إذ كن حسنات كما ترى. وعليه أيضًا قوله تعالى: "تَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ"5؛ لما كان ذلك البعض سيارة في المعنى.
وحكى الأصمعي عن أبي عمرو قال: سمعت رجلًا من اليمن يقول: فلان لَغُوب1، جاءته كتابي فاحتقرها، قال: فقلت له: أتقول جاءته كتابي؟ فقال: نعم، أليس بصحيفة؟ فلا تعجب إلا من هذا الأعرابي الجافي وهو يعلل هذا التعليل في تأنيث المذكر، وليس في شعر منظوم فيُحتمل ذلك له، إنما هو في كلام منثور، فكذلك يكون تأنيث الإيمان، ألا تراه طاعة في المعنى؟ فكأنه قال: لا تنفع نفسًا طاعتها، والشواهد كثيرة؛ لكن الطريق التي نحن عليها مختصرة قليلة قصيرة. ومن ذلك قراءة النخعي وأبي صالح مولى ابن هانئ، ويُروى أيضًا عن الأعمش ويحيى: "الَّذِينَ فَرَقُوا دِينَهُمْ"2 بالتخفيف. قال أبو الفتح: أما "فَرَقُوا" بالتخفيف فتأويله أنهم مازُوه عن غيره من سائر الأديان، هذا ظاهر "فرَقوا" بالتخفيف. وقد يحتمل أن يكون معناه معنى القراءة بالتثقيل؛ أي: فرَّقوه، وعضَّوْه أعضاء، فخالفوا بين بعضه وبعض؛ وذلك أن فَعَل بالتخفيف يكون فيها معنى التثقيل، ووجه هذا أن الفعل عندنا موضوع على اغتراق جنسه، ألا ترى أن معنى "قام زيد": كان منه القيام، و"قعد": كان منه القعود؟ والقيام -كما نعلم- والقعود جنسان، فالفعل إذن على اغتراق جنسه، يدل على ذلك عمله في جميع أجزاء ذلك الجنس من مفرده ومثناه ومجموعه، ونكرته ومعرفته، وما كان في معناه، وذلك قوله: قمت قومة وقومتين وألفَ قومة، وقمت قيامًا وقيامًا طويلًا، وجلست جلوسًا وجلوسًا قصيرًا، وقمت القيام الذي تعلم. وقال: لعمري لقد أحْبَبْتُكَ الحبَّ كُلَّه3 وقالوا: قعد القرفصاء، وعَدَا البَشَكَى4، ووثب الْحَجَزى5، فعمل الفعل في جميع أجزاء
المصادر من لفظه ومن غير لفظه كما كان معناه، يدل على أن وضعه لاغتراق جنسه؛ إذ الفعل لا يعمل من المصادر إلا فيما كان عليه دليل، ألا تراك لا تقول: قمت قعودًا، ولا خرجت دخولًا؛ لأنه لا دليل في الفعل على ذلك؟ وهذا واضح مُتَنَاهٍ في البيان. وإذا كان كذلك عُلم منه وبه أن جميع الأفعال ماضيها وحاضرها ومتلقاها مجاز لا حقيقة، ألا تراك تقول: قمت قومة، وقمت على ما مضى، دال على الجنس؟ فوضعك القومة الواحدة موضع جنس القيام، وهو فيما مضى وما هو حاضر وفيما هو متلقى مستقبل، من أذهب شيء في كونه مجازًا. ولذلك ما1 كان شيخنا أبو علي يقول: إن قولنا: قام زيد في كونه مجازًا بمنزلة قول القائل: خرجت فإذا الأسد، يريد بذلك: أن الأسد هنا لاغتراق الجنس؛ وإنما وجد ببابه أسدًا واحدًا، فأطلقه "57و" على جميع جنسه الذي لا يحيط به إلا خالقه جل وعز. فهذا كقولك: قام زيد في وضعه إياه على البعض وإن كان مفادُ "قام" الاغتراقَ للكل؛ إذ كان قيام زيد جزءًا مما لا يحاط به، ولا يحاط2 الوهم إلا على كلَا ولَا3 على قصوره. وهذا موضع يسمعه الناس مني ويتناقلونه دائمًا عني، فيُكبرونه ويكثرون العجب به، فإذا أوضحته لم يسأل عنه استحياء، وكان يستغفر الله لاسيحاشه كان منه. وكشفت هذا الموضع يومًا لبعض من كان له مذهب في المشاغبة -عفا الله عنا وعنه- فتوقف فيه، ثم قال: أوكذلك أفعال القديم عندك؟ فقلت: هذا موضع لا تعلُّق له بذكر القدم والحدوث؛ وإنما هو طريق مسلوكة يتعاقبها القديم والمحدَث تعاقبًا واحدًا، ألا تراك تقول: خلق الله كذا؟ أفتظن أن هذا ينتظم كل خلق في الوهم؟ فإن قلت: نعم، لزمك أن يكون هو الخالق لأفعال العباد، ومذهبك نافٍ لهذا عندك، فلما بلغ الموضعُ بنا إلى هذا أَمسك، ثم مضى فقرأ شيئًا من كلام شيخنا فعاد معترفًا بما قلت له منه، غير أننا أُعلمنا بذلك أن العلل عنده مروية غير مدرية، وليست بحقائق ولا عقلية.
سورة الأعراف
سورة الأعراف: بسم الله الرحمن الرحيم من ذلك قراءة أبي جعفر: "ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةُ اسْجُدُوا"1 بضم الهاء. قال أبو الفتح: هذا مذهب ضعيف جدًّا؛ وذلك أن الملائكة مجرورة، ولا يجوز أن يكون حذَف همزة "اسجدوا" وألقى حركتها على الهاء من موضعين: أحدهما: أن هذا التخفيف إنما هو في الوصل، والوصل يحذف هذه الهمزة أصلًا إذ كانت همزة وصل، فيا ليت شعري من أين له همزة أصلًا في الوصل حتي يُلقي حركتها للتخفيف على ما قبلها، وليست كذلك الهمزات التي تُلقى للتخفيف حركاتهن على ما قبلهن؛ لأن لك أن تثبت هذه الهمزة قبل حذفها للتخفيف؟ ألا تراك أنك إذا خففت همزة أنت من قولك: مَن أنت جاز منَ انت؛ لأن لك أن تحققها قبل التخفيف فتقول: من أنت؟ وليس لك أن تثبت همزة "اسجدوا" في الوصل فتقول: للملائكة أُسجدوا، فيجوز تخفيفها فيما بعد. وهذا واضح، وهو أذهب في الفحش من قول الفراء: مَنْ فتح "ميم" من قوله تعالى: "ألف لام ميم الله"2، إنه حذف همزة "الله" وألقى حركتها على ميمِ "ميمَ"؛ لأن له أن يقول: إن الهجاء عندنا على الوقف، فإذا وصل فإنه مع ذلك ينوِي الوقف، والوقف يجوز معه قطع همزة "الله"، وليس كذلك "ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةُ اسْجُدُوا"؛ لأنه ليس من حروف الهجاء فيُنوَى فيه الوقف عليه ثم تخفيف همزته، وعلى أن مذهب الفراء هناك أيضًا مدفوع عندنا لأنه لا يُخَفَّفُ إلا في الوصل، والوصل يُسقط همزة اسم الله تعالى، فالطريق في الفساد واحدة وإن كان فيه في قول الفراء ذلك القدر من تلك الشبهة الضعيفة. فإن قال الفراء: قولهم: "نون وَالْقَلَمِ"3 بترك إدغام النون في الواو يدل أن نية الوقف
في هذه الحروف مع الوصل موجودة؛ إذ لو كانت موصولة ألبتة لوجب الإدغام، وأن يقال: "57ظ" "نووّالقلم"، كما تدغم النون في الواو من قوله عز وجل: {مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} 1. قيل له: ولو كانت في وصلها على حكم الوقف ألبتة عليها لوجب إظهار النون فقيل: "نونْ والقلم" بإظهار النون؛ لقولك في الوقف: "نون" بإظهار النون، فترْك إظهار النون من قوله تعالى: "نون والقلم" يدل على نية الوصل، وإنما لم يكن هناك إدغام لعمري تعقبًا لما كان عليه من الوقف، وإلا فهو موصول لا محالة، وإذا كان موصولًا وجب حذف الهمزة أصلًا، وإذا حذفت أصلًا لم تجد هناك لفظًا تحقِّقه أو تخففه. ويؤكد ذلك عندك قراءتهم "كاف ها يا عين صاد" بإخفاء النون من عين عند الصاد، كما تُخفى في الوصل إذا قلت: عجبت من صالح، ونحو ذلك. فقد ترى إلى جريان هذا مع أنه حرف هجاء كجريانه في حال وصله نون عين وسين قاف من قوله: عين سين قاف، فأُخفيت النون من عين عند السين، والنون من سين عند القاف، كما تُخفيان في: عين سالم، ومن قاسم. ويؤكد أيضًا عندك إدغام الدال من صاد في الذال من "ذِكْر" في قوله: "عين صاد ذِكْرُ رحمةِ ربِّك"2، كإدغامها فيها في غير الهجاء، كقولك: تعهد ذلك الباب. وهذا ينبهك على أن ترك إدغام النون من قوله: "نون والقلم" إنما هو لئلا يجتمع هناك ثلاث واوات، فثقل عليهم أن يقولوا: "نووَّالقلم"، ولو كان لنية الوقف ألبتة لظهرت الدال من "صاد ذكر رحمة ربك"، هذا أعلى القراءة وإن كان بعضهم قد أظهرها، إلا أن الإدغام أقوى رواية وقياسًا، فهذا أحد وجهي قبح قراءة أبي جعفر: "ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةُ اسْجُدُوا لِآدَمَ". والآخر: أن التخفيف في نحو هذا إنما يكون إذا كان الحرف الأول قبل الهمزة ساكنًا صحيحًا نحو: "قد أفلح"3، فإذا خففت الهمزة ألقيت حركتها على الساكن قبلها فقَبِلَها لسكونه، ثم حذفت الهمزة تخفيفًا، فقلت: "قَدَ فْلَحَ"، وكذلك: مَن أبوك إذا خففته قلت: مَنَ بُوك؟ فأما إذا كان قبل الهمزة حرف متحرك وأردت تخفيفها فإنك لا تلقى حركة الهمزة عليه، ألا تراك لا تقول: فلان يضربَ خَاه، تريد: يضربُ أَخاه؟ لأن باء يضرب متحركة، فما
فيها من حركتها لا يسوِّغُ نقل حركة أخرى إليها عوضًا من حركتها؛ ولذلك ضعفت عندنا قراءة الكسائي: "بما أُنْزِلَّيْك"1؛ لأن اللام من أُنزل مفتوحة، فلا ينقل عليها كسرة همزة إليك ثم يلتقي المثلان متحركين، فيسكن الأول منهما، ويدغم في الثاني كما جُعل ذلك في قوله: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} 2؛ إذ كانت النون من لكن ساكنة فساغت3 حذف همزة أناء وإلقاء حركتها على النون قبلها، فصارت "لكنَنَا"، فكُره التقاء المثلين متحركين، فأُسكن الأول منهما وأُدغم في الثاني، فصار لكنَّا كما ترى. وقد ذكرنا هذا في غير هذا الموضع من كلامنا مصنفًا وغير مصنَّف. فإن قلت: فما تصنع بما أخبركم به أبو علي عن أبي عبيدة من قول بعضهم: دعه في حِرُمِّه -بضم الراء- وهو يريد: في حرأُمه؟ ألا ترى كيف أَلقى حركة همزة "أم" على الراء وقد كانت "58و" مكسورة ثم حذف الهمزة، وإلى ما حكاه أحمد بن يحيى من قول أبي السرار في خبر ذكره عند سعيد بن سليم وابنُ الأعرابي حاضرٌ من قول امرأة رأت أبا السرار عند بناتها، فأنكرته: أفي السَّوَتَنْتُنَّه؟ وهي تريد: أفي السَّوْءةِ أَنْتُنَّه؟ فحذفت همزة "أنتنه" وألقت حركتها على تاء "السوءة" وهي مكسورة. قيل: هذا من الشذوذ؛ بحيث لا يقاس على ضعفه، فضلًا عنه على قلته. وأيضًا، فإنه حذف همزة ثابتة موجودة في الوصل، وليست كذلك همزة "اسجدوا"؛ لأنها بلا خلاف معدومة في الوصل أصلًا، وما هو معدوم في اللفظ لا يعْرِض فيه تخفيف ولا تحقيق. فإن توهَّم متوهم أنه يرى قطع همزة "اسجدوا" على ضعف ذلك، ثم فعل من بعد نحوًا من حكاية أبي عبيدة: دعه في حِرُمِّه، فإن هذا أفحش، من حيث كانت همزة "اسجدوا" مما لا يجوز في القرآن قطعه أصلًا؛ لخبث ذلك في الشعر فضلًا عن التنزيل، وما يجب فيه من تخير أفصح اللغات له. ويزيد في قبح ذلك أنه إن نوى قطع همزة "اسجدوا" فإنما ذلك للوقف قبلها، والوقف هنا قبلها لا يجوز من حيث كان قوله: "اسْجُدُوا لِآدَمَ" معمولَ قوله: "قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ"، ولا يحسن الوقف على الناصب دون منصوبه؛ بل لا يجوز الوقف على العامل دون معموله؛ لاتصاله به، وكونه في بعض الأماكن كالجزء من العامل فيه، نحو: لا رجل في الدار، ومررت بي، والمال لي
فيمن أسكن الياء، فهذا كله وما تركناه من نحوه يشهد بفساد قراءة أبي جعفر: "لِلْمَلائِكَةُ اسْجُدُوا". ومن ذلك قراءة الزهري: "مَذُومًا مَدْحُورًا"1. قال أبو الفتح: هذا على تخفيف الهمزة من "مَذْءومًا"، كقولك في مسئول: مسول. فإن قلت: أفيكون مِن ذِمتُه أَذيمة؟ قيل: لو كان منه لكان مَذِيمًا كمبيع ومكيل. فإن قيل: فقد حكى الفراء: هذا بُرّمَكُول، ورجل مسورٌ به، وقد قالوا في مهيب: مَهوب. قيل: هذا من الشذوذ في منزلة القُصْيا، فلا يحسن الحمل عليه؛ وإنما ذكرناه لئلا يورده من يضعف نظره وهو يظنه طائلًا، فلا تحفل به. ومن ذلك قراءة الحسن وأبي جعفر وشيبة والزهري: "سَوَّاتِهما"2 بتشديد الواو. قال أبو الفتح: حكى سيبويه ذلك لغة قليلة، والوجه في تخفيف نحو ذلك أن تحذف الهمزة وتلقى حركتها على الواو قبلها، فتقول في تخفيف نحو السوءة: السَّوَة، وفي تخفيف الجيئة: الجيَة، ومنهم من يقول: السَّوَّة والْجَيَّة، وهو أدون اللغتين وأضعفهما، ومنهم من يقول في المنفصل من أوْ أَنت: أوَّنت، وفي أبو أيوب: أَبوَّيُّوب، وهو في المنفصل أسهل منه في المتصل؛ لما يوهم "سَوَّة" أنه من مضاعف الواو، نحو: القُوَّة والْحُوَّة. وقرأ: "سوْءَتِهما"3 واحدة مجاهد. ووجه ذلك أن السوءَة في الأصل فَعْلَة من ساء يسوء، كالضربة والقتلة، فأَتاها التوحيد من قِبَلِ المصدرية التي فيها. فإن قلت: إن الفَعْلَة واحدة من جنسها، والواحد مُعرَّض للتثنية والجمع. قيل: قد يوضع الواحد موضع الجماعة، وقد مضى ذلك مشروحًا. "58ظ"
ومن ذلك قراءة ابن محيصن: "من هذِي الشجرة"1. قال أبو الفتح: هذا هو الأصل في هذه الكلمة، وإنما الهاء في "ذه" بدل من الياء في "ذي"، يدل على الياء الأصل قولهم في المذكر: "ذا"، فالألف في ذا بدل من الياء في ذي، وأصل ذا عندنا ذَيّ، وهو من مضاعف الياء مثل: حي، فحذفت الياء الثانية التي هي لام تخفيفًا فبقي ذَيْ. قال لي أبو علي: فكرهوا أن يشبه آخره آخر كي وأي، وأبدلوها ألف كما أبدلت في باءَس ويايَس2. ويدل على أن أصل ذا ذَيّ وأنه ثلاثي جواز تحقيره في قولك: ذَيَّا، ولو كان ثنائيًّا لما جاز تحقيره كما لا تحقر "ما"، "ومَن" لذلك. وقد شرحت هذا الموضع في كتابي الموسوم بالمنصف بما يمنع من الإطالة بذكره هنا. فأما الياء اللاحقة بعد الهاء في "هذهِي سبيلي"3 ونحوه فزائدة، لحقت بعد الهاء تشبيهًا لها بهاء الإضمار في نحو: مررت بهِي، ووجه الشبه بينهما أن كل واحد من الاسمين معرفة مبهمة لا يجوز تنكيره، وإذا وَقَفْتَ قلت: هذهْ، فأسكنت الهاء، ومنهم من يدعها على سكونها في الوصل كما يسكِّنها عند الوقف عليها، كما أن منهم من يسكن الهاء المضمرة إذا وصلها فيقول: مررت بِهْ أَمس، وذكر أبو الحسن أنها لغة لأزْد السراة، وأنشد هو وغيره: فظَلْت لدى البيت العتيق أُخليه ... ومِطْواي مشتاقان لهْ أَرِقان4 وروينا عن قطرب قول الآخر: وأَشربُ الماء ما بي نحوَه عَطَشٌ ... إلا لأَنَّ عيونَهْ سَيْلُ وادِيها5
ومن ذلك قراءة الزهري: "يُخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا" من أَخْصَفْت، و"يَخِصفان" الحسن بخلاف، وقرأ "يُخَصِّفَان"1 ابن بريدة والحسن والزهري والأعرج، واختلف عنهم كلهم. قال أبو الفتح: مألوف اللغة ومستعملها خَصَفت الورق ونحوه، وما أخصفت فكأنها منقولة من خصفت؛ كأنه -والله أعلم- يُخْصِفان أنفسهما وأجسامهما من ورق الجنة، ثم حذف المفعول على عادة حذفه في كثير من المواضع، أنشد أبو علي للحطيئة: منعَّمةٌ تصون إليك منها ... كصونك من رداءٍ شرْعبيِّ2 أي: تصون الحديث ونخزنه. وأما قراءة الحسن: "يَخِصِّفَان"، فإنه أراد بها يختصفان يفتعلان من خصفت، كقولهم: قرأت الكتاب واقترأته، وسمعت الحديث واسمتعته؛ فآثر إدغام التاء في الصاد فأسكنها، والخاء قبلها ساكنة، فكسرها لالتقاء الساكنين؛ فصارت "يَخِصِّفان". وأما من قرأها "يَخَصِّفان"3، فإنه أراد أيضًا إدغام التاء في الصاد فأسكنها على العبرة في ذلك، ثم نقل الفتحة إلى الخاء؛ فصار "يَخَصِّفان". ويجوز "يِخِصِّفَّانِ" بكسر الياء فيمن كسر الخاء إتباعًا، كما قال أبو النجم: تَدافُعَ الشِّيبِ ولم تِقِتِّل4 أراد: تَقْتَتِل على ما ذكرت لك. ونحو من ذلك القراءة: يَهَدِّي ويَهِدِّي ويِهِدِّي5، وأصله كله يَهتدي "59و" على ما مضى. وأما من قرأ: "يُخَصِّفَان" وهو ابن بريدة والحسن أيضًا والأعرج، واختلف عنهم كلهم فهو يُفَعِّلان، كيُقَطِّعان ويكسران، وهذا واضح.
ومن ذلك قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- وجماعة وعاصم بخلاف: "ورِياشًا"1 بالفتح2. قال أبو الفتح: يحتمل رِيَاشٌ شيئين: أحدهما: أن يكون جمع رِيش، فيكون كشِعْب وشِعَاب ولِهْب3 ولِهَاب، ولِصْب4 ولِصَاب، وشِقْب5 وشِقَاب. والآخر: أن يكونا لغتين: فِعْلٌ وفِعَال. هكذا قال أبو الحسن، قال: وقال الكلابيون: الرياش: ماكان من لباس أو حشو من فراش ألآو دثار، والريش: المتاع والأموال. وقد يكون الريش في الثياب دون المال. ويقال: هو حسن الريش؛ أي الثياب. والرياش: القشر6، وهما كما ترى متداخلان. ومن ذلك قراءة ابن سيرين: "فَإِذَا جَاءَ آجَالُهُمْ"7. قال أبو الفتح: هذا هو الظاهر؛ لأن لكل إنسان أجلًا. فأما إفراد الأجل فلأنه جعله جنسًا، أو لأنه مصدر فأتته الجنسية من قِبل المصدرية، وحسن الإفراد لإضافته أيضًا إلى الجماعة، ومعلوم أن لكل إنسان أجلًا، وعليه جاء قوله: في حَلقِكم عظْم وقد شَجينا8 لأن لكل إنسان حلقًا، وتقول على هذا: رأس القوم صُلْبٌ؛ أي: رءوسهم صِلَاب. ويجوز أن تقول: رأس القوم صِلَاب؛ حملًا على المعنى. وندع الإطالة بالشواهد إشفاقًا من الإطالة التي سئلنا اجتنابها على ما بينا في صدر الكتاب.
ومن ذلك قراءة أُبي بن كعب والأعرج والحسن: "إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ منكم"1 بالتاء. قال أبو الفتح: في هذه القراءة بعض الصنعة؛ وذلك لقوله فيما يليه: {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} . فالأشبه بتذكير يقصون التذكير بالياء في قراءة الجماعة: {يَأْتِيَنَّكُمْ} ، فتقول على هذا: قامت الزيود وقام الزيدون، وتذكر لفظ قام لتذكير الزيدون، وتؤنث لفظ قامت لأن الزيود مكسر ولا يختص بالتذكير؛ لقولك: الهنود. وقد يجوز قامت الزيدون، إلا أن قام أحسن. ومن ذلك ما رُوي عن أبي عمرو: "حَتَّى إِذَا إدَّارَكُوا"2، ورُوي عنه أيضًا: "حتى إذا" يقف ثم يقول: "تَدَارَكُوا"، وظهور التاء في "تداركوا" قراءة ابن مسعود والأعمش. وقراءة أخرى: "إذآ ادَّاركوا"، قرأ بها مجاهد وحميد ويحيى وإبراهيم. قال أبو الفتح: قَطْعُ أبي عمرو همزة "ادَّاركوا" في الوصل مشكل؛ وذلك أنه لا مانع من حذف الهمزة؛ إذ ليست مبتدأة كقراءته الأخرى مع الجماعة. وأمثل ما يصرف إليه هذا أن يكون وقف على ألف "إذا" مُمَيِّلًا بين هذه القراءة وقراءته الأخرى التي هي "تداركوا"، فلما اطمأن على الألف لذلك القدر من التمييل بين القراءتين لزمه الابتداء بأول الحرف، فأثبت همزة الوصل مكسورة على ما يجب من ذلك في ابتدائها، فجرى هذا التمييل في التلوم3 عليه وتطاول الصوت به مجرى وِقفة التذكر في نحو قولك: قالوا -وأنت تتذكر- الآن من قول الله سبحانه: "قالُوا الآن"4، فتثبت الواو من قالوا لتلومك عليها "59ظ" للاستذكار، ثم تثبت همزة الآن؛ أعني: همزة لام التعريف. ومثله "اشْتروُوا" إذا وقفت مستذكرًا "للضلالة"5، فتضم الواو من "اشتروا" على ما كانت عليه من الضم لالتقاء الساكنين، ثم تشبع الضمة لإطالة صوت وِقفة الاستذكار، فتُحدِث هناك واوًا تنشأ عن ضمة واو الضمير، ثم تبتدئ فتقول: "ألضلالة"، فتقطع همزة الوصل لابتدائك بها، فهذا أمثل ما يقال في هذا.
ولا يحسن أن تقول: إنه قطع همزة الوصل ارتجالًا هكذا؛ لأن هذا إنما يسوغ لضرورة الشعر. فأما في القرآن فمعاذ الله وحاشا أبي عمرو، ولا سيما وهذه الهمزة هنا إنما هي في فعل، وقلما جاء في الشعر قطع همزة الوصل في الفعل؛ وإنما يجيء الشيء النزر من ذلك في الاسم، نحو قول جميل: ألا لا أرى إثنين أحسن شيمة ... على حَدَثان الدهر مني ومن جُمْل1 وقول الآخر: يا نفس صبرًا كل حي لاق ... وكل إثنين إلى افتراق2 أي: لاق منيته، فحذف المفعول، وإنما قل قطع همزة الوصل هذه في الفعل، وجاء ما جاء من ذلك في الاسم؛ حيث كان الفعل مظنة من همزة الوصل، وإنما تدخل من الأسماء ما ضارع الفعل. وباب همزات الأسماء أن تكون قطعًا، فلما غلب القطع عليها جرت الألسن على العادة في ذلك، واستجازوا قطع همزة الوصل لما ذكرنا. وليست حال همزة الوصل في الفعل كذلك؛ لأنها معتادة هناك، فازداد قطعها من الفعل ضِيقَ عُذْرٍ لما ذكرنا. فأما "حتى إذآ ادَّاركوا" بإثبات ألف "إذا" مع سكون الدال من "ادَّاركوا" فإنما ذلك لأنه أجرى المنفصل مجرى المتصل، فشبهه بشابَّة ودابَّة ونحو قولهم: لاهآ الله ذا بإثبات الألف في "ها"، وترك حذفها لالتقاء الساكنين كما حذفت في قول من قال: لاها الله ذا3. وقال لي أبو علي: فيها أربع لغات: لاهَا لله ذا بحذف الألف، ولاهآ الله ذا بمدها تشبيهًا بالمتصل على ما مضى في دابة. ولاهآ ألله بإثبات ألف ها وهمزة الله بوزن لاها عَلَّاة ذا. والرابعة: لاهَأللهِ ذا في وزن هَعَلّله ذا، تحرك ألف "ها" لالتقاء الساكنين وتقلبها همزة، كما قرأ أيوب السختياني: "ولا الضَّأَلِّين"، بوزن الضَعَلِّين. وعليه ما حكاه أبو زيد من قولهم: شأَبَّة ومأَدَّة. ومثله أيضًا قراءة أبي عمرو، ورويناها عن قطرب عنه: "قالوا اطَّيْرنا"4، وحُكي عن بعضهم: هذان عبدآ اللهِ.
وحُكي عنهم: له ثلثآ المال وهو أشد؛ لأنه غير مدغم. وقال بعضهم: يآ الله، وبعضهم: يا ألله، وبعضهم: يألله، وبعضهم: ياْلله، فحذف ألف يا لالتقاء الساكنين. ومن ذلك قراءة ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والشعبي وأبي العلاء بن الشخير ورويت عن أبي رجاء: "حَتَّى يَلِجَ الْجُمَّلُ"1، وقرأ: "الْجُمَل" -بضم الجيم وفتحة الميم مخففة- ابن عباس وسعيد بن جبير بخلاف وعبد الكريم وحنظلة ومجاهد بخلاف. وقرأ: "الْجُمْل" -بضم الجيم وسكون الميم- ابن عباس وسعيد بن جبير بخلاف عنهما. "60و" وقرأ: "الْجُمُل" -بضمتين والميم خفيفة- ابن عباس. وقرأ أبو السمال: "الْجَمْل" مفتوحة الجيم ساكنة الميم. قال أبو الفتح: "أما "الْجُمَّل" بالتثقيل و"الْجُمُل" بالتخفيف فكلاهما الحبل الغليظ من القنب، ويقال: حبل السفينة، ويقال: الحبال المجموعة، وكله قريب بعضه من بعض. وأما "الْجُمْل" فقد يجوز في القياس أن يكون جمع جَمَل كأَسَد وأُسْد ووَثَن ووُثْن، وكذلك المضموم الميم أيضًا كأُسُد. وأما "الْجَمْل" فبعيد أن يكون مخففًا من المفتوح لخفة الفتحة، وإن كان قد جاء عنهم قوله: وما كل مبتاع ولو سَلْف صَفْقُهُ ... براجع ما قد فاته بِرِداد2 ومن ذلك قراءة عكرمة: "لا يَنَالُهُم اللَّهُ بِرَحْمَةٍ دَخَلُوا الْجَنَّةَ"3. وقرأ طلحة بن مُصرِّف4: "بِرَحْمَةٍ أُدْخِلُوا الْجَنَّةَ" أي: فُعِلَ ذلك بهم.
قال أبو الفتح: الذي في هاتين القراءتين خطابهم بقوله سبحانه: "لا خوف عليهم ولا هم يحزنون"، وطريق ذلك أن قوله: "أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ" الوقف هنا، ثم يُستأنف فيقال: "دَخَلُوا الجنة"، أو "أُدْخِلُوا الجنة" أي: قد دخَلوا أو أُدخلوا، وإضمار قد موجود في الكلام نحو قوله: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} 1 أي: قد حصرت صدورهم؛ أي: فقد دخلوا الجنة، فقال لهم: {لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} ، وقد اتسع عنهم حذف القول كقوله تعالى: {يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ} 2 أي: يقولون لهم: سلام عليكم، وقال الشاعر: رَجْلان من ضبة أخبرانا ... إنا رأينا رجلًا عريانا3 أي قالا: إنا رأينا، ولذلك كَسَر. هكذا مذهب أصحابنا في نحو هذا من إضمار القول. وقد يجوز أن يكون قوله: {لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُون} قولًا مرتجلًا لا على تقدير إضمار القول؛ لكن استأنف الله عز وجل خطابهم، فقال: "أُدْخِلُوا الْجَنَّةَ"، كما استأنفه تعالى على القراءة المشهورة وهي: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} . ومثله من ترك كلام إلى كلام آخَرَ بيتُ الكتاب، وهو قوله: ألا يا بيتُ بالعلياء بيتُ4 ألا تراه حمله على أنه نادى البيت، ثم ترك خطابه وأقبل على صاحبه، فقال: بالعلياء بيتُ، ثم رجع إلى خطاب البيت فقال له: ولولا حب أهلك ما أتيت وسألني قديمًا بعض مَن كان يأخذ عني، فقال: لِمَ لا يكون "بيت" الثاني تكريرًا على الأول
كقولك: يا زيد زيد، ويكون بالعلياء في موضع الحال من البيت الأول، كما كان قول النابغة: يا دارَ ميةَ بالعلياء1 قوله: "بالعلياء" في موضع الحال؛ أي: يا دار مية عالية مرتفعة، فيكون كقوله: يا بؤس للجهل ضَرَّارًا لأقوام2 هذا معنى ما أورده بعد أن سددت السؤال ومكنته، فقلت: لا يجوز ذلك هنا؛ وذلك أنه لو كان البيت الثاني تكريرًا على الأول لقال: لولا حُب أهلك ما أتيت، فيكون كقولك: يا زيد، لولا مكانك ما فعلت كذا، وأنت لا تقول: يا زيد، ولولا مكانك لم أفعل كذا3، فإذا بَطَلَ هذا ثبت ما قاله صاحب الكتاب من كونه كلامًا بعد كلام، وجملة تتلو جملة. وهذا واضح، فقوله على هذا: {لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ} جملة لا موضع لها من الإعراب من حيث كانت مرتجلة، وهي في القول الأول منصوب الموضع على الحال؛ أي: دخلوا الجنة أو أُدخلوا الجنة، مقولًا لهم هذا الكلام الذي هو: لا خوف عليكم، وحُذِفَ القول وهو منصوب على الحال، وأقيم مقامه قوله: "لا خوف عليكم" فانتصب "60ظ" انتصابه، كما أن قولهم: كلَّمته فاه إلى فِيّ منصوب على الحال؛ لأنه ناب عن: جاعلًا فاه إلى فِيّ، أو لأنه وقع موقع مشافهة التي هي نائبة عن مشافِهًا له. ومن ذلك قراءة ابن أبي إسحاق: "أو نُرَدَّ "4 بنصب الدال.
قال أبو الفتح: الذي قبله مما هو متعلق به قوله: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا} ، ثم قال: "أَوْ نُرَدَّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ" فعطف "نرد" على "يشفعوا"، وهو منصوب لأنه جواب الاستفهام وفيه معنى التمني؛ وذلك أنهم قد علموا أنه لا شفيع لهم، وإنما يتمنون أن يكون لهم هناك شفعاء، فيردوا بشفاعتهم، فيعملوا ما كانوا لا يعملونه من الطاعة؛ فيصير به المعنى إلى أنه كأنهم قالوا: إن نُرزق شفعاء يشفعوا لنا أو نُرْدَد، وتقديره مع رفع نرد على قراءة الجماعة: أن نُرزق شفعاء يشفعوا لنا، وإن نردد نعمل غير الذي كنا نعمل. وذلك أنهم مع نصب "نرد" تمنوا الشفعاء وقطعوا بالشفاعة، وتمنوا الرد أيضًا وضَمِنُوا عمل ما لم يكونوا يعملونه؛ أي: إن نُردد نعمل غير الذي كنا نعمل كأنه قال: أو هل نرد فنعمل. فأما قوله سبحانه: "يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبُ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونُ"1، فقال فيه أبو الحسن: إنهم إنما تمنوا الرد، وضمنوا ألا يُكَذِّبُوا، وهذا يوجب النصب لأنه جواب للتمني، قال: إلا أنه عُطِفَ في اللفظ والمراد به الجواب، وشَبَّهه بقول الله سبحانه: "وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ"2 بالجر، قال: فهي في اللفظ معطوفة على المسح، وفي المعنى معطوفة على الغسل، قال ونحو منه: هذا حجر ضَبٍّ خربٍ. وقرأها الحسن: "أو تُريدُ فَنَعْملُ" فهو على هذه القراءة على أنهم تمنوا إرادته عز وجل إيمانَهم وعملَهم. فإن قيل: وكيف يصح تمنيهم إرادتَه منهم الإيمانَ، ومعلوم أنه هو المراد منهم لقوله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 3 وغيره من الآي؟ قيل: يكون معناه إرادة اقتسار لهم على الإيمان لا رَدٍّ منه تعالى الأمر إليهم فيه، فيكون هذا كقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} 4 أي: لو شاء مشيئة إلجاء أو إكراه لا عَرْض وترغيب. وساغ في هذه القراءة تمنيهم العمل؛ إذ كان بلطف الله -عز وجل- لهم فيه وإعانته إياهم عليه.
وإن شئت قلت: عطَف "نعمل" بالرفع لفظًا وهو ينوي أنه جواب؛ أي: إن شاء الله ذلك مشيئة إلجاء عملنا لا محالة، فيعطفه لفظًا وهو يريد الجواب على ما مضى. ومن ذلك قراءة حُميد: "يَغْشَى"1 بفتح الياء والشين، ونصب "الليل" ورفع "النهار"2. قال أبو الفتح: اتصال قوله تعالى: "يَغْشَى اللَّيْلَ النَّهَارُ" بقوله: "ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ" اتصال الحال بما قبلها، ويكون هناك عائد منها إلى صاحبها وهو الله تعالى؛ أي: يَغشَى الليلَ النهارُ بأمره أو بإذنه، وحذف العائد كما يحذف من خبر المبتدأ في نحو قولهم: السَّمْنُ مَنَوان بدرهم؛ أي: منوان منه بدرهم. ودعانا إلى إضمار هذا العائد أن تتفق القراءتان على معنى واحد؛ ألا ترى إلى قراءة الجماعة: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} ، وأن هذه الجملة في موضع الحال؛ أي: استوى على العرش مُغْشِيًا الليل النهار؛ أي: استوى عليه في هذه الحال "61و". فقوله إذن: {يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} بدل من قوله: "يغْشَى اللَّيْلَ النَّهَارُ" للتوكيد، وهو على قراءة الجماعة: "يُغْشِي" أو "يُغَشِّي" حال من الليل؛ أي: يُغَشِّي الليل النهار طالبًا له حثيثًا، وحثيثًا بدل من طالب أو صفة له؛ لأن طالبًا لو كان منطوقًا به حال هناك، والحال عندنا فوصف3 من حيث كانت في المعنى خبرًا، والأخبار توصف؛ لكن الصفات عندنا لا توصف. وإن شئت يكون "حثيثًا" حالًا من الضمير في يطلبه، وفيه من بعد هذا ما أذكره؛ وذلك أن الفاعل في المعنى من أحد المفعولين في قراءة الجماعة هو الليل؛ لأنه المفعول الأول، كقولك: أعطيت زيدًا عمرًا، فزيد هو الآخذ وعمرو هو المأخوذ، وأغشيت جعفرًا خالدًا، فالغاشي جعفر والمغشيُّ هو خالد، والفاعل في قراءة حميد هو النهار؛ لأنه مرفوع: "يَغْشَى اللَّيْلَ النَّهَارُ"، فالفاعلان والمفعولان جميعًا مختلفان على ما ترى.
ووجه صحة القراءتين جميعًا والتقاء معنَيَيْهما أن الليل والنهار يتعاقبان، وكل واحد منهما وإن أزال صاحبه فإن صاحبه أيضًا مُزيلٌ له، فكل واحد منهما على هذا فاعل وإن كان مفعولًا، ومفعول وإن كان فاعلًا. وعلى أن الظاهر في الاستحثاث هنا إنما هو النهار؛ لأنه بسفوره وشروقه قد أظهر أثرًا في الاستحثاث من الليل. وبعدُ، فليس النهار إلا ضوء الشمس، والشمس كائنة محدثة، ولا ضوء قبل أن يخلقها لله جل وعز، فالضوء إذن هو الهاجم على الظلمة، ويطلبه حثيثًا، على هذا حال من النهار؛ لأنه هو الأحث منهما. ويجوز في قراءة الجماعة أن يكون يطلبه حالا من النهار وإن كان مفعولًا، كقولك: ضربتْ هندٌ زيدًا مؤلِمَة له، فقد يكون مؤلمة حالًا لزيد، كما قد يجوز أن يكون حالًا من هند؛ وذلك أن لكل واحد منهما في الحال ضميرًا. ومثله قول الله تعالى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} 1، قد يجوز أن يكون "تحمله" حالًا منها، ويجوز أن يكون حالًا منه، وقد يجوز أيضًا أن يكون2 منهما جميعًا على قوله: فلئن لقيتك خاليين لتعلما ... أيي وأيك فارسا الأحزاب؟ 3 ويجوز أيي وأيك فارسُ الأحزاب؛ أي: أينا فارس الأحزاب، فكذلك يكون قوله: يطلبه حثيثًا، حالًا منهما جميعًا على ما مضى؛ لأن لهما جميعًا فيه ضميرًا. ولو كان الآية فأتت به قومها تحمله إليه4 لجاز أن يكون ذلك حالًا منها، ومنه ومنهم جميعًا؛ لحصول ضمير كل واحد منهم في الجملة التي هي حال، فاعرف ذلك. ولعمري إنك إذا قلت: أغشيتُ زيدًا عمرًا، فإن العرف أن يكون زيد هو الغاشي وعمرو هو المغشيّ، إلا أنه قد يجوز فيه قلب ذلك، لكن مع قيام الدلالة عليه، ألا ترى إلى قوله: فدع ذا ولكن من ينالُك خيرُه ... ومن كان يعطي حقَّهن القَصائدا؟ أراد: يعطي القصائد حقهن، ثم قدم المفعول الثاني فجعله قبل الأول من حيث كانت القصائد هنا هي الآخذة في المعنى، ونحوه: كسوت ثوبًا زيدًا، ساغ تقديمه لارتفاع الشك فيه، وليس
كذلك يُغشي "61ظ" الليل النهار؛ من حيث كانا متساويي الحالين في الغِشْيان، وعلى كل حال فكل واحد منهما غاشٍ لصاحبه. ومن ذلك قراءة الحسن بخلاف وقتادة وأبي رجاء والجحدري وسهل بن شعيب1: "نُشْرًا"2 بضم النون وجزم الشين. وقرأ: "بَشْرًا" -بفتح الباء ساكنة الشين- أبو عبد الرحمن بخلاف. وقرأ: "بُشُرًا" -بالباء مضمومة منونين- ابن عباس والسلمي بخلاف وعاصم بخلاف. وقرأ: "بُشْرى" -غير منونة على فُعْلَى- محمد بن السميفع وابن قطيب. وقرأ: "نَشَرًا" -بفتح النون والشين- مسروق3. قال أبو الفتح: أما "نُشْرًا" فتخفيف "نُشُرًا"4 في قراءة العامة، والنُّشُر جمع نَشُور؛ لأنها تَنْشُر السحاب وتستدرُّه، والتثقيل أفصح لأنه لغة الحجازيين، والتخفيف في نحو ذلك لتميم. وأما "بُشُرًا" فجمع بشير؛ لأنه الريح تبشِّر بالسحاب. وأما "بَشْرًا" فمصدر في موضع الحال، كقول الله تعالى: {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا} 5 أي: ساعيات، فكذلك "بَشْرًا" أي: باشرات في معنى مبشرات، يقال: بَشَرتُ الرجل أبشُرُه بَشْرًا، فأنا باشر وهو مبشور، وأبشرته أُبْشِرُه، فأنا مُبْشِر وهو مُبْشَر. وبشَّرتُه تبشيرًا، فأنا مُبَشِّر وهو مُبَشَّر. وبَشِر بالأمر يَبْشَر به، فهو بَشِرٌ، كفرح به يفرح فرحًا، وهو فَرِح، وأبشر هو أيضًا يُبْشِرُ إبشارًا، ومنه المثل السائر: أبشر بما سرك عيني تختلج6
والبِشَارَة: حسن البَشَرَة، قال أبو إسحاق: قيل لما يُفْرَح به بِشارة؛ لأن الإنسان إذا فرح حسنت بَشَرته. فإن قيل: فإن البَشَرة قد يبين عليها الحسن تارة والقبح أخرى، فكيف خُص به هاهنا حسنها دون قبحها؟ قيل: من عادتهم أن يوقعوا على الشيء الذي يختصونه بالمدح اسم الجنس المطلق على جميع أجزائه المختلفة، ألا تراهم قالوا: لفلان خُلُق فخصوه بالمدح، وإن كان الخلق يكون قبيحًا كما يكون حسنًا؟ وقالوا للكعبة: بيت الله، والبيوت كلها لله، فخصوا باسم الجنس أشرف أنواعه. وقالوا: فلان متكلم، يعنون به صاحب النظر، والناس كلهم متكلمون. وأما "بُشْرَى" على فُعْلَى فمنصوبة على الحال أيضًا؛ أي: مُبِشِّرات على ما مضى. وفي "نَشَرًا" فعلى حذف المضاف؛ أي: ذوات نشر، والنَّشَر أن تنتشر الغنم بالليل فترعى، فهذا على تشيبه السحاب في انتشاره وعمومه من هاهنا ومن هاهنا بالغنم إذا انتشرت للرعي. ومن ذلك قراءة علي -عليه السلام- وابن عباس وابن مسعود وأنس بن مالك وعلقمة والجحدري والتيمي وأبي طالوت وأبي رجاء: "وَيَذَرَكَ وَإلَاهَتَكَ"1. وقرأ: "ويَذَرْكَ" -بإسكان الراء- الأشهب. وقرأ: "ويذرُك"2 نعيم بن ميسرة والحسن بخلاف. قال أبو الفتح: أما "إلَاهَتَك" فإنه عبادتك، ومنه الإله؛ أي: مستحق العبادة، وقد سميت الشمس إِلاهَة وأَلاهة3؛ لأنهم كانوا يعبدونها، ويقال: تَأَلَّه تألهًا. قال رؤبة: سبَّحن واسترجعن من تألهي4
أي: عبادتي، ويقال: لاهِ أبوك، ولهْ أبوك، ولَهْيَ أبوك ولَهِ أبوك، وفي تصريفها بعض الطول؛ فندعه تخفيفًا. وأما "ويذَرُك" بالرفع فعلى الاستئناف "62و" أي: فهو يذرك. وأما "يذَرْك" بالإسكان فيمن "يذَرُك"، كقراءة أبي عمرو: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرْكُمْ"1. وحكى أبو زيد: "رُسُلْنا" بإسكان اللام استثقالًا للضمة مع توالي الحركات، ولم يسكن أبو عمرو "يَأْمُرُهم" كما أسكن "يأمرُكم"؛ وذلك لخفاء الهاء وخفتها فجاء الرفع على واجبه. وليست الكاف في "يأمركم" بخفِّيه ولا خفيفة خفة الهاء ولا خفاءها، فثقل النطق بها فحذف ضمتَها. ومن ذلك قراءة الحسن: "إنما طَيْرُكُمْ2 عند الله"3. قال أبو الفتح: الطير جمع طائر في قول أبي الحسن، وفي قول صاحب الكتاب: اسم للجمع، بمنزلة الجامل والباقر غير مكسَّر. وروينا عن قطرب في كتابه الكبير أن الطير قد تكون واحدًا، كما أن الطائر الذي يقرأ به الجماعة واحد، وعلى أنه قد يكون الطائر جِمَاعًا بمنزلة الجامل والباقر. وأنشد ابن الأعرابي: وبالعثانين وبالحناجر ... كأنه تَهتانُ يومٍ ماطرِ على رءوسٍ كرُءوس الطائر4 ومن ذلك قراءة الحسن: "عَلَيْهِمُ الْقَمْل"5 بفتح القاف، وسكون الميم. قال أبو الفتح: "القَمْل" هنا: هو هذا المعروف، ولا يجوز أن يكون تحريف القُمَّل، ولا لغة
فيه، كالجمْل والْجُمَّل في قراءة من قرأ: "حَتَّى يَلِجَ الْجَمْلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ"؛ لأن لهذا وجهًا قائمًا معروفًا، وهو هذا القَمْل المعروف. ومن ذلك قراءة الحسن أيضًا: "سَأُورِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ"1. قال أبو الفتح: ظاهر هذه القراءة مردود؛ لأنه سأُفْعِلُكم من رأيتُ، وأصله: سَأُرْئِيكُم، ثم خففت الهمزة بحذفها وإلقاء حركتها على الراء، فصارت سأُريكم. قالوا: وإذن لا وجه لها، ونحو من هذا قراءته أيضًا: "ولا أَدْرَأْتُكُم به"، إلا أن له وجهًا ما، هو أن يكون أراد: "سأُرِيكم" ثم أشبع ضمة الهمزة فأنشأ عنها واوًا، فصارت "سَأُورِيكم". وقد جاء من هذا الإشباع الذي تنشأ عنه الحروف شيء صالح نثرًا ونظمًا، فمن المنثور قولهم: بينا زيد قائم جاء عمرو، إنما يراد بين أوقات زيد قائم جاء فلان، فأشبع الفتحة فأنشأ عنها ألفًا. ومثله قول عنترة: يَنْبَاع من ذِفْرَى غَضوب جسرة2 أراد: ينبع، فأشبع فتحة الباء فنشأت عنها ألف كما ترى، على هذا حمله لنا أبو علي سنة إحدى وأربعين، وقد قال الأصمعي مع ذلك يقال: انباع الشجاع ينباع انبياعًا إذا انخرط ماضيًا من الصف. وأخبرنا أبو علي عن أحمد بن يحيى أنه قال: يقال: جِيء به من حيثُ ولَيْسا3. ورَوى الفراءُ عن بعضهم أنه سمعه يقول: أكلت لحما شاة، وهو يريد: لحم شاة، فأشبع الفتحة فأنشأ عنها ألفًا، وهو اعتراض بين المضاف والمضاف إليه علي ضيق الوقت وقصره بينهما. ومنه المسموع عنهم في الصياريف والدراهيم4، وأنشدنا أبو علي:
وأنني حيثما يسري الهوى بصري ... من حَوْثُما سلكوا أثنى فأَنظور1 يريد: فأنظره، فأشبع الضمة فأنشأ عنها واوًا، هكذا رواه أبو علي يسري من سريت، ورواه ابن الأعرابي "62 ظ": يشري -بالشين معجمة- أي: يُقلق ويحرك الهوى بصري، وما أحسن هذه الرواية وأطرفها! وأنشد غيرهما: عَيْطاء جَمَّاء العِظَام عُطْبولْ ... كأَن في أنيابها القَرَنْفولْ2 يريد: القَرَنْفُل، فإذا جاز هذا ونحوه نظمًا ونثرًا ساغ أيضًا أن يُتأول لقراءة الحسن: "سأُورِيكُمْ"، أراد: سأُرِيكم وأشبع ضمة الهمزة فأنشأ عنها واوًا، وهو أبو سعيد، والمأثور من فصاحته ومتعالَم قوة إعرابه وعربيته! فهذا مع ما فيه من نظائره أمثل من أن يُتلقي بالرد صِرفًا غير منظور له ولا مسعيٍّ في إقامته. وزاد في احتمال الواو في هذا الموضع أنه موضع وعيد وإغلاظ، فمُكن الصوت فيه وزاد إشباعه واعتماده، فأُلحقت الواو فيه لما ذكرنا. ومن ذلك قراءة مجاهد: "فَلا تَشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ"3، وقرأ أيضًا: "فَلا يَشْمَتْ بِيَ الْأَعْدَاءُ". قال أبو الفتح: الذي رويناه عن قطرب في هذا أن قراءة مجاهد: "فَلا تَشْمَتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ" رفع -كما ترى- بفعلهم، فالظاهر أن انصرافه إلى الأعداء، ومحصوله: يا رب، با تُشْمِتْ أنت بي الأعداء، كقراءة الجماعة. فأما مع النصب فإنه كأنه قال: لا تَشْمَتْ بي أنت يا رب، وجاز هذا كما قال سبحانه: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} 4 ونحوه مما يجري هذا المجرى، ثم عاد إلى المراد فأضمر فعلًا نصب به الأعداء5، فكأنه قال: لا تُشْمِتْ بي الأعداء، كقراءة الجماعة.
ومن ذلك قراءة أبي وَجْزَة السعدي: "هِدْنا إليك"1. قال أبو الفتح: أما "هُدْنا" بضم الهاء مع الجماعة فتُبْنَا، والْهُود: جمع هائد؛ أي: تائب. وأما "هِدْنا" بكسر الهاء في هذه القراءة فمعناه انجذبنا وتحركنا، يقال: هادَني يهيدُني هيْدًا؛ أي: جذبني وحركني، فكأنه قال: إنا هِدْنا أنفسنا إليك2، وحركناها نحو طاعتك. قال: أَلِمَّا عليها فانعَيانِيَ وانظرا ... أينصتها أم لا يُهيِّدُها ذِكْري أي: أم لا يهيجها ويهزها ذكري، ومنه قولهم في زجر الإبل: هِيد؛ أي: أسرعي. قال ذو الرمة: إذا حداهن بهيدٍ هِيدِ ... صفحْن للأزرار بالخدود3 ومن ذلك قال ابن رومي4: حدثني أحمد بن موسى، وحدثني الثقة عنه أنه قرأ: "النَّبِيَّ الْأَمِّيَّ"5 بفتح الهمزة، يقول: يأْتم به مَنْ قبله. قال أبو الفتح: هذا منسوب إلى مصدر أَمَمت الشيء أَمًّا، كقولك: قصدته قصدًا، ثم أضيف إليه عليه السلام، هذا على هذا التفسير الذي سبق ذكره. وقد يجوز مع هذا أن يكون أراد الأُمي بضم الهمزة كقراءة الجماعة، ثم لحقه تغيير النسب، كقولهم في الإضافة إلى أُميَّة: أَموى، بفتح الهمزة، وكقولهم في الدهر: دُهْرِي، وفي الأمس: إِمْسِي، وفي الأفق: أَفَقِي بفتح الهمزة، وهو باب كبير واسع عنهم.
ومن ذلك قراءة الحسن وعمرو1 الأسواري: "أُصيبُ به مَن أَسَاءَ"2. قال أبو الفتح: هذه القراءة أشد إفصاحًا بالعدل من القراءة الفاشية التي هي: "مَن أشاء"؛ لأن العذاب "63و" في القراءة الشاذة مذكور علة الاستحقاق له، وهو الإساءة، والقراءة الفاشية لا يُتناول من ظاهرها علة أصابة العذاب له، وأن ذلك لشيء يرجع إلى الإنسان، وإن كنا قد أحطنا علمًا بأن الله تعالى لا يظلم عباده، وأنه لا يعذب أحدًا منهم إلا بما جناه واجترمه على نفسه، إلا أنا لم نعلم ذلك من هذه الآية؛ بل من أماكن غيرها. وظاهر قوله تعالى: {مَنْ أَشَاء} بالشين معجمة ربما أوهم من يضعف نظره من المخالفين أنه يعذب من يشاء من عباده، أساء أو لم يسئ، نعوذ بالله من اعتقاد ما هذه سبيله، وهو حسبنا وولينا. ومن ذلك قراءة الجحدري وسليمان التيمي وقتادة: "وعَزَرُوه"3 خفيفة الزاي. قال أبو الفتح: مشهور اللغة في ذلك: عزَّرت الرجل: أي عظمته، وهو مشدد، وقد قالوا: عَزَرتُ الرجل عن الشيء بتخفيف الزاي إذا منعته عن الشيء، ومنه سمي الرجل: عَزْرة؛ فقد يجوز أن يكون "وعزَرُوه" على هذه القراءة؛ أي: منعوه وحجزوا ذكره عن السوء، كقوله: سبحان الله، ألا ترى أن أبا الخطاب فسره فقال: براءة الله من السوء؟ فبرَّأْته من الشيء وحجزته عنه بمعنى واحد. ومن ذلك قراءة يحيى والأعمش وطلحة بن سليمان: "عَشِرة"4، وقرأ "عشَرة" بفتح الشين بخلاف. قال أبو الفتح: أما "عشِرة" بكسر الشين فتميمية، وأما إسكانها فحجازية. واعلم أن هذا موضع طريف؛ وذلك أن المشهور عن الحجازيين تحريك الثاني من الثلاثي إذا كان مضمومًا أو مكسورًا، نحو: الرسُل والطنُب والكبِد والفخِذ، ونحو: ظرُف وشرُف وعلِم وقدِم. وأما بنو تميم فيسكنون الثاني من هذا ونحوه، فيقولون: رُسْل وكُتْب وكَبْد وفَخْذ، وقد ظَرْف وقد عَلْم، لكن القبيلتين جميعًا فارقتا في هذا الموضع من العدد معتاد لغتهما، وأخذت كل
واحدة منهما لغة صاحبتها وتركت مألوف اللغة السائرة عنها، فقال أهل الحجاز: اثنتا عشْرة بالإسكان، والتميميون عشِرة بالكسرة. وسبب ذلك ما أذكره؛ وذلك أن العدد موضع يَحْدث معه ترك الأصول، وتُضم فيه الكلم بعضه إلى بعض، وذلك من أحد عشر إلى تسعة عشرة، فلما فارقوا أصول الكلام من الإفراد وصاروا إلى الضم فارقوا أيضًا أصول أوضاعهم ومألوف لغاتهم، فأسكن من كان يحرك، وحرك من كان يسكن، كما أنهم لما حذفوا هاء حنيفة للإضافة حذفوا معها الياء، فقالوا: حنفي، ولما لم يكن في حنيف هاء تحذف فتحذف لها الياء قالوا فيه: حنيفي، كقولهم: الجاه، وأصله عندنا الوجه، فقلبوه فقدموا العين على الفاء، وكان قياسه أن يقولوا: جَوْه، إلا أنهم لما قلبوا شجُعوا عليه فغيروا بناءه. فأصاروه من جَوْه إلى جَوَه، فانقلبت الواو التي هي فاء في موضع العين ألفًا لانفتاح ما قبلها وحركتها، فصارت جاه كما ترى. وحسَّن ذلك لهم أيضًا ما أذكره؛ وهو أنهم قد علموا أنهم إذا حركوا الواو وقبلها فتحة انقلبت ألفًا وهي "63ظ" ساكنة كما تعلم أبدًا، فصار عودهم إلى سكون الحرف مسوغًا لهم تحريكه المؤدي إلى سكونه، حتى كأنهم لم يحدثوا في الحروف حدثًا. فإن قيل: فهلا أقروا الواو على سكونها، واستغنوا بذلك عن تحريكها المؤدي إلى سكون الحرف المنقلب عنها وهو الألف. قيل: الذي فعلوه أصنع؛ وذلك أنهم إذا قلبوه ألفًا صار بمنزلة وجود الحركة فيه؛ لأن الألف في نحو هذا لا تنقلب إلا عن حركة وهي مع هذا ساكنة، فاجتمع لهم في الألف أمران: أحدهما: تحريك الساكن لما عَرَض لهم هناك في القلب على عادتهم في إلحاق التحريف1 بعضه ببعض. والآخر: سكون الألف لفظًا مع ما قدمناه من اعتقاد تحريكها معنى. وإذا أدى الحرف الساكن مع خفته تأدية المحرَّك على ثقله، فتلك صنعة مأْنوس بها مُعْتَمَدٌ مثلها، وما لحقه تغيير ما فدعا ذاك إلى إلحاقه تغييرًا ثانيًا كثير في اللغة جدًّا، ألا ترى إلى أحد قولي سيبويه في أَينُق: إن الياء فيها بدل من الواو التي هي عين في أصل الكلمة؛ وذلك أن أصلها أَنْوُق، وقد حكاها الفراء فيما رويناه عنه، فقدمت العين على الفاء فصار تقديرها أونق، فلما تقدمت العين على الفاء فتوهنت بذلك قلبوها ياء فقالها: أينق، وكذلك لما أَعلُّوا
فاء الفعل من اتقى بأن أبدلوها تاء وأدغموها في تاء افتعل أعلُّوها أيضًا بالحذف، فقالوا: تَقَى يَتْقِي. ومثله ما أنشده أبو زيد من قول الشاعر1: قَصَرْتُ له القبيلة إذا تَجهْنا ... وما ضافت بشدته ذراعي فيمن رواه بفتح الجيم2، ألا ترى أن وزنه افتعلنا من الوجه اوتَجَهْنا، فلما أُبدلت الواو تاء وأدغمت في تاء افتعل فصارت اتجه، شجُعوا على أن حذفوها أيضًا فقالوا: تَجَه؟ فوزن تَجَه الآن على لفظه تَعَل، ومضارعه يتَجِه، ومثاله يتَعِل، وكذلك تَقَى فَعَل، والجاه وزنه على اللفظ بسكون الألف عَفْل، وهو قبل القلب عَفَل؛ لأنه صار من جَوْه إلى جَوَه، وأصله الأول فعْل لأنه وَجْه، ولولا إشفاقي من الإطالة لبسطت هذا ونحوه بسطًا يونِقُ عارفيه وأهله، وفيما ذكرنا دليل على ما أُغفل. وأما "اثنتا عشَرة" بفتح الشين فعلى وجه طريف؛ وذلك أن قوله: "اثنتي" يختص بالتأنيث، و"عشَرة" بفتح الشين تختص بالتذكير، وكل واحد من هذين يدفع صاحبه. وأقرب ما تُصرف هذه القراءة إليه أن يكون شبَّه اثنتي عَشَرة بالعقود ما بين العشرة إلى المائة، ألا تراك تقول: عشرون وثلاثون، فتجد فيه لفظ التذكير ولفظ التأنيث؟ أما التذكير فالواو والنون، وأما التأنيث فقولك: ثلاث من ثلاثون؛ ولذلك صلحت ثلاثون إلى التسعين للمذكر والمونث فقلت: ثلاثون رجلًا وثلاثون امرأة، وتسعون غلامًا وتسعون جارية، فكذلك أيضًا هذا الموضع. ألا تراه قال تعالى: {اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا} ؟ 3 فـ"أَسْبَاطًا" يؤذن بالتذكير، و"أمم" يؤذن بالتأنيث، وهذا واضح. وحَسُن تشبيه اثنتي عشرة "64و" برءوس العقود دون المائة من حيث كان إعراب كل واحد منهما بالحرف لا بالحركة، وذلك اثنتا عشْرة واثنتي عشْرة، فهذا نحو من قولهم: عشرون وعشرين، وخمسون وخمسين، وتسعون وتسعين، فافهمه. ومما يدلك على أن ضم أسماء العدد بعضها إلى بعض يدعو إلى تحريفها عن عادة استعمالها قولهم: أحد عشر رجلًا وإحدى عشرة امرأة، وكان قياس أربع وأربعة وخمس وخمسة أن يكون
هذا أَحد وأَحَدة، أفلا ترى إلى إحدى -وهي فِعْلَى وأصلها وِحْدى- كيف عاقبت في المذكر فعلًا، وهو أحد وأصله وَحَد؟ فأما إحدى وعشرون إلى التسعين فإنه لما سبق التحريف إليها في إحدى عشرة ثبت فيها فيما بعد. ومن ذلك ما رواه قتادة عن الحسن: "وقولوا حِطَّةً"1 بالنصب. قال أبو الفتح: هذا منصوب عندنا على المصدر بفعل مقدر؛ أي: احْطُطْ عنا ذنوبنا حِطَّةً. قال: واحطُط إلهي بفضلٍ منك أوزاري ولا يكون "حطة" منصوبًا بنفس قولوا؛ لأن قلت وبابها لا ينصب المفرد إلا أن يكون ترجمة الجملة، وذلك كأن يقول إنسان:" لا إله إلا الله، فتقول أنت قلت: حقًّا؛ لأن قوله: لا إله إلا الله حق، ولا تقول: قلت زيدًا ولا عمرًا، ولا قلت قيامًا ولا قعودًا، على أن تنصب هذين المصدرين بنفس قلت لما ذكرته. ومن ذلك قراءة شهر بن حوشب2 وأبي نهيك3: "يَعَدُّونَ فِي السَّبْت"4. قال أبو الفتح: أراد يعتدون، فأسكن التاء ليدغمها في الدال، ونقل فتحتها إلى العين، فصار يعَدُّون، وقد مضى مثله في يَخَصِّف5. ومن ذلك قراءة أبي جعفر وشيبة وأبي عبد الرحمن والحسن واختلف عن نافع: "بعَذابٍ بِيسٍ"6 فعل بلا همز، و"بِئْسٍ" وهي قراء السلمي بخلاف، ويحيى وعاصم بخلاف،
والأعمش بخلاف، وعيسى الهمداني. "بَيْئِسٍ" مثل فَيْعِل ابن عباس وعاصم بخلاف. "بَيْئَس" طلحة بن مصرف. وقرأ أبو رجاء: "بائس "، و"بَيَسٍّ" وزن فَعَلٍّ. وقراءة نصر بن عاصم وجُؤيَّة1 بن عائذ: و"بَأْس"2 ورُوي عن مالك بن دينار أيضًا. و"بَيِّسٍ" وزن فَعِّلٍ، يروى عن نصر بن عاصم أيضًا. و"بئِس " وزن فعِل قراءة زيد بن ثابت و"بِئْس". ومما رويت عن الحسن و"بَيْس "، ورويت عن نافع أيضًا. قال أبو الفتح: أما "بِيس" بغير همز على وزن فِعْل فيحتمل أمرين: أحدهما: أن يكون أراد مثال فِعْل، فيكون كما جاء من الأوصاف على فِعْل، نحو: نِضْو3 ونِقْض4 وحِلْف، وأصله الهمز كقراءة مَن قرأ "بِئْسٍ" بالهمز، إلا أنه خفف فأبدل ياء فصارت "بيس" كبِير وذيبٍ، فيمن خفف. والآخر: أن يكون أراد فَعِلًا، فأصله بَئِس كمَطِر وحَذِر، ثم أسكن ونقل الحركة من العين إلى الفاء كالعبرة فيما كان على فَعِل وثانيه حرف الحلق كفخِذ ونغِر5 وجئِز6، فصار إلى بِئس، ثم خفف فقال: بِيس، على ما مضى. وأما "بَئِس" على فَعِل فجاء على قولهم: قد بَئِس الرجل بآسةً: إذا شَجُعَ، فكأنه عذاب مُقدِم عليهم وغير متأخر عنهم. وقد يجوز أيضًا أن يكون "بَئِس" مقصورًا من بئيس كالقراءة "64ظ" الفاشية، كما قالوا في لبيق: لَبق، وفي سيمج سَمج. وأما "بَيْئِس" على فَيْعِل ففيه النظر؛ وذلك أن هذا البناء مما يختص به ما كان معتل العين كسيِّد وهين ودين ولين، ولم يجئ في الصحيح، وكأنه إنما جاء في الهمزة لمشابهتها حرفي العلة، والشبه بينها وبينهما من وجوه كثيرة.
وأما "بَيْسٍ" في وزن جَيْشٍ فطريق صنعته أنه أراد بَئِس، فخفف الهمزة فصارت بين بين؛ أي: بين الهمزة والياء، فلما قاربت الياء ثقلت فيها الكسرة فأسكنها طلبًا للاستخفاف، فصارت في اللفظ ياء، كما خففوا نحو صَيِدَ البعير، فقالوا: صيْدَ وإن كنت العين في صيِد ياء محضة وكانت في بَئِس همزة مخففة، إلا أنه شبهها بياء صَيِد لما ذكرنا من مقاربتها في اللفظ الياء، ونحو من ذلك قول ابن ميادة: فكان يوْميْذٍ لها حكمُها أراد: يومئذ، فخفف فصارت الهمزة بين بين وأشبهت الياء فأسكنها، فقال: "يَوْمَيْذٍ"، فهذا كبَيْسٍ على ما ترى. وقد يجوز أن يكون أراد تخفيف بَيْئِس، فصارت بَيِس ثم أسكن تخفيفًا، كقولهم في عَلِمَ: عَلْم، وفي كلمة: كَلْمة، وفي فَخِذ: فَخْذ، ومثال بيْس على هذا فَيْل. فأما "بائس" فاسم الفاعل من بئِس على ما قدمنا ذكره. وأما "بَيَس"1 فطريف، وظاهر أمره أن يكون جاء على ماضٍ مثالُه فَيْعَل كهَيْنَم2، ثم خففت الهمزة فيه وأُلقيت حركتها على الياء فصار بَيَس، وجاز اعتقاد هذا الفعل وإن لم يظهر كأشياء تثبت تقديرًا ولا تبرز استعمالًا. وأما "بَيِّس" بتشديد الياء وكسرها، فليس على فَعِّل كما ظن ابن مجاهد؛ بل هو على فَيْعِل تخفيف بيئِس على قول من قال من تخفيف سوءَة: سَوَّة، وفي تخفيف شيء: شيّ، فأبدل الهمزة على لفظ ما قبلها، وعليه قول الشاعر: يعجل ذا القباضة الوحِيَّا ... أن يرفع المئزر عنه شَيَّا3 فصار بَيِّس كما ترى. وأما "بأْسٍ" فتخفيف بَئِس، كقولك في سَئِم: سأْم، وفي علِم عَلْم. وأما "بَيْس" فالعمل فيه من تخفيف الهمزة ثم إسكانها فيما بعد كالعمل في "بَيْسٍ" وهو يريد الاسم، وقد مضى ذلك.
وأما "بِئِس" فعلى الإتباع مثل: فِخِذ وشِهِد. قال أبو حاتم في قراءة بعضهم: "بِئيَس"، فهذا في الصفة بمنزلة حِذْيم1 فِعْيَل، وكذا مثَّله أبو حاتم أيضًا. وحكى أبو حاتم أيضًا "بِئِيس" كشِعِير وبِعِير، فكسر أوله لكسر الهمزة بعده. وحكى أيضًا فيها "بَئِّس" فَعِّل، وأنكرها فردها ألبتة، وأنكر قراءة الحسن: "بِئْس" وقال: لو كان كذا لما كان بُدٌّ معها من "ما" بئِسما كنعم ما. ومن ذلك قراءة زهير عن خُصَيف: "مِنْ ظُهورهم ذُرِّيئَتَهم"2 واحدة مهموزة. قال أبو الفتح: هذا يمنع مِن تَأَوُّل الذرية فيمن لم يهمز أنها من الذر أو من ذَرَوت أو من ذَرَيْت، ويقطع بأنها من ذَرَأْتُ؛ أي: خلقتُ. فإن قلت: فهلا أجزْتَ أن تكون من الذَّر وجعلتها فُعْلِيَّة غير أنها همزت كما وجد بخط الأصمعي: قَطًا جؤني3. قيل: هذا من الشذوذ؛ بحيث لا يُسمع أصلًا، فضلًا عن "65و" أن يتخذ قياسًا. ومن ذلك قراءة السلمي: "وادَّارسُوا ما فيه"4، وعباس عن الضبي عن الأعمش: "وادَّكَروا ما فيه". قال أبو الفتح: "ادَّارسُوا" تدارسوا، كقوله: "ادَّاركوا"5، والعمل فيهما واحد، وقد تقدم.
وأما "وادَّكرُوا" فأراد تذكروا، وهذا كقوله تعالى: {قَالُوا اطَّيَّرْنَا} 1. ومن ذلك قراءة السُّلمي: "إيَّان مرساها"2 بكسر الهمزة. قال أبو الفتح: أما "أَيَّان" بفتح الهمزة فَفَعْلان، وبكسرها فِعْلان، والنون فيهما زائدة حملًا على الأكثر في زيادة النون في نحو ذلك. فإن قيل: فهلا جعلتها فَِعَّالا من لفظ أين، قيل: يمنع من ذلك أن أيان ظرفُ زمان وأين ظرف مكان؛ لكنها ينبغي أن تكون من لفظ "أي"؛ لما ذكرناه من اعتبار زيادة النون في نحو هذا. ولأن "أيًّا" استفهام كما أن "أَيان" استفهام، وأن "أَيّ" أين كانت فهي بعض من كل، والبعض لا يخص زمانًا من مكان ولا جوهرًا من حدث، فحملها على "أي" أولى من حملها على أين. وقد كنا قلنا في أي هذه: إنها من لفظ أَوَيْتُ ومعناه. أما اللفظ فلأن باب طويت وشويت أضعاف باب حَيِيت وعَيِيت. وأما المعنى فلأن البعض آوٍ إلى الكل ومتساند إليه، فهي إذن من قوله: يأْوي إلى مُلْطٍ له وكَلْكَلِ3 يصف البعير يقول: إنه يتساندُ بعضُه إلى بعض، فهو أقوى له، فأصلها على هذا أَوْيٌ، ثم قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء فصارت أَيّ، كقولك: طويت الكتاب طيًّا، وشويت اللحم شَيًّا. ولو سمت رجلًا بأَيّان، فتحت الهمزة أو كسرتها، لم تصرفه معرفة؛ لأنها كحَمْدان وعِمْران، وإن كسَّرت ذلك الاسم على سِرْحان وسَراحين وحَوْمانة4 وحوامِين قلت: أوايين، فظهرت الواو التي هي عين أَوَيْتُ، كقولك في تكسير ريَّان أو جمعه على مثال مفاعيل: روايِين، تظهر الواو التي هي عينه لزوال علة القلب عنها.
ومن ذلك قراءة ابن عباس: "كأنَّك حفيٌّ بِها"1. قال أبو الفتح: ذهب أبو الحسن في قوله: {يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} إلى أن تقديره: يسألونك عنها كأنك حفي بها، فأخر "عن" وحذف الجار والمجرور للدلالة عليهما، فهذا الذي قدره أبو الحسن قد أظهره ابن عباس، وحذف "عنها" لدلالة الحال عليها، ألا ترى أنه إذا كان حفيًّا بها فمن العرف وجاري عادة الاستعمال أن يُسْأَل عنها، كما أنه إذا سئل عنها فليس ذلك إلا لحفاوته بها؟ وإذا لم يكن بها حفيًّا لم يكن عنها مسئولًا، وكل واحد من حرفي الجر دل عليه ما صحبه فساغ حذفه، وهذا واضح. ومن ذلك قراءة ابن يعمر: "فَمَرَت بِه"2 خفيفة. قال أبو الفتح: أصله "فمرَّت به" مثقلة، كقراءة الجماعة، غير أنهم قد حذفوا نحو هذا تخفيفًا لثقل التضعيف. وحكى ابن الأعرابي فيما رويناه عنه فيما أحسب: ظنْتُ زيدًا يفعل كذا، ومنه قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} 3 فيمن أخذه من القرار لا من الوقار، وهذا الحذف في المكسور أسوغ؛ لأنه اجتمع فيه مع "65ظ" التضغيف الكسرة، وكلاهما مكروه، وهو قوله تعالى: {ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} 4 أي: ظَلِلْتَ، وقالوا: مَسْتُ يده: أي مَسِسْتُها. وقال أبو زبيد: خلا أن العتاق من المطايا ... أَحسن به فهُن إليه شُوسُ5 أراد: أحسسن، وهذا وإن كان مفتوحًا فإنه قد حُمل الهمزة والزائدة، فازداد ثقلًا.
وقرأ: "فَمَارتْ به" بألف عبد الله بن عمرو، وهذا من مار يمور: إذا ذهب وجاء، والمعنى واحد، ومنه سُمي الطريق مَوْرا للذَّهاب والمجيء عليه، ومنه الْمُورُ: التراب لذلك. وقرأ ابن عباس: "فاستَمرَّت به "1، ومعناه: مرَّت مكلِّفَة نفسَها ذلك؛ لأن استفعل إنما يأتي في أكثر الأمر لمعنى الطلب؛ كقولك: استطعم أي: طلب الطُّعْم، واستوهب: طلب الْهِبَة، والباب على ذلك. ومن ذلك قراءة سعيد بن جبير: "إِنِ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادًا"2 نَصْبٌ، "أمثالَكم " نصب. قال أبو الفتح: ينبغي -والله أعلم- أن تكون إن هذه بمنزلة ما، فكأنه قال: ما الذين تدعون من دون الله عبادًا أمثالكم، فأعمل إن إعمال "ما"، وفيه ضعف؛ لأن إن هذه لم تختص بنفي الحاضر اختصاص "ما" به، فتجري مجرى ليس في العمل، ويكون المعنى: إنْ هؤلاء الذين تدعون من دون الله إنما هي حجارة أو خشب، فهم أقل منكم لأنكم أنت عقلاء ومخاطبون، فكيف تعبدون ما هو دونكم؟ فإن قلت: ما تصنع بقراءة الجماعة: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} ؟ فكيف يُثبت في هذه ما نفاه في هذه؟ قيل: يكون تقديره أنهم مخلوقون كما أنتم أيها العباد مخلوقون، فسماهم عبادًا على تشبيههم في خلقهم بالناس3، كما قال: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَان} 4، وكما قال: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} 5 أي: تقوم الصنعة فيه مقام تسبيحه.
ومن ذلك قراءة الجحدري: "يُمَادُّونَهم"1. قال أبو الفتح: هو يُفَاعِلونهم من أَمددته بكذا، فكأنه قال: يعاونونهم. ومن ذلك قراءة أبي مِجْلَز2: "بالغُدُوِّ والإِيصال"3 بكسر الألف. قال أبو الفتح: هو مصدر آصلنا فنحن مؤصلون؛ أي: دخلنا في وقت الأصيل. قال أبو النجم: فَصَدرت بعد أَصِيل المؤصِل
سورة الأنفال
سورة الأنفال: بسم الله الرحمن الرحيم من ذلك قرأ ابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وعلي بن الحسين وأبو جعفر محمد بن علي وزيد بن علي وجعفر بن محمد وطلحة1 بن مصرف: "يَسأَلونك الأَنْفَالَ"2. قال أبو الفتح: هذه القراءة بالنصب مؤدية عن السبب للقراءة الأخرى التي هي: {عَنِ الْأَنْفَالِ} ، وذلك أنهم إنما سألوه عنها تعرضًا لطلبها، واستعلامًا لحالها: هل يسوغ طلبها؟ وهذه القراءة بالنصب إصراح بالتماس الأنفال، وبيانٌ عن الغرض في السؤال عنها، فإن قلت: فهل يحسن أن تحملها على حذف حرف الجر حتي كأنه قال3: يسألونك عن الأنفال، فلما حذف عن نصب المفعول، كقوله: أَمرتُك الخيرَ فافعل ما أُمرت به4 قيل: هذا شاذ، إنما يحمله الشعر، فأما "66و" القرآن فيُختار له أفصح اللغات، وإن كان قد جاء: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا} 5 و {وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} 6 فإن الأظهر ما قدمناه. ومن ذلك قراءة ابن محيصن: "وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ احْدَى الطَّائِفَتَيْنِ"7 يصل ضمة الهاء بالحاء ويسقط الهمزة.
قال أبو الفتح: هذا حذف على غير قياس، ومثله قراءة ابن كثير: "إنها لَحْدَى الكُبَر"1، وقد ذكرنا نحوه، وهو ضعيف القياس، والشعر أَوْلَى به من القرآن. ومن ذلك قراءة مسلمة2 بن محارب: "وإذ يعِدْكُمُ الله"3 بإسكان الدال. قال أبو الفتح: أسكن ذلك لتوالي الحركات وثقل الضمة، وقد ذكرنا قبله مثله. ومن ذلك قراءة رجل من أهل مكة، زعم الخليل أنه سمعه يقرأ: "مُرَدِّفين"4، واختلفت الرواية عن الخليل في هذا الحرف، فقال بعضهم: "مُرُدِّفين"، وقال آخر: "مُرِدِّفين". قال أبو الفتح: أصله "مُرْتَدِفين" مفتعلين من الرَّدْف5، فآثر إدغام التاء في الدال، فأسكنها وأدغمها في الدال، فلما التقى ساكنان -وهما الراء والدال- حرك الراء لالتقاء الساكنين، فتارة ضمها إتباعًا لضمة الميم، وأخرى كسرها إتباعًا لكسرة الدال. ومثله {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ} 6، ومن كسر الراء فلالتقاء الساكنين، وعليه جاء: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ} ، ويجوز فيهما أن تُنقل حركة الحرف الساكن على الساكن قبله فيقول: "مُرَدِّفِين"، "وَجَاءَ الْمُعَذِّرُون" مُفَعِّلين من الاعتذار، على قولهم: عذَّر في الحاجة: أي قصَّر، وأعذر: تقدم. ومن ذلك قراءة ابن محيصن: "أَمْنَةً نُعَاسًا"7 بسكون الميم.
قال أبو الفتح: لا يجوز أن يكون "أمْنة" مخففًا من "أمَنة" كقراءة الجماعة، من قِبَلِ أن المفتوح في نحو هذا لا يُسكن كما يُسكن المضموم في المكسور لخفة الفتحة. وأما قوله: وما كل مبتاع ولو سَلْف صَفقُه بِرَاجعِ ما قد فاته بِرِداد1 قال أبو الفتح: فشاذ على أننا قد ذكرنا وجه الصنعة في كتابنا الموسوم بالمنصف2. ومن ذلك قراءة الناس: {مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} 3، وقرأ الشعبي4: "مَا لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ" على معنى: الذي به. قال أبو الفتح: "ما" هاهنا موصولة، وصلتها حرف الجر بما جره، وكأنه قال: ما لِلطَّهور، كقولك: كسوته الثوب الذي لدفع البرد، ودفعت إليه المال الذي للجهاد، واشتريت الغلام الذي للقتال. ألا ترى أن تقديره: ويُنَزِّل عليكم من السماء الماء الذي لأن يطهركم به؛ أي: الماء الذي لطهارتكم أو لتطهيركم به. وهذه اللام في قراءة الجماعة: {مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} هي لام المفعول له، كقوله: زرتك لتكرمني، وهي متعلقة بزرتك، ولا ضمير فيها لتعلقها بالظاهر. فهي كقوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} 5، فهي كما ترى متعلقة بنفس "فتحنا" تعلقَ حرف الجر بالفعل قبله. وأما اللام في قراءة من قرأ: "ما لِيُطَهِّرَكم به" أي: الذي للطهارة به، فمتعلقة بمحذوف، كقولك: دفعت إليه المال الذي له؛ أي: استقر أو ثبت6 له، وفيها ضمير لتعلقها بالمحذوف. وأما لام المفعول له فلا تكون إلا متعلقة بالظاهر نحو: زرته ليكرمني وأعطيته ليشكرني، أو بظاهر يقوم مقام الفعل كقولك: المال لزيد لينتفع به، فاللام في لزيد متعلقة بمحذوف على ما مضى، والتي في قولك: لينتفع به هي لام المفعول له "66ظ"، وهي متعلقة بنفس قولك:
لزيد، تعلقها بالظرف النائب عن المحذوف في نحو قولك: أزيد عندك لتنتفع بحضوره؟ وزيد بين يديك ليُؤْنِسك. فاللام هنا متعلقة بنفس الظرفين اللذين هما عندك وبين يديك. وعلى كل حال، فمعنى القراءة بقوله: {مَاءً لِيُطَهِّرَكم بِهِ} ، والقراءة بقوله: "مَا لِيطَهَّركم به" يرجعان إلى شيء واحد، إلا أن أشدهما إفصاحًا بأن الماء أُنزل للتطهر به هي قراءة مَن قرأ: {مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} ؛ لأن فيه تصريحًا بأن الماء أنزل للطهارة، وتلك القراءة الشاذة إنما يُعْلَم أنه أُنزل للطهارة به، فالقراءة الأخرى وبغيرها مما فيه إصراح بذلك. وعلى كل حال، فلام المفعول له لا تتعلق بمحذوف أبدًا، إنما تعلقها بالظاهر، فعلًا كان أو غيره مما يُقام مقامه. ومن ذلك قراءة أبي العالية1: "رِجْسَ الشيطان"2 بالسين. قال أبو الفتح: كل شيء يُستقذَر عندهم فهو رجس، كالخنزير ونحوه. وفيما قرئ على أبي العباس أحمد بن يحيى3 قال: الرجس في القرآن: العذاب كالرجز، ورجس الشيطان: وسوستُه وهمزُه ونحو ذلك من أمره، والرجز: عبادة الأوثان، ويقال: هو إثم الشرك كله. وقرئ: "وَالرِّجْزَ وَالرُّجْزَ"4 جميعًا "فَاهْجُرْ"، قال: وقال بعضهم: أراد به الصنم. قال: وكل عذاب أُنزل على قوم فهو رجز، ووسواس الشيطان رجز، وقد ترى إلى تزاحم السين والزاي في هذا الموضع، فقراءة الجماعة: {رِجْزَ الشَّيْطَانِ} معناه كمعنى رجس الشيطان.
وقد نبهنا في كتابنا المعروف بالخصائص1 من هذه الطريق في تزاحم الحروف المتقاربة ما في بعضه كل مَقْنَع بمشيئة الله. ومن ذلك قراءة الحسن والزهري: "بين الْمَرِّ وقلبِه"2. قال أبو الفتح: وجه الصنعة في هذا أنه خفف الهمزة في "المرء" وألقى حركتها على الراء قبلها، فصارت "بين المرِّ وقبله"، ثم نوى الوقف فأسكن وثقَّل الراء على لغة من قال في الوقف: هذا خالدّ وهو يجعلّ، ثم أطلق ووصل على نية الوقف، فأقر التثقيل بحاله على إرادة الوقف، وعليه قوله، أنشدَناه أبو علي: بِبَازلٍ وَجناءَ أو عَيْهَلِّ3 يريد: العيهل، فنوى الوقف فثقل، ثم أطلق وهو يريد الوقف، ومثله ما قرأنا على أبي بكر محمد بن الحسن عن أبي العباس أحمد بن يحيى: ومُقلتان جَوْنتا المكْحَلِّ4 يريد: الْمَكْحَل. وأول هذه القصيدة: ليث شبابي عاد للأولِّ ... وغضَّ عيش قد خلا أَرْغَلِّ5 وفيها أشياء من هذا الطراز كثيرة، فكذلك "الْمَرِّ" على هذا. وقراءة الجماعة من بعدُ أقوى وأحسن؛ لأن هذا من أغراض الشعر لا القرآن.
ومن ذلك قراءة العامة: {لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا} 1، وقراءة علي وزيد بن ثابت وأبي جعفر محمد بن علي2 والربيع بن أنس وأبي العالية وابن جماز3: "لَتُصِيبَنَّ". قال أبو الفتح: معنيا هاتين القراءتين ضدان كما ترى؛ لأن إحداهما: {لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} ، والأخرى: "لَتُصِيبَنَّ" هؤلاء بأعيانهم خاصة. وإذا تباعد معنيا قراءتين هذا التباعد وأمكن أن يُجمع بينهما كان ذلك جميلًا وحسنًا، ولا يجوز أن يراد زيادة "لا" من قِبَل أنه كان "67و" يصير معناه: واتقوا فتنة تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة، فليس هذا عندنا من مواضع دخول النون، ألا تراك لا تقول: ضربت رجلًا يدخلَنَّ المسجد؟ هذا خطأ لا يقال؛ ولكن أقرب ما يصرف إليه الأمر في تلافي معنى القراءتين أن يكون يراد: لا تصيبن، ثم يحذف الألف من "لا" تخفيفًا واكتفاء بالفتحة منها، فقد فَعَلَت العرب هذا في أخت "لا" وهي أَمَا. من ذلك ما حكاه محمد بن الحسن من قول بعضهم: أَمَ والله ليكونن كذا، فحذف ألف أَمَا تخفيفًا، وأنشد أبو الحسن وابن الأعرابي وغيرهما: فلستُ بمدرك ما فات مني ... بلَهْف ولا بِلَيت ولا لو اني4 يريد: بلهفا، فحذف الألف، وذهب أبو عثمان في قوله الله سبحانه: {يَا أَبَتَ} 5 -فيمن فتح التاء- أنه أراد: يا أبتا، فحذف الألف تخفيفًا، وأنشدوا: قد وردت من أَمكنه ... من هاهنا ومن هُنَهْ إن لم أُروّها فَمَهْ6 يريد: إن لم أروها فما أصنع؟ أو فما مغناي؟ أو فما مقداري؟ فحذف الألف، وألحق الهاء لبيان الحركة، وروينا عن قطرب7.
فعلى هذا يجوز أن يكون أراد بقوله: "لَتُصِيبَنَّ": لا تُصِيبَنَّ، فحذف ألف "لا" تخفيفًا من حيث ذكرنا. فإن قلت: فهل يجوز أن يحمله على أنه أراد: لتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة، ثم أشبع الفتحة، فأنشأ عنها ألفًا كالأبيات التي أنشدتها قبل هذا الموضع، نحو قوله: ينباع من ذِفْرَى غَضوب جَسْرة1 وهو يريد: ينبع. قيل: يمنع من هذا المعنى، وهو قوله تعالى يليه: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} . فهذا الإغلاظ والإرهاب أشبه بقراءة مَن قرأ: {لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} من أن يكون معناه: إنما تصيب الذين ظلموا خاصة. فتأمل ذلك؛ فإنه يضح لك بمشيئة الله. ومن ذلك ما رُوي عن عاصم أنه قرأ: "وَمَا كَانَ صَلاتَهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ" نصبًا "إِلَّا مُكَاءٌ وَتَصْدِيَةٌ"2 رفعًا، رواه عبيد الله3 عن سفيان4 عن الأعمش5 أن عاصمًا قرأ كذلك.
قال الأعمش: وإن لحن عاصم تلحن أنت؟! وقد رُوي هذا الحرف أيضًا عن أبان1 بن تغلب أنه قرأ كذلك. قال أبو الفتح: لسنا ندفع أنَّ جعل اسم كان نكرة وخبرها معرفة قبيح، فإنما جاءت منه أبيات شاذة، وهو في ضرورة الشعر أعذر، والوجه اختيار الأفصح الأَعرب، ولكن من وراء ذلك ما أذكره. اعلم أن نكرة الجنس تفيد مفاد معرفته، ألا ترى أنك تقول: خرجت فإذا أسد بالباب، فتجد معناه معنى قولك: خرجت فإذا الأسد بالباب، لا فرق بينهما؟ وذلك أنك في الموضعين لا تريد أسدًا واحدًا معينًا، وإنما تريد: خرجت فإذا بالباب واحد من هذا الجنس، وإذا كان كذلك جاز هنا الرفع في {مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} جوازًا قريبًا، حتى كأنه قال: وما كان صلاتَهم عند البيت إلا المكاءُ والتصديةُ؛ أي: إلا هذا الجنس من الفعل، وإذا كان كذلك لم يجرِ هذا مجرى قولك: كان قائم أخاك، وكان جالس أباك؛ لأنه ليس في جالس وقائم من معنى الجنسية التي تلاقى معنيا "67ظ" نكرتها ومعرفتها على ما ذكرنا وقدمنا. وأيضًا فإنه يجوز مع النفي من جعل اسم كان وأخواتها نكرة ما لا يجوز مع الإيجاب، ألا تراك تقول: ما كان إنسان خيرًا منك، ولا تجيز: كان إنسان خيرًا منك؟ فكذلك هذه القراءة أيضًا، لَمَّا دخلها النفي قَوِي وحسن جعل اسم كان نكرة، هذا إلى ما ذكرناه من متشابهة نكرة اسم الجنس لمعرفته؛ ولهذا ذهب بعضهم في قول حسان: كأَنَّ سبيئة من بيت رأس ... يكون مزاجَها عسل وماءُ2 إنه إنما جاز ذلك من حيث كان عسل وماء هما جنسين، فكأنه قال: يكون مزاجَها العسل والماء، فبهذا تسهل هذه القراءة، ولا يكون من القبح واللحن الذي ذهب إليه الأعمش على ما ظن.
ومن ذلك قراءة الناس {بِالْعُدْوَةِ} 1 و"العِدْوَةِ" بالضم والكسر. وقرأ: "بالعَدْوَةِ" قتادة2 والحسن3 وعمرو، واختلف عنهم. قال أبو الفتح: الذي في هذا أنها لغة ثالثة، كقولهم: في اللبن رِغوة ورَغوة ورُغوة. ولها نظائر مما جاءت فيها فُعْلة وفِعْلة وفَعْلة، منه قولهم: له صِفوة مالي وصَفوته وصُفوته، روى ذلك أبو عبيدة. ومثله أَوطأته عَشوة4 وعُشوة وعِشوة، روى ذلك أبو عبيدة وابن الأعرابي. وروى الكسائي: كلمته بِحَضْرة فلان وحِضْرته، وحكى ابن الأعرابي: غَشوة وغُشوة وغِشوة، وغِلظة وغُلظة وغَلظة. وقالوا: شاة لَجْبة5 ولُجْبة ولِجْبة، ورِبْوة6 ورُبْوة ورَبْوة، فكذلك تكون أيضًا العِدْوة والعَدْوة والعُدْوة. وروى ابن الأعرابي أيضًَا: الْمُدية والْمِدية والْمَدية، بالفتح. ومن ذلك ما يروى عن الأعمش أنه قرأ: "فَشَرِّذ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ "7 بالذال معجمة. قال أبو الفتح: لم يمرر بنا في اللغة تركيب ش ر ذ، وأوجه ما يُصْرَف إليه ذلك أن تكون الذال بدلًا من الدال، كما قالوا: لحم خَرادل وخَراذل8، والمعنى الجامع لهما أنهما مجهوران ومتقاربان. ومن ذلك قراءة الأشهب العقيلي: "فاجْنُحْ لها"9 بضم النون.
قال أبو الفتح: حكى سيبويه جنَح يجنُح، وهي في طريق ركَد يركُد، وقعَد يقعُد، وسفَل يسفُل في قربها ومعناها. ويؤكد ذلك أيضًا ضَرْبٌ من القياس؛ وهو أن جنح غير متعد، وغير المتعدي الضم أقيس فيه من الكسر، فقعد يقعد أقيس من جلس يجلس؛ وذلك أن يفعُل بابه لِمَا ماضيه فَعُل نحو: شرُف يشرُف، ثم أُلحق به قعد. وباب يفعِل بابه لِمَا يتعدى نحو: ضرب يضرب، فضرب يضرب إذن أقيس من قتل يقتل، كما أن قعد يقعد أقيس من جلس يجلس. وقد تقصيت هذه الطريق في كتابي المنصف1. ومن ذلك قراءة ابن جماز: "واللهُ يُريد الآخرةِ"2 يحملها على عَرَضَ الآخرة. قال أبو الفتح: وجه جواز ذلك على عزته وقلة نظيره أنه لما قال: "تريدون عَرَض الدنيا"، فجرى ذكر العَرَض فصار كأنه أعاده ثانيًا فقال: عَرَض الآخرة "68و" ولا يُنْكَرُ نحو ذلك. ألا ترى إلى بيت الكتاب: أكُلَّ امرئ تحسبين امرأً ... ونارٍ تَوَقَّد بالليل نارا3 وأن تقديره: وكل نار؟ فناب ذكره "كُلَّا" في أول الكلام عن إعادتها في الآخر، حتى كأنه قال: وكُلَّ نار؛ هربًا من العطف على عاملين، وهما: كل وتحسبين. وعليه بيته أيضًا: إنَّ الكريم وأبيك يَعتمِلْ ... إن لم يجد يومًا على من يتكلْ4 أراد: من يتكل عليه، فحذف "عليه" من آخر الكلام استغناء عنها بزيادتها في قوله: على من يتكل، وإنما يريد: إن لم يجد من يكتل عليه. وعليه أيضًا قول الآخر: أتدْفع عن نفس أتاه حِمامُها ... فهلا التي عن بين جنبيك تَدفع5
أراد: فهلا عن التي بين جنبيك تدفع، فزاد "عن" في قوله: عن بين جنبيك، وجعلها عوضًا من "عن" التي حذفها، وهو يريدها في قوله: فهلا التي، ومعناها: فهلا عن التي. وله نظائر، فعلى هذا جازت هذه القراءة؛ أعني قوله: "تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةِ"، في معنى: عرض الآخرة وعلى تقديره. ولعمري إنه إذا نصب فقال على قراءة الجماعة: {وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} ، فإنما يريد: عرض الآخرة، إلا أنه يَحذف المضاف ويقيم المضاف إليه مقامه، وإذا جَرَّ فقال: يريد الآخرةِ، صار كأن العَرَض في اللفظ موجود لم يحذف، فاحتُمل ضعف الإعراب تجريدًا للمعنى وإزالة للشك أن يَظن ظان أنه يريد الآخرةَ إرادة مرسلة هكذا. هذا إلى ما قدمناه من حذف لفظ لمجيئه فيما قَبْلُ أو بَعْدُ. آخر الأنفال
سورة التوبة
سورة التوبة: بسم الله الرحمن الرحيم من ذلك حكى أبو عمرو أن أهل نجران يقولون: "بَرَاءَةٌ مِنِ اللَّه"1 يَجرُّون الميم والنون. قال أبو الفتح: حكاها سيبويه، وهي أول القياس، تكسرها لالتقاء الساكنين، غير أنه كثُر استعمال "مِن" مع لام المعرفة، فهربوا من توالي كسرتين إلى الفتح، وإذا كانوا قد قالوا: "قُمَ اللَّيْلَ"2، "وقُلَ الحق"3 ففتحوا ولم تلتقِ هناك كسرتان، فالفتح في "مِنَ اللَّهِ" لتوالي الكسرتين أولى. ومن ذلك قراءة عكرمة: "ثُمَّ لَمْ يَنْقُضُوكُمْ شَيْئًا"4 بالضاد معجمة، قال: أي لم ينقضوا أموركم، وهو كناية حسنة عن النقص؛ لأنه إذا نقصه شيئًا من خاصه فقد نقصه عما كان، فهذه طريقة. ومن ذلك قراءة عكرمة أيضًا: "إِيلًا ولا ذِمَّةً"5 بياء بعد الكسرة خفيفة اللام. قال أبو الفتح: طريق الصنعة فيه أن يكون أراد "إلا" كقراءة الجماعة، إلا أنه أبدل اللام الأولى ياء لثقل الإدغام، وانضاف إلى ذلك كسرة الهمزة وثِقَل الهمزة. وقد جاء نحو هذا أحرف صالحة كدينار؛ لقولهم: دنانير، وقيراط: قراريط، وديماس6 فيمن قال: دماميس،
وديباج فيمن قال: دبايبج، وشيراز1 فيمن قال: شراريز. وقد جاء مع الفتحة استثقالًا للتضعيف وحده. قال سعد بن قُرْط يهجو أمه: يا ليتما أُمُّنَا شالت نَعامتُها ... أيما إلى جنة أيما إلى نار2 وروينا عن قطرب "68ظ": لا تفسدوا آبَالَكم ... أَيْمَا لنا أَيْمَا لكم3 وقال عمر بن أبي ربيعة: رأيت رجلًا أيما إذا الشمس عارضت ... فيَضْحَى وأيما بالعشي فيَخصر4 وقد قلبوا الثاني منهما فقالوا في أمللت: أمليت، وفي أَمَلُّ: أَمْلَى أنا. وحدثنا أبو علي أن أحمد بن يحيى حكى عنهم: لا وَرَبْيِك لا أَفعل؛ أي: لا ورَبِّك، فكذا تكون قراءة عكرمة "إيلًا ولا ذمةً" يريد "إلا"، وأبدل الحرف الأول ياء لما ذكرناه. وقد يجوز أن يكون فِعْلًا من أُلْتُ الشيء إذا سُسْته أُءُوله إيالة، إلا أنه قلب الواو ياء لسكونها والكسرة قبلها. ومن ذلك قراءة الأعرج5 وابن أبي إسحاق6 وعيسى الثقفي7 وعمرو
ابن عبيد1، ورُويت عن أبي عمرو: "ويتوبَ اللهُ"2 بالنصب. قال أبو الفتح: إذا نَصب فالتوبة داخلة في جواب الشرط معنى، وإذا رفع كقراءة الجماعة فقال: {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} فهو استئناف؛ وذلك أن قوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} فهو كقولك: إن تزرني أُحسن إليك وأُعطيَ زيدًا درهمًا، فتنصبه على إضمار أن؛ أي: إن تزرني أجمع بين الإحسان إليك والإعطاء لزيد. والوجه قراءة الجماعة على الاستئناف؛ لأنه تم الكلام على قوله تعالى: {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} ، ثم استأنف فقال: {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} ، فالتوبة منه سبحانه على من يشاء ليست مسببة عن قتالهم، هذا هو الظاهر؛ لأن هذه حال موجودة من الله تعالى قاتَلوهم أو لم يقاتلوهم، فلا وجه لتعليقها بقاتِلوهم، فإن ذهبتَ تعلِّق هذه التوبة بقتالهم إياهم كان فيه ضرب من التعسف بالمعنى. ومن ذلك قراءة ابن الزبير3 وأبي وجزة4 السعدي ومحمد بن علي وأبي جعفر القاري5: "أَجَعَلْتُمْ سُقَاةَ الْحَاجِّ وَعَمَرَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ"6 وقرأ: "سُقَايَةَ الْحَاجِّ وَعَمَرَةَ الْمَسْجِدِ" الضحاك7.
قال أبو الفتح: أما "سُقاة" فجمع ساقٍ، كقاضٍ وقضاة وغازٍ وغزاة. و"عَمَرَة" جمع عامر، ككافر وكفرة وبارٍّ وبررة. وأما "سُقاية" ففيه النظر، ووجهه أن يكون جمع ساق، إلا أنه جاء على فُعال كعَرق1 وعُراق، ورَخِل ورُخال2، وتوءَم وتُؤام، وظِئر وظُآر، وإنسان وأُناس، وثَنِي3 وثُناء، وبرئ وبُرَاء. فكان قياسه إذا جاء به على فُعال أن يكون سُقاء، إلا أنه أنثه كما يؤنَّث من الجمع أشياء غيره، نحو: حِجارة وعِيارة وقَصير وقِصارة. وجاءت في شعر الأعشى4 وعُيُورة5 وخُيوطة6، وقد جاء هذا التأنيث أيضًا في فُعَال هذا. ذهب أبو علي في قولهم: نُقاوة المتاع إلى أنه جمع نَقوة7، فعلى هذا جاء سُقاية الحاج، فهو كتأنيث ظُؤار وتُؤام ونحو ذلك. وكأن الذي آنس مَن قرأ "سُقاة" و"عَمَرَة" و"سُقاية" وعدل إليه عن قراءة الجماعة: {سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} هربه من أن يقابل الحدث بالجوهر؛ وذلك أن السقاية والعمارة مصدران، و"مَن آمن بالله" جوهر، فلا بد إذن "69و" من حذف المضاف؛ أي: أجعلتم هذين الفعلين كفعل من آمن بالله؟ فلما رأى أنه لا بد من حذف المضاف قرأ: "سقاة" و"عَمَرَة" و"سُقاية" على ما مضى. ولست أدفع مع هذا أن يكون {سِقَايَةَ الْحَاجِّ} جع ساق {وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} جمع عامر، فيكون كقائم وقيام وصاحب وصِحاب وراع ورِعاء، إلا أنه أنث فِعالًا على ما مضى، فصار كحِجارة وعِيارة، وأن يكونا مصدرَي سقيت وعمرت أقيس؛ لأن ذلك في اللغة أفشى، وبَنَى سقاية وهو جمع ساق على التأنيث لا على أنه أنث سِقاء؛ لأنه لو أراد ذلك لقال: سِقَاءَة فهمر، كعَظَاءة8 إذا بنيت على العَظاءِ، ويكون كل واحد منهما قائمًا برأسه.
ومن ذلك قراءة ابن مسعود1: "وَإِنْ خِفْتُمْ عَائلةً"2. قال أبو الفتح: هذا من المصادر التي جاءت على فاعلة كالعاقبة والعافية. وذهب الخليل في قولهم: ما باليت بالة، أنها في الأصل بالية كالعاقبة والعافية، فحذفت لامها تخفيفًا. ومنه قوله سبحانه: {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً} 3 أي: لغوًا. ومنه قولهم: مررت به خاصة؛ أي: خصوصًا. وأما قوله تعالى: {وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ} 4 فيجوز فيه أن يكون مصدرًا؛ أي: خيانة منهم، ويجوز أن يكون على أن معناه على نية خائنة أو عقيدة خائنة. وكذلك أيضًا يجوز أن يكون: لا تسمع فيها كلمة لاغية. وكذلك الآخر على: إن خفتم حالًا عائلة، فالمصدر هنا أعذب وأعلى. ومن ذلك قراءة جعفر بن محمد والزهري5 والعلاء بن سَيَّابه والأشهب: "إنما النَّسْي"6 مخففًا في وزن الْهَدْي بغير همز. قال أبو الفتح: تحتمل هذه القراءة ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون أراد النَّسْء على ما يُحكى عن ابن كثير بخلاف أنه قرأ به، ثم أُبدلت الهمزة ياء، كما أُبدلت منها فيما رويناه من قول الشاعر: أَهبَى التراب فوقه إهبايا7
يريد: إهباء، ونحو منه قوله: كفِعل الهِر يحترش العَظَايا1 يريد: العَظَاءَة، لا على قول أبي عثمان من أنه شبه ألف النصب بهاء التأنيث، ولا على ما رأيته من كونه تكسير العَظاية كإداوة وأداوَى. والوجه الثاني: أن يكون فَعْلًا من نَسِيء؛ وذلك أن النسيء من نسأت: أي2 أخرت، والشيء إذا أُخر ودوفع به فكأنه منسي. والثالث: وفيه الصنعة أنه أراد النسيء على فعيل، ثم خفف الهمزة وأبدلها ياء، وأدغم فيها ياء فعيل فصارت النَّسِيّ، ثم قصَر فعيلًا بحذف يائه فصار نَسٍ، ثم أسكن عين فعيل فصار نَسْيٌ. ومثله مما قُصر من فَعيل ثم أسكن بعد الحذف قولهم في سميح: سَمْح، وفي رطيب: رَطْب، وفي جديب: جدب، ومما قصر ولم يسكن قولهم في لبيق: لَبِق، وفي سميج: سَمِج، وقد ذكرنا ذلك. ومن ذلك قراءة أبي رجاء3: "يَضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا"4 بفتح الياء والضاد. قال أبو الفتح: هذه لغة؛ أعني: ضَلِلت أَضَلّ. واللغة الفصحى "69ظ" ضَلَلت أَضِل. وقراءة
الحسن بخلاف وابن مسعود ومجاهد1 وأبي رجاء بخلاف وقتادة وعمرو بن ميمون2 ورواه عباس3 عن الأعمش: "يُضَلُّ بِه". وفيه تأويلان: إن شئت كان الفاعل اسم الله تعالى مضمرًا؛ أي: يُضل الله الذين كفروا، وإن شئت كان تقديره: يُضِل به الذين كفروا أولياءَهم وأتباعَهم. ومن ذلك قال عباس: سألت أبا عمرو وقرأ: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} 4، قال أبو عمرو5: وفيها قراءة أخرى لا ينصب الياء "ثانِي اثنين". قال أبو الفتح: الذي يُعمل عليه في هذا أن يكون أراد: ثانيَ اثنين كقراءة الجماعة، إلا أنه أسكن الياء تشبيهًا لها بالألف. قال أبو العباس: هو من أحسن الضرورات، حتى لو جاء به إنسان في النثر كان مصيبًا. فإن قيل: كيف تجيزه في القرآن وهو موضع اختيار لا اضطرار؟ قيل: قد كثر عنهم جدًّا، ألا ترى إلى قوله: كأنَّ أيديهن بالقاع القَرِق ... أيدي عَذَارى يتعاطَيْن الورِق6
وقول الآخر: حُدْبًا حدابير من الوَخْشَنَّ ... تركْن راعيهن مثلَ الشَّنّ1 وقال رؤبة، أنشدَناه أبو علي: سَوَّى مساحيهن تقطيطَ الْحُقَق ... تَفْليلُ ما قارعْن من سُمْر الطُّرَق2 وقال الأعشى: إذا كان هادي الفتى في البلا ... د صدرُ القناة أطاع الأميرا3 وقد جاء عنهم في النثر قولهم: لا أكلمك حَيْرِي4 دهر، كذا يقول أصحابنا، ولي أنا فيه مذهب غير هذا؛ وهو أن يكون أراد حِيريّ دهر بالتشديد، ثم خفف الكلمة فحذف ياءها الثانية وقد كانت الأولى المدغمة فيها ساكنة، فأقرها على سكونها تلفتًا إلى الياء المحذوفة الثانية؛ لأنها في حكم الثبات كما صحح الآخَرُ الواو في العواور5؛ لأنه إنما يريد العواوير، فلما حذف الياء وهي عنده في حكم الثبات أقر الواو على صحتها دلالة على أنه يريد الياء. ومثله أيضًا ما جاء عنهم من تخفيف ياء لا سيما؛ وذلك أن السِّيّ فِعْل من سوّيت، وأصله سِوْي، فقلبت الواو ياء لسكونها مكسورًا ما قبلها، أو لوقوع الياء بعدها، أو لهما جميعًا، فلما حذفت الياء التي هي لام وانفتحت الياء بالتاء فتحة اللام عليها كان يجب أن يرجع واوًا
لأنها عين، أو تصح كما صحت في عِوَض وحِوَل، وأن تقول: لا سِوَما زيد؛ لكنه أقرها على قلبها دلالة على أنه يريد سكونها ووقوع الياء بعدها، وإن شئت لأنها الآن قد وقعت طرفًا فضعفت، فهذا كله ونظائر له كثيرة ألغينا ذكرها؛ لئلا يمتد الكتاب باقتصاصها تشهد بأن يكون قولهم: لا أكلمك حِيرِي دهر، إنما أُسكنت ياؤه لإرداة التثقيل في حيرِيّ دهر، غير أن الجماعة تلقته على ظاهره. وشواهد سكون هذه الياء في موضع النصب فاشٍ في الشعر، فإذا كثر هذه الكثرة وتقبَّله أبو العباس ذلك التقبل ساغ حمل تلك القراءة عليه. يؤكد ذلك "70و" أيضًا أنك لو رُمت قطعه ورفعه على ابتداء؛ أي: هو ثاني اثنين؛ لتقطَّع الكلام، وفارقه مألوف السديد من النظام، وإنما المعنى: إلا تنصروه فقد نصره الله ثاني اثنين إذ هما في الغار، وقوله: {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} بدل من قوله جل وعز: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} . فإن قلت: فإن وقت إخراج الذين كفروا له قبل حصوله -صلى الله عليه وسلم- في الغار، فكيف يُبدَل منه وليس هو هو، ولا هو أيضًا بعضه، ولا هو أيضًا من بدل الاشتمال؟ ومعاذ الله أن يكون من بدل الغلط، قيل: إذا تقارب الزمانان وُضع أحدهما موضع صاحبه، ألا تراك تقول: شكرتك إذ أحسنت إلَيَّ، وإنما كان الشكر سببًا عن الإحسان، فزمان الإحسان قبل زمان الشكر، فأعملت شكرت في زمان لم يقع الشكر فيه. ومن شرط الظرف العامل فيه الفعل أن يكون ذلك الفعل واقعًا في ذلك الزمان؛ كزرتك في يوم الجمعة، وجلست عندك يوم السبت؛ لكنه لما تجاور الزمانان وتقاربا جاز عمل الفعل في زمان لم يقع فيه لكنه قريب منه. وقد مر بنا هذا الحكم في المواضع أيضًا. قال زياد بن منقذ: وهُمْ إذا الخيل جالوا في كواثبها ... فوارسُ الخيل ولا مِيلٌ ولا قَزَم1 وإنما مقعد الفارس في صهوة الفرس لا في كاثبته؛ لأن المكانين لما تجاورا استُعمل أحدهما موضع الآخر، ألا ترى إلى قول النابغة: إذا عرَّضوا الْخَطيّ فوق الكواثب2
ومحال أن يجلس الفارس موضع عرض الرمح من أدنى معرفة الفرس، فافهم بما ذكرنا ما مضى. ومن ذلك قراءة الأعمش: "لَوُ اسْتَطَعْنَا"1 بضم الواو. قال أبو الفتح: شبهت واو "لو" هذه بواو جماعة ضمير المذكرين، فضُمت كما تلك مضمومة في قول الله تعالى: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} 2، وكذلك شبهت واو الجمع هذه بواو "لو" فكُسرت؛ وذلك على من قرأ: "فَتَمَنَّوِا الْمَوْتَ"، و"الَّذِينَ اشْتَرَوِا الضَّلالَةَ"3. وهناك قراءة أخرى: "اشتروَا4 الضلالة" بفتح الواو لالتقاء الساكنين، فلو قرأ قارئ متقدم: "لوَ استطعنا" بفتح الواو لكان محمولًا على قول من قال: "اشْتَرَوَا الضَّلالَةَ"، فأما الآن فلا عذر لأحد أن يرتجل قراءة وإن سوغتها العربية، من حيث كانت القراءة سُنة متَّبعة. ومن ذلك ما رواه ابن وهب عن حرملة بن عمران أنه سمع محمد بن عبد الملك يقرأ: "لَأَعدُّوا له عُدَّهُ"5. قال أبو الفتح: المستعمل في هذا المعنى العُدَّة بالتاء، ولم يمرر بنا في هذا الموضع العُدّ، إنما العُدّ: البَثْر يخرج في الوجه. وطريقه أن يكون أراد: ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدته: أي تأَهبوا له، إلا أنه حذف تاء التأنيث وجعل هاء الضمير كالعوض منها. وهذا عندي أحسن مما ذهب إليه الفراء في معناه؛ وذلك أنه ذهب في قول الله تعالى: {وَإِقَامَ الصَّلاةِ} 6 إلى أنه أراد: إقامة الصلاة، إلا أنه حذف هاء الإقامة لإضافة الاسم إلى الصلاة. وإنما صار ما ذهبتُ إليه أقوى لأني أقمت الضمير والمجرور مُقام تاء التأنيث، والمضمر المجرور شديد الحاجة إلى ما جره من موضعين: "70ظ" أحدهما: حاجة المجرور إلى ما جره، ألا تراه لا يُفصل بينهما ولا يُقدم المجرور على ما جره؟ والآخر: أن المجرور في "عُدَّهُ" مضمر، والمضمر
المجرور أضعف من المظهر المجرور للطف الضمير عن قيامه بنفسه، وليست الصلاة بمضمرة1؛ فتضعف ضعف هاء "عُدَّهُ"، فبقدر ضعف الشيء وحاجته إلى ما قبله ما2 يكاد يُعتد جزءًا منه، فيَخلف جزءًا محذوفًا من جملته، فافهم ذلك. وأما أصحابنا فعندهم أن الإقام مصدر أقمت كالإقامة، وليس مذهبنا فيه كما ظنه الفراء. ومن ذلك قراءة ابن الزبير: "ولَأَرْقَصوا خِلالَكم"3. قال أبو الفتح: هذا هو معنى القراءة المشهورة التي هي: {وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ} ، يقال: وضع البعير يضع وأوضعته أنا أي: أسرعت به، وكذلك الرقْص والرقَص والرقَصان، يقال: رقص وأرقصته أنا، قال: يا ليتني فيها جَذَعْ ... أَخُب فيها وأَضَعْ كأَنني شاة صَدَعْ4 وقال حسان: بزجاجة رَقَصَت بما في دنِّها ... رقَصَ القَلوص براكب مستعجل5 وفي الخبر: فإذا راكب يوضِع؛ أي: يحث راحلته. وقال جميل: بماذا تردِّين امرأً جاء لا يرى ... كوُدِّكِ وُدًّا قد أَكلَّ وأوضعا6 ولا يقال: رقص إلا للاعب أو للإبل، وشبهت الخمر بذلك.
ومن ذلك قراءة الناس: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا} 1، وقرأ طلحة بن أَعيَن قاضي الري: "قل لن يُصيِّبنا" مشددًا. قال أبو الفتح: ظاهر أمر عين أصاب يُصيب أنها واو؛ ولذلك قالوا في جمع مصيبة: مَصَاوب بالواو، وهي القوية القياسية. فأما مصائب بالهمز فلغط من العرب؛ كهمزهم حلأت2 السويق، ورثأث3 زوجي، ونحو ذلك مما هُمز ولا أصل له في الهمز، وواحد المصايب مصيبة ومَصُوبة ومُصاب ومصابة. وأنا أرى أن تكون مصايب جمع مُصاب؛ لأن الألف هنا وإن كانت بدلًا من العين فإنها أشبه بألف رسالة التي يقال في تكسيرها: رسايل؛ وذلك أن الألف لا تكون أصلًا في الأسماء المتمكنة ولا في الأفعال؛ إنما تكون زائدة أو بدلًا، وليست كذلك الياء والواو؛ لأنهما قد تكونان أصلين في القبيلين جميعًا كما يكونان بدلين وزائدتين، فألف مصاب ومصابة أشبه بالزائد من ياء مصيبة وواو مصوبة، فافهم ذلك، فإن أحدًا من إخواننا لم يذكره. وبعد، فقد مر بنا في تركيب ص ي ب في هذا المعنى، فإنهم قد قالوا: أصاب السهم الهدف يَصيبه كباعه يَبيعه، ومنه قول الكميت: أَسهُمها الصائداتُ والصُّيُبُ4 فعلى هذا ومن هذا الأصل تكون قراءة طلحة بالياء، فيكون يفعِّلنا منه، فيصيّب على هذا كيُسيّر ويُبيّع، وقد يجوز أيضًا أن يكون يصيّبنا من لفظ ص وب، إلا أنه بناه على فَيْعَل يُفَيْعل، وأصله على هذا يُصَيْوبنا، فاجتمعت الياء والواو وسَبقت الياء بالسكون فقلبت الواو ياء وأُدغمت فيها الياء فصارت يصيّبنا. ومثله قوله: تحيّز، وهو تفعيل من حاز يحوز، والوجه ما قدمناه؛ لأن فَعَل في الكلام أكثر "71و" من فيعل. ويجوز وجه آخر؛ وهو أن يكون من الواو، إلا أنه لما كثر يُصِيب والمصيبة أُنِس بالياء؛ لكثرة الاستعمال، ولخفتها عن الواو كما قالوا: دِيمة ودِيَم، فلما كثر ذلك وكانت الياء أخف من الواو مروا عليها فقالوا: دامت السماء تَديم.
ولا يحسن أن يُذهب في هذا إلى قول الخليل في طاح يطيح وتاه يتيه: إنه فعِل يفعِل؛ لقلة ذلك ووجود المندوحة عنه في قولهم: هذا أَتيه منه وأَطيح منه، فاعرف ذلك. ومن ذلك قراءة الناس: "إلَّا إحْدى"1 غير ابنت محيصن، فإنه كان يصلها ويسقط الهمزة. قال أبو الفتح: قد ذكرنا ذلك فيما مضى في قراءة ابن محيصن أيضًا في سورة الأعراف. ومن ذلك قراءة: {مَغَارَاتٍ} 2، وقرأ سعد بن عبد الرحمن بن عوف: "مُغَارات". قال أبو الفتح: أما "مغارات" على قراءة الناس فجمع مَغارة أو مَغار، وجاز أن يجمع مغارات بالتاء وإن كان مذكرًا لأنه لا يعقل، ومثله إوان3 وإوانات، وجمل سِبَطر4 وجِمال سِبطرات، وحمَّام وحمامات. وقد ذكرنا هذا ونحوه في تفسير ديون المتنبي عند قوله: ففي الناس بُوقاتٌ لها وطبول5 ومَغار مَفْعَل من غار الشيء يغور. وأما مُغَارات فجمع مُغَار، وليس من أَغرت على العدو؛ ولكنه من غار الشيء ويغور، وأَغرته أنا أُغيره، كقولك: غاب يغيب وأَغَبته، فكأنه: لو يجدون ملجأ أو أمكنة يُغيرون فيها أشخاصهم ويسترون أنفسهم، وهذا واضح. ويؤكد ذلك قراءة مسلمة6 بن محارب: "مُدْخَلًا"7 أي: مكانًا يُدخلون فيه أنفسهم، ورويت عن أبي بن كعب8: "أو مندخلًا"، وهو من قول الشاعر:
ولا يدي في حميت السكن تندخل1 ومنفعل في هذا شاذ؛ لأن ثلاثيه غير متعد عندنا. ومن ذلك ما رواه الأعمش قال: سمعت أنَسًا2 يقرأ: "لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمِزون"، قيل له: وما يجمزون؟ إنما هي "يجمحون"، فقال: يجمحون ويجمزون ويشتدون واحد. قال أبو الفتح: ظاهر هذا أن السلف كانوا يقرءون الحرف مكان نظيره من غير أن تتقدم القراءة بذلك؛ لكنه لموافقته صاحبه في المعنى. وهذا موضع يجد الطاعن به إذا كان هكذا على القراءة مطعنًا، فيقول: ليست هذه الحروف كلها عن النبي -صلى الله عليه سلم- ولو كانت عنه لما ساغ إبدال لفظ مكان لفظ؛ إذ لم يثبت التخيير في ذلك عنه، ولما أنكر أيضًا عليه: "يجمزون"، إلا أن حُسْنَ الظن بأَنَس يدعو إلى اعتقاد تقدم القراءة بهذه الأحرف الثلاثة التي هي: "يجمحون" و"يجمزون" و"يشتدون"، فيقول: اقرأ بأيها شئت، فجميعها قراءة مسموعة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لقوله عليه السلام: نزل القرآن بسبعة أحرف كلها شافٍ كافٍ. فإن قيل: لو كانت هذه الأحرف مقروءًا بجميعها لكان النقل بذلك قد وصل إلينا، وقيل: أَوَلَا يكفيك أنس موصِّلًا لها إلينا؟ فإن قيل: ان أنسًا لم يحكها قراءة؛ وإنما جمع بينها في المعنى، واعتل في جواز القراءة بذلك لا بأنه رواها قراءة متقدمة. قيل: قد سبق من ذكر حسن الظن ما هو جواب عن هذا. ونحوٌ من هذه الحكاية "71ظ" ما يُروى عن أبي مَهدية3 من أنه كان إذا أراد الأذان قال: الله أكبر مرتين، أشهد أن لا إله إلا الله مرتين كذلك إلى آخر الأذان، ينطق من ذلك بالمرة الواحدة، ويقول في إثرها: مرتين كما ترى، فيقال له: ليس هكذا الأذان، إنما هو كذا، فيقول: المعنى واحد، وقد علمتم أن التَّكْرَارَ عِيٌّ.
وهذا لعمري مسموع من أبي مَهدية إلا أنه كان مدخولًا، ألا ترى أن أبا محمد يحيى بن المبارك اليزيدي1 وخلفًا الأحمر2 لما أنفذهما إليه أبو عمرو ليسألاه عن شيء من اللغة لخلاف جرى بينه وبين عيسى بن عمر3 أتياه وهو يخاطب الشياطين في صلاته: اخسأنانَّ عني، اخسأنان عني4. وكذلك قول ذي الرمة: وظاهِرْ لها من يابس الشخت5 فقيل له: أنشدتنا بائس فقال: يابس بائس واحد. وهذا شعر ليست6 عليه مضايقة الشرع. وأخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن عن أبي العباس أحمد بن يحيى قال: كان يحضر ابنَ الأعرابي شيخٌ من أهل مجلسه، فسمعه يومًا ينشد: وموضِعِ زَبْنٍ لا أُريد بَراحه ... كأني به من شدة الروع آنس7
فقال له الشيخ: ليس هكذا أنشدتنا يا أبا عبيد الله، فقال: كيف أنشدتك؟ فقال له: وموضع ضيق، فقال: سبحان الله! تصحبنا منذ كذا وكذا سنة ولا تعلم أن الزبْن والضيق شيء واحد؟ فهذا لعمري شائع؛ لأنه شعر وتحريفه جائز؛ لأنه ليس دِينًا ولا عملًا مسنونًا. ومن ذلك ما حكاه ابن أبي عبيدة بن معاوية بن قُرْمُل1 عن أبيه عن جده -وكانت له صحبة- أنه قرأ: "لَوالَوْا إليه"2 بالألف وفتحة اللام الثانية. قال أبو الفتح: هذا مما اعتقب عليه فَاعَل وفَعَّل؛ أعني: وَالَوا ووَلَّوا، ومثله ضعَّفت وضاعفت الشيء، ووصَّلت الحديث وواصلته، وسوَّفت الرجل وساوفته، ومن أبيات الكتاب: لو ساوَفَتْنا بِسُوف من تحيتها ... سوْفَ العيوف لراح الركب قد قنِعوا3 سوف العيوف: مصدر محذوف الزيادة؛ أي: مساوفة العيوف. ومن ذلك ما رُوي عن مجاهد: "إِنْ تُعْفَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ" بالتاء المضمومة "تُعَذَّبْ طَائِفَة"4. قال أبو الفتح: الوجه "يُعْفَ" بالياء لتذكير الظروف، كقولك: سِيرَت الدابة وسِير بالدابة5، وقُصدت هند وقُصد إلى هند؛ لكنه حمله على المعنى فأنث "تُعْفَ"، حتى كأنه قال: إن تُسامَح طائفة أو إن تُرحم طائفة. وزاد في الأُنس بذلك مجيء التأنيث يليه، وهو قوله: "تُعَذِّبْ طَائِفَةَ"، والحمل على المعنى أوسع وأفشى، منه ما مضى، ومنه ما سترى. ومن ذلك ما يُروى عن مالك بن دينار6: "فاقعُدوا مع الخَلِفين"7 بغير ألف.
قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون مقصورًا من "الخالفين" كقراءة الجماعة، وقد جاء نحو هذا، قال الراجز: أصبح قلبي صَرِدَا ... لا يشتهي أن يَردا ألا عَرَادا عَرِدا ... وصِلِّيانا برِدا وعَنْكثا ملتبِدا1 يريد: عارِدا2 وبارِدا، كما قال أبو النجم: كأن في الفُرْشِ القَتَاد العاردا3 "72و" وقد حذفت الألف حشوًا في غير موضع. قال: مثل النَّقا لبده ضرب الطِّلل4 يريد: الطِّلال5، كقول القُحَيف: دِيار الحي تضربها الطِّلال ... بها أَنَس من الخافي ومالُ6 وروينا عن قطرب: ألا لا بارك الله في سهيل ... إذا ما الله بارك في الرجال7 يريد: لا بارك الله، فحذف الألف قبل الهاء. وينبغي أن يكون ألف فعال؛ لأنها زائدة، كقوله تعالى: {إِلَهِ النَّاسِ} 8، ولا تكون الألف التي هي عين فَعَل في أحد قولي سيبويه: إن أصله: لاهٌ كناب؛ لأن الزائد أولى بالحذف من الأصلي. وقد حذفوا الواو حشوًا أيضًا قالوا: إن الفَقِير بيننا قاضٍ حَكَم ... أن تَرِد الماء إذا غاب النُّجُم9
يريد: النجوم. وقال الأخطل: كلَمْع أيدي مثاكيل مُسلِّبَةٍ ... يندبْنَ ضَرْس بنات الدهر والْخُطُب1 يريد: الخطوب. وقد حُذفت الياء أيضًا نحو قول عبيد الله بن الحر: وبُدِّلتْ بعد الزعفران وطيبه ... صدا الدِّرع من مستحكِمات المسامر يريد: المسامير. وقال الآخر: والبكرات الفسج العطامسا2 يريد: العطاميس. فكما حُذفت حروف اللين من هذا ونحوه مما تركناه إجمامًا بحذفه، فكذلك تحذف الألف من "الخالفين" فيصير "الخَلِفين". ومن ذلك قراءة عمر بن الخطاب والحسن وقتادة وسلام3 وسعيد4 بن أسعد ويعقوب بن طلحة وعيسى5 الكوفي: "مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارُ"6. قال أبو الفتح: الأنصار معطوف على قوله: "وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارُ".
فأما قوله: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} فيجوز أن يكون معطوفًا على "الأنصار" في رفعه وجره، ويجوز أن يكون معطوفًا على "السابقون"، وأن يكون معطوفًا على "الأنصار" لقربه منه. ومن ذلك قراءة الحسن: "صَدَقَةً تُطْهِرُهُم"1 خفيفة. قال أبو الفتح: هذا منقول من طهَر وأَطهرته كظهر وأَظهرته. وقراءة الجماعة أشبه بالمعنى لكثرة المؤمنين؛ فذلك قرأت: "تُطَهِّرهم"، من حيث كان تشديد العين هنا إنما هو للكثير، وقد يؤدي فعلت وأَفعلت عن الكثرة من حيث كانت الأفعال تفيد أجناسها، والجنس غاية الجموع، ألا ترى أن ما أنشده الحسن من قوله: أنت الفداءُ لقِبلة هدَّمتها ... ونَقَرتها بيديك كل منقَّر ولم يقل: كل نَقْر، وهذا واضح، وعليه قراءة من قرأ: "وَأغْلَقَتِ الْأَبْوَاب"2، وهو واضح. ومن ذلك قراءة عبد الله بن يزيد: "أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهُ رِجَالٌ"3 بكسر هاء "فيه" الأولى، وضم هاء "فيه" الآخرة مختَلَستين. قال أبو الفتح: أصل حركة هذه الهاء الضم، وإنما تكسر إذا وقع قبلها كسرة أو ياء ساكنة، كقولك: مررت به، ونزلت عليه، وقد يجوز الضم مع الكسرة والياء، وقد يجوز إشباع الكسرة والضمة ومطلهما إلى أن تحدث الواو والياء بعدهما، نحو: مررت بهِي وبهُو، ونزلْتُ عليهِي وعليهُو، وهذا مشروح في أماكنه؛ لكن القول في كسر "فيه" الأولى وضم "فيه" الثانية. والجواب "72ظ" أنه لو كسرهما جميعًا أو ضمهما جميعًا لكان جميلًا حسنًا، غير أن الذي سوَّغ الخلاف بينهما عندي هو تكرير اللفظ بعينه؛ لأنه لو قال: "فيهِ فيهِ"، أو "فيهُ فيهُ" لتكرَّر اللفظ عينه ألبتة، وقد عرفنا ما عليهم في استثقالهم تكرير اللفظ حتى أنهم لا يتعاطونه إلا فيما يتناهى عنايتهم به، فيجعلون ما ظهر من تَجشمهم إياه دلالة على قوة مراعاتهم له، نحو قولهم:
ضربت زيدًا ضربت، وضربت زيدًا زيدًا، وقولهم: قم قائمًا قم قائمًا، وقولهم فيما لا محالة في توكيده؛ أعني الأذان: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر. ومما يدلك على قوة الكلفة عليهم في التكرير أنهم لما صاغوا ألفاظ التوكيد لم يُرَدِّدوها بأعيانها؛ وذلك كقولهم: جاءني القوم أجمعون أكتعون أبصعون، فخالفوا بين الحروف؛ لكن أعادوا حرفًا واحدًا منها تنبيهًا على عنايتهم وإعلانهم أنه موضع يختارون تجشم التكرير من أجله، وجعلوا الحرف المعاد منه لامَه لأنه مقطع، والعناية بالمقاطع أقوى منها بِمَدْرَج الألفاظ. ألا تراهم يتسمحون بحشو البيت في اختلافه، فإذا وصلوا إلى القافية راعوها ووفَّقوا بين أحكامها؛ أعني: في الروي والوصل والخروج والرِّدْف والتأسيس والحركات؟ وسبب ذلك أنه مقطع، والمعول في أكثر الأمر عليه. ومنه إجماع الناس في الدعاء على أن يقولوا: اختِم بخير، ومنه قول الله سبحانه: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} 1 أي: طَعْم مقطعه في طيب رائحة المسك، وهذا ألطف معنى من أن يكون المراد به أن هناك خاتمًا عليه، وأنه من مسك. ومن تجنب التكرير قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} 2، ولم يقل: من بعد الفتح؛ تجنبًا للتكرير؛ ولهذا -في التكرير وكراهيتهم إياه إلا فيما يدُلُّون بتجشمهم تكريره على قوة اهتمامهم بما هم بسبيله- نظائر، وفيما ذكرنا كافٍ، فعلى هذا تكون هذه القراءة التي هي: "فيهِ فيهُ" اختيرت لوقوع الخلاف بين الحرفين على ما ذكرنا. فإن قيل: فَلِمَ كُسر الأول وضُم الآخر وهلا عُكس الأمر؟ ففيه قولان؛ أحدهما: أن الكسر في نحو هذا أفشى في اللغة فقُدِّم، والضم أقل استعمالًا فأُخر، والثاني: وهو أغمض؛ وهو أن "فيه" الأولى ليست في موضع رفع؛ بل هي منصوبة الموضع بقوله تعالى: "تَقُوم" من قوله: {أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} ، و"فيه" من قوله: {فِيهِ رِجَالٌ} في موضع الرفع؛ لأنه خبر مبتدأ مقدم عليه، والمبتدأ "رجال"، و"فيه" خبر عنه، فهو مرفوع الموضع، فلما كان كذلك سُبقت الضمة لتصور معنى الظرف.
ومعاذ الله أن نقول: إن ضمة الهاء من "فيه" عَلَم رفع، كيف ذلك والهاء مجرورة الموضع "بفي"؟ نعم وهي اسم مضمر، والمضمر لا إعراب في شيء منه، وهي أيضًا مكسورة في أكثر اللغة، هل يجوز أن يظن أحد أن الضمة فيها علَم رفع؟ لكن الكلمة مرفوعة الموضع، وتصوُّر معنى الرفع فيها أسبق إلى اللفظ، كما ذهب بعضهم في ضمة تاء المتكلم في نحو: قمتُ وذهبتُ إلى أنها إنما بُنيت "73و" على الضم لَمْحا لموضعها من الإعراب؛ إذ هي مرفوعة، وكانت أقوى من تاء المذكر والمؤنث في نحو: قمتَ وقمتِ؛ فكانت لذلك أحق بذلك. وليس الظرف هنا وصفًا لمسجد؛ بل هو على الاسئناف، والوقف عندنا على قوله: {أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} ، ثم استؤنف الكلام فقيل: {فِيهِ رِجَالٌ} . وهذا أولى من أن يُجعل الظرف وصفًا "لمسجد"؛ لما فيه من الفصل بين النكرة وصفتها بالخبر الذي هو "أحق"، ولأنك إذا استأنفت صار هناك كلامان، فكان أفخر من الوصف من حيث كانت الصفة مع موصوفها كالجزء الواحد. ومن ذلك قراءة نصر بن عاصم1 بخلاف: "أفمن أَسَسُ بُنْيانِه خيرٌ أم من أَسَسُ بُنيانِه"2 في وزن فَعَل، وقرأ: "أَساسُ بُنْيَانِه" بفتح الألف وألف بين السينين نصر بن علي3 بخلاف، ورُوي عنه أيضًا: "أُسُّ بُنْيانِه" برفع الألف وخفض النون في "بنيانه" والسين مشددة. قال أبو الفتح: يقال: هو أس الحائط وأساسه، فُعْل وفَعَال. وقد قالوا: له أَسّ بفتح الألف، وقد أَسّ البناء يؤسه أَسًّا: إذا بناه على أساس، وقالوا في جمع أُس: آساس، كقفل وأقفال، وقالوا في جمع أساس: إساس وأُسُس، ونظير أساس وإساس ناقة هِجان4 ونوق هِجَان، ودرع دِلاص5 وأدرع دِلاص، وإن كان هذا مكسور الأول، فإن فَعَالًا وفِعَالًا تجريان مجرى المثال الواحد، ألا ترى كل واحد منهما ثلاثيًّا وفيه الألف زائدة ثالثة؟ وقد اعتقبا أيضًا
على المعنى الواحد فقالوا: أَوان وإِوان، ودَواء ودِواء، وحَصاد وحِصاد، وجَزَاز1 وجِزَاز، وجَرَام2 وجِرَام. وقد يجوز أن يكون إِسَاس جمع أُسّ كبُرد وبِرَاد، وقد يجوز أن يكون حمع أَس كفَرخ وفراخ، وأما أُسُس فجع أساس كقُذُل وقَذَال3. قال كَذَّاب بني الحِرْماز: وأُس مجد ثابتٌ وطيد ... نال السماءَ فرعُه المديد4 ومن ذلك ما حكاه ابن سلام قال: قال سيبويه: كان عيسى بن عمر يقرأ: "على تقوًى من الله"5، قلت: على أي شيء نوَّن؟ قال: لا أدري ولا أعرفه، قلت: فهل نوَّن أحد غيره؟ قال: لا. قال أبو الفتح: أخبرنا بهذه الحكاية أبو بكر جعفر بن علي بن الحجاج عن أبي خليفة الفضل بن الْحُبَاب عن محمد بن سلام. فأما التنوين فإنه وإن كان غير مسموع إلا في هذه القراءة فإن قياسه أن تكون ألفه للإلحاق لا للتأنيث، كتَتْرًى6 فيمن نون7 وجعلها ملحقة بجعفر. وكان الأشبه بقدر سيبويه ألا يقف في قياس ذلك، وألا يقول: لا أدري، ولولا أن هذه الحكاية رواها ابن مجاهد ورويناها عن شيخنا أبي بكر لتوقفت فيها. فأما أن يقول سيبويه: لم يقرأ بها أحد فجائز؛ يعني: فيما سمعه؛ لكن لا عذر له في أن يقول: لا أدري؛ لأن قياس ذلك أخف وأسهل على ما شرحنا من كون ألفه للإلحاق. ومن ذلك قراءة الجماعة: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ} 8، وفي قراءة أُبي وعبد الله بن مسعود، ويُروى أيضًا عن الأعمش: "التائبين العابدين".
قال أبو الفتح: أما رفع {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ} فعلى "73ظ" قطع واستئناف؛ أي: هم التائبون العابدون. وأما "التائبين العابدين" فيحتمل أن يكون جرًّا وأن يكون نصبًا: أما الجر فعلى أن يكون وصفًا للمؤمنين في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} 1 "التائبين العابدين"، وأما النصب فعلى إضمار فعل لمعنى المدح؛ كأنه قال: أعني أو أمدح "التائبين العابدين"، كما أنك مع الرفع أضمرت الرافع لمعنى المدح. ومن ذلك قراءة طلحة: "وما يَسْتَغْفِرُ إبراهيمُ لأَبيه"2، ورويت عنه أيضًا: "وما استَغفر إبراهيمُ لأَبيه". قال أبو الفتح: أما "يَسْتَغْفِر" فعلى حكاية الحال، كقولك: كان زيد سيقوم، وإن كان متوقعًا منه القيام، وحكاية الحال فاشية في اللغة؛ منها قول الله عز وجل: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} 3، ولم يقل: أحدهما من شيعته، والآخر من عدوه؛ وذلك أنه تعالى لما حكى الحال الماضية صار النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن يَسمع من بعد كالحاضرين للحال، فقال: هذا، وهذا. وقال تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 4 وهذه اللام إنمتا تدخل على فعل الحال الحاضرة، فحَكى الحال المستأنفة كما حكى السالفة. ومن ذلك قراءة الناس: {الَّذِينَ خُلِّفُوا} 5، وقرأ: "خَلَفُوا" -بفتح الخاء واللام خفيفة- عكرمة وزر بن حُبيش6 وعمرو بن عبيد، ورُويت عن أبي عمرو، قرأ: "خالَفُوا"
أبو جعفر محمد بن علي وعلي بن الحسين1 وجعفر بن محمد2 وأبو عبد الرحمن السلمي3. قال أبو الفتح: من قرأ: "خَلَفُوا" فتأويله: أقاموا ولم يبرحوا، ومَن قرأ: "خالَفُوا" فمعناه عائد إلى ذلك؛ وذلك أنهم إذا خالفوهم فأقاموا فقد خلفوا4 هناك. ومن ذلك قراءة عبد الله بن قُسَيْط المكي: "لقد جاءكم رسولٌ من أَنْفَسِكم"5. قال أبو الفتح: معناه: من خياركم، ومنه قولهم: هذا أنفس المتاع؛ أي: أجوده وخياره، واشتقه من النفس؛ وهي أشرف ما في الإنسان.
سورة يونس
سورة يونس: بسم الله الرحمن الرحيم من ذلك قراءة أبي جعفر والأعمش وسهل بن شعيب1: "وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا أَنَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ"2. قال أبو الفتح: إن شئت كان تقديره: وعد الله حقًّا؛ لأنه يبدأ الخلق ثم يعيده؛ أي: من قدرَ على هذا الأمر العظيم فإنه غني عن إخلاف الوعد، وإن شئت كان تقديره: أي وَعَدَ الله وعدًا حقًّا أنه يبدأ الخلق ثم يعيده، فتكون "أنه" منصوبة بالفعل الناصب لقوله: "وعدًا"، ولا يجوز أن يكون "أنه" منصوبة الموضع بنفس "وَعْد" لأنه قد وصف بقوله حقًّا، والصفة إذا جرت على موصوفها أذِنت بتمامه وانقضاء أجزائه، فهي من صلته، فكيف يوصف قبل تمامه؟ فأما قول الحطيئة: أَزمعتُ يأْسًا مبينًا من نَوَالِكُمُ ... ولن تَرى طاردًا للحُرِّ كالياس3 فلا يكون قوله: من نوالكم من صلة يأس من حيث ذكرنا، ألا تراه قد وصفه بقوله: "مبينًا"؟ وإذا كان المعنى لعمري عليه ومُنع الإعراب منه أُضمر له ما يتناول حرف الجر، ويكون يأسًا دليلًا عليه؛ كأنه قال فيما بعد "74و": يئست من نوالكم.
ومن ذلك قراءة ابن محيصن1 وبلال بن أبي بُردة ويعقوب2: "أنَّ الحمدَ لله". قال أبو الفتح: هذه القراءة تدل على أن قراءة الجماعة: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} على أَنَّ "أَنْ" مخففة من أَنَّ، بمنزلة قول الأعشى: في فِتيةٍ كسيوف الهند قد علِموا ... أَنْ هالكٌ كلُّ من يَحفي وينتعل3 أي: أنه هالك، فكأنه على هذا: وآخر دعواهم أنه الحمد الله، وعلى أنه لا يجوز أن يكون "أنْ" هنا زائدة كما زيدت في قوله: ويومًا تُوافينا بوجه مقسَّم ... كأَنْ ظبيةٍ تعطو إلى وارق السَّلَمْ4 أي: كظبية، وإذا لم يكن ذلك كذلك لم يكن تقديره: وآخر دعواهم الحمد الله، هو كقولك: أول ما أقوله: زيد منطلق. وعلى أن هذا مع ما ذكرناه جائز في العربية؛ لكنَّ فيه خلافًا لتقدير قراءة الجماعة. وفيه أيضًا الحمل على زيادة "أنْ"، وليس بالكثير. ولو قرأ قارئ: إنَّ الحمدَ لله، بكسر الهمزة على الحكاية التي للفظ بعينه لكان جائزًا؛ لكن لا يُقْدَم على ذلك إلا أن يَرد به أَثر وإن كان في العربية سائغًا. وإذا فتح فقال: أنَّ الحمد لله، فلم يحكِ اللفظ بعينه؛ وإنما جاء بمعنى الكلام كقولنا: بلغني أن زيدًا منطلق، فليس هذا على حكاية ما سمع لفظًا، ألا تراه إذا قيل له: قد انطلق زيد، فقال: بلغني أن زيدًا منطلق كان صادقًا وإن لم يؤد نفس اللفظ الذي سمعه؛ لكنه أدى معناه؟ وإن كسَر فقال: إنَّ الحمد لله، فهو مؤدٍ لنفس اللفظ وحَاكٍ له ألبتة.
ومن ذلك ابن شعيب1 قال: سمعت يحيى2 بن الحارث يقرأ: "لِنَظُّرَ كيف تَعْمَلون"3 بنون واحدة. قال: فقلت له: ما سمعت أحدًا يقرؤها، قال: هكذا رأيتها في الإمام: مصحف عثمان. أيوب4 عن يحيى عن ابن عامر: "لِنَظُّرَ" بنون واحدة مثله. قال أبو الفتح: ظاهر هذا أنه أدغم نون ننظر في الظاء، وهذا لا يُعرف في اللغة، ويشبه أن تكون مخفاة؛ فظنها القراء مدغمة على عادتهم في تحصيل كثير من الإخفاء إلى أن يظنوه مدغمًا؛ وذلك أن النون لا تُدغم إلا في ستة أحرف، ويجمعها قولك: يَرْمُلون. ومن ذلك قراءة ابن عباس والحسن وابن سيرين5: "ولا أَدْرَأْتُكم به"6. قال أبو الفتح: هذه قراءة قديمة التناكر لها والتعجب منها. ولعمري إنها في بادئ أمرها على ذلك، غير أن لها وجهًا وإن كانت فيه صنعة وإطالة. وطريقه أن يكون أراد: ولا أَدريتكم به، ثم قلب الياء لانفتاح ما قبلها وإن كانت ساكنة ألفًا؛ كقولهم في ييئس: ياءَس، وفي ييبس: يابَس، وكقولهم: ضَرب عليهم سايَة7؛ وإنما
يريد: سَيَّة، وهي فَعْلة من سوّيت، فقلبت الواو ياء وأدغمت في الياء فصار سَيَّة، ثم قلبت الياء الأولى لانفتاح ما قبلها وإن كانت ساكنة ألفًا؛ فصارت ساية. وقالوا في الإضافة إلى الْحِيرَة: حاريّ، وإلى طَيّ: طائِيّ، وقالوا: حاحيت1 وعاييت وهاهيت، والأصل: حيحيت وعيعيت وهيهيت، فقلت الياءات السواكن في هذه الأماكن ألفات، فكذلك أيضًا قلبت ياء "أدريتكم" ألفًا فصارت "أدرأتكم" "74ظ". وعلى ذلك أيضًا ما رويناه عن قطرب: أن لغة عقيل أن يقولوا في أعطيتُك: أعطاتك، فلما صارت "أدريتكم" إلى "أرداتكم" همز على لغة مَن قال في الباز: البأز، وفي العالم: العألم، وفي الخاتم: الخأتم، وفي التابل وتابَلْتُ القدر: التأبل، وتأبلت القدر. وأنشد ابن الأعرابي: ولَّى نعامُ بني صفوان زَوْزَأةً ... لَمَّا رأى أسدًا في الغار قد وثبا2 يريد: زوزاة. ولنحو هذا نظائر قد أوردناها في كتابنا الموسوم بالخصائص في باب ما همَزَتْهُ العرب ولا أصل له في همز مثله3، فهذا وإن طالت الصنعة فيه أمثل من أن تُعْطَى اليد بفساده وترك النظر في أمره. ومن ذلك قراءة أم الدرداء4: "حتى إذا كننتم في الفُلْكِيِّ"5 بكسر الكاف وتثبت الياء. قال أبو الفتح: اعلم أن العرب زادت ياء الإضافة فيما لا يحتاج إليها؛ من ذلك قولهم في الأحمر: أَحمريّ، وفي الأَشهر: أَشهريّ. قال العجاج: والدهر بالإنسان دَوّاريّ6
أي: دوَّار. وقال فيها أيضًا: غُضْف طواها الأَمس كَلَّابي1 أي: كَلَّاب. فإن قيل: فإن هذا أمر يختص بالصفات، وليس "الفلك" بصفة فتلحقه ياء النسب، قيل: قد جاء ذلك في الاسم أيضًا. ألا ترى إلى قول الصلتان: أنا الصلتانيّ الذي2 وأيضًا فقد شُبه كل واحد من الاسم والصفة بصاحبه، فغير منكَر أن يُشَبه الفلك بالحلو والمر. ويزيد في شبهه به أن الفلك عندنا اسم مكسَّر، وليس عندنا كما ذهب إليه الفراء فيه من أنه اسم مفرد يقع على الواحد والجمع؛ كالطاغوت ونحوه. وإذا كان جمعًا مكسرًا أشبه الفعل من حيث كان التكسير ضربًا من التصرف، وأصل التصرف للفعل، ألا ترى أن ضربًا من الجمع أشبه الفعل فمُنع من الصرف وهو باب مفاعل ومفاعيل؟ ولأن التكسير أيضًا ثانٍ كما أن الفعل ثانٍ، وإذا أشبه التكسير الفعل من حيث وصفنا قارب الصفة لشدة ملابسة الصفة للفعل لفظًا ومعنًى وعملًا، فهذا عندي هو العذر في إلحاق "الفُلك" ياءي الإضافة في هذه القراءة. ومن ذلك قراءة الأعرج: "وأَزْينَت"3، وهي أيضًا قراءة نصر بن عاصم وأبي العالية والحسن بخلاف وقتادة وأبي رجاء بخلاف والشعبي وعيسى الثقفي. وقرأ: "وازْيأَنَّت" أبو عثمان النهدي. قال أبو الفتح: أما "أَزْيَنَتْ" فمعناه: صارت إلى الزينة بالنبت، ومثله من أَفعَل أي: صار إلى كذا، أجذع المهر4 صار إلى الإجذاع، وأحصد الزرع وأجزَّ النخل: أي صار إلى الحصاد
والجزاز، إلا أنه أخرج العين على الصحة، وكان قياسه أَزانت، مثل أشاع الحديث، وأباع الثوب: أي عرضه للبيع. وأما "ازْيأَنَّت" فإنه أراد فعالَّت، وأصله: ازيانَّت مثل: ابياضَّت واسوادَّت، إلا أنه كره التقاء الألف والنون الأولى ساكنتين، فحرك الألف فانقلبت همزة، كقول كُثير: وللأرض أما سُودُها فتجللت ... بياضًا وأما بِيضها فادهأَمت1 "75و" وقد تقدم نظير ذلك فيه. ومن ذلك قراءة مروان على المنبر: "كَأَنْ لَمْ تَتَغَنَّ بِالْأَمْس"2. قال أبو الفتح: جاء هذا مجيء نظائره؛ كقولهم: تمتعت بكذا، وتأنقت فيه، وتلبَّست بالأمر، مما جاء تفعَّلت على هذا الحد. ومن ذلك قراءة عمرو بن فائد3: "بِسُورَةِ مِثْلِهِ"4 بالإضافة. قال أبو الفتح: هو عندي على حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه؛ أي: بسورة كلام مثله، أو حديثٍ مثله، أو ذِكْرٍ مثله، وقد ذكرنا حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه. ومن ذلك قراءة الأعمش: "آلحقُّ هو"5. قال أبو الفتح: اعلم أن الأجناس تتساوى فائدتا6 معرفتها ونكرتها في نحو هذا، تقول:
ثق بأمانٍ من الله، وثق بالأمان من الله، وهذا حق، وهذا الحق، وهذا صدق، وهذا الصدق. ومنه قولهم: خرجت فإذا بالباب أسد، وإذا بالباب الأسد، المعنى واحد ووضع اللفظ مختلف؛ وسبب ذلك كون الموضع جنسًا، وقد تقدم نحو هذا. ومن ذلك قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- وعثمان بن عفان وأُبي بن كعب والحسن وأبي رجاء ومحمد بن سيرين والأعرج وأبي جعفر بخلاف والسلمي وقتادة والجحدري1 وهلال بن يَسَاف2 والأعمش بخلاف وعباس بن الفضل وعمرو بن فائد: "فَبِذَلِكَ فَلْتفْرَحُوا"3 بالتاء، وقرأ: "فبِذَلِكَ فافرَحُوا" أبي بن كعب. قال أبو الفتح: أما قراءة أبي هذه "فافرحوا" فلا نظر فيها؛ لكن "فلتفرحوا" بالتاء خرجت على أصلها؛ وذلك أن أصل الأمر أن يكون بحرف الأمر وهو اللام، فأصل اضرب لتضرب، وأصل قم لتقم، كما تقول للغائب: ليقم زيد، ولتضرب هند؛ لكن لما كثر أمر الحاضر نحو: قم، واقعد، وادخل، واخرج، وخذ، ودع؛ حذفوا حرف المضارعة تخفيفًا، بقى ما بعده ودل حاضر الحال على أن المأمور هو الحاضر المخاطب، فلما حذف حرف المضارعة بقى ما بعده في أكثر الأمر ساكنًا؛ فاحتيج إلى همزة الوصل ليقع الابتداء بها، فقيل: اضرب، اذهب، ونحو ذلك. فإن قيل: ولِمَ كان أمر الحاضر أكثر حتى دعت الحال إلى تخفيفه لكثرته؟ قيل: لأن الغائب بعيد عنك، فإذا أردت أن تأمره احتجت إلى أن تأمر الحاضر لتؤدي إليه أنك تأمره، فقلت: يا زيد، قل لعمرو: قم، ويا محمد، قل لجعفر: اذهب، فلا تصل إلى أمر الغائب إلا بعد أن تأمر الحاضر أن يؤدي إليه أمرك إياه، والحاضر لا يحتاج إلى ذلك؛ لأن خطابك إياه قد أغنى عن تكليفك غيره أن يتحمل إليه أمرك له. ويدلك على تمكن أمر الحاضر أنك لا تأمر الغائب بالأسماء المسمى بها الفعل في الأمر، نحو:
صَه1، ومَه2، وإِيه3، وإِيهًا4، وحيَّهل5، ودونك، وعندك، ونحو ذلك. لا تقول: دونه زيدًا، ولا عليه جعفرًا، كقولك: دونك زيدًا، وعليك سعدًا. وقد شذ حرف من ذلك فقالوا: عليه رجلًا لَيْسَنِي. ولهذا المعنى قوِي ضمير الحاضر على ضمير الغائب فقالوا: أنت وهو، فلما صاغوا لهما اسمًا واحدًا صاغوه على لفظ الحضور "75ظ" لا لفظ الغيبة، فقالوا: أنتما، فضموا الغائب إلى الحاضر، ولم يقولوا: هما، فيضموا الحاضر إلى الغائب، فهذا كله يريك استغناءَهم بقُمْ عن لِتَقُم ونحوه. وكأن الذي حسَّن التاءَ هنا أنه أمر لهم بالفرح، فخوطبوا بالتاء لأنها أذهب في قوة الخطاب، فاعرفه، ولا تقل قياسًا على ذلك: فبذلك فلتحزنوا؛ لأن الحزن لا تقبله النفس قبول الفرح، إلا أن تريد إصغارهم وإرغامهم، فتؤكد ذلك بالتاء على ما مضى. ومن ذلك قراءة أبي عبد الرحمن والحسن وابن أبي إسحاق وعيسى الثقفي وسلام ويعقوب، ورُويت عن أبي عمرو: "فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ"6 مكسورة الميم ورفع "شركاؤكم". وقرأ: "فَاجْمَعُوا أَمْرَكُمْ" غير مهموزة والميم مفتوحة "وشُرَكاءَكم" نصبًا الأعرج وأبو رجاء وعاصم الجحدري والزهري، ورُوي عن الأعمش. وفي قراءة أبي: "وادْعُوا شُرَكاءَكم ثم اجمَعوا أَمْرَكم". قال أبو الفتح: أما "فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ" بالرفع، فرفعه على العطف على الضمير في "أَجْمِعوا"، وساغ عطفه عليه من غير توكيد للضمير7 في "أَجْمِعوا" من أجل طول الكلام بقوله: "أْمْرَكُم". وعلى نحو من هذا يجوز أن تقول: قم إلى أخيك وأبو محمد، واذهب مع عبد الله وأبو بكر، فتعطف على الضمير من غير توكيد وإن كان مرفوعًا ومتصلًا؛ لما ذكرنا من طول الكلام بالجار والمجرور. وإذا جاز قول الله تعالى: {مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} 8، وأن نكتفي بطول الكلام بـ"لا" وإن كانت بعد حرف العطف؛ كان الاكتفاء من التوكيد بما هو أطول من "لا"، وهو أيضًا قبل الواو، كما أن التوكيد لو ظهر لكان قبلها أحرى.
وعلى ذلك فلو قال قائل: قم وزيد، فعطف على الضمير المرفوع من غير توكيد كان أقبح من قولنا: قمت وزيد؛ وذلك أن المعطوف عليه في قم وزيد ضمير لا لفظ له، فهو أضعف من الضمير في قمت؛ لأن له لفظًا وهو التاء، وقمت وزيد أضعف من قمنا وزيد؛ لأن "نا" من قمنا أتم لفظًا من التاء في قمت. وعليه أيضًا تعلم أن قمتما وزيد أشبه شيئًا من قمنا وزيد؛ لأن "تُما" من قمتما أتم لفظًا من "نا" من قمنا. وكذلك أيضًا قولك للنساء: ادْخلْنانِّ وزيد، أمثل من قولك: دخلتنَّ وزيد؛ لأن "نانِّ" من ادخلنان أطول من "تُنَّ" من دخلتن. فهذه مصارفة وإن خفيت ولطفت تؤثِّر في أنفس العارفين بها ما لا تخطر على أوهام الساهين عنها. وكذلك لو قلت: اضربنا"نِّهِ"1 وزيد؛ لكان أمثل من ادخلنانِّ وزيد؛ لأن "نانِّهِ" ستة أحرف و"نانِّ" أربعة أحرف، وكذلك اضربنانِّهما وزيد أمثل من اضربنانِّه وزيد؛ لأن "نانِّهما" سبعة أحرف و"نانِّه" ستة أحرف، وكذلك الزيدين الثوبين اكسُونانِّهما هما، أمثل من قولك: الزيدين اكسونانِّهما؛ لأن "نانِّهما هما " عشرة أحرف "ونانِّهما" سبعة أحرف. فهذا مبنًى يعاد عليه، ويثنى أشباهه إليه. وجميعه من بعد ليس في قوة التوكيد نحو: قم أنت وزيد، و {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} 2؛ وذلك أن التوكيد وإن لم يكن في طول هذه الفروق والفصول، فإن فيه معنى ليس فيها وهو تثبيتة معنى الاسمية للمضمر المتصل "76و" الذي قد شَعَّثَ3 الفعل فمازجه وصار كجزء منه، فضعفت عن العطف عليه، كما لا يجوز العطف على جزء من الفعل، فإذا وُكِّد صار في حيز الأسماء، ولحق بما يحسن العطف عليه بعد توكيده كما حسن عليها. ومن ذلك قراءة السري بن يَنْعُم: "ثم أَفْضُوا إليَّ"4 من أفضيت. قال أبو الفتح: معناه: أَسرعوا إليَّ، وهو أَفعلْت من الفضاء؛ وذلك أنه إذا صار إلى الفضاء تمكن من الإسراع، ولو كان في ضيق لم يقدر من الإسراع على ما يقدر عليه من السبعة، ولام
أفضيت والفضاء وما تصرف منهما واو لقولهم: فَضَا الشيء يقضو إذا اتسع، فقولهم: أفضيت: صرت إلى الفضاء؛ كقولهم: أَعرَق الرجل: إذا صار إلى العراق، وأعمن الرجل: إذا صار إلى عُمان، وأنجد: أتى نجدًا، ونحو ذلك. ومن ذلك قراءة مجاهد1 وسعيد بن جبير2: "إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ"3. قال أبو الفتح: هذا -على قول4 قراءة الجماعة: {لَسِحْرٌ مُبِينٌ} - إشارة إلى الفعل الواقع هناك من قلب العصا حية ونحوه، وهذا -على من قرأ: "لَسَاحِر"- إشارة إلى موسى عليه السلام، كما أن هذا -من قول الله تعالى: {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ} 5- إشارة إلى اليوم، وهذا -على قراءة6 من قرأ: "هَذَا يَوْمَ لا يَنْطِقُونَ" بالنصب- إشارة إلى الفعل الواقع في هذا اليوم. ومن ذلك قراءة أبي عبد الرحمن: "قَدْ أُجِيبَتْ دَعَوَاتُكُمَا"7. قال أبو الفتح: هذه جمع دعوة، وبهذه القراءة تعلم أن قراءة الجماعة: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} يراد فيها بالواحد معنى الكثرة؛ وساغ ذلك لأن المصدر جنس، وقد تقدم أن الأجناس يقع قليلها موقع كثيرها، وكثيرها موقع قليلها. ومن ذلك قراءة أُبي بن كعب ومحمد بن السميفع8 ويزيد البربري: "فاليومَ نُنَحِّيك" بالحاء.
قال أبو الفتح: هذه نُفَعِّلك من الناحية؛ أي: نجعلك في ناحية من كذا، يقال: نَحوْتُ الشيء أنحوه: إذا قصدته، ونَحَّيت الشيء فتنحى: أي باعدته فتباعد فصار في ناحية. قال رؤبة وهو في جماعة من أصحابه ممن يأخذ عنه، وقد أقبلت عجوز منصرفة عن السوق، وقد ضاق الطريق بها عليهم: تَنَحَّ للعجوز عن طريقها ... إذ أقبلت رائحةً من سوقها دعها فما النحويّ من صديقها1 وقال الحطيئة لأمه: تَنَحَّيْ فاقعدي مِنِّي بعيدا ... أراح الله منك العالمينا2 وقد استَعملت العرب مصدر نحوت الشيء نحوًا ظرفًا؛ كقولك: زيد نحوك: أي في شِقِّك وناحيتك. وعليه ما أنشده أبو الحسن: تَرمِي الأماعيز بِمُجْمَرَات ... بأَرجل رُوحٍ مُحَنِّبَات يحدو بها كلُّ فتى هيَّات ... وهن نحو البيت عامدات3 فنصب عامدات على الحال لتمام الكلام من قبلها. وقد جمعوا نحوًا على نُحُوّ، فأخرجوه على أصله. ومنه حكاية الكتاب: إنكم لتنظرون في نُحُوّ كثيرة، ومثله من الشاذ بَهو وبُهُو للصدر، وأَب وأُبُوّ، وابن وبُنُوّ. قال القناني يمدح الكسائي "76ظ": أَبى الذمَّ أخلاق الكسائي وانتمى ... به المجدَ أخلاقُ الأُبُوّ السوابق4
سورة هود
سورة هود: بسم الله الرحمن الرحيم من ذلك قراءة الناس: {ثُمَّ فُصِّلَتْ} 1، وقرأ: "فَصَلَتْ" بفتح الفاء والصاد خفيفة عكرمة والضحاك والجحدري، ورُويت عن ابن كثير2. قال أبو الفتح: معنى "فَصَلت": أي صدَرت وانفصلت عنه ومنه، وهو كقولك: قد فَصَل الأمير عن البلد: أي سار عنه. ومن ذلك قراءة ابن عباس بخلاف مجاهد ويحيى بن يعمر3 ونصر بن عاصم وعبد الرحمن بن أفزى4 والجحدري وابن أبي إسحاق وأبي رَزِين5 وأبي جعفر محمد بن علي وعلي بن حسين وزيد بن علي وجعفر بن محمد والضحاك وأبي الأسود6: "يَثْنُونِي صُدُورُهُم"7 على
تفعوعل، وقرأ: "تَثْنَوِنَّ صُدُورُهُمْ" ابن عباس بخلاف، وقرأ: "تَثْنَئِنَّ صدورُهم" عروة الأعشى، ورُويت عن عروة الأعشى أيضًا: "يَثْنؤنَّ صُدُورَهُمْ"، ورُوي ذلك عن مجاهد أيضًا، ورُوي عن ابن عباس: "تثْنوْنِ صُدُورُهُمْ "، ورُوي عن سعيد بن جبير وأحسبها وَهْمًا: "يُثْنُونَ صُدُورَهُمْ" بضم الياء والنون. قال أبو الفتح: أما "تَثْنَوني" فتفعوعِل، كما قال: وهذا من أبنية المبالغة لتكرير العين؛ كقولك: أعشب البلد، فإذا كثر فيه ذلك قيل: اعشوشب، واخلولقت السماء للمطر: إذا قويت أمارةُ ذلك، واغْدَوْدنَ الشعر: إذا طال واسترخى. أنشدنا أبو علي: وقامت ترائيك مُغْدَوْدِنا ... إذا ما تنوء به آدها1 وقرأت على أبي بكر محمد بن الحسن عن أبي العباس أحمد بن يحيى قول الشاعر: لو كنت تعطِي حين تُسْأَلُ سامحتْ ... لك النفسُ واحلولاك كل خليل2 وقال حُميد بن ثور: فلما مضى عامَين بعد انفصاله ... عن الضرع واحلولى دِماثًا يَرودُها3 فهذا أقوى معنى من استحلى. وأما "تَثْنَئِنَّ" و"تَثْنَوِنَّ" ففيهما النظر؛ فتثنئن تفعلِلَّ من لفظ الثِّنّ ومعناه، وهو ما هشَّ وضعف من الكلأ. أنشد أبو زيد ورويناه عنه: يأيها الفُصيِّل الْمُعَنِّي ... إنك ريَّان فصَمِّت عَنِّي يكفي اللقوحَ أكلةٌ من ثِنّ4
وأصله: تثنانُّ، فحركت الألف لسكونها وسكون النون الأولى؛ فانقلبت همزة على ما مضى قبل، وعليه قول دُكَين: راكدةٌ مِخلاتُه ومحلبُه ... وجُلُّه حتى ابيأَضَّ ملبَبُه1 يريد: ابياض، فحرك الألف فهمزها على ما مضى، والتقاء المعنيين أن "الثِّنَّ": ما ضعف ولان من الكلأ، فهو سريع إلى طالبه خفيف، وغير معتاص على آكله، وكذلك "صدروهم" مجيبة لهم إلى أن يثنوها؛ ليستخفوا من الله سبحانه. وأما "تَثْنوِنَّ" فإنها تفعوْعل من لفظ الثِّنّ ومعناه أيضًا، وأصلها: تثنونِنُ، فلزم الإدغام لتكرير العين إذ كان غير ملحق، وكذلك قالوا: في مُفعوعل من رَددت مُرْدَوِدّ، وأصلها: مُرْدَوْدِدُ. فلما لم يكن ملحقًا وجب إدغامه؛ فنقلب الكسرة من الدال الأولى فأُلقيت "77و" على الواو، وأُدغمت الدال في الدال فصار مُرْدوِدٌّ، وكذلك أصل هذه: تَثْنَوْنِنُ، فأسكنت النون الأولى، ونقلت كسرتها على الواو، فأُدغمت النون في النون فصار "تَثْنَوِنَّ". وذهب أبو إسحاق في قولهم: مصائب -بالهمز- إلى أن أصلها: مصاوب، فهمزت الواو لانكسارها، كما همزت في إسادة وإعاء، فقياسه على هذا أن تكون "تثنئنَّ" أصلها: تثنوِنُّ، فهمزت الواو لانكسارها، وعلى أن مذهب أبي إسحاق هذا مردود عندنا غير أن قياسه أن يقول ما ذكرنا. وأما "تَثْنَوْنِ صُدُورُهُمْ" بنون مكسورة من غير ياء، ورفع "صدروهم" فإنه أراد الياء، فحذفها تخفيفًا كالعادة في ذلك، ولا سيما والكلمة طويلة بكونها على تفعوعل. وأما "يَثْنَؤُنَّ صُدُورَهُمْ" بالنصب وبالهمزة المضمومة فَوْهم من حاكيه أو قارئه؛ لأنه لا يقال: ثنأت كذا بمعنى تَثَنيْتُه، وكذلك "يُثْنُونَ صُدُورَهُمْ"؛ لأنه لا يُعرف في اللغة أَثنيت كذا بمعنى ثَنيته، إلا أن يكون معناه يجدونها منثنية؛ كقولهم: أحمدته: وجدته محمودًا، وأذممته: وجدته مذمومًا. ومن ذلك قراءة أُبي وابن مسعود2: "وباطِلًا ما كانوا يَعْمَلُون"3.
قال أبو الفتح: "باطلًا" منصوب بـ"يعملون"، "ما" زائدة للتوكيد؛ فكأنه قال: وباطلًا كانوا يعملون. ومن بعد ففي هذه القراءة دلالة على جواز تقديم خبر كان عليها؛ كقولك: قائمًا كان زيد، وواقفًا كان جعفر. ووجه الدلالة من ذلك أنه إنما يجوز وقوع المعمول بحيث يجوز وقوع العامل، و"باطلًا" منصوب بـ"يعملون"، والموضع إذن لـ"يعملون" لوقوع معموله متقدمًا عليه؛ فكانه قال: ويعملون باطلًا كانوا. ومثله قول الله تعالى: {أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} ؟ 1 استدل أبو علي بذلك على جواز تقديم خبر كان عليها؛ لأن "إياكم" معمول "يعبدون"، وهو خبر كان، وإنما يجوز وقوع المعمول فيه؛ بحيث يجوز وقوع العامل على ما قدمناه. وعلى نحو من ذلك ما استدل أبو علي على جواز تقديم خبر المبتدأ عليه بقول الشماخ: كلا يومَى طُوَالة وصْلُ أروى ... ظَنُونٌ آن مُطَّرَحُ الظنُونِ2 فقال: "كلا" ظرف لقوله: "ظَنون"، و"ظنون" خبر المبتدأ الذي هو "وصل أروى"، فدل هذا على جواز تقديم "ظنون" على "وصل أروى"؛ كأنه قال: ظنون في كلا هذين اليومين وصل أروى؛ أي: هومتهم فيهما كليهما. وقد مضى نحو هذا. ومن ذلك قراءة ابن عباس بخلاف وأيوب السختياني3: "فَأَكْثَرْتَ جِدَلَنَا"4. قال أبو الفتح: الجدل اسم بمعنى الجِدال والمجادلة، وأصل ج د ل في الكلام: القوة، منه قولهم: غلام جادل: إذا ترعرع وقوي، وركب فلان جَديلة رأيه: أي صمم عليه ولم يلِن فيه. ومنه الأجدل للصقر؛ وذلك لشدة خَلْقه، وعليه بقية الباب. وكذلك الجِدال إنما هو الاقتواء5 على خصمك بالحجة، قال الله عز وجل: {وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} 6 أي: مغالبة بالقول "77ظ" وتقويا.
ونحو منه لفظًا قولهم: ظَبْي شادن: أي قد قوي واشتد، والشين أخت الجيم، والنون أخت اللام. ونحو منه قولهم: عطَوت الشيءَ: إذا تناولتَه، وقالوا: أتيت عليه: إذا ملكتَه واشتملت عليه. والعين أخت الهمزة، والطاء أخت التاء، والواو أخت الياء. وهذا باب من اللغة لعله لو تُقرِّيَتْ لأَتى على أكثرها، وقد أَتيتُ على كثير منه في كتاب الخصائص1. ولولا أن القراء لا ينبسطون في هذه الطريق لنبهت على كثير منه. لا، بل إذا كان منتحلو هذا العلم والمترسمون به قلَّما تَطُوع2 طباعهم لهذا الضرب منه، وإن اضطروا إلى فهم شيء من جملته أظهروا التجاهل به، ولم يشكروا الله عز وجل على ما لاح لهم وأعرض من طريقه؛ جريًا على عادة مستوخَمة، وإخلادًا إلى خليقة كرِهة مستوبَلة حسدًا يريهم3 ونَغَلًا4 يُجويهم. وما أقلهم مع ذلك عددًا! وكذلك هم بحمد الله ولو ضوعفوا مددًا، فما ظنك بالقراء لو جُشموا النظر فيه والتقري لغروره ومطاويه؟ جعلنا الله ممن يأوي إلى طاعته، وأودعنا أبدًا شكر نعمته. ومن ذلك قراءة علي بن أبي طالب -عليه السلام- وعروة5 بن الزبير وأبي جعفر محمد بن علي وأبي عبد الله جعفر بن محمد: "ونادَى نُوحٌ ابنَهَ"6، ورُوي عنه عروة: "ابْنَها". وقرأ: "ابْناه" ممدوة الألف السدي7 على النداء، وبلغني أنه على التَّرَثي8، ورُوي عن ابن عباس: "نُوحٌ ابنَهْ" جزم. قال أبو الفتح: أما "ابنَهَ" فإنه أراد ابنها، كما يُروى عن عروة فيما قرأ: "ابنها"؛ يعني: ابن امرأته؛ لأنه قد جرى ذكرها في قوله سبحانه: {وَأَهْلَكَ} 9، فحذف الألف تخفيفًا، كقراءة
من قرأ: "يا أبَتَ"1. قال أبو عثمان يريد: يا أبتاه، وقد ذكرنا حذف الألف فيما مضى، وأنشدنا البيت الذي أنشده أبو الحسن وابن الأعرابي جميعًا: فلستُ بمدرِك ما فات مني ... بلهفَ ولا بِلَيْتَ ولا لو اني2 أراد: بهلفا، وغَيَّره. وقراءة السدي: "ابناه" يريد بها الندبة، وهو معنى قولهم: "الترثِّي، وهو على الحكاية؛ أي قال له: يا ابناه، على النداء. ولو أراد حقيقة الندبة لم يكن بُد من أحد الحرفين: يا ابناه، أو واابناه، كقولك فيها: وازيداه، ويازيداه. وأما "ابْنَهْ" بجزم الهاء، فعلى اللغة التي ذكرناها لأزد السراة في نحو قوله: ومِطْواي مشتاقان لَهُ أَرِقَانِ3 ومن قراءة الأعمش بخلاف: "على الْجُودِي" خفيف. قال أبو الفتح: تخفيف ياءَي الإضافة قليل إلا في الشعر. أنشدنا أبو علي: بَكِّي بعينكِ واكفَ القطر ... ابن الحواري العالي الذِّكْر4 يريد: "الحواريّ". ورُوي عنهم: لا أكلمك حِيْرِيْ دهر بتخفف الياء، يريد: حِيْرِيّ دهر، وهذا في النثر، فعليه قراءة الأعمش: "الْجُودِي" خفيفًا. ومن ذلك قراءة محمد بن زياد5 الأعرابي: "فَضَحَكَتْ"6 فتحًا. قال أبو الفتح: روى ابن مجاهد قال: قال أبو عبد الله بن الأعرابي: الضَّحْك: هو الحيض، وأنشد "78و": ضَحْكُ الأرانب فوق الصفا ... كمثل دم الجوف يوم اللِّقا7
قال: وأنشد: فجاءت بِمَزْج لم يَرَ الناس مثله ... هو الضّحْك إلا أنه عمَل النحل1 وبعد، فليس في اللغة ضحَكَت؛ وإنما هو ضَحِكت؛ أي: حاضت. قال أحمد بن يحيى: ضحِكت وطَمِثت لوقتها، والضَّحك: الشهد؛ وهو الثلج، وقال أحمد بن يحيى: وهو الطلع، قال محمد بن الحسن: قلت لأبي حاتم في قوله: تضحك الضبْع لِقتلي هذيلٍ2 قال: من أين لهم أن الضبُع تحيض؟ وقال: يا بني، إنما تكشِر للقتلى إذا رأتهم، كما قالوا: يضحك العَيْر إذا انتزع الصلِّيَانَة3. ويقال فيه: تضحك الضبْع لقتلَى هذيل أي: تستبشر لقتلاهم لتأكلهم، فيهِرُّ بعضها على بعض، فجلعه ضحِكًا. وترى الذئب لها4 يستهلُّ أي: يعوي، فيستدعي الذئاب فرحًا بذلك. ومن ذلك قراءة الأعمش: "وَهَذَا بَعْلِي شَيخ"5. قال أبو الفتح: الرفع في "شيخ" من أربعة أوجه: أحدها: أن يكون "شيخ" خبر مبتدأ محذوف؛ كأنه قال: هذا شيخ، والوقف إذن على قوله: {وَهَذَا بَعْلِي} ؛ لأن الجملة هناك قد تمت، ثم استأنف جملة ثانية فقال: "هذا شيخ". والثاني: أن يكون "بعلي" بدلًا من "هذا"، و"شيخ" هو الخبر.
والثالث: أن يكون "شيخ" بدلًا من "بعلي"، وكأنه قال: هذا شيخ، كما كان التقدير فيما قبله: بعلي شيخ. والرابع: أن يكون "بعلي" و"شيخ" جميعًا خبرًا عن هذا؛ كقولك: هذا حُلو حامض؛ أي: قد جمع الحلاوة والحموضة، وكذلك هذا: أي قد جمع البعولة والشيخوخة. فإن قلت: فهل تجيز أن يكون "بعلي" وصفًا "لـ"هذا"؟ قيل: لا؛ وذلك أن هذا ونحو من أسماء الإشارة لا يوصف بالمضاف، ألا تراهم لم يجيزوا مررت بهذا ذي المال، كما أجاوزا مررت بهذا الغلام؟ وإذا لم يجز أن يكون "بعلي" وصفًا لـ"هذا" من حيث ذكرنا لم يجز أيضًا أن يكون عطف بيان له؛ لأن صورة عطف البيان صورة الصفة، فافهم ذلك. وهنا وجه خامس: لكنه على قياس مذهب الكسائي؛ وذلك أنه يعتقد في خبر المبتدأ أبدًا أن فيه ضميرًا وإن لم يكن مشتقًّا من الفعل، نحو: زيد أخوك، وهو يريد النسب، فإذا كان كذلك فقياس مذهبه أن يكون "شيخ" بدلًا من الضمير في "بعلي"؛ لأنه خبر عن "هذا". فإن قلت: فإن الكوفيين لا يُجيزون إبدال النكرة من المعرفة إلا إذا كان من لفظها، نحو قول الله تعالى: {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ، نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} 1، وليس قبل "شيخ" معرفة من لفظه، قيل: أجل، إلا أن هذا اعتبار في الاسمين الملفوظ بكل واحد منهما، فأما الضمير فيه فعلى قياس قول من استودعه إياه فلا لفظ له أيضًا فيعتبر خلافُه أو وفاقُه، وإذا سقط ذلك ساغ، وجاز إبدال النكرة منه لِما ذكرنا من تقديم لفظه المخالف للفظها. ومن ذلك قراءة سعيد بن جبير والحسن بخلاف ومحمد بن مروان2 وعيسى الثقفي وابن إبي إسحاق: "هُنَّ أَطْهَرَ لَكُمْ"3 بالنصب. قال أبو الفتح: ذكر سيبويه هذه القراءة وضعفها، وقال فيها: احتَبى ابن مروان في لحنه4، وإنما قبح ذلك عنده؛ لأنه ذهب إلى أنه جعل "هن" فصلًا، وليست "78ظ" بين أحد الجزأين
اللذين هما مبتدأ وخبر ونحو ذلك، كقولك: ظننت زيدًا هو خيرًا منك، وكان زيد هو القائم. وأنا من بعدُ أرى أن لهذه القراءة وجهًا صحيحًا؛ وهو أن تجعل "هن" أحد جزأي الجملة، وتجعلها خبرًا لـ"بناتي"، كقولك: زيد أخوك هو، وتجعل "أطهر" حالًا من "هن" أو من "بناتي"، والعامل فيه معنى الإشارة، كقولك: هذا زيد هو قائمًا أو جالسًا، أو نحو ذلك. فعلى هذا مجازه، فأما على ما ذهب إليه سيبويه ففاسد كما قال. ومن ذلك ما رواه الحلواني1 عن قالون2 عن شيبة: "أو آوِيَ"3 بفتح الياء. ورُوي أيضًا عن أبي جعفر مثله. قال ابن مجاهد: ولا يجوز تحريك الياء هاهنا. قال أبو الفتح: هذا الذي أنكره ابن مجاهد عندي سائغ4 جائز؛ وهو أن تعطف "آوِيَ" على "قوة" فكأنه قال: لو أن لي بكم قوة أو أُوِيًّا إلى ركن شديد. فإذا صرت إلى اعتقاد المصدر فقد وجب إضمار أن ونصب الفعل بها، ومثله قول مَيْسُون بنت بَحْدَل الكليبية5: للبسُ عباءة وتقرَّ عيني ... أحب إلى من لُبس الشفوف6 فكأنها قالت: للبس عباءة وأن تقر عيني؛ أي: لأن ألبس عباءة وتقر عيني أحب إلي من كذا، وعليه بيت الكتاب أيضًا: فلولا رجالٌ من رِزَامٍ أعزَّةٌ ... وآلُ سُبيع أو أَسُوءك عَلْقَمَا7
أي: أو أن أسوءَك، فكأن قال: أو مساءَتي إياك، فكذلك هذه القراءة: لو أن لي بكم قوة أو أُوِيًّا؛ أي: أن آوِيَ إلى ركن شديد، وهذا واضح. ومن ذلك قراءة يحيى والأعمش: "يُجْرِمَنَّكُمْ"1. قال أبو الفتح: جَرَم الرجل ذنبًا إذا كسَب الْجُرْم، ثم ينقل فيقال: أَجْرَمْتُه ذنبًا إذا كسبته إياه، فعليه جاء: "لَا يُجْرِمَنَّكُم" أي: لا يَكْسِبَنَّكم بُغْضُ القوم تركَ العدل، كما يدعو الإنسان الحِفْظَة2 والغضب إلى ما يَحوب3 فيه وينال من دينه. ومن ذلك قراءة السلمي: "بَعُدَتْ ثَمُودُ" بضم العين4. قال أبو الفتح: أما بَعُدَ فيكون مع الخير والشر، تقول: بَعُدَ عن الشر، وبَعُدَ عن الخير، ومصدرها البُعْدُ، وأما بَعِدَ ففي الشر خاصة، يقال: بَعِدَ يَبْعَدُ بَعَدًا، ومنه قولهم: أَبْعَدَه الله، فهو منقول من بَعِدَ؛ لأنه دعاء عليه، فهو من بَعِدَ الموضوعة للشر. فقراءة السلمي هذه: "أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعُدَتْ ثَمُودُ" متفقة الفعل مع مصدره، وإنما السؤال عن قراءة الجماعة: {أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} . وطريق ذلك أن يكون البُعْدُ بمعنى اللعنة، فيكون أبعده الله في معنى لعنه الله، ومنه قوله: ذَعَرْتُ به القَطَا وَنَفَيْتُ عنه ... مُقَام الذئب كالرجل اللَّعِين5 أي: مقام اللعين؛ أي: الْمُبْعَد، وعلى كل حال فالإبعاد للشيء نقص له وابتذال منه، فقد يلتقي معنى بَعِدَ مع معنى بَعُدَ من هذا الموضع، ألا ترى أنهم إذا أَدْنَوْا شيئًا من نفوسهم قالوا: هو الحبيب القريب، فالقرب على كل حال من صفات المدح، فنقيضه إذن من صفات الذم،
ولهذا قالوا: حبذا زيد، ولم يقولوا: حبذاك؛ لأنه موضع بِشَارَة وتَحَفٍّ به، فالقرب أولى به من البعد؛ ولهذ قالوا فيمن يُصطفى: قد أدناه منه، وقد قرُب من قلبه، وعليه قال: ودارٌ أنت ساكنها حبيب ... تَوَددُهَا إلى قلبي قريب "79و" فهذا طريق قراءة الجماعة: {أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} ، وإن شئت كان من هذا الطَّرْز1، وإن شئت كان من معنى اللعنة. ومن ذلك قراءة الزهري وسليمان2 بين أرقم: "لَمًّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ"3 بالتنوين. ابن مسعود والأعمش: "إِنْ كُلٌّ إِلَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ". قال أبو الفتح: أما "لَمًّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ" بالتنوين، فإنه مصدر كالذي في قوله سبحانه: {وَيأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا} 4 أي: أكلًا جامعًا لأجزاء المأكول، فكذلك تقدير هذا: وإنَّ كلا ليوفينهم ربك أعمالهم لَمًّا؛ أي: توفية جامعة لأعمالهم جميعًا، ومحصلة5 لأعمالهم تحصيلًا، فهو كقولك: قيامًا لأقومن، وقعودًا لأقعدن. وأما "إِنْ كُلٌّ إِلَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ" فمعناه: ما كُلٌّ إلا والله ليوفينهم، كقولك: ما زيد إلا لأضربنه؛ أي: ما زيد إلا مستحق لأن يقال فيه هذا، ويجوز فيه وجه ثانٍ؛ وهو أن تكون "إن" مخففة من الثقيلة، وتجعل "إلا" زائدة، وقد جاء عنهم ذلك، قال: أرى الدهر إلا منجنونا بأهله ... وما طلب الحاجات إلا مُعَلَّلا6
أي: أرى الدهر منجنونًا بأهله يتقلب بهم، فتارة يرفعهم، وتارة يخفضهم. وعلى ذلك أيضًا تأولوا قول ذي الرمة: حَراجيجُ ما تنفك إلا مُنَاخَةً ... على الْخَسف أو تَرْمي بها بلدًا فقرا1 أي: ما تنفك مناخة، وإلا زائدة. ومن ذلك قراءة طلحة وقتادة والأشهب، ورُويت عن أبي عمرو: "ولا تَرْكُنُوا"2 بضم الكاف. قال أبو الفتح: فيها لغتان: رَكِنَ يَرْكَنُ كعلم يعلم، ورَكَن يَرْكُنُ كقتل يقتل، وحُكي عنهم رَكَن يَرْكَن فَعَل يَفْعَل، وهذا عند أبي بكر من اللغات المتداخلة؛ كأن الذي يقول: ركَن بفتح الكاف سمع مضارع الذي يقول: ركِن، وهو يركَن، فتركبت له لغة بين اللغتين، وهي رَكَن يَرْكَن، وقد ذكرنا في كتابنا الخصائص بابًا في تركيب اللغات3. وعليه كان أبو بكر يقول أيضًا في قولهم ضَفَن4 الرجل يَضْفِن: إن قائل ذلك سمع قولهم: ضَيْفَنَ5، وظاهر لفظ ذلك أن يكون فَيْعَلا؛ لأنه أكثر في الكلام6 من فَعْلَن؛ فصارت نون ضَيْفَن وإن كانت زائدة كأنها أصل لما ذكرناه. فلما استعمل الفعل منه جاء به على ذلك فقال: ضَفَن يَضْفِن، فضَفَن يَضْفِن على حقيقة الأمر إنما هو فَلَن يَفْلِن؛ لأن الضاد فاء والفاء لام، وعين ضيف التي هي ياء محذوفة للشبهة الداخلة هناك من حيث ذكرنا، وله نظائر.
ومن ذلك قراءة يحيى والأعمش وطلحة بخلاف ورواه إسحاق الأزرق1 عن حمزة2: "فَتِمَسَّكُمُ النَّارُ". قال أبو الفتح: هذه لغة تميم، أن تكسر أول مضارع ما ثاني ماضيه مكسور، نحو: علمت تِعْلَم، وأنا إِعْلَم وهي تِعْلَم، ونحن نِرْكَب، وتقل الكسرة في الياء، نحو: يِعْلَم، ويِرْكَب؛ استثقالًا للكسرة في الياء، وكذلك ما في أول ماضيه همزة وصل مكسورة، نحو: تِنْطَلِق، ويوم تِسْوَدُّ وجوه وتِبْيَضُّ وجوه3، فكذلك "فَتِمَسَّكُمُ النَّارُ". فأما قولهم: أَبَيْتَ تِيبَي فإنما كسر أول مضارعه وعين ماضيه مفتوحة من قِبَل أن المضارع لما أتى على يَفْعَل -بفتح العين- صار كأن ماضيه مكسور العين حتى كأنه أَبِيَ، وقد شرحنا ذلك في كتابنا المنصف. ومن ذلك: "وزُلُفًا"4 بضم الزاي واللام، قرأ بها أبو جعفر يزيد وطلحة بن مصرف بخلاف، وعيسى وابن أبي إسحاق، وقرأ: "وزُلْفًا" بضم الزاي ساكنة اللام ابن محيصن ومجاهد. قال أبو الفتح: مَن قال: "79ظ" "زُلُفًا" بضم الزاي واللام جميعًا فواحدته زُلُفَة، وكبُسُرة وبُسُر فيمن ضم السين، ومَن قرأ: "زُلْفًا" بسكون اللام فواحدته زُلْفَة، إلا أنه جمعه جمع الأجناس المخلوقات، كبُرَّة وبُرّ، ودُرَّة ودُرّ؛ وذلك أن الزُّلْفَة جنس من المخلوقات وإن لم يكن جوهرًا، كما أن الدرة والبرة جوهر جنس من الجواهر. وعلى هذا أجاز أبو العباس في قولنا: ضربت ضربًا أن يكون جمع ضربة كحبة وحب، ومثله قول الآخر: حتى اتَّقَوْهَا بالسلام والتَّحِي
يريد: جمع تحية. والزُّلْفَة: الطائفة من الليل. وأما قراءة الجماعة: {وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} فعلى الظاهر، نحو: غرفة وغرف، وصُفَّة وصُفَف. ومن ذلك قراءة جعفر بن محمد والعلاء بن سَيَابَة، ورواه حسين الجعفي1 عن أبي عمرو: "وَأُتْبِعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا"2 بضم الهمزة، وإسكان التاء، وكسر الباء. قال أبو الفتح: هو عندنا على حذف المضاف؛ أي: أتبع الذين ظلموا جزاء ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين؛ أي: جزاء ما أُترفوا فيه وأجرموا فلم يشكروا؛ بل أُترفوا فيه مجرمين ظالمين.
سورة يوسف
سورة يوسف: بسم الله الرحمن الرحيم قراءة الناس: {أَحَدَ عَشَرَ} 1 بفتح العين، وأسكنها أبو جعفر ونافع2 بخلاف وطلحة3 بن سليمان. قال أبو الفتح: سبب ذلك عندي أن الاسمين لما جُعلا كالاسم الواحد، وبُني الأول منهما لأنه كصدر الاسم، والثاني منهما لتضمنه معنى حرف العطف؛ لم يجز الوقف على الأول لأنه كصدر الاسم من عجزه، فجُعل تسكين أول الثاني دليلًا على أنهما قد صارا كالاسم الواحد، وكذلك بقية العدد إلى تسعة عشر، إلا اثنا عشر واثني عشر، فإنه لا يسكن العين لسكون الألف والياء قبلهما. ومما يدلك على أن الاسمين إذا جريا مجرى الاسم الواحد بالتركيب عوملا في مواضع معاملته، ما حكاه أبو عمر الشيباني من قولهم في حضرموت: حَضْرَمُوت بضم الميم؛ ليكون كحَذْرفُوت4 وتَرْنَمُوت5 وعنكبوت، وهذا واضح.
ومن ذلك قراءة الأعرج: "فِي غَيَّابَاتِ الْجُبِّ"1 مشددة. وقرأ الحسن: "في غَيْبَة الجب". قال أبو الفتح: "أما "غيَّابة " فإنه اسم جاء على فَعَّالة، وكان أبو علي يضيف إلى ما حكاه سيبويه من الأسماء التي جاءت على فَعَّال؛ وهو الجبَّار والكلَّاء، الفيَّاد2 لذكر البوم. ووجدت أنا غير ذلك، وهو التيَّار للموج، والفخَّار للخزف، والحمَّام، والجيار: السعال، والكَرَّار: كبش الراعي. وأما "غَيْبَة الجب" فيجوز أن يكون حدثا فَعْلَة من غِبْت، فيكون كقولنا: في ظُلمة الجب، ويجوز أن يكون موضعًا على فَعْلَة كالقَرْمَة3 والْجَرْفَة4. ومن ذلك قراءة العلاء بن سيابة: "يَرْتَعِ"5 بالياء وكسر العين، و"يَلْعَبُ" رفعًا، وقرأ: "يُرْتِعْ وَيَلْعَبْ" أبو رجاء. قال أبو الفتح: أما "يَرْتَعِ" فجزم؛ لأنه جواب "أرسله"، و"يلعب" مرفوع لأنه جعله استئنافًا؛ أي: هو ممن يعلب، كقولك: زرني أُحسنُ إليك؛ أي: أنا ممن يحسن إليك، إلا "80و" أن الرفع في "أُحسن" هنا يُضعف الضمان، ألا ترى أن معناه: أنا كذلك، وليس فيه قوة معنى الإحسان إليه مع الجزم؟ وأما "يُرْتِعْ وَيَلْعَبْ" فمجزومان لأنهما جوابان؛ أحدهما: معطوف على صاحبه، وهو على حذف المفعول؛ أي: يُرْتِعْ مطيته، فحذف المفعول. وعلى ذكر حذف المفعول فما أعرَبه وأعذَبه في الكلام! ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ} 6 أي: تذودان إبلهما، ولو نطق بالمفعول لما كان في عذوبة حذفه ولا في علوه. وأنشدنا أبو علي للحطيئة: منعَّمةٌ تصون إليك منها ... كَصَونِك من رداءٍ شَرْعَبِيِّ7
أي: تصون الحديث وتَخزُنه، فهو كقول الشَّنْفَرَى: كأن لها في الأرض نِسْيًا تَقُصُّهُ ... على أمها وإن تخاطبك تَبْلِتِ1 أي: تقطع حديثها حياء وخفرًا. واعتدل في هذا الموضع ذو الرمة، قال: لها بشَر مثل الحرير ومنطق ... رخيم الحواشي لا هُرَاء ولا نَزْرُ2 وما أظرف قوله: رخيم الحواشي؛ أي: لا تنتشر حواشيه فتهرأ فيه3، ولا يضيق عما يُحتاج من مثلها إليه للسماع والفكاهة؛ لكنه على اعتدال، وكما يُستحسن ويستعذب من التِّقال4، ألا ترى إلى قول الآخر: ولما قضينا من مِنى كل حاجة ... ومَسَّحَ بالأركان مَن هو ماسحُ أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح5 ومنه: وحديث أَلَذُّه هو مما ... تشتهيه النفوس يُوزَن وزْنا مَنطِقٌ صائب وتلحَن أحيا ... نا وخير الحديث ما كان لَحْنَا6 أي: تارة تورد القول صائبًا مسددًا، وأخرى تُحرف فيه وتلحن؛ أي: تعدل عن الجهة الواضحة معتمدة لذلك تلعُّبا بالقول، وهو من قوله عليه السلام: "فلعل أحدكم يكون ألحن
بحجته"1؛ أي: أنهض بها وأحسن تصرفًا فيها. وليس من اللحن الذي هو إفساد الإعراب، ذلك حديث غير هذا، وقد تقصيت هذا المذهب في الخصائص، فليُطلب هناك2. ومن ذلك ما رواه عيسى بن ميمون عن الحسن أنه قرأ: "وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عُشًا يَبْكُونَ"3، قال: عُشْوًا من البكاء. قال أبو الفتح: طريق ذلك أنه أراد جمع عَاشٍ، وكان قياسه عُشاةً كماشٍ ومُشاة، إلا أنه حذف الهاء تخفيفًا وهو يريدها، كقوله: أبلغ النعمان عني مأْلُكًا ... أنه قد طال حبسي وانْتِظَارْ4 أراد: مأْلُكَة، فحذف الهاء. وقد تقصينا ذلك في أماكن من كتبنا، وفيه بعد هذا ضعف؛ لأن قَدْرَ ما بَكَوْا في ذلك اليوم لا يعشو منه الإنسان. ويجوز أن يكون جمع عِشْوة: أي ظلامًا، وجمَعه لتفرِّق أجزائه كقولهم: مُغَيْربانَات5 وأُصَيْلَال6، ونحو ذلك. ومن ذلك قراءة الحسن أيضًا:" "بِدَمٍ كَدِبٍ"7 بالدال. قال أبو الفتح: أصل هذا من الكَدَب؛ وهو الفُوفُ؛ يعني: البياض الذي يخرج على أظفار الأحداث "80ظ" فكأنه دم قد أثَّر في قميصه فلحقته أعراض كالنقش عليه. وأخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن بهذه القراءة أيضًا.
ومن ذلك قراءة أبي الطفيل1 والجحدري وابن أبي إسحاق ورُويت عن الحسن: "يَا بُشْرَيَّ"2. قال أبو الفتح: هذه لغة فاشية فيهم، ما3 رويناه عن قطرب من قول الشاعر: يُطَوِّفُ بي عِكَبٌّ في مَعَدٍّ ... ويَطْعَنُ بالصُّمُلَّةِ في قَفَيَّا فإن لم تَثْأَرَا لي من عِكَبٍّ ... فلا أَرْوَيْتُمَا أبدا صَدَيَّا4 ونظائره كثيرة جدًّا. وقال لي علي: إن قلب هذه الألف لوقوع الياء بعدها ياء؛ كأنه عوض مما كان يجب فيها من كسرها لياء الإضافة بعدها؛ ككسرة ميم غُلَامِي وياء صاحبي ونحو ذلك، ومَن قلب هذه الألف لوقوع هذه الياء بعدها ياء لم يفعل ذلك في ألف التثنية، نحو: غلاماي وصاحباي؛ كراهة التباس5 المرفوع بالمنصوب والمجرور. فإن قيل بعد: وهلا قلبوها وإن صار لفظ ما هي فيه إلى لفظ المجرور كما صار لفظ المرفوع والمنصوب جميعًا إلى لفظ المجرور في نحو: هذا غلامي؛ ورأيت غلامي، قيل: قَلْبُ الألف لوقوع الياء بعدها ياء أغلظ من قلب الضمة والفتحة حيث ذَكرْت كسرة؛ وذلك أن الجناية على الحرف أغلظ من الجناية على الحركة، فاحتُمل ذلك في: هذا غلامي ورأيت غلامي، ولم يُحتمل نحو: هذان غلامَيّ وما جرى مجراه. فإن قيل: فالذي قال: "يا بُشْرَيَّ" قد جنى على الألف بقلبها ياء، قيل: هذه الألف يمكن أن تقدَّر الكسرة فيها، وحرف التثنية لا تقدير حركة فيه أصلًا عندنا، فجائز أن تقول: "بُشْرَيَّ"، ولم يُقَل: قام غلامَيّ. فأما الحركة في ياء {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ} 6 فلالتقاء الساكنين، وهي غير
محفول بها، والحركة قبل الياء من "صَاحِبَي" ونحوه أقوى من حركة التقاء الساكنين، والكلام هنا يطول، لكن هذا مُتَوَجَّهُهُ. ومن ذلك: "هِئْتُ لك"1 بالهمز وضم التاء، قرأ بها علي -عليه السلام- وأبو وائل وأبو رجاء ويحيى، واختُلف عن ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة وطلحة بن مُصَرِّف وأبي عبد الرحمن. وقرأ: "هَيْتِ لَكَ" بفتح الهاء وكسر التاء ابن عباس بخلاف وابن محيصن وابن أبي إسحاق وأبو الأسود وعيسى الثقفي. وقرأ: "هُيِّئْتُ لَكَ" ابن عباس. قال أبو الفتح: فيها لغات: هَيْتَ لك، وهِيتَ لك، وهَيْتُ لك، وهَيْتِ لك. وكلها أسماء سمي بها الفعل بمنزلة صَه ومَه وإيه في ذلك. ومعنى "هَيْتَ" وبقية أخواتها: أَسْرِعْ وبادرْ، وقال: أبلغ أمير المؤمنين ... أخا العراق إذا أتيتا إن العراق وأهله ... عُنُق إليك فهَيْتَ هَيْتَا2 وقال طرفة3: ليس قومي بالأَبعدين إذا ما ... قال داع من العشيرة: هَيْتُ هم يجيبون: وا هَلُمَّ سراعا ... كالأَبَابِيل لا يُغَادَرُ بيْتُ والحركات في أواخرها لالتقاء الساكنين. وأما "هِئْتُ" بالهمز وضم التاء فَفِعْل، يقال فيه: هِئْتُ4 أَهِيءُ "81و" هيئة كجئت أجيء جيئة؛ أي: تهيأت. وقالوا أيضًا: هِئْتُ أَهَاءُ كخفت أخاف، هذا بمعنى خذ. قال: أفاطم هائي السيف غير مُذَمَّمِ
أي: خذي السيف. فأما قول الله تعالى: {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ} 1، فحديث غير هذا وتصريف سواه، وفيه طول. وقد ذكرناه في كتاب الخصائص2. وأما "هُيِّئْتُ لك" ففعل صريح كهِئْتُ لك، كقولك: أُصْلِحْتُ لك؛ أي: فدونك، وما انتظارك؟ واللام متعلقة بنفس هَيْتَ وهَيْتِ وهِيتَ وهَيْتُ كتعلقها بنفس هلم من قولهم: هَلُمَّ لك، وإن شئت كانت خبر مبتدأ محذوف؛ أي: إرادتي لذلك. فأما "هئتُ لك" و"هيِّئتُ" فاللام فيه متعلقة بالفعل نفسه، كقولك: أُصْلِحْتُ لكذا وصَلَحْت لكذا. ومن ذلك قراءة ابن يعمر والجارود بن أبي سبرة بخلاف وابن أبي إسحاق ونوح3 القارئ ورُويت عن أبي رجاء: "من قُبُلُ"4، و"من دُبُرُ"5 بثلاث ضمات من غير تنوين. قال أبو الفتح: ينبغي أن يكونا غايتين؛ كقول الله سبحانه: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} 6 كأنه يريد: وقَدَّت قميصه من دُبُره، وإن كان قميصه قُدَّ من قُبُله، فلما حذف المضاف إليه -أعني: الهاء، وهي مرادة- صار المضاف غاية نفسه بعدما كان المضاف إليه غاية له. وهذا حديث مفهوم في قول الله سبحانه: {مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} ، فبنَى هنا كما بُني هناك على الضم، ووَكَّد البناء أن قُبُل ودُبُر يكونان طرفين، ألا ترى إلى قول الفرزدق: يُطَاعِن قُبْلَ الخيل وهو أمامَها ... ويطعنُ عن أدبارها إن تولَّتِ7 وقال الله سبحانه: "وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ النُّجُومِ"8 فنصبه على الظرف، وهو جمع دُبُر.
ومن ذلك قراءة علي -عليه السلام- والحسن بخلاف وأبي رجاء ويحيى بن يعمر وقتادة بخلاف وثابت البناني1 وعوف الأعرابي وابن أبي مريم2 والأعرج بخلاف ومجاهد بخلاف وحميد بخلاف والزهري بخلاف وابن محيصن ومحمد بن السميفع وعلي بن حسين بن علي وجعفر بن محمد: "قد شَعفها"3 بالعين. قال أبو الفتح: معناه: وصل حبه إلى قلبها، فكاد يحرقه لحدته، وأصله من البعير يُهْنَأ بالقطران فيصل حرارة ذلك إلى قبله. قال الشاعر: أيقتلني وقد شَعَفْتُ فؤادها ... كما شَعَفَ الْمَهْنُوءَةَ الرجلُ الطَّالِي؟ 4 وأما قراءة الجماعة: {شَغَفَهَا} بالغين معجمة، فتأويله أنه خرَّق شَغاف قلبها؛ وهو غلافه، فوصل إلى قلبها. ومن ذلك قراءة الزهري وأبي جعفر وشيبة "مُتَّكًا"5، مشدد من غير همز، وقرأ: "مُتْكًا" ساكنة التاء غير مهموز ابن عباس وابن عمر والجحدري وقتادة والضحاك والكلبي6 وأبان بن تغلب، ورُويت عن الأعمش. وقرأ: "مُتَّكَاءً " بزيادة ألف الحسن. وقراءة الناس: {مُتَّكَأً} في وزن مُفْتَعَل. قال أبو الفتح: أما "مُتَّكًَا" غير مهموز فمبدل من مُتَّكَأ، وهو مفتَعَل من تَوَكَّأْتُ، كمُتَّجَهٍ من تَوَجَّهْتُ، ومُتَّعَد من وعدت. وهذا الإبدال عندنا لا يجوز في "81ظ" السعة؛ وإنما هو في
ضرورة الشعر؛ فلذلك كانت القراءة به ضعيفة. وعلى أن له وجهًا آخر؛ وهو أن يكون مفتعَلًا من قوله: إذا شرب الْمُرِضَّة قال أَوْكِي ... على ما في سقائك قد رَوِينا1 يقال: أَوْكَيْتُ السقاء: إذا شددته، فيكون راجعًا إلى معنى مُتَّكَأ المهموز؛ وذلك أن الشيء إذا شُد اعتمد على ما شده كما يعتمد المتكئ على المتكَأ عليه. فإن سلكت هذه الطريق لم يكن فيه بدل ولا ضعف، فيكون مُتَّكًا على هذا كمُتَّقًى من وقيت، ومُتَّلًى من وَلِيتُ. وأما "مُتْكًا" ساكنة التاء فقالوا: هو الأُتْرُجُّ2، ويقال أيضًا: هو الزُّمَاوَرْدُ3. وأما "مُتَّكَاءً" فعلي إشباع فتحة الكاف من "متَّكأ"، وقد جاء نحو هذا، أنشدناه أبو علي لابن هَرْمة يرثي ابنه: فأنتَ من الغَوَائلِ حين تُرْمى ... ومن ذمِّ الرجال بِمُنْتَزَاح4 يريد: بِمُنْتَزَح، وعليه قول عنترة، وأنشدناه أيضًا سنة إحدى وأربعين بالموصل: يَنْبَاعُ مِنْ ذِفْرَى غَضُوبٍ جسْرةٍ5 وقال: أراد يَنْبَع، فأشبع الفتحة، فأنشأ عليه ألفًا. ولعمري إن هذا مما تختص به ضرورة الشعر وقلما يجيء في النثر، فوزن "مُتَّكَاء" على هذا مفتعال، كما أن وزن "يَنْبَاعُ" على هذا يَفْعَال، ولو سميت به رجلًا لصرفته في المعرفة؛ لأنه قد فارق شبه الفعل وَزْنًا، ولو سميته بينبع لم تصرفه، كما أنك لو سميته بينظر لم تصرفه، فإن سميته بأَنظور، تريد: فأنظر؛ لصرفته معرفة لزوال مثال الفعل. وقد ذكرنا ذلك في كتابنا الموسوم بسر الصناعة.
ومن ذلك: "حاشَا اللهِ"1 ابن مسعود وأبي بن كعب. وقرأ: "حاش الإِلَهِ" الحسن. وقرأ: "حَاشْ للهِ" جَزْم الحسن بخلاف. قال أبو الفتح: أما "حاشا الله " فعلى أصل اللفظة، وهي حرف جر، قال: حاشا أبي ثوبان إنَّ به ... ضِنًّا على الْمَلْحَاةِ والشَّتْمِ2 وأما "حاش الإله" فمحذوف من حاشا تخفيفًا3، وهو كقولك: حاشا الرب وحاشا المعبود، وليس "الإله" هكذا بالهمز هو الاسم العلم؛ إنما ذلك الله -كما ترى- المحذوف الهمزة، على هذا استعملوه علَمًا وإن كان لعمري أصله الإله مكان الله، فإنه كاستعمالهم في مكانه المعبود والرب. ومنه قوله: لعنَ الإلهُ وزوجَها معها ... هند الهنود طويلة الفَعل4 وأما "حاشْ لله" بسكون الشين، فضعيف من موضعين: أحدهما: التقاء الساكنين: الألف، والشين، وليست الشين مذعمة. والآخر: إسكان الشين بعد حذف الألف، ولا موجب لذلك؛ وطريقه في الحذف أنه لما حذف الألف تخفيفًا أتبع ذلك حذف الفتحة إذ كانت كالعَرَض اللاحق مع الألف؛ فصارت كالتكرير في الراء، والتفشي في الشين، والصفير في الصاد والسين والزاي، والإطباق في الصاد والضاد والطاء والظاء، ونحو ذلك. فمتى حَذفت حرفًا من هذه الحروف ذهب معه
ما يصحبه من التكرير في الراء، والصفير في حروفه، والإطباق في حروفه. وعليه قوله: رهطُ مَرْجُومٍ ورهطُ ابن الْمُعَلْ1 "82و" يريد: الْمُعَلَّى، فلما حذف الألف حذف معها فتحتها، فبقي المعلَّ، فلما وقف في القافية المقيدة على الحرف المشدد خففه على العبرة في مثله، كما خففه في نحو قول طرفة: ففداءٌ لبني قيس على ... ما أصاب الناس من سُرٍّ وضُرْ ما أَقَلَّتْ قَدَمِي إنهم ... نَعِمَ الساعون في الأمر الْمُبِرْ2 فخفف ضُرْ ومُبِرْ، فكذلك خفف "المعَلَّ" فصار الْمُعَلْ. فهذا حديث حذف الفتحة من "حاشْ". وأما التقاء الساكنين فعلى قراءة نافع "مَحْيَايْ"3، وعلى ما حُكي عنهم من قولهم: التقت حَلْقَتَا البِطَان4، بإثبات ألف "حلْقَتَا" مع سكون لام البطان؛ لكن السؤال من هذا عن إدغام لام الجر على "لله" وقبلها "حاشْ" و"حاشا"5 وهو حرف جر، وكيف جاز التقاء حرفي جر؟ فالقول أن "حاشْ" و"حاشا" هنا فعلان، فلذلك وقع حرف الجر بعدهما. حكى أبو عثمان المازني عن أبي زيد قال: سمعت أعرابيًّا يقول: اللهم اغفر لي ولمن سمع حاشا الشيطان وأبا الأصبغ، فنصب بحاشا. وهذا دليل الفعلية، فعليه وقعت بعده لام الجر. ومن ذلك قراءة الحسن وأبي الحويرث الحنفي: "ما هذا بِشِرًى"6 بكسر الباء والشين. قال أبو الفتح: تحتمل هذه القراءة وجهين: أحدهما: أن يكون أراد: ما هذا يِمَشْرِيٍّ، من قوله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} 7 أي:
باعوه؛ أي: ما ينبغي لمثل هذا أن يباع، فوُضع المصدر موضع اسم المفعول، كقول الله سبحانه: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} 1 أي: مصيده، وكقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} 2 أي: المخلوق، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الراجع في هبته ... " أي: في موهوبه، وهذا الثوب نسْج اليمن، أي: منسوجه؛ وذلك أن الأفعال لا يمكننا إعادتها. ومنه قولهم: غفر الله لك عِلْمَه فيك؛ أي: معلومه. ومنه قولهم: هذا الدرهم ضَرْب الأمير؛ أي: مضروبه. والآخر: أن تكون الباء غير زائدة للتوكيد كالوجه الأول؛ لكنها كالتي في قولك: هذا الثوب بمائة درهم، وهذا العبد بألف درهم؛ أي: هذا بهذا، فيكون معناه: ما هذا بثمن؛ أي: مثله لا يُقَوَّم ولا يُثَمَّنُ، فيكون "الشِّري" هنا يراد به المفعول به؛ أي: الثمن المشترَى به، كقولك: ما هذا بألف، وهو نفي قولك: هذا بألف، فالباء إذن متعلقة بمحذوف هو الخبر، مثلها كقولك: كُرُّ3 البر بستين، ومنوَا4 السمن بدرهم. ومن ذلك ما رُوي عن عمر أنه سمع رجلًا يقرأ: "عَتَّى حِينٍ"5، فقال: مَن أقرأك؟ قال: ابن مسعود، فكتب إليه: إن الله عز وجل أنزل هذا القرآن فجلعه عربيًّا، وأنزله بلغة قريش، فأقرئ الناس بلغة قريش، ولا تقرئهم بلغة هذيل، والسلام. قال أبو الفتح: العرب تُبْدل أحد هذين الحرفين من صاحبه لتقاربهما في المخرج، كقولهم: بُحْثِر ما في القبور؛ أي: بعثر، وضبعت الخيل؛ أي: ضبحت6، وهو يُحنْظِي ويُعَنْظِي: إذا جاء بالكلام الفاحش، فعلى هذا يكون عتَّى وحتَّى؛ لكن الأخذ بالأكثر استعمالًا، وهذا الآخر جائز وغير خطأ "82ظ". ومن ذلك قراءة ابن مسعود: "إنِّي أَرانِي أَعْصِرُ عِنَبًا"7. قال أبو الفتح: هذه القراءة هي مراد قراءة الجماعة: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} ؛ وذلك أن
المعصور حينئذ هو العنب، فسماه خمرًا لما يصير إليه من بعدُ حكايةً لحاله المستأنفة، كقول الآخر: إذا ما مات مَيْتٌ من تميم ... فسرَّك أن يعيش فجيء بزاد1 أراد: إذا مات حيٌّ فصار ميْتًا كان كذا، أو فليكن كذا. وعليه قول الفرزدق: قتلت قتيلًا لم يَرَ الناسُ مثلَه ... أُقَلِّبُهُ ذا تُومتين مُسَوَّرَا2 وقد مضى هذا قبل. ومن ذلك قراءة عكرمة والجحدري: "فَيُسْقَى ربُّهُ خَمْرًا"3. قال أبو الفتح: هذا في الخير يضاهي في الشر قوله: "فيُصْلَبُ"4؛ لأن تلك نعمة، وهي نَقِمة5. ومن ذلك قراءة ابن عباس وابن عمر بخلاف وعكرمة ومجاهد بخلاف عنهما والضحاك وأبي رجاء وقتادة وشُبيل بن عَزْرَة الضُّبْعِي6 وربيعة بن عمرو وزيد بن علي: "وادَّكَرَ بَعْد أَمَهٍ"7، وقرأ: "بعْد إِمَّةٍ" الأشهب العقيلي. قال أبو الفتح: "الأَمَهُ": النسيان، أَمِهَ الرجل يَأمَهُ أَمَهًا: أي نسي. "والإِمَّةُ": النعمة؛ أي: بعد أن أنعم عليه بالنجاة. ومن ذلك قراءة عيسى والأعرج وجعفر بن محمد: "وفيه يُعْصَرُون"8 بياء مضمومة وصاد مفتوحة.
قال أبو الفتح: روينا عن قطرب أن معنى "يُعْصَرُون": أي يُمْطَرُون، فإن شئت أخذته من العُصْرَة والعَصَر للمَنْجَاةِ، وإن شئت أخذته من عَصَرَت السحاب ماءها عليهم. وعليه قراءة الجماعة: {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} ، فهذا من النجاة. وروينا عن ابن عباس: أي يَعْصِرون من الكرم والأدهان1، فهذا تفسير النجاة: كيف تقع بهم وإليهم؟ قال أبو زبيد: صاديا يستغيث غير مُغَات ... ولقد كان عُصْرة الْمنْجُود2 أي: نجاة المكروب. ومن ذلك قراءة علقمة ويحيى: "رِدَّتْ إلينا3" بكسر الراء. قال أبو الفتح: فُعِل من ذوات الثلاثة إذا كان مضعفًا أو معتلًا عينه يجيء عنهم على ثلاثة أضرب: لغة فاشية، والأخرى تليها، والثالثة قليلة، إلا أن المضعَّف مخالف للمعتل العين فيما أذكره. أما المضعف، فأكثره عنهم ضم أوله كشُدَّ ورُدَّ، ثم يليه الإشمام، وهو شُِدّ ورُِدّ بين ضم الأول وكسره، إلا أن الكسرة هنا داخلة على الضمة؛ لأن الأفشى في اللغة الضم. والثالث -وهو أقلها- شِدّ ورِدّ وحِلّ وبِلّ، بإخلاص الكسرة، فهذا المضعف. وأما المعتل العين، فأقوى اللغات فيه كسر أوله، نحو: قِيلَ وبِيعَ وسِيرَ به، ثم يليه الإشمام؛ وهو أن تُدخل الضمة على الكسرة؛ لأن الكسر هنا هو الأفشى، فتقول: قُِيلَ وبُِيعَ وعُِيصَ4، والثالث -وهو أقلها- أن تُخلص الضمة في الأول كما أخلصتَ الكسرة فيه مع التضعيف، نحو: رِدّ وحِلّ، فتصح الواو من بعدها؛ فتقول "83و": قُولَ وبُوعَ، وروينا عن محمد بن الحسن، أظنه عن أحمد بن يحيى: وابْتُذِلَتْ غَضْبَي وأُمُّ الرِّحالْ ... وقُولَ لا أهلَ له ولا مالْ5 وقال ذو الرمة: دنا البيْنُ من ميٍّ فَرِدَّتْ جِمَالُها ... وهاج الهوى تَقْوِيضُها واحتمالُها6
وهذه لغة لبني ضبة، وبعضهم يقول في الصحيح بكسر أوله: قد ضِرْب زيد، وقِتْل عمرو، وينقل1 كسرة العين على الفاء. وحُكي عنهم فيما رويناه عن قطرب: بُوعَ متاعُه، وخُورَ له، واخْتُور عليه: أي اخْتِيرَ، وهو الأجود. ومَن أشَمَّ فقال: قُِيل قال: اختير عليه، ومَن قال: شُد قال: اشْتُدَّ عليه، ومن قال: شُِد فأشم أشم أيضًا فقال: اشتُد عليه، ومَن قال: شِدّ قال: اشْتِدَّ عليه. وحكى الفراء أن بعضهم قرأ: "كشجرةٍ خَبِيثَةٌ اجْتِثَّتْ"2 بضم تنوين "خبيثة" وكسر تاء "اجتثت". ومن أبيات الكتاب قول الفرزدق: وما حِل من جهل حُبَا حلمائنا ... ولا قائلُ المعروف فينا يُعَنِّفُ3 بإشمام ضمة الحاء كسرًا كما ترى. ومن ذلك قراءة أبي رجاء بخلاف: "صَوْع الْمَلِكِ"4 بفتح الصاد. وقرأ: "صُوعَ" بضم الصاد بغير ألف عبد الله بن عون بن أبي أَرْطَبَان. وقرأ: "صَوْغَ الملِكِ" بفتح الصاد وبالغين معجمة يحيى بن يعمر. وقرأ: "صاعَ الملِكِ" أبو هريرة5 ومجاهد بخلاف، وقراءة الناس: {صُوَاعَ الْمَلِكِ} . قال أبو الفتح: الصَّاعُ والصُّواعُ والصَّوْعُ والصُّوعُ واحد، وكلها مكيال. وقيل: الصُّواعُ: إناء للملِك يشرب فيه. وأما الصَّوْغُ فمصدر وُضع موضع اسم المفعول؛ يراد به الْمَصُوغُ، كالخلق في معنى المخلوق، والصيد في معنى الْمَصِيدِ، وقد تقدم ذكره. ومن ذلك قراءة ابن مسعود: "وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عَالِمٍ عَلِيمٌ"6.
قال أبو الفتح: تحتمل هذه القراءة ثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون من باب إضافة المسمى إلى الاسم؛ أي: وفوق كل شخص يسمى عالمًا عليم. وقد كثر عنهم إضافة المسمى إلى اسمه، منه قول الكميت: إلَيكُم ذَوِي آلِ النَّبِيِّ تَطَلَّعَتْ ... نَوَازِعُ من نَفْسِي ظِماءٌ وأَلْبُبُ1 أي: إليكم يا آل النبي؛ أي: يا أصحاب هذا الاسم الذي هو آل النبي، وعليه قول الأعشى: فَكَذَّبُوهَا بما قالت فصبَّحهم ... ذُو آلِ حَسَّانَ يُزْجِي الموتَ والشِّرعَا2 أي: صبحهم الجيش الذي يقال له: آل حسان. ومنه قول الآخر: وحيّ بَكْرٍ طعنَّا طعنة بَحَرَا3 أي: الإنسان الحي -الذي يسمى بقولهم: بكرٌ- طعنَّا. وقال الآخر: أَلَا قَبَحَ الإلهُ بني زياد ... وحيّ أبيهم قَبْحَ الحِمَار4 أي: وقبح أباهم الحيَّ الذي يقال له: أبوهم، وليس الحي هنا كقولنا: حيّ مُضَر ونحوه. وهو باب من العربية واسع قد تقصيناه في كتاب الخصائص5. والوجه الثاني: أن يكون "عالم" مصدرًا كالفالج والباطل "83ظ" فكأنه قال: وفوق كل ذي علم عليم. والوجه الثالث: أن يكون على مذهب مَن يعتقد زيادة "ذي"؛ فكأنه قال: وفوق كل عالم عليم. وقراءة الجماعة: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} قراءة حسنة محتاط فيها؛ وذلك أنه إذا قال القائل: وفوق كل ذي عالم عليم، كان لفظه لفظ العموم ومعناه الخصوص؛ وذلك لأن الله عز وجل عالم ولا عالم فوقه، وإذا قال: وفوق كل ذي علم عليم، فذلك مستقيم وسليم؛ لأن القديم تعالى خارج
منه، ألا تراه -عز وعلا- عالمًا لنفسه بلا علم، والكلام ملاقٍ ظاهره لباطنه، وليس لفظه على شيء ومعناه على غيره. ومن ذلك قراءة الحسن: "ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وُعَاءِ أَخِيهِ"1 بضم الواو. قال أبو الفتح: وقرأ سعيد بن جبير: "إِعاءِ أخيه" بهمزة، وأصله: وِعاء، فأبدلت الواو وإن كانت مكسورة همزة، كما قالوا في وِسَادة: إِسَادة، وفي وِجَاح، إِجَاح؛ وهو السِّتر. وهمز وُعاء بالضم أقيس من همز المكسور الواو؛ فعليه يحسن بل يقول أُعاء أخيه. ومثله: {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} 2، وقالوا في وجوه: أُجُوه، وفي وُعِد: أُعِد، وقالوا: أُجْنَةَ3، قال أبو حاتم: ولم يقولوا: وُجْنَة؛ بل ألزموها الهمز، وقد هُمزت الواو المفتوحة، قالوا: أَحَد، وأصله: وَحَد؛ أعني: أحد عشر ونحوها: من أحد وعشرين إلى فوق. وأما قولهم: ما بالدار أحد، فقال شيخنا أبو علي: إن الهمزة فيه أصلية؛ لأنه للعموم لا للأَفراد. وقالوا في وَنَاة: أَنَاة، وفي وَجم: أَجم، وفي وَجٍّ للطائف4: أَجٌّ، وقال أبو عبيدة: قالوا في وَبَلَةِ5 الطعام: أَبَلَة. وقال أبو بكر في أسماء اسم امرأة: أصلها وَسْمَاء، فَعْلَاءُ من الوَسامَة، كما قيل لها: حسناء. ومن ذلك قراءة الحسن وقتادة وعمر بن عبد العزيز6: "مِنْ رُوْحِ اللَّهِ"7. قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون -والله أعلم- من الرُّوح الذي من الله، ويعني به رُوح ابن آدم، وقد أضيف نحو ذلك إلى الله تعالى. قال لنا أبو علي في قولهم: إذا رَضِيتْ عليَّ بنو قُشَيْر ... لعمر الله أعجبني رضاها8
أي: وحق العمر الذي وهبه الله لي. وكذلك من رُوح الله: أي من الروح الذي هو من عند الله وبِلُطفه ونعمته. ومن ذلك قراءة أُبي: "أَئِنَّك أَوْ أَنْتَ يُوسُفُ"1. قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون هذا على حذف خبر إن، حتى كأنه قال: أئنك لغير يوسف، أو أنت يوسف؟ فكأنه قال: بل أنت يوسف، فلما خرج مخرج التوقف قال: أنا يوسف، وقد جاء عنهم حذف خبر إن، قال الأعشى: إنَّ مَحَلًّا وإِنَّ مُرْتَحَلَا ... وإنَّ في السَّفْر إذ مضى مَهَلَا2 أراد: إن لنا محلًّا، وإن لنا مرتحلًا، فحذف الخبر. والكوفيون لا يجيزون حذف خبر إن إلا إذا كان اسمها نكرة؛ ولهذا وجه حسن عندنا وإن كان أصحابنا يجيزونه مع المعرفة. ومن ذلك قراءة عمر بن ذر، وكان يقرأ قراءة ابن مسعود: "قَدْ أَتَيْتَنِ مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِ"3. قال أبو الفتح: أراد الياء فيهما جميعًا، فحذفها تخفيفًا ولطول الاسم، كقول الأعشى: "84و" فهل يَمعنِّي ارتياد البلا ... دِ من حذر الموت أن يَأْتِينْ4 وهو كثير، وقد مضى مثله. ومن ذلك قراءة عكرمة وعمرو بن فائد: "والأرضُ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا"5 بالرفع، وقرأ: "الأرضَ" نصبًا السدي، قراءة الناس: {والْأَرْضِ} . قال أبو الفتح: الوقف فيمن رفع أو نصب على السماوات، ثم تبتدئ فتقول: "والأرضُ، والأرضَ"؛ فأما الرفع الابتداء، والجملة بعدها خبر عنها، والعائد منها على الأرض "ها" من عليها، و"ها" من عنها عائدة على الآية. وأما من نصب فقال: "والأرضَ يمرون عليها" فبفعل مضمر؛ أي: يطئون الأرض، أو يدوسون الأرض، ونحو ذلك.
وعليه قراءة ابن مسعود: "يَمْشُون عليها"، فلما أضمر الفعل الناصب فسره بقوله: "يمرون عليها". والنصب هنا دليل جواز قولنا: زيد عندك وعمرًا مررت به، فهو كقولك: زيدًا مررت به في الابتداء. ومَن جر "الأرض" على قراءة الجماعة، فإن شاء وقف على "الأرض"، وإن شاء على قوله: "معرضون". ومن ذلك قراءة ابن عباس ومجاهد والضحاك، بخلاف عنهم: "وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كَذبُوا"1 بفتح الكاف والذال خفيفة. قال أبو الفتح: تقديره: حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذَبوا فيما أَتوا به من الوحي إليهم جاءهم نصرنا. ومن ذلك قراءة عيسى الثقفي: "وَلَكِنْ تَصْدِيقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ"2 برفع الثلاثة الأحرف. قال أبو الفتح: أي ولكن هو تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة، فحُذف المتبدأ وبقي الخبر. ويجوز على هذا الرفع في قوله تعالى: "مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولُ اللَّهِ وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ"3 أي: ولكن هو رسول الله.
سورة الرعد
سورة الرعد: بسم الله الرحمن الرحيم قراءة الناس: {صِنْوَانٌ} 1 إلا الحسن وقتادة، فإنهما قرآ: "صَنْوَان". قال أبو الفتح: الذي روينا في هذا عن قطرب: "صِنْوانٌ"، قال: وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي: "صُنْوانٌ" بضم الصاد، ولم يَحْكِ الفتح. فأما الواحد فصِنْو بكسر الصاد، وأما الجمع فصِنْوَانٌ بكسرها وصُنْوَان بضمها، والصِّنْوُ: النخلة لها رأسان وأصلها واحد، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "العباس عمي وصِنْو أبي"، فكأنه قال: هما فرعان من أصل واحد. والصُّنوان بالضم لتميم وقيس، وبالكسر لأهل الحجاز. فأما صِنْو وصُِنْوَانٌ فإن نظيره ذئب وذُؤْبان، وقِنْو وقُنْوان2. وقد يكون مثله شِيح3 وشِيحان؛ لكن المسئول عنه من هذا صِنْو وصِنْوان: هل هو جمع تصحيح أو جمع تكسير؟ وليس جمعًا مصححًا وإن كان مثال الواحد موجودًا في الجمع؛ وذلك أن جمع التصحيح ضربان: بالواو والنون كالزيدون والعمرون، وبالألف والتاء كالزينبات والصالحات. وليس فِعْلَان واحدًا منهما، وإذا كان كذلك فينبغي أن تعلم أن المثالين وإن كانا وَفقَين فإن التقديرين مختلفان، فالكسرة في صاد صِنوان غير الكسرة في صاد صِنو، فيتفق "84ظ" اللفظان ويختلف التقديران؛ وإنما صِنْوان من صِنْو كخِرْبان4 من خَرَب، فكما أن فتحة الخاء من خَرَب غير كسرتها من خِربان لفظًا، فكذلك كسرة الصاد من صِنْوان غير كسرتها من صِنْو تقديرًا. وجاء تكسير فِعْل على فِعْلان، كما جاز تكسير فعَل عليه، نحو: خَرَب وخِرْبَان وشَبَث5 وشِبْثَان وبَرَق6 وبِرْقَان؛ وذلك أن فِعْلا وفَعَلا قد تعاقبا على المعنى الواحد؛ فصارا في ذلك أخوين
نحو: بِدْل وبَدَل وشِبْه وشَبَه ومِثْل ومَثَل، فكما كسروا فَعَلا على فِعْلان -فيما ذكرنا- فكذلك أيضًا كسروا فِعْلا عليه في صِنْو وصِنْوان، وإذا كانت كسرة الصاد من صِنْوان غير كسرتها من صِنْو تقديرًا فكذلك أيضًا سكون النون من صنوان غير سكونها من صِنْو تقديرًا، فكما جاز أن تكون الكسرة غير الكسرة تقديرًا كذلك جاز أيضًا أن يكون السكون في الجمع غير السكون في الواحد. وكما لا يُشَك في أن فتحة خاء خَرَب غير كسرة خاء خِرْبان، فلا يُشَك أيضًا في أن فتحة راء خَرَب غير سكون راء خِرْبان، فكذلك أيضًا كسرة الصاد في الواحد غير كسرة الصاد في الجمع، وسكون النون في صِنْو غير سكون النون في صِنْوان؛ اعتبارًا لحالي المتفقين بحالي المختلفين. ونظير اتفاق اللفظين في الحركات مع اختلاف التقديرات قولهم في ترخيم منصور على من قال يا حارِ: يا منْصُ، وكذلك تقول في ترخيم منصور على يا حَارُ: يا منْصُ، فالكسرة على يا حارِ هي ضمة صاد منصور، وهي على يا حَارُ ضمة مجتلبة للنداء غير تلك؛ اعتبارًا بيا حارِ، ويا حارُ. فكما أن الضمة في يا حارُ غير الكسرة في يا حارِ لفظًا، فكذلك ضمة صاد يا منْصُ على يا حارِ غير ضمتها في يا منْصُ على يا حارُ تقديرًا. وكذلك الفُلْك -في قول سيبويه- وأنت تريد الواحد، وكذلك إذا أردت الجمع؛ وذلك أنه يعتقد أنه كسَّر فُعْلا على فُعْل، كما كسروا فَعَلا على فُعْل، نحو: أَسَد وأُسْد ووثَن ووُثْن فيمن قرأ: "إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِه إِلَّا أُثْنَا"1 جمع وثن، فكذلك كُسر فُعْل على فُعْل؛ وذلك أن فُعْلا وفَعَلا قد اعتقبا على المعنى الواحد، كالشُّغْل والشَّغَل، والبُخْل والبَخَل، والْحُزْن والْحَزَن، فكما كسروا فَعَلا على فُعْلا -فيما ذكرنا- كذلك كسروا فُعْلا على فُعْل في الفلك، فالضمة إذن في فاء الفلك وأنت تريد الواحد كالضمة في قاف قُفْل وخاء خُرْج، وهي في الفلك وأنت تريد الجميع كضمة حاء حُمْر وصاد صُفْر، فاللفظان واحد والتقديران اثنان. وقد أفردنا في كتابنا الخصائص بابًا لما اتفق فيه اللفظان واختلف فيه التقديران في الحروف والحركات والسكون2. فسكون اللام إذن في الفلك وهو واحد غير سكونها فيه وأنت تريد الجمع؛ اعتبارًا بأَسَد وأُسْد ووَثَن ووُثْن. وقد قالوا في جمع صِنْو: أَصْنَاء، فهذا كقِنْو وأَقْنَاء. ونظير صِنْو
وصِنْوان في اتفاق اللفظين واختلاف التقديران مما جاء على فِعْل وفِعْلان قولهم: قِنْو وقِنْوان، وحِسْل1 وحِسْلان، ورِئْد2 ورِئْدان، وخِشْف3 وخِشْفان، وسِيد4 وسِيدان. هذا هو الظاهر "85و" ومثله كِير الحداد وكِيرَان، وشِيح5 وشِيحان، وخِيط6 وخِيطان من النعام، وخِرْص7 الرمح وخِرْصان، وشِقْد8 وشِقْدان، ونِسْوة ونِسْوان. وأما "صَنْوان" بفتح الصاد فليس من أمثلة التكسير؛ وإنما هو اسم للجمع بمنزلة الباقِر9 والجامِل والسامِر والدابِر. وعلى أن قطربًا لم يحكِ فتح الصاد، وكذلك أبو حاتم في كتابه الذي نرويه عنه في القرآن؛ فإن صح فتح الصاد من "صَنْوان" فهو على ما ذكرناه من كونه اسمًا للجمع، لا مثالًا من أمثلة التكسير. ومثله مما جاء اسمًا مفردًا للجمع غير مكسر قولهم: السَّعْدَان والضَّمْرَان10. ومن ذلك قراءة عيسى الثقفي وطلحة بن سليمان: "الْمَثْلَاتُ"11، وقرأ: "الْمُثْلَاتُ" يحيى بن وثاب، وقراءة الناس: {الْمَثُلَاتُ} . قال أبو الفتح: روينا عن أبي حاتم قال روى: زائدة12 عن الأعمش عن يحيى: "الْمَثْلَاتُ" بالفتح والإسكان. قال: وقال زائدة: وبما ثقَّل سليمان13 -يعني: الأعمش- يقول: "الْمَثُلَاتُ". وأصل هذا كله "الْمَثُلَاتُ" بفتح الميم وضم الثاء، يقال: أَمْثَلْتُ الرجل من صاحبه إِمْثَالًا، واقصصْتُه منه إِقْصَاصًا بمعنى واحد، والاسم المثال كالقِصَاص. فأما من قرأ: "الْمَثُلَاتُ" فعلى أصله، كالسَّمُرَات جمع سَمُرة، والثمُرَات جمع ثَمُرَة14.
ومن قال: "الْمُثْلَاتُ" بضم الميم وسكون الثاء احتمل عندنا أمرين: أحدهما: أن يكون أراد: الْمثُلَات، ثم آثر إسكان الثاء استثقالًا للضمة ففعل ذلك، إلا أنه نقل الضمة إلى الميم فقال: الْمُثْلَات، كما قالوا في عَضُد: عُضْد، وفي عَجُز: عُجْز. والآخر: أن يكون خفف في الواحد فصار مَثُلَة إلى مُثْلَة، ثم جمع على ذلك فقال: الْمُثْلَات. فإن قيل: فهلا أتبع الضمَّ الضمَّ، فقيل: الْمُثُلَات، كما نقول في غُرْفة: غُرُفات، وفي حجرة: حُجُرات، ففي ذلك جوابان: أحدهما: أنه إنما كَرِهَ الْمَثُلَة مع فتح الميم، أفيجمع في الْمُثُلَات بين ضمين، فيصير إلى أثقل مما هرب منه؟ والآخر: أنه لو جمع مُثْلَة بعد أن غيرها عن مَثُلَة على مُثُلَات لكان كأنه جمع مُثْلَة مرتجلة على فُعْلَة، كحُجْرَة وظُلْمَة، فأقرها على سكون الثاء بحاله لذلك. فإن قيل: هلا لم يجمع بين الضمتين لكن فتح الثاء فقال: الْمُثَلَات هربًا إلى الخفة بالفتح كظُلَمَات وغُرَفَات، قيل: لو كان ممن يرى هذا لأقر المثال الأول بحاله فقال: الْمَثُلَات؛ لأنه إذا فعل ذلك فإنما جمع بين ضمة وفتحة أيضًا، فإذا انصرف عن ذلك ألبتة فلا وجه لمعاودة ما كأنه هو، فضم الميم وأسكن الثاء فقال: الْمُثْلَات، واستغنى عن التعسف بالكلمة إلى هذه الغاية المستبعدة، ثم إنها مع ذلك غير مفيدة ولا مجدية، فهذا هذا. وروينا عن قطرب أن بعضهم قرأ: "الْمُثُلَات" بضمتين، فهذا إما عامَل الحاضر معه فثقَّل عليه، وإما فيها لغلة أخرى؛ وهي مُثُلَة، كبُسُرة، فيمن ضم السين، وإما فيها لغة ثالثة؛ وهي مُثْلَة كغُرْفَة. وأما من قال: "الْمَثْلَات" بفتح الميم وسكون الثاء، فإنه أسكن عين الْمَثُلَات "85ظ" استثقالًا لها فأقر الميم المفتوحة. وإن شئت قلت: أسكن عين الواحد فقال: مَثْلَة، ثم جمع وأقر السكون بحاله ولم يفتح الثاء، كما قال في جَفْنَة وتَمْرَة: جَفَنَات وتَمَرَات؛ لأنها ليست في الأصل فَعْلَة؛ وإنما هي مسكَّنة من فَعُلَة، ففصل بذلك بين فَعْلَة مرتجلة وفَعْلَة مصنوعة منقولة من فَعُلَة على ما ترى. وإن شئت قلت: قد أسكن الثاء تخفيفًا، فلم يراجع تحريكها إلا بحركتها الأصلية لها. وقد يمكن أيضًا أن يكون من قال: "الْمَثُلَات" ممن يرى إسكان الواحد تخفيفًا، فلما صار إلى الجمع
وآثر التحريك في الثاء عاود الضمة؛ لأنها هي الأصل لها، ولم يرتجل لها فتحة أجنبية عنها، كل ذلك جائز. ومن ذلك قراءة عبيد الله بن زياد: "لَهُ مَعَاقِيبُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْه"1. قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون هذا تكسير مُعَقِّب أو مُعَقِّبَة، إلا أنه لما حذف إحدى القافين عوض منها الياء، فقال: "معاقيب"، كما تقول في تكسير مقدّم: مقاديم، ويجوز ألا تعوض فتقول: مَعَاقِب كمقادم. ومن ذلك قراءة علي بن أبي طالب وابن عباس -رضي الله عنها- وعكرمة وزيد بن علي وجعفر بن محمد: "يَحْفَظُونَهُ بِأَمْرِ اللهِ"2. قال أبو الفتح: المفعول هنا محذوف؛ أي: يحفظونه مما يحاذره بأمر الله. وأما قراءة الجماعة: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} فليس معناه أنهم يحفظونه من أمر الله أن ينزل به؛ لكن تقديره: له مُعَقِّبَات من أمر الله يحفظونه مما يخافه، فـ"من" على هذا مرفوعة الموضع؛ لأنها صفة للمرفوع الذي هو "معقبات"، ولو كانت -كما يُظن- أنهم يحفظونه من أمر الله أن ينزل به لكانت منصوبة الموضع؛ كقولك: حفِظت زيدًا من الأسد، فقولك: من الأسد، منصوب الموضع؛ لأنه مفعول حفِظت. والذي ذكرناه في هذا رأي أبي الحسن، وما أحسنه! فأن قلت: فهلا كان تقديره: يحفظونه من أمر الله؛ أي: بأمر الله، ويُستدل على إرادة الباء هنا بقراءة علي عليه السلام: "يحفظونه بأمر الله". وجاز أن يحفظوه بأمر الله؛ لأن هذه المصائب كلها في علم الله وبإقداره فاعليها عليها، فيكون هذا كقول القائل: هربتُ من قضاء الله بقضاء الله، قيل: تأويل أبي الحسن أذهب في الاعتداد عليهم؛ وذلك أنه -سبحانه- وكَّل بهم من يحفظهم من حوادث الدهر ومخاوفه
التي لا يعتد عليهم بتسليطها عليهم، وهذا أسهل طريقًا، وأرسخ في الاعتداد بالنعمة عليهم عروقًا. ومن ذلك قراءة الأعرج بخلاف: {شَدِيدُ الْمَحَالِ} 1 بفتح الميم. قال أبو الفتح: "الْمَحَال" هنا مَفْعَل من الحِيلة. قال أبو زيد: يقال: ما له حِيلة ولا مَحَالة؛ فيكون تقديره: شديد الحِيلة عليهم، وتفسيره قوله سبحانه: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} 2، وقوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} 3، وقال: {يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} 4، والطريق هنا واضحة. ومن ذلك قراءة أبى مِجْلَز: {بِالْغُدُوِّ وَالْإيصَالِ} 5. قال أبو الفتح: هو مصدر آصلْنَا: دخلنا في وقت الأصيل "86و" ونحن مُؤصلون. وقد ذكرنا هذا فيما مضى من الكتاب. ومن ذلك قراءة يحيى بن وثاب: "فَنَعْم عُقْبى الدارِ"6. قال أبو الفتح: أصل قولنا: نِعْم الرجل ونحوه نَعِمَ كعَلِمَ، وكل ما كان على فَعِل وثانيه حرف حلقى فلهم أربع لغات، وذلك نحو: فخِذ، ومَحِك7، ونَغِر8، بفتح اللام وكسر الثانى على الأصل. وإن شئت أسكنت الثانى وأقررت الأول على فتحه فقلت: فَخْذ، ومَحْك، ونَغْر. وإن شئت أسكنت ونقلت الكسرة إلى الأول فقلت: فِخْذ، ومِحْك، ونِغْر. وإن شئت أتبعت الكسر الكسر فقلت: فِخِذ، ومِحِك، ونِغِر. وكذلك الفعل نحو: ضَحِك، وإن شئت
ضَحْك، وإن شئت ضِحْك، وإن شئت ضِحِك. فعلى هذ القول: نَعِمَ الرجل، وإن شئت: نعْم، وإن شئت نِعْمَ، وإن شئت نِعِمَ. فعليه جاء: {فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} . وأنشدنا أبو علي لطرفة: ففداء لبني قيس على ... ما أصاب الناس من سُر وضُرْ ما أقلَّتْ قدمي إنهم ... نَعِمَ الساعون في الأمر الْمُبِرْ1 وروينا عن قطرب: نَعِيم الرجل زيد، بإشبع كسرة العين وإنشاء ياء بعدها كالمطافيل2 والمساجيد. ولَا بُدَّ من أن يكون الأمر على ما ذكرنا؛ لأنه ليس في أمثلة الأفعال فعِيل ألبتة. ومن ذلك قراءة علي -عليه السلام- وابن عباس وابن أبي مليكة3 وعكرمة والجحدري وعلي بن حسين وزيد بن علي وجعفر بن محمد وأبي يزيد المدني وعلي بن بديمة وعبد الله بن يزيد: "أَفَلَمْ يَتَبَيَّنِ الذين"4. قال أبو الفتح: هذه القراءة فيها تفسير معنى قول الله تعالى: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا} ، وروينا عن ابن عباس أنها لغة وَهْبِيل: فخذ من النَّخَع، قال: ألم ييئس الأقوام أني أنا ابنُه ... وإن كنتُ عن أرض العشيرة نائيا5 وروينا لسُحيم بن وَثِيل: أقول لأهل الشِّعْبِ إذ يأسِرُونني ... ألم تيئسوا أني ابن فارس زَهْدم6 أي: ألم تعلموا. ويشبه عندي أن يكون هذا راجعًا أيضًا إلى معنى اليأس؛ وذلك أن المتأمل للشيء المتطلب لعلمه ذاهب بفكره في جهات تعرفه إياه، فإذا ثبت يقينه على شيء من أمره اعتقده وأَضرب عما سواه، فلم ينصرف إليه كما ينصرف اليائس من الشيء عنه، ولا يلتفت إليه. وهذه
اللغة هكذا طريق صنعتها وملاءمة أجزائها وضم نَشَرِها وشتاتها، فإن لم تطبَن1 لها وتُلاقِ بين متهاجراتها بَدَّت2 فِرقًا، وكانت حرية لو لاطفْتَها بالتعانق والالتقاء فرفقًا رفقًا، لا عُنفًا ولا خُرقًا. ومن ذلك قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- وعلى وابن عباس وأبي -رضي الله عنهم- وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد بخلاف والحسن بخلاف وعبد الرحمن بن أبي بكرة وابن أبي إسحاق والضحاك والحكم بن عتيبة، ورُويت عن الأعمش: "وَمِنْ عِنْدِهِ عِلْمُ الْكِتَابِ"3، وقرأ: "ومِنْ عِنْدِهِ" بكسر الميم والدال والهاء "عُلِمَ الكتابُ" بضم العين وفتح الميم علي وابن السميفع "86ط" والحسن. وقراءة الجماعة: {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} . قال أبو الفتح: مَن قرأ: "وَمِنْ عِنْدِهِ عِلْمُ الْكِتَابِ" فتقديره ومعناه: من فضله ولطفه علم الكتاب، ومَن قرأ: "وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الْكِتَابُ" فمعناه معنى الأول، إلا أن تقدير إعرابه مخالف له؛ لأن من قال: "وَمِنْ عِنْدِهِ عِلْمُ الْكِتَابِ" فـ "من" متعلقة بمحذوف، "وعلمُ الكتاب" مرفوع بالابتداء، كقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} 4. ومن قال: "وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الْكِتَابُ" فـ"من" متعلقة بنفس "عُلم"، كقولك: من الدار أُخرج زيد؛ أي: أخرج زيد من الدار، ثم قَدَّمتَ حرف الجر. وقراءة الجماعة: {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} فالعلم مرفوع بنفس الظرف؛ لأنه إذا جرى الظرف صلة رفع الظاهر لإيغاله في قوة شبهه بالفعل، كقولك: مررت بالذي في الدار أخوه.
سورة إبراهيم
سورة إبراهيم: بسم الله الرحمن الرحيم قرأ أبو السمال: "بِلِسْنِ قَوْمِهِ"1. قال أبو الفتح: حُكي أن بعض أصحابنا قال: دخلت علي أبي السمال وهو ينتف شعر إسْبِهِ وهو يقرأ: "ومَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسْنِ قومه"، وإِسْبُهُ يعني عانته، فاللِّسْنُ واللسان، كالريش والرياش: فِعْل وفِعَال بمعنى واحد. هذا إذا أردت باللسان اللغة والكلام. فإن أردت به العضو فلا يقال فيه: لِسْن؛ إنما ذلك في القول لا العضو. وكأن الأصل فيهما للعضو، ثم سَمَّوا القول لسانًا؛ لأنه باللسان، كما يُسَمى الشيء باسم الشيء لملابسته إياه؛ كالراوية2 والظعينة3 ونحوها. ومن ذلك قراءة الحسن: "فَلِيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ"4. قال أبو الفتح: هذا لعمري الأصل في لام الأمر: أن تكون مكسورة، إلا أنهم أقروا إسكانها تخفيفًا. وإذا كانوا يقولون: مُرْه فلْيَقُمْ، فيسكنونها مع قلة الحروف والحركات، فإسكانها مع كثرة الحروف والحركات أمثل، وتلك حالها في قوله: "فَلِيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ"، لا سيما وقبلها كسرة الهاء، فاعرف ذلك، فإن مصارفة الألفاظ باب معتمد في الاستثقال والاستخفاف. ومن ذلك قراءة ابن عباس ومجاهد وابن محيصن: "وَاسْتَفْتِحُوا"5.
قال أبو الفتح: هو معطوف على ما سبق من قوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ} 1 أي: قال لهم: اسْتَفْتِحُوا، ومعناه: استنصِروا الله عليهم، واستحكموه بينكم وبينهم، والقاضى اسمه الفتاح، قال الله تعالى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} 2 أي: تستنصروا فقد جاءكم النصر. وعليه سَمَّوا الظفر بالعدو فتحًا، ومنه الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يستفتح بصعاليك المهاجرين3؛ أي: يستنصر بهم. وقال أحمد بن يحيى: أي يقدِّمهم ويبدأ أمره بهم، وكأنهم إنما سَمَّوا القاضي فتَّاحًا لأنه يفتح باب الحق الذي هو واقف ومنسد، فيُصار إليه ويُعمل عليه. ومن ذلك قراءة ابن أبي إسحاق وإبراهيم بن أبي بُكَير: "فِي يَوْمِ عَاصِفٍ"4 بالإضافة. قال أبو الفتح: هذا على حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه؛ أي: في يوم ريح عاصف، وحسن "87و" حذف الموصوف هنا شيئًا؛ لأنه قد أُلف حذفه في قراءة الجماعة: {فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} . فإن قيل: فإذا كان "عاصف" قد جرى وصفًا على "يوم" فكيف جاز إضافة "يوم" إليه، والموصوف لا يصاف إلى صفته؛ إذ كانت هي هو في المعنى؛ والشيء لا يضاف إلى نفسه؟ ألا تراك لا تقول: هذا رُجُلُ عاقلٍ، ولا غلامُ ظريفٍ، وأنت تريد الصفة؟ قيل: جاز ذلك من حيث كان "اليوم" غير العاصف في المعنى وإن كان إياه في اللفظ؛ لأن العاصف في الحقيقة إنما هو الريح لا اليوم، وليس كذلك هذا رُجُلُ عاقلٍ؛ لأن الرجل هو العاقل في الحقيقة، والشيء لا يضاف إلى نفسه، فهذا فرق. ومن ذلك قراءة السلمي: {أَلَمْ تَرْ أَنَّ اللَّهَ} 5 ساكنة الراء. قال أبوالفتح: فيها ضعف؛ لأنه إذا حذف الألف للجزم فقد وجب إبقاؤه للحركة قبلها
دليلًا عليها، وكالعوض منها لا سيما وهي خفيفة، إلا أنه شبه الفتحة بالكسرة المحذوفة في نحو هذا استخفافًا. أنشد أبو زيد: قالت سليمى اشْتَرْ لنا دقيقا1 وأنشدنا أيضًا: قالت سليمى كَلْمَةً تَلجْلَجَا ... لو طُبخ النِّيء به لَأُنْضِجَا يا شيخ لا بدَّ لنا أن نَحْجُجَا ... قد حج في ذا العامِ مَن كان رَجا فاكْتَرْ لنا كَرِيَّ صدق فالنَّجا ... واحذر فلا تَكْتَرْ كَرِيًّا أَعْوجَا عِلْجًا إذا ساق بنا عَفَنْجَجَا2 فأسكن الراء من "اشترْ" و"اكترْ" استخفافًا، أو إجراء للوصل على حد الوقف. وروينا عن أبي بكر محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى قول الشاعر: ومن يتَّقْ فإن الله معه ... ورِزقُ الله مُؤتابٌ وغادِي3 فأسكن قاف "يتقْ" لما ذكرنا، وكذلك شبه السلمى "أَلَمْ تَرْ" بذلك إذا كانت الكسرة أثقل، أو لأنه أجرى الوصل مجرى الوقف. ومن ذلك قراءة الحسن: "وَأُدْخِلُ الَّذِينَ"4 برفع اللام. قال أبو الفتح: هذه القراءة على أن "أُدْخِلُ" من كلام الله تعالى؛ كأنه قطَع الكلام واستؤنف
فقال الله عز وجل: "وَأُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا" أي: وأنا أدخلُهم جنات تجرى من تحتها الأنهار بإذن ربهم؛ أي: بإذني، إلا أنه أعاد ذكر الرب ليضيفه إليهم، فتقوى الملابسة باللفظ، فيكون أحنى وأذهب في الإكرام والتقريب منه لهم. ومثله في القرآن: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} 1، وقال: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ} 2، فهذا كله تحقُّق بالله تعالى، وتقرب منه، وانتساب إليه. ومن ذلك قراءة أنس بن مالك: "كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ ثابتٍ أَصْلُهَا"3. قال أبو الفتح: قراءة الجماعة: {أَصْلُهَا ثَابِتٌ} أقوى معنى؛ وذلك أنك إذا قلت: "ثابت أصلها" فقد أجربت ثابتًا صفة على شجرة، وليس الثبات لها؛ إنما هو للأصل. ولعمري إن الصفة إذا كانت في المعنى لِما هو من سبب الموصوف جرت عليه؛ إلا أنها إذا كانت له كانت أخص لفظا به. وإذا كان الثبات في الحقيقة إنما هو للأصل فالمعتمد بالثبات هو الأصل، فبِقَدْر ذلك ما4 حسن تقديمه عناية به ومسارعة إلى ذكره، ولأجل ذلك قالوا: زيد ضربته "87ظ" فقدموا المفعول لأن الغرض هنا ليس بذكر الفاعل؛ وإنما5 هو ذكر المفعول، فقدموه عناية بذكره، ثم لم يُقْنِع ذلك حتى أزالوه عن لفظ الفضلة وجعلوه في اللفظ رَبَّ الجملة، فرفعوه بالابتداء، وصارت الجملة التي إنما كان ذيلًا لها وفضلة ملحقة بها في قولهم: ضربت زيدًا، ثانية له، وواردة في اللفظ بعده، ومسندة إليه، ومخبَرًا بها عنه. وقد تقدم في هذا الكتاب نحو هذا مستقصى. فكذلك قولك: مررت برجل أبوه قائم، أقوى معنى من قولك: قائم أبوه؛ لأن المخبر عنه بالقيام إنما هو الأب لا رجل؛ ومن هنا ذهب أبو الحسن في نحو قولنا: قام زيد، إلى أن قام في موضع؛ لأنه وقع موقع الاسم؛ لأن تقدير المحدَّث عنه أن يكون أسبق رتبة من الحديث،
إلا أن لقراءة أنس هذه وجهًا من القياس حسنًا؛ وذلك أن قوله: "ثَابِتٍ أَصْلُها" صفة لشجرة، وأصل الصفة أن تكون اسمًا مفردًا لا جملة، يدل على ذلك أن الجملة إذا جرت صفة للنكرة حُكم على موضعها بإعراب المفرد الذي هي واقعة موقعه. فإذا قال: "ثَابِتٍ أصلُها" فقد جرى لفظ المفرد صفة على النكرة، وإذا قال: "أصلُها ثابت" فقد وضع الجملة موضع المفرد، فالموضع إذن له لا لها. فإن قلت: فليس اللفظ مفردًا، ألا ترى أنه ثابت أصلها؟ قيل: هذا لا يبلغ به صورة الجملة؛ لأن ثابتًا جارٍ في اللفظ على ما قبله، وإنما فيه أنه وضع أصلها لتضمنه لفظ الضمير موضع الضمير الخاص بالأول، وليس كذلك "أصلها ثابت"؛ لأن معك صورة الجملة ألبتة، فهذا تقوية لقول أنس. وكان أبو علي يعتذر من إجازتهم: مررت برجل قائمٌ أبوه، ويقول: إنما ذلك لأن الجملة نكرة، كما أن المفرد هنا لو وقع لم يكن إلا نكرة؛ لأن موصوفه نكرة. ومن ذلك قراءة ابن عباس والحسن والضحاك ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وعمرو بن فائد ويعقوب: "مِنْ كُلٍّ مَا سَأَلْتُمُوهُ"1 بالتنوين. قال أبو الفتح: أما على هذه القراءة فالمفعول ملفوظ به؛ أي: وآتاكم ما سألتموه أن يؤتيكم منه. وأما على قراءة الجماعة: {مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} على الإضافة فالمفعول محذوف؛ أي: وآتاكم سؤلكم من كل شيء؛ أي: وآتاكم ما ساغ إيتاؤه إياكم أياه منه، فهو كقوله عز وجل: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} 2 أي: أوتيت من كل شيء شيئًًا. وقد سبق ذكرُنا حذف المفعول للعلم به، وأنه مع ذلك عذْب عالٍ في اللغة. ومن ذلك قراءة الجحدري والثقفي وأبي الْهَجْهاج: "وَأَجْنِبْنِي"3 بقطع الألف. قال أبو الفتح: يقال: جنَبتُ الشيء أَجْنُبُه جُنُوبًا، وتميم تقول: أجنَبْتُهُ أُجْنِبُه إِجْنَابًا؛ أي: نَحَّيته عن الشيء. فجنَبتُهُ كصرفته، وأَجنَبتُهُ جعلته جنِيبًا عنه، وكذلك: {وَاجْنُبْنِي
وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} أي: اصرفني وإياهم عن ذلك، وأَجْنِبني: أي اجعلني كَالْجَنِيبِ لك؛ أي: المنقاد معك عنها. ومن ذلك قراءة علي بن أبي طالب وأبي جعفر محمد بن علي وجعفر بن محمد -عليهم السلام- ومجاهد: "تَهْوىَ"1 بفتح الواو، وقرأ "88و" مسلمة بن عبد الله: "تُهوَى إليهم". قال أبو الفتح: أما قراءة الجماعة: {تَهْوِي إِلَيْهِم} بكسر الواو فتميل إليهم: أي تحبهم، فهذا في المعنى كقولهم: فلان يَنْحَط في هواك؛ أي: يُخلد إليه ويقيم عليه؛ وذلك أن الإنسان إذا أحب شيئًا أكثر من ذكره وأقام عليه، فإذا كرهه أسرع عنه وخف إلى سواه، وعلى ذلك قالوا: أَحبَّ البعيرُ: إذا برك في موضعه، قال: حُلْت عليه بالقطيع ضَربَا ... ضرب بعير السوء إذا أَحَبَّا2 أي: برك. ومنه قولهم: هَوِيت فلانًا، فهذا من لفظ هَوَى الشيء يَهْوِي، إلا أنهم خالفوا بين المثالين لاختلاف ظاهر الأمرين وإن كانا على معنى واحد متلاقيين، فقراءة علي عليه السلام: "تَهْوَى إليهم" بفتح الواو؛ وهو من هَوِيتُ الشيء إذا أحببته، إلا أنه قال: "إليهم"، وأنت لا تقول: هوِيت إلى فلان؛ لكنك تقول: هويت فلانًا؛ لأنه -عليه السلام- حمله على المعنى، ألا ترى أن معنى هوِيت الشيء ملت إليه؟ فقال: "تهوَى إليهم" لأنه لاحظ معنى تميل إليهم. وهذا باب من العربية ذو غور، وقد ذكرناه في هذا الكتاب. ومنه قول الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} 3، عدَّاه بإلىوأنت لا تقول: رَفَثْتُ إلى المرأة، وإنما تقول: رفثتُ بها أو معها؛ لكنه لما كان معنى الرَّفَث معنى الإفضاء عداه بإلى ملاحظة لمعنى ما هو مثله، فكأنه قال: الإفضاء إلى نسائكم، ومنه قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} 4 لما كانت التوبة سببًا للعفو لاحظ معناه فقال: عن عباده، حتى كأنه قال: وهو الذي يقبل سبب العفو عن عباده، وقد أفردنا لهذا ونحوه في الخصائص بابًا5.
وأما "تُهوَى إليهم" فمنقول من تهوِي إليهم، وإن شئت كان منقولًا من قراءة علي عليه السلام: "تَهْوَى"، كلاهما جائز على ما مضى. ومن ذلك قراءة يحيى بني يعمر: "ولِوُلْدِي"1، وقرأ: "لِوَلَدَيّ" على اثنين الحسين بن علي والزهري وإبراهيم النخعي2 وأبو جعفر محمد بن علي، وقرأ: "ولِوالِدِي" يعني: أباه وحده سعيد بن جبير. قال أبو الفتح: الوُلْدُ يكون واحدًا ويكون جمعًا، قال في الواحد: فليت زيادًا كان في بطن أمه ... وليت زيادًا كان وُلْد حمار3 ومن كلام بني أسد: وُلْدُكِ من دمي عقِبيكِ؛ أي: وُلْدُك مَن وَلَدتِهِ فسال دمكِ على عقبيكِ عند ولادته، لا مَن اتخذته وَلَدًا، قريبًا كان منك أو بعيدًا. وإذا كان جمعًا فهو جمع وَلَد كأَسَد وأُسُد، وخَشبَة وخُشْب. وقد يجوز أن يكون الوُلْد أيضًا جمع وُلْد كالفُلْك في أنه جع الفُلْك، وقالوا: كُور الناقة للواحد والجماعة على هذا، ورجل هُود: أي تائب، وقوم هود. وقول الله تعالى: {مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ} 4 أي: رهطه، ويقال: ولَدُه، والوَلَد اسم يجمع الواحد والجماعة والأنثى والذكر. وقالوا: وِلْد أيضًا. ومن ذلك قراءة علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب وابن عباس وابن مسعود -واختلف عنه- وأبي بن كعب وأبي إسحاق السبيعي5: "وإنْ كاد" بالدال "مَكْرُهم لَتزُولُ"6 بفتح اللام الأولى وضم الثانية.
قال أبو الفتح: هذه "إِنْ" مخففة من الثقيلة، واللام في قوله: "لَتَزُول" هي التي تدخل بعد "إنْ" هذه المخففة من الثقيلة؛ فصلًا بينها وبين "إنْ" التي للنفي في قوله تعالى: {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} 1 أي: ما الكافرون إلا في غرور، فكأنه قال: وإنه كاد مكرهم "88ظ" تزول منه الجبال. ودخلت يومًا على أبي علي بُعيد عوده من شيراز سنة تسع وستين، فقال لي: ألا أحدثك؟ قلت له: قل! قال: دخل إليَّ هذ الأندلسي فظننته قد تعلم، فإذا هو يظن أن اللام التي تصحب إنْ المخففة من الثقيلة هي لام الابتداء، قلت: لا تعجب، فأكثر مَن ترى هكذا. ومن ذلك قراءة ابن عباس وأبي هريرة وعلقمة2 وسعيد بن جبير وابن سيرين والحسن وسنان3 بن سلمة بن المحبق وعمرو بن عبيد والكلبي وأبي صالح وعيسى4 الهمداني وقتادة والربيع بن أنس وعمرو بن فائد: "مِنْ قِطْرٍ آنٍ"5. قال أبو الفتح: القِطْر: الصُّفْر والنحاس، هو أيضًا الفِلزُّ، رويناه عن قطرب، وهو أيضًا الصاد، ومنه قدور الصاد؛ أي: قدور الصُّفْر. والآني: الذي قد أنى وأدرك. أَنَى الشيء يأنِي أُنِيًّا وإِنًى مقصور، ومنه قول الله سبحانه: {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} 6 أي: بلوغه وإدراكه. قال أبو علي: ومنه الإناء؛ لأنه الظرف الذي قد بلغ غايته المرادة فيه من خَرز أو صياغة أو نحو ذلك. قال أمية: وسليمانُ إذ يَسيل له القِطر ... على ملكه ثلاث ليالِ
وأما القطران ففيه ثلاث لغات: قَطِرَان على فَعِلان، وهو أحد الحروف التي جاءت على فَعِلان؛ وهي: ثلِثَان، وبدِلَان، والشَّقِران1. ويقال أيضًا: قَطْرَان بفتح القاف وإسكان الطاء. وقِطْران بكسر القاف وإسكان الطاء. والأصل فيها قَطِرَان فأُسكنا على ما يقال في كَلِمة: كَلْمَة وكِلْمَة، لغة تميمية. قال أبو النجم: جونٌ كأَن العرَق الْمَنْتُوحَا ... لَبَّسهُ القِطْرَان والْمُسُوحا2 وقال النابغة: وتُخْضَبُ لحية غَدَرَتْ وخانت ... بأحمر من نَجِيع الجوف آنِ3 ومن ذلك قراءة يحيى بن عمر الذارع وأحمد بن يزيد بن أسيد السلمي: "ولِيَنْذَرُوا به"4 بفتح الياء والذال. قال أبو الفتح: يقال نَذِرتُ بالشيء: إذا علمتَ به فاستعددت له، فهو في معنى فهمته، وعلمت به، وطَبِنْتُ له، وفي وزن ذلك. ولم تستعمل العرب لقولهم: نَذِرت بالشيء مصدرًا، كأنه من الفروع المهجورة الأصول. ومنه عسى لا مصدر لها، وكذلك ليس. وكأنهم استغنوا عنه بأن والفعل، نحو: سرني أن نَذِرت بالشيء، ويسرني أن تَنْذَر به.
ذكرى وعرفان
ذكرى وعرفان: يطلع الجزء الأول من المحتسب على قرائه، فلا يشهد معنا مطلعه زميلنا الكريم الأستاذ الدكتور عبد الحليم النجار، رحمه الله، وأفاض رضوانه عليه. لقد شاركنا -رحمه الله- في تحقيق هذا الجزء مشاركة جادة مخلصة، لا يألو فيها جهدًا، ولا يضن بوقت. فكان نعم العون على تمحيص النص، واكتناه الحقيقفة، ونفي الشبهة، وتذليل الصعب، والاهتداء في المشكل إلى الرأي الذي نرتضيه ونظمئن إلى الأخذ به؛ إذ كان -أحسن الله إليه- عالمًا جليلًا، واسع الاطلاع، صادق التجرية، ثاقب النظرة. ولما أن فرغنا من تحقيق الجزء، وآن له أن يمضي إلى المطبعة، جاءنا نعيه؛ فنعينا بنعيه إلى أنفسنا، وفقدنا بفقده عالمًا كبيرًا، وأخًا كريمًا، وصديقًا عزيزًا، رضي الخلق، طيب المعشر، عذب الروح، جم التواضع، حلو الشمائل. وإنه ليعز علينا كثيرًا ألا يقدر لنا وللمحتسب أن يمضي معنا فيه إلى نهايته؛ فيكون لجزئه الثاني منه مثل ما كان لجزئه الأول؛ ولكنها إرادة الله التي لا رادَّ لها، وحكمه الذي لا معقب له. على أننا سنمضي -إن شاء الله- في الجزء الثاني على النهج الذي هدانا إليه النظر، واستقرت بنا عنده التجرية. وليس يسعنا في هذا المقام إلا أن نتوجه إلى ذكرى زميلنا الكريم بالتحية والإجلال، وإلى الله العلي القدير أن يكرم مثواه، وينزله منازل الأبرار من العاملين المخلصين، وأن يجمل عزاءنا وعزاء أسرته وعزاء العلم والفضل فيه.
فهرس الجزء الأول من المحتسب
فهرس: الجزء الأول من المحتسب سورة فاتحة الكتاب: 37-49 قوله تعالى: "الحمدُ لُله" وكثرة التغيير فيما شاع استعماله 37، إتباع الثاني الأول أقيس من العكس 37، تشبه جزأي الجملة معًا بالجزء الواحد 38. قوله تعالى: "وأَيَّاك نستعين" وتوجيه فتح الهمزة مع تشديد الياء وفتح الهمزة مع تخفيف الياء 39، رأي في اشتقاق "إيَّاك" من الآية 40. قوله تعالى: "اهدنا صراطًا مستقيمًا" ووجه التنكير في الآية 41، ترجيح بيت لابن الرقيات على بيت لكثير 43. قوله تعالى: "أنعمت عليهم" وأوجه قراءة "عليهم" 43، "عليهُمُو" هي الأصل ووجه ذلك 44، توجيه "عليهِمِي"وشبه الهاء بالألف 44، توجيه "عليهِمُ" ووجه احتمال الضمة بعد الكسرة 45، توجيه سائر القراءات 45. قوله تعالى: "ولا الضأَلِّين" ووجه زيادة مد ألف "الضالِّين" 46، نصوص أبدلت فيها الألف همزة 47، إذا جاور الساكن حركة فقد ينزل منزلة المتحرك بها 47، لِمَ لا يكون البأز لغة في الباز؟ 48، رد حكاية جمع ريح على أرياح 49. سورة البقرة: 50-150 قوله تعالى: "سواء عليهم أنذرتهم" وحذف همزة الاستفهام 50، حذف الحرف غير مقيس وسببه 51. قوله تعالى: "وما يُخْدَعون إلا أنفسهم" وحذف الجار وإيصال فعله 51، الحمل على المعنى وحكمة سداده 52، استحسان رأي الكسائي في تعدية رضي بعلى 53.
قوله تعالى: "في قلوبهم مَرْض" ووجه امتناع تخفيف المفتوح 53، تعاقب الفتح والسكون في بعض المواضع 54، المتعدي أكثر من اللازم وسببه 54. قوله تعالى: "اشتَرَوِا الضلالة" ولغات هذه الواو 54، لِمَ كان الضم أقواها؟ 55، إجزاء اللازم مجرى غير اللازم في قول بعض العرب: عصئوا الله 55، الاستذكار ومد الصوت 55. قوله تعالى: "وتَرَكهم في ظُلْمَات" واللغات الجائزة في مثل هذا الجمع 56، قيس تسكن نحو ظبْيات 56، قوة مشابهة المصدر للصفة 57، علة تسكين نحو جوْزات وبيضات 57، الألف والتاء في جمع المؤنث في حكم المتصل وأثر ذلك 58. قوله تعالى: "يَخَطَّف أَبصارهم" وتحليل "يَخَطَّف" وبيان ما فيه وفي ماضيه من لغات 59، وزن يخطف وأشباه له 60، ابن جني يرد رواية الفراء "يَخْطّف" -بتسكين الخاء وتشديد الطاء- إلى الإخفاء والاختلاس 61. قوله تعالى: "وُقُودها الناس" وتأويله على حذف مضاف 63، ما لا يجيء من الصيغ بنفسه قد يجيء بإضافة ياء النسب إليه 63. قوله تعالى: "مثلا ما بَعُوضةٌ" وضعف حذف العائد هنا وفيما يشبهه 64. قوله تعالى: "وعُلِّمَ آدمُ الأسماءَ كلَّها" وتقديم المفعول حين العناية به 64، إسناد بعض الأفعال إلى المفعول في الأصل دون الفاعل 65، وجه استحسان هذه القراءة 66. قوله تعالى: "أَنْبِهِمْ بأسمائهم" وبقية قراءات "أنبهم" 66، سيبويه ينقد أبا زيد في حكاية قرَيت عن العرب 67، توجيه قراءة "أنبيهُم" 67، يثبت لتخفيف الهمزة أحكام تحقيقها 68، ابن جني يسأل أبا علي: أيجوز إعلال نحو "حوَب" على إجراء غير اللازم منزلة اللازم؟ 68، قد يخرج "أنبيهُم" على إشباع الكسرة 68، تحليل "لكنا هو الله ربي" 70، تخريج "أنبئهِم" 70، ضعف الساكن عن أن يكون حاجزًا حصينًا 70، كسر الضمير كما تكسر هاؤه 71.
قوله تعالى: "للملائكةُ اسجدوا" وضعف هذا الوجه 71، لا تستهلك حركة الإعراب لحركة الإتباع في لغية 71، ابن الأعربي يحكي تخفيفًا ضعيفًا في: أفي السوءة أَنتُنَّه؟ 72. قوله تعالى: "هذه الشِّجَرة" وأن كسر "الشجرة" لغة سليم 73، الشِّيرَة لغة فيها 74، قد تبدل الجيم من الياء 74. قوله تعالى: "فمن اتبع هُدَيّ" وشيوع قلب ألف المقصور ياء حين يضاف إلى ياء المتكلم في لغة هذيل 76، لغات في ألف المقصور وقفًا ووصلًا 77، فساد تخريج "من وُرق الْحَمِي" على الترخيم 78، احتجاج لرأي سيبويه في لبيك أنه ليس مفردًا 78، إجراء الوصل مجرى الوقف يمكن الاحتجاج به ليونس في أن لبيك مفرد 79. قوله تعالى: "إسراييل" وتخليط العرب في النطق بالإعجمي 79. قوله تعالى: "وأوفوا بعهدي أُوَفِّ بعهدكم"، وفعّلت أبلغ من أَفعلت 81. قوله تعالى: "يَذْبَحون أبناءكم" ودلالة فعَلت على التكثير أحيانًا لدلالة الفعل على المصدر 81، لا يجمع المصدر مرادًا به الجنس 82. قوله تعالى: "وإذ فرَّقنا بكم البحر" وتفسير الآية على هذه القراءة 82. قوله تعالى: "فاقتالوا أنفسَكم" ورد "اقتال" إلى الأصول التي تحتملها 83. قوله تعالى: "جَهَرَة" و"زَهَرة" ومذهب البصريين والكوفيين في تحريك نحو هذا مما فيه حرف حلقي ساكن 84، ابن جني يرى في ذلك رأي الكوفيين 84. قوله تعالى: "اثنتا عشَرة" وكثرة التخليط في ألفاظ العدد 85، إنكار أبي عمرو "يتخولنا" في حديث نبوي وتصحيح ابن جني لها 86. قوله تعالى: "وقُثَّائها" وكثرة وزن فُعال في النوابت 87، قول الرسول لبني غيان: أنتم بنو رشدان ودلالته الاشتقاقية 88. قوله تعالى: "وثُومِها" وقلب الثاء فاء 88. قوله تعالى: "الذي هو أَدنأ" واستعمالات دنؤ 89.
قوله تعالى: "ما سِأَلتم" واللغتان المستعملتان في سأل 89، وزن سآيلتهم 90. قوله تعالى: "والذين هادَوا" ورد "هادَوا" إلى المفاعلة من الهدى 91. قوله تعالى: "وإِنْ من الحجارة"، و"وإِنْ منها" وشيوع تخفيف إنَّ مع إنكار ابن مجاهد له 91. قوله تعالى: "كما يهبُط" ومجيء فعَل المتعدي على يفعِل وفعَل اللازم على يفعُل 92، معنى الآية على تعدي هبط ولزومه 92. قوله تعالى: "يسمعون كَلِم الله" ومعنى الكلام والقول والكلم 93. قوله تعالى: "إلا أمانِيْ وإِنْ هم" وكثرة التخفيف في نحو "أماني" 94، المحذوف في هذا التخفيف هو الياء الأولى 94، قد تزاد التاء عوضَا من الياء المحذوفة في بعض الجموع 95. قوله تعالى: "وآيدناه بروح القدس" ولِمَ كان آيدتك على فعّلت لا فاعلت؟ 95. قوله تعالى: "جَبْرَئِل" وتخليط العرب في النطق بالأعجمي 97، وانظر ص79 تفسير "جبرئل" بعبد الله 97، جبْرَاييل وميكاييل تخفيف جبرائيل ومكيائيل 98، كثرة التغيير فيما يكثر استعماله 98. قوله تعالى: "أَوْ كلما عَهِدوا" ولِمَ كانت "أو" هنا بمعنى بل وليست واو العطف وهمزة الاستفهام؟ 99، بين "عهِدوا عَهدًا" و"عاهَدوا عهدًا" 100. قوله تعالى: "وما أُنزل على الملِكين" والمراد بـ"الملكين" هنا 100. قوله تعالى: "بين الْمَرِ وزوجه" وبقية قراءات "المرء" وتوجيه كل 101. قوله تعالى: "وما هم بضارِّي به من أحد" وشذوذ حذف النون هنا 103. قوله تعالى: "لَمَثْوَبة" وشذوذ صحة الكلمة 103. قوله تعالى: "ما نَنْسخْ من آية أو نُنسِّها" وتأويل الآية في قراءاتها المختلفة 103. قوله تعالى: "فأَمْتِعْه قليلا ثم اضطرَّه" وإعراب الآية على هذه القراءة وقراءة الجماعة 104، كلام عن التجريد 105، وجوه من العربية في "اضطره" 106. قوله تعالى: "ثم أَطَّرُّه" ولِمَ كان إدغام الضاد في الطاء مرذولًا؟ 106، قلة الحفل بالإبدال العارض 107.
قوله تعالى: "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ويقولان ربَّنا" ودلالة الآية على صحة تقدير القول في بعض المواطن 108. قوله تعالى: "يُعَلِّمْهم" و"يلْعنْهم" والتخفيف لغة تميم والتثقيل لغة أهل الحجاز 109، ابن جني يرد اعتراضات على سيبويه 110. قوله تعالى: "إلا ليُعلَمَ من يتبع الرسول" ولِمَ كان يعلم هنا بمعنى يعرف؟ 111. قوله تعالى: "وإلهَ أبيك" ولِمَ كان "أبيك" هنا جمع أب؟ 112. قوله تعالى: "بما آمنتم به" وزيادة "مثل" في قراءة الجماعة للتوكيد والتسديد 113. قوله تعالى: "لَرَوُوف رحيم" والهمزة فيه مخففة لا منقلبة 114. قوله تعالى: "أَلَا الذين ظلموا" وتفسير الآية على هذه القراءة وقراءة الجماعة 115. قوله تعالى: "أَلَّا يَطَّوَّف بهما" وتفسير الآية على هذه القراءة وقراءة الجماعة 115. قوله تعالى: "أولئك عليهم لعنة الله والملائكةُ والناسُ أجمعون" وإضمار الفعل لدليل 116. قوله تعالى: "خُطُؤات الشيطان" وهمز ما لا حظ له في الهمز 117. قوله تعالى: "ليس البر بأَن تُولوا وجوهكم" وزيادة الباء في اسم ليس 117. قوله تعالى: "وعلى الذين يُطَوَّقونه" ومعنى التطويق هنا 118، بعض ما أبدلت فيه الواو ياء وهي عين لتفعّل 118. قوله تعالى: "ثم أفيضوا من حيث أفاض الناسي" ودلالة الآية على فساد القول بأن لام التعريف تدخل الأعلام للمدح 119. قوله تعالى: "فمن تعجل في يومين فَلَثْمَ عليه" وحذف الهمزة اعتباطًا 120، بين "فَلَثْمَ عليه" و"إنها لَحْدَى الكُبر" 120، مذهب الخليل في أصل لن 120، نصوص حذفت فيها الهمزة 120. قوله تعالى: "ويَهلَكُ الحرثُ والنسلُ" وأمثلة من تداخل اللغات 121. قوله تعالى: "فإن زلِلتُم" وورود زل مفتوح العين ومكسورها 122. قوله تعالى: "في ظِلال من الغمام" والوجه أن يكون "ظلال" جمع ظلة 122.
قوله تعالى: "ويسألونك عن اليتامى قل أَصْلِحْ لهم خيرٌ" وحذف الفاء مع المبتدأ في جواب الشرط 122. قوله تعالى: "وبعولَتْهن أحق" والتسكين للتخفيف 123، وانظر ص109. قوله تعالى: "لا تضارْ ولدة " وحذف الراء الثانية في "تضارْ" واللام الأولى في "ظَلْتَ" 123، وجه ضعف حذف راء "تضار" 124. قوله تعالى: "والذين يَتوَفَّون منكم" وحذف مفعول "يتوفون" 125. قوله تعالى: "أبو يَعْفُوْ الذي" وكثرة سكون ياء المضارع المنصوب وقلة سكون واوه 125، سكون ياء المنصوب من أحسن الضرورات 126. قوله تعالى: "ولا تناسَوا الفضل بينكم" والفرق بين "تَنْسَوا " و"تناسَوا" 127، من مزايا قراءة: "تناسَوْا" 128. قوله تعالى: "ألم تَرْ إلى الملأ" وأصل رأى يرى 128، وروده على أصله 128. قوله تعالى: "أن يأْتيَكم التابوه" وإبدال الهاء من التاء لوجوه من المشابهة بينهما 129. قوله تعالى: "ولا يَئُوده حِفظُه" وجواز تحقيق همزة "يئوده" وتخفيفها 130، لِمَ يمتنع حذف الهمزة هنا؟ 131. قوله تعالى: "أولياؤهم الطواغيت" وأصل الطاغوت وتصريفها 131، مصادر على فاعلة 133، تصريف الحانوت 133. قوله تعالى: "فبَهَتَ الذي كفر" ومجيء فعُل للمبالغة 134، كيف تلتقى قراءة "بُهِت" وقراءة "بَهَت"؟ 135، لا يلزم أن يكون بناء الفعل للمجهول للجهل بالفاعل 135. قوله تعالى: "فَصِرَّهن إليك" وشذوذ يفعِل في المضاعف المتعدي 136، معنى الآية علي قراءة "فصَرِّهن" 136. قوله تعالى: "ثم اجعل على كل جبل منهن جُزًّا" وإجراء الوصل مجرى الوقف في التشديد 137. قوله تعالى: "كمثَل صَفَوان عليه تراب" وكثرة وزن فَعَلان في الأوصاف والمصادر 138. قوله تعالى: "ولا تُيَمِّموا الخبيث" ولغات تيمم 138.
قوله تعالى: "إلا أن تَغْمُضُوا فيه" ومجيء أفعل بمعنى الدخول في الشيء وبمعنى المصادفة 139، يُعطف فعل المطاوعة بالفاء ولا الواو 140. قوله تعالى: "واتقوا الله وذروا ما بَقِيْ من الربا" وسكون الياء في موضع النصب والفتح 141، وانظر ص125، 126. قوله تعالى: "من الرِّبُو" وشذوذ الانتقال من الكسر إلى ضم بناء لازم 142، وقوع الواو بعد ضمة في الآخر إنما يكون في الفعل 142، تخريج "الرِّبُو" على تفخيم ألف "الربا" انتحاء بها إلى الألف 142. قوله تعالى: "ومن يُوتِ الحكمة" وإعراب الآية على هذه القراءة 143. قوله تعالى: "فنَظْرة إلى مَيْسُرة" والتسكين للتخفيف 143، مَفْعُل في الأسماء لا يكون إلا بالتاء 144، حذف التاء من الاسم مع إرادتها 144. قوله تعالى: "واتقوا يومًا يُرجعون فيه" ووجه الالتفات من الخطاب إلى الغيبة هنا 145، وجه قراءة: "تُرجعون" بالخطاب 145، عود إلى الالتفات 146. قوله تعالى: "وامرأْتان" وتخفيف الهمزة يضعف حركتها ويدنيها من الساكن 147، تسكين الهمزة المتحركة اعتباطًا لا نظير له 147. قوله تعالى: "ولا يُضارُّ" وإجراء الوصل مجرى الوقف 148، وانظر ص137، وجه قراءة: "ولا يضارُّ" 149. قوله تعالى: "يحاسبْكم به الله يغفرْ لمن يشاء ويعذبْ من يشاء" والبدل من الفعل 149. سورة آل عمران: 151-178 قوله تعالى: "الحيُّ القيَّام" وأمثلة من الصفات على فيعال 151. قوله تعالى: "والأنجيل" وعدم وجود أفعيل 152، مِمَّ اشتق الإنجيل والتوراة؟ 152، أمثلة من تلاقي المعاني مع اختلاف الأصول والمباني 153. قوله تعالى: "ربنا لا تَزِغْ قلوبُنا" ووجه تلاقي هذه القراءة وقراءة الجماعة 154.
قوله تعالى: "يُرونهم مِثليهم" والفرق بين رأَيت وأَرى، وأُريت وأُرى 154، بين هذه القراءة وقراءة الجماعة 155. قوله تعالى: "زَيّن للناس حبُّ الشهوات" وبيان فاعل "زين" في الآية 155. قوله تعالى: "شُهداءَ الله" وإعراب الآية على هذه القراءة 156. قوله تعالى: "ذَرِّيَّةً بعضها من بعض" واحتمال أن تكون "ذرية" من ذرأ، أو ذرر، أو ذرو، أو ذرى 156، تصريف الكلمة على كل احتمال 156، أمثلة مما أُبدل فيه أحد المثلين هربًا من التكرار 157، أمثلة مما قلبت فيه الواو ياء لطول الاسم وثقل تضعيف الواو 158. قوله تعالى: "نَزَل عليك الكتابُ بالحق" وموقع الآية على هذه القراءة مما قبلها 160. قوله تعالى: "أن الله يُبَشِرك" ونقل "يُبْشِرك" من بَشِر بالأمر 161. قوله تعالى: "إلا رُمُزًا" بيان أن "رُمُزًا" جمع رُمْزة 161. قوله تعالى: "قال الحواريُون" وامتناع ضم الياء الخفيفة المكسور ما قبلها 162، تخريج الحواريُون 162. قوله تعالى: "أن يُوتِيَ أحد مثل ما أوتيتم" ووجه رفع "أحد" مع بناء الفعل للفاعل 163. قوله تعالى: "وبما كنتم تُدْرِسون" ونقل أَدرس من درَس 164. قوله تعالى: "لَمَّا آتيناكم" وكيف تخرج "لما" مع غرابتها هنا؟ 164. قوله تعالى: "قل صَّدَّق الله" وإدغام اللام في الصاد وفي حروف أخرى 165. قوله تعالى: "بِثلاثةْ آلاف" وتتميم المضاف إليه للمضاف 165، من المطل الذي تنشأ منه ألف 165. قوله تعالى: "إن يمسسكم قَرَح" ولغات "قرح" 166، فتح ما قبل الحاء لكونها حلقية 167، موافقة ابن جني للكوفيين في جلب الحرف الحلقي للفتح 167. قوله تعالى: "مِن قَبل أن تُلاقُوه" ودلالة المفاعلة على المشاركة 167. قوله تعالى: "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله رسل" واستحسان تنكير "رسل" 168، لِمَ لا يندب المبهم؟ 169.
قوله تعالى: "ومن يُرد ثواب الدنيا يؤْتِه منها" وإضمار الفاعل لدلالة الحال عليه 169. قوله تعالى: "وكأْيٍ من نبي" ولغات "كأي" 170، أصلها 170. قوله تعالى: "قُتِّل معه ربيون" والدلالة الإعرابية للآية 173. قوله تعالى: "رُبِّيُّون" وضم الراء هنا لغة تميمية 173. قوله تعالى: "فما وَهِنوا" وبابا هذا الفعل 174. قوله تعالى: "أَمْنةً نُعاسًا" وزيادة التاء في كلمات محركة بعد إسكان عينها 174. قوله تعالى: "أو كانوا غُزًا" وثبوت لغتين في الكلمة قد يدعو إلى تجاذبهما 175، حذف تاء التأنيث من بعض الأسماء 175، وانظر ص144. قوله تعالى: "وشاورهم في بعض الأمر" وتلاقي هذه القراءة وقراءة الجماعة 175. قوله تعالى: "فإذا عزمتُ" وتأويل الآية على هذه القراءة 176. قوله تعالى: "يخوِّفكم أولياءَه" والدلالة الإعرابية لهذه القراءة؟ 177. قوله تعالى: "الذين يُسرعون" والفرق بين يسرعون ويسارعون 177. قوله تعالى: "بقُرُبان" وأمثلة من الإتباع 177. سورة النساء: 179-204 قوله تعالى: "تساءلون به والأرحامُ" ووجه استحسان رفع "الأرحام" 179، من أشباه هذا الأسلوب 180. قوله تعالى: "أَلَّا تَقْسِطوا" وشيوع زيادة "لا" 180. قوله تعالى: "ورُبَعَ" وحذف الألف تخفيفًا 181. قوله تعالى: "يورِث كَلالةً" ونقل يورِث ويورِّث من ورث 182. قوله تعالى: "غير مُضَارِ وصيةٍ" وتأويل هذه القراءة 183. قوله تعالى: "وفاحشةٍ مُبِينَةٍ" وأفعال من مادة "بين" 183. قوله تعالى: "وآتيتمُ احداهن قنطارًا"، وانظر ص120. قوله تعالى: "التي أرضعنكم" ووقوع "التي" على الجنس 185.
قوله تعالى: "كتَب لله عليكم" والدلالة الإعرابية لهذه القراءة 185، من خصائص اسم الفاعل 185، الفارسي ينشد في الموصل من يعرف الكلام على دونك 186. قوله تعالى: "فسوف نَصليه نارًا" وكلام على صلي وأصلى 186، اشتقاق الصلاة 187. قوله تعالى: "فالصوالح قَوانتُ حوافظُ للغيب" والتكسير هنا أشبه بالمعنى 187، قد يستعمل جمع التصحيح للدلالة على الكثرة 187، جموع القلة كالجمع بالواو والنون والألف والتاء 188. قوله تعالى: "بما حفِظ اللهَ" وكلام على حذف المضاف 188. قوله تعالى: "ولا تقربوا الصلاة وأنتم سُكْرَى" والرأي في "سكرى" بضم السين وفتحها 188، إيقاع لفظ الفرد على الجماعة وعكسه 189. قوله تعالى: "أو جاء منكم من غَيْط" وتخفيف فيعِل على فَعْل 190، من أمثلة قلب الواو للتخفيف 190. قوله تعالى: "وإذا قيل لهم تعالُوا" وكلام على حذف لام الكلمة تخفيفًا 191. قوله تعالى: "ليقولُنّ" وعود الضمير على معنى "مَنْ" 192. قوله تعالى: "يا ليتني كنت معهم فأفوزُ" والفرق في المعنى بين رفع "فأفوز" ونصبه 192. قوله تعالى: "أينما تكونوا يدركُكُم الموت" وكلام على حذف الفاء من جواب الشرط وهي منوية 193، شدة مشابهة اسم الفاعل للفعل 193. قوله تعالى: "إلى الفتنة رُكِّسوا فيها" ودلالة فعَّل وفعَل على التكسير 194. قوله تعالى: "إلا خَطًا" وكلام على ضعف حذف الهمزة هنا 194. قوله تعالى: "إن الذين تُوَفاهم الملائكةُ" وتأويل الآية على هذه القراءة 194. قوله تعالى: "يجدْ في الأرض مَرْغَمًا" وحذف الزيادة من راغم 195. قوله تعالى: "ثم يدركُه الموت" ووجه شبه الشرط بالابتداء 195، الوقف ونقل الحركة 196، إضمار أن بعد "ثم" 197. قوله تعالى: "أن تكونوا تألمون" وإعراب الآية على هذه القراءة 198. قوله تعالى: "فإنهم يَيْلَمون" وكلام على كسر حرف المضارعة 198.
قوله تعالى: "إلا أُثُنا" وقلب الواو همزة إذا ضمت ضمًّا لازمًا 198، ابن السراج يرى أن أصل فُعُل فُعول في الجمع 199. قوله تعالى: "يَعِدْهم ويُمنِّيهم وما يَعِدْهم" 199، وانظر ص109. قوله تعالى: "في يَيَامَى النساء" وكلام على قلب الهمزة ياء 200، تصريف "أيامى" 200، تكسير فَعْلَى على فَعالَى 201. قوله تعالى: "أن يصَّلِحا" ووجه قلب الطاء صادًا دون العكس 201. قوله تعالى: "وملائكتِه وكتابه" وإطلاق المفرد على جنسه 202، وانظر ص185. قوله تعالى: "يُرَءُّون الناسَ" والفرق بين "يرءُّون" و"يراءُون" 202. قوله تعالى: "مُذَبْذِبين" ومأخذ "مذبذبين" 203. قوله تعالى: "إلا مَن ظَلم" وإعراب الآية 203. قوله تعالى: "والمقيمون" وجربيان الرفع على مقتضى ظاهر الأسلوب 204. قوله تعالى: "وكلَّم اللهَ موسى" والاستشهاد لهذه القراءة من القرآن 204. قوله تعالى: "إن يكونُ له ولد" والمعنى على النفي بإن 204. قوله تعالى: "فيسحْشُرْهم" 204، وانظر ص109، 199. سورة المائدة: 205-222 قوله تعالى: "وأنتم حُرْم" وتسكين عين فُعُل في الجمع لغة تميمية 205، التكرير في الراء الساكنة يجعلها كالمتحركة 205. قوله تعالى: "فِاصطادوا" وانقلاب الألف عن الياء في "فاصطادوا" أذن في إمالتها بعد الظاء 205، حروف الاستعلاء تمنع الإمالة في الاسم دون الفعل 206. قوله تعالى: "ولا يُجْرمنكم شنآن قوم إن يصدوكم" والجزم بإن دون جواب مجزوم أو مقرون بالفاء 206. قوله تعالى: "وأَكِيل السبع" ووجه تذكير أكيل هنا 207.
قوله تعالى: "غير مُتجنِّف" والفرق بين "متجنف" و"متجانف" 207، وانظر ص202. قوله تعالى: "مُكْلِبين" ومعنى الإكلاب 208. قوله تعالى: "برءُوسكم وأرجُلُكم" ووجه رفع "أرجلكم" 208. قوله تعالى: "وعَزَرتموه" والفرق بين عزر وعزَّر 208. قوله تعالى: "قال رجلان من الذين يُخافون" وتخريج "يخافون" من وجهين 208. قوله تعالى: "فطاوعَتْ له نفْسُه" وتأويل هذه القراءة وقراءة "فطوَّعت" 209. قوله تعالى: "فأوارِيْ سَوءَةَ أخي" 209، وانظر ص125، 126. قوله تعالى: "مِنِ اجْلِ ذلك كتبنا" ووجه تخريج هذه القراءة 209. قوله تعالى: "مَن قتل نفسا بغير نفس أو فسادًا في الأرض" وكثرة عمل الفعل المحذوف النصب 210. قوله تعالى: "أفحُكْمُ الجاهلية يَبغون" وتخريج هذه القراءة من وجهين 211، ضروب من الحذف 212، تلاقي هذه القراءة وقراءة الجماعة 213. قوله تعالى: "فيَرَى الذين في قلوبهم مرض" وإضمار الفاعل لدلالة المقام عليه 213. قوله تعالى: "مَثْوَبة عند الله" 213، وانظر ص103، اشتقاق مئونة 214. قوله تعالى: "وعَبَد الطاغوتَ" وتخريج أوجه قراءة الآية 214. قوله تعالى: "والذين هادوا والصابِيُون" وتخريج قراءات الآية 216. قوله تعالى: "ثم عُموا وصُمُّوا" وتخريج هذه القراءة 217. قوله تعالى: "من أوسط ما تطعمون أَهالكيم" وكلام على أهال وليال وأراض 217. قوله تعالى: "أو كإِسْوَتهم" وتأويل الآية على هذه القراءة 218. قوله تعالى: "فجزاءٌ مثلَ ما قَتل" وإعراب الآية 218. قوله تعالى: "يحكم به ذو عَدل" والمراد بـ"ذو" في الآية 219. قوله تعالى: "وحرَّم عليكم صيد البر ما دمتم حَرَما" ووجه تلاقي هذه القراءة وقراءة الجماعة 219.
قوله تعالى: "قَد سِالَها قوم" ووجه الإمالة في "سالها" 219. قوله تعالى: "لا يَضِرُكم مَن ضل" ولغات ضار، ووجه الجزم في الآية 220. قوله تعالى: "يأيها الذين آمنوا شهادةٌ بينكم" وإعراب "شهادة" رفعًا ونصبًا 220. قوله تعالى: "ولا نكتم شهادةً آللهِ" وتخريج أوجه قراءة الآية 221، حذف حرف القسم مع التعويض منه وبدونه 221. سورة الأنعام: 223-239 قوله تعالى: "وهم لا يُفْرِطون" والفرق بين أَفرط وفرَّط 223. قوله تعالى: "لأبيه آزَرُ" وتأويل أوجه قراءة الآية 223. قوله تعالى: "قَنْوانٌ دَانية" وتخريج هذه القراءة 223. قوله تعالى: "وخَلْقَهم وحَرَّفوا له" وتأويل الآية على هذه القراءة 224. قوله تعالى: "ولم يَكُن له صاحبةٌ" وتخريج "يكن" بالياء من ثلاثة أوجه 224، تذكير كان وأخواتها مع الاسم المؤنث أسهل من تذكير غيرها مع الفاعل المؤنث ووجه ذلك 225. قوله تعالى: "ولِيقولوا دُرِسَت" وتفسير الآية في قراءاتها الثلاث 225. قوله تعالى: "فيسُبوا الله عُدُوًّا" ومصادر من مادة العدوان 226. قوله تعالى: "ويَذرْهم" وتسكين الفعل للتخفيف 227، وانظر ص109، 123، بين "يذرْهم" و"يُشعرْكم" 227. قوله تعالى: "وقد فَصَل لكم" ومعنى الآية على هذه القراءة 227. قوله تعالى: "ولْتَصغى، ولْيَرْضَوه، ولْيَقْتَرفوا" وشذوذ إسكان لام التعليل 227، سبب تحريك لام التعليل وإسكان لام الأمر 228. قوله تعالى: "إن ربك هو أعلم من يُضل" وسبب امتناع أن تكون "مَن" مضافًا إليه 228، جواز أن تكن "مَن" مبتدأ 229. قوله تعالى: "وكذلك زُين لكثير من المشركين قتلُ أولادهم شركاؤهم" ووجه ارتفاع "قتل" بفعل مضمر لا بالفعل المذكور 229، وجه آخر لرفع "قتل" 230.
قوله تعالى: "ولِيلبَسوا عليهم دينَهم" ومعنى الآية على هذه القراءة 231، جواز الاحتجاج بالمحدث في المعاني 231. قوله تعالى: "وحَرْث حِرْج" والتقاء الحِجر والحِرج 231. قوله تعالى: "خالصةً لذكورنا" وإعراب الآية 233، رأي في إجازة تقدم الحال على عاملها حين يكون معنى إذا تقدم صاحب الحال عليها 233. قوله تعالى: "ولا تتَّبعوا خُطُؤات الشيطان" ومعنى الآية 233، بين الْخَطوة والْخُطوة 233، وانظر ص117. قوله تعالى: "من الضأَن" وهل "الضأن" لغة في "الضأْن" أو أن التحريك لحرف الحلق؟ 234، وانظر ص167. قوله تعالى: "تمامًا على الذي أحسنُ" ووجه ضعف حذف العائد المرفوع 235. قوله تعالى: "ممن كذَب بآيات الله" ووجه ذكر الباء بعد كذب 235. قوله تعالى: "يومُ يأتي بعض آيات ربك" وإعراب الآية مع عرض نظائر لأسلوبها 236. قوله تعالى: "لا تَنْفع نفسًا إيمانها" وكلام عن تأنيث الفعل لفاعله المذكر حين يضاف إلى مؤنث 236، 237. قوله تعالى: "الذين فَرَقوا دينَهم" ومجيء فعَل بمعنى فعَّل 238، الفعل موضوع لاستغراق جنسه 238. سورة الأعراف: 240-271 قوله تعالى: "ثم قلنا للملائكةُ اسجدوا لآدم" وضعف هذه القراءة من وجهين 240، مناقشة دعوى الفراء أن فتح "ميم" من "الم الله" إنما هو لالتقاء حركة همزة لفظ الجلالة على ميم "ميم" 240، بين قراءة "بما أُنزِلَّيك" وقراءة "لكنا هو الله ربي" 242، من شواذ النقل 242. قوله تعالى: "مَذُومًا مدحورًا" وتخفيف "مذومًا" 243، وجه امتناع كونه من ذام يذيم 243.
قوله تعالى: "مِن سوَّاتهما" وضعف تخفيف السوءة على السوَّة 243. قوله تعالى: "هذه الشجرة" وانقلاب ياء "ذي" عن هاء "ذه" 244، بين ياء "هذهي" وياء "بهي" 244. قوله تعالى: "يُخْصفان عليهما" وتخريج قراءات الآية 245. قوله تعالى: "ورياشًا" وأصل "رياشا" 246. قوله تعالى: "فإذا جاء آجالهم" وظهور المعنى على الجمع 246، تأويل قراءة "أَجلهم" على إرادة الجنس بالأجل 246. قوله تعالى: "إما تأتينكم رسل منكم" وتذكير "تأتينكم" هنا أشبه 247. قوله تعالى: "حتى إذا إِدَّاركوا" والتماس وجه لقطع همزة "إِدَّاركوا" 247، كثرة همزات القطع في الأسماء أجرت الألسنة بقطع همزات الوصل فيها 248، لغات لاهاالله 248. قوله تعالى: "حتى يلجَ الْجُمَّل" وتخريج قراءات الآية الخمس 249. قوله تعالى: " لا ينالهم الله برحمة دَخلوا الجنة" تفسير الآية على قراءتيها 250، تأييد تأويل سيبويه لأحد شواهده 250. قوله تعالى: "فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نردَّ" وتفسير هذه الآية، وآية: "يا ليتنا نرد ولا نكذبُ" 252. قوله تعالى: "يَغْشَى الليلَ النهارُ" إعراب الآية على هذه القراءة ووجه التقائها هي والقراءة الأخرى 254. قوله تعالى: "يرسل الرياح نُشْرًا" معنى الآية على قراءاتها الخمس 255، وجه تسمية ما يفرح بالبشارة 256. قوله تعالى: "ويذرَك وإلاهتَك" ومعنى "إلاهتك" 256، تخريج قراءات "ويذرك" 257. قوله تعالى: "إنما طيركم عند الله" واعتبار الطير جمعًا عند أبي الحسن، واسم جمع عند سيبويه 257. قوله تعالى: "فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقَمْل" 257.
قوله تعالى: "سأُوريكم دار الفاسقين" وإشباع ضمة "سأريكم" 258، شواهد للإشباع من الشعر والنثر 258. قوله تعالى: "فلا تَشْمتْ بيَ الأعداءُ" وتخريجها 259. قوله تعالى: "هِدْنا إليك" ومعنى "هِدْنَا" و"هُدْنا" 260. قوله تعالى: "يتَّبعون الرسول النبي الأَمِّي" تخريجها وأمثلة من تغييرات النسب 260. قوله تعالى: "أصيب به من أَساء" ودلالة هذه القراءة على عدل الله أكثر من دلالة قراءة الجماعة 261. قوله تعالى: "آمنوا به وعزَروه" والفرق بين عزَر بالتخفيف وعزَّر بالتشديد 261. قوله تعالى: " فانبجست منه اثنتا عِشَرة" وتحريك ثاني الثلاثي المضموم الأول أو المكسور لغة الحجازيين وتسكينه لغة التميميين 261، سر مخالفة كلٍّ لغته في عشرة 261، التغيير الذي لحق أينق وتَقَى 262، ضم أسماء العدد بعضها إلى بعض داع التغيير فيها 263. قوله تعالى: "وقولوا حِطَّةً" وانتصاب "حطة" على المصدر لا بـ"قولوا" 264. قوله تعالى: "يَعَدّون في السبت} وتصريف "يعدون" 264. قوله تعالى: "بعذاب بِيسٍ" وتخريج قراءات الآية 264. قوله تعالى: "من ظهورهم ذُرِّيئتهم" ودلالة هذه القراءة على أن "ذرية" بلا همز مأخوذة من ذرأ 267. قوله تعالى: "وادَّارَسوا ما فيه" ومشابهة "ادارسوا" لـ"اداركوا" 267، وانظر ص247. قوله تعالى: "إِيَّان مُرْساها" ووجه جعل "إيان" من أي لا من أين 268. قوله تعالى: "كأنك حَفيٌّ بها" وإظهار هذه القراءة لما قدره أبو الحسن في قراءة الجماعة 269. قوله تعالى: "فمَرَت به" وأمثلة من الحذف والتخفيف 269، تلاقي هذه القراءة والقراءتين الأخريين 270. قوله تعالى: "إن الذين تدعون من دون الله عبادًا أمثالكم" وإعمال "إن" هنا إعمال ما 270، تأويل قراءة الجماعة لئلا تتخالف القراءتان 270. قوله تعالى: "بالغدو والإِيصال"، وأخذ الإيصال من آصلنا 271.
سورة الأنفال: 272-282 قوله تعالى: "يسألونك الأنفال" وإصراح هذه القراءة بالتماس الأنفال 272، لا يحسن تخريجها على حذف الجار 272. قوله تعالى: "وإذ يعدْكم الله" وتسكين الدال تخفيفًا 273، وانظر ص109. قوله تعالى: "بألف من الملائكة مُرَدِّفين" وتحليل "مردفين" 273. قوله تعالى: "أَمْنةً نُعاسًا" والمفتوح لا يخفف بالتسكين 274. قوله تعالى: "مَا ليُطهِّركم به" و"ما" هنا موصولة 274، بين اللام في قراءة الجماعة واللام في هذه القراءة 274، تلاقي القراءتين 275. قوله تعالى: "رِجْسَ الشيطان" وتلاقي هذه القراءة وقراءة: "رجز الشيطان" لتزاحم السين والزاي 275. قوله تعالى: "بين الْمَرِّ وقلبه" وتحليل "المر" 276. قوله تعالى: "لَتُصِيبَنَّ الذين ظلموا" وتخالف هذه القراءة وقراءة الجماعة في ظاهر الأمر 277، السبيل إلى تلاقيهما 277، أمثلة من حذف الألف آخرًا 277. قوله تعالى: "وما كان صلاتَهم عند البيت إلا مكاءٌ" وضعف كون اسم كان نكرة وخبرها معرفة 278، تنكير الجنس يفيد مفاد المعرفة 279. قوله تعالى: "فشرِّذْ بهم" وحلول الذال محل الدال؛ إذ كان مجهورين 280. قوله تعالى: "فاجنُح لها" وورود "يجنُح" في لغة 280، الضم في غير المتعدي أقيس 281. قوله تعالى: "واللهُ يريد الآخرةِ" وتقدير المضاف مع شواهد له 281. سورة التوبة: 283-306 قوله تعالى: "براءةٌ مِنِ الله" والكسر للساكنين 283. قوله تعالى: "ثم لم ينقضوكم" والكناية بالنقض عن النقص 283. قوله تعالى: "إِيلًا ولا ذمة" وقلب اللام ياء مع نظائر لهذا القلب 283.
قوله تعالى: "ويذهب غيظ قلوبهم ويتوبَ الله" وتخريج "يتوب" بالنصب 285. قوله تعالى: "أجعلتم سُقاة الحاجِّ وعَمَرة المسجد" وتخريج هذه القراءة وقراءة "سُقاية" 285. قوله تعالى: "وإن خفتم عائلة" وبعض ما جاء من المصادر على فاعلة 287. قوله تعالى: "إنما النَّسْيُ" وأوجه تحليل "النسي" 287. قوله تعالى: "يَضَل به الذين كفروا" وكسر الضاد أفصح من فتحها 288، تأويل قراءة "يُضَل" 289. قوله تعالى: "ثانِيْ اثنين" وتسكين الياء تشبيهًا لها بالألف مع شواهد لذلك 289، إعراب "إذ هما في الغار" 291. قوله تعالى: "لَوُ استطعنا" وتشبيه واو "لو" الجماعة 292. قوله تعالى: "لأعدوا له عُدَّهُ" ووجه حذف تاء "عُدَّته" 292. قوله تعالى: "لأرقصوا خلالكم" ووجه تلاقي هذه القراءة وقراءة "لأوضعوا" 293. قوله تعالى: "قل لن يصيِّبنا" وتحليل "يصيبنا" 294. قوله تعالى: "أو مَغارات" وجواز جمع مذكر ما لا يعقل جمع مؤنث سالمًا 295. قوله تعالى: "أو مُدْخَلا" وتفسير "مدخلا" 295. قوله تعالى: "لَوَلَّوا إليه وهم يجمزون" والرجوع بالقراءات إلى الرسول عليه السلام 296، تعدد روايات الشعر غير تعدد القراءات 297. قوله تعالى: "لَوَالَوا إليه" وبعض ما يتعاقب فيه فاعَل وفعَّل 298. قوله تعالى: "إن تُعفَ عن طائفة" والحمل على المعنى في تأنيث "تُعف" 298. قوله تعالى: "فاقعدوا مع الخَلِفين" وقصر "الخلفين" من الخالفين 298. قوله تعالى: "من المهاجرين والأنصارُ" وتخريج هذه القراءة 300. قوله تعالى: "صدقةً تُطْهِركم" ووجه رجحان التشديد 301. قوله تعالى: "أَحقُّ أن تقوم فيه فيهُ" وجواز ضم الهاء بعد الكسر وبعد الياء 301، وجه كسر هاء "فيه" الأولى وضم هاء الآخرة 301، من دلائل تجنبهم التكرار 302.
قوله تعالى: "أفمن أَسَسُ بُنيانِه" ولغات الأس وجموعه 303. قوله تعالى: "على تقوًى من الله" ووجه التنوين 304، ابن جني ينقد سيبويه لتوقفه في تنوين "تقوى" 304. قوله تعالى: "التائبين العابدين" ووجه قراءتي الرفع وخلافه 304. قوله تعالى: "وما يستغفر إبراهيم لأبيه" وشيوع حكاية الحال 305. قوله تعالى: "الذين خَلَفوا" وتلاقي هذه القراءة وقراءة "خالفوا" 305. قوله تعالى: "لقد جاءكم رسول من أنفَسكم" واشتقاق النفاسة 306. سورة يونس: 307-317 قوله تعالى: "وعْدَ الله حقًّا أنه" وتخريج فتح "أنه" 307. قوله تعالى: "أنَّ الحمدَ لله" والدلالة الإعرابية لهذه القراءة 308. قوله تعالى: "لِنَظُّرَ كيف تعملون" وإخفاء النون في الظاء 309. قوله تعالى: "ولا أدرأتكم به" وتصريف "أدرأتكم" 309. قوله تعالى: "حتى إذا كنتم في الفُلْكِيِّ" وزيادة ياء النسب فيما لا يحتاج إليها 301. قوله تعالى: "وأَزْينت" وكلام عن همزة الصيرورة 311، تخريج "ازيأَنَّت" 312. قوله تعالى: "كأن لم تَتَغنَّ بالأمس" ونظائر لهذا الوزن 312. قوله تعالى: "بسورةِ مثلِهِ" وإقامة الصفة مقام الموصوف 312. قوله تعالى: "آلحقُّ هو" وتساوي الجنس معرفة ونكرة 312. قوله تعالى: "فبذلك فلتفرحوا" وأصالة الامر باللام 313، لِمَ كان أمر الحاضر أكثر؟ 313، ضمير الحاضر أقوى من ضمير الغائب 314. قوله تعالى: "فأَجْمِعوا أمركم وشركاؤكم" وإعراب الآية على هذه القراءة 314. قوله تعالى: "ثم أَفْضُوا إليَّ" وتفسير الآية على هذه القراءة 315.
قوله تعالى: "إن هذه لساحر مبين" وتعيين المشار إليه 316. قوله تعالى: "فاليوم نُنَحيك" وتصريف نحا وبيان استعمال نحو 316. سورة هود: 318-331 قوله تعالى: "ثم فَصَلَت" وتفسير الآية على هذه القراءة 318. قوله تعالى: "تَثْنَوْني صدورُهم" وتخريج قراءات الآية 318، دلالة افعوعل على الكثرة 319، رأي في همزة مصائب 320. قوله تعالى: "وباطلًا ما كانوا يعملون" ودلالته النحوية 320. قوله تعالى: "فأكثرتَ جَدَلَنا" واشتقاق الجدل 321، من أمثلة تلاقي المعاني لتقارب الحروف 322. قوله تعالى: "ونادى نوح ابنَهَ" وتخريج قراءات الآية 322، أزد السراة وتسكين الهاء 323. قوله تعالى: "على الْجُوديْ" وتخفيف ياء النسب 323. قوله تعالى: "فصحَكتْ" ومعنى "فضحكتْ 323، المراد بضحك الضبع 324. قوله تعالى: "وهذا بعلي شيخ" وإعراب الآية 324، رأي الكسائي في اشتمال خبر المبتدأ على ضمير وإن كان جامدًا 325. قوله تعالى: "هن أطهرَ لكم" ووجه ضعف مثل هذا الأسلوب عند سيبويه 325، ابن جني يخرج هذا الأسلوب بما يبعده عن الضعف 326. قوله تعالى: "أو آويَ" ومنع ابن مجاهد نصب "آوي" ورد ابن جني عليه 326. قوله تعالى: "لا يُجرِمنَّكم" ومعنى جرم وأجرم 327. قوله تعالى: "كما بَعُدت ثمود" والفرق بين بعُد وبعِد 327. قوله تعالى: "لَمَّا ليوفينَّهم" وتفسير الآية على هذه القراءة وقراءة أخرى 328، زيادة إلا 328.
قوله تعالى: "ولا تَرْكُنوا" وتداخل اللغات 329، بين ضَفَن وضيفَنَ في الاشتقاق 329. قوله تعالى: "فتِمَسَّكم النار" وكسر أول المضارع إذا كان ثاني ماضيه مكسورًا لغة تميمية 330. قوله تعالى: "وزُلُفًا من الليل" ومفرد "الزلف" 320، إجازة أن يكون "الضرب" ونحوه جمع ضربة 330. قوله تعالى: "وأُتْبع الذين ظلموا" وتأويل الآية على هذه القراءة 331. سورة يوسف: 323-350 قوله تعالى: "أَحَدَ عْشَرَ كوكبًا" وجريان الاسمين المركبين مجرى الاسم الواحد 332. قوله تعالى: "في غَيَّابات الجب" وأمثلة لما جاء على فَعَّال 333. قوله تعالى: "يَرْتَعِ ويلعبُ" ووجه رفع "يلعب" 333، عذوبة حذف المفعول 333، مما قيل في مدح الحديث 334. قوله تعالى: "وجاءوا اباهم عُشًا يبكون" وحذف التاء للتخفيف 335. قوله تعالى: "بدَمٍ كدِب" ومعنى الكدب 335. قوله تعالى: "يا بُشْرَيّ" وشيوع قلب الألف ياء لوقوع ياء المتكلم بعدها 336. قوله تعالى: "هِئت لك" وبقية لغات "هئت" ومعناها في كل لغة 337. قوله تعالى: "من قُبُلُ" و"من دُبُرُ" ومشابهة "قبل" و"دبر" لقَبل وبَعد 338. قوله تعالى: "قد شَعَفَها" ومعنى الآية على هذه القراءة والقراءة الأخرى 339. قوله تعالى: "واعتدت لهن مُتَّكًا" وتخريج هذه القراءة والقراءتين الأخريين 339، إشباع الفتح مختص بضرورة الشعر 340. قوله تعالى: "حاشا لِله" وبقية قراءات "حاشا" 341، تخريج حذف الفتحة مع الألف من "حاشا" 341، تخريج دخول حرف الجر على لفظ الجلالة بعد "حاشا" 342. قوله تعالى: "ما هذا بِشِرًى" ومعنى الآية على هذه القراءة 342.
قوله تعالى: "عَتَّى حين" وتعاقب العين والحاء 343، عمر يكتب إلى ابن مسعود أن يقرئ بلغة قريش 343. قوله تعالى: "إني أراني أعصر عنبًا" واعتبار ما يكون في قراءة الجماعة 344. قوله تعالى: "فيُسقَى ربُّه خمرًا" ومقابلة "فيسقى" لقوله "فيصلب" 344. قوله تعالى: "وادَّكر بعد أَمهٍ" ومعنى "أَمهٍ" و"إِمة" 344. قوله تعالى: "وفيه يُعصَرون" واشتقاق "يعصرون" 344. قوله تعالى: "رِدَّت إلينا" وأوجه فُعِل المضعف والمعتل العين 345، قولهم: ضِرْب في نحو ضُرِب 346. قوله تعالى: "صَوْعَ الملك" ولغات الصاع 346. قوله تعالى: "وفوق كل ذي عالم عليم" والأوجه التي يحتملها تخريج هذه القراءة 346، إضافة المسمى إلى الاسم 347، زيادة "ذي" 347. قوله تعالى: "ثم استخرجه من وُعاءِ أخيه" وقلب الواو همزة 348، أصالة همزة أحد 348. قوله تعالى: "من رُوح الله" وتأويل هذه القراءة 348. قوله تعالى: "أئنك أو أنت يوسف؟ " وحذف خبر إن 349. قوله تعالى: "قد آتيتنِ من الملك وعَلَّمتنِ" وحذف الياء للتخفيف 349. قوله تعالى: "ولكنْ تصديقُ الذي بين يديه وتفصيلُ كل شيء وهدى ورحمةٌ" وحذف المبتدأ في الآية 350. سورة الرعد: 351-358 قوله تعالى: "صَنْوان" وبقية قراءات الآية 351، "صُنوان" لغة تميم وقيس و"صِنْون" لغة الحجازيين 351، تكسير فِعْل على فِعْلان 351، اتفاق اللفظين في الحركات مع الاختلاف في التقديرات 352. قوله تعالى: "خلت من قبلهم الْمَثْلات" وتخريج قراءات الآية 353.
قوله تعالى: "له مَعاقيبُ بين يديه" وزيادة الياء في مثل هذا الجمع للتعويض 355. قوله تعالى: "يحفظونه بأمر الله" وحذف المفعول 355، بين هذه القراءة وقراءة الجماعة 355. قوله تعالى: "بالغدو والإِيصال" ومعنى الإيصال 356. قوله تعالى: "فنَعْم عقبى الدار" ولغات فَعِل إذا كان ثانيه حرف حلق 356، نَعِيم لغة في نَعِم 357. قوله تعالى: "أفلم يتبين الذين آمنوا" وتفسير هذه القراءة لقراءة الجماعة 357، استعمال ييئس بمعنى يعلم في لغة وهبيل من النخع 357. قوله تعالى: "ومِن عِنْدِه علمُ الكتاب" وإعراب الآية في قراءاتها الثلاث 358. سورة إبراهيم: 359-367 قوله تعالى: "بِلِسْنِ قومه" واستعمال اللسن واللسان بمعنى اللغة 359. قوله تعالى: "فلِيَتَوكلِ المؤمنون" وأصالة الكسر في لام الأمر 359. قوله تعالى: "واستفتِحوا" ومعنى الاستفتاح وبعض مشتقاته 359. قوله تعالى: "في يومِ عاصفٍ" وإقامة الصفة مقام الموصوف 360. قوله تعالى: "ألم تَرْ أن الله" وضعف حذف الفتحة بعد حذف الألف للجازم 360، من نصوص حذف الكسرة بعد حذف الياء 360. قوله تعالى: "وأُدْخِلُ الذين آمنوا" وتأويل الآية على هذه القراءة 361. قوله تعالى: "كشجرةٍ طيبةٍ ثابتٍ أصلُها" ووجه قوة قراءة الجماعة في معناها 362. قوله تعالى: "من كلٍّ ما سألتموه" وإعراب الآية على هذه القراءة وقراءة الجماعة 363. قوله تعالى: " وأَجْنِبْنِي وَبَنِيّ" ومعنى جنبت وأجنبت 363. قوله تعالى: "تَهْوَى أليهم" والتقاء هوِيت الشيء وهوَى الشيء 363، وجه تعدية "تَهوِي" بإلى 364.
قوله تعالى: "اغفر لي ولوُلْدِي" ومجيء الوُلْد واحدًا وجمعًا 364. قوله تعالى: "وإن كاد مكرهم لَتَزُولَ" وإعراب الآية على هذه القراءة 365. قوله تعالى: "سرابيلهم من قِطْران" ولغات "قطران" 366. قوله تعالى: "ولِيَنْذَروا به" وهجر العرب مصدر نَذِرت بالشيء 367.
المجلد الثاني
المجلد الثاني سورة الحجر ... سورة الحجر: بسم الله الرحمن الرحيم قرأ الزهري – بخلاف: "سَكِرَتْ1". قال أبو الفتح: أي جرت مجرى السكران في عدم تحصيله، فلذلك قال: "سَكِرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ". والسُّكْر عندنا من سَكْر العربة2 ونحوها. وذلك أنه يعترض على الماء، ويسد عليه مذهبه ومتسربه، وكذلك حال السكران في وقوف فكره، والاعتراض عليه بما ينغصه3 ويحيره؛ فلا يجد مذهبا، وينكفئ مضطربا. ومن ذلك قراءة أبي رجاء وابن سيرين وقيس بن عبادة4 وقتادة والضحاك ويعقوب وابن شرف ومجاهد وحميد وعمرو بن ميمون5 وعمارة بن أبي حفصة6: "صِرَاطٌ عَلِيٌّ مُسْتَقِيمٌ7" قال أبو الفتح: "عَلِيٌّ" –هنا- كقولهم: كريم، وشريف. وليس المراد به علو الشخوص والنصبة8. قال أبو الحسن9 في قراءة الجماعة: {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} : هو كقولك:
الدلالة اليوم عَلَيَّ، أي: هذا صراط في ذمتي وتحت ضماني، كقولك: صحة هذا المال عَلَيَّ، وتوفية عِدَتِهِ عَلَيَّ. وليس معناه عنده أنه مستقيم عَلَيَّ، كقولنا: قد استقام عَلَيَّ الطريق، واستقر عَلَيَّ كذا. وما أحسن ما ذهب إليه أبو الحسن فيه! ومن ذلك قراءة الزهري: "لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزٌّ مَقْسُومٌ1". قال أبو الفتح: هذه لغة مصنوعة، وليست على أصل الوضع. وأصلها "جُزْء" فُعْل من جزأْت الشيء، وهو قراءة الجماعة إلا أنه خفف الهمزة، فصارت "جُزُ"، لأنه حذفها وألقى حركتها على الزاي قبلها، ثم إنه نوى الوقف على لغة من شدد نحو ذلك في الوقف، فقال: هذا خالدّ وهو يجعلّ، فصارت في الوقف "جُزّ"، ثم أطلق وهو يريد نية الوقف وأقر2 التشديد بحاله فقال: "جُزّ" كما قالوا في الوصل: سبسبّا، وكلكلّا3. وقد أنشدنا شواهد نحو ذلك فيما مضى. ومثله الخبّ فيمن وقف عليه بالتشديد، ويريد تخفيف الخبْء4، وهو مشروح في باب الهمز؟ ومن ذلك قراءة الحسن: "لَا تُوجَلْ"5. قال أبو الفتح: هذا منقول من وَجِلَ يَوْجَلُ، وَجِل وأَوْجَلْتُه، كفَزِعَ وأَفْزَعَتُه، وَرَهِبَ وأَرْهَبْتُه. ومن ذلك قراءة يحيى والأعمش وطلحة بن مصرف، ورويت عن أبي عمرو: "من القَنِطِين6" قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون في الأصل "القانِطِين" كقراءة الجماعة؛ إلا أن العرب قد تحذف ألف فاعل في نحو هذا تخفيفا.
قال الراجز: أصبح قلبي صردا ... لا يشتهي أن يردا إلا عرادا عردا ... وصليانا بردا وعنكثا ملتبدا1 يريد عاردا وباردا، فحذف الألف تخفيفا. ألا ترى أن أبا النجم قال: كأنَّ في الفرش القتادَ العارِدا1 أي القوي الخشن، وقد ذكرنا نحو هذا. وقد يجوز في "الْقَنِطِينَ" غير هذا، وذلك أنهم قد قالوا: قَنِطَ يقنَطُ، فقد يكون "الْقَنِطِينَ" من قَنِطَ يقنَطُ هذه، ويكون القانِطُون من قَنَطَ. ومن ذلك قراءة الأشهب: "ومَن يقنُطُ2"، بضم النون. قال أبو الفتح: فيه لغات: قَنَطَ يقنِطُ، وقَنِطَ يقنَطُ، وقَنَطَ يقنُطُ. وقد حكيت أيضا: قَنَطَ يقنَطُ، ومثله من فعَل يفعَل: ركَن يركَن، وأبي يأَبى، وغسَا3 الليل يغسَا، وجبَا4 يجبَا، وقالوا: عَضَضْتَ تعضُّ. قال ابن يحيى: قد قالوا في شمِمتُ وصبِبتُ ونحوه بفتح الثاني هربًا من الكسر5 من التضعيف. ومن ذلك قراءة الحسن "يَنْحَتُونَ6"؛ بفتح الحاء. قال أبو الفتح: أجود اللغتين نَحَتَ ينحِت، بكسر الحاء، وفتحها لأجل حرف الحلق الذي فيها، كسَحَرَ يسحَر. وينبغي أن ينظر إلى ما أورده ليكون إلى نحوه طريقًا وسُلَّمًا.
اعلم أن العرب تقارب بين الألفاظ والمعاني إذ كانت عليها أدلة، وبها محيطة. فمن ذلك ما نحن عليه، وهو نَحَتَ ينحِتُ، والتاء أخت الطاء، وقد قالوا: نَحَطَ ينحِطُ، إذا زفر في بكائه، فكأن ذلك الضغط الذي يصحَب الصوت ينال من آلة النفس، ويحتها ويسفنها1؛ فيكون كالنحت لما ينحت. لأنه تحيُّفٌ له وأخذ منه. ونحو من ذلك [89ظ] قولهم في تركيب ع ص ر: ع س ر: ع ز ر. فالعصر شدة تلحق المعصور. والعسر شدة الخلق والتعزير للضرب، وذلك شدة لا محالة؛ فالشدة جامعة لأحرف الثلاثة. ومنه تركيب ج ب ر، ج ب ل، ج ب ن، المعنى الجامع لها اجتماع الأجزاء وتراجعها. من ذلك جبرت العظم، أي: وصلت ما تفرق من أجزائه، ومنه الجبل لاجتماع أجزائه، ومنه جبن الإنسان، أي: تراجع بعضه إلى بعض واجتمع. وإنما نبذت هنا طرفا من هذا الأمر تنبيها على أمثاله، حتى إذا هي اجتازت بك أحسست بها، ولم تطوك غير حافل بمعانيها وأوضاعها. ومن ذلك قراءة مالك بن دينار والجحدري والأعمش: "إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الخَالِقُ2". قال أبو الفتح: في هذه القراءة دليل على أن فعَل الخفيفة فيها معنى الكثرة كفعَّل الثقيلة، ألا ترى إلى قراءة الجماعة: "الخلاق"؟ وهذا للكثرة لا محالة. نعم، وقد قرن به العليم، وفعيل للكثرة. وكأن الخلاق الموضوع للكثرة أشبه بعليم؛ لأنه موضوع لها، فلولا أن في خلق معنى الكثرة لما عبر لخالق عن معنى خلاق. ومنه قوله: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْب3} . ألا تراها في معنى غفار وقبال؟ وعليه ما أنشده أبو الحسن: أنت الفداء لقبلة هدمتها ... ونقرتها بيديك كل منقر4 فوضع "نقرت" موضع نفرت، وعليه جاء بالمصدرن فقال: كل منقر. وعلة هذا هو ما تعلم من وقع المصدر دالا على الجنس، وإذا أفضت بك الحال إلى عموم الجنسية فقد اغترقت5 وتجاوزت حد الشياع والكثرة.
سورة النحل 1: بسم الله الرحمن الرحيم2 قرأ الزهري "دِفُ3". بغير همز. قال أبو الفتح: هذه القراءة أقيس من قراءته الأخرى التي هو قول الله عز وجل: "جُزْءٌ مَقْسُومٌ4"، بتشديد الزاي. وذلك أنه هنا خفف لا غير. فحذفت الهمزة وألقى حركتها على الفاء قبلها. كقولك في مسألة: مسلة. وفي يلوم: يلم، وفي يزئر يزر. فكان قياس هذا أن يقول: "جُزٌّ مَقْسُومٌ"، إلا أنه سلك في كل من القراءتين طريقا إحداهما أقوى من الأخرى. ومن ذلك قراءة أبي جعفر وعمرو بن ميمون وابن أرقم، ورويت عن أبي عمرو: "بِشَقِّ الْأَنْفُس5"، بفتح الشين. قال أبو الفتح: الشَقّ، بفتح الشين بمعنى الشِقّ بكسرها وكلاهما المشقة6، قرأت على أبي علي في نوادر أبي زيد لعمرو بن مِلْقَط . وهو جاهليي: والخيل قد تجشم أربابها الشَّـ ... ـقّ وقد تعتسف الراوية7 هكذا الرواية بفتح الشين، وكلاهما من الشَّق في العصا ونحوها؛ لأنه آخذ منها وواصل إليها. كالمشقة التي تلحق الإنسان.
ومن ذلك قراءة أبي عياض "لِتَرْكَبُوهَا زِينَةً1"؛ بل واو. قال أبو الفتح: لك في نصب "زِينَةً" وجهان: إن شئت كان معلقا بما قبله، أي: خلقها زينة لتركبوها، وإن شئت كان على قولك: لتركبوها زينة، فزينة هنا حال من "ها" في "لتركبوها"، ومعناه: كقوله تعالى {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ} . ومن ذلك قراءة [90و] الحسن: "وَبِالنُّجُمِ هُمْ يَهْتَدُون2"، وقرأ يحيى: "وبالنُّجْم" بضم النون ساكنة الجيم. قال أبو الفتح: النُّجُم جمع نَجْم، ومثله مما كسر من فَعْل على فُعُل: سَقْف وسُقُف، ورَهْن ورُهُن، ونحوه ثَطٌّ3 وثُطٌّ. وقال أبو حاتم: سمعت أبا زيد يقول: رجل أَثَطُّ، فقلت له: أتقولها؟ فقال: سعتها -وكَثُّ اللحية وكُثُّ، وفرس وَرْد4 وخيل وُرْد، وسهم حَشْر5 وسهام حُشْر. وإن شئت قلت: أراد النجوم، فقصر الكلمة فحذف واوها، فقال: النُجُم. ومثله من المقصور من فُعُول قول أبي بكر في أُسد: إنه مقصور من أُسُود فصار أُسُد، ثم أسكن فقال6: أُسْد7. ومثله قوله أيضا في ثِيرَةٍ جمع ثَوْر: إنه مقصور من ثِيَارَة؛ فلذلك وجب عنده قلب الواو من ثور ياء، ولو كان مُكُسّرًا على فِعَلَة لوجب تصحيحه فقيل: ثِوَرَة، كزَوْج وزِوَجَة وعَوْد وعِوَدَة. وقال الراجز: إن الفقير بيننا قاضٍ حَكَم ... أن ترد الماء إذا غابَ النُّجُم7 يريد النجوم. وقال الأخطل: كلمعِ أيْدِي مثاكِيل مسلَّبَةٍ ... يندُبْنَ ضرسَ بناتِ الدهْرِ والخُطُب7 يريد الخطوب. وقد ذكرنا نحو هذا فيما مضى.
وعليه أيضا قراءة يحيى: "وبالنُّجْم" ساكنة الجيم، كأنه مخفف من النُّجْم كلغة تميم في قولهم: رسْل، وكتْب. ومن ذلك قراءة السلمى: "إيَّانَ يُبْعَثُون1". قال أبو الفتح: فيه لغتان: أيان، وإيان، بالفتح والكسر وقد مضى فيما قبل2. ومن ذلك قراءة مجاهد: "فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السُّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ3"، و"لِبُيُوتِهِمْ سُقْفًا4". قال أبو الفتح: الذي قلناه آنفا5 في "النُّجْم" هو شرح لهذه القراءة. ومن ذلك قراءة الحسن وإبراهيم وابن خيرة: "إِنْ تَحْرَصْ"، بفتح الراء. قال أبو الفتح: فيه لغتان: حَرَصَ يحرِص وهي أعلاهما، وحرِصْتُ أحرَص. وكلاهما من معنى السحابة الحارصة، وهي التي تقشِر وجه الأرض. وشجة حارصة: التي تقشِر جلدة الرأس، فكذلك الحرص، كأنه ينال صاحبه من نفسه لشدة اهتمامه بما هو حريص عليه، حتى يكاد يحُت7 مستَقَر فكره. ومن ذلك قراءة الناس: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً 8} بالباء، وروي عن علي "عليه السلام": "لَنُثْوِيَنَّهُمْ"، بالثاء. قال أبو الفتح: نصب الحسنة هنا أي: يحسن إليهم إحسانا، وضع حسنة موضع إحسان، كأنه واحد من الحَسَن دال عليه، ودل قوله تعالى: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ} على ذلك الفعل؛ لأنه إذا
أقرهم في الأرض بإطالة مدتهم ومدة خلفهم فقد أحسن إليهم، كما قال سبحانه: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ1} ، وذلك ضدُّ ما يعمل بالعاصين الذين يسحَتُ2 أعمارهم، ويصطلِمُهُم بذنوبهم وجرائم أفعالهم. ومن ذلك قراءة الثقفي3: "تَتَفَيَّأُ ظُلَلَهُ4"، وقراءة الناس: {ظِلالُهُ} . قال أبو الفتح: الظُلَلُ: جمع ظُلّة، كحِلّة وحُلَلَ، وجِلّة وجُلَل. وقد يكون ظِلال جمع ظُلَة أيضا، كجُلَة وجِلال. وقالوا أيضا: حُلّة وحِلال، بالحاء غير معجمة. وقد يكون ظِلال جمع ظِلّ، كشِعْب وشِعاب، وبِئْر وبِئار، وذِئب وذِئاب. ومن ذلك قراءة الزهري: "تَجَرُون5"، بغير همز. قال أبو الفتح: هذا في قوة القياس كقراءته أيضا6 [90ظ] : "لَكُمْ فِيهَا دِف7"، وأصله "تَجْأَرُون"؛ فخفف الهمزة بأن ألقاها ونقل فتحتها إلى الجيم، فصار "تَجَرُونَ"، كقولك في تخفيف يَسْأَلون: يَسَلُون، وفي يَسْأَمُون: يَسَمون. ونظائره كثيرة قوية. ومن ذلك ما يُروى عن قتادة: "ثُمَّ إِذَا كَاشَفَ الضُّرَّ8"، بألف. قال أبو الفتح: قد جاء عنهم فاعَلَ من الواحد يراد به فَعَلَ، نحو طارَقْتُ النعل، أي: طرقْتُها، وعاقَبْتُ اللصَّ، وعافاه اللهُ، وقانَيْتُ اللونَ، أي: خلطته، في أحرف غير هذه، فكذلك يكون "ثُمَّ إِذَا كَاشَفَ الضُّرَّ" أي: كشف. ونحوه منه في المعنى والمثال: راخيتُ من خناقه، أي أرخيْتُ.
ومن ذلك قراءة مكحول عن أبي رافع، قال: حفظت عن رسول الله "صلى الله عليه وسلم": "فَيُمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُون1"، بالياء. قال أبو الفتح: هو معطوف على الفعل المنصوب قبله، أي "لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَيُمَتَّعُوا"، ثم قال من بعد: "فَسَوْفَ يَعْلَمُون". ومن ذلك قراءة معاذ: "وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكُذُبُ2" بضم الكاف والذال والباء. قال أبو الفتح: هو وصف الألسنة، جمع كاذب أو كذوب. ومفعول "تَصِفُ" قوله تعالى: {أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى} ، وهو على قراءة الجماعة {الْكَذِبَ} مفعول "تصف"، "وأَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى" بدل من "الْكَذِبَ"؛ لأنه في المعنى كذب. ومن ذلك قراءة الثقفي: "سَيْغًا3"، وقراءة الناس: "سَائِغًا". قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون "سَيْغ" هذا محذوفا من سَيِّغ، كمَيْت ومَيِّت، وهَيْن وهَيِّن4؛ وذلك أنه من الواو، لقولهم ساغ شرابهم يسُوغ. ولو كان سيْغ فعْلا لكان "سوْغا". ومنه قولهم: هو أخوه سوْغُه، أي: قابل5 له غير متباعد عنه، كالشراب إذا قبلتْهُ نفسُ شاربِهِ، ولم تنْبُ عنه. ومن ذلك قراءة ابن مسعود وعلقمة ويحيى ومجاهد وطلحة: "أَيْنَمَا يُوَجِّهْ6"، وروي عن علقمة: "يُوَجَّهْ"، بفتح الجيم. قال أبو الفتح: أما "يُوَجِّهْ"، بكسر الجيم فعلى حذف المفعول، أي أينما يوجِّه وجهَه؛ قال أبو الفتح: أما "يُوَجَّهْ"؛
فحذف للعلم به. وأما "يُوَجَّهْ"، بفتح الجيم، أي أينما يرسل أو يبعث1 لا يأت بخير. ومن ذلك قراءة الحسن: "بَشَرٌ الِلسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ2"، بألف ولام. قال أبو الفتح: ليس قوله: "الِلسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيّ" جملة في موضع صفة "بَشَر"، ألا تراها خالية من ضميره؟ وكذلك أيضا هي خالية منه في قراءة الجماعة: {بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} ، ولأن المعنى أيضا ليس على كونها وصفا، وإنما الوقف على قوله: "بَشَر"، ثم استأنف الله تعالى القول ردا عليهم، فقال: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ} أي: يميلون بالتهمة إليه {أَعْجَمِيٌّ} ، {وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} ، أي: فكيف يعلم الأعجمي العربية. ولهذا قال سبحانه: {أَعْجَمِيٌّ} ، ولم يقل: عجمي، وذلك أن "الأعجمي" هو الذي لا يفصح وإن كان عربيا. والعجمي هو المنسوب للعجم3 وإن كان فصيحا، ألا ترى أن سيبويه كان عجميا فإن كان لسان4 اللغة العربية فقال الله تعالى: لسان هذا المتهم بأنه يعلمه أعجم، فكيف يجوز أن يعلم العربية وهو لا يفصح؟ [91و] فأعجميٌّ من أعجم بمنزلة أحمريُّ من أحمر، وأشقريٌّ من أشقر، ودوَّاريٌّ من دوَّار، وكلابيٌّ5 من كِلَّاب. وقد مضى ذلك. ومن ذلك قراءة الأعرج وابن يعمر والحسن -بخلاف- وابن أبي إسحاق وعمرو ونعيم بن ميسرة: "أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبِ6"، وقرأ "الكُذُبَ" يعقوب، وقرأ "الكُذُبُ" مسلمة بن محارب، وقراءة الناس: {الكَذِبَ} . قال أبو الفتح: أما "الْكَذِبِ" بالجر فبدل من "ما" في قوله: "وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ " أي: لا تقولوا للكذبِ الذي تصف ألسنتكم.
وأما "الكُذُبَ" بالنصب فجمع كِذَاب، ككِتاب وكُتُب. يقال: كذَب الرجل يكذِب كَذِبًا وكِذَابا، وهو رجل كَيْذَبان، وكِيْذَبان، وكَذَبْذَب. ويقال أيضا: مَكْذَبان، كمَلْكَعان1. وجاز جمع الكِذَاب لأنه ذُهِبَ به مذهب النوع، ولو أُرِيدَ به الجنس لكان جمعُه مستحيلا. والكُذُبُ وصف الألسنة، وقد تقدم مثله. ومن ذلك قراءة ابن سيرين: "وَإِنْ عَقَّبْتُمْ فَعَقِّبُوا2". قال أبو الفتح: معناه إن تتبعتم فتتبعوا بقدر الحق الذي لكم، ولا تزيدوا عليه. قال لبيد: حتى تَهَجَّرَ في الرواحِ وهاجَهُ ... طلبُ المعقِّب حقَّه المظلوم3 أي هاجه طلبا4 مثل طلب المعقب حقه المظلوم، أي عاذَه ومنعَه المظلومُ، فـ"حَقَّه" على هذا فِعْلٌ: حَقَّه يَحُقُّه، أي لَوَاهُ حقَّه. ويجوز: طلبَ المعقِّب حقه، فتنصب "حقه" بنفس الطلب مع نصب "طلب" كما تنصبه، أي الحق مع رفعه، أي الطلب. والمظلوم صفة المعقب على معناه دون لفظه، أي أن طلب المعقب المظلوم حقه في الموضعين جميعا5.
سورة النحل
سورة النحل ...
سورة بنى إسرائيل
سورة بني إسرائيل: بسم الله الرحمن الرحيم قد ذكرنا ما في ذُرِّيَّة1 وذَرِّيَّة وذِرِّيَّة فما مضى من الكتاب2. ومن ذلك قراءة ابن عباس ونصر بن عاصم وجابر بن يزيد3: "لَتُفْسَدُنَّ4"، بضم التاء، وفتح السين. وقرأ: "لَتَفْسُدُنَّ"، بفتح التاء، وضم السين والدال -الفعل لهم- عيسى الثقفي. قال أبو الفتح: إحدى هاتين القراءتين شاهدة للأخرى؛ لأنهم إذا أفسدوا فقد فسدوا. ومن ذلك قراءة علي بن أبي طالب "رضي الله عنه": "عَبيدًا لنا5". قال أبو الفتح: أكثر اللغة أن تستعمل العبيد للناس والعباد لله. قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ 6} ، وقال تعالى: {يَا عِبَادِ فَاتَّقُون 7} ، وهو كثير. وقال: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ 8} . ومن أبيات الكتاب: أتُوعِدُني بقومك يابن حَجْل ... أشاباتٍ يُخَالُون العبادا؟ بما جمَّعْتَ من حضَنٍ وعمرو ... وما حضَنٌ وعمرو والحِيادا9؟
أي يُخالون عبيدا، أي مماليك. ويقال: العبادُ قوم من قبائل شتى من العرب، اجتمعوا على النصرانية، فأنفوا أن يسموا العبيد؛ فقالوا: نحن العباد. ومن ذلك قراءة أبي السمال: "فَحَاسُوا1"، بالحاء. قال أبو الفتح: قال أبو زيد، أو غيره: قلت له إنما هو "فَجَاسُوا"، فقال: فَحَاسُوا وجَاسُوا2 واحد، [91ظ] وهذا يدل على أن بعض القراءة يتخير3 بلا رواية، ولذلك نظائر. ومن ذلك قراءة أُبيّ بن كعب: "لِنَسُوءًا4"، بالتنوين. قال أبو الفتح: لم يذكر أبو حاتم التنوين، لكنه قال: وبلغني أنها في مصحف أُبي، "لِيُسِيءً5"، بالياء مضمومة بغير واو. فأما التنوين في: "لنَسُوءًا" فطريق القول عليه أن يكون أراد الفاء فحذفها، كما قال في موضع آخر، أي "فَلْنَسُوءًا وُجُوهَكُمْ" على لفظ الأمر، كما تقول: إذا سألتني فلأعطك، كأنك تأمُرُ نفسَكَ، ومعناه فلأعطينَّك. واللامان بعده للأمر أيضا، وهما: {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ ... وَلِيُتَبِّرُوا 6} . ويقويّ ذلك أنه لم يأت لإذا جواب فيما بعد، فدل على أن تقديره "فَلْنَسُوءًا وُجُوهَكُمْ"، أي فَلْنَسُوءنَّ وُجُوهَكُمْ. ومن ذلك قراءة علي بن أبي طالب "عليه السلام" "آمَرْنَا7" في وزن عَامَرْنا، واختلف عن ابن عباس والحسن وأبي عمرو وأبي العتاهية وقتادة وابن كثير وعاصم والأعرج، وقرأ بها
ابن أبي إسحاق وإبو رجاء والثقفي1 وسلام وعبد الله بن أبي يزيد والكلبي2. وقرأ "أمَّرْنا" مشددة الميم، ابن عباس بخلاف، وأبو عثمان النهدي، وأبو العالية بخلاف، وأبو جعفر محمد بن علي -بخلاف- والحسن -بخلاف- وأبو عمرو -بخلاف- والسدي وعاصم، بخلاف. وقرأ: "أَمِرْنا" بكسر الميم، بوزن عَمِرْنا-الحسن ويحيى بن يعمر. قال أبو الفتح: يقال: أَمِرَ القومُ إذا كثروا، وقد أَمَرَهُم الله أي: كثَّرهم. وكان أبو علي يستحسن قول الكسائي في قول الله تعالى: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا 3} : أي كثيرا، من قول الله: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} ، ومن قولهم: أَمِرَ الشيءُ، إذا كثر. ومنه قولهم: خَيرُ المالِ سكة مأبُورَة، أو مُهْرَةٌ مأمُورة4. فالسكّةُ الطريقة من النخل، ومأبورة أي: ملقحة5، ومهرة مأمورة أي: مُكثِرةُ النسل. وكان يجب أن يقال: مُؤْمَرَة لأنه من آمَرَها الله، لكنه أتبعها قوله: مَأبُورَة، كقولهم: إنه ليأتينا بالغَدَايا والعَشَايا. هذا على قول الجماعة إلا ابن الأعرابي وحده؛ فإنه قال: الغَدَايا جمع غَدِيّة، كما أن العشايا جمع عَشِيّة. ولم يكن يرى أن الغدايا ملحقٌ بقولهم: العَشَايا6، وأنشد شاهدا لذلك: ألا ليت حظيّ من زيارة أُمِّيَّهْ ... غَدِيّاتُ قيظ أو عشيّاتُ أَشْتِيَهْ7 وقد قالوا أيضا: أمَرَها اللهُ مقصورا خفيفا، بوزن عَمَرَها؛ فيكون مأمُورَة على هذا من هذا، ولا تكون ملحقةً بمأبُورَة.
وأما "أَمَرَّنَا مُتْرَفِيهَا" فقد يكون منقولا من أمِرَ القومُ أي: كثُروا. كعلِمَ وعلِمْتُه. وسلِمَ وسلمْتُه. وقد يكون منقولا من أمَرَ الرجل إذا صار أميرا. وأمَرَ علينا فلان: إذ وَلِيَ. وإن شئت كان "أمَّرْنا" كثرنا، وإن شئت من الأمْرِ والإمارة. فأما "أمِرْنا" فَعِلْنا، بكسر الميم، فأخبرنا أبو إسحاق وإبراهيم بن أحمد القرميسيني عن أبي بكر محمد بن هارون الروباني عن أبي حاتم قال: قال أبو زيد: يقال: أمِرَ اللهُ مالَه وآمَرَه. قال أبو حاتم: ورَوَوْا عن الحسن أن رجلا من المشركين قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أرى أمْرَكَ هذا حقيرًا، فقال عليه السلام: إنه سَيَأْمَرُ1 [92و] أي ينتشر، قال: وقال أبو عمرو: معنى {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} ، أي: أمرناهم بالطاعة، فعصوا. وقال زهير: والإثمُ من شرِّ ما يصال به ... والبر كالغيث نبتُه أمِرُ2 وأنشد أبو زيد، رويناه عنه وعن جماعة غيره: أمُّ جوارٍ ضنؤها غيرُ أمِرْ ... صهصلقُ الصوتِ بعينها الصبِرْ3 وقال لبيد: إن يُغبَطوا يَهبُطوا وإن أمِرُوا ... يومًا يصيرُوا للْهُلْكِ والنفدِ4 ومن5 بعد فالأمر من أم ر، وهي مُحَادَّةٌ6 للفظ ع م ر ومساوقة لمعناها7، لأن الكثرة أقرب شيء إلى العمارة. وما أكثر وأظهر هذا المذهب في هذه اللغة! ومن تنبه عليه حظي بأطرف الطريف، وأظرف الظريف.
ومن ذلك قراءة أبي السمال: "أُفُّ" مضمومة غير منونة، وقرأ: "أُفَ1" خفيفة -ابن عباس. قال هارون2 النحوي: ويقرأ: "أَفٌّ"، ولو قرئت "أَفًّا" لكان جائزا، ولكن ليس في الكتاب ألف. قال أبو الفتح: فيها ثماني لغات: أُفِّ، وأُفٍّ، وأُفَّ، وأُفًّا، وأُفُّ، وأُفٌّ، وأُفى, ممال. وهي التي يقول لها العامة: أُفِّي، بالياء. وأُفْ خفيفة ساكنة. وأما "أُفَ" خفيفة مفتوحة فقياسها قياس ربَ خفيفة مفتوحة، وكان قياسها إذا خففت أن يسكن آخرها؛ لأنه لم يلتق فيها ساكنان فتحرك، لكنهم بقَّوا الحركة مع التخفيف أمارة ودلالة على أنها قد كانت مثقلة مفتوحة، كما قال: لا أكلمك حِيرِي دهر3، فأسكن الياء في موضع النصب في غير ضرورة شعر، لأنه أراد التشديد في حيري دهر، فكما أنه لو أدغم الياء الأولى في الثانية لم تكن إلا ساكنة فكذلك إذا حذف الثانية تخفيفا أقر الأولى على سكونها دلالة وتنبيها على إرادة الإدغام الذي لابد معه من سكون الأولى. هذا هنا كذاك ثمة، وقد مر بنا مما أريد غير ظاهره، فجعل كأنه هو المراد به -كثير نحو من عشرة أشياء، وفي هذا مع ما نحن عليه من الإنجاز وتنكب الإكثار كاف بإذن الله. ومن ذلك قراءة ابن عباس وعروة بن الزبير في جماعة غيرهما: "جَنَاحَ الذِّلِّ4". قال أبو الفتح: الذِّلِّ في الدابة: ضد الصعوبة، والذُّلِّ للإنسان، وهو ضد العز. وكأنهم اختاروا للفصل بينهما الضمة للإنسان والكسرة للدابة؛ لأن ما يلحق الإنسان أكبر قدرا مما يحلق الدابة، واختاروا الضمة لقوتها للإنسان، والكسرة لضعفها للدابة. ولا تستنكر مثل هذا ولا تنبُ عنه؛ فإنه من عَرَفَ أَنِسَ، ومن جَهِلَ استوحش. وقد مر من هذا ما لا يحصى كثرة.
من ذلك قولهم: حلا الشيء في فمي يحلو، وحلي بعيني، فاختاروا البناء للفعل على فَعَل فيما كان لحاسة الذوق؛ لتظهر فيه الواو، وعلى فَعِل في حَلِي يحلَى1 لتظهر الياء والألف، وهما خفيفتان ضعيفتان إلى الواو؛ لأن [لو كان حس لكان أشبه2] حصة الناظر أضعف من حس الذوق بالفم. وقالوا أيضا: جُمامُ المكوك دقيقا3 وجِمام القدح ماء؛ وذلك لأن الماء لا يصح أن يعلو على رأس القدح [92ظ] كما يعلو الدقيق ونحوه على رأس المكوك؛ فجعلوا الضمة لقوتها فيما يكثر حجمه، والكسرة لضعفها فيما يقل بل يعدم ارتفاعه. وقالوا: النضح بالحاء غير معجمة للماء السخيف يخف أثره، وقالوا: النضخ بالخاء لما يقوَى أثره فيبُل الثوب ونحوه بللا ظاهرا؛ وذلك لأن الخاء أوفى صوتا من الحاء. ألا ترى إلى غلظ الخاء ورقة الحاء؟ وقد ثبت في كتاب الخصائص4 من هذا الضرب ونحوه وما جرى مجراه وأحاط به شيء كثير. وقد قال شاعرنا5: وكم من عائبٍ قولا صحيحا ... وآفته من الفهمِ السقيم ولكن تأخذُ الأذهانُ منه ... على قدرِ القرائحِ والعلومِ6 ومن ذلك قراءة الحسن: "خَطَاءً7"، بخلاف. وقرأ: "خَطًا" غير ممدود، والخاء منصوبة خفيفة- الحسن، بخلاف. وقرأ: "خِطًا" -بكسر الخاء غير ممدود- أبو رجاء والزهري. وقرأ: "خَطْئًا" -في وزن خَطْعًا- ابن عامر، بخلاف.
قال أبو الفتح: أما "خَطَاءً" فاسم بمعنى المصدر، والمصدر من أخطأت: إخْطاءً، والخطاءُ من أخطأْت كالعطاء من أعطيْتُ. ويقال: خطِيَ يخطأ خِطْئًا وخَطَأً، هذا في الدين، وأخطأت الغرض ونحوه. وقد يتداخلان فيقال: أخطأتُ في الدينِ، وخَطِئْتُ في الرأي ونحوه. قال: ذرِيني إنما خطئي وصَوْبِي ... علي وإن ما أهلكتُ مال1 وقال عبيد: والناس يلحوْنَ الأميرَ إذا همُ ... خطِئُوا الصوابَ ولا يُلام المرشد2 وقال في الدين أمية: عبادك يخَطَئُون وأنتَ ربٌّ ... بكفَيْكَ المنايا والحُتُوم3 وأما "خَطًا" و"خِطًا" فتخفيف خَطْئًا وخِطْئًا على القياس. ومن ذلك قراءة أبي مسلم4 صاحب الدولة: "فَلا يُسْرِفُ فِي الْقَتْلِ"5. قال أبو الفتح: رفع هذا على لفظ الخبر بمعنى الأمر، كقولهم: يرحمُ الله زيدًا، فهذا لفظ الخبر، ومعناه الدعاء. أي: ليرحَمْهُ اللهُ، ومثله قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ6} ، أي: ليتربصْنَ. وإن شئت7 كان معناه دون الأمر، أي ينبغي ألا يسرفَ، وينبغي أن يتربصْنَ. وعليه قولُه:
على الحكم المأتِيّ يوما إذا قضى ... قضيّته ألا يجورَ ويقصِدُ1 فرفعه على الاستئناف، ومعناه ينبغي أن يقصد. ومن ذلك قراءة الجراح: "وَالْبَصَرَ وَالْفَوَادَ2"، بفتح الفاء. قال أبو الفتح: أنكر أبو حاتم فتح الفاء، ولم يذكر هو ولا ابن مجاهد الهمز ولا تركه. وقد يجوز ترك الهمز مع فتح الفاء، كأنه كان "الفؤاد" بضمها والهمز، ثم خففت فخلصت في اللفظ واوا، وفتحت الفاء على ما في ذلك فبقيت واو. ومن ذلك قراءة الحسن "صَرَفْنَا3"، خفيف الراء. قال أبو الفتح: "صَرَفْنَا" هنا بمعنى صرفنا مشددا على ما بيناه قبل: من كون فعل خفيفة في معنى فعل. ومنه قوله: ونقرتها بيديك كل منقر4 أي نقرتها. ومن ذلك [93و] قراءة أبي جعفر: "لِلْمَلائِكَةُ اسْجُدُوا5". قال أبو الفتح: قد تقدم ذكر هذا البتة فيما مضى في البقرة6. ومن ذلك قراءة الحسن وأبي عمرو -بخلاف- وعاصم -بخلاف-: "بِخَيْلِكَ وَرَجِلِك7"، بكسر الجيم. قال أبو الفتح: روينا عن قُطرب هذه القراءة عن أبي عبد الرحمن، وقال: الرجِلُ: الرجال،
وعليه قراءة عكرمة وقتادة "ورجالِك". وقالوا: ثلاثة رَجِلَة ورَجْلَة، ومثله الأراجيلُ والمِرْجَلُ. وكان يونس يرى أن الرجْلة للعبيد أكثر، وقال الشاعر: وأية أرضٍ لا أنيت سراتها ... وأية أرض لم أرِدْها بِمِرْجَل1 أي برجال. ويقال: رجْل جمع راجِل كتاجر وتَجْر، وهذا عند سيبويه اسم للجمع غير مكَّسر بمنزلة الجامل والباقر2، وهو عند أبي الحسن تكسير راجل وتاجر، وقال زهير: هم ضربوا عن فرجها بكتيبة ... كبيضاء حرْس في جوانبها الرجْل3 ويكون الرجال جمع راجل كتاجر وتِجَار، قال الله تعالى: {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا 4} . ومن ذلك قراءة الحسن: "يَوْمَ يُدْعَوْ كُلُّ أُنَاسٍ5"، بضم الياء، وفتح العين. قال أبو الفتح: هذا على لغة من أبدل الألف في الوصل واوا، نحو أفْعَوْ، وحُبْلَوْ6 ذكر ذلك سيبويه، وأكثر هذا القلب إنما هو في الوقف؛ لأن الوقف من مواضع التغيير، وهو أيضا في الوصل محكي عن حاله في الوقف. ومنهم من يبدلها ياء، وبهذه اللغة يحتج ليونس في البيت الذي أنشده صاحب الكتاب شاهدا عليه بأن ياء لبيك ياء التثنية ردا على يونس في أنها ألف بمنزلة ألف: عَلَى ولَدَى، والبيت قوله:
دعوتُ لما نابني مسوَرًا ... فَلَبَّي فَلَبَّي يَدَيْ مسورٍ1 قال سيبوبه: "فَلَبَّي" بالياء دلالة على أنها ياء التثنية. قال: ولو كانت كألف عَلَى ولَدَى لقال: فَلَبَّى يدى مسور، كقولك: على يدى مسور؛ فليونس أن يقول: جاء هذا على قولهم في الوصل: هذه أفعى. وقد ذكرنا هذا في غير هذا الموضع من كتبنا2؛ فكذلك يكون "يُدْعَوْ" مرادا به يدعَى على أفْعَوْ. ومن ذلك قراءة علي وابن عباس وابن مسعود وأبي بن كعب "رضي الله عنهم" والشعبي والحسن -بخلاف- وأبي رجاء وقتادة وحميد وعمرو بن فائد وعمر بن ذر وأبي عمرو، بخلاف: "وَقُرْآنًا فَرَّقْنَاه"3، بالتشديد. قال أبو الفتح: تفسيره: فصّلناه، ونزّلناه شيئا بعد شيء، ودليله قوله تعالى: {عَلَى مُكْثٍ} .
سورة الكهف
سورة الكهف: بسم الله الرحمن الرحيم قرأ "كَبُرَتْ كَلِمَةٌ1" رفعا يحيى بن يعمر والحسن وابن محيصن وابن أبي إسحاق والثقفي والأعرج -بخلاف- وعمرو بن عبيد. قال أبو الفتح: أخلص الفعل "لكَلِمَةٍ" هذه الظاهرة، فرفعها، وسَمَّى قولهم: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا 2} ، - كما سمَّوا القصيدة وإن كانت مائة بيت -"كلمةً". وهذا كوضعهم الاسم الواحد على جنسه، كقولهم: أهلك الناسَ الدرهمُ والدينارُ، وذهب الناسُ بالشاة والبعير. ولله فصاحة الحجاج، وكثرة قوله على منبره: يأيها الرجل، وكلكم ذلك الرجل! ألا تراه لما أشفق أن يظن به أنه يريد رجلا واحدا بعينه قال: وكلكم ذلك الرجل؟ ومن ذلك قراءة أبي رجاء: "بِوِرْقكُّمْ3"، مكسورة الواو، مدغمة. قال أبو الفتح: هذا ونحوه عند أصحابنا مخفي غير مدغم، لكنه أخفى كسرة القاف، فظنها القراء مدغمة. ومعاذ الله لو كانت مدغمة [93ظ] لوجب نقل كسرة القاف إلى الراء، كقولهم: يَرُدّ ويَفِرّ ويَصُبّ. ألا ترى أن الأصل يرْدُدُ ويفْرِرُ ويَصْبُبُ، فلما أسكن الأول ليدغمه نقل حركته إلى الساكن قبله؟ وللقراء في نحو هذا عادة: أن يعبروا عن المخفي بالمدغم؛ وذلك للطف ذلك عليهم. منه قولهم في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ 4} : إنه أدغم نون "نحنُ" في نون "نَزلنا"
حتى كأنهم لم يسمعوا أن هذا ونحوه مما لا يجوز مع الانفصال، وأنه أمر يختص به المتصل. فاستدل صاحب الكتاب1 على أنه إخفاء بقولهم: اسمُ مُوسى وابنُ نُوح، قال: فلو كان إدغام لوجب تحريك سين "اسم" وباء "ابن"، ولو تحركتا لإدغام ما بعدهما لسقطت ألف الوصل من أولهما، وهذا واضح. وإذا جاز مثل هذا على قطرب مع تخصصه حتى جرى في بعض ألفاظه فالقراء بذلك أولى، وهم فيه أظهر عذرًا. وقد ذكرنا ذلك فيما مضى، وإنما هي "بِوِرقِكُم"، بإخفاء كسرة القاف، كأنه يريد الإدغام تخفيفا ولا ويبلغه. وحكى أبو حاتم -فيما روينا عنه- أن ابن محيصن قرأ: "بِوَرِقكُّمْ2" مدغمة، ولم يحك قراءة أبي رجاء بالإدغام، وهذا لا نظر في جوازه. ومن ذلك قراءة الجحدري: "تَزْوارُّ3". قال أبو الفتح: هذا افْعالَّ وتَزَاوَرُ تَفَاعَلُ وقلما جاءت افعالّ إلا في الألوان، نحو: اسوادّ وابياضّ واحمارّ واصفارّ، أو العيوب الظاهرة، نحو: احولّ واحوالّ واعورّ واعوارّ واصيدّ واصيادّ4. وقد جاءت افعالّ وافعلّ، وهي مقصورة من افعالّ- في غير الألوان، قالوا: ارعوى وهو افعلّ، وافتوى أي: خدم، وساس. قال يزيد بن الحكم: تبدَّل خليلا بي كشكلك شكلُه ... فإني خليلا صالحا بك مُقْتَوِي5 فمقتو مفتعل من الفتو، وهو الخدمة. قال: إني امرؤ من بني خُزَيمة لا ... أحسن قتوَ الملوكِ والحفَدَا6
وخليلا عندنا منصوب بفعل مضمر يدل عليه "مُقْتَوٍ"، وذلك أن افعلّ لا يتعدى إلى المفعول به، فكأنه قال: فإني أخدم، أو أسوس، أو أتعهد، أو استبدل بك خليلا صالحا1. ودل مقتوٍ على ذلك الفعل. وقالوا: اضرابّ الشيء أي: املسّ، وقالوا: اشعانّ رأسه، أي: تفرق شعره، في أحرف غير هذه. ومن ذلك قراءة2 الحسن: "وَتَقَلُّبَهُمْ3"، بفتح التاء والقاف، وضم اللام، وفتح الباء. قال أبو الفتح: هذا منصوب بفعل دل عليه ما قبله من قوله تعالى: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ4} ، وقوله: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ 5} : فهذه6 أحوال مشاهدة، فكذلك "تَقَلُّبَهُمْ" داخل في معناه، فكأنه قال: ونرى أو نشاهد تقلبهم ذات اليمين وذات الشمال. فإن قيل: إن التقلب حركة، والحركة غير مرئية، قيل: هذا غَوْر آخر ليس من القراءة في شيء إلا أنك تراهم يتقلبون، والمعنى مفهوم. وليس كل أحد يقول: إن الحركة لا ترى ولا غرض في الإطالة هنا، لكن ما أوردناه قد مضى على الغرض فيه والمراد منه. ومن ذلك قراءة ابن محيصن: "ثَلاتٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ7"، بإدغام ثاء ثلاثة في التاء التي تبدل في الوقف هاء من ثلاثة. قال أبو الفتح: الثاء لقربها من التاء تدغم فيها، كقولك: ابعث تِّلك، وأغث تِّلك. وجاز الإدغام [94و] وإن كان قبل الأول ساكن لأنه ألف، فصارت كشابّة ودابّة، ولم يدغمها فيها إلا ابن محيصن وحده8.
ومن ذلك أنه لم يقرأ أحد "خَمَسَةَ"1 ، بفتح الميم إلا ابن كثير وحده في رواية حسن بن محمد2 عن شبل. قال أبو الفتح: لم يحرك3 ميم خمسة إلا عن سماع، وينبغي أن يكون أُتبعت عشرة، وليس يحسن أن يقال إنه أتبع الفتح الفتح، كقول رؤبة: مُشْتَبِهِ الأعْلَامِ لَمَّاعِ الخَفَقْ4. وهو يريد "الخَفْق"؛ لأن هذا أمر يختص5 به ضرورة الشعر. قال أبو عثمان عن الأصمعي: سألت أعرابيا - ونحن بالموضع الذي ذكره زهير في قوله: ثُمَّ استمَرُّوا وقالوا إنَّ مّوْعِدُكُمْ ... ماءً بِشَرقيّ سلمَى فيدُ أو رَكَكُ6 أتعرف رَكَكًا هذا؟ فقال: قد كان ههنا ماء يسمى "رَكًّا"، فعلمت أن زهيرا احتاج إليه فحركه، وقد يجوز أن يكونا7 لغتين: رَكٌّ ورَكَكٌ، كالقصِّ والقصَصِ، والنَشْزِ8 والنَّشَزِ. وقد كان يجب على الأصمعي ألا يسرع إلى أنه ضرورة. ومن ذلك قراءة الحسن: "وَلا تُعْدِ عَيْنَيْكَ9". قال أبو الفتح: هذا منقول من: عدت عيناك أي جاوزتا. من قولهم: جاء القوم عدا زيدا، أي: جاوز بعضهم زيدا، ثم نقل إلى أعديت عيني عن كذا، أي: صرفتها عنه. قال: حتى لَحِقْنا بهم تُعْدِي فَوَارِسُنا ... كأننا رَعْنُ قُفٍّ يَرْفَعُ الآلا10
أي: تعدي فوارسنا خيلهم عن كذا، فحذف المفعول بعد المفعول. وتعديها1 من عدا الفرس، كقولنا: جرى، وعلى أن أصلهما واحد، لأن الفرس إذا عدا فقد جاوز مكانا إلى غيره. ومن ذلك قراءة عمرو بن فائد: "مَنْ أَغْفَلَنَا قَلْبُهُ2". قال أبو الفتح: يقال: أغفلْتُ الرجل: وجته غافلا، كقول عمرو بن معد يكرب: والله يا بني سليم لقد قاتلناكم فما أجبنَّاكُمْ، وسألْنَاكم فما أبخلْناكم، وهاجيْناكُم فما أفحمْناكُم، أي: لم نجدْكُم جبناء، ولا بخلاء، ولا مفحَمِين. وكقول الأعشى: أثْوَى وقَصَّرَ ليلَةً لِيُزَوَّدَا ... فَمَضَى وَأَخْلَفَ من قُتَيْلَةَ مَوْعَدَا3 أي صادفه مُخْلِفًا. وقال رؤبة: وَأَهْيَجَ الخَلْصَاءَ مَنْ ذَاتِ البُرَقْ3 أي صادفها هائجة النبت. وقال الآخر: فَأَتْلَفْنا المَنَايا وأَتْلَفُوا4 أي: صادفناها مُتْلِفَةً. فإن قيل: فكيف يجوز أن يجدَ اللهَ غافلا؟ قيل: لَمّا فَعَلَ أفعالَ من لا يرتقبُ ولا يخافُ صار كأن الله سبحانه غافل عنه، وعلى هذا وقع النفي عن هذا الموضع، فقال: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون 5} ، أي: لا تظنوا الله غافلا عنكم. وقال تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ 6} ، وقال تعالى: {وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظ 7} ، ونحو هذا في القرآن كثير، فكأنه قال: ولا تُطِعْ مَنْ ظَنَّنَا غافِلِينَ عنه.
وعليه قول آخر: أخْشَى عليها طَيِّئًا وأَسَدَا ... وَخَارِبَيْن خَرَبَا فَمَعَدَا لا يحسبانِ اللهَ إلا رَقَدَا1 وهذا هو ما نحن فيه البتة. ومن ذلك قراءة ابن محيصن: "مِنْ سُنْدُسٍ وَاسْتَبْرَقَ2"، بوصل الألف. قال أبو الفتح: هذا عندنا سهو أو كالسهو، وسنذكره في سورة الرحمن بإذن الله3. ومن ذلك قراءة أبي بن كعب والحسن: "لَكِنْ أَنَا هُوَ اللَّهُ رَبِّي4". وقرأ: "لَكِنْ هُوَ اللَّهُ رَبِّي" -ساكنة النون من ألف- عيسى الثقفي [94ظ] . قال أبو الفتح: قراءة أبي هذه هي أصل قراءة أبي عمرو وغيره: "لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي"5، فخففت همزة "أنا" بأن حذفت وألقيت حركتها على ما قبلها، فصارت "لكنَنَا"، ثم التقت النونان متحركتين، فأسكنت الأولى، وأدغمت في الثانية، فصارت "لكنَّ" في الإدراج. فإذا وقفت ألحقت الألف لبيان الحركة، فقلت: "لكنَّا"، فـ "أنا" على هذا مرفوع بالابتداء وخبره الجملة، وهي مركبة من متبدأ وخبر، فالمبتدأ "هو"6، وهو ضمير الشأن والحديث، والجملة بعده خبر عنه، وهي مركبة من مبتدأ وخبر، فالمبتدأ "الله"، والخبر "ربي"، والجملة خبر عن "هو"، و"هو" وما بعده من الجملة خبر عن "أنا"، والعائد عليه من الجملة بعده الياء في "ربي"، كقولك: أنا قائم غلامي. فإن قلت: فما العائد على "هو" من الجملة بعده التي هي خبر عنه؟ فإنه لا عائد على المبتدأ
أبدا إذا كان ضمير الشأن والقصة، كقوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 1، فـ"الله أحد" خبر عن "هو"، و"هو" ضمير الشأن والحديث، ولا عائد عليه من الجملة بعده التي هي "الله أحد"، وإنما كان كذلك من قبل أن المبتدأ إنما احتاج إلى العائد من الجملة بعده إذا كانت خبرًا عنه؛ لأنها ليست هي المبتدأ، فاحتاجت إلى عود ضمير منها عليه؛ ليلتبس2 بذلك الضمير بجملته. وأما "هو" من قولنا: "هُوَ اللَّهُ رَبِّي" ونحوه فهو الجملة نفسها، ألا تراه ضمير الشأن، وقولنا: الله ربي3 شأن وحديث في المعنى؟ فلما كانت هذه الجملة هي نفس المبتدأ لم يحتج إلى عائد عليه منها، وليس كذلك: زيد قام أخوه؛ لأن زيدا ليس بقولك: قام أخوه في المعنى، فلم يكن له بد من أن يعود عليه ضمير منه ليلتبس به؛ فيصير خبرا عنه. ومن قرأ: "لَكِنْ هُوَ اللَّهُ رَبِّي" فـ"هو" ضمير الشأن، والجملة بعده خبر عنه على ما مضى آنفا4، وهذا واضح. ومن ذلك قراءة عبد الله بن مسلم بن يسار5: "مَجْمِعَ الْبَحْرَيْن6". قال أبو الفتح: المصدر من فَعَلَ يفعَل والمكان والزمان7 كلهن على مَفْعَل بالفتح، كقولك: ذهبت مذْهَبًا، أي: ذهابا، ومذهبا، أي: مكانا يذهب فيه. وهذا مذهبك أي: زمان ذهابك، وكذلك سأل يسأل مَسْألا، فهو مصدر ومكان وزمان8، وبعث يبعث مَبْعَثًا وهو مصدر ومكان وزمان. ومنه: مبْعَثُ الجيوش، هو زمان بعثها، إلا أنه قد جاء المفعِلُ بكسر العين موضع المفتوح، منه: المشرِق، والمغرِب، والمنسِك، والمطلِع. وبابه فتح عينه لأنه من يَفْعُل، يشرُق، ويغرُب، وينسُك، ويطلُع. فعلى نحو من هذا يكون "مَجْمِعَ الْبَحْرَيْن" وهو مكان -كما ترى- من جمع يجمع، فقياسه "مجْمَع"، لولا ما ذكرنا من الحمل على نظيره.
ومن ذلك قراءة النبي "صلى الله عليه وسلم": "جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يُنْقَضَ"، برفع الياء وبالضاد2. وقرأ: "يَنْقَاصُ" بالصاد غير معجمة، وبالألف -علي بن أبي طالب وعكرمة3 وأبو شيخ الهنائي4 ويحيى بن يعمر. وفي قراءة عبد الله: "يُرِيدُ ليُنْقَضَ5"، وكذلك روي عن الأعمش. قال أبو الفتح: [95و] معناه: قد قارب أن يُنقض، أو شارف ذلك, وهو عائد إلى معنى يكاد، وقد جاء ذلك عنهم. وأنشد أبو الحسن: كادَتْ وكدْتُ وتلكَ خَيْرُ إرادَةٍ ... لَوْ عادَ مِنْ لَهْوِ الصَّبابَةِ مَا مَضَى6 وحَسُن هنا لفظ "الإرادة" لأنه أقوى في وقوع الفعل؛ وذلك لأنها داعية إلى وقوعه، وهي أيضا لا تصح إلا مع الحياة، ولا يصح الفعل إلا لذي الحياة. وليس كذلك كاد، لأنه قد يقارب الأمرَ ما لا حياة فيه، نحن مَمِيل الحائط وإشراق ضوء الفجر، فاعرف ذلك. و"يَنْقَاصُ" مطاوع قِصْتُه فانْقَاصَ، أي: كسرتُه فانكَسَرَ. قال: فِرَاقًا كَقَيْصِ السِّنِّ فالصَّبْرُ إنهُ ... لِكُلِّ أُناسٍ عثرةٌ وجُبُورُ7 يجوز أن يكون جُبُورُ جمع جَبْرَة، كبَدْرَة وبُدُور، ومَأنَة8 ومُئُون. وقد قالوا: قِضْتُه فانْقَاضَ، أي: هَدَمْتُه فانْهَدَمَ، بالضاد معجمة. قال:
كَأَنَّها هَدَمٌ في الجَفْرِ مُنْقَاضُ1 وقَيْضُ البيضةِ: قِشْرُها الذي انفلق عن الفرخ. وقراءة العامة: {يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} أشبه أولا منها بآخر؛ لأن الإرادة في اللفظ له، والانقضاض أيضا كذلك. وأما "يَنْقَضُّ" فيحتمل أمرين: أحدهما أن يكون ينفَعِل من القَضّة، وهي الحصا الصغار، وقال أبو زيد: يقال طعام قَضَضٌ: إذا كانت فيه القَضّة. والآخر أن يكون يفعلّ من: نَقَضْت الشيء، كقراءة النبي "صلى الله عليه وسلم": "يُرِيدُ أَنْ يُنْقَضَ"، ويكون يفعل هنا من غير الألوان والعيوب كيَزْوَرُّ ويَرْعَوِي، وقد مضى ذلك2. وقراءة عبد الله والأعمش: "يُرِيدُ ليُنْقَضَ" إن شئت قلت: إن اللام زائدةٌ، واحتججت فيه بقراءة النبي "صلى الله عليه وسلم"، وإن شئت قلتَ: تقديره: إرادته لكذا، كقولك: قيامه لكذا، وجلوسه لكذا، ثم وضع الفعل موضع مصدره، كما أنشد أبو زيد: فَقَالُوا: مَا تَشَاءُ؟ فَقُلْتُ: أَلْهُو ... إلَى الإصْبَاحِ آثِرَ ذِي أَثِيرِ3 أي: اللهو، فوضع "ألهو" موضع مصدره، وأنشد أيضا: وَأَهْلَكَنِي لَكُمْ في كُلِّ يَوْمٍ ... تَعَوُّجُكُمْ عَلَيَّ وَأَسْتَقِيمُ4 أي: واستقامتي، واللام هنا اللام في قوله: أُرِيدُ لِأَنْسَى ذِكْرَهَا فَكَأنَما ... تَمَثَّلُ لِي لَيْلَى بِكُلِّ سَبِيلِ5
تحتمل اللام هنا الوجهين اللذين تقدم ذكرهما. ومن ذلك قراءة أبي سعيد الخدري1: "وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَانِ2". أحدهما: أن يكون اسم "كان" ضمير الغلام، أي: فَكَانَ هُوَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَانِ2، والجملة بعده خبر كان. والآخر: أن يكون اسم "كان" مضمرا فيها، وهو ضمير الشأن والحديث، أي: فكان الحديث أو الشأن أَبَوَاهُ مُؤْمِنَانِ2، والجملة بعده خبر لـ "كان" على ما مضى، إلا أنه في هذا الوجه الثاني لا ضمير عائدا على اسم "كان"؛ لأن ضمير الأمر والشأن لا يحتاج من الجملة التي هي بعده خبر عنه إلى ضمير عائد عليه منها، من حيث كان هو الجملة في المعنى. وقد مضى ذلك آنفا3، ومثله قول النبي "صلى الله عليه وسلم": "كلُّ مولودٍ يُولُدُ علَى الفطرةِ حتَّى يكونَ أبواهُ هُمَا اللَّذانِ يُهَوِّدَانِه ويُنَصِّرانِه 4 ". إن شئت كان ضمير المولود في "كان" اسما لها، [95ظ] وأبواه ابتداء، "هما" فصل لا موضع لها من الإعراب، و"اللذان" خبر "لكان"، والعائد على اسم "كان" الضمير في "أبواه"؛ لأنه أقرب إليه مما بعده. وإن شئت جعلت اسم "كان" على ما كان عليه5، وجعلت "أبواه" ابتداء، والجملة بعدهما خبرا عنها، وهي مركبة من مبتدأ وخبر: فالمبتدأ "هما"، وخبرهما "اللذان"، و"هما" وخبره خبر عن "أبواه"، و"أبواه" وما بعدهما خبر "كان". وإن شئت كان في "كان" ضمير الشأن والحديث، وما بعدها خبر عنه.
وإن شئت رفعت "أبواه" لأنهما اسم "كان" وجعلت ما بعدهما الخبر على ما مضى من كون "هما" فصلا إن شئت، ومبتدأ إن شئت، ويجوز فيه هما اللذين. ومن ذلك قراءة الماجشون1: "الصَّدُفَيْنِ2"، بفتح الصاد، وضم الدال. قال أبو الفتح: فيها لغات: صَدَفَانِ، وصُدُفَانِ، وصُدْفَانِ، وصَدُفَانِ. وقد قرئ بجميعها، إلا أنهما الجبلان المتقابلان، فكأن أحدهما صادف صاحبه، ولذلك لا يقال ذلك لما انفرد بنفسه عن أن يلاقي مثله من الجبال. ومن ذلك قراءة علي وابن عباس "عليهما السلام" وابن يعمَر والحسن ومجاهد وعكرمة وقتادة وابن كثير بخلاف، ونعيم بن ميسرة والضحاك ويعقوب وابن أبي ليلى: "أَفَحَسْبُ الَّذِينَ3". قال أبو الفتح: أي أَفَحَسْبُ الَّذِينَ كفروا وحظُّهم ومطلوبُهم أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء؟ بل يجب أن يعتدُّوا أنفسهم مثلهم، فيكونوا كلهم عبيدا وأولياء لي. ونحوه قول4 الله "تعالى": "وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ5"، أي: اتخذتَهم عبيدًا لك، وهذا أيضا هو المعنى إذا كانت القراءة: "أَفَحَسِب الَّذِينَ كَفَرُوا"، إلا أن "حَسْبُ" ساكنة السين أذهب في الذم لهم؛ وذلك لأنه جعله غاية مرادهم ومجموع مطلبهم، وليست القراءة الأخرى كذا.
ومن ذلك قراءة ابن عباس وابن مسعود والأعمش، - بخلاف- ومجاهد وسليمان التيمي1 "وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مِدَادًا2"0 قال أبو الفتح: "مدادًا" منصوب على التمييز، أي: بمثله من "المداد"؛ فهو كقولك: لي مثلُه عبدًا، أي: من العبيد، وعلى التمرة مثلها زبدًا، أي: من الزبد. وأما {مَدَدًا} فمنصوب على الحال، كقولك: جئتك بزيد عونا لك ويدًا معك، وإن شئت نصبته على المصدر بفعل مضمر يدل عليه قوله {جِئْنَا بِمِثْلِهِ} كأنه قال: ولو أمددناه به إمدادا، ثم وضع "مددًا"3 موضع إمداد، ولهذا نظائر كثيرة.
سورة مريم
سورة مريم: بسم الله الرحمن الرحيم قرأ أبو جعفر: "كافْ هَا يَا عَين صَاد1". وقرأ: "كافْ هَا يُا عَين صَاد"، بفتح الهاء، ورفع "الياء" - الحسن. وقرأ: "كافْ هُا يَا عَين صَاد"، بضم الهاء2 وفتح الياء - الحسن أيضا. قال أبو الفتح: أما على الجملة فإن الإمالة والتفخيم في حروف المعجم3 ضرب من الاتساع، وذلك أن الإمالة والتفخيم ضربان من ضروب التصرف، وهذه الحروف جوامد لا حظ لها في التصرف؛ لأنها كـ"ما" و"لا" و"هل" و"قد" و"بل" و"إنما". وإنما أتاه ذانك من قبل أنها إذا فارقت موضعها من الهجاء صارت أسماء، كقولنا: الهاء حرف هاوٍ، والواو والياء والألف [96و] حروف الإعلال، وفي الصاد والزاي والسين صفير، والميم حرف ثقيل. فلما كانت تفارق كونها هجاء إلى الاسمية دخلها ضرب من القوة؛ فتصرفت، فحملت الإمالة والتفخيم. فمن فتح ولم يفخم ولم يُمِلْ فعلَى ظاهر الأمر، ومن أمال أو فخم اعتمد ما ذكرنا: من جواز كونها أسماء، فمن قال "يا" فأمال - جنح بالإمالة إلى الياء، كما جنح بها إليها في نحو قولك: السَّيَال4 والهِيَام5. ومن فخم تصور أن عين الفعل في الياء انقلبت عن الواو، كالباب والدار والمال والحال؛ وذلك أن هذه الألِفَات -وإن كانت مجهولة أنه6 لا اشتقاق لها- فإنها تُحمَلُ على ما هو في اللفظ مشابِهٌ لها، والألف إذا وقعت عينا فجهلت فالواجب فيها
أن يعتقد منقلبة عن الواو. على ذلك وجدنا سرد اللغة عند اعتبارنا له، ولذلك حمل الخليل ألف آءَة1 على أنها من الواو، فقال: كأنها من أُؤتُ2. وبمثل ذلك ينبغي أن يحكم في راءَة3 وصاءَة4، حتى كأنها في الأصل روَأة وصوَأة. فهذا قول جامع في هذا الضرب من الألِفات، فَاغْنَ به عما وراءه. ومن ذلك قراءة الحسن أيضا: "ذَكَّرَ رَحْمَة رَبِّكَ5". قال أبو الفتح: فاعل: ذَكَّرَ ضمير ما تقدم، أي: هذا المتلو من القرآن الذي هذه الحروف أوله وفاتحته يُذَكِّرُ رحمةَ ربِّكَ، فهو كقوله "تعالى": {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ 6} . وعلى هذا أيضا يرتفع قوله: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} ، أي: هذا القرآن ذكر رحمة ربك. وإن شئت كان تقديره: مما يُقَصُّ عليك، أو يُتْلَى عليك ذِكْرُ رحمةِ ربِّك عبدَهُ زَكَرِيَّا. ومن ذلك قراءة عثمان وزيد بن ثابت وابن عباس وسعيد بن العاص7 وابن يعمَر وسعيد بن جبير وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وشُبَيل بن عزرة8: "خَفَّتِ الْمَوَالِي9"، بفتح الحاء والتاء مكسورة. قال أبو الفتح: أي قَلَّ بنو عمي وأهلي، ومعنى قوله -والله أعلم: "مِنْ وَرَائي"، أي مَنْ أُخَلِّفُه بعدي. قوله: "مِنْ وَرَائي" حال متوقَّعَة محكية. أي: خَفُّوا مُتوقَّعًا مُتصوَّرًا
كونهم بعدي. ومثله مسألة الكتاب: مررت برجل معه صقرٌ صائدًا، أي: مُتَصَوَّرًا صيدُه بهِ غدًا، ومثله قول الله1 "تعالى": {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ 2} ، أي مُتَصَوَّرًا خُلُودُهُم فيها مدةَ دوامِ السمواتِ والأرضِ. فإذا أشفقت من ذلك فارْزُقْنِي وَلَدًا يَخْلُفُنِي. ومن ذلك قراءة علي بن أبي طالب وابن عباس "عليهما السلام" وابن يعمَر وأبي حرب بن أبي الأسود3 والحسن والجحدري وقتادة وأبي نَهِيك وجعفر بن محمد: "يَرِثُنِي وَارثٌ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ4". قال أبو الفتح: هذا ضرب من العربية غريب، ومعناه التجريد؛ وذلك أنك تريد؛ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي منه أو به وَارثٌ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ، وهو الوارث نفسه، فكأنه جَرَّدَ منه وارثًا. ومثله قول الله "تعالى" : {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ 5} ، فهي نفسها دارُ الخلد، فكأنه جَرَّدَ من الدارِ دارًا، وعليه قول الأخطل: بنزوةِ لصٍّ بعد ما مرَّ مُصعَبٌ ... بأشعثَ لا يُفْلَى ولا هو يَقْمَلُ6 ومصعب نفسه [96ظ] هو الأشعثُ7، فكأنه استخلص منه أشعثَ. ومثله قول الأعشى:
.................. أمْ مَنْ ... جَاءَ مِنْها بِطائِفِ الأهْوَالِ1* وهي نفسُها طائفُ الأهوال. وقد أفردنا لهذا الضرب من العربية بابا من كتاب الخصائص2 فاعرفه، فإنه موضع غريب لطيف وطريف. وقد ذكرناه أيضا فيما مضى3. ومن ذلك قراءة ابن مسعود: "الْكِبَرِ عَتِيًّا"4، 1 بفتح العين. وكذلك قرأ أيضا: "أَوْلَى بِهَا صَلِيًّا"5، بفتح الصاد. وقال ابن مجاهد: لا أعرف لهما في العربية، أصلا، قال ابن مجاهد: ويقرأ مع ذلك "بُكِيًّا" بضم الباء. قال أبو الفتح: لا وجه لإنكار ابن مجاهد ذلك لأن له في العربية أصلا ماضيا، وهو ما جاء من المصادر على فعيل نحو: الحويل6، والزويل7، والشخير، والنخير8. فأما "البكِىّ" فجماعة، وهي فعول: كالحثيّ9، والدني، والفلي، جمع فلاة، والحلي. ومن ذلك قراءة شبيل10 بن عزرة: "فَأَجَأها"11، مثل فألجأها. قال أبو الفتح: رواها ابن مجاهد أيضا أنها من المفاجأة، إلا أن ترك همزها إنما هو بدل لا تخفيف قياسي. وقد يجوز أن تكون القراءة على التخفيف القياسي، إلا أنه لطفت لضعف
الهمزة بعد الألف فظنها القراء ألفا ساكنة مدة، إلا أن قوله: مثل ألجأها يشهد لقراءة الجماعة: {فَأَجَاءَهَا} . وقد يمكن أن يكون أراد مثل: أجاءها إذا أبدلت همزته ألفا فيكون التشيبه لفظيا لا معنويا. ومن ذلك قراءة محمد بن كعب1 وبكر بن حبيب السهمي2: "نَسْئًا"3، بفتح النون مهموزة؟ قال أبو الفتح: قال أبو زيد نسأت اللبن أنسؤه نسئا، وذلك أن تأخذ حليبا فتصب عليه ماء، واسمه النسء والنسيء، وأنشد: سَقُونِي نَسْئًا قَطَعَ الماءُ مَتْنَهُ ... يُبِيلُ على ظَهْرِ الفِرَاشِ ويُعْجِلُ فتأويل هذه القراءة -والله أعلم- يا ليتني مِتُّ قبل هذا، وكنت كهذا اللبن المخلوط. بالماء في قلته وصغارة حاله، كما أن قوله: "وَكُنْتُ نِسْيًا مَنْسِيًّا"4، أي: كنت كالشيء المحقر ينساه أهله، ونَزَارَة5 أمره. ومن ذلك قراءة مسروق: "يُسَاقِطْ"6، بالياء خفيفة.
قال أبو الفتح: يساقط هنا بمعنى يسقط، إلا أنه شيئا بعد شيء، وعليه قول ضابئ البرجمي: يُسَاقِطُ عَنْهُ رَوْقُهُ ضَارِيَاتِها ... سِقَاطَ حَدِيدِ القَين أَخْوَلَ أَخْوَلا1 أي يسْقُطُ قرن هذا الثور ضاريات كلاب الصيد لطعنه إياها، شيئا بعد شيء. ومن ذلك قراءة طلحة: "رُطَبًا جِنِيًّا"، بكسر الجيم. قال أبو الفتح: أتبع فتحة الجيم من "جِنِيًّا" كسرة النون، وشبه النون وإن لم تكن من حروف الحلق بهن في نحو صَأَى3 الفرخ صِئِيا، وفي نحو: الشخير، والنخير4، والنغيق5 والشعير، والبعير، والرغيف. وحكى أبو زيد عنهم: ذلك لمن خاف وعيد الله. وله في تشبيهه النون بالحرف الحلقي عذر ما؛ وذلك لتفاوتهما، فالنون متعالية، كما أنهن سوافل: فكل في شقه مضاد لصاحبه، ألا ترى أن أبا العباس قال في همزة صحراء وبطحاء ونحوهما: صحراوان وبطحاوان [97و] وصحراوات وبطحاوات؟ شبهت الهمزة بالواو، لأن كل واحدة منهما طارفة في جهتها؛ فجعل تناهيهما في البعد طريقا إلى تلاقيهما في الحكم. وبعد فالعرب تجري الشيء مجرى نقيضه، كما تجريه مجرى نظيره. ألا تراها قالت: طَوِيل كما قالت: قَصِير، وشَبْعان كجَوْعان، وكَرُمَ كلَؤُمَ، وعَلِمَ كجَهِلَ؟ ولأجل هذا قال بعضهم: إن قَوِيَ فعل في الأصل حملا على نظيره الذي هو ضَعُفَ، وفي هذا كاف من غيره. ونحو من معناه قول المنجمين في النحسين إذا تقابلا: استحالا سعدا، وعليه قول الناس: عداوة أربعين سنة مودة. والمعاني في هذا6 العالم متلاقية على تفاوُتها، ومجتمعة مع ظاهر تفرقها، لكنها محتاجة إلى طَبٍّ7 بها وملاطف لها.
ومن ذلك قراءة طلحة: "فَإِمَّا تَرَيِنَ1". وروى عن أبي عمرو: "تَرَئِنَّ"، بالهمز. قال أبو الفتح: الهمز هنا ضعيف؛ وذلك لأن الياء مفتوح ما قبلها، والكسرة فيها لالتقاء الساكنين؛ فليست محتسبة أصلا، ولا يكثر مستثقَلُه، وعليه قراءة الجماعة: {تَرَيِنَّ} ، بالياء لما ذكرنا2. غير أن الكوفيين قد حكوا الهمز في نحو هذا، وأنشدوا: كَمُشْتَرِئ بِالْحَمْدِ أَحْمِرَةً بُتْرَا3 نعم، وقد حكى الهمز في الواو التي هي نظيرة الياء في قول الله: "تعالى": {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ} 4، فشبه الياء لكونها ضميرا وعلم تأنيث بالواو؛ من حيث كانت ضميرا وعلم تذكير. وهذا تعذر ما وليس قويا، ولا تُرَيَنَّ هذه الهمزة هي همزة رأيت، تلك قد حذفت للتخفيف في أصل الكلمة "تَرْأَيْنَ"؛ فحذفت الهمزة، وألقيت حركتها على الراء فصارت "تَرَيْنَ"، فالهمزة الأصلية إذا محذوفة، وغير هذه الملفوظ بها. وأما قراءة طلحة: "فَإِمَّا تَرَيِن" فشاذة، ولست أقول إنها لحن لثبات علم الرفع، وهو النون في حال الجزم، لكن تلك لغة: أن تثبت هذه النون في الجزم، وأنشد أبو الحسن: لَوْلَا فَوَارِسُ مِنْ قَيْسٍ وَأُسْرَتِهِمْ ... يَوْمَ الصُّلَيْفَاءِ لَمْ يُوفُونَ بِالْجَارِ5 كذا أنشده "يُوفُونَ" بالنون، وقد يجوز أن يكون على تشبيه "لم" بلا. ومن ذلك قراءة أبي نهيك وأبي مجلز: "وبِرًّا6"، بكسر الباء.
قال أبو الفتح: هو معطوف على موضع الجار والمجرور من قوله: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ 1} ، كأنه قال: ألزمني بِرًّا، وأشعرني بوالدتي؛ لأنه إذا أوصاه به؛ فقد ألزمه إياه. وعليه بيت الكتاب: يَذْهَبْنَ فِي نَجْدٍ وَغَوْرًا غَائِرَا2* أي: ويسلكن غورا، وبيته أيضا: فَإنْ لَمْ تَجِدْ مِنْ دُونِ عَدْنَانَ وَالِدًا ... وَدُونَ مَعْدٍّ فَلْتَزَعْكَ الْعَوَاذِلُ3 عطف "دونَ" الثانية على موضع "من دونِ" الأولى، نظائره كثيرة جدًّا. وإن شئت حملته على حذف المضاف، أي: وجعلني ذا برّ، وإن شئت جعلته إياه على المبالغة، كقولها4: فإنما هي إقبالٌ وإدبارٌ على غير حذف المضاف. ومن ذلك قراءة طلحة: "وريًِا"5، خفيفة بلا همز.
وقرأ: "وَزِيًّا"، [97ظ] بالزاي سعيد بن جبير ويزيد البربري والأعسم المكي. قال أبو الفتح1: النظر من ذلك في "وَرِيًّا" ، خفيفة بلا همز2؛ وذلك أنه في الأصل فعل إما من رأيت وإما من رويت، فأصله -وهو من الهمز- "ورِثْيًا" كَرِعْيًا، على قراءة أبي عمرو وغيره؛ فأريد تخفيف الهمز، فأبدلت الهمزة ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، ثم أدغمت الياء المبدلة من الهمزة في الياء الثانية التي هي لام الفعل، فصارت "وَرِيًّا". ويجوز أن يكون من رويت قال أبو علي: وذلك لأن المريان نضارة وحسنا؛ فيتفق إذا معناه ومعنى "وزيا" بالزاي. وأصله على هذا "رِوْيٌ"، فأبدلت الواو ياء، وأدغمت3 في الياء بعدها؛ فصارت "وَرِيًّا". حدثنا أبو علي عن ابن مجاهد أن القراءة فيها على ثلاث أضرب: "ورِثْيًا"، "وَرِيًّا"، "وَزِيًّا" فهذا هذا. فأما "رِيًا"، مخففة غير مهموزة فتحتمل أمرين: أحدهما أن تكون مقلوبة من فعل إلى فلع؛ فصارت في التقدير "رِيئًا"، ثم خفف على هذا، فحذفت الهمزة، فألقيت حركتها على الياء؛ فصارت "رِيًا"، كقولك في تخفيف نيء: أكلت طعاما نِيًا، وفي تخفيف الجيئة: الجية. فإن خففت البيئة4 من قولهم: بات بيئة سوء قلت فيها: البِوَة، وذلك أنها في الأصل بِوْءَة، لأنها فِعْلَة من تَبَوَّأت، فانقلبت الواو ياء؛ لسكونها وانكسار ما قبلها، فصارت بيئة، فإذا ألقيت عليها فتحة الهمزة قويت بها، فرجعت الواو لقوة الحرف بالحركة، فقلبت "بِوَة" وقد استقصينا هذا الموضع من كتابنا المعرب، فهذا أحد الوجهين في "رِيًا" بالتخفيف. والآخر أن يكون يريد "رِيًا" من رويت، ثم يخفف الكلمة بحذف إحدى الياءين، كما قال: أتاني القوم لا سيما زيد بتخفيف الياء، وقولهم في الطَّيَّة5 والنية: الطِيَة والنِّيَة، بحذف إحدى الياءين. وينبغي أن تكون المحذوفة من ذلك كله هي الياء الثانية؛ لأمرين: أحدهما أنها هي المكررة، وبها وقع الاستثقال، وإياها ما6 حذف.
والآخر أنها لام، وقد كثر حذف اللام حرف علة: كمائة، ورِئة، وفِئة. وقلما تحذف العين، فهذا هذا. وأما "الزِّي"، بالزاي ففِعل من زَوَيْت؛ وذلك أنه لا يقال لمن له شيء واحد من آلته: زِيٌّ1، حتى تكثر آلته المستحسنة، فهي إذا من زويْت، أي جمعت. ومن قول النبي "صلى الله عليه وسلم": "زُوِيَت لِيَ الأرضُ" 2، أي جمعت، ومن قول الأعشى؛ يَزِيدُ يغُضّ الطرْفَ دُونِي كَأَنَّما ... زَوَى بين عَيْنَيْه علَى المَحَاجِمِ3 وأصلها زِوْيٌ، فقلبت الواو على ما مضى، وأدغمت في الياء. ومن ذلك قراءة أبي نهيك: "كَلًّا سَيَكْفُرُون4"، بالتنوين. قال أبو الفتح: ينبغي أن تكون "كلا" هذه مصدران كقولك: كل السيف كلا، فهو إذًا منصوب بعفل مضمر، فكأنه لما قال: "سبحانه": {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا 5} قال الله "سبحانه" رادا عليهم: "كلا"، أي: كل الرأي والاعتقاد كلا، ورأوا منه رأيا [98و] كلا، كما يقال: ضعفا لهذا الرأي وفيالة6، فتم الكلام، ثم قال "تعالى" مستأنفا فقال: كل رأيهم كلا، ووقف، ثم قال من بعد: "سيكفرون"، فهناك إذا وقفان: أحدها "عزا"، والآخر "كلا"؛ من حيث كان منصوبا بفعل مضمر، لا من حيث كان زجرا وردا وردعا. ومن ذلك قراءة السلمى: شيئ أدا7، بالفتح. قال أبو الفتح: الأد، بالفتح: القوة.
قال: نَضَوْنَ عَنِّي شِرَّةً وَأَدَّا ... مِنْ بَعْدِ مَا كُنْتُ صَمُلًّا نَهْدَا1 فهو إذًا حذف المضاف، فكأنه قال: لقد جِئْتُم شيئا ذا أدٍّ، أي: ذا قوة. فهو كقولهم رجل زَوْر2 وعَدْل وضَيْف، تصفه بالمصدر إن شئت على حذف المضاف، وإن شئت على وجه آخر أصنع من هذا وألطف، وذلك أن تجعله نفسه هو المصدر للمبالغة، كقول الخنساء: تَرْتَعُ مَا غَفَلَتْ حَتَّى إِذَا ادَّكَرَتْ ... فإنما هِيَ إقبالُ وإدبارٌ3 إن شئت على ذات إقبال وإدبار، وإن شئت جعلتها نفسها هي الإقبال والإدبار، أي: مخلوقة منهما: ويدلك على أن هذا معنى عندهم لا على حذف المضاف، بل لأنهم جعلوه الحدث نفسه قولهم، أنشدناه أبو علي: ألّا أصبحَتْ أسماءُ جَاذِمَةَ الْحَبْلِ ... وَضَنَّتْ عَلَيْنَا وَالضَّنِينُ مِنَ الْبُخْلِ4 أي: هو مخلوق من البخل، ولا تحمله على القلب، أي: والبخل من الضنين؛ لصغر معناه إلى المعنى الآخر، ولأنه مع ذلك أيضا نزول عن الظاهر وأنشدنا أيضا. وَهُنَّ مِنَ الإخْلافِ قَبْلَكَ وَالْمُطْلِ5 وأنشدنا أيضا: وَهُنَّ مِنَ الإخْلافِ وَالْوَلَعانِ6 ويكفي من هذا كله قول الله "سبحانه": {خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} 7، أي من العَجَلَة، لا من الطين كما يقول قومٌ؛ لقوله: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ} 8.
سورة طه
سورة طه: بسم الله الرحمن الرحيم قرأ الضحاك وعمرو بن فائد: "طاوى" مُبَيَّضٌ1. ومن ذلك قراءة سعيد بن جبير، ورويت عن الحسن ومجاهد: "أَخْفِيهَا"2، بفتح الألف. قال أبو الفتح: أَخْفَيْت الشيءَ: كتمْته، وأظهرته جميعا وخَفَيْتُه بلا ألف: أظهرتُه البتة. فمن ذلك قراءة من قرأ: "أُخْفِيهَا". قالوا: معناه أُظْهِرُها. قال أبو علي: الغرض فيه أزيل عنها خفاءها3، وهو ما تلف فيه القربة ونحوها: من كساء، وما يجري مجراه، قال: وعليه قول الشاعر: لَقَدْ عَلِمَ الأيْقَاظُ أَخْفِيَةَ الْكَرَى ... تَزَجُّجَهَا مِنْ حَالِكٍ واكْتِحَالِهَا4 قال: أراد الأيقاظ عيونا5، فجعل العين كالخِفاء للنومِ؛ لأنها تستره، قال: مِن ألفاظ السلب: فأخفيتُه: سَلَبْتُ عنه خِفاءه، وإذا زال عنه ساتره ظهر لا محالة، ومثله من السلب: أشكيْتُ الرجل: إذا أزلتَ عنه ما يشكُوه، وقد سيق نحو هذا وحديثُ السلب في اللغة. فأما "أَخْفِيهَا" بفتح الألف فإنه [98ظ] أُظهرها. قال امرؤ القيس:
خَفَاهُنَّ مِن أَنْفَاقِهِنَّ كأنَّما ... خَفَاهُنَّ وَدْقُ مِنْ عَشِيٍّ مُجَلّب1 فهذا إذًا أكاد أُظهرها، وقيل: أكادُ أخفيها من نفسي. وفي هذا ضرب من التصوف وقيل: أكاد أخفيها: أريد أخفيها، وأنشد أبو الحسن شاهدا له: كَادَتْ وَكِدْتُ وَتِلْكَ خَيْرُ إِرَادَةٍ ... لَوْ عَادَ مِن لَهْوِ الصَّبابَةِ مَا مَضَى2 فكأنه قال: أرادت وأردت: لقوله: وتلك خير إرادة. وقيل: أكاد هنا زائدة. أي: أخفيها وأنشدوا فيه لحسان: وتَكَادُ تَكْسَلُ أنْ تَجِيءَ فِرَاشَهَا ... فِي جِسْمِ خَرعَبَة وَحُسْنِ قَوَام3 فإذا كان "أَخْفِيها" بالفتح أو "أُخْفِيها" بمعنى أظهرها فاللام في قوله: "لِتُجْزَى" معلَّقةٌ بنفس "أخفيها"، ولا يحسن الوقف دونها. وإذا كان من معنى الإخفاء والستر فاللام متعلقة بنفس "آتية". أي: إن الساعة آتية لِتُجْزَى كل نفس بما تسعى، أكاد أخفيها. فالوجه أن تقف بعد "أخفيها" وقفة قصيرة. أما الوقفة فلئلا يظن أن اللام معلَّقةٌ بنفس "أخفيها"، وهذا ضِد المعنى، لأنها إذا لم تظهر لم يكن هناك جزاء، إنما الجزاء مع ظهورها. فأما قصر الوقفة فلأن اللام متعلقة بنفس "آتية"، فلا يحسن إتمام الوقف دونها؛ لاتصال العامل بالمعمول فيه. وهذه الوقفة القصيرة ذكرها أبو الحسن، وما أحسنَها وألطفَ الصنعةَ فيها! ومن ذلك قراءة الحسن وعمرو -بخلاف عنهما: "هِيَ عَصَايِ"4 بكسر الياء، مثل غلامي5.
وقرأ: "عَصَايْ" ابن أبي إسحاق أيضا. قال أبو الفتح: كسر الياء في نحو هذا ضعيف؛ استثقالا للكسرة فيها وهربا إلى الفتحة، "كَهُدَايَ"1 و"يابُشْرَايَ"2، إلا أن للكسرة وجها ما. وذلك أنه قد قرأ حمزة: "مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيِّ3"، فكسر الياء لالتقاء الساكنين مع أن قبلها كسرة وياء، والفتحة والألف في "عصايِ" أخف من الكسرة والياء في "مصرخِيِّ". وروينا عن قطرب وجماعة من أصحابنا: قالَ لَهَا هَلْ لَكَ يَا تَافِيِّى4 أراد "فِيّ"، ثم أشبع الكسرة للإطلاق، وأنشأ عنها ياء نحو منزلي وحوملي5، وروينا عنه أيضا: عَلَىِّ لِعَمْرٍو نِعْمَةٌ بَعْدَ نِعْمَةٍ ... لِوَالِدِهِ لَيْسَتْ بِذَاتِ عَقَارِبِ6 وروينا عنه أيضا: إنَّ بَنِيِّ صِبْيَةٌ صَيْفِيُّونْ ... أَفْلَحَ مَنْ كَانَ لَهُ رِبْعِيُّونْ7 وقول ابن مجاهد: مثل غلامي لا وجه له؛ لأن الكسرة في ياء "عصايِ" لالتقاء الساكنين، والكسرة في ميم "غلامي" هي التي تحدثها ياء المتكلم. أفترى أن في "عصايِ" بعد ياء المتكلم
ياء له أخرى حتى يكون للمتكلم ياءان؟ وهذا محال، وإنما غرضه أن الياء في "عصايِ" مكسور كما أن ميم غلامي مكسورة، وأساء التمثيل على ما ترى. ومن ذلك قراءة عكرمة، "وَأَهُسُّ"1 بالسين. وقرأ إبراهيم: "وَأَهِشُّ"، بكسر الهاء، وبالشين. قال أبو الفتح: أما "أَهِشُّ"، بكسر الهاء، وبالشين معجمة فيحتمل2 أمرين: أحدهما [99و] : أن يكون: أَمِيل بها على غنمي، إما لسوقها. وإما لتكسير الكلأ لها بها، كقراءة من قرأ: "أهُشُّ" بضم، الشين معجمة، يقال: هشَّ الخبزُ يهشُّ: إذا كان جافا يتكسر لهشاشته. والآخر أن يكون أراد "أهُشُّ" بضم الهاء، أي أكسر بها الكلأ لها؛ فجاء به على "فَعَلَ يفْعِل" وإن كان مضاعفا ومتعديا. فقد مر بنا نحو ذلك3، منه: هَرَّ الشيءَ يَهِرُّه: إذا كرهه، ومنه قول عنترة: حَتَّى تَهِرُّوا الْعَوَالِيَا4 أي: تكرهوها، وهو من قول قيس بن ذّرِيح5: نَهَارِي نَهَارُ الناسِ حَتَّى إِذَا بَدَا ... لِيَ اللَّيلُ هَرَّتْنِي إلَيْك الْمَضَاجِعُ6 أي: كرهْتني، فنبَتْ بِي، وهزَّتْنِي بالزاي تصحيفٌ عندهم، ومثله: حَبَّ الشَّيءَ يَحِبُّه
بكسر الحاء ألبتة. ولم يضموها، وغذّ1 العرقُ الدمَ يغِذُّه ويغُذُّه، وتمَّ الحديث يتِمُّه ويتُمُّه، وشَدَّ الحبل يشِدُّه ويشُدُّه. في أحرف سوى هذه. وكذلك يكون "أهش" كقراءة من قرأ: "أهُشُّ"، بضم الهاء، والشين معجمة. وأما "أهُسُّ" بالسين غير معجمة فمعناه أسوق: رجل هساس. أي: سواق. فإن قلت: فكيف قال: "أهسُّ بها على غنمي؟ "، وهلا قال: أهسُّ بها غنمي. كقولك: أسوق بها غنمي؟ قيل: لما دَخَلَ السَّوقَ معنى الانتحاءِ لها والميل بها عليها استعمل معها "على"، حملا على المعنى، وقد ذكرنا من هذا فيما مضى صدرا صالحا2. ومن ذلك قولهم: كفى بالله أي كفى الله. إلا أنهم زادو الباء حملا على معناه؛ إذ كان في معنى اكتف بالله. ولذلك قالوا حسبك به لما دخله معنى اكتف به. ولذلك أيضا حذفوا خبره في قولهم: حسبك لما دخله معنى اكتف، والفعل لا يخبر عنه, ونظائره كثيرة جدا. ومن ذلك قراءة أبي جعفر يزيد: "وَلْتُصْنَعَ عَلَى"3 بجزم اللام والعين. وقرأ: "ولِتَصْنَعَ". بفتح التاء والعين. وكسر اللام -أبو نهيك. قال أبو الفتح: ليس دخول لام الأمر هنا كدخولها في قراءة النبي "صلى الله عليه وسلم" وغيره ممن قرأها معه: "فَبِذَلِكَ فَلْتَفْرَحُوا"4 بالتاء. وفرق بينهما أن المأمور في "فلتفرحوا" مخاطب، وعرف ذلك وعادته أن يحذف حرف المضارعة فيه. كقولنا: قُمْ، وقعد، وخُذْ ، وسِرّ، وبع، وأما "ولتصنع فإن المأمور غائب غير مخاطب. فإنما هو كقولنا: ولتعن بحاجتي. ولتوضع5 في تجارتك؛ لأن العاني بها والواضع فيها غيرهما. وهما المخاطبان6. فهذا كقولك: ليضرب زيد ولتضرب هند.
وأما قول الرجل لصاحبه: خذ طرفك ولآخذ طرفي، وقولهم: لنمش كلنا، ولنقم إلى فلان، ونحو ذلك فإنما جاء باللام لأنه لم يكدر أمر الإنسان نفسه، فلما قل استعماله لم يخفف بحذف اللام كما أمر المأمور الحاضر، فخفف نحو قم، سر، وبع، وخف، ونم. وأما: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} ففسره أحمد بن يحيى، أي: لتكون حركتك وتصرفك على عين مني، قال: ومعنى {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} ، بضم التاء: لتربَّ1 وتغذى بمرأى مني. ومن ذلك قراءة ابن محيص: "أَنْ يُفْرَطَ"2 بفتح الراء: قال أبو الفتح: هذا منقول من قراءة من قرأ: "أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا"، أي: يسبق ويسرع، فكأنه أن يفرطه مفرِط، أي: يحمله حامل على السرعة علينا وترك التأني بنا، فكأنه قال: أن يُحمل على العجلة في بابنا [99ظ] . ومن ذلك قراءة الحسن: "مَكَانًا سُوَى"، غير منون. قال أبو الفتح: ترك صرف "سوى" ههنا مشكل، وذلك أنه وصف على فُعَل، وذلك مصروف عندهم: كمالٍ لُبَد4، ورجلٍ حُطَم5، ودليلٍ خُثَع6، وسُكَع7، إلا أنه ينبغي أن يحمل عليه أنه محمول على الوقف عليه، فجاء بترك التنوين. فإن وصل على ذلك فعلى نحو من قولهم: سبسبا وكلكلا8، فجرى في الوصل مجراه في الوقف.
ومن ذلك قراءة الحسن والأعمش والثقفي، ورويت عن أبي عمرو: "يَوْمَ الزِّينَةِ"1، بالنصب. قال أبو الفتح: أما نصب "يَوْمَ الزِّينَةِ" فعلى الظرف، كقولنا: قيامك يومَ الجمعة، فالموعد إذًا2 ههنا مصدر، والظرف بعده خبرٌ عنه. وهو عندي على حذف المضاف، أي: إنجاز موعدنا إياكم في ذلك3 اليوم. ألا ترى أنه لا يراد في ذلك اليوم نعدكم؟ كيف ذا والوعد قد وقع الآن؟ إنما يتوقع إنجازه في ذلك اليوم، لكن في قوله: {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} النظر، فظاهر حاله أن يكون مجرور الموضع حتى كأنه قال: موعدكم يوم الزينة وحشر الناس ضحى، أي: يوم هذا وهذا؛ فيكون "أن يحشر" معطوفا عل الزينة. وقد يجوز أن يكون مرفوع الموضع عطفا على الموعد، فكأنه قال: إنجاز موعدكم وحشر الناس ضحى في يوم الزينة، أي: هذان الفعلان في يوم الزينة، فكأنه جعل الموعد عبارة عن جميع ما يتحدد ذلك اليوم: من الثواب، والعقاب، وغيرهما سوى الحشر. ألا تراه عطفه عليه. وأنت لا تقول: جاء القوم وزيد، وقد جاء زيد معهم؛ لأن الشيء لا يعطف على نفسه وكذلك قول الله "تعالى": {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} 4 لا يكون5 "جبريل" و"ميكائيل" داخلين في جملة الملائكة؛ لأنهما معطوفان عليهم، فلابد أن يكونا خارجين منهم، فأما قوله: أكُرُّ عَلَيْهِمْ دَعْلَجًا وَلَبَانَهُ ... إذَا مَا اشتكَى وقعَ الرماحِ تَحَمْحَمَا6 فيروى "لبانه" رفعا ونصبا، فمن رفعه فلا نظر فيه؛ لأنه مبتدأ وما بعده خبر عنه. وأما النصب فعلى أنه أخرج عن الجملة "لبانه"، ثم عطفه عليه، وساغ له ذلك لأنه مازه من جملته إكبارا له وتفخيما منه، كما ماز "جبريل" و"ميكائيل" من جملة الملائكة تشريفا
لهما، وكذلك قوله: {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} ليس في جملة ما دل عليه الموعد لما قدمناه، كأنه مميز من الزينة في اعتقادك إياه مجرورا؛ لأنه معطوف عليها. وأما من رفع فقال: "يَوْمُ الزِّينَةِ" فإن الموعد عنده ينبغي أن يكون زمانا، فكأنه قال: وقت وعدي يوم الزينة، كقولنا: مبعث1 الجيوش شهر كذا، أي: وقت بعثها حينئذ. والعطف عليه بقوله: {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} يؤكد الرفع؛ لأن "أن" لا تكون ظرفا. ألا ترى أن من قال: زيارتك إياي مقدم الحاج لا يقول: زيارتك إياي أن يقدم الحاج؟ وذلك أن2 لفظ المصدر الصريح أشبه بالظرف من "أن" وصلتها التي بمعنى المصدر، إذا كان اسما لحدث، والظرف [100و] اسم للوقت، والوقت يكاد يكون حدثا. وعلى كل حال فلست تحصل من ظرف الزمان على أكثر من الحدث الذي هو حركات الفلك، فلما تدانيا هذا التداني ساغ وقوع أحدهما موقع صاحبه. وأما "أن" فحرف موصول، جعل بدل لفظه على أنه في معنى المصدر. وما أبعد هذا عن الظرفية! وقد استقصينا القول على ذلك في كتابنا الخصائص3 وغيره من مصنفاتنا وينبغي أيضا أن يكون على حذف المضاف، أي: وقت وعدكم يوم الزينة ووقت حشر الناس؛ لأن الحشر في الحقيقة ليس وقتا، كما أن: قولك: ورودك مقدم الحاج إنما هو على حذف المضاف، أي: وقت مقدم الحاج وكذلك، خفوق النجم وخلافة فلان. فاعرف ذلك. ومن ذلك قراءة ابن مسعود والجحدري وأبي عمران الجوني وأبي نهيك وأبي بكرة وعمرو بن فائد: "وَأَنْ يَحْشُرَ النَّاسَ ضُحًى"4. قال أبو الفتح: الفاعل هنا مضمر، أي: وأن يحشر الله الناس، فهذا كقوله "سبحانه": {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا5} ، وجميع هذا يراد به العموم، أي: يحشرهم قاطبة وطُرًّا
ولا يكون1 حالا كقوله "سبحانه": {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} 2 ويدل عليه أيضا قوله: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} 3. ومن ذلك قراءة الحسن والثقفي: "تُخَيَّلُ"4، بالتاء. قال أبو الفتح: هذا يدل على أن قوله "تعالى": {أَنَّهَا تَسْعَى} بدل من الضمير في "تُخَيَّلُ" وهو عائد على الحبال والعصي، كقولك: إخوتك يعجبونني أحوالهم. فأحوالهم بدل من الضمير العائد عليهم بدل الاشتمال. ومنه قوله "تعالى": {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} 5 فيمن جعل "الأبواب" بدلا من الضمير في "مفتحة"، وهذا أمثل من أن يعتقد خلو "تُخَيَّلُ" من ضمير يكون ما بعده بدلا منه، لكن يؤنث الفعل لتضمن ما بعد أن لفظ التأنيث، كقراءة من قرأ: "لا تَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا"6 لأنه أسهل وأسرح7 من إتعاب الإعراب والتعسف به من باب إلى باب. ومن ذلك قراءة ابن مسعود وأُبي بن كعب وعبد الله بن الزبير ونصر بن عاصم والحسن وقتادة وابن سيرين -بخلاف، وأبي رجاء: "فَقَبَصْتُ قَبْصْةً8"، بالصاد فيهما. وقرأ: "قُبْصْةً"، بالصاد وضم القاف الحسن، بخلاف. قال أبو الفتح: القبض بالضاد معجمة باليد كلها، وبالصاد غير معجمة بأطراف الأصابع. وهذا مما قدمت إليك في نحوه تقارب الألفاظ لتقارب المعاني، وذلك أن الضاد لتفشيها واستطالة مخرجها ما9 جعلت عبارة عن الأكثر، والصاد لصفائها وانحصار مخرجها وضيق محلها ما9 جعلت عبارة عن الأقل. ولعلنا لو جمعنا من هذا الضرب ما مر بنا منه لكان أكثر من ألف موضع
هذا مع أننا لا نتطلبه ولا نتقرى مواضعه، فكيف لو قصدنا وانتحينا وجهه وحراه1؟ نسأل الله أن يجعل ما علمنا منه لوجهه مدنيا من رضاه، ومبعدا من غضبه بقدرته وماضي مشيئته. وأما "القبصة" بالضم فالقدر المقبوص، كالحسوة للمحسوّ2، والحسوة [100ظ] فعلك أنت، والقبضة والقبصة جميعا على ذلك إنما هما حدثان موضوعان موضع الجثة، كالخلق في معنى المخلوق، وضرب الأمير، ونسج اليمن، في معنى مضروبه ومنسوجه. ومن ذلك قراءة أبي حيوة: "لا مَسَاسِ"3. قال أبو الفتح: أما قراءة الجماعة: {لا مِسَاسَ} فواضحة؛ لأنه المماسَّة: مَاسَسْتُهُ مِسَاسًا كضَاربْتُه ضَرابًا، لكن في قراءة من قرأ: "لا مَسَاسِ" نظرا؛ وذلك أن "مساسِ" هذه كنَزَالِ ودَرَاكِ وحَذَارِ، وليس هذا الضرب من الكلام -أعني ما سمي به الفعل- مما تدخل "لا" النافية للنكرة عليه، نحو لا رجل عندك ولا غلام لك فـ"لا" إذًا في قوله: "لا مَسَاسِ" نفي للفعل، كقولك: لا أمسّك ولا أقرب منك، فكأنه حكاية قول القائل: مَساسِ كدَراكِ ونَزالِ، فقال: لا مَساسِ، أي: لا أقول: مساس، وكان أبو علي ينعم التأمل لهذا الموضع لما ذكرته لك، وقال الكميت: لا هَمَامِ لِي لا هَمَامِ4 أي: لا أقولُ: هَمَامِ، فكأنه من بَعدُ لا أهمّ بذلك، ولا بد من الحكاية أن تكون مقدرة. ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول: لا أضربُ، فتنفي "بلا" لفظ الأمر5؛ لتنافي اجتماع الأمر والنهي. فالحكاية إذا مُقدَّرة مُعتقَدة.
فإن قال قائل: فأنت لا تقول: مساسِ في معنى امسس. فياليت شعري ما الذي بنيت؟ قيل: ليس هذا أول معتقد معتزم تقديرا. وإن لم يخرج إلى اللفظ استعمالا. ألا ترى إلى ملامحَ وليالٍ في قول سيبويه ومذاكير ومشابِه: لا آحاد لها مستعملة. وإنما هي مرادة متصورة معتقدة، فكأن الواحد ملمحة ومشبَهْ وليلاة ومِذكار أو مِذكير أو نحو ذلك، فكذلك "لا مساسِ"، جاء على أنه قد استعمل منه في الأمر مساسِ فنفى على تصور الحكايةِ والقولِ وإن لم يأت به مسموع، ونظائرُه كثيرةٌ، وكذلك القول في "همامِ" من بيت الكميت. ومن ذلك قراءة الحسن بخلاف: "لَنْ نُخْلَفَهُ1" بالنون. وقرأ: "لَنْ يَخْلُفَهُ" أبو نهيك. قال أبو الفتح: أما قراءة الجماعة: {لَنْ تُخْلَفَهُ} فمعناه: لن تصادفه مُخلَفًا، كقول الأعشى: فَمَضَى وأخلفَ من قُتَيْلَةَ مَوْعِدًا2 وقد مضى هذا مستقصى3. وأما "نُخْلِفَهُ" بالنون فتقديره: لن نُخْلِفَكَ إياه، أي: لن ننقض منه ما عقدناه لك. وأما "يَخْلُفَهُ" أي4 لا يخلُف الموعد الذي لك عندنا ما أنت عليه5 من محنتك في الدنيا بأن يكون نقيضه ومزيلا لحكمه، بل تكون في الآخرة كحالك في الدنيا. كما قال "سبحانه": {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا} 6، وكقوله "تعالى": {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} 7، ومنه قوله "سبحانه": {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} 8، أي: يحضر أحدهما فيخلُف الآخر، بأن ينقض حاله ويستأثر بالأمر دونه. والهاء في "يخلفه" عائدة على "أن تقول لا مَسَاسِ"، أو "لا مِسَاسَ".
ومن ذلك قراءة علي1 وابن عباس "عليهما السلام" وعمرو بن فائد: "لَنَحَرُقَنَّهُ"2، بفتح النون. وضم الراء. قال أبو الفتح: حرقْتُ الحديدَ: إذا بردتَه، [101و] فتحاتَّ وتساقَطَ. ومنه قولهم: أنه لَيَحْرُق عليَّ الأرَّم، أي: يحك أسنانه بعضها ببعض غيظًا عليَّ. قال: نُيُوبَهم علينا يحرُقُونا3 وقال زهير: أبَى الضيمَ والنعمانُ يحْرُق نابَه ... عليه فأفضَى والسيوفُ معاقِلُهْ4 وأنشد أبو زيد، ورويناه عنه: نُبِّئتُ أحماءَ سُلَيْمَى أنما ... باتُوا غِضَابًا يحرُقون الأرَّما إن قلتُ أسقَى عاقِلا فأظْلَما ... جَوْنًا وأسقَى الحرتيْنِ الدِّيَما5 فكأن "لنَحْرُقَنَّه" على هذا: لنَبْرُدَنَّه ولنَحُتَّنَّه حتًّا، ثُمَّ، لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا. ومن ذلك عندي تسميتهم هذا الزورق حراقة، وهو كقولهم لها: سفينة؛ لأنها تَسْفِنُ وجه الماء، فكذلك تَحْرُقُه أيضًا. ومن ذلك قراءة مجاهد وقتادة: "وَسَّعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا"6.
قال أبو الفتح: معناه -والله أعلم: خَرَّقَ كلًّ مصمتٍ بعلمِه؛ لأنه بَطَن كل مُخْفًى ومستبهم، فصار لعلمه فضاء متسعًا، بعد ما كان متلاقيا مجتمعا. ومنه قوله "تعالى": {أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} 1. فهذا العمل. وذلك في العلم. ومن ذلك قراءة عياض: "فِي الصُّوَرِ2". بفتح الواو. قال أبو الفتح: هذا جمع صورة، وقد يقال: فيها صير وأصلها صور. فقلبت الواو ياء للكسرة قبلها استحسانا. وقد أفردنا في الخصائص بابا للاستحسان3. قال ذو الرمة: أشبهْنَ من بقرِ الخلصاءِ أعيُنَهَا ... وهنَّ أحسنُ من صِيرَانِه صِيرَا4 وصِوَرا: قال أبو عبيدة: الصُّوَر جمع صورة. كصوَف جمع صوفة. ويقال: الصوَر: القرن، ويقال: فيه ثقب5 بعدد أنفس البشر، فإذا نفخ فيه قال الناس بالأَرْمَاسِ6. ومن ذلك قراءة الحسن: "أَوْ يُحْدِثْ لَهُمْ ذِكْرًا7"، ساكنة الثاء. قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون هذا مما يسكن استثقالا للضمة، كقول جرير، أنشدَناه أبو علي" سِيرُوا بَنِي الْعَمِّ فالأهْوَازُ منزِلُكُمْ ... ونهرُ تِيرَى ولا تعرِفْكُمُ العربُ8 أي: ولا تعرفُكم، وقد مضى ذكر نحوه. ومن ذلك قراءة الأعمش: "فَنَسِيْ وَلَمْ9"، ولا ينصب الياء.
قال أبو الفتح: قد قدمنا القول على سكون هذه الياء1 في موضع النصب والفتح وأنه عند أبي العباس من أحسن الضرورات، حتى إنه لو جاء به جاء في النثر لكان قياسا. ومن ذلك ما يروى عن أبان بن تغلب: "وَنَحْشُرْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى"2، بالجزم. قال أبو الفتح: هو معطوف على موضع قوله عز وجل: "فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا"، وموضع ذلك جزم لكونه جواب الشرط الذي هو قوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} ، فكأنه قال: ومن أعرض عن ذكري يَعِشْ عيشة ضنكا ونحشرْهُ، كما تقول: من يزرْنِي فله درهمٌ وأزده على ذلك، أي: من يزرْني يجبْ له درهم علي وأزده عليه. وعليه قراءة أبي عمرو بن العلاء: "فَأَصَّدَّقَ وَأَكُونَ مِنَ الصَّالِحِينَ"3.
سورة الأنبياء
سورة الأنبياء: بسم الله الرحمن الرحيم [101ظ] قراءة يحيى بن يعمر وطلحة بن مصرف: "هَذَا ذِكْرٌ مِنْ مَعِيَ وَذِكْرٌ مِنْ قَبْلِي1"، بالتنوين في "ذكر"، وكسر الميم من "مِنْ". قال أبو الفتح: هذا أحد ما يدل على أن "مع" اسم، وهو دخول "مِنْ" عليها. حكى صاحب الكتاب وأبو زيد ذلك عنهم: جئت من معهم، أي: من عندهم، فكأنه قال: هذا ذكر مِنْ عندي ومِنْ قَبلي، أي: جئت أنا به، كما جاء به الأنبياءُ مِنْ قَبلي، كما قال الله "تعالى": {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} 2. ومن ذلك قراءة الحسن وابن محيصن: "الْحَقُّ فَهُمْ مُعْرِضُون"3. قال أبو الفتح: الوقف في هذه القراءة على قوله "تعالى": "لا يَعْلَمُونَ"، ثم يستأنف: "الحقُّ"، أي هذا الحق، أو هو الحق؛ فيحذف المبتدأ، ثم يوقف على "الحق"، ثم يستأنف فيقال: فهم معرضون، أي: فهم معرضون4، أي: أكثرهم لا يعلمون. ومن ذلك قراءة أبي عبد الرحمن عبد الله بن يزيد: "فَذَلِكَ نُجْزِيهُ"5، برفع الهاء والنون. قال ابن مجاهد: لا أدري ما ضم النون؟ لا يقال إلا جزيت، كما قال: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا} 6.
قال أبو الفتح: هو لعمري غريب عن الاستعمال، إلا أن له وجها أنا أذكره. وذلك أنه يقال: أجزأني الشيء: كفاني، وهذا يجزئني من كذا، أي يكفيني منه، فكأنه في الأصل نجزئ به جهنم، أي نكفيها به، ومعناه: نمكنها منه. فتأتي عليه، كأنها تطلب باستيفائها إياه الاكتفاء بذلك، ثم حُذف حرف الجر. فصار نجزئه جهنم، أي: نُطعمه جهنم، كما حُذف الحرف في قوله "تعالى": {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا} 1، أي: من "قومه"، ثم أبدلت الهمزة من نجزئه ياء على حد أخطيت وقريت؛ فصارت ياء ساكنة: نجزِيهُ، وأقرت الهاء على ضمتها وهو الأصل، كما قرأ أهل الحجاز: "فَخَسَفْنَا بِهُو بِدَارِهُو الْأَرْضَ2". وزاد في حسن الضمة هنا أن الأصل الهمز. والهاء مع الهمزة هنا مضمومة. أي: نجزئه، فلما أبدلت الهمزة على غير قياس صارت الهاء كأن لا ياء قبلها؛ لأنه ليس هناك مسوغ للهمز لولا حمله على قريت وبابه، فبقيت الهاء على ضمتها تنبيها على أن الهمز ياء في الحكم، وأن ما عرض فيه من البدل لم يكن عن قَوِيّ عذر، فهذا3 طريق الصنعة فيه. وهو أمثل من أن يحمل على إعطاء في بابه بما لا طريق إلى تسهيل طريقه. ومن ذلك قراءة الحسن وعيسى الثقفي وأبي حيوة: "رَتَقًا"4، بفتح التاء. قال أبو الفتح: قد كثر عنهم مجيء المصدر على فَعْل ساكن العين. واسم مفعول منه على فعَل مفتوحها، وذلك قولهم: النفْضُ للمصدر والنَّفَضُ للمنفوض5، والخبْط. المصدر والخبَط الشيء المخبوط، والطرْد المصدر والطرَد المطرود. وإن كان قد يستعمل مصدرا، نحو: الحلْب والحلَب. فقراءة الجماعة: {كَانَتَا رَتْقًا} كأنه مما وضع من المصدر موضع اسم المفعول، كالصيْد في معنى المصيد، والخّلْق بمعنى المخلوق. وأما "رَتَقًا"، بفتح التاء فهو المرتوق، أي: كانتا شيئا واحدا مرتوقا، فهو إذًا كالنفض
والخبط، بمعنى المنفوض والمخبوط. ونحو من ذلك مجيئهم بالمصدر على فَعْل مفتوح الفاء [102و] ، واسم المفعول على فِعْل بكسرها، نحو رعيْت رَعيًا والرِّعي: المرعى، وطحنت الشيء طحنا والطِّحن: المطحون. ونقضت الشيء نقضا. والنِّقض: التعب، فكأنه منقوض. وسوغ الانحراف عن المصدر تارة على فَعَل والأخرى إلى فِعْل -تعاقبُ فِعْل وفَعَل في أماكن صالحة على المعنى الواحد، وهو المِثْل والمَثَل، والبِدْل والبَدَل، والشِّبْه والشَّبَه. ومن المعتل القِيل والقَال، والرِّير1 والرَّار. والكِيح2 والكَاح، والقِير والقَار. وقالوا أيضًا صِغْوُهُ3 معك وصَغَاهُ معك، وكذلك عندي ما عدلوا بِفَعَل تارة إلى فِعْل، وأخرى إلى فُعْل، وذلك قولهم: بِنْت على فِعْل وأُخْت على فُعْل. وأصل كل واحد منهما فَعَل: بنو. وأخو، فلما مالوا إلى التأنيث جاءوا "ببنت" على فِعل. و"أخت" على فُعل؛ فصارا في التقدير بنو وأخو، ثم أبدلوا الواو تاء كتُجَاه وتُرَاث؛ فصارت بِنْتًا وأُخْتًا. وقد مالوا أيضا ببعضه إلى فَعْل. فقالوا: هَنْت4، وأصله فَعَل: هَنَوٌ، فأصاروه إلى هَنْو، ثم أبدلوا الواو تاء، فقالوا: هَنْت. وقابل ذلك أيضا من كلامهم ما كان فيه ثلاث لغات. نحو الشُّرب والشَّرب والشِّرب، والزَّعم والزُّعم والزِّعم. وقالوا شَنِئْتُه شَنْئًا وشِنئًا وشُنئًا. وقال أبو عبيدة: هو قُطْب الرحى وقِطْب وقَطْب، فهذا طريق مقابلة صنعة اللغة ولفظة واحدة منه في هذا الحد، وعلى التنبه وتدارك الوضع -يقوم مقام كتاب لغة يحفظ هكذا سردا، ولا تَبُلّ النفس بنحو ذلك من لطيف الصنعة فيه يدا. ومن ذلك قراءة ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والعلاء بن سيابة وجعفر بن محمد وابن سريج الأصبهاني: "آَتَيْنَا بِهَا"5، بالمد. قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون "آتَيْنَا" هنا فاعَلْنا لا أفْعَلْنا؛ لأنه لو كانت أفعَلْنا لما احتيج إلى الباء ولقيل: آتيناها. كما قال "تعالى": {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} 6،
فآتينا إذا من قوله: {أَتَيْنَا بِهَا} فاعلْنا، ومضارعها يُوَاتِي1 كيُهاتِي2 في قول الجماعة إلا أبا علي فإنه كان يقول في هات: غير ما يقول الناس فتصريف هذا الفعل آتينا نُواتِي مُواتاة، وأنا مواتٍ، وهو مواتًى. ومن قال: ضاربت ضِرَابًا قال: إتاءً، ومن قال: ضِيرَابا قال: إيتاءً؛ فإيتاءُ على فِيعال كضِيراب، ومن قال: أقاتلُ حتى لا أرى لي مُقاتًلا3 قال: مواتًى. ومن ذلك قراءة ابن عباس، وعكرمة والضحاك: "الْفُرْقَانَ ضِيَاءً"4، بغير واو. قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون "ضياء" هنا حالا، كقولك: دفعت إليك زيدا مجملا لك ومسددا من أمرك، وأصحبتك القرآن دافعا عنك ومؤنسا لك. فأما في قراءة الجماعة: "وضياء" بالواو، فإنه عطف على الفرقان، فهو مفعول به على ذلك. ومن ذلك قراءة ابن عباس وأبي نهيك وأبي السمال: "فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا"5. قال أبو الفتح: أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد عن أبي بكر محمد بن هارون6 عن أبي حاتم قال: فيها لغات: جِذاذا، وجُذاذا، وجَذاذا. قال: وأجودها الضم، كالحُطام والرُّقات، وكذلك روينا عن قطرب: جَذَّ الشيءَ يجُذه جَذًّا [102ظ] وجُذاذا وجِذاذا وجَذاذا.
ومن ذلك قراءة الحسن وابن أبي إسحاق والأشهب ورويت عن أبي عمرو: "أُمَّتُكُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ"1. قال أبو الفتح: تكون "أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ" بدلا من "أُمَّتُكُمْ"، كقولك: زيد أخوك رجل صالح، حتى كأنه قال: أخوك رجل صالح. ولو قرئ "أُمَّتَكُمْ" بالنصب بدلا وتوضيحا "لهذه". ورفع "أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ" لأنه2 خبر إن لكان وجها جميلا حسنا. ومن ذلك قراءة ابن عباس وسعيد بن المسيب وعكرمة وقتادة: "وَحَرِمَ عَلَى قَرْيَةٍ"3. وقرأ: "وحرُم" ابن عباس -بخلاف- وأبو العالية وعكرمة. وقرأ: "وَحَرَمَ عَلَى قَرْيَةٍ" قتادة ومطر الوراق. وقرأ: "وَحَرِمَ"، بفتح الحاء، وكسر الراء، والتنوين في الميم عكرمة، بخلاف. وقرأ: "وحَرْمٌ"، بفتح الحاء، وسكون الراء والتنوين ابن عباس، بخلاف. قال أبو الفتح: أما "حَرِمَ" فالماضي من حَرِمَ4، كقَلِقَ من قَلِقٍ، وبَطِرَ من بَطِرٍ. قالوا: حرم زيد، وهو حرم وحارم: إذا قبر ماله5، وأحرمته: قمرته. قال زهير: وإن أتاهُ خليلٌ يومَ مسألةٍ ... يقول لا غائبٌ مالي ولا حَرِمٌ6 وأما "حَرُمَ" فأمره في الاستعمال ظاهر. ومن جهة أحمد بن يحيى: "وَحَرِمٌ عَلَى قَرْيَةٍ"، أي: واجبٌ وحرامٌ، معناه: حُرِّمَ ذلك عليها، فلا تُبعث إلى يوم القيامة، وهذا على زيادة "لا"7، وحَرِمَ الرجلُ: إذا لجَّ في شيء ومَحَكَ8.
وأما "حَرُمَ" فمن حَرَمْتُه الشيءَ: إذا منعْتُه إياه، فقد عاد إذًا إلى معنى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ} . وأما "حَرْمٌ"، بفتح الحاء، وتسكين الراء فمخفف من حَرِمٌ على لغة بني تميم، فهو كبَطْر من بَطِرٍ، وفَخْذ من فَخِذٍ، وكَلْمة من كَلِمَة. وقال أبو وعلة: لا تأمنَنْ قوما ظلمتَهُمُ ... وبدأتَهُمُ بالشرِّ والحِرْمِ. فكسَر، فهذا يصلح أن يكون من معنى اللجاج والمحك، ويصلح أن يكون من معنى الحرمان، أي: ناصبتهم وحرمتهم إنصافك. ومن ذلك قراءة ابن مسعود: "مِنْ كُلِّ جَدَث يَنْسِلُونَ1". قال أبو الفتح: هو القبر بلغة أهل الحجاز، والجَدَفُ بالفاء لبني تميم. وقالوا: أجدثْتُ له جَدَثًا، ولم يقولوا: أجدفْتُ، فهذا يريك أن الفاء في "جَدَفٍ" بدل من الثاء في "جَدَثٍ". ألا ترى الثاء أذهب في التصرف من الفاء؟ وقد يجوز أن يكونا أصليين إلا أن أحدهما أوسع تصرفا من صاحبه، كما قالوا: وَكَّدْتُ عهدَه وأَكَّدْتُه، إلا أن الواو أوسع تصرفًا من الهمزة. ألا تراهم قالوا: قد وَكَدَ وَكْدَهُ2، أي: شغل به، ولم يقولوا: أَكَدَ أَكْدَهُ؟ فالواوُ إذًا أوسعُ تصرفًا، وعليه قالوا: مودَّةٌ وكِيدَةٌ، ولم يقولوا: أكِيدَةٌ. وقالوا: وَكَّدْتُ السَّرجَ، والوِكَادُ3، ولم تستعملْ هنا الهمزةُ، فهذا مذهبٌ مقتاس على ما رأيتك هنا. ومن ذلك قراءة ابن السَّمَيفع: "حَصْبُ جَهَنَّمَ4"، ساكنة الصاد. وقرأ: "حَضَبُ"، بالضاد مفتوحة- ابن عباس. وقرأ: "حَضْبُ"، ساكنة الضاد كُثِّير عَزَّة5.
وقرأ: "حَطَبُ جَهَنَّمَ" علي بن أبي طالب وعائشة "عليهما السلام" وابن الزبير وأبي بن كعب وعكرمة. قال أبو الفتح: أما الحَضَبُ1 بالضاد مفتوحة، وكذلك بالصاد غير معجمة فكلاهما الحطب، ففيه ثلاث لغات: حَطَبُ، وحَضَبُ، وحَصَبُ, وإنما يقال: حَصَبٌ إذا ألقي في التنور والموقد. فأما ما لم يستعمل فلا يقال له: حصب. وقال أحمد بن يحيى: أصل الحَصْب الرمي، حطبًا كان أو غيره. [103و] فهذا يؤكد ما ذكرناه من كونه المرمي في النار. قال الأعشى: فًلا تَكُ في حَرْبِنًا مِحْضَبًا ... لِتَجْعَلَ قوْمَكَ شَتَّى شُعُوبَا2 فأما "الحَصْب" ساكنا بالصاد والضاد فالطرح، فقراءة من قرأ: "حَضْبُ جَهَنَّمَ" و "حَصْبُ جَهَنمَ" بإسكان الثاني منهما إنما هو على إيقاع المصدر موقع اسم المفعول. كالخلق في معنى المخلوق، والصيد في معنى المصيد. وقد تقدم ذكر ذلك3. ومن ذلك قراءة أبي زرعة4: "السُجُلِّ"5 بضم السين والجيم، مشددة. وهذا أبو زرعة بن عمرو بن جرير، وكان قد قرأ على أبي هريرة. وقرأ: "كَطَيِّ السِّجْلِ"، بكسر السين، ساكنة الجيم، خفيفة اللام- الحسن، وأجازه أبو عمرو، وحكاه عن أهل مكة. وقرأ أبو السمال: "السَّجْل"، بفتح السين والجيم ساكنة، واللام خفيفة. قال أبو الفتح: السَّجْل: الكتاب، ويقال: هو كتاب العهدة ونحوها. وقال قوم: هو
فارسي معرب، وأنكر ذلك أصحابنا: أبو عبيدة وكافة أصحابنا، وقالوا: بل هو عربي، وهذه اللغات بعد مسموعة فيه. وقال قوم: هو مَلَك، وقال آخرون: هو كاتب كان للنبي "صلى الله عليه وسلم"، وذلك مدفوع؛ لأن كتابه معروفون. ويشبه أن يكون هذان القولان إنما قاد إليهما توهم من ظن أن السجلّ هنا فاعل في المعنى، وإنما هو مفعول في المعنى. وهو كقولك: كطي الكتاب للكتابة، وقوله: "للكتاب" كقولك: للكتابة، أي كطي الكتاب لأن يكتب فيه؟ ومن ذلك ما رواه أيوب عن يحيى عن ابن عامر أنه قرأ: "وَإِنْ أَدْرِيَ لَعَلَّه"1، "وَإِنْ أَدْرِيَ أَقرِيبٌ"2، بفتح الياء فيهما جميعا. قال أبو الفتح: أنكر ابن مجاهد تحريك هاتين الياءين، وظاهر الأمر لعمري كذلك، لأنها لام الفعل بمنزلة ياء أرمي وأفضي، إلا أن تحريكها بالفتح في هذين الموضعين لشبهة عرضت هناك، وليس خطأ ساذجا بحتا. وذلك أنك إذا قلت: "أدري" فلك هناك ضمير وإن كان فاعلا، فأشبه آخرهُ، آخرَ ما لك فيه ضمير وإن كان مضافا إليه، كقولك: غلامي وداري. فلما تشابه الآخران بكونهما ياءين، وهناك أيضا للمتكلم ضميران، وهما المرفوع في "أدري" و"صاحبي"؛ ففتحت الياء في "أدري" كما تفتح في نحو "داري" و"غلامي". ولا تستبعد في الشبه نحو هذا، فقد همزوا مصائب لما أشبه حرف اللين في مصيبة -وإن كانت عينا- حرف اللين في صحيفة وإن كان زائدا3. وقالوا ما هو أعلى من هذا، وهو أنهم تركوا صرف أحمد وأصرم4 لما أشبها بالمثال نحو أركبُ وأذهبُ، وقالوا أيضا: مَسِيل، وهو من سال يسيل وياؤه عين، ثم عاملوها معاملة ياء فعيل الزائدة، فقالوا:
أمسلة. كما قالوا: أجربة1، قالوا: سالت معنانه2. فحذفوا ياء معين، وهو من العيون، وأجروها مجرى ياء قفيز وقفزان الزائدة. هذا هو الظاهر. فأما قولهم: مَسِيل ومُسُل، وأَمْعَنَ بحقِّهِ: إذا أجاب إليه وانقاد له -فقد يجوز أن يكون إنما ساغ ذلك لما سمعوهم يقولن: مُعْنَان [103ظ] وأمْسِلَة، كما قال أبو بكر في قولهم3 ضَفنَ الرجلُ يضفِنُ إذا جاء ضيفًا مع الضيف: لما قالوا ضيفَنَ، فأشبه فيعلا4. فصارت النون في ضيفن كالأصل، إلا أن فَيْعَلا أكثر من فَعْلَن. فاشتُقَّ منه على أقوى ما يجب في مثله؛ فثبتت النون في ضَفَن لاما وإن كانت في ضَيْفَن زائدة. فكذلك شبهوا ياء "أدري" بياء غلامي وداري من حيث ذكرنا. فاعرفه معنى كالعذر أو عذرا. ومن ذلك قراءة أبي جعفر: "قُلْ رَبُّ احْكُمْ"5 بضم الباء، والألف ساقطة على أنه نداء مفرد. قال أبو الفتح: هذا عند أصحابنا ضعيف، أعني حذف حرف النداء مع الاسم الذي يجوز أن يكون وصفا لأي. ألا تراك لا تقول: رجل أقبل؛ لأنه يمكنك أن تجعل الرجل وصفا لأي. فتقول: يأيها الرجل؟ ولهذا ضعف عندنا قول من قال في قوله "تعالى": {هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} 6: إنه أراد يا هؤلاء. وحذف حرف النداء من حيث كان "هؤلاء" من أسماء الإشارة، وهو جائز أن يكون وصفا لأي في نحو قوله: ألا أيُّها ذا المنزِلُ الدارِسُ الذي ... كأنَّكَ لم يعهدْ بِكَ الحيَّ عاهِدُ7
و "رَبُّ" مما يجوز أن يكون وصفا لأي، ألا تراك تجيز يأيها الربُّ؟ قال أصحابنا فلم يكونوا ليَجمعوا عليه حذف موصوفه وهو "أي"، وحذف حرف النداء جميعا1. وعلى أن هذا قد جاء مثلُه في المثَل، وهو قولهم: افتدِ مخنُوق2، وأصبِحْ ليل3، وأطرقْ كَرا4. يريد يا مخنوق، وياليل، ويا كروان. وعلى أن الأمثال عندنا وإن كانت5 منثورة فإنها تجري في تحمل الضرورة لها مجرى المنظوم في ذلك. قال أبو علي: لأن الغرض في الأمثال إنما هو التسيير، كما أن الشعر كذلك، فجرى المثل مجرى الشعر في تجوز الضرورة فيه ومن الشعر قوله: عجِبْتُ لِعطَّارٍ أَتانا يَسُومُنا ... بِدَسْكَرَةِ المَرَّانِ دُهْنَ البنفسجِ فَقُلْتُ له: عطارُ هَلّا أتيْتَنا ... بنَوْر الخزامى أو بِخُوصَةِ عَرْفَجِ6
أراد يا عطار. وقد ذكرنا هذا في غير موضع من كتبنا، وإنما قال ابن مجاهد: والألف ساقطة لأجل قراءة ابن عباس وعكرمة ويحيى بن يعمر والجحدري والضحاك وابن محيصن: "رَبِّي احْكُمْ بِالْحَقِّ" بياء ثابتة، وفتح الألف والكاف، ورفع الميم.
سورة الحج
سورة الحج: بسم الله الرحمن الرحيم ومن ذلك قراءة الأعرج والحسن، بخلاف: "وَتَرَى النَّاسَ سُكُرَى وَمَا هُمْ بِسُكُرَى"1. ورُوِّينا عن أبي زرعة أنه قرأها أيضا: "سُكْرى" بضم السين والكاف ساكنة. كما رواه ابن مجاهد عن الحسن والأعرج. قال أبو الفتح: يقال رجل سَكْرَان وامرأة سَكْرَى، كغَضْبَان وغَضْبَى. وقد قال بعضهم: سَكْرَانة، كما قال بعضهم: غَضْبَانة، والأول أقوى وأفصح. فأما في الجميع2 فيقال: سَكَارَى بفتح السين، وسُكَارَى بضمها، وسَكْرَى كصَرْعَى وجَرْحَى. وذلك لأن السُكْرَ علةٌ لَحِقَت عقولهم، كما أن الصرع علة لحقت أجسامهم. وفَعْلَى في التكسير مما يختص به المبتلون، كالمرضى، والسقمى، والموتى، والهلكى. وبكل قد قرأ الناس3 [104و] فأما "سَكارَى"، بفتح السين فتكسير لا محالة وكأنه منحرف به عن سَكارِين، كما قالوا: ندمان وندامى، وكان أصله نَدامِين، وكما قالوا في الاسم: حومانة4 وحَوَامِين، ثم إنهم أبدلوا النون ياء. فصارت في التقدير سَكَارِيّ، كما قالوا إنسان وأَنَاسِيّ، وأصله أناسِين، فأبدلوا النون ياء، وأدغموا فيها ياء فعالِيل. فلما صار "سكاريّ" حذفوا إحدى الياءين تخفيفا فصار "سَكارِي"، ثم أبدلوا من الكسرة فتحة ومن الياء ألفا؛ فصار "سَكارَى"، كما قالوا في مدار5 وصحار ومعاي6: مَدارَى وصَحارَى ومَعايا.
ويدل على أنه قد كان في الأصل أن يقال في تكسير سكران: سَكارِين بالنون ما أنشده الفراء: إنْ يهبِطِ الضبُّ أرضَ النونِ ينصُرُهُ ... يهلِكْ ويعْلُ عليْهِ الماءُ والطينُ أو يهبِطِ النونُ أرضَ الضبِّ ينصُرُهُ ... يهلِكْ ويأكُلُهُ قومٌ غَراثِينُ فهذا تكسير غَرْثَان1، ومؤنثه غَرْثَى. أخبرنا أبو علي عن الفراء يقول الشاعر: مَمْكُورَةٌ غَرْثَى الوشاح السالِسِ ... تضحَكُ عنْ ذِي أُشُرٍ عُضَارس2 وأما "سُكارى" بالضم في السين فظاهره أن يكون اسما مفردا غير مكسّر كَجُمادَى وحُمَادَى3 وسُمانَى4 وسُلَامَى5. ُّ وقد يجوز أن يكون مكسَّرًا مما جاء على فُعَال: كالظُّؤار6، والعُرَاق7، والرُّخال8، والثُّناء9، والتؤام10، والرباب11، إلا أنه أنَّثّ بالألف كما أنَّثّ بالهاء في قولهم: النُّقاوة12. قال أبو علي: وهو جمع نِقْوَة، وأنَّثّ كما أنَّثّ فِعَال في نحو: حِجَارة، وذِكَارَة وعِيَارَة13.
وأما "سُكْرَى"، بضم السين فاسم مفرد على فُعْلى، كالحُبْلَى: والبُشْرَى. وبهذا أفتاني أبو علي، وقد سألته عن هذا. ومن ذلك قراءة أبي جعفر: "وَرَبَأتْ" بالهمز، ورويت عن أبي عمرو بن العلاء. قال أبو الفتح: المسموع في هذا المعنى رَبَتْ؛ لأنه من ربا يربو: إذا ذهب في جهاته زائدا، وهذه حال الأرض إذا ربت. وأما الهمز فمن: رَبَأْتُ القوم: إذا أشرفتَ مكانا عاليا لتنظر لهم وتحفظهم. وهذا إنما فيه الشخوص والانتصاب، وليس له دلالة على الوفور والانبساط، إلا أنه يجوز أن يكون ذهبه2 إلى علوّ الأرض، لما فيه من إفراط الربو، فإذا وصف علوَّها دل على أن الزيادة قد شاعت في جميع جهاتها؛ فلذلك همز، وأخذه من: ربأتُ القوم، أي: كنت لهم طليعة. وهذا مما يذكر أحد أوصافه، فيدل على بقية ذلك وما يصحبه. ألا ترى إلى قوله: كأنَّ أيديهِنَّ بالمَوْمَاةِ ... أيدِي جوارٍ بِتْنَ ناعِمَاتِ3؟ ولم يرد الشاعر أن أيدي الإبل ناعمة، وكيف يريد ذلك وإنما المعتاد المألوف في ذلك وصف الأيدي بالشدة والسلاطة؟ ألا ترى إلى قوله: َترْمِي الأماعِيزَ بِمُجمراتِ ... بأرجُلٍ رُوحٍ مُحنَّباتِ4؟ وقوله: تَرْمِي الحَصا بمناسِمٍ ... صُمٍّ صَلادِمَةٍ صِلَابِ5؟
والأمر في ذلك أشهر، وإنما [104ظ] أراد أن أيديها اختضبن بالدم فاحمررن، فذكر نَعْمة اليد، لأنها مما يصحبها الخضاب. وعليه قال الآخر: كأنَّ أيديهِنَّ بالقاعِ القَرِقْ ... أيدِي عَذارٍ يَتَعاطَينَ الوَرِقْ1 فذكر العذارى؛ لأنهن مما يصحبهن الخضاب، فأراد انخضاب أيدي الإبل بالدم. وهذا ونحوه من لمحات العرب وإيماءاتها التي تكتفي بأيسرها مما وراءه. ألا ترى إلى قول الهذلي: أمِنْكِ البرقُ أرقبُهُ فَهاجَا ... فَبِتُّ أَظُنُّه دُهْمًا خِلاجا2؟ أي: فإذا اختَلَجَتْ عنها أولادَها حنَّت إليها، فشبه حنينهنَّ بصوتِ الرعد، فقدَّم ذكر البرق، وأودع الكلام ذكر حَدث صوت الرعد؛ لأنه مما يصحبه وهو كثير، فكذلك قراءته: "وَرَبَأَتْ"، دل بذكر الشخوص والانتصاب على الوفور والانبساط الذي في قراءة الجماعة: "وَرَبَتْ". ومن ذلك قراءة مجاهد وحميد بن قيس: "خَاسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ"3. قال أبو الفتح: هذا منصوب على الحال، أي: انقلب على وجهه خاسرا، وقراءة4 الجماعة: {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} تكون هذه الجملة بدلا من قوله: {انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} ، فكأنه قال: وإن أصابته فتنة خسر الدنيا والآخرة، ومثله من الجمل التي تقع وهي من فِعْلٍ وفاعِلٍ بدلا من جواب الشرط قوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} 5؛ وذلك لأن مضاعفة العذاب هي لُقِيّ الأثام، وعليه قول الآخر: إنْ يجْبُنُو أو يَغْدِرُوا ... أَوْ يَبْخَلُوا لَا يَحْفِلُوا
يغْدُوا عليكَ مُرَجِّلِيـ ... ـنَ كأنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا1 فقوله: يغْدُوا عليكَ مُرَجِّلِينَ بدلٌ من قوله: لا يحْفِلُوا. ومن ذلك قراءة الزهري: "والدَّوَابُ"2، خفيفة الياء. ولا أعلم أحدًا خففها سواه. قال أبو الفتح: لعمري إن تخفيفها قليل ضعيف قياسا وسماعا. أما القياس فلأن3 المدة الزائدة في الألف عوض من اجتماع الساكنين حتى كأن الألف حرف متحرك4، وإذا كان كذلك5 فكأنه لم يلتق ساكنان. ويدل على أن زيادة المد في الألف جار مجرى تحريكها أنك لو أظهرت التضعيف فقلت: دوابِب، لقصرت الألف وإذا أدغمت أتممت صدى الألف فقلت دوابّ؛ فصارت تلك الزيادة في الصوت عوضا من تحريك الألف. وأما السماع فإنه لا يعرف فيه التخفيف، لكن له من بعد ذلك ضرب من العذر، وذلك أنهم إذا كرهوا تضعيف الحرف فقد يحذفون أحدهما، من ذلك قولهم: ظَلْت، ومَسْت، وأَحَسْت. يريدون: ظَلِلْت، ومَسِسْت، وأَحسست، قال أبو زبيد: خَلَا أنَّ العِتَاقَ من المَطايا ... أَحَسْنَ بِهِ فَهُنَّ إليهِ شُوسُ6 وقال: قَدْ كُنْتُ عِنْدَكَ حَوْلًا لا تُرَوِّعُني ... فِيهِ رَوَائِعُ من إنس ولا جَانِ7
يريد: جانٌّ، فحذف إحدى النونين. وأنشدنا أبو علي: حتَّى إذا مَا لَمْ أجِدْ غيْرَ الشَّرِ ... كُنْتُ امرأً من مَالِكِ بنِ جَعْفَرِ [105و] أراد: غير الشرّ، فحذف الراء الثانية. وإذا كانوا قد حذفوا بعض الكلمة من غير تضعيف فحذف ذلك مع التضعيف أحرى. ألا ترى إلى قول لبيد: دَرَسَ المنا بِمُتَالِعٍ فَأَبَانِ1؟ وقال علقمة بن عبدة: كأنَّ إبرِيقَهُمْ ظَبْيٌ عَلَى شَرَفٍ ... مُقَدَّمٌ بِسَبَا الكَتَّانِ مَلْثُومُ2 أراد بسبائب الكتَّان. وقد ذكرنا نحو ذلك، إلا أن هذا باب إنما يحمله الشعر، غير أن فيه لتخفيف "الدوابّ" عذرا ما، هو أولى من أن يتلقى بالرد وقد وجدت له وجها. ومن ذلك قراءة ابن عباس: "يَحْلَوْنَ"3، بفتح الياء وتخفيف اللام، من حَلِيَ يَحْلَى. قال أبو الفتح: هذا4 من قولهم: لم أحْلَ منه بطائل، أي: لم أظفر5 منه بطائل؛ فيجعل ما يُحَلَّوْن به هناك أمرا ظفِروا به، وأُوصلوا إليه. والحلية6 راجعة المعنى إليه، وذلك أن النفس تعتدها مظفورا به7 موصلا إليه. وليست الحلية من لفظ: حَلِيَ الشيءُ بِعَيْنِي؛ لأن الحلية من الحَلْي، فهي من الياء. وحلي بعيني من الواو، لقولهم: حَلِيَ بعيني يَحْلَى حلاوة، فهي كشَقِيَ يشْقَى شَقَاوَةً، وغَبِيَ يغْبَى غَباوَةً. ولكن قولهم: امرأةٌ حالية أي: ذات حَلْي من الياء، فحالية إذًا من قوله: {يُحَلَّوْنَ} على هذه القراءة وهما من الياء، فكأنه أقوى عندهم من قولهم ما حليْتُ من بطائل؛ لأن ذلك لا يستعمل إلا في غير الواجب. لا يقولون: حليت منه،
ولا حليت بكذا. فأما المثل وهو قولهم: حَلَأَتْ حالِئَة عن كُوعها1 فهو مهموز، وأمره ظاهر. ومن ذلك قراءة الحسن والجحدري وسلام ويعقوب: "وَلُؤْلُؤا"، بالنصب. قال أبو الفتح: هو محمول على فِعْل يدل عليه قوله: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ} ، أي ويؤتون لؤلؤا، ويلبسون لؤلؤا. ومثله قراءة أبي: "وحورًا عينًا"3 أي ويؤتون حورا عينا، ويُزَوَّجون حورا عينا. ومثله مما نصب على إضمار فعل يدل عليه ما قبله قوله: جئْنِي بِمِثلِ بني بَدْرٍ لِقَوْمِهِمُ ... أو مِثْلَ أسرة مَنْظُورِ بنِ سيَّارِ4 فكأنه قال: أو هاتِ مثلَ أسرة. وعليه قول الآخر: بَيْنَا نَحْنُ نَرْقُبُه أَتانَا ... مُعَلِّق وَفْضَةٍ وزنادَ راعٍ5 فكأنه قال: وحاملا زناد راع، ومعلقا زناد راع، وهو كثير. ومن ذلك قراءة الحسن وابن محيص: "وَأَذِنَ فِي النَّاسِ"6، بالتخفيف. قال أبو الفتح: "أَذِنَ" معطوف على "بَوَّأْنَا"، فكأنه قال: وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت، وأذن، فأما قوله على هذا: {يَأْتُوكَ رِجَالًا} فإنه انجزم لأنه جواب قوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} ، وهو على قراءة الجماعة جواب قوله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} .
ومن ذلك قراءة ابن عباس وأبي مِجْلَز ومجاهد وعكرمة والحسن وأبي عبد الله جعفر بن محمد: "رُجَّالًا"1. وقرأ: "رُجَالًا"، بضم الراء، وتخفيف الجيم منونة - عكرمة وابن أبي إسحاق وأبو مجلز والحسن البصري والزهري. وقرأ: "رُجَال"، على فُعَال مخففة - عكرمة. قال أبو الفتح: أما [105ظ] "رُجَّالًا" فجمع راجل، ككَاتِب وكُتَّاب، وعالِم وعُلَّام، وعامِل وعُمَّال. وأما "رُجَالًا"، مضمومة الراء، خفيفة الجيم، منونة - فغريب. وهو مما ذكرناه مما جاء من الجمع على فُعَال: كظُؤار، وعُراق، ورُخال2. وأما "رُجَالَى" فمثل: حُبارَى، وسُكارَى. ويقال: أراجِل، وأراجِيل، ورَجَالَى، ورُجَالَى، ورُجْلَان. قال كثير: لَهُ بجنوبِ القادِسِيَّة فَالشَّبا ... مَوَاطِنُ لا يَمْشِي بِهِنَّ الأراجِلُ3 وقال أبو الأسود: كأنَّ مَصامَاتِ الأُسُودِ بِبَطْنِه ... مَرَاغٌ وآثارَ الملاعِيبِ مَلْعَبُ4 وأنشد الأصمعي: وَمَرْكَبٍ يَخْلِطُني بالرُّكْبَانْ ... يَقِي بِهِ اللهُ أذَاةَ الرُّجْلَانْ5 ورُوِّينا عن ابن الأعرابي: رَجُل رَجْلَان6، ورَجَل أي: رَاجِل. وقراءة الكافة: {رِجَالًا} جَمْع رَاجِل أيضا، كصائِم وصِيام، وصَاحِب وصِحَاب.
ومن ذلك قراءة ابن أبي إسحاق، ورويت عن أبي عمرو: "وَالْمُقِيمِي الصَّلاةَ"1، بالنصب. قال أبو الفتح: أراد "المقيمين"، فحذف النون تخفيفا، لا لِتُعَاقِبَها الإضافة، وشبه ذلك باللذين والذين في قوله: فإنَّ الذِي حانَتْ بفلجٍ دماؤهُم ... هُمُ القومُ كلُّ القومِ يا أمَّ خالدِ2 حذف النون من الذين تخفيفا لطول الاسم، فأما الإضافة فساقطة هنا، وعليه قول الأخطل: أبَنِي كُلَيبٍ إنَّ عَمِّيَّ اللَّذا ... قَتَلا الملوكَ وفَكَّكَا الأغلالا3 حذف نون "اللذان" لما ذكرنا، لكنّ الغريبَ من ذلك ما حكاه أبو زيد عن أبي السمال أو غيره أنه قرأ: "غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهَ"3، بالنصب. فهذا يكاد يكون لحنا؛ لأنه ليست مع لام التعريف المشابهة للذي ونحوه، غير أنه شبه "معجزي" بالمعجزي، وسوغ له ذلك علمه بأن "معجزي" هذه لا تتعرف بإضافتها إلى اسم الله "تعالى"، كما لا يتعرف بها ما فيه الألف واللام، وهو "الْمُقِيمِي الصَّلاةَ" فكما جاز النصب في "الْمُقِيمِي الصَّلاةَ" كذلك شبه به "غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهَ". ونحو "الْمُقِيمِي الصَّلاةَ" بيت الكتاب: الحافِظُو عَوْرَةَ العشِيرَةَ لَا ... يأْتِيهِمُ مِنْ وَرَائِهِمْ نَطَفُ4 بنصب "العورةَ" على ما ذكرتُ لك. وقال آخر: قَتَلْنَا ناجيًا بقتِيلِ عَمْرِو ... وَخَيْرُ الطَّالِبي التِّرَةَ الغَشُومُ5 ومثل قراءة من قرأ: " غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهَ"، بالنصب قول سويد: ومَسَامِيحُ بِِمَا ضَنَّ بِهِ ... حَابِسُو الأنْفُسَ عنْ سُوءِ الطَّمَعْ6
وقرأ بعض الأعراب: "إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابَ الْأَلِيمَ"1، بالنصب. وأخبرنا أبو علي عن أبي بكر عن أبي العباس، قال: سمعت عمارة يقرأ: "وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارَ"، فقلت له: ما أردت؟ فقال3: أردت: سابقٌ النهارَ، فقلت له: فهلا قلته. فقال: لو قلته لكان أوزن، يريد: أقوى وأقيس. وقد ذكرنا هذا ونحوه في كتابنا الخصائص4 وغيره من كتبنا. ومن ذلك قراءة ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وإبراهيم وأبي جعفر محمد بن علي والأعمش، واختلف عنهما، وعطاء بن أبي رباح5 [106و] والضحاك والكلبي: "صَوَافِنَ"6. وقرأ: "صَوَافِيَ" أبو موسى الأشعري والحسن وشفيق7 وزيد بن أسلم8 وسليمان التيمي، ورويت عن الأعرج. قال أبو الفتح: هي "الصافنات" في قول الله تعالى: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَاد} 9، إلا أنها استعملت هنا في الإبل. والصافن: الرافع إحدى رجليه، واعتماده منها على سنبكها. قال عمرو بن كلثوم: تَرَكْنَا الْخَيْلَ عاكِفَةً عَلَيْهِ ... مُقَلَّدَةً أَعِنَّتَهَا صُفُونَا10
و"صَوَافِيَ" أي: خوالص لوجهه وطاعته. وقال العجاج: حتَّى إذا ما آضَ ذا أعرافِ ... كالْكَوْدَنِ المَشْدُودِ بالْوِكَافِ قالَ الذِي عِنْدَكَ لِي صَوَافِي1 ومن ذلك قراءة أبي رجاء: "القنِعَ"2. قال أبو الفتح: يريد "القانع"، وهي قراءة العامة، إلا أنه حذف الألف تخفيفا وهو يريدها وقد ذكرنا ذلك فيما مضى، وأنشدنا فيه قوله: أصبحَ قَلْبِي صَرِدَا ... لا يشْتِهِي أنْ يَرِدَا إلا عِرَادًا عِرَادَا ... وصِلِّيَانًا بَرٍدَا وَعَنْكَثًا مُلْتَبِدَا3 يريد عارِدًا وبارِدًا. ونحوه ما رويناه عن قطرب من قول الشاعر: أَلَا لَا بارَكَ اللهُ في سُهَيْلِ ... إذا مَا اللهُ بارَكَ في الرِّجالِ4 أراد: لا بارَكَ اللهُ5، فحذف الألف تخفيفًا. وعليه قول الآخر: مثل النَّقا لّبده ضرب الطَّلَلْ6 يريد الطَّلال، كما قال القحيف العقيلي: ديارُ الْحَيِّ تضرِبُها الطِّلالُ ... بِها أهلٌ مِنَ الخافي ومالُ6 ومن ذلك قراءة أبي رجاء وعمرو بن عبيد: "والْمُعْتَرِي"7 خفيفة، من اعتريت.
قال أبو الفتح: يقال: عَرَاهُ يَعْرُوهُ عَرْوًا فهو عَارٍ، والمفعول مَعْرُوّ. واعتراه يعتريه اعتراء فهو مُعتَرٍ. والمفعول مُعترًى. وعرَّه يَعَرُّه عرًّا فهو عَارٌّ. والمفعول معرور. واعتره يعترُّه اعترارًا فهو معتَرٌّ، والمفعول مُعْتَرٌّ أيضا. لفظ الفاعل والمفعول به سواء. وكله: أتاه وقصده. والقانع: السائل، والمعتر: المتعرض لك من غير مسألة. قال ابن أحمر: ثُمّ تَعُرُّ الماءَ فِيمَنْ يَعُر1 قال طرفة: في جِفَانٍ تَعتَرِي نَادِيَنَا ... وسَدِيف حِينَ هَاجَ الصِّنَّبِرْ2 ومن ذلك قراءة الجحدري بخلاف: "وصُلُوتٌ"3 بضم الصاد واللام، وإسكان الواو، والتاء. وروى عنه: "وصِلْواتٌ". بكسر الصاد، وجزم اللام بعد الواو. بالتاء. وقرأ: "وصُلُوتٌ" أبو العالية -بخلاف- والحجاج بن يوسف- بخلاف- والكلبي. وقرأ: "وصُلُوتٌ" الحجاج. ورويت عن الجحدري. وقرأ: "وَصُلُوَتٌ" جعفر بن محمد. وقرأ: "وصُلُوتًا" مجاهد. وقرأ: "وصلَوَاتٌ" الجحدري والكلبي بخلاف. وقرأ: "وصِلْوِيتًا" عكرمة. قال أبو الفتح: اعلم أن أقوى القراءات في هذا الحرف هو ما عليه العامة، وهو: {صَلَوَاتٌ}
ويلي ذلك "صُلُواتٌ" و "صُلَوَات"1 و"صِلْوَاتٌ". فأما بقية القراءات فيه فتحريف وتشبث باللغة السريانية واليهودية. وذلك أن الصلاة عندنا من الواو، يدلك على ذلك ما كان رآه أبو علي فيها، وذلك أنها من الصَّلَوَيْن [106ظ] وهما مكتنِفا ذنَب الفرس وغيره مما يجري مجرى ذلك، قال: واشتقاقه منه أن تحريك الصَّلَوَيْنِ أول ما يظهر من أفعال الصلاة، فأما الاستفتاح ونحوه من القراءة والقيام فأمر لا يظهر، ولا يخص ما ظهر منه الصلاة، لكن الركوع أول ما يظهر من أفعال المصلي. وقولهم أيضا في الجمع: صلواتٌ، قاطع بكون اللام واوا، وإنما ذكرنا وجه اشتقاقها من الصَّلَوَيْن2. فصلوات جمع صلاة، كقنوات من قناة. وأما "صُلُوَات" و"صُلَوَات" فجمع صُلْوَة، وإن كانت غير مستعملة. ونظيرها حُجْرَة وحُجُرَات وحُجَرَات. وأما "صِلْوَات" فكأنه جمع صِلْوَة كرِشْوَة ورِشْوَات، وهي أيضا مقدرة وغير مستعملة، كتقدير "صُلْوَة". وقد تكون "صُلَوَات" بفتح اللام أيضا جمع صُلاة كطُلاة3 وطُلَيَات. وإنما بدأنا بقولنا إنها جمع صُلْوَة كحُجُرات جمع حُجْرَة، ولم تقدم ذكر صلاة المتقدرة ليقل تقدير ما لم يخرج إلى الاستعمال. ومعنى "صَلَوات" هنا: المساجد، وهي على حذف المضاف، أي: مواضع "الصَّلَوَات"، ومنه قولهم: صلى المسجد، أي: أهله. وأذن المسجد، أي: مؤذنه. وقال: نبِّئْتُ أنّ النارَ بَعْدَكَ أُوقِدَتْ ... وَاسْتَبَّ بَعْدَكَ يا كُلَيْبُ الْمَجْلِسُ4 قال أبو حاتم: ضاقت صدورهم لما سمعوا {هُدِّمَتْ صَلَوَاتٌ} ، فعدلوا إلى بقية القراءات، وقال الكلبي: "صُلُواتٌ": مساجد اليهود، وقال الجحدري: "صُلُواتٌ": مساجد النصارى. وعندنا من خارج باب الموصل بيوت يدفن فيها النصارى تعرف بالباصَلُوث، بثاء منقوطة
بثلاث، وقال قطرب: صُلُوث بالثاء: بعض بيوت النصارى، قال: والصُّلُوثُ: الصوامع الصغار لم يسمع لها بواحد، قال: وقال ابن عباس: "صَلَوَات": كنائس اليهود، وصوامع الرهبان، وبِيَع النصارى. وقال أبو حاتم: قال الحسن: تهديمها: تعطيلها، وقول الله سبحانه: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} ، ثم قال: {وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} 1، فهذا يدل على أن المراد: لا تقربوا المسجد، فقال: "الصلاة". ومن ذلك قراءة الجحدري: "وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ"، ساكنة العين. قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون ذلك على عَطَلَتْ أو أَعْطَلَتْ أو عَطِلَتْ فهي عَاطِل، وأَعْطَلْتُها فهي مُعْطَلة، فيكون منقولا من ثلاثي على فَعَلْتُ أو فَعِلْتُ، والفتح أولى بالعين فيه من الكسر؛ لأن عَطِلَ يقال للمرأة إذا عَطِلَتْ من الحَلْي، كما قال في ضِده: حَلِيَت فهي حالِيَة، وقالوا: امرأة عاطل بلا هاء، كأخواتها من طاهر وطامث. ومن ذلك قراءة لاحق بن حميد3: "فَلا يُنَزِعُنَّكَ"4. قال أبو الفتح: ظاهر هذا فلا يستخِفُّنَّك عن دينك إلى أديانهم، فيكون بصورة المنزوع عن شيء إلى غيره. ومنه قول الله: {وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} 5، ونحوه قول يونس6 في قول الله تعالى: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} 7، ألا تراه كيف
ذهب إلى تعليق ينزع في هذا الموضع؟ ولو كان بمنزلة نزع الرَّجُلِ الرِّجْلَ من الخف أو المسمار من الجذع ونحوه [107و] لما جاز تعليقه. قال أبو علي: فإنما هو إذًا كقولك: لنميزنهم بالاعتقاد والعلم فنخصهم باستحقاق الذم بما يجب اعتقاده في مثلهم. هذا محصول ما كان يقوله أبو علي فيه وإن لم يحضرني الآن صورة لفظه. فكذلك إذًا قوله: "لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يَنْزِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ" أي: فاثبت على دينك ولا يمل بك هواك إلى اعتقاد دين غيرك. وأما قراءة العامة: {فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ} أي: فاثبت على يقينك في صحة دينك ولا تلتفت إلى فساد أقوالهم، حتى إذا رأوك كذلك أمسكوا عنك ولم ينازعوك، فلفظ النهي لهم ومعناه له، صلى الله عليه وسلم. ومثله قولهم: لا أرينك ههنا، ألا ترى أن معناه: لا تكن هنا فأراك؟ فالنهي في اللفظ لنفسه، ومحصول معناه للمخاطب. ومثله قول النابغة: لا أَعْرَفًا رَبْرَبًا حُورًا مَدَامِعُها ... كأنَّ أبْكَارَها نِعَاجُ دُوَّار1 أي لا تَدْن مني كذلك فأعرفها، وكلام للعرب كثير الانحرافات ولطيف المقاصد والجهات، وأعذب ما فيه تلفته وتثنيه.
سورة المؤمنون
سورة المؤمنون 1: سم الله الرحمن الرحيم قرأ: "عَظْمًا"، واحدًا "فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ"2 جماعة -السلمي وقتادة والأعرج والأعمش. واختلف عنهم. وقرأ: "عِظَامًا" جماعةٌ "فَكَسَوْنَا الْعِظْمَ3" واحدا -مجاهد. قال أبو الفتح: أما من وحد فإنه ذهب إلى لفظ إفراد الإنسان والنطفة والعلقة، ومن جمع فإنه أراد أن هذا أمر عام في جميع الناس. وقد شاع عنهم وقوع المفرد في موضع الجماعة. نحو قول الشاعر: كُلُوا في بعضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا ... فإنَّ زَمَانَكُمُ زَمَنُ خَمِيصُ4 وقول طفيل: في حَلْقِكُمْ عَظْمٌ وقد شَجينَا5 وهو كثير وقد ذكرناه. إلا أن من قدم الإفراد ثم عقب بالجمع أشبه لفظا؛ لأنه جاور بالواحد لفظ الواحد الذي هو "إنسان" و"سلالة" و"نطفة" و"علقة" "ومضغة". ثم عقب بالجماعة؛ لأنها هي الغرض. ومن قدم الجماعة بادر إليها إذ كانت هي المقصود. ثم عاد فعامل اللفظ المفرد بمثله. والأول أحرى6 على قوانينهم. ألا تراك تقول: من قام وقعدوا
إخوتك فيحسن لانصرافه عن اللفظ إلى المعنى، وإذا قلت: من قاموا وقعد إخوتك، ضعف لأنك قد انتحيت بالجمع على المعنى وانصرفت عن اللفظ؟ فمعاودة اللفظ بعد الانصراف عنه تراجع وانتكاث، فاعرفه وابن عليه فإنه كثير جدا. ومن ذلك قراءة الزهري والحسن والأعرج: "تُنْبَتُ"1، برفع التاء، ونصب الباء. وفي قراءة عبد الله: "تَخْرُجُ بِالدُّهْنِ". قال أبو الفتح: الباء هنا في معنى الحال، أي: تنبت وفيها دهنها، فهو كقولك: خرج بثيابه. أي وثيابه عليه، وسار الأمير في غلمانه، أي وغلمانه معه، وكأنه قال: خرج لابسا ثيابه، وسار مستصحبا غلمانه، وكذلك قول الهذلي [107ظ] . يَعْثُرْنَ في حَدِّ الظِّباتِ كأنَّما ... كُسِيَتْ بُرُودَ بني تَزِيدَ الأذرُعُ2 أي: يعثرن كابيات3 في حد الظبات، أو مجروحات في حد الظبات. ومثله ما أنشده الأصمعي من قوله: وَمُسْتَنَّةٍ كاستِنانِ الخَرُو ... ف قد قَطَعَ الحبْلَ بالمِرْوَدِ4 أي: قطع الحبل ومرودُه فيه، أي: متصلا به مِرْوَدُه، فكذلك قوله: "تُنْبَتُ بِالدُّهْنِ"،
أي: تنْبُتُ ودهنها فيها، وكذلك من قرأ: "تَنْبُتُ"، أي: تنبت على هذه الحال، وكذلك أيضا من قرأ: "تَنْبِتُ بِالدُّهْنِ" قد حذف مفعولها، أي: تنبت ما تنبته ودهنها فيها وذهبوا في قول زهير: حتَّى إذا أنْبَتَ البَقْلُ1 إلى أنه في معنى نَبَتَ وأنها لغة: فَعَلْت وأفْعَلَت. وقد يجوز أن يكون على هذا أي: محذوف المفعول، أي: حتى إذا أنبتَ البقلُ ثمرَهُ. ونحن نعلم أيضا أن الدهن لا ينبِت الشجرة، وإنما ينبتها الماء. ويؤكد ذلك أيضا قراءة عبد الله: "تَخْرُجُ بالدُّهنِ"، أي: تخرج من الأرض ودهنها فيها. فأما من ذهب إلى زيادة الباء، أي: تنبِت الدهن، فمضعوف المذهب، وزائد حرفا لا حاجة به إلى اعتقاد زيادته مع ما ذكرناه من صحة القول عليه، وكذلك قول عنترة: شَرِبَتْ بماءِ الدَّحْرُضَيْنِ2 ليس عندنا على زيادة الباء، وإنما هو على شربت في هذا الموضع ماء، فحذف المفعول. وما أكثر وأعذب وأعرب حذف المفعول وأدله على قوة الناطق به!
ومن ذلك قراءة أبي جعفر يزيد: "لَعِبْرَةً تَسْقِيكُمْ"1. قال أبو الفتح: ليس قوله: "تَسقيكم" صفة، لعبرة كقولك: لعبرة2 ساقية. ألا ترى أنه ليست العبرة الساقية، إنما هناك حض وبعث على الاعتبار بسقياها لنا أو بسقيا الله "سبحانه" إيانا منها؟ فالوقف إذًا على قوله: "لعبرة"، ثم استأنف "تعالى" تفسير العبرة، فقال: "تسقيكم" هي، أو {نُسْقِيكُمْ} نحن "مِمَّا فِي بُطُونِهَا". وقوله: {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ} أحد ما يدل على قوة شبه الظرف بالفعل. ألا تراه معطوفا على قوله: {نُسْقِيكُمْ} ؟ والعطف نظير التثنية، والتثنية تقتضي تساوي حال الاسمين وتشابههما. ومثله في ذلك3 قول الآخر أخبرنا به أبو بكر محمد بن الحسن عن أبي العباس أحمد4 بن يحيى ثعلب: زَمَانَ عَلَيَّ غُرابٌ غُدافٌ ... فَطَيَّرهُ الشيْبُ عَنِّي فَطَارَا5 فعطف "طيره" على "علي" وهو ظرف. ومنه قوله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} 6، فوجود معنى الشرط في الظرف أقوى دليل على قوة شبهه بالفعل؛ لأن الشرط لا يصح إلا به. وسوغ ذلك أيضا أن قوله: "تَسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا" في معنى قوله: لكم في بطونها سقيا، ولكم فيها منافع. ومن ذلك قراءة أبي جعفر والثقفي: "هَيْهَاتِ هَيْهَاتِ"7، بكسر التاء غير منونة. وقرأ: "هَيْهَاتٍ هَيْهَاتٍِ" عيسى بن عمر: وقرأ: "هَيْهَاتٌ هَيْهَاتٌ" رفع منون -أبو حيوة. وقرأ: "هَيْهَاتْ هَيْهَاتْ" مرسلة التاء8 عيسى الهمداني، ورويت عن أبي عمرو.
قال أبو الفتح: أما الفتح -وهي قراءة العامة- فعلى أنه واحد، وهو [108و] اسم سمي به الفعل في الخبر، وهو اسم "بَعُدَ"، كما أن شتان اسم "افترق" وأوَّتَاه اسم "أتألم"، وأُفّ اسم "أتضجر" وقد ذكرنا في "أفّ" طرفا صالحا من هذا الحديث1. ومن كسر فقال: "هيهاتٍ" منونا أو غير منون فهو جمع هيهات وأصله2 هيْهيات: إلا أنه حذف الألف، لأنها في آخر اسم غير متمكن3، كما حذفت ياء الذي في التثنية إذا قلت: اللذان وألف ذا إذا قلت: ذان. ومن نون ذهب إلى التنكير، أي: بُعْدًا بُعْدًا. ومن لم ينون ذهب إلى التعريف، أراد: البُعْد البُعْد. ومن فتح وقف بالهاء؛ لأنها كهاء أرْطَاة4 وسِعْلَاة5. ومن كسر كتبها بالتاء؛ لأنها جماعة، والكسرة في الجماعة بمنزلة الفتحة في الواحد، كما أن سقوط النون من ضربا بمنزلة الفتحة في ضرب طردا على سقوط النون في لن يضربا بمنزلة الفتحة في أن يضرب. فلفظ البناء في هذا كلفظ الإعراب. ومن قال: "هيهاةٌ هيهاةٌ" فإنه يكتبها بالهاء؛ لأن أكثر القراءة "هَيْهَاةَ" بالفتح، والفتح يدل على الإفراد، والإفراد بالهاء كهاء أرطاة وعَلْقَاة6، غير أن من رفع فقال: "هيهاةٌ" فإنه يحتمل أمرين: أحدهما أن يكون أخلصها اسما معربا فيه معنى البعد، ولم يجعله اسما للفعل فيبنيه كما بنى الناس غيره، وقوله: {لِمَا تُوعَدُون} خبر عنه، كأنه قال: البعد لوعدكم، كما يقول القائل: الخلف لموعدك، والضلال لإرشادك، والخيبة لانتجاعك. والآخر أن تكون مبنية على الضم، كما بنيت نحن عليه، وكما بنيت حَوْبُ7 عليه في الزجر، ثم اعتقد في التنكير فلحقه التنوين على ما مضى. ونحو من ذلك ما حُكي عن بعضهم من ضمة نون التثنية في الزيدانُ والعمرانُ.
وأما "هيهاتْ هيهاتْ"، ساكنة بالتاء فينبغي أن يكون جماعة، وتكتب بالتاء؛ وذلك أنها لو كانت هاء كهاء علقاة وسماناة1 للزم في الوقف عليها أن يلفظ بالهاء كما يوقف مع الفتح فيقال: هَيْهَاه هَيْهَاه، فبقاء التاء في الوقف في السكون دليل على أنها تاء، وإذا كانت تاء فهي للجماعة، وهو أمثل من أن يعتقد فيها أنها أجريت في الوقف مجراها في الوصل من كونها تاء كقولنا: عليه السلام والرحمتْ، وقوله: بلْ جَوْزِ تيهَاءَ كَظَهْرِ الحَجَفَتْ2 لقلة هذا وكثرة الأول، وكذلك يقف الكسائي عليه، وهو عندي حسن لما ذكرته. وعذر من وقف بالتاء كونها في أكثر الأمر مصاحبة للأخرى من بعدها، ولأنها أيضا تشبه الفعل، والفعل أبدا متطاول على الفاعل، وهذا طريق الوصل، ولأن الضمير فيها لم يؤكد قط، فأشبهت الفعل الذي لا ضمير فيه، فكان ذلك أدعى في اللفظ إلى إدراجها بالتوقع له3: والذي حسن الوقوف عليها حتى نطق بالهاء فيها ما أذكره لك، وهو أن هيهاهْ جارية مجرى الفعل في اقتضائها [108ظ] الفاعل، فإذا قال: هيهاتَ، فكأنه قال: بعُد بعثكُم، بعُد إنشاؤكم، بعُد إخراجكم. فإذا وقف عليه أعلم أن فيه فاعلا مضمرا وأن الكلمة قد استقلت بالضمير الذي فيها، وإذا وصلها بالأخرى أوهم حاجة الأولى إلى الآخرة فآذن بالوقوف عليها باستقلالها وغنائها عن الأخرى من بعدها، فافهم ذلك. ولا يجوز أن يكون قوله4: {لِمَا تُوعَدُونَ} هو الفاعل؛ لأن حرف الجر لا يكون فاعلا، ولا يحسن اعتقاد زيادة اللام هنا
حتى كأنه قال: بَعُدَ ما توعدون؛ لأنه لم تؤلف زيادة اللام في نحو هذا، وإنما زيدت في الموضع الذي الغرض بزيادتها فيه تمكين معنى الإضافة، كقوله: يا بُؤْس للحربِ التي ... وَضَعَتْ أراهِطَ فاستراحُوا1 وكقوله: يا بؤسَ للجهْلِ ضرًّارًا لأقْوَام2 وإذا لم يكن لها بد من الفاعل ولم يكن الظاهر بعدها فاعلا لها ففيها ضمير فاعل لا محالة، وهو ما قدمنا ذكره3. ومما نون وهو مبني على الضم قوله: سَلامُ اللهِ يا مَطَرٌ عَلَيْها ... وَلَيْسَ عَليْكَ يا مَطَرُ السلامُ4 ومنه قولهم في الضجر: أفٌّ فيمن ضم ونون، ويؤنسك باستعمالهم من هذا اللفظ اسما معربا قول رؤبة: هَيْهَاتَ من مُنْخَرِقٍ هَيَْهاؤه5 فكأنه قال: بَعُدَ بُعْدُهُ، وهو كقولهم: جُنَّ جُنُونُه، وضَلَّ ضَلالُه، وقولهم: موتٌ مائتٌ، وشعرٌ شاعرٌ على طريقة المبالغة. وهيهاؤه إذًا فِعْلالُه، كزِلْزَاله وقِلْقَالِه، والهمزةُ فيه منقلبةٌ عن ياء، لأنه من باب6 حَاحَيْتُ وعاعَيْتُ. وقريب من لفظه ومعناه ما أنشدَناه أبو علي من قولِ بعضهم: فَأَرْفَعُ الجفنَةَ بِالْهَيهِ الرثِعْ7
فَالْهَيْهُ: المرقّع من الناس المرذول الذي يقال له في إبعاده: هَيْهْ. فسمي بالصوت الذي يقال، كما قال الآخر إذَا حَمَلْتُ بِزَّتِي عَلَى عَدَسْ ... فَما أُبالِي مَن مَضَى وَمَن جَلَسْ1 يعني البَغْل؛ لأنه يقال له في الزجر: عَدَسْ. قال: عَدَسْ ما لِعَبادٍ عليكَ إمارَةٌ ... نَجَوْتٍ وهَذَا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ2 فَالْهَيْهُ -كما ترى- ثلاثي، وهيهات -على ما مضى- رباعي، فاللفظان أخوان، والمعنيان متقاربان؛ لأن هيهاة اسم بَعُدَ وهَيْهْ زجرٌ3 وإبعادٌ ونظير هَيْهْ وهَيْهَاهْ قولهم: سَلِسَ وسَلْسَلَ، وقَلِقَ وقَلْقَلَ، وجَرِجَ4 وجَرْجَرَ. وسألني أبو علي يوما فقال: أي شيء مثل غَوْغاء وغَوْغَاء؟ فقلت له: قولهم للمنخوب5: هُوهٌ وهَوْهَاءةٌ. وينبغي أن يضاف إلى ذلك ما ذكرناه الآن من قولهم: هَيْه وهَيْهَاتْ. ومن ذلك قراءة الحر النحوي: "نُسْرِعُ لَهُمْ"6، وقرأ عبد الرحمن بن أبي بكرة7: "يُسَارِعُ لهم"، وروي عنه أيضا: "يُسَارَعُ لهم" بفتح الراء، والذي قبله بكسر الراء وقراءة الناس: "نُسَارِعُ" بالنون والألف.
قال أبو الفتح: هنا على قراءة الكافة إلا عبد الرحمن ضمير محذوف، أي: أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين نُسارِع لهم به في الخيرات، أو نُسْرع لهم به، أو يُسارَعُ [109و] لهم به في الخيرات؟ فحذفت "به" للعلم بها، كما حذف الضمير في قولهم: السمن مَنَوَان بدرهم، أي: منوان منه بدرهم، فكأن "به" المتقدمة في الصلة من قوله: {نُمِدُّهُمْ بِهِ} صارت عوضا من اللفظ بها ثانية. ومعناه أنا لا نقدمه لهم إرادة للخير، بل هو إملاء واستدراج لهم كقوله جل وعز1: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ} 2، إلى آخر ذلك وغيره من الآي في معناه. وأما قراءة عبد الرحمن بن أبي بكرة "يُسَارِعُ" بكسر الراء، وبالياء فلا حاجة به إلى تقدير حذف الضمير؛ لأن في الفعل ضميرا يعود على "ما" من قوله: {أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ} . ومن ذلك قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وعائشة وابن عباس وقتادة والأعمش: "يَأتُونَ مَا أَتَوْا"3 قصرا. قال أبو الفتح: قال أبو حاتم -فيما روينا عنه- يأتون ما أتوا، قصرا، أي: يعملون العمل وهم يخالفونه ويخافون لقاء الله ومقام الله، قال: ومعنى قوله: {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا} يعطون الشيء فيشفقون ألا يقبل منهم. وحُكي عن إسماعيل بن خلف قال: دخلت مع عبيد الله بن عمير الليثي على عائشة "رضي الله عنه"، فرحبت به، فقال لها: جئتك لأسالك عن آية في القرآن. قالت: أي آية هي؟ فقال: "َالَّذِينَ يَأتُونَ مَا أَتَوْا"، أو {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا} ؟ فقالت: أيتهما أحب إليك؟ قال: فقلت: لأن تكون "يَأتُونَ مَا أَتَوْا" أحب إلي من الدنيا جميعا، فقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يأتون ما أتوا" ولكن الهجاءَ حُرّف4.
ومن ذلك قراءة الحر: "أُولَئِكَ يُسْرِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ "1، أي يكونون سراعا. قال أبو الفتح: يقال سُرع إلى الشيء وأسرع إليه، وقوله: "يُسْرِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ"، أي: يكونون سراعا إليها وفي عملها. وأما "يُسَارِعُون" فيسابقون، فمفعوله إذًا محذوف، أي يُسارِعُون مَنْ يُسَارِعُهم إليها، كقولك: يُسابِقُون إليها وفيها، أي يُسابِقُون مَنْ يُسابِقُهم إليها. ومن ذلك قراءة ابن مسعود وابن عباس وعكرمة: "سُمَّرًا يُهَجِّرُونَ"2. وروي عن ابن محيص: "سُمَّرًا يُهْجِرُونَ". قال أبو الفتح: السمَّرُ جمع سامِر، والسامِرُ: القوم يَسْمُرُون3، أي: يتحدثون ليلا. قال ذو الرمة: وكَمْ عَرَّسَتْ بَعْدَ السُّرَى مِنْ مُعَرَّسٍ ... بِهِ مِنْ عَزِيفِ الجنِّ أصواتُ سَامِرِ4 وروينا عن قطرب أن السامر قد يكون واحدا وجماعة وأما "يُهْجَرُون"، بسكون الهاء، وضم الياء فتفسيره: يفحشون القول، يقال: هَجَرَ الرجلُ في منطقِهِ، إذا هذى، وأهْجَرَ: أفحش. قال الشماخ:
كَمَا جِدَةِ الأعْرافِ قالَ ابنُ ضَرَّةٍ ... عَلَيْها كَلَامًا جَارَ فيهِ وأهْجَرًا1 وقال الحسن في "تَهْجُرُونَ" أي: تهجرون كتابي ونبيي. وأما "تُهْجِّرُونَ" فينبغي والله أعلم أن يكون تكثرون من الهجر، وهو الهذيان، أو هجر النبي "صلى الله عليه وسلم" وكتاب الله، أو تكثرون من الإهجار، وهو إفحاش القول؛ لأن فَعَّلَ تأتي للتكثير. وروينا عن أبي حاتم قال: قرأ "سُمَّارًا" أبو رجاء، فهذا ككاتِب وكُتّاب [109ظ] ، وشارب وشُرّاب. ولو ذهب ذاهب إلى أن معنى "تُهْجِّرُونَ"، أي تكثرون من الهذيان حتى تكونوا -وأنتم في سواد الليل لقلة احتشامكم لظهور ذاك عليكم- كأنكم مهجّرون، أي: مبادون به غير مسايرين له، كالذي يهجّر في مسيره، أي: يسير في الهاجرة، فهذا كقولك لصاحبك: أنت مساترا معلن، وأنت محسنا مسيءٌ، أي: أنت في حال مساترتك معلن، وأنت في حال إحسانك عندي مسيء- لكان وجها. ومن ذلك قراءة يحيى: "وَلَوُ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ"2، بضم الواو. قال: الضم في هذه الواو قليل، وإنما بابها الكسر كقراءة الجماعة، غير أن من ضمها شبهها -لسكونها وانفتاح ما قبلها- بواو الجمع، كقول الله تعالى: {اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ} 3، كما شبه بعضهم واو الجمع هذه بها فقرأ: "اشْتَرَوِا الضَّلالَةَ"، ومثل ضم هذه الواو ضم واو قوله5:.....
وقرأ بعضهم: "اشْتَرَوَا الضَّلالَةَ" بفتح الواو، كل ذلك لالتقاء الساكنين. فمن كسر فعلى أصل حركة التقاء الساكنين، ومن ضم فلأجل واو الجمع. ومن فتح تبلَّغ بالفتحة لخفتها. ومن ذلك قراءة قتادة: "بَلْ أَتَيْنَاهُمْ نُذَكِّرهم"، "بل أَتيتَهم بِذِكْرِهِمْ"، و"بل أَتيتُهم بذِكْرِهِمْ"، بكلٍّ قد قرئ، وذلك أنه إذا أتاهم بذكرهم فإنه قد ذكرهم به، فالمعنى إذًا واحد. ومن ذلك قراءة أُبي: "وَلا تكَلِّمُونِ أَنَّهُ"2، بفتح الألف. قال هارون: كيف شئت "إنَّه"، و"أنِّه". وفي قراءة ابن مسعود: "وَلا تُكَلِّمُونِ كَانَ فَرِيقٌ"، بغير "أنه". وقال يونس عن هارون في حرف أُبي: "وَلا تُكَلِّمُونِ أنْ كَانَ فَرِيقٌ". قال أبو الفتح: قراءة ابن مسعود: "كان فَرِيقٌ" بغير "أنه" تشهد للكسر؛ لأنه موضع استئناف، والكسر أحق بذلك. والقراءة "أَنْ كَانَ فَرِيقٌ" تشهد لـ "أنه"، ألا ترى أن معناه: ولا تكلمون لأنه كان فريقٌ كذا. ومن ذلك قراءة الحسن وقتادة: "عِنْدَ رَبِّهِ أَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ"3، بفتح الألف. قال أبو الفتح: معناه -والله أعلم- أن4 حسابه يؤخر إلى أن يلقى ربه؛ فيحاسب حينئذ. وذلك أنه لا تنفع فيه الموعظة ولا التذكير في الدنيا؛ فيؤخر الحساب إلى أن يحاسب عند ربه لعدم انتفاعه بالوعظ5 له والتضييق عليه في الدنيا، وهذا كقوله "عز اسمه": {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} 6.
سورة النور
سورة النور: بسم الله الرحمن الرحيم قراءة أم الدرداء1 وعيسى الثقفي وعيسى الهمداني، ورويت عن عمر بن عبد العزيز2: "سُورَةً"3، بالنصب. قال أبو الفتح: هي منصوبة بفعل مضمر، ولك في ذلك طريقان: أحدهما أن يكون ذلك المضمر من لفظ هذا المظهر، ويكون المظهر تفسيرا له، وتقديره: أنزلنا سورة، فلما أضمره فسره بقوله: {أَنْزَلْنَاهَا} ، كما قال: أصبحْتُ لا أحمِلُ السِّلاحَ وَلَا ... أملِكُ رأسَ البَعِيرِ إنْ نَفَرَا والذِّئبَ أخْشَاهُ إنْ مَرَرْتُ بِهِ ... وحْدِي وأخْشَى الرِّياحَ والْمَطَرَا4 أي: وأخشى الذئب، فلما أضمره فسره بقوله: "أخشاه". والآخر أن يكون الفعل الناصب [110و] لـ"سُورَةً" من غير لفظ الفعل بعدها، لكنه على معنى التحضيض، أي: اقرءوا سورة، أو تأملوا وتدبروا سورةً أنزلناها، كما قال تعالى: {فَقَالَ لَهُم
رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} 1، أي: احفظوا ناقة الله. ويؤنس بإضمار ذلك ظهوره2 في قوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} 3. فإذا كان تقديره هذا فقوله: {أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} إلى آخر ذلك منصوب الموضع لكونه صفة لـ"سورة". وإذا جعلت "أنزلناها" تفسيرا للفعل الناصب المضمر فلا موضع له من الإعراب أصلا، كما أنه لا موضع من الإعراب لقوله: أنزلنا سورة؛ لأنه لم يقع موقع المفرد، وهذا واضح. وأما قراءة الجماعة: "سُورَةٌ"، بالرفع فمرفوعه بالابتداء، أي: فيما يُنزّل إليكم وما يتلى عليكم سورة من أمرها كذا، فالجملة بعدها4 إذًا في موضع رفع؛ لأنها صفة لسورة. ومن ذلك قراءة عيسى الثقفي: "الزَّانِيَةَ وَالزَّانِيَ"، بالنصب. قال أبو الفتح: هذا منصوب بفعل مضمر أيضا، أي: اجلدوا الزانية والزاني، فلما أضمر الفعل الناصب فسره بقوله: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} . وجاز دخول الفاء في هذا الوجه لأنه موضع أمر، ولا يجوز: زيدا فضربته؛ لأنه خبر. وساغت الفاء مع الأمر لمضارعته الشرط، ألا تراه دالا على الشرط؟ ولذلك انجزم جوابه في قولك: زرني أزرك، لأن معناه زرني؛ فإنك إن تزرني أزرك. فلما آل معناه إلى الشرط. جاز دخول الفاء في الفعل المفسر للمضمر، فعليه تقول: بزيد فامرر، وعلى جعفر فانزل. ولا موضع لقوله تعالى: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} ؛ لأنه تفسير، ولا يكون وصفا لـ"الزانيةَ" "والزانيَ" من حيث كانت المعرفة لا توصف بالنكرة، وكل جملة فهي نكرة. وأيضا فإن الأمر لا يوصف به كما لا يوصف بالنهي ولا بالاستفهام؛ لاستبهام كل واحد من ذلك لعدم الخبر منه. وأيضا فإن الموصوف لا تعرض بينه وبين صفته الفاء، لا تقول: مررت برجل فيضرب زيدا؛ وذلك لأن الصفة تجري مجرى الجزء من الموصوف، وجزء الشيء لا يعطف على ما مضى منه.
فإن قلت: فقد أقول: مررت برجل قام فضرب1 زيدا، فكيف جاز العطف هنا؟ قيل: إنما عطفت صفة على صفة، ولم تعطف الصفة على الموصوف من حيث كان الشيء لا يعطف على نفسه لفساده. ومن ذلك قراءة عبد الله بن مسلم بن يسار وأبي زرعة بن عمرو بن جرير: "بِأَرْبَعَةٍ شُهَدَاء"2، بالتنوين. قال أبو الفتح: هذا حسن في معناه؛ وذلك أن3 أسماء العدد من الثلاثة إلى العشرة لا تضاف إلى الأوصاف، ولا يقال: عندي ثلاثة ظريفين4 إلا في ضرورة إلى إقامة الصفة مقام الموصوف، وليس ذلك في حسن وضع الاسم هناك، والوجه عندي ثلاثة ظريفون5. وكذلك قوله: "بِأَرْبَعَةٍ شُهداءَ" لتجري "شهداء" على6 "أربعة" وصفا؛ فهذا هذا. فأما وجه قراءة الجماعة: {بِأَرْبَعَةِ شُهداءَ} بالإضافة [110ظ] فإنما ساغ ذلك لأنهم قد استعملوا الـ"شهداء" استعمال الأسماء؛ وذلك كقولهم: إذا دفن الشهيد صلت عليه الملائكة، وعد الشهداء يومئذ فكانوا كذا وكذا، ومنزلة الشهيد عند الله مكينة. فلما اتسع ذلك عنهم جرى عندهم مجرى الاسم؛ فحسنت إضافة اسم العدد إليه حسنها إذا أضيف7 إلى الاسم الصريح أو قريبا من ذلك. واعلم منْ بَعْدُ أن الصفات لا تتساوى أحوالها في قيامها مقام موصوفاتها، بل بعضها في ذلك أحسن من بعض، فمتى دلت الصفة على موصوفها حسنت إقامتها مقامه، ومتى لم تدل على موصوفها قبحت إقامتها مقامه. فمن ذلك قولك: مررت بظريف، فهذا أحسن من قولك: مررت بطويل؛ وذلك أن الظريف لا يكون إلا إنسانا مذكرا ورجلا أيضا، وذلك أن الظُّرف
إنما هو حسن العبارة، وأنه أمر1 يخص اللسان؛ فظريف إذا مما يختص الرجال دون الصبيان؛ لأن الصبي في غالب الأمر لا تصح له صفة الظرف، وليس كذلك2 قولنا: مررت بطويل؛ لأن الطويل قد يجوز أن يكون رجلا، وأن يكون رمحا، وأن يكون حبلا وجذعا، ونحو ذلك. فهذا هو الذي يقبح، والأول هو الذي يحسن، فإن قام دليل من وجه آخر على إرادة الموصوف ساغ وضع صفته موضعه، فاعرف ذلك واعتبره بما ذكرنا. وإنما قبح حذف الموصوف من موضعين: أحدهما أن الصفة إنما لحقت الموصوف إما للتخصيص والبيان، وأما للإسهاب والإطناب، وكل واحد من هذين لا يليق به الحذف، بل هو من أماكن الإطالة والهضب3. واعلم أن الصفة كما تفيد في الموصوف فكذلك قد يفيد الموصوف في صفته، ألا تراك إذا قلت: مررت بغلام طويل فقد علم أن طويلا هنا إنسان. ولو لم يتقدم ذكر الغلام لم يُعلم أنه لإنسان أو غيره: من الرمح، أو الجذع، ونحوهما. وكذلك قد علم بقولك: طويل، أن الرجل طويل وليس بربعة ولا قصير، وهذا أحد ما خلط الموصوف بصفته حتى صارت معه كالجزء منه، وذلك لتساويهما في إفادة كل واحد منهما في صاحبه ما لولا مكانه لم يُفِد فيه. ومن ذلك قراءة الأعرج بخلاف وأبي رجاء وقتادة وعيسى وسلام وعمرو بن ميمون، ورويت عن عاصم: "أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ"4 "أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ"5. وقرأ: "أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ" رفع وخفف النون، و"أَنَّ غَضَبُ اللَّهِ" نصب -يعقوب. قال أبو الفتح: أما من خفف ورفع فإنها عنده مخففة من الثقيلة وفيها إضمار محذوف للتخفيف، أي: أنه لعنةُ الله عليه وأنه غضبُ الله عليها، فلما خففت أضمر اسمها وحذف، ولم يكن من إضماره بد؛ لأن المفتوحة إذا خففت لم تصر بالتخفيف حرف ابتداء، وإنما تلك إن المكسورة، وعليه قول الشاعر:
فِي فِتيَةٍ كسُيُوفِ الهنْدِ قَدْ عَلِمُوا ... أنْ هَالِكٌ كُلُّ مَنْ يَحْفَى ويَنْتَعِلُ1 أي: أنه هالك كل من يحفى وينتعل. وسبب2 ذلك أن اتصال المكسورة باسمها وخبرها اتصال بالمعمول فيه، واتصال المفتوحة باسمها وخبرها اتصالان: أحدهما اتصال العامل بالمعمول، والآخر اتصال الصلة بالموصول. [111و] . ألا ترى أن ما بعد المفتوحة صلة لها؟ فلما قوي مع الفتح اتصال أن بما بعدها لم يكن لها بد من اسم مقدر محذوف تعمل فيه، ولما ضعف3 اتصال المكسورة بما بعدها جاز إذا خففت أن تفارق العمل وتخلص حرف ابتداء، ولا يجوز أن تكون "أنْ" هنا بمنزلة أي للعبارة، كالتي في قول الله سبحانه: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا} 4، معناه أي: امشوا. قال سيبويه: لأنها لا تأتي إلا بعد كلام تام، وقوله: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ} كلام تام، وليست "الخامسة" وحدها كلاما تاما فتكون "أن" بمعنى "أي"، ولا تكون "أن" هنا زائدة كالتي في قوله: ويوْمًا تُوَافِينا بوجْه مُقَسَّمٍ ... كَأَنْ ظَبْيَةٍ تَعْطُو إلَى وارِقِ السَّلَمْ5 لأن معناه والخامسة أن الحال كذلك، يدل على ذلك قراءة الكافة: {أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ} وأن {غَضَبَ اللَّهِ} . ومن ذلك قراءة أبي رجاء وحُميد ويعقوب وسفيان الثوري6 وعَمرة بنت
عبد الرحمن1 وابن قُطَيبٍ: "كُبْرَهُ2"، بضم الكاف. قال أبو الفتح: من قرأ كذلك أراد عُظْمَهُ، ومن كسر فقال: "كِبْرَهُ" أراد وزره وإثمه. قال قيس بن الخطيم: تَنَامُ عنْ كُبْر شَأْنِهَا فَإذَا ... قَامَتْ رُوَيْدًا تَكَادُ تَنْغَرِفُ3 أي عن معظم شأنها. ومن ذلك قراءة عائشة وابن عباس رضي الله عنهما وابن يعمر وعثمان الثقفي: "إِذْ تَلِقُونَهُ"4. وقرأ: "إِذْ تُلْقُونَهُ"-من ألقيت- ابن السَّمَيْفَع. وقرأ: "إِذْ تَتَقَفَّوْنَهُ" أُمُّ ابن عيينة. قال ابن عيينة: سمعت أمي تقرأ كذلك، وكانت على قراءة عبد الله. وروي أيضا عن ابن عيينة قال: سمعت أمي تقرأ: "إذْ تَثَقَّفُونه"، قال: وكان أبوها يقرأ كما يقرأ عبد الله. وقراءة الناس: {إذ تَلَقَّوْنَهُ} . قال أبو الفتح: أما "تَلِقُونَهُ" فتسرعون فيه، وتَخِفُّون إليه. قال الزاجر: جَاءَتْ بِهِ عَنْسٌ مِنَ الشَّامِ تَلِقْ5
أي تخِف وتسرع، وأصله تَلِقُون فيه أو إليه، فحذف حرف الجر وأوصل الفعل إلى المفعول، كقوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا} 1، أي: من قومه: والهاءُ2 ضمير الإفك الذي تقدم ذكره. وأما "تُلْقُونَهُ" فمعناه تُلْقُونَهُ من أفواهكم، وأما "تَتَقَفَّوْنَهُ" فتجمعونه وتَحْطِبُونَهُ من عند أنفسكم، ولا أصل له عند الله تعالى3. وعليه القراءة الأخرى "تَثَقَّفُونَهُ" من ثَقِفْتُ الشيءُ، إذا طلبتَه فأدركتَه، أي تتصيدون الكلام في الإفك من هنا ومن هنا. ومن ذلك قراءة أبي جعفر وشيبة وعيسى الهمداني وعيسى الثقفي، ورويت عن عاصم والأعمش أيضا: "ما زَكا"4، بالإمالة. قال أبو الفتح: من الواو، لقولهم فيه: زكوت تزكو فأميلت ألفه، فإن كانت من الواو من حيث كان فعلا، والأفعال أقعد في الاعتلال من الأسماء من حيث كانت كثيرة التصرف، وله وضعت، والإمالة ضرب من التصرف5، ولو كان اسما لم تحسن إمالته حسْنَها في الفعل؛ وذلك نحو العَفَا: ولد الحمار الوحشي، والسَّنَا: الذي يأتي من مكة. وقد تقدم نحو هذا، فهذا مثال يقاس به بإذن الله. ومن ذلك قراءة علي والأعرج وعمرو بن عبيد وسلام: "خُطُؤاتِ"6 بالهمز. وقرأ: "خَطَوَات" أبو السمَّال. قال أبو الفتح: [111] ظ قد تقدم القول على ذلك فيما مضى7.
ومن ذلك قراءة عباس1 بن عياش بن أبي ربيعة وأبي جعفر وزيد بن أسلم: "يَتَأَلّ"2 يَتَفَعَّلُ. قال أبو الفتح: تأَلَّيْتُ على كذا إذا حلفتُ، والألْوَةُ والإلْوَةُ والأُلْوَةُ والأَلِيَّةُ: اليمين. أنشد الأصمعي: عَجَّاجَةً هَجّاجَةَ تأَلَّى ... لَأُصْبِحَنَّ الأَحْقَرَ الأَذَلَّا3 أي: ولا يحلف أُولُو الفضل منكم والسعة ألا يؤتوا أُولي القربى. ومن قرأ: "وَلا يَأْتَلِ" فمعناه: ولا يقصر، وهو يفتعل من قولهم: ما ألَوْتُ في كذا أي: ما قصرت. ومن ذلك ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وَلْتَعْفُوا وَلْتَصْفَحُوا"4 بالتاء وروي عنه بالياء. قال أبو الفتح: هذه القراءة بالتاء كالأخرى المأثورة عنه عليه السلام: "فَبِذَلِكَ فَلْتَفْرَحُوا"5، وقد ذكرنا ذلك وأنه هو الأصل، إلا أنه أصل مرفوض6 استغناءً عنه بقولهم: اعفوا واصفحوا وافرحوا، ولا وجه لإعادته.
ومن ذلك قراءة مجاهد وأبي روق: "يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقُّ"1 رفعا. قال أبو الفتح: "الحق" هنا وصف الله "سبحانه"، أي: يومئذ يوفيهم الله الحق دينهم وجاز وصفه "تعالى" بالحق لما في ذلك من المبالغة، حتى كأنه يجعله هو هو على المبالغة، فهو كقولنا2: رجل خَصْم، وقوم زَوْر، وقوله: فَهُمْ رِضا وَهُمْ عَدْل3 وعليه قوله "تعالى": "إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ"4. ومن ذلك قول ابن عباس: أخطأ الكاتب، إنما هي "تستأْذنوا"، يعني قوله: "تستأْنسوا"5
وكذلك يروى عن بعد الله، وروي عن أُبَيّ: "حَتَّى تُسَلِّمُوا أو تَسْتَأْذِنُوا"، وكذلك قرأ ابن عباس. قال أبو الفتح: "تَسْتَأْنِسُوا" هنا معناه تطلبوا وتلتمسوا الأنس، كما أن "تستأذنوا" إنما معناه تطلبوا الإذن. فأما قولهم: قد استأنست بفلان فليس من هذا، إنما ذاك معناه أنست به، وليس المراد فيه طلبت الأنس منه. وأنس في هذا واستأنس كسخر واستسخر، وهزئ واستهزأ، وعجب واستعجب، وقر واستقر، وعلا واستعلى. قال أوس بن حجر: وَمُسْتَعْجِب مِمّا يَرَى منْ أناتِنَا ... ولَو زَبَنَتْهُ الحربُ لَمْ يَتَرَمْرَمِ1 ومن ذلك قراءة ابن عباس وسعيد بن جبير: "مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ لَهنّ غَفُورٌ رَحِيمٌ"2. قال أبو الفتح: اللام في "لهن" متعلقة بـ"غفور"؛ لأنها أدنى إليها، ولأن فعولا أقعد في التعدي من فعيل، فكأنه قال: فإن الله من بعد إكراههن غفور لهن. ويجوز أن تكون أيضا متعلقة بـ"رحيم"؛ وذلك أن ما لا يتعدى قد يتعدى بحرف الجر، ألا تراك تقول: هذا مارٌّ بزيد أمس، فتعمل اسم الفاعل وهو لما مضى؛ لأن هناك حرف الجر، وإن كنت لا تعديه فتنصب به وهو لما مضى؟ فكذلك يجوز تعلق اللام في "لهن" بنفس "رحيم"، وإن كنت لا تجيز: هذا رحيم زيدا، على مذهب الجماعة غير سيبويه ولأجل اللام في "لهن". فإن قلت: فإذا كانت اللام في "لهن" متعلقة بـ"رحيم" وإنما يجوز أن [112و] يقع المعمول بحيث يجوز وقوع العامل أَفَتُقَدِّمُ "رحيما" على "غفور" وهو تابع له؟ قيل: اتباعه إياه لفظا لا يمنع من جواز تقديم رحيم على غفور؛ وذلك أنهما جميعا خبران لـ "إنّ"، وجاز تقدم أحد الخبرين على صاحبه؛ فتقول: هذا حلو حامض، ويجوز: هذا حامض حلو. فلك إذًا أن تقول: فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم، وإن شئت رحيم غفور.
ويحسِّن ذلك هنا أيضا شيء آخر، وهو أن الرحمة كأنها أسبق رتبة من المغفرة؛ وذلك أنه "سبحانه" إنما يرحم فيغفر، فكأن رتبة الرحمة أسبق في النفس من رتبة المغفرة؛ فلذلك جاز، بل حسن تعليق اللام في "لهن" بنفس "رحيم" وإن كان بعيدا عنها؛ لما ذكرناه من كون الرحمة سببا1 للمغفرة. فإذا كانت في الرتبة قبلها معنًى حسن أن تكون قبلها لفظا أيضا. فإن جعلت "رحيم" صفة لـ"غفور" لم يجز أن تعلِّق في2 "لهن" بنفس "رحيم"؛ لامتناع تقدم الصفة على موصوفها. وإذا لم يجز أن يُنوى تقديمها عليه لم يجز أن تضع ما تعلق بها قبله لأنه إنما يجوز أن يقع المعمول بحيث يجوز أن يقع العامل فيه، وأنت إذا جعلت رحيما صفة لـ"غفور" لم يجز أن تقدمه عليه؛ لامتناع جواز تقدم الصفة على موصوفها إذا كانت حالة منه محل آخر أجزاء الكلمة من أولهما، فاعرف ذلك. ومن ذلك قراءة نصر بن عاصم: "فِي زَجَاجَةٍ الزَّجَاجَةُ"3 بفتح الزاي فيهما. قال أبو الفتح: فيها ثلاث لغات: زَجَاجَة، وزُجَاجَة، وَزِجَاجَة: بالفتح، والضم، والكسر. وفي الجمع زَجَاج، وزُجاج، وزِجاج: كنَعامة، ونَعام، ورُقاقة ورقُاق، وعِمامة وعِمام. حكى بعضهم: وضعوا عِمامَهُم عن رءوسِهم، يريد: عمائمهم. فقد يكون كزِجاجة وزِجاج، ويجوز أيضا أن يكون جمعا مكسران كظريف وظِراف، ودرع دِلاص4 وأدرُع دِلاص، وناقة هِجان5 وأينُق هِجَان. ويدل على أنه تكسير -وليس كَجُنُب مما يقع للواحد فما فوقه بلفظ واحد -قولهم: هِجانان، وكذلك أيضا زَجاج جمع زَجاجة وزِجاجة وزُجاجة تكسير الجمع على ما مضى لا على
الجمع بطرح الهاء. ونظير عِمامة وعِمام - إذا لم تجعله تكسيرا، وجعلته جمعا بحذف التاء وإن لم يكن جنسا وكان مصنوعا- قولهم: سفينة وسَفِين، ودواة ودَوًى، وغاية وغايٌ. وراية ورايٌ، وثاية1 وثايٌ، وطاية وطايٌ. ومن ذلك قراءة قتادة والضحاك: "كَوْكَبٌ دَرِّيٌ3"، مخففة. وقرأ: "دَرِّيءٌ"، مفتوحة الدال، مشددة الراء، مهموزة - سعيد بن المسيب، ونصر بن علي، وأبو رجاء، وأبان بن عثمان4، وقتادة، وعمرو بن فائد. قال أبو الفتح: الغريب من هذا "دَرِّيءٌ"، بفتح الدال، وتشديد الراء، والهمز. وذلك لأن5 فَعِّيلا بالفتح وتشديد العين عزيز، إنما حكي منه: السَّكِّينة، بفتح السين وتشديد الكاف، حكاها أبو زيد. وقد ذكرنا في صدر هذا الكتاب القول على [112ظ] الدُّرِّيّ وما فيه من الصنعة، شيئا على شيء، وبسطناه6 هناك. ومن ذلك قراءة السملي والحسن وابن محيصن وسلام وقتادة: "يَوَقَّدُ"7 وثلاثة أوجه8 في السبعة، وفيه خامسة: "يُوَقَّدُ" برفع الياء، وبنصب الواو والقاف، وبرفع الدال9.
قال أبو الفتح: المشكل من هذا "يَوَقَّدُ"؛ وذلك أن أصله يتوقد، فحذف التاء لاجتماع حرفين زائدين في أول الفعل، وهما الياء والتاء المحذوفة. والعرف في هذا أنه إنما تحذف التاء إذا كان حرف المضارعة قبلها تاء، نحو "تَفَكَّرُون" و"تَذَكّرُون"، والأصل تتفكرون وتتذكرون؛ فيكره اجتماع المثلين زائدين، فيحذف الثاني منهما طلبا للخفة بذلك. وليس في يتوقد مثلان فيحذف أحدهما، لكنه شبه حرف مضارعة بحرف مضارعة، أعني شبه الياء في يتوقد بالتاء الأولى في تتوقد؛ إذ كانا زائدين، كما شبهت التاء والنون في تَعِد ونَعِد بالياء في يَعِد، فحذفت الواو معهما كما حذفت مع الياء في يعد. وقياس من قال: "يَوَقَّد" -على ما مضى- أن يقول أيضا: أنا أَوَقَّدُ، ونحن نَوَقَّدُ؛ فتشبه النون والهمزة بالتاء، كما شبه الياء بها فيما مضى. ونحو من هذا قراءة من قرأ: "نُجِّي الْمُؤْمِنِينَ"1، وهو يريد: نُنْجِي المؤمنين؛ فحذف النون الثانية وإن كانت أصلية، وشبهها -لاجتماع المثلين- بالزائدة. فهذا تشبيه أصل بزائد لاتفاق اللفظين، والأول تشبيه حرف مضارعة بحرف مضارعة، لا لاتفاق اللفظين، بل2 لأنهما جميعا زائدان. ومن ذلك قراءة ابن عباس: "ولَوْ لَمْ يَمْسَسْهُ نارٌ"3، بالياء. قال أبو الفتح: هذا حسن مستقيم؛ وذلك لأن هناك شيئين حسنا التذكير هنا: أحدهما الفصل بالهاء، والآخر أن التأنيث ليس بحقيقي. فهو نظير قول الله "سبحانه": {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} 4، بل إذا جاز تذكير فعل "الصيحة" مع أن فيها علامة تأنيث فهو من النار التي لا علامة تأنيث فيها أمثل. فأما قولهم: نعم المرأة هند بالتذكير فإنما جاز -وإن كان التأنيث حقيقيا، ولا فصل هناك- من قبل أن المرأة هنا ليست مقصودا قصدها، وإنما هي جنس؛ لأنها فاعل نعم، والأجناس عندنا إلى الشياع والتنكير.
أما ما رُوِّينا من قول جِران العود: ألا لَا يَغُرَّنَّ امْرَأً نَوْفَلِيَّةٌ ... عَلَى الرَّأْسِ بَعْدِي أَوْ تَرَائِبُ وُضَّحُ1 فإن النوفلية هنا ليست امرأة، وإنما هي مِشْطَة تعرف بالنوفلية. وأما قوله: وَلَا أَرْضَ أَبْقَلَ إِبْقَالَهَا2 ففيه شيئان يُؤنّسان، وواحد يُوحش منه. أما المؤنسان فأحدهما أنه تأنيثٌ لفظي لا حقيقي، والآخر أنه لا علامة تأنيث في لفظه. وأما الموحش فهو أن الفاعل مضمرٌ، وإذا أضمر الفاعلُ في فعله وكان الفاعل مؤنثا لم يحسن تذكير فعله حُسْنَه إذا كان مظهرا؛ وذلك أن قولك: قام هند أعذر من قولك: هند قام، من قبل أن الفعل3 منصبغ [113و] بالفاعل المضمر فيه أشد من انصباغه4 به إذا كان مظهرا بعده. فقام هند -على صبغة- أقرب مأخذا من هند قام لما ذكرناه؛ وذلك أنك إذا قلت: قام فإلى أن تقول: هند فاللفظ الأول مقبول غير ممجوج؛ لأن الفعل أصل وضعه على التذكير فإذا قلت: هند قام فالتذكير الآتي من بعده مخالف للتأنيث السابق فيما قبل، فالنفس تعافه لأول استماعه. وقولك: قام هند، النفس تقبل تذكير الفعل أول استماعه إلى أن يأتي التأنيث فيما بعد. وقد سبق تذكير الفعل على لفظ غير مأبي ولا مرذول، ورد الغائب ليس كاستئناف الحاضر، فذلك فرق.
ومن ذلك قراءة سعيد بن جبير وأبي مجلز: "والإيصَالِ"1. قال أبو الفتح: يريد وقت الإيصال، وهو قبل الغروب. وقد مضى القول عليه2. ومن ذلك ما حكاه عبد الله بن إبراهيم العمّي الأفطس، قال: سمعت مسلمة يقرأ: "كَسَرَابٍ بِقِيعَات"3، بالألف. قال أبو الفتح: كذلك في كتاب ابن مجاهد: "بِقيِعَاةٍ"، بالهاء بعد الألف. والذي قاله جائز؛ وذلك أن نظير قولهم: قِيعَةٌ وقِيعَاةٌ في أنه فِعْلَة وفِعْلَاة لمعنى واحد قولهم: رَجل عِزْهٌ وعِزْهَاةٌ: الذي لا يقرب النساء واللهو، فهذا فِعْلٌ وفِعْلَاة، وذلك فِعْلَة وفِعْلَاة، ولا فرق بينهما غير الهاء، وذلك ما لا بال به. وقد يجوز أن يكون قيعات بالتاء جمع قِيعَة، كدِيمة ودِيمات، وقِيمة وقِيمات. وأما قيعة فيكون واحدا كديمة ويجوز أن يكون جمع قاع، كَنارٍ ونِيرَة -جاء في شعر الأسود -وجارٍ وجِيرَة. ومثله من الصحيح العين وَلَدٌ ووِلْدٌة، وأخٌ وإِخْوَة؛ لأن أخا عندنا فَعَل. ووجه ثالث، وهو أن يكون أراد "بِقِيعة"، فأشبع فتحة العين، فأنشأ عنها ألفا، فقال: "بقيعاة". ونظيره قول ابن هرمة يرثي ابنه: فأنْتَ مِنَ الغوائِلِ حِينَ تُرْمَى ... ومِنْ ذمّ الرِّجالِ بِمُنتَزَاحِ4 أراد بمنتزح، فأشبع الفتحة، فأنشأ عنها ألفا، وقد تقصينا ذلك فيما مضى، فإذا أراد بالقيعات الجمع فهو كقول الآخر: كأنَّ بالقيعاتِ مِنْ رُغَاهَا ... مِمَّا نَفَى بالليلِ حَالِبَاهَا أَمْنَاءُ قُطْن جَدَّ حَالِجَاهَا5
يريد ما جرى من رغوة لبنها في القيعات1، وهو كثير كقولهم: أرض قِفارٌ ومُحُول وسباسِبُ2، مما بُولغ فيه بذكر الجمع. ومن ذلك قراءة طلحة بن مُصّرِّف: "سَنَاءُ بَرْقِهِ"3. قال أبو الفتح: السناء، ممدودا: الشرف، يقال: رجل ظاهر النبل والسناء. والسنى مقصورا: الضوء. وعليه قراءة الكافة: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} ، أي: ضوء برقه. وأما "سناء برقه" فقد يجوز أن يكون أراد المبالغة في قوة ضوئه وصفائه، فأطلق عليه لفظ الشرف. كقولك: هذا ضوء كريم، أي: هو غاية في قوته وإنارته، فلو كان إنسانا لكان كريما شريفًا4 [113ظ] ومن ذلك قراءة أبي جعفر يزيد: "يُذْهِبُ"5، بضم الياء. قال أبو الفتح: الباء زائدة، أي يذهِبُ الأبصار. ومثله في زيادة الباء في نحو هذا قوله: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} 6، وقول الهذلي: شَرِبْنَ بِمَاءِ البَحْرِ ثُمَّ تَرَفَّعَتْ ... مَتَى لُحَجٍ خُضْرٍ لَهُنَّ نَئِيجُ7 أي: شربن ماء البحر، وإن كان قد قيل: إن الباء هنا بمعنى في، أي: في لجج البحر.
والمفعول محذوف، معناه شربن الماء في جملة ماء البحر. وفي هذا التأويل ضرب من الإطالة والبعد، واعلم منْ بعدُ أن هذه الباء إنما تزاد في هذا النحو كقوله: {يَذْهَبُ بِالْأَبْصَار} ، {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} لتوكيد معنى التعدي. كما زيدت اللام لتوكيد معنى الإضافة في قولهم: يا بُؤسَ لِلْجَهْلِ ضَرَّارًا لِأَقْوَامِ1 وكما زيدت الياءان لتوكيد معنى الصفة في أَشقريٌّ ودَوَّارِيٌّ وكَلَّابِيٌّ2، وكما زيدت التاء لتوكيد معنى التأنيث في فَرَسَة وعَجُوزَة، فاعرف ذلك، ولا ترين الباء في: {يَذْهَبُ بِالْأَبْصَار} مزيدة زيادة ساذجة. وإن شئت حملته على المعنى. حتى كأنه قال: يكاد سنى برقه يلْوِي بالأبصار أو يستأثر بالأبصار على ما مضى من قوله "تعالى": {الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} 3. ومن ذلك قراءة علي عليه السلام والحسن بخلاف، وابن أبي إسحاق: "إِنَّمَا كَانَ قَوْلُ الْمُؤْمِنِينَ"4، بالرفع. قال أبو الفتح: أقوى القراءتين إعرابا ما عليه الجماعة من نصب "القول" وذلك أن في شرط اسم كان وخبرها أن يكون اسمها أعرف من خبرها، وقوله "تعالى" {أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} أعرف من قول المؤمنين؛ وذلك لشبه "أنْ" وصلتها بالمضمر من حيث كان لا يجوز وصفها، كما لا يجوز وصف المضمر، والمضمر أعرف من قول المؤمنين؛ فلذلك اختارت الجماعة أن تكون "أنْ" وصلتها اسم كان. ومثله {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا} 5 أي: إلا قولُهم على ما مضى فأما قولهم:
وَقَدْ عَلِمَ الأقْوَامُ ما كانَ دَاءَهَا ... بِشَهْلَانَ إلَّا الخِزْيُ مِمَّنْ يَقُودُهَا1 وأنه إنما اختير فيه رفع "الخزي" وإن كان مظهرا ومعرفة، كما أن داءها مظهر ومعرفة من حيث2 أذكره لك، وذلك أن "إلا" إذا باشرت شيئا بعدها فإنما جيء3 به لتثبيته وتوكيد معناه، وذلك كقولك: ما كان زيد إلا قائما، فزيد غير محتاج إلى تثبيته، وإنما يثبت له القيام دون غيره. فإذا قلت: ما كان قائما إلا زيد، فهناك قيام لا محالة، فإنما أنت نافٍ أن يكون صاحبه غير زيد، فعلى هذا جاء قوله: ما كان داءها بشهلان إلا الخزيُ برفع "الخزيُ"، وذلك أنه قد كان شاع وتُعُولِمَ أن هناك داء، وأنما أراد أن يثبت أن هذا الداء الذي لا شك في كونه ووقوعه لم يكن جانيَه ومسببَه إلا الخزيُ ممن يقودها، فهذا أمرٌ الإعرابُ فيه تابعٌ لمعناه ومحذوّ على الغرض المراد فيه. وأما قوله: وليس الذي يجري من العينِ ماءَها ... ولكِنَّها نَفْسٌ تَذُوبُ فتقْطُرُ4 [114و] ويروى: "ولكنه" فالوجه فيه نصب الماء، وذلك أنه رأى ماء يجري من العين فاستكثره واستنكره، فقال: ليس هذا الذي أراه جاريًا من العين ماءً للعين، وإنما هو هكذا وشيء غير مائها5. هذا هو الذي عناه فعبر عنه بما تراه، ولم يعنه الإخبار عن ماء العين فيخبر عنه بأنه هذا الشيء الجاري من العين؛ فذلك اختار نصب الماء، ولو رفعه لجاز؛ لأنه كان يعود إلى هذا المعنى، لكنه كان يعود بعد تعب به، ومسامحة فيه، وعلاج يريد حمله عليه. ومن ذلك قراءة قتادة: "أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مِفْتَاحَهُ"6، مكسورة الميم بألف. قال أبو الفتح: "مِفْتَاحَهُ" هنا جنس وإن كان مضافا، فقد جاء ذلك عنهم، منه قولهم: قد مَنَعَتِ العراقُ قفيزَها ودِرْهَمَهَا، ومنعْتْ مِصْرُ إِرْدَبَّها، وقد ذكرنا ذلك فيما مضى7.
سورة الفرقان
سورة الفرقان: بسم الله الرحمن الرحيم قرأ ابن الزبير: "نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْادِهِ"1. قال أبو الفتح: وجه ذلك أنه وإن كان إنزاله على رسول الله "صلى الله عليه وسلم" فإنه لما كان "عليه السلام" موصلا له إلى العباد ومخاطبا به لهم صار كأنه منزل عليهم، ولذلك كثر فيه خطاب العباد بالأمر والنهي لهم، والترغيب والترهيب والمصروف اللفظ إليهم، ونحو ذلك مما يوجه فيه الخطاب نحوهم. ومن ذلك قراءة طلحة بن مصرف: "اكْتُتِبَهَا2"، بضم الألف والتاء الأولى وكسر الثانية. قال أبو الفتح: قراءة العامة: {اكْتَتَبَهَا} معناه استكتبها، ولا يكون معناه كتبها، أي: كتبها بيده؛ لأنه "عليه السلام" كان أميا لا يكتب، وهو من تمام إعجازه، وأنه لم يكن يقرأ الكتب فيظن بما يورده من الأنباء المتقادمة الأزمان كان عن قراءته الكتب. فـ {اكْتَتَبَهَا} معناه استكتبها؛ لأنه لم يكن أحد من المشركين يدعي أنه يقرأ الكتب وإذا كان كذلك فمعنى {اكْتَتَبَهَا} إنما هو استكتبها، وهو على القالب، أي: استكتبت له. ومثله في القلب قراءة من قرأ: "قُدِّرُوهَا تَقْدِيرًا"3، أي: قدرت لهم، والقلب باب، وشواهده كثيرة، منها قولهم:
مِثلُ القنافِذِ هَدّاجُونَ قدْ بَلَغَتْ ... نجرانَ أو بَلَغَتْ سَوْاءَتِهِمْ هَجَرُ1 أراد: وبَلَغَتْ سوءاتُهُم هجرا، ومثله قولهم: أسلَمُوها في دمشْقَ كَمَا ... أسلمَتْ وحشيَّةٌ وَهَقَا2 أي: كما أسلم وهق وحشية، ومنه قوله: ما أمسكَ الحبلَ حافِره3 أي: ما أمسَكَ الحبْلُ حافِرَهُ. وليس ممتنعا أن يكون قوله: {اكتَتَبَهَا} كتبها وإن لم يلِ ذلك بيده، إلا أنه لما كان عن رأيه أو أمره نسب ذلك إليه، كقولنا: ضرب الأمير اللص وإن لم يله بيده. وفي الحديث: "من اكتتب ضمنا كان له كذا" 4، أي: زمنا، يعني كتب اسمه في الفرض. فعلى هذا يكون "اكْتُتِبهَا" أي: اكْتُتِبَتْ لَهُ. ومن ذلك قراءة عبيد الله بن موسى وطلحة بن سليمان: "وَيَجْعَلَ لَكَ"، بالنصب. قال أبو الفتح: نصبه على أنه جواب الجزاء بالواو، كقولك: إن تأتني آتك وأُحْسِنَ إليك. وجازت إجابته بالنصب [114ظ] لما لم يكن واجبا إلا بوقوع الشرط من قبله وليس قويا من ذلك، ألا تراه بمعنى قولك: أفعلُ كذا إن شاء الله؟
ومن ذلك قراءة الأعرج: "نَحْشِرُهُمْ"1، بكسر الشين. قال أبو الفتح: هذا وإن كان قليلا في الاستعمال فإنه قوي في القياس، وذلك أن "يَفْعِل" في المتعدي أقيس من "يَفْعُل"، فضرَب يضرِب إذًا أقيسُ من قتَل يقتُل؛ وذلك أن "يَفْعُل" إنما بابها الأقيس أن تأتي في مضارع فَعُلَ، كظرُف يظرُف، وكرُم، يكرُم، ثم نقلت إلى مضارع فعَل، نحو يقتُل ويدخُل؛ لتخالف حركة العين في المضارع حركتها في الماضي؛ إذ كان مبني الأفعال على اختلاف مُثُلِهَا، من حيث كان ذلك دليلا على اختلاف أزمنتها، فكلما خالف الماضي المضارع كان أقيس، وباب فَعَلَ إنما هو يَفْعُل، كما أن باب فَعِلَ إنما هو يَفْعَل. فكما انقاد عَلِمَ يَعْلَم فكذلك كان يجب أن ينقاد2 باب ضَرَبَ يضرِب. فأما يفعُل فبابه -على ما تقدم- فعُل، كشرُف يشرُف. وباب فعُل غيرُ متعدٍ، فالأشبه ما أُخْرِجَ إليه من باب فَعَلَ أن يكون مما ليس متعديا كقَعَدَ يقعُد، فكما أن ضرَب يضرِب أقيسُ من قتَل يقتُل فكذلك قعَد يقعُد أقيسُ من جلَس يجلِس وقد شرَحْنا هذا في كتابنا الموسوم بالمنصف3. ومن ذلك قراءة زيد بن ثابت وأبي الدرداء وأبي جعفر ومجاهد -بخلاف- ونصر بن علقمة4 ومكحول5 وزيد بن علي6 وأبي رجاء والحسن -واختلف عنهما- وحفص بن حميد4 وأبي عبد الله محمد بن علي: "نُتَّخَذَ8"، بضم النون.
قال أبو الفتح: أما إذا ضمت النون فإن قوله: "مِن أَولياء" في موضع الحال، أي: ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك أولياء، ودخلت "من" زائدة لمكان النفي، كقولك: اتخذت زيدا وكيلا، فإن نفيت قلت: ما اتخذت زيدا من وكيل. وكذلك أعطيته درهما، وما أعطيته من درهم، وهذا في المفعول. وأما في قراءة الجماعة: {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} فإن قوله {مِنْ أَوْلِيَاءَ} 1 في موضع المفعول به، أي: أولياء. فهو كقولك: ضربت رجلا، فإن نفيت قلت: ما ضربت من رجل. وقوله: {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ} أي: لسنا ندعي استحقاق الولاء ولا العبادة لنا. ومن ذلك قراءة علي "عليه السلام" وعبد الرحمن بن عبد الله: "وَيُمْشَّونَ فِي الْأَسْوَاق"2، بضم الياء، وفتح الشين مشددة. قال أبو الفتح: "يُمشَّون" كقولك: يدعون إلى المشي، ويحملهم حامل إلى المشي، وجاء على فُعَّل لتكثير فعلهم، إذ هم "عليهم السلام" جماعة، ولو كانت "يُمشُّون" بضم الشين لكانت أوفق لقوله تعالى: {لَيَأْكُلُونَ الطَّعَام} ، إلا أن معناه3 يكثرون المشي كما قال: يُمَشِّي بَيْنَنا حانُوتُ خَمْر ... منَ الخُرْسِ الصَّراصِرَةِ القطاط4 ومن ذلك ما روي عن ابن كثير وأهل مكة: "وَنُزِّلُ الْمَلائِكَة"5، وكذلك روى خارجة عن أبي عمرو. قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون محمولا على أنه أراد: ونُنَزِّلُ الملائكة، إلا أنه حذف النون الثانية التي هي فاء فِعل نزَّل؛ لالتقاء النونين استخفافا، وشبهها بما حذف من أحد المثلين
الزائدين في نحو قولهم: أنتم تَفكرون "115و" وتَطهّرون، وأنت تريد: تتفكرون وتتطهرون ونحوه قراءة من قرأ: "وَكَذَلِكَ نُجِّي الْمُؤْمِنِين"، ألا تراه يريد: ننجِّي، فحذف النون الثانية وإن كانت أصلا لما ذكرنا؟ وقد تقدم القول على ذلك في سورة النور1. وروى عبد الوهاب عن أبي عمرو: "وَنُزِلَ الْمَلائِكَةُ"، خفيفة. قال أبو الفتح: هذا غير معروف؛ لأن "نَزَلَ" لا يتعدى إلى مفعول به فيبنى هنا للملائكة؛ لأن هذا إنما يجيء على نَزَلتُ الملائكةَ، ونُزِل الملائكةُ. وَنَزَلْت غير متعدّ كما ترى. فإن قلت: فقد جاء فُعِل مما لا يتعدى فَعَلَ منه، نحو زُكِمَ، ولا يقال زَكَمَه الله. وجُنّ، ولا يقال جنَّه الله. وإنما يقال: أزكمه الله، وأَجَنَّه الله- فإن2 هذا شاذ ومحفوظ، والقياس عليه مردود مرذول. فإما أن يكون ذلك لغة طارقة لم تقع إلينا، وإما أن يكون على حذف المضاف، يريد: ونُزِل نُزولُ الملائكة، ثم حُذف المضاف وأُقيم المضاف إليه مقامه على ما مضى، فأقام "الملائكة" مقام المصدر الذي كان مضافا إليها، كما فعل ذلك الأعشى في قوله: أَلَمْ تَغْتَمِضْ عَيْنَاكَ ليلةَ أَرْمَدا3 إنما يريد اغتماض ليلة أرمد فنصْبُ ليلة إذًا إنما هو على المصدر لا على الظرف؛ لأنه لم يُرد: ألم تغتمض عيناك في ليلة أرمد، وإنما أراد: ألم تغتمض عيناك من الشوق والأسف اغتماضا مثل اغتماض ليلة رَمِد العين. ومثله قول العجاج. حَتَّى إذا صَفُّوا لَهُ جِدارا4 "فجدارا" الآن منصوب نصب المصدر، وليس منصوبا على أنه مفعول به، كقولك: صففتَ قدمَك، إنما يريد: اصطفوا له اصطفاف جدار؛ فحذف الاصطفاف، وأقام "الجدار"
مقامه، فنصبه على المصدر، كما ينصب الاصطفاف أو ظهر، وكذلك ما رويناه عن محمد بن الحسن عن ابن الأعرابي من قوله: وطَعْنَةِ مُسْتَبْسِلٍ ثَائِرٍ ... يَرُدُّ الكَتِيبَةَ نِصْفَ النَّهارِ1 أي ردّ نصف النهار ألا ترى أن ابن الأعرابي فسره فقال: يرد الكتيبة مقدار نصف يوم، فهذا يدلك على أنه أراد: يردُّ الكتيبة ردّ نصف النهار، أي: الرد الذي يمتد وقته بمقياس ما بين أول النهار إلى نصفه، وذلك نصف يوم. وليس يريد أنه يردها في هذا الوقت البتة، وإنما يريد أنه يردها مقدار نصف النهار، كان ابتداء ذلك في أول النهار أو غيره من نهار أو ليل، وكأنه قال: يرد الكتيبة ست ساعات، فهذا لا يخص نهارا من ليل، فبهذا يعلم أنه لا يريد: يردها في وقت انتصاف النهار دون ما سواه من الأوقات. وكذلك: "وَنُزِل الْمَلائِكَةُ"، أي نزل نزول الملائكة. ولو سمى الفاعل على هذا التقدير لقيل: نَزَلَ النازلُ الملائكةَ، فنصب الملائكة انتصاب المصدر، كما نصب الجدار انتصاب المصدر، لأن كل مضاف إليه يحذف مِنْ قَبْله ما كان مضافا إليه فإنه يعرَب إعرابه، لا زيادة عليه ولا نقص منه. فإن قيل: فما معنى: نُزِل نزولَ الملائكة، حتى يصح لك تقديره مثبتا ثم تحذفه؟ فإنه على قولك: هذا نُزولٌ منزول، وهذا صعودٌ مصعود، وهذا ضرب مضروب. وقريب منه قولهم: "115ظ" قد قيل فيه قول، وقد خيف منه خوف. فاعرف ذلك؛ فإنه أمثل ما يحتج به لقراءة من قرأ: "وَنُزِلَ الْمَلائِكَة "، بتخفيف2 الزاي، فاعرفه. ومن ذلك قراءة علي بن أبي طالب "كرم الله وجهه" ومسلمة بن محارب: "فَدَمِّرانِّهمْ تدْمِيرًا"3. حكى أبو عمرو عن علي أنه قرأ: "فَدَمِرْناهم"، بكسر الميم مخففة، وحكى عنه أيضا: "فَدَمِّرا بهم"، بالباء على وجه الأمر. قال أبو الفتح: الذي رويناه عن أبي حاتم أنه حكاها قراءة غيرَ معزُوَّة إلى أحد: "فَدَمِّرانِّهمْ تدْمِيرًا"، وقال: كأنه أمر موسى وهارون عليهما السلام أن يدمّراهم.
قال أبو الفتح: ألحقَ نون التوكيد ألف التثنية، كما تقول: اضربانَّ زيدا، ولا تقتلانَّ جعفرا. ومن ذلك قراءة الأعرج: "مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَةً هَوَاهُ"1. قال أبو الفتح: ذكر أبو حاتم أنها قراءة لبعض3 أهل مكة، ولم ينص على أحد. والإلاهةُ: الشمس، ويقال: إلاهةُ بالضم غير مصروفة، روينا عن أبي علي: تَرَوَّحْنا مِنَ اللَّعْبَاء قَصْرًا ... فَأَعجَلْنا الإلاهة أنْ تَئُوبا3 ويروى: فأعجلنا إلاهة، فتكون إلاهة هذه المقروءة منزوعا عنها حرف التعريف الذي في الإلاهة، فتنكرت، فانصرفت. فأما قراءة من قرأ: "وَيَذَرَكَ وَإلِاهَتَكَ"4 فمعناه: وعبادتك، كذا قالوا عنه. وقد يجوز أن يكون أراد: إلاهة هذه المقروءة، فأضافها إليه لعبادته لها، فيكون كقوله: وَيَذَرَكَ وَشَمْسَكَ، أي الشمس التي تعبدها. ومن ذلك قراءة ابن السميفع: "الرِّيَاحَ بُشْرَى"5، مثل6 حبلى. قال أبو الفتح: "بُشْرَى"، مصدر وقع موقع الحال، أي: مُبَشِّرَةً، فهو كقولهم: جاء زيد ركضا، أي: راكضا. وهلم جرا، أي جارا أو منجرا. ومنه قول الله تعالى: {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا} 7، أي: ساعيات. ومثله قوله:
فأقبلْتُ زَحْفًا علَى الركبَتَيْنِ ... فَثَوْبًا نَسِيتُ وَثَوْبًا أَجُرُّ1 أي: أقبلت زاحفا وما أكثر نظائره! ومن ذلك قراءة طلحة بن مصرف: "وَهَذَا مَلْحٌ أُجَاجٌ2". قال أبو الفتح: قال أبو حاتم3: هذا منكر في القراءة، فقوله: هو منكر في القراءة يجوز أن يريد به أنه لم يُسمع في اللغة، وإن كان سُمِعَ فقليلٌ وخبيث، ويجوز أن يكون ذهب فيه إلى أنه أراد مالح، فحذف الألف تخفيفا كما ذكرنا قبل من قوله: إلا عَرَادًا عَرِدَا ... وصلِّيَانًا بَرِدَا4 وهو يريد عارِدا وبارِدا، وقد تقدم القول على هذا. وعلى أن "مالحا" ليست فصيحة صريحة؛ لأن الأقوى في ذلك: ماءٌ ملحٌ. ومثله من الأوصاف على فِعْل: نِضْوٌ5، ونِقْضٌ6، وهِرْطٌ7، وحِلْفٌ. وقد أجاز ابن الأعرابي مالح، وأنشد: وأنِّي لا أعِيجُ بِمَالِحٍ وأنشدوا أيضا فيه: بَصْرِيّةٌ تزوجَتْ بَصْرِيّا ... يطعمُها المالحَ والطريّا9
وفيما قرئ على أحمد بن يحيى فاعترف بصحته: سمَك مالح، وماءٌ مالح. وإنما يقال: سمَك مملوح ومليح، هذا أفصح الكلام، والأول يقال. ومن ذلك قراءة حسان بن عبد الرحمن1 صاحب عائشة "رضي الله عنه2"، وهو الذي يروى عنه قتادة: "116و" "وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قِوَامًا"3. قال أبو الفتح: القَوَامُ، بفتح القاف: الاعتدال في الأمر، ومنه قولهم: جارية حسنة القوام: إذا كانت معتدلة الطول والخلق. وأما "القِوَام" بكسر القاف فإنه ملاك الأمر وعصامه، يقال: مِلَاك أمرك وقِوَامه أن تتقي الله في سرك وعلانيتك، فكذلك قوله: "كَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قِوَامًا"، أي: مِلاكا للأمر ونظاما وعصاما. ولو اقتُصر فيه على قوله: "وكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ" لكان كافيا؛ لأنه كان بين الإسراف والتقتير فإنه قصد ونظام للأمر؛ "فَقِوَام" إذًا تأكيد وجارٍ مجرى الصفة، أي: توسطا مقيما للحال وناظما. ومعلوم أنه إذا كان متوسطا فإنه قوام ومساك، وأقل ما فيه أن يكون صفة مؤكدة، كقوله: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} 4، فالأخرى توكيد كما ترى. ومن ذلك قراءة طلحة بن سليمان: "نُضَعِّفْ له" -بالنون- "العَذَابَ" -نصب- "وتَخْلُدْ فيه"5، وجزم.
قال أبو الفتح: هو عندنا على ترك لفظ الغيبة إلى الخطاب، أي: وتخلد أيها المضعف له العذاب. وقد مضى القول على ترك الغيبة إلى الحضور، والحضور إلى الغيبة1. ومن ذلك قراءة ابن عباس وابن الزبير: "فَقَدْ كَذَّبَ الكَافِرُونَ"2. قال أبو الفتح: وهذا أيضا مما ترك فيه لفظ الحضور إلى الغيبة، ألا ترى قبله: "قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبَ الكافرون"؟
سورة الشعراء
سورة الشعراء: بسم الله الرحمن الرحيم قرأ عبد الله بن مسلم بن يسار وحماد بن سلمة1: "قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا تَتَّقُون"2، بالتاء. قال أبو الفتح: هو عندنا على إضمار القول فيه، وإيضاحه: وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين قوم فرعون فقل لهم: ألا تتقون؟ وقد كثر حذف القول عنهم، ومن ذلك قول الله تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ} 3، أي: يقولون: سلام عليكم. ومن ذلك قراءة الشعبي: "وَفَعَلْتَ فِعْلَتَكَ"4، بكسر الفاء. قال أبو الفتح: الفِعْلَة: كناية عن الحال التي تكون عليها، كالرِّكْبَة، والجِلْسة. والمِشْيَة، والإِكْلَة: فجرت مجرى قولك: وفعلت فعلك الذي فعلت؛ وذلك لأن الفعل قد تعاقب الفعل، كقولهم: نشدته نشدا، وكذلك {صِبْغَةَ اللَّه} 5، كقولك: صَبْغَ الله. ومثله من غير المصادر: هذا صَفْو الشيء وصِفْوَتُه، والبَرْكُ والبَرْكَة: الصدر، وله نظائر. ومن ذلك قراءة أبان بن تغلب: "خَطَايَانَا إنْ كُنَّا"6، بالكسر. قال أبو الفتح: هذا كلام يعتاده المستظهر الْمُدِلُّ بما عنده، ويقول الرجل لصاحبه: أنا أحفظ عليك إن كنت وافيا، ولا يضيعُ لكَ جميلٌ عندِي إن كنت شاكرًا، أي ابنِ
هذا على هذا، فإن كنت تعلم أني شاكرٌ وافٍ فلن يضيع لك عندي جميل، أي: فكما تعلم أن هذا [116ظ] معروف من حالي فثق بوفائي وزكاء صنيعك عندي، ومثله بيت الكتاب: أتغضبُ إنْ أُذْنَا قُتَيْبةَ حُزَّتَا ... جهارًا ولَمْ تغضْب لقَتْلِ ابنِ خازم1 فشرط بذلك، وقد كان ووقع قبل ذلك. ومثله ما أنشدَناه أبو علي: فإنْ تَقْتُلُونا يوْمَ حرَّةِ وَاقِمٍ ... فَلَسْنا على الإسلامِ أَوَّلَ مَنْ قُتِلْ2 وقد كان القتل من قبل وَقَعَ وعُلِمَ. وجاء به الطائي الكبير، فقال: وَمَكارمًا عُتُقَ النِّجار تَلِيدَةً ... إنْ كانَ هَضْبُ عَمَايَتَيْن تَلِيدَا3 أي: فكما أن هضب عمايتين تليد لا محالة فكذلك هذه المكارم تليدة. ومن ذلك قراءة ابن أبي عمار: "حَادِرُونَ4"، بالدال غير معجمة. قال أبو الفتح: الحادر: القوي الشديد، ومنه الحادرة الشاعر، وهو كقولك: القوي، وحدر الرجل: إذا قوي جسمه وامتلأ لحما وشحما، وقالوا أيضا: حدر حدارة. قال الأعشى: وَعَسِير أدماء حَادِرَة العيـ ... ـشِ خَنُوفٍ عَيْرَانَة شِمْلالِ5
أي: قد امتلأت عينها نِقْيًا1، فارتوت وحسنت، وقيل أيضا: امرأة حدراء ورجل أحدر. وقد حدرت عينه تحدر، وعليه قول الفرزذق: وأنكرْتَ مِنْ حَدْراء ما كُنْتَ تَعْرِف2 ومن ذلك قراءة الأعرج وعبيد بن عمير: "لَمُدَّرَكُون"3، بالتشديد. قال أبو الفتح: أدركتُ الرجل، وادَّرَكْتُهُ، وادَّرَكَ الشيءُ إذا تتابع ففني. وقال الحسن في قول الله تعالى: "بَلِ ادَّرَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ"4، قال: جهلوا علم الآخرة، أي: لا علم عندهم في أمر الآخرة، معناه بل أسرع وخف، فلم يثبت، ولم تطمئن لليقين به قدم. ومن ذلك قراءة عبد الله بن الحارث: "وَأَزْلَقْنَا"5، بالقاف. قال أبو الفتح: من قرأ: "وَأَزْلَفنَا" بالفاء فالآخرون موسى عليه السلام وأصحابه، ومن قرأها بالقاف فالآخرون فرعون وأصحابه، أي: أهلكنا ثَمَّ الآخَرين، أي: فرعون وأصحابه. ومن ذلك قراءة قتادة: "هَلْ يُسْمِعُونَكُم"6. قال أبو الفتح: المفعول هنا محذوف، أي: هل يسمعونك إذ تدعون جوابا عن دعائكم؟ يقال: دعاني فأسمعته، أي: أسمعته جواب دعائه. وأما قراءة الجماعة: {هَلْ يَسْمَعُونَكُم} فإن "سمعت" بابها أن تتعدى إلى ما كان صوتا مسموعا، كقولك: سمعت كلامك، وسمعت حديث القوم. فإن وقعت على جوهر تعدت إلى مفعولين، ولا يكون الثاني منهما إلا صوتا، كقولك: سمعت زيدا يقرأ، وسمعت محمدا يتحدث. ولا يجوز سمعت زيدا يقوم؛ لأن القيام ليس من المسموعات.
فأما قوله تعالى: [117و] : {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُون} فإنه على حذف المضاف، وتقديره: هل يسمعون دعاءكم؟ ودل عليه قوله: {إِذْ تَدْعُون} ، ويقول القائل لصاحبه: هل تسمع حديث أحد؟ فيقول مجيبا له: نعم أسمع زيدا، أي: حديث زيد. ودل قوله: "حديث أحد" عليه، فإن لم تدل عليه دلالة لم يجز الاقتصار على المفعول الواحد. لو قلت سمعت الطائر لم يجز؛ لأنه لا يعلم أسمعت جرس طيرانه أو سمعت صياحه على اختلاف أنواع الصياح؟ فهذا مثال يقتاس عليه، ويردُّ نحوُهُ -إذا أشكل- إليه. ومن ذلك قراءة قتادة: "لَعَلَّكُمْ تُخْلَدُونَ"1. قال أبو الفتح: خَلَد الشيءُ، أي: بقي، وأخلدته وخلَّدته، وأخلدت إلى كذا: أي أقمت عليه ولزمته، والخلود لا يكون في الدنيا، وقال قوم2: أُخْلِدَ الرجلُ: إذا أبطأ عنه الشيب. وقد يقال في هذا أيضا: أَخْلَدَ، والخُلْدُ: الفأرة العمياء، ويقال: الخلد: السوار3، ويقال: القرط. ودار الخلود، يعني الجنة، وقال أحمد بن يحيى: الخلد: داخل القلب، وقول امرئ القيس: وَهَلْ يَنْعَمًا إلا سَعِيدٌ مُخَلَّدُ4؟ يعني به من يلبس الخلد: السوار أو القرط، أي: الصبي أو الصبية، يدل عليه قوله: قَلِيلُ الهمُومِ ما يَبِيتُ بِأَوْجَالِ وقد مر به شاعرنا5 فقال: تَصْفُو الحياةُ لِجَاهِلٍ أوْ غَافِلٍ ... عَمّا مَضَى منها وَما يُتَوَقَّعُ وقال رؤبة في معناه: وقَدْ أَرَى واسِعَ جَيْبِ الْكُمِّ ... أَسْفَرُ مِنْ عَمامَةِ الْمُعْتَمِّ
عنْ قَصَب أسْحَمَ مُدْلَهِمّ ... رِيقي وَدِرْيَاقِي شِفاء السُّمّ1 ومن ذلك قراءة ابن مسعود والضحاك وطلحة وابن السميفع ويعقوب وسعيد بن أبي سعيد الأنصاري: "وِأَتْبَاعُكَ"2. قال أبو الفتح: تحتمل هذه القراءة ضربين من القول مختلفي الطريق، إلا أنهما متفقا المعنى. أحدهما أن يكون أراد: أنؤمن لك وإنما أتباعك الأرذلون؟ فأتباعك مرفوع بالابتداء، والأرذلون خبر. والآخران يكون "وأتباعك"3 معطوفا على الضمير في "نؤمن"4، أي: أنؤمنُ لك نحن وأتباعك الأرذلون؟ فالأرذلون إذًا وصف للأتباع، وجاز العطف على الضمير المرفوع المتصل من غير توكيد؛ لما وقع هناك من الفصل. وهو قوله: "لك"، فصار طول الكلام به كالعوض من توكيد الضمير بقوله: نحن. وإذا جاز قوله: "ما أشْرَكْنا ولا آباؤنا"5 كان الأول من طريق الإعراب أمثل؛ وذلك أن العوض ينبغي أن يكون في شق المعوض منه، وأن يكون قبل حرف العطف، وهذه صورة قوله: "لك"، وأما "لا" من قوله تعالى: "وَلا آبَاؤُنَا"5 فإنها حرف العطف، فهي في شق المعطوف نفسه، لا في شق المعطوف عليه. والجامع بينهما طول الكلام بكل واحد منهما، والمعنى من بعد: أنؤمن لك [117ظ] نحن وأتباعك الأرذلون فنعدُّ في عدادهم؟ وهذا هو معنى القول الآخر: أنؤمن لك وإنما أتباعك الأرذلون فنساويهم في أن نكون مرذولين مثلهم؟.
ومن ذلك قراءة الحسن وأبي حَصِين1: "الْجُبُلَّةَ الْأَوَّلِين"2، بالضم. قال أبو الفتح: قد تقدم القول على ذلك مشروحا. ومن ذلك قراءة الحسن: "الأعْجَمِيِّين"3، منسوب إلى العجم. قال أبو الفتح: هذه قراءة عذر في القراءة المجتمع عليها، وتفسير للغرض4 فيها، وهي قوله: "على بعض الأعَجَمِين"؛ وذلك أن ما كان من الصفات على أفعل، وأنثاه فعلاء -لا يجمع بالواو والنون، ولا مؤنثه بالألف والتاء. ألا تراك لا تقول: في أحمر: أحمرون، ولا في حمراء: حمراوات؟ فكان قياسه5 ألا يجوز فيه "الأعجمون"، لأن مؤنثه "عجماء"، ولكن سببه أنه يريد: الأعجميون، ثم حذفت ياء النسب وجعل جمعه بالواو والنون دليلا عليها وأمارة لإدارتها، كما جعلت صحة6 الواو في عَوَاوِر7 أمرة لإرادة الياء في عَوَاوِير وكما جعل قلب تاء "افتعل" طاء في قوله: مَالَ إلَى أَرْطَاة حِقْف فَالْطَجَعْ7 دلالة على أن اللام في "الطجع" بدل من ضاد "اضطجع" لولا ذلك لقيل: التجع، كما قالوا: التحم، والْتَجَأ إلى كذا. وقياس قوله: "الأعجمين" لإرادة ياء الإضافة في "الأعجميِّين" أن يقال: في مؤنثه مررت بنسوة عمجاوات؛ فيجمع بالتاء لأنه في معنى عجماويّات، ونظير ذلك الهُبَيْرُون؛ لأنه يريد الهُبَيْرِيُّون في النسب إلى هُبَيْرَة.
ومن ذلك قراءة الحسن: "فَتَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً"1، بالتاء. قال أبو الفتح: الفاعل المضمر الساعة، أي فتأتيهم الساعة "بغتة"، فأضمرها لدلالة العذاب الواقع فيها عليها، ولكثرة ما تردد في القرآن من ذكر إتيانها. ومن ذلك قراءة أيضا: "وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطُونُ"2. قال أبو الفتح: هذا مما يعرض مثله الفصيح، لتداخل الجمعين عليه، وتشابههما عنده، ونحو منه قولهم: مَسِيل، فيمن أخذه من السيل، وعليه المعنى. ثم قالوا فيه: مُسْلان وأَمْسِلَة. ومَعِينٌ، وأقوى المعنى فيه أن يكون من العيون، ثم قالوا: سالت مُعْنَانُهُ3. فإن قلت4: فقد حكى يعقوب وغيره في واحده: مَسَل ومَسْل، وقيل: يشبه أن يكون ذلك لقولهم: مُسْلان. فلما سمعوا مُسْلانًا جاءوا بواحده على فَعْل، كبَطْن وبُطْنان، وظَهْر وظُهْرَان. وعلى فَعَل، كحَمَل وحُمْلان، وأَخ وأُخْوَان، فيمن ضم. كما قال أبو بكر: إن من قال ضَفَنَ يَضْفِن فإنما حمله على ذلك الشبهةُ عليهم في قولهم: ضَيْفَن، إذ كان ضَيْفَن ظاهر لفظه بأن يكون فَيْعَلا لا فَعْلَنًا، وعلى كل حال فـ"الشياطون" غلط. لكن يشبهه، كما أن من همز مصائب كذلك عنهم.
سورة النمل
سورة النمل: بسم الله الرحمن الرحيم قراءة أُبَيّ: "تَبَارَكت الأرضُ". قال أبو الفتح: هو تَفاعَلَ من البركة، وهو توكيد لمعنى البركة، كقولك: تعالى الله، فهو أبلغ من علا، وكقول العجاج: تَقاعَسَ العِزُّ بِنا فَاقْعَنْسَسَا2 فهو أبلغ معنى من قَعِسَ، كما أن [118و] احدودب أقوى معنى من حَدِبَ، واعشوشب أقوى من أَعْشَبَ؛ وذلك لكثرة الحروف. وأصل هذا كله من فَعَّلَ في الفعل، كقطّعت وكسّرت، ألا تراها أقوى معنى من قطَعت وكسَرت؟ وعليه جاء قوله: {أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} 3، فهو أبلغ من قادر. ولهذا جاء قوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} 4، فعبر عن لفظ الحسنة بكسب، وذلك لاحتقار الحسنة إلى ثوابها؛ لقوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} 5 وجاء "اكتسبت" في السيئة، تنفيرا عنها، وتهويلا وتشنيعا بارتكابها. ألا ترى إلى قوله تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا، أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} 6؟ فافهم هذا، وابنِ عليه.
قال أمية: تَبَارَكَ أمْ صِدِّيقُ حَقًّا ... كانَ مِن كُل عَتِيقَا خالِقُ الخَلْقِ جَمِيعًا ... ويعُودُ الخَلْقُ صِيقَا أي ترابا: والتاء في "تبارك" زائدة على بناء البيت. ومعتدة خزما كالواو في قوله: وكأنَّ ثَبِيرًا في عَرَانِينِ وَبْلِهِ ... كَبِيرُ أُنَاسٍ في بِجَاد مُزَمَّلِ1 فالواو خَزْم، وهذا يكاد يسقط حكم ما يُبنَى من الزوائد في الكلم حتى يحسنَ له تحقير الترخيم، نحو قولهم: في حارث حُرَيْث، وفي أزهر زُهَيْر. ألا تراه كيف خزم بتاء "تبارك" وإن كانت مصوغة في نفس المثال كما تُخْزَم حروف المعاني المنفصلة من المُثُل، كواو العطف، وفائه، وبل، وهل، ويا، ونحو ذلك؟ ولهذا قالوا أيضا في تكسير فَعَلَان: فِعْلَان، ككَرَوَان وكِرْوَان، وشَقَذَان2 وشِقْذان، فأجروه مجرى فَعَل وفِعْلان، نحو خَرَب3 وخِرْبان، وشَبَثٍ4 وشِبْثان، وبَرَق5 وبِرْقَان. فاعرف ذلك إلى ما يليه من نحوه بمشيئة الله. ومن ذلك قراءة الحسن وعمرو بن عبيد: "كَأَنَّهَا جَأنٌ"6. قال أبو الفتح: قد تقدم القول على نظير هذا فيما مضى من الكتاب7، وذكرناه أيضا في الخصائص8، وفي سر الصناعة9، وفي المنصف10، وفي التمام، وغيره من مصنفاتنا وإنما كررناه لإعراب القول في معناه.
ومن ذلك قراءة زيد بن أسلم وأبي بن جعفر القارئ: "أَلَا مَنْ ظَلَم"1، بفتح الهمزة، خفيفة اللام. قال أبو الفتح: "مَنْ" ههنا مرفوعة بالابتداء، وخبره "ظلم" كقول: من يَقُم أضربْ زيدا، فيقم خبر عن "من" حيث كان شرطا. وكأن من عَدَلَ إلى هذا جفا عليه انقطاع الاستثناء في القراءة الفاشية. و"من" هناك منصوبة على الاستثناء، وهو منقطع بمعنى لكن، فقوله تعالى: {إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ، إِلَّا مَنْ ظَلَمَ} معناه: لكن من ظلم كان كذا. ولعمري إن الاستثناء المنقطع فاش في القرآن وغيره، إلا أنه -مع ذلك- مُحوِج إلى التأول وإعمال القياس والتمحّل. ومن ذلك قراءة قتادة وعلي بن الحسين: "مَبْصَرَةً"2. قال أبو الفتح: هو كقولك: هُدًى، ونورا. وقد كثرت المَفْعَلَة بمعنى الشِّياع والكثرة في الجواهر والأحداث جميعا، وذلك كقولهم: أرض مَضَبَّةٌ: كثيرة الضِّبَاب، ومثْعلَة: كثيرة الثعالي3، ومَحْيَاة ومَحْوَاة ومَفْعَاة: كثير الحيات والأفاعي، فهذا [118ظ] في الجواهر4. وأما الأحداث فكقولك: البِطْنَة مَوْسَنَة، وأكل الرطَب مَوْرَدَة5 ومَحَمَّة. ومنه المَسْعَاة، والمَعْلَاة، والحقُّ مَجْدَرَة بك، ومَخْلَقَة ومَعْسَاة، ومَقْمَنَة، ومَحْجَاة. وفي كله معنى الكثرة من موضعين: أحدهما المصدرية التي فيه، والمصدر إلى الشياع والعموم والسعة.
والآخر التاء، وهي لمثل ذلك، كرجل راوية، وعَلّامَة، ونَسّابَة، وهُذَرَة1. ولذلك2 كثرت المَفْعَلَة فيما ذكرناه لإرادة المبالغة. ومن ذلك قراءة سليمان التيمي: "قَالَتْ نَمُلَةٌ يَأَيُّهَا النَّمُلُ"3. وروي عنه أيضا: "نُمُلَة"، و"النُّمُل"، بضمهما. قال أبو الفتح: أما النَّمُلة، بفتح النون، وضم الميم؛ فتقبلها النَّمْلَة، بفتح النون، وسكون الميم، لأن فَعُلا يخفف إلى فَعْل، كسَبُع إلى سَبْع، ورَجُل إلى رَجْل. قال: رَجْلانِ مِنْ ضَبَّة أخْبَرَانَا ... إنَّا رَأَيْنَا رَجُلا عُرْيَانَا4 فقائل هذا الشعر إما أن يكون له لغتان: رَجُل ورَجْل، وإما أن تكون لغته رَجُل بضم الجيم، فاضطر للشعر؛ فأسكن الجيم. ألا تراه كيف جمع بين "رَجْلان" و"رَجُل"؟ ونظير "نَمُلة" "ونَمُل": سَمُرة وسَمُر، وثَمُرة وثَمُر. وكذلك القول في "نُمُلة"، لأن فُعُلا لا يخفف إلى فَعْل، إنما يخفف إلى فُعْل، كطُنُب إلى طُنْب، وعُنُق إلى عُنْق. ومنه5 عندي: أُخِذ رجل نَمَّال: أي: نمَّام، كأنه يدب بالنميمة دبيب النملة. ونظير "نُمُلة" و"نُمُل": بُسُرة وبُسُر، بضم السين. ومن ذلك قراءة الحسن: "لا يَحَطِّمَنَّكُم"، بفتح الياء والحاء، وتشديد الطاء والنون. وروي عنه أيضا: "يَحِطِّمَنَّكُم"، بفتح الياء، وكسر الحاء، والتشديد. قال أبو الفتح: أما الأصل فيهما فَيَحتَطِمَنَّكُم، يفتعل من الحطم، وهو الكسر، أي: يقتلنكم. وآثر إدغام التاء في الطاء لقرب مخرجيهما؛ فأسكنها، وأبدلها طاء، وأدغمها في الطاء بعدها، ونقل الفتحة من التاء إلى الحاء، فقال: "يَحَطِّمَنَّكُم". ومن كسر الحاء فإنه لما أسكن التاء للإدغام كسر الحاء، لسكونها وسكون التاء بعدها
ثم أدغم فصار "يَحِطِّمَنَّكُم". ويجوز في العربية كسر الياء إتباعا لكسرة الحاء؛ فقال يحطمنكم. ومثله قول العجلي: تَدَافُعُ الشَّيبِ ولم تِقِتِّلِ1 يريد: تَقتتل، ثم غير ذلك على ما تقدم. يقال: حَطَمَه يَحْطِمه حَطْما: إذا كسره، وحطَّمه يُحَطِّمه، واحْتَطَمَه يَحْتَطِمُه احتطاما ويغيَّر الماضي واسم الفاعل والمصدر على الصنعة التي تقدمت في "يَحَطِّمَنَّكُم". فمن قال: يَحَطِّم قال: حَطَّم، ومن قال: يَحِطِّمُ قال: حِطِّمَ. ومن أتبع الأول يِحِطِّم أتبع الآخر هنا، فقال: حِطِّمَ. وعليه أنشد قطرب فيما روينا عنه أو غيره. لا حِطِّبَ القَوْمَ ولا القَومَ سَقَى1 يريد: احتطب. ويقول في اسم الفاعل على يَحَطِّم: مُحَطِّم، وعلى يَحِطِّم: مُحِطِّم. ومن كسر الأول إتباعا، فقال: يحِطِّمُ لم2 يكسر الميم؛ لأن اسم المفعول والفاعل من هذا ونحوه لا يكون إلا مضموم الأول، وعليه قال: "وَجَاءَ الْمُعَذِّرُون"3، و"الْمُعِذِّرُون". وتتبع العينُ الميم، فيقال: "الْمُعُذِّرُون". وعليه أيضا يقال: مُخُطِّفٌ، والأصل في جميعه المعتذرون. ويقول في المصدر على يَحَطِّم ويَحِطِّم جميعا: حِطَّامًا. ومن كسر هناك لالتقاء الساكنين [119و] كسر هنا أيضا، فقال: حِطَّاما؛ لئلا تنكسر الطاء، فتبدل الألف بعدها ياء، فتقول: حِطِّيمًا، فيزول حديث المصدر بانقلاب ألفه. وليس في حِطِّم ألف؛ فتنقلب لكسرة الطاء إلى غيرها. ومن قال: "وَجَاءَ الْمُعُذِّرُون"، فضم العين لم يقل حُطاما؛ لأنه ليس معه في حُطَّاما ضمة مثل الميم فتتبَعها الحاء مضمومةً، وكذلك "مُرَدِّفِين" "ومُرِدِّفِين" ومُرُدِّفين، الحكم واحد.
ومن ذلك قراءة محمد بن السميفع: "فَتَبَسَّمَ ضَحِكًا مِنْ قَوْلِهَا"1، بفتح الضاد بغير ألف. قال أبو الفتح: "ضَحِكًا" منصوب على المصدر بفعل محذوف يدل على عليه تبسم، كأنه قال: ضَحِكَ ضَحِكًا. وهذا مذهب صاحب الكتاب، وقياس قول أبي عثمان في قولهم: تَبَسَّمْتُ وميضَ البرقِ، أنه منصوب بنفس "تبسمتُ"؛ لأنه في معنى أومضت، ويكون2 "ضحِكًا" منصوبًا بنفس تبسم؛ لأنه في معنى ضحك. ويدل على مذهب صاحب الكتاب أنه قد ثبت أن الماضي والمضارع واسم الفاعل والمصدر يجري كل واحد منها مجرى صاحبه، حتى كأنه هو. ويجب أن تكون كلها من لفظ واحد، كضرب يضرب ضربا وهو ضارب، فكما لا يجوز أن يقول: قعد يجلس وإن كانا في معنى واحد دون أن يكون من لفظ واحد وهو قعد يقعد، ولا يجوز تبسَّم يُومِض؛ لاختلاف لفظيهما وإن كان معنياهما واحد - فكذلك لا يجوز تبسمت وميض البرق؛ لاختلاف لفظيهما، كما لا يجوز تبسمتُ أُومِض، لكن دل تبسمت على أومضت، فكأنه قال: أومضت وميض البرق، فاعرف ذلك وقسه بإذن الله. ومن ذلك قراءة ابن عباس في رواية وهب بن منبه: "أنْ لَا تَغْلُوا"3، بالغين معجمة. قال أبو الفتح: غَلَا في قوله غُلُوًّا، وغلا السعرُ يغلُو غَلَاء. فصلوا بينهما في المصدر وإن اتفقا في الماضي، وهذا أحد ما يدل على ما قدمناه أيضا من أن الماضي والمضارع واسم الفاعل والمصدر تجري مجرى المثال الواحد، فإذا خولف فيها بين المصادر قام ذلك الخلاف مقام ما كان يجب من اختلاف الأمثلة لاختلاف ما تحتها من المعاني المقصودة؛ وذلك أن أعدل اللغة اختلاف الألفاظ لاختلاف المعاني، فإن اتفقت الألفاظ اختلفت الأمثلة، فإن اتفقت الألفاظ والأمثلة، ووقع التغيير في بعض المُثُل قام مقام تغييرها كلها. وذلك نحو غلا يغلو في القول والسعر. فلما اتفق اللفظان والمِثْلان في الماضي والمضارع خالفوا بين مصدريهما؛ ليكون ذلك كالخلاف
بين مثاليهما أنفسهما، فقالوا: غُلُوًّا، وغَلَاء على ما مضى. وكذلك قولهم في نظائر هذا: وجَدت الشيء وجُودا، ووجَدت في الحزن وَجْدًا، ووجَدت من الغنى وُجْدًا ووَجْدًا ووِجْدًا وجِدَة، ووجدت على الرَّجل مَوْجِدة، وجدت الضَالَة وِجدَانا، فجعلوا اختلاف المصادر فيها عوضًا مما كان يقتضيه أصل وضع اللغة من اختلافها أنفسها، فهذا مَقَاد يُقْتَاس ويُرْجَع في نظائره إليه. نعم، وخصوا غَلَا في القول بالغُلُوّ؛ [119ظ] لأن لفظ فُعُول أقوى من لفظ فَعَال؛ للواوين والضمتين، وضعفِ الألف والفتحتين. وذلك أن الغُلُوّ في القول أعلى وأعنى عندهم من غلاء السعر، ألا ترى إلى قول الله تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا، أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} 1، وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} 2؟ وأما غلاء3 السعر فلا يدخل النار، ولا يحرم الجنة، ثم إنهم قالوا: غلتِ القِدْرُ تَغْلِي غَلَيَانا، فلما صغر هذا المعنى في أنفسهم أخذوه من الياء؛ لأنها تنحط عن الواو والضمة إلى الياء والكسرة4. فإن قلت: فقد قالوا: عَلَوْتُ في المكان أَعْلُوا عُلُوًّا وعلِيتُ في الشرف5 علاءً؛ فجعلوا الشرف دون ارتفاع النِّصْبَة6. قيل: لم يَجْفُ الشرفُ عندهم، ولا تَبشَّع تبشّع الكفر والغلوّ في القول المعاقَب عليه، والمنهيَّ عنه؛ فلان جانبُه، ونَعُمَ وعَذُبَ في أنفسهم؛ فبنوه على فَعِل لتنقلب الواو ياءً، ومصدره على الفَعَال؛ لعذوبته بالفتحتين والألف. وهذه أماكن إن رَفَقْت بها، وسانَيْتَهَا7، وتأنَّيْتَهَا8، ولم تَبْءَ9 عليها وتَخْتَبطَها -أَوْلَئْكَ جانبها، وأركبتك ذِرْوَتها، وقبلَتْكَ لها ضيفا، وَبَسَطَتْكَ يدًا وسيفًا. وإن أَخْلَدْتَ بها إلى ضِدّ هذا أخْلَدَتْ بكَ إلى ضده، فَتَلَاقيا ورفقا، لا مُغَالَاةً ولا خُرْقًا.
ومن ذلك قراءة أبي رجاء وعيسى الثقفي: "عِفْريَةٌ"1. قال أبو الفتح: هو العفريت. يقال: رجل عِفْريَةٌ نِفْريَةٌ إتباعا: إذا كان خبيثا داهيا. وقالوا: تَعَفْرَتَ الرجلُ: إذا صار عفريتا، أي: خبيثا. وهذا مثال غريب؛ لأن وزنه تَفَعْلَتَ، ونحوه من المُثُل الغريبة في الفعل قولهم: يَرْنَأَ الرجُلُ لِحْيَتَهُ: إذا صَبَغَها باليُرْنَاء، وهو الحناء. فيَرْنَأَ على ما ترى يَفْعَلَ2، ومضارعه يُيَرْنِئ يُيَفْعِلُ، واسم الفاعل مُيَرْنِئ، وهو مُيَفْعِل. وأصل العفريب من العَفْر، وهو التراب، كأنه يختِل قِرْنَه فيصرعه إلى العَفْر, ومنه قيل للأسد: عَفَرْني، وللناقة الشديدة: عفرناة. وقال الأعشى: بِذاتِ لَوْثٍ عَفْرَنَاةِ إذَا عَثَرَتْ ... فَالنَّعْسُ أَدْنَى لَهَا مِنْ أَنْ أَقُولَ: لَعَا3 ومنه عِفْرِيَةُ الرأس: للشعر الذي عليه؛ وذلك لأن قُصَارَاه أن يُحْلَقَ فيصير إلى التراب، أو يصير تُرَابًا. ومنه اليَعْفُور. لولَدِ الظبية؛ لأنه لصغَرِه ما4 يلزق بالتراب، أو لأن لونه لون التراب. ومنه ليث عِفِرِّينَ؛ لأنه دابة يلزم التراب. ومن ذلك قراءة الحسن: "فَمَا كَانَ جَوَابُ قَوْمِهِ"5، يرفع الباء. قال أبو الفتح: أقوى من هذا "جَوَابَ قَوْمِهِ" بالنصب، ويجعل اسم كان قوله: {أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ} : لشبه أن بالمضمر. من حيث كانت لا توصف كما لا يوصف. والمضمر6 أعرف من هذا المظهر، وقد تقدم القول في ذلك7.
ومن ذلك قراءة الأعمش، وقد اختلف عنه: "أَمَنْ خَلَقَ"1، خفيفة الميم. قال أبو الفتح: "مَنْ" هنا خبر2 بمنزلة الذي، وليست باستفهام [120و] كقراءة الجماعة: {أَمْ مَنْ خَلَقَ} ، فكأنه قال: الذي خلق السموات والأرض، وأنزل لكم من السماء ماء، فأنبتنا به حدائق ذات بهجة3 ما كان لكم أن تنبتوا شجرها خير أم ما تشركون4 ثم حذف الخبر الذي هو خير أم ما تشركون؛ لدلالة ما قبله عليه، وهو قوله تعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} 5. وما يحذف خبره لدلالة ما هناك عليه أكثر من أن يحصى، فابنِ على هذا. ومن ذلك قراءة السلمى: "إِيَّانَ يُبْعَثُونَ"6، بكسر الهمزة. قال أبو الفتح: قد تقدم القول على كسر هذه الهمزة فيما مضى من الكتاب7. ومن ذلك قراءة سليمان بن يسار وعطاء بن السائب: "بَلَ ادْرَكَ عِلْمُهُمْ"8، بفتح اللام، ولا همز، ولا ألف. وروي عنهما: "بَلَ ادّرَكَ"، بفتح اللام، ولا همز، وتشديد الدال، وليس بعد الدال ألف. وقرأ: "بلْ آدْرَكَ" الحسن وأبو رجاء وابن محيصن وقتادة. وقرأ: "بَلَى" بياء "آدْرَك" ممدودا ابن عباس. وقرأ: "بَلِ ادَّرَكَ"، مخفوضة اللام، مشددة الدال الحسن. وقرأ: "بَلْ تَدَارَكَ" أُبَيّ بن كعب.
وقراءة الناس: "بَلْ أَدْرَكَ عِلْمُهُمْ"، و"بَلِ ادَّارَكَ1"، فذلك ثمانية أوجه: قال أبو الفتح: "أما بَلَ ادْرَكَ" فعلى تخفيف الهمزة بحذفها، وإلقاء حركتها على اللام الساكنة قبلها، كقولك: في {قَدْ أَفْلَحَ} 2: "قَدَ افْلَحَ". وأما "بَلَ ادَّرَكَ"، بفتح اللام فكان قياسه: بَلِ ادَّرَكَ؛ بكسر اللام لسكونها وسكون الدال بعدها، إلا أنه فتحت اللام لأن في ذلك إزالة لالتقاء الساكنين، وعدولا إلى الفتحة لخفتها، كما رُوِّينا عن قطرب: أن منهم من يقول: "قُمَ الليل"3، وبِيعَ الثوب. وأما "بَلْ آدْرَكَ" فإن "بل" استئناف، وما بعدها استفهام، كما تقول: أزيد عندك؟ بل أجعفر عندك؟ تركا للأول إلى غيره، لا تراجعا عنه، لكن للانتحاء من بعده على غيره. وأما "بَلَى" فكأنه جواب، وذلك أنه لما قال: "قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ" فكأن قائلا قال: ما الأمر كذلك، فقيل له: "بلى"، ثم استؤنف فقيل: "آدْرَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ". وأما "بَلِ ادَّرَكَ" فلا سوال مع كسر اللام؛ لسكونها، وسكون الدال بعدها. وأما "بَلْ تَدَارَكَ" فإنه أصل قراءة من قرأ: "ادَّارَكَ"؛ وذلك أنه في الأصل تدارك، ثم آثر إدغام التاء في الدال؛ لأنها أختها في المخرج، فقلبها إلى لفظها، وأسكنها، وأدغمها فيها. واحتاج إلى ألف الوصل؛ لسكون الدال بعدها، ومثله: {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ} 4. {فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} 5. ومن ذلك قراءة الأعرج: "رَدَفَ لَكُمْ"6، بفتح الدال. قال أبو الفتح: من قال "رَدِف" فهو في وزن تبع، ومن قال: "ردف" فهو بمنزلة تلا، وشفع. والكسر أفصح، وهو أكثر اللغة.
ومن ذلك قراءة ابن السميفع وابن محيصن: "تَكُنُّ صُدُورُهُمْ1" بفتح التاء. وضم الكاف. قال أبو الفتح: المألوف في هذا: أَكْنَنْتُ الشيءَ: إذا أخفيتَه في نفسك. وكَنَنْتُه: إذا سترته بشيء، فأكننت كأضمرت، وكَنَنْتُ كسترت2. فأما هذه القراءة: "تَكُنُّ صُدُورُهُمْ " [120ظ] فعلى أنه أجرى الضمير3 لها مجرى الجسم الساتر لها مبالغة؛ وذلك لأن الجسم أقوى من العَرَض، وهذا نحو من قوله: وحَاجَةٌ دونَ أُخْرَى قَدْ عَرَضْتُ لها ... جَعَلْتُها لِلَّتِي أَخْفَيْتُ عُنْوَانا4 فأجرى ما يخفيه الضمير ويبرزه البوح به مجرى ما يدرك باللمس؛ تنويها به، ومُبَادَاة للحس بإدراكه, وقد مر به بعض المولدين، فقال: حُبِّي لَهُ جِسْمٌ وَحُبْـ ... ـبُّ الناسِ كُلِّهِمُ عَرَضْ وعليه قول الآخر: تَغَلْغَلَ حُبُّ عَثْمَةَ في فُوادِي ... فَبَادِيِهِ مَعَ الخافِي يَسِيرُ5 ألا تراه كيف وصفه بما توصف به الجواهر من السروب والتغلغل؟ ومرَّ به الطائي الكبير6، إلا أنه عكسه فقال: مَوَدَّةٌ ذَهَبٌ أثمارُها شَبهُ ... وَهِمّةٌ جَوْهَرٌ مَعْرُوفُها عَرَضُ والباب واسع، والطريف مُسْهَب, إلا أنّ هذا سًمْته. ومن ذلك قراءة ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والجحدري وأبي زرعة. "تَكْلِمُهُمْ"7
قال أبو الفتح: "تَكْلِمُهُمْ": تجرحهم بأكلها إياهم، وهذا شاهد لمن ذهب في قوله "تُكَلِّمُهُمْ" إلى أنه بمعنى تجرحهم بأكلها إياهم. ألا ترى أن "تَكْلِمُهُمْ" لا يكون من الكَلْم وهو الجرح. وهذه المادة مما وضعته العرب عبارة عن الشدة هي وتقاليبها الستة: ك ل م، ك م ل، م ل ك، ل ك م، م ك ل، ل م ك. وقد ذكرناها في كتابنا الخصائص1 أول باب منه، وهو باب القول على فرق بين الكلام والقول. ويشهد لمن قال في قوله: "تُكَلِّمُهُمْ" إلى أنه من الكلام قراءة أبي: "تُنَبِّئُهُم"، ويشهد لهذا التأويل أيضا قراءة ابن مسعود: "تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآياتِنَا لا يُوقِنُون". وإن شئت كان هذا شاهدا لمن ذهب إلى أن "تُكَلِّمُهُمْ": تجرحهم، أي: تفعل بهم ذلك بكفرهم، وزوال يقينهم. ومن ذلك قراءة قتادة: "وَكُلٌّ أَتَاهُ دَاخِرِين"2. قال أبو الفتح: حمل "أتاه" على لفظ "كل"؛ إذ كان مفردا، و"داخرين" على معناها. ولو قلب ذلك لم يحسن، لو قال: وكل أتوه داخرا قبح وضعف؛ وذلك أنك لما قلت: وكل فقد جئت بلفظ مفرد، فإذا قلت: أتوه فقد حملت على المعنى وانصرفت عن اللفظ، ثم إذا قلت: من بعد داخرا فأفردت فقد تراجعت إلى ما انصرفت عنه، فكان ذلك قلقا في الصنعة وانتكاثا عن المحجة المصير إليها المعتزمة. وعلى ذلك قول الله سبحانه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} 3. فلو قال: من بعد: حتى إذا خرج من عندك لم يحسن؛ وذلك لأنه قد ترك لفظ. "من" إلى معناه بقوله: "يستمعون". فلو عاد إليه بعدَ انصرافه عنه فقال: خرج عاد إلى ما كان قد رغب عنه. واعتزم غيره عوضا منه. وكذلك قول الفرزدق: تَعَشَّ فإنْ عاهدْتَنِي لا تخونُنِي ... نَكُنْ مِثْل مَن يا ذِيبُ يَصْطَحِبان4
فلو1 قال بعدَ يصطحبان: فلا تُنكر صحبته، أو فلا تذم عشرته؛ عودا إلى لفظ "مَن" وإفراده لكان فيه ما ذكرنا من كراهيته. واعلم أن مقاد الاستعمال في "كُلٌّ" أنها إذا كانت [121و] مفردة أخبر عنها بالجميع، نحو قوله تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} 2، و {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} 3، {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} 4 في قراءة الكافة. فإن كانت مضافة إلى الجماعة أتى الخبر عنها مفردا كقوله تعالى: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} 5، وذلك أن أحد عَلَمَي الجمع كاف عندهم من صاحبه، وابنِ6 على ذلك.
سورة القصص
سورة القصص: بسم الله الرحمن الرحيم قرأ عمرو بن عبد الواحد: "أَنِ ارْضِعِيهِ"1، بكسر النون، ولا همز بعدها. قال أبو الفتح: هذا على حذف الهمزة اعتباطا لا تخفيفا، كما قرأ ابن محيصن "فَجَاءَتْهُ احْدَاهُمَا"2، بحذف همزة إحداهما: ألبتة. فلما حذف الهمزة على ما ذكرنا كسر النون من "أن" لسكونها وسكون الراء من بعدها، كما قال الله سبحانه: {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ} 3. ولو كان على التخفيف القياسي لقال: أنَ ارْضِعِيه، بفتح النون بحركة الهمزة من "ارضيعه" ومثله مما حذف منه الهمزة اعتباطا هكذا لا تخفيفا قياسيا ما أنشده أبو الحسن: تَضِبُّ لِثاتُ الخيْلِ في حَجَرَاتِها ... وتسمْعُ مِنْ تحتِ العَجَاجِ لَها ازْمَلَا4 يريد: لها أَزْمَلا. ومن ذلك قراءة فضالة بن عبد الله5 والحسن وأبي الهذيل6 وابن قطيب7: "وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَزعًا"8.
وقرأ: "قَرِعًا"، بالقاف والراء - ابن عباس. وحكى قطرب عن بعض أصحاب النبي "صلى الله عليه وسلم": "فِرْغًا". وحكى فيها أيضا: "مؤسى"، بالهمز. قال أبو الفتح: أما "فَزِعًا" بالفاء والزاي فمعناه قَلِقًا، يكاد يخرج من غلافه فينكشف ومنه قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} 1، أي: كُشِف عنها. وأما "قَرِعًا"، بالقاف والراء فراجع إلى معنى فارغا، وذلك أن الرأس الأقرع هو الخالي من الشغر، وإذا خلا من الشيء فقد انكشف منه وعنه. وأما "فِرْغًا" فكقولك: هدَرا2 وباطلا، يؤكد ذلك كله قوله تعالى: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} 3. قال: فَإنْ تَكُ أذْوادٌ أُصِبْنَ ونِسْوَةٌ ... فَلَنْ تَذْهَبُوا فِرْغًا بِقَتْلِ حِبالِ4 ومعنى فارغا، أي: خاليا من الحزن؛ لعلمها أنه لا يغرق، وقال ابن عباس: فارغا أي: خاليا من كل شيء إلا من ذكر موسى. وأما همز "موسى" ففيه صنعة تصريفية؛ ذلك أن الساكن إذا جاور المتحرك فكثيرا ما تقدر العرب أن تلك الحركة كأنها في الساكن، فكأن5 ضمة "موسى" في الواو. والواو
إذا انضمت ضما لازما فهمزها جائز، كأُعِدّ وأُجُوه. وكذلك أيضا1 قولهم في المرأة والكَمْأة: المرأة والكَمَاة، فقلبوا الهمزة ألفا؛ لأنهم قدروا فتحة الهمزة في الراء والميم قبلها، فصار كأنه المرأة والكَمَأة، فقيل فيه: مرَاة وكَمَاة، كما يقال في تخفيف رأس وكأس: رَاسٌ وكَاسٌ ومنه أيضا قول بعضهم في الوقف: هذا بكُرْ ومررت بِبَكِرْ، فنقلوا الضمة والكسرة إلى الساكن قبل الراء، وهو الكاف. فكأن الراء محركة بحركة الكاف [121ظ] لأنها تجاورها ففي ذلك شيئان: أحدهما: الشح على حركة الإعراب أن يستهلكها الوقف. والآخر: الاستراحة من اجتماع2 ساكنين، وهذا ونحوه -مما تركناه تحاميا للإطالة به- يدلك على أن حركة الحرف تحدث معه وأن الحركة إذا جاورت الساكن صارت كأنها فيه، فعليه جاء همز مُؤسَى. أنشدنا شيخنا أبو علي: لَحَبَّ المُؤْقِدانِ إلى مُؤْسَى3 ومن ذلك قراءة النعمان بن سالم4: "عَنْ جانب"5. وقرأ: "عَنْ جنْب"6 الأعرج وقتادة والحسن. قال أبو الفتح: المعنى فيهما جميعا فَبَصُرَت به مُزْوَرَّة مُخاَيِلَة، فالياءُ والفاءُ يلتقيان في هذا المعنى6، لاجتماعهما في كونهما من الشفة. فمن ذلك قولهم: تَجَانَفَ عن الشيء أي: مال عنه، وفيه جَنَفٌ، أي: ميل. ومنه قوله:
لَمْ يَرْكَبُوا الخيْلَ إلا بَعْدَ ما هَرِمُوا ... فَهُمْ ثِقَالٌ على أعْجَازِها جُنُفُ ومن أبيات الكتاب: تَجَانَفَ عن جَوِّ اليَمَامَةِ نَاقَتِي ... وما قَصَدَتْ مِن أَهْلِها لِسَوَائِكا1 وأنشد أبو زيد: تَجَانَفَ رَضْوَانُ عن ضَيْفِه ... أَلَمْ يَأْتِ رَضْوَانَ عَنِّي النُّذُرْ2؟ ومن ذلك قراءة ابن محيصن: "فَجَاءَتْهُ احْدَاهُمَا"3، بإسقاط الهمزة. قال أبو الفتح: قد قدمنا ذكر ضَعف ذلك، وأنه إنما يجوز في الشعر لا في التنزيل4 ومن ذلك قراءة الحسن: "أَيْمَا الْأَجَلَيْنِ"5، خفيفة الياء. قال أبو الفتح: في تخفيف هذه الياء طريقان يكادان يَعْذِران: أحدهما تضعيف الحرف، وقد امتد عنهم حذف أحد المثلين إذا تجاورا، نحو أحَسْت، ومَسْت، وظَلْت. وحكى ابن الأعرابي: ظَنْت في ظَنَنْت. والآخر أن الياء حرف ثقيل منفردةً، فكيف بها إذا ضُعِّفت؟ غير أن في واجب الصنعة شيئا أذكره لك. وذلك أن "أيّا" عندنا مما عينه واو ولامه ياء، وهذا من باب أَوَيْتُ، هكذا موجَب القياس والاشتقاق جميعا. أما القياس فلأن ما عينه واو ولامه ياء أضعاف ما لامه وعينه ياءان، ألا ترى إلى كثرة باب لَوَيْت وشَوَيْت وطَوَيْت وعَوَيْت6 يَدَه وزَوَيْت7 جانبه، إلى قلة باب عَييت وحَييت؟
فأصل "أيٍّ" على هذا أَوْيٌ، فاجتمع الواو والياء، وسبقت الواو بالسكون؛ فقلبت ياء، وأدغمت في الياء؛ فصارت "أيٌّ"، كقولهم: طَوَيْت الثوب طيًّا، وزَوَى وجهه زَيًّا. وأما الاشتقاق فلأن "أيًّا" أين وقعت غيرُ مُتبَلَّعٍ1 بها؛ فإنها بعض من كل، كقولنا: أيّ الناس عندك؟ وأيُّهم قام قمت معه، وأيُّهم يقوم زيد2 وبعض الشيء آو إلى جميعه ألا ترى إلى قول العجلي في صفة البعير: يَأْوي إلى مُلْطٍ لَهُ وَكَلْكَلٍ3 أي يتساند إليها، ويعتمد عليها وهذا في المعنى كقول طفيل: وَآلَتْ إلى أجْوَازَها وتَقَلْقَلَتْ ... قَلَائِدُ في أَعْنَاقِها لَمْ تُقَضَّب4 وهذا واضح، فأصل "أيٌّ" على هذا أَوْي، ثم أدغمت الواو في الياء على ما مضى؛ فصارت "أيّ" فإذا حذفت الياء تخفيفا فإنها الثانية. فإذا زالت الثانية أوجب القياس أن تعود الأولى إلى أصلها [122و] وهي الواو، فيقال: أوْما الأجلين قضيت. والذي حسُن عندي إظهار العين هنا ياء مع زوال الياء القالبة5 لها من بعدها -أنها إنما حذفت اللام تخفيفا وهي منوية مرادة معتقدة؛ فأقرت العين مقلوبة ياء؛ دلالة على إرادة الياء التي هي لام، وإشادة بها، كما صحت الواو الثانية في قوله: وَكَحّلَ العَيْنَيْن بالْعَواوَر6 دلالة على إرادة الياء في عوَاوِير، وأنها إنما حذفت استحسانا وتخفيفا، لا وجوبا وتصميما. وكما قالوا: اضْتَقَطْتُ النوَى، فصحّت التاء، ولم تقلب طاء لوقوع الضاد قبلها، كما قلبت
في اضطراب واضطمر؛ دلالة على أن الضاد فيها بدل من شين اشْتَقَطْتُ1، فقد قالوهما جمعيا: اضْتَقَطْت، واشْتَقَطْتُ. وكما قالوا: كان من الأمر ذَيْتَ وكَيْت، فأقروا الياء بحالها دلالة على أن التاء فيها بدل من ياء ذَيَّةَ وكَيَّةَ؛ فتركت الياء على إرادة التثقيل. ويجب -على ما قدمنا -أن "ذَيَّةَ" من باب طويت على ما مضى، فكان يجب إذا حذفت اللام التي هي الياء أن تعاد الواو إلى أصلها، فيقال: ذَوْتَ، وكذلك القول في كَيْتَ، والعلة في الجميع واحدة. وأنشدَنا أبو علي للفرزدق: تَنَظَّرْتُ نَصْرًا والسِّماكَيْن أيْهُما ... عَلَيَّ من الغَيْثِ اسْتَهَلَّتْ مُوَاطِرُهْ2 فهذا كقراءة الحسن: "أَيْمَا الْأَجَلَيْنِ" سواء. ومن ذلك قراءة الحسن: "عُضُدَكَ"3. قال أبو الفتح: فيها خمس لغات: عَضُد، وعَضْد، وعُضُد، وعُضْد، وعَضِد. وأفصحها وأعلاها عَضُد بوزن رَجُل. وعَضْد مُسَكنٌ من عَضُد، وعُضْد منقول الضمة من الضاد إلى العين، وعُضُد بالضمتين جميعا كأنه تثقيل عُضْد. وقد شاع عنهم نحو ذلك، كقولهم في تكسير أحمر: حُمُر، قال طرفة: وِرَادًا وَشُقُرْ4 يريد: شُقْرًا. وأما عَضِد فلغة صريحة غير مصنوعة، ونظيرها رجل وَقِل5 وَوَقْل، ووظيف عَجِر وعَجُر6. من العَضُد قولهم: عَضَدْت فلانا إذا قويتَه؛ وذلك لأن العضد أقوى اليد، ومنه عِضادتا الباب: جانباه؛ لأنهما كالعضدين له، وعليه بقية الباب.
ومن ذلك قراءَة أبان بن تغلب: "ثُمُرَات"1، بضمتين. قال أبو الفتح: الواحدة ثَمَرَة، كخَشَبَة. وثُمُر، كخُشُب. ومثله أَكَمَة وأُكُم، ثم ضمت الميم إشباعا وتمكينا، كقولهم، في بُرْد: بُرُد2، وفي قُفْل قُفُل. ثم جمع ثُمُر على ثُمُرات جمع التأنيث؛ لأنه لمّا لم يَعقل جرى مجرى المؤنث. وذلك عندنا لِتَخَضُّع3 ما لا عقل له، فلحق بذلك بِضَعْفَة التأنيث، فعليه قالوا: يا لثارات فلان: جمع ثأر لما لم يكن من ذوي العلم. ونحو قول أبي طالب: أُسْدٌ تَهُدُّ بِالزَّئِيراتِ الصَّفَا جمع زئير، والعلة واحدة. وقد ذكرنا هذا مستقصى في تفسير ديوان المتنبي عند قوله: ففِي الناسِ بُوقَاتٌ لَهَا وَطُبُولٌ4 ومنه ما أنشده الأصمعي من قول الراجز: وارْدُدْ إلَى حُورَاتِ حُور شِقَّه فجمع حُورًا على حُورات لما ذكرنا. ومن ذلك قراءة بديل بن ميسرة: "مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَيَنُوءُ"5، بالياء. قال أبو الفتح: ذهب في التذكير [122ظ] إلى ذلك القدر والمبلغ، فلاحظ معنى الواحد فحمل عليه، فقال: "لَيَنُوءُ". ونحوه قول الراجز: مِثْلَ الفِراخِ نُتفَتْ حواصلُه
أي: حواصل ذلك، أو حواصل ما ذكرنا. وأخبرنا شيخنا أبو علي قال: قال أبو عبيدة لرؤبة في قوله: فِيها خُطُوطٌ من سوادٍ وَبَلَقْ ... كأنَّهُ فِي الجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ1 إن كنت أردت الخطوط فقل: كأنها، وإن كنت أردت السواد والبَلَق فقل: كأنهما، فقال رؤبة: أردت: كأن ذاك، ويلك! هذا مجموع الحكاية، وهي مُتَلَقّاة مقبولة، كما يجب في "ذلك". ولو قال قائل: إن الهاء في "كأنه" عائدة على "البَلَق" وحده لكان مصيبا؛ لأن في "البلق" ما يُحتاج إليه من تشبيهه بالبَهَق، فلا ضرورة هناك إلى إدخال السواد معه. ونحو القراءة قول الآخر: ألّا إنَّ جِيرَانِي العَشِيَّة رَائِحٌ فأخبر عنه بلفظ الواحد، لأنه أجراه مجراه. وتجاوزوا هذا إلى أن أضافوا2 إلى لفظ الجماعة، فقالوا: أنصاريٌ؛ لأنه جعل الأنصار جاريا مجرى الأب، أو الأم، أو البلد. وقال الآخر: مُشَوَّه الْخَلْقِ كِلَابِيّ الخُلُقْ3 فنسب إلى جنس الكلاب، ولولا ذلك لقال: كَلْبِيّ، وفي الأنصاري: ناصريّ، كما تقول في الإضافة إلى الفرائض: فَرَضِيٌّ، وإلى السفائن: سَفَنيٌّ.
ومن ذلك قراءة يعقوب: "وَيْكَ"1، يقف عليها، ثم يبتدئ فيقول: "أنه"، وكذلك الحرف الآخر2 مثله. قال أبو الفتح: في "وَيْكأَنَّهُ" ثلاثة أقوال: منهم من جعلها كلمة واحدة، فقال: "وَيْكَأَنَّهُ"، فلم يقف على "وَيْ". ومنهم من يقف على "وَيْ". ويعقوب. على ما مضى -يقول: ""وَيْكَ""، وهو مذهب أبي الحسن. والوجه فيه عندنا الخليل وسيبويه3، وهو أن "وَيْ" على قياس مذهبهما اسم سمي به الفعل في الخبر، فكأنه اسم أعجب، ثم ابتدأ فقال: {كَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُون} ، و {وَيْ كَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} . فـ"كأن" هنا إخبارٌ عارٍ من معنى التشبيه، ومعناه: أن الله يبسط الرزق لمن يشاء. و"وَيْ" منفصلة من "كَأَنَّ" وعليه بيت الكتاب: وَيْ كَأَنْ مَنْ يَكُنْ لَهُ نَشَبٌ يُحـ ... ـبَبْ ومَنْ يَفْتَقِرْ يَعِشْ عَيْشَ ضُرِّ4 ومما جاءت فيه "كأن" عارية من معنى التشبيه ما أنشدَناه أبو علي: كَأَنني حينَ أُمْسِي لا تُكَلِّمُنِي ... مُتَيَّمٌ يَشْتَهِي ما لَيْسَ مَوْجُودَا5 أي: أنا حين أمسي "متيم" من حالي كذا وكذا. ومن قال: إنها "وَيْكَ" فكأنه قال أعجب لأنه لا يفلح الكافرون، وأعجب لأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده، وهو قول أبي الحسن. وينبغي أن تكون الكاف هنا حرف
خطاب لا اسما، بل هي بمنزلة الكاف في ذلك وأولئك؛ وذلك أن "وي" ليست مما يضاف ومن وقف على "ويك"، ثم استأنف فينبغي أن يكون أراد أن يعلم أن الكاف من جملة "وي"، وليست بالتي في صدر "كأن"، فوقف شيئا لبيان هذا المعنى. ويشهد لهذا المذهب قول عنترة: وَلَقَدْ شَفَى نَفْسِي وَأَبْرَأَ سُقْمَهَا ... قِيلُ الفَوَارْسُ وَيْكَ عَنْتَرَ أَقْدِمِ1 وقال الكسائي -فيما أظن: أراد: ويلك، ثم حذف اللام، وهذا يحتاج إلى خبر نبي ليقبل. وقول من قال: إن "وَيْكَأنَّه" كلمة واحدة إنما يريد به أنه لا يفصل بعضه عن بعض. ومن ذلك قراءة الأعرج وشيبة ومجاهد وعاصم [123و] في رواية أبان والحجاج بن أرطاة2 والحسن وأبي رجاء وسلام ويعقوب وحسن بن حيّ3 وعطية بن سعد4 وعبد الله بن يزيد5 "لَخَسَفَ بِنَا"6.
قال أبو الفتح: الفاعل اسم الله، والمفعول محذوف، أي: لخسف الله بنا الأرض، وقد كررنا ذِكر حُسن حذف المفعول به. وقرأ: "لانْخُسِف بنا" الأعمش وطلحة، وكذلك في قراءة ابن مسعود. قال أبو الفتح: "بنا" من هذه القراءة مرفوعة الموضع؛ لإقامتها مقام الفاعل، فهو كقولك: انْقُطِع بالرجل، وانْجُذِب إلى ما يريد، وانْقِيد1 له إلى هواه. وانفعل -وإن لم يتعد إلى مفعول به- فإنه يتعدى إلى حرف الجر، فيقام حرف الجر مقام الفاعل، كقولهم: سِيرَ بزيد. وإن شئت أضمرت المصدر، لدلالة فعله عليه2، فكأنه قال: لَانْخُسِف الانْخِسَافُ بنا، "فَبِنَا" على هذا منصوبة الموضع؛ لقيام غيرها وهو المصدر مقام الفاعل ولا يكون للفعل الواحد فاعلان قائمان مقامه إلا على وجه الإشراك.
سورة العنكبوت
سورة العنكبوت: بسم الله الرحمن الرحيم ورش: "ألفْ لامْ مِيمَ حَسِبَ"1، بفتح الميم من غير همز بعدها. قال أبو الفتح: هذا على تخفيف همزة: "أحَسِبَ"، حذَفها وألقي حركتها على الميم، وانفتحت. وفيه ضعف؛ وذلك أن حروف التهجي مبنية على الوقف في حال الوصل، كقراءة الجماعة: "ميم أَحَسِبَ النَّاسُ". فإذا كانت في الإدراج ساكنة لم يلق بها إلقاء الحركة عليها؛ وذلك أن إلقاء الحركة في نحو هذا إنما يكون لما من عادته أن يحرك في الوصل لالتقاء الساكنين. وأنت تقول: "ميم" فتجمع بين الساكنين، وهما: الياء، والميم. فإذا كان الساكنان يجتمعان في الوصل ضعف إلقاء حركة الهمزة عليها، وليس كذلك2 قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} 3 لأن "قد" مما يحرك لالتقاء الساكنين، نحو قدِ انقطع، وقد استخرج. فكما حرك لالتقاء الساكنين، فكذلك حرك لإلقاء حركة الهمزة عليه. فإن قلت: قد تقول: "ألفْ لامْ ميمَ الله"، فتحرك الميم من آخر "ميمَ" لسكونها وسكون اللام من بعدها، فهلا جاز على ذلك إلقاء حركة الهمزة عليها4. قيل: أصل حركة التقاء الساكنين إنما هو في المتصل، نحو: أين، وكيف، ومنذ، وسوف، وأمس، وهؤلاء. ثم شبه المنفصل في ذلك بالمتصل، "ميم" و"نون" و"قاف" يجتمع فيه الساكنان في الوصل،
فعليه العمل لا على ما يحرك في الوصل المنفصل لالتقاء الساكنين، إلا أن له أن يقول: شَبهتُ سكونا بسكون، فحركتُ ميمَ "ميمَ" بإلقاء حركة الهمزة، كما حركت دال "قدَ أفْلَح" كذلك. ومن ذلك قراءة علي1 بن أبي طالب كرم الله وجهه: "فَلَيُعْلِمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيُعْلِمَنَّ الْكَاذِبِين"2 برفع الياء فيهما، وكسر اللام. وقرأ الزهري: "فَلَيَعْلَمَنَّ" مثل قراءة الناس، وقرأ: "123ظ" "وَلَيُعْلِمَنَّ الْكَاذِبِين" كقراءة علي: وقرأ جعفر بن محمد ومحمد بن عبد الله بن حسن، كقراءة علي عليه السلام. وقرأ الزهري: "فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمنوا" كقراءة الناس أيضا، "ولَيَعْلَمَنَّ المنافقين". قال أبو الفتح: أما "فَلَيَعْلَمَنَّ"، بفتح الياء واللام فإنها على إقامة السبب مقام المسبب، والغرض فيه: فليكافئن الله الذين آمنوا، وذلك أن المكافأة على الشيء إنما هي مسببة عن علم، ولو لم يعلم لما صحت المكافأة. ومثله من إقامة السبب مقام المسبب قول الله سبحانه: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} 3، فهذا سبب قضاء الحاجة المكنّى بذكره عنها. وقد أفردنا لهذا الفصل من إقامة كل واحد من السبب والمسبب مقام صاحبه بابا في كتاب الخصائص4. وأما قوله: "وَلَيُعْلِمَنَّ"5 فمعناه: ولَيُعَرِّفَنَّ الناس من هم؟ فحذفتَ المفعول الأول، كما قال الله تعالى: "يَوْمَ يُدْعُى كُلُّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ"6، وكقوله: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} 8. جاء في التفسير أنها زُرْقَة العيون، وسواد الوجوه. ويشهد لهذا قوله تعالى: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} ، وقيل في زرقا: أي: عطاشا، ومنه سنان أزرق، أي: ظمآن إلى الدم.
وإن شئت لم تحمله على حذف المفعول لكن على أنه من قولهم: ثوب مُعْلم، ومن قولهم: فارس مُعْلم، أي: أعلم نفسه في الحرب بما يعرف به من ثوب أو غيره، فكأنه قال: وَلَيَشْهَرَنَّ الذين صدقوا، وَلَيَشْهَرَنَّ الكاذبين؛ فيرجع إلى المعنى الأول، إلا أنه ليس على تقدير حذف المفعول. وإن شئت كان على حذف المفعول الثاني لا الأول، كأنه قال: فَلَيُعْلِمَنَّ الله الصادقين ثواب صدقهم، والكاذبين عقاب كذبهم. ومثل: "لَيَعْلَمَنَّ"، بفتح الياء واللام جميعا - قراءة من قرأ: "عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ"1، بتخفيف الراء من عَرَفَ فأقام المعرفة مقام المعاتبة عنها. ومثل "ولَيُعْلِمَنَّ"، بضم الياء، وكسر اللام -قراءة من قرأ: "عَرَّفَ بَعضَه"، بتشديد الراء. وأعلمت في القراءتين جميعا إذا لم تكن بمعنى أعلمت الثوب فهو بمعنى عرفت2، وهي متعدية إلى مفعول واحد، كقوله تعالى3: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} 4، أي: عرفتم. وأما "لَيَعْلَمَنَّ" و"فَلَيُعْلِمَنَّ" فكأنه قال: فليكافئن، ولَيَشْهَرَن بما كافأ به على ما مضى من التفسير. ومن ذلك قراءة السلمى وزيد بن علي: "وَتَخَلَّقُونَ إِفْكًا"5. وقرأ فضيل بن مرزوق6 وابن الزبير: "وَتَخْلُقُونَ أَفِكًا"، بفتح الهمزة، وكسر الفاء. قال أبو الفتح: أما "تَخَلَّقُونَ" فعلى وزن تَكَذَّبُونَ7 ومعناه. وأما "أَفِكًا" فإما أن يكون
مصدرا كالكذب والضحك، وإما أن يكون صفة لمصدر محذوف، أي تكذبون كذبا أفِكا، ثم1 حذف المصدر، وأقيمت صفته مقامه، كقولك: قمت مثل ما قام زيد، أي: قياما مثل قيام زيد. وأذهب في الحذف -على هذا الحد- منه قول الله تعالى: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} 2 أي: شُربًا مثل شُربِ الهيم [124و] لأنه حذف فيه مع الموصوف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه. و"أَفِك" على هذا صفة، كبَطِر، وأَشِر، ويجوز أن يكون محذوفا من "آفك"، وهو اسم الفاعل من أفك يأفِك إفكا: إذا كذب. وأفكته آفكه إفكا: إذا صرفته عن الشيء، وهو مأفوك. قال: إنْ تَكُ عن أَحْسَنِ الْمُرُوءة مأ ... فُوكًا فَفِي آخِرينَ قد أُفِكُوا3 إلا أن الألف حذفت، كما حذفت في بَرِد وعَرِد، يريد باردا وعاردا4. وقد مضى ذكره. ومن ذلك قراءة الزهري: "أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يَبْدَا اللَّهُ الْخَلْقَ"5، بغير همز. قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون أراد بغير همزة محققة6، بل هي مخففة، فقربت من الساكن إلا أنها مضمومة؛ لأنها مخففة في وزن المحققة. ولو كان بدلا محضا لقال: "يبدا"، فقلبها ياء، ثم أبدل من الياء ألفا، أجراها مجرى ألف يخشى، كما أنه لما أبدلها الشاعر فيما أنشده أبو علي عن أبي زيد:
إذا مَلا بَطْنَهُ ألْبانُها حَلَبًا ... بَاتَتْ تُغْنِيه وَضْرَى ذاتُ أجْرَاسِ1 أراد: "ملأ" فأبدله البتة، فصارت ياء، فأبدلها للفتحة قبلها ألفا، فصارت "ملا" كما ترى، بوزن قضَى وسعَى. وقد شرحنا هذا في كتابنا سر الصناعة وبأخَرَة2 في كتابنا الخصائص3، وبعده في كتاب الخطيب، لما دعا إلى تكرير4 ذكره لقوة الحاجة إليه وتقاضي الوضع له5.
سورة الروم
سورة الروم: بسم الله الرحمن الرحيم روى الواقدي1 عن سليمان عن أبي جعفر: "وَآثَارُوا الْأَرْضَ"2، ممدودة. قال ابن مجاهد: ليس هذا بشيء. قال أبو الفتح ظاهره لعمري منكر إلا أن له وجها ما، وليس لحنا مقطوعا به؛ وذلك أنه أراد وأثاروا الأرض، أي: شققوها للغرس والزراعة، وهو أفعلوا من قول الله سبحانه: {لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ} 3، إلا أنه أشبع فتحة الهمزة؛ فأنشأ عنها ألفا، فصارت "آثاروا" وقد ذكرنا ذلك وشواهده في نحو قول ابن هرمة: فأنْتَ مِنَ الغَوائِلِ حِينَ تُرْمَى ... ومِنْ ذَمَّ الرجال بِمُنْتَزاحِ4 يريد: بمنتزح، منفعل من النازح؛ فأشبع فتحة الزاي، فأنشأ عنها ألفا. وهذا لعمري مما تختص به ضرورة الشعر لا تخيُّر القرآن. ومن ذلك قراءة عكرمة "حِينًا تُمْسُونَ"5. قال أبو الفتح: أراد: حينًا تمسون فيه، فحذف "فيه" تخفيفا. هذا مذهب صاحب الكتاب في نحوه، وهو قوله سبحانه: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} 6،
أي لا تجزي فيه ثم حذف "فيه" معتبطا1 لحرف الجر والضمير لدلالة الفعل2 عليهما. وقال أبو الحسن: حذف "في" فبقي "تجزيه"؛ لأنه أوصل إليه الفعل، ثم حذف الضمير من بعد، ففيه حذفان متتاليان شيئا على شيء، وهذا أرفق، والنفس به أبسأ3 من أن يُعْتَبَطَ الحرفان معا في وقت واحد. وقرأ أيضا: "وَحِينًا تُصْبِحُونَ"، والطريق واحد. ومن ذلك [124ظ] قراءة أبي العالية: "فَيُمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُون"4. قال أبو الفتح: "يمتعوا" معطوف على قوله: "لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَيُمَتَّعُوا"، أي: فتطول أعمارهم على كفرهم فسوف يعلمون، تهدّدا على ذلك. ومن ذلك قراءة علي عليه السلام: "مِن خَلَلِه"5، وكذا ابن عباس والضحاك والحسن، بخلاف. قال أبو الفتح: يجوز أن يكون "خلل" واحد خِلال، كجَبَل وجِبال، ودار ودِيَار. ويجوز أن يكون خلال واحدًا عَاقَبَ خللا، كالغَرَاء والغِرَاء6، والصَلَى والصَّلاء7. وسُمِّيَ الرجلُ خليلا8، كأنه يسدُّ خَلَلَ خَلِيلِهِ9، فهذا إذا للسلب لا للإثبات، كالسُّكاك للهواء بين الأرض والسماء، كأنه استلب معنى س ك ك، وهو الضيق، وقد تقدم نحو هذا.
ومن ذلك قراءة الجحدري وابن السميفع وأبي حيوة: "أثَر رَحْمَةِ اللَّهِ"1، "كيْفَ تُحْيي". قال أبو الفتح ذهب بالتأنيث إلى لفظ "الرحمة" ولا تقول على هذا: أما ترى إلى غلام هند كيف تضرب زيدا؟ بالتاء وفرق بينهما أن الرحمة قد يقوم مقامها أثرها، فإذا ذكرت أثرها فكأن الغرض في ذلك إنما هو هي. تقول: رأيت عليك النعمة، ورأيت عليك أثر النعمة، ولا يعبر عن هند بغلامها. ألا ترى أنك لا تقول رأيت غلام هند وأنت تعني أنك رأيتها؟ وأثر النعمة كأنه هو النعمة، وقوله: {كَيْفَ تُحْيِي} جملة منصوبة الموضع على الحال، حملا على المعنى لا على اللفظ؛ وذلك أن اللفظ استفهام، والحال ضرب من الخبر، والاستفهام والخبر معنيان متدافعان. وتلخيص كونها حالا أنه كأنه قال: فانظر إلى أثر رحمة الله محيية للأرض بعد موتها، كما أن قوله: ما زِلْتُ أسعَى معهمْ وأختبِط ... حتى إذا جاء الظلامُ المُخْتَلِط جاءُوا بِضَيْحٍ هَلْ رَأيْتَ الذِّيبَ قَطّ2؟ فقوله: هل رأيت الذيب قط جملة استفهامية، إلا أنها في موضع وصف "الضيح" حملا على معناها دون لفظها؛ لأن الصفة ضرب من الخبر، فكأنه قال: جاءوا بضيح يشبه لونه لون الذئب. والضيح: هو اللبن المخلوط بالماء، فهو يضرب إلى الخضرة والطلسة3، وعليه قول الآخر: إلَى اللهِ أَشْكُو بالمدينةِ حاجَةً ... وبالشَّامِ أُخْرَى كَيْفَ تَلْتَقِيانِ4؟
فقوله: كيف تلتقيان جملة في موضع نصب بدلا من "حاجةً" وحاجةً، فكأنه قال: إلى الله أشكو هاتين الحالتين تعذر التقائهما, هذا أحسن من أن تقتطع قوله: كيف تلتقيان مستأنفا، لأن هذا ضرب من هجنة الإعراب، لأنه إنما يشكو تعذر التقائهما، ولا يريد استقبال الاستفهام عنهما. ومن ذلك قراءة الحسن: "إِلَى يَوْمِ الْبَعَثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعَثِ"1، بفتح العين فيهما. قال أبو الفتح: قد تقدم القول على حديث فتحة الحرف الحلقي إذا كان ساكن الأصل تاليا للفتح، وذكر الفرق بين قولنا وقول البغداديين فيه، وأننى أرى فيه رأيهم لا أرى أصحابنا. وذكرت ما سمعته من الشجري وغيره من قولهم فيه: أنا محموم، وقوله: يغذو، وهو يريد: يغذو. فلا حاجة لإعادته هنا2، فكذلك يجوز أن يكون أراد "البعث [125و] على قراءة الجماعة، ثم حرك بالفتح لأجل حرف الحلق. ومن ذلك قراءة ابن أبي إسحاق ويعقوب: "ولا يَسْتَحِقَّنَّكَ"3. قال أبو الفتح: أي لا يغلبنك، فيصيروا أحق بك منك بنفسك، هذا محصول هذه القراءة.
سورة لقمان
سورة لقمان: بسم الله الرحمن الرحيم الحُلوانيّ عن شباب عن أحمد بن موسى عن أبي عمرو وعيسى الثقفي: "حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهَنًا عَلَى وَهَنٍ"1، بفتح الهاء فيهما. قال أبو الفتح: الكلام هنا كالكلام فيما ذكرناه آنفا في قوله تعالى: "إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ"2، وعلى أنه قد حكى أبو زيد: "فَمَا وَهِنُوا"3، قراءة. فقد يمكن أن يكون "الوهَن" مصدر هذا الفعل، كقولهم: وَضِرَ4 وَضَرًا، ووَحِرَ5 وَحَرًا. ومن ذلك قراءة الحسن بخلاف وأبي رجاء الجحدري وقتادة ويعقوب: "وَفِصَلُهُ فِي عَامَيْنِ"6. قال أبو الفتح: الفصل أعم من الفصال؛ لأنه مستعمل في الرضاع وغيره، والفصلا هنا أوقع؛ لأنه موضع7 يختص بالرضاع. فإما الفصال مصدر فاصلته فغير هذا المعنى وإن كان الأصل واحدا. ومعنى ف ص ل قريب من معنى ف س ل؛ وذلك أن الفسل الدني من الناس، والدني هو الساقط. وإذا سقط الإنسان انقطع عن معظم ما عليه الناس، ولذلك قالوا: فيه هو ساقط. ومنقطع ومتأخر، فالمعنى إذا راجع إلى الانفصال والانقطاع.
ومن ذلك قراءة عبد الكريم الجزري1: "فَتَكُنْ فِي صَخْرَة2"، بكسر الكاف. قال أبو الفتح هذا من قولهم3: وكن الطائر: إذا استقر في وكنته، وهي مقره ليلا، وهي أيضا عشه الذي يبيض فيه، ووكره. ومنه قوله: وقد أغتدى والطير في وكناتها4 وقد وكن يكن وكونا فهو واكن، وجمعه وكون، كقاعد وقعود. قال: يذكرني سلمى وقد حال دونها ... حمام على بيضاتهن وكون5 وكأنه من مقوب الكون؛ لأن الكون الاستقرار، وعليه قالوا: قد تكون في منزله واستقر. ومن ذلك قراءة يحيى بن عمارة: "وَأَصْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً"6. قال أبو الفتح: أصله السين، إلا أنها أبدلت للغين بعدها صادا، كما قالوا في سالغ7: صالغ، وفي سالخ: صالح، وفي سقر: صقر، وفي السقر الصقر8. وذلك أن حروف الاستعلاء تجتذب السين عن سفالها إلى تعاليهن، والصاد مستعلية، وهي أخت السين في المخرج، وأخرى حروف الاستعلاء, وهذا التقريب بين الحروف مشروح الحديث في باب الإدغام، ومنه قولهم في سطر: صطر، وفي سويق: صويق.
وحكى يونس عنهم1 في السوق: الصوق، وروينا عن الأصمعي، قال: تنازع رجلان في السقر، فقال أحدهما: بالصاد، والآخر: بالسين، فتراضيا بأول من يجتاز بهما، فإذا راكب يوضع، فسألاه، فقال: ليس كما قلت ولا كما قلت، إنما هو الزقر. ومن ذلك قراءة ابن مسعود: "وَبَحْرٌ يُمِدُّهُ2"، وهي قراءة طلحة بن مصرف. وقرأ جعفر بن محمد: "والبَحْرُ مِدَادُه" "125ظ". وقرأ الأعرج الحسن: "والبَحْرُ يُمِدُّه"، برفع الياء. قال أبو الفتح: في إعراب هذه الآية نظر؛ وذلك أن هناك حذفا، فتقديره: فكتب بذلك كلمات الله ما نفدت، فحذف ذلك للدلالة عليه، كما أن قوله {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ 3} ، أي: فحلق فعليه فدية، فاكتفي بالمسبب، وهو الفدية من السبب، وهو الحلق، ونظائره كثيرة في القرآن وفصيح الكلام. وأما رفع "بحر" فالابتداء، وخبره محذوف، أي: وهناك بحر يمده من بعده سبعة أبحر. ولا يجوز أن يكون "وبحر" معطوفا على "أقلام"؛ لأن البحر وما فيه من الماء ليس من حديث الشجر والأقلام، وإنما هو من حديث المداد، كما قرأ جعفر بن محمد: "والبَحرُ مِدَادُه". فأما رفع "البحر" فإن شئت كان معطوفا على موضع "أن4" واسمها وإن كانت مفتوحة، كما عطف على موضعها في قوله سبحانه: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} 5، وقد ذكرنا ما في ذلك وكيف يسقط اعتراض من تعقب فيه فيما مضى. ويدل على صحة العطف هنا، وأن الواو ليست بواو حال قراءة أبي عمرو وغيره: "وَالْبَحْرَ يَمُدُّه "، بالنصب، فهذا عطف على "ما" لا محالة. ويشهد بجواز كون الواو حالا هنا قراءة طلحة بن مصرف: "وَبَحْرٌ يُمِدُّه"، أي: وهناك بحر يمده من بعده سبعة أبحر، فهذه واو حال لا محالة.
وأما "وَالْبَحْرُ يُمِدُّه"، بضم الياء فتشبيه بإمداد الجيش1، يقال: مد النهر، ومده نهر آخر، وأمددت الجيش بمدد. قال الله تعالى: {مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ 2} ، قال العجاج: ما قري مدة قري3 فأما قول الآخر: نظرت إليها والنجوم كأنها ... قناديل مرس أوقدت بمداد4 فليس من المداد الذي يكتب به، وإنما أراد هنا ما يمدها من الدهن، كذا فسروه، وليس بقوي أن تكون قراءة جعفر بن محمد: "والبَحرُ مِدَاده"، أي: زائدة فيه؛ لأن ماء البحر لا يعتد زائدا في الشجر والأقلام؛ لأن ليس من جنسه، فالمداد هناك إنما هو هذا المكتوب به بإذن الله. ومن ذلك قراءة موسى بن الزبير: "الْفُلُك5"، بضم اللام. قال أبو الفتح: حكى أبو الحسن عن عيسى بن عمران، قال: ما سمع، أو ما سمعنا: فعل إلا وقد سمعنا فيه: فعل؛ فقد يكون هذا منه أيضا، وقد ذكرناه قبل6. ومن ذلك: "بنِعْمَاتِ الله5"، ساكنة العين، قرأها جماعة منهم الأعرج.
قال أبو الفتح: ما كان على فعلة ففي جمعه بالتاء ثلاث لغات: فعلات، وفعلات، وفعلات: كسدرة وسدرات، وسدرات، وسدرات. وكذلك فعلة فيها الثلاث أيضا: الإتباع. والعدول عن ضمة العين إلى فتحها. والسكون هربا من اجتماع الضمتين: كغرفة وغرفات وغرفات، وغرفات. قال أبو علي: ما يدل على أن الألف والتاء في هذا النحو في تقدير الاتصال، وأنهما ليستا كناء التأنيث في نحو: سدرة، وبسرة - اطراد الكسر في نحو: سدرات، وكسرات، وعذرات1، مع عزة فعل في الواحد، يريد إبلا، وما لحق به مما لم يذكره صاحب الكتاب. ذكر ذلك عند تفسيره قول سيبويه: [126و] إنك لو سميت رجلا بذيت لقلت فيه: ذيات، بتخفيف الياء فيمن رواه هكذا. وذكر هناك أيضا صحة الواو في نحو: خطوات، ورشوات مع ضمة ما قبلها، قال: ولو كانت الألف والتاء في تقدير الانفصال لما صحت الواو في نحو: خطوات، كما لا يصح في فعلة من غزوت إذا بنيتها على التذكير فقلت: غزية؟ وأنا من بعد أرى أن تسكين عين فعلات، كنعمات وسدرات -أمثل من تسكين عين فعلات، كغرفات؛ وذلك أن صدر سدرات قليل النظير، إنما هو إبل، وإطل2، وأمرأة بلز للضخمة، ومالا بال به. وصدر فعلات كثيرن كبرد، ودرج، وقرط. ومن قال: كسرات، فأثبت كسرة السين لم يقل كذلك في رشوات؛ لأنه إن كسر الشين انقلبت الواو ياء. وكذلك مديات لا تضم ثانيها؛ لئلا تنقلب الياء واوا، فيقال: مدوات كما كان يجب في رشوات رشيات، لكنهم جنحوا فيهما إلى الإسكان الذي كان مستعملا في الصحيح العين، نحو: ظلمات، وكسرات. فأما الفتح فجائز حسن نحو: رشوات، ومديات؛ لأن حرفي العلة تصحان هنا بعد الفتحةن نحو: قنوات، وحصيات. وأنا أرى أن إسكان عين فعلات مما جاء في الشعر من الأسماء نحو قول ذو الرمة: أبت ذكر عدون أحشاء قلبه ... خفوقا ورفضات الهوى في المفاصل3 ليس العذر فيه كالعذر في قولهم: ظبية وظبيات، وغلوة4 وغلوات؛ وذلك أنه
سورة السجدة
سورة السجدة: بسم الله الرحمن الرحيم قرأ الزهري: "وَبَدَا خَلْقَ الْإنْسَانِ"1، بغير همز. قال أبو الفتح: ترك الهمز في هذا عندنا على البدل، لا على التخفيف القياسي، ومثله بيت الكتاب: رَاحَتْ بِمَسلَمَة البِغَالَ عَشِيَةً ... فَارْعَى فَزَارَةُ لا هَنَاكِ الْمَرْتَعُ2 ولو كان تخفيفا قياسيا لجعل الهمزة3 بين بين، فقال: "بدا"، ولو أسندت الفعل4 إلى نفسك على التخفيف القياسي قلت: "126ظ" بَدَاتُ، بألف لا همز في لفظها، وعلى البدل: بَدَيتُ، كما حكي عنهم: قريتُ، وأخطيتُ. وقد مضى ذلك5. ومن ذلك قراءة علي وابن عباس رضي الله عنهما وأبان بن سعيد بن العاص6 والحسن بخلاف: "صَلِلْنَا7"، بالصاد، مكسورة اللام.
وقرأ أيضا بالصاد مفتوحة اللام الحسن، بخلاف. قال أبو الفتح: صَلَّ اللحمُّ يَصِلُّ: إذا أنتنَ. وصَلَّ أيضا يَصَلُّ -بفتح الصاد- والكسر في المضارع أقوى اللغتين. والمعنى: إذا دُفِنّا في الأرض، وصلت أجسامنا، يقال: صل اللحم وأصل صلولا وصلالا، قال: هُو الفَتَى كُلُّ الفَتَى فاعلمي ... لا يفسِدُ اللحمَّ لديِهِ الصلُولُ1 وقال زهير: تُلَجلِجُ مضغةً فيها أبيض ... أصلتْ فهي تحتَ الكشْحِ داءُ2 ومن ذلك قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وأبي هريرة وأبي الدرداء وابن مسعود وعون العقيلي3 "قُرَّات أَعْيُنٍ"4. قال أبو الفتح: القرة المصدر، وكان قياسه ألا يجمع؛ لأن المصدر اسم جنس، والأجناس أبعد شيء عن الجمعية لاستحالة المعنى في ذلك، لكن جعلت القرة هنا نوعا. فجاز جمعها كما تقول: نحن في أشغال، وبيننا حروب، وهناك أحزان وأمراض. وحسَّن لفظ الجمع هنا أيضا إضافة "القرات" إلى لفظ الجماعة، أعني "الأعين". فقولنا إذًا: أشغال القوم أشبه لفظا من أشغال زيد، وكلاهما صحيح، غير أن فيه ما ذكرته. وليس ينبغي أن يحتقر في هذه اللغة الشريفة تجانس الألفاظ؛ فإن أكثرها دائر عليه في أكثر الوقت.
ومن ذلك قراءة ابن السميفع: "يُمَشُّونَ فِي مَسَاكِنِهِم"1، وقرأ أيضا: "إِنَّهُمْ مُنْتَظَرُون"2. قال أبو الفتح: دفع أبو حاتم هذه القراءة بالفتح، واعتزم الكسر، واستدل على ذلك بقوله {فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُون} 3. و"يُمَشُّون" للكثرة، قال: يُمَشِّى بيننا حانوتُ خًمْر ... من الخُرْسِ الصراصرة القِطاط4
سورة الأحزاب
سورة الأحزاب: بسم الله الرحمن الرحيم "إِنَّ بُيُوتَنَا عَوِرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوِرَةٍ"1 بكسر الواو -ابن عباس وابن يعمر وأبو رجاء، بخلاف، وعبد السلام أبو طالوت2 عن أبيه وقتادة. قال أبو الفتح: صحة الواو في هذا شاذة من طريق الاستعمال، وذلك أنها متحركة بعد فتحة، فكان قياسها أن تقلب ألفا، فيقال: عَارَة، كما قولوا: رجل مالٌ3. وامرأة مالةٌ، وكبش صافٌ4 ونعجة صافةٌ، ويوم راحٌ5، وطانٌ6، ورجل نالٌ، من النوال، وله نظائر. وكل ذلك عندنا فَعِل، كرجل فَرِق وحَذِر. ومثل "عَوِرَة" في صحة واوها قولهم: رجل عَوِزٌ لَوِزٌ، أي: لا شيء له، وقول الأعشى: وقد غَدَوْتُ إلى الحانوتِ يَتْبَعُنِي ... شاوٍ مِشَلٌ شَلُولٌ شُلْشُلٌ شَوِلٌ7 فكأن "عَوِرة" أسهل من ذلك شيئا؛ لأنها كأنها جارية على قولهم: عَوِرَ الرجلُ، فهو بلفظه، والمعنيان ملتقيان؛ لأن المنزل إذا أعور8 فهناك إخلال واختلال.
ومن ذلك قراءة ابن عباس: "بُدًّى فِي الْأَعْرَابِ"1، شديدة الدال، منونة. قال أبو الفتح: هذا أيضا جمع باد، فنظيره قول الله سبحانه: {كَانُوا غُزًّى} 2، جمع غاز على فُعَّل. ولو كان على فُعَّال لكان بُدّاء وغُزّاء، ككاتب وكُتّاب، وضارب وضُرّاب [127و] أنشد الأصمعي: وأنا في الضُّرّاب قيلانُ القُلة3 ومن ذلك قراءة الحسن: "ثُمَّ سُوِلُوا الْفِتْنَةَ"4، مرفوعة السين، ولا يجعل فيها ياء، ولا يمدها. قال أبو الفتح: اعلم أن في سألت5 لغتين: إحداهما: سأل يسأل مهموزًا، كدأل6 يدأل، وجار يجأر. والأخرى وهي سال يسال، كخاف يخاف. والعين من هذه اللغة واو؛ لما حكاه أبو زيد من قوله: هما يتساولان، كقولك: يتقاومان، ويتقاولان. والذي ينبغي أن تحمل عليه هذه القراءة هو أن تكون على لغة من قال: سال يسال، كخاف يخاف، ومال يمال: إذا كثر ماله. وأقيس اللغات في هذا أن يقال عند إسناد الفعل إلى المفعول: سِيلُوا كعِيدُوا، ومثل قِيل، وبِيع وسِير به. ولغة أخرى هنا وهي إشمام كسرة الفاء ضمة: سُِيلوا، كقُِيل وبُِيع. واللغة الثالثة سُولوا، كقولهم: قُولَ، وبُوعَ، وقد
سُورَ بِهِ. وهو على إخلاص ضمة فُعِل، إلا أنه أقل اللغات. ورُوِّينا عن محمد بن الحسن قول الشاعر: وَابْتُذِلَتْ غَضْبَى وأُم الرحالْ ... وقُولَ: لا أهلَ له ولا مالْ1 أي: وقيل: وروينا أيضا: نُوطَ إلى صُلْبٍ شَدِيدِ الخَلِّ2 أي: نِيطَ، كقولك: وُصِلَ به، فهذا أحد الوجهين، وهو كالساذج. والآخر وفيه الصنعة، وهو أن يكون أراد: سُئلُوا، فخفف الهمزة، فجعلها بين بين أي: شابهت الياء الساكنة وقبلها ضمة، فأنحى بها نحو قُولَ وبُوعَ. فإما أخلصها في اللفظ واو لانضمام ما قبلها على رأي أبي الحسن في تخفيف الهمزة المكسورة إذا انضم ما قبلها، نحو قولهم: مررت بِاَكْمُوِك3، وعلى قوله: "يَسْتَهْزِيُون"4 بإخلاص الهمز إذا خففها ياء لانكسار ما قبلها. وأما بقَّاها على روائح الهمزة الذي5 فيها فجعلها بين بين، فخفيت الكسرة فيها، فشابهت -لانضمام ما قبلها- الواو. ويدل على أن الهمزة المكسورة إذا خففت قاربت -لضعف حركتها- الياء الساكنة قول ابن ميادة: فكانَ يومَيْذٍ لَها أَمرُها6 أراد: يومئذ، ثم خفف الهمزة، فقاربت الياء، فصارت كأنها "يومَيِذ" بياء مخلصة، فأسكنها استثقالا فيها فصارت "يومَيْذ".
وعليه قولهم: أيْشٍ تقول: أراد أيُّ شيء تقول؟ ثم خفف الهمزة وهي مكسورة، فدانت الياء، فاستثقل فيها الكسرة، كما يستثقلها في ياء القاضي والغازي، فصار أيْشٍ، كقولك: قاضٍ، وغازٍ. ويؤكد هذا القولَ الثاني قولُ ابن مجاهد: ولا يمدها، أي: ينسى الهمز الذي كان فيها الذي لو اعتمده وتطاول نحوه لزاد في الحرف الصوتَ للحركة التي كان يقوى ويزيد صداه لمكانها. ألا ترى أن قولك: آدم وآمن أنقص صوتا من قولك: "آاْنتَ قلتَ للناس"1؛ لمكان حركة الهمزة الثانية وإن كانت مخفاة مضعفة؟ أعني إذا خففت همزة "أنت" ولم تفصل بينها وبين [127ظ] همزة الاستفهام قبلها بألف الوصل، كالتي في قوله: "آاْنتَ قلتَ للناس" في قول أبي عمرو ومن ذهب مذهبه، لأن ذلك صوت وافٍ ومطمئن متمادٍ، وإنما مرادنا قدر تمام الصوت لتخفيف2 الثانية، على أن لا فاصل بينها وبين الأولى. لأنه حينئذ يوافق3 قوله ولا يمدها، أي: لا يمدها كما يمدها إذا اعتد حركة الثانية. ومن ذلك قراءة عمرو بن فائد الأسواري، ورويت عن يعقوب: "يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ تأْتِ مِنْكُنَّ"4 بالتاء. قال أبو الفتح: هذا حمل على المعنى، كأن "مَن" هنا امرأة في المعنى، فكأنه قال: أية امرأة أتت منكن بفاحشة، أو تأت بفاحشة5. وهو كثير في الكلام، معناه للبيان كقول الله سبحانه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} 6، وقول الفرزدق: تَعَشَّ فإنْ عاهدتَني لا تخونُني ... نَكُنْ مِثْلَ مَن يا ذِيبُ يصْطَحِبان7
أي: مثل اللذين يصطحبان، أو مثل اثنين يصطحبان، وأن يكون على الصلة أولى من أن يكون على الصفة، فكأن الموضع في هذا الحمل على المعنى إنما بابه الصلة، ثم شُبهت بها الصفة، ثم شُبهت الحال بالصفة، ثم شُبه الخبر بالحال، كذا ينبغي أن يرتب هذا الباب من تنزيل، ولا ينبغي أن يؤخذ بابا سرْدًا وطرْحًا واحدًا؛ وذلك أن الصلة أذهب في باب التخصيص من الصفة لإبهام1 الموصول، فلما قويت الحاجة إلى البيان في الصلة جاء ضميرها من الصلة على معناها، لأنه أشد إفصاحا بالغرض، وأذهب في البيان المعتمد. فأما ما أنشدَناه أبو علي عن الكسائي من قول الشاعر: أخو الذيبِ يعوِي والغرابِ ومَن يكنْ ... شريكَيْهِ تطمعْ نفسُهُ كلَّ مَطْمَعِ2 ففيه نظر. وكان قياسه: ومن يكن شريكيهما، أو من يكونا شريكيه، وقد كان أبو علي يتعسف هذا، وأقرب ما فيه أن يكون تقديره: وأي إنسان يكونا3 شريكيه، إلا أنه أعاد إليهما معا ضميرا واحدا، وهو الضمير في "يكن" وساغ ذلك إذ كانت4 الذيب والغراب في أكثر الأحوال مصطحبين، فجريا مجرى الشيء الواحد، فعاد الضمير كذلك. ومثله قوله: لمن زحلوقة زل ... بها العينان تنهلّ5 ولم يقل: تنهلان؛ لكونهما كالعضو الواحد. ومثله للفرزدق:
ولو رضيَتْ يداي بها وضنَّتْ ... لكانَ علي للقدرِ الخيارُ1 ولم يقل رضيتا2. ومن ذلك قراءة الأعرج وأبان بن عثمان "فَيَطْمَعِ الَّذِي"3 بكسر العين. قال أبو الفتح: هو معطوف على قول الله تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} ، أي: فلا يطمعِ الذي في قلبه مرض، فكلاهما منهي عنه، إلا أن النصب أقوى معنى، وأشد إصابة للعذر؛ وذلك أنه إذا نصب كان معناه أن طمعه إنما هو مسبَّبٌ عن خضوعهن بالقول. فالأصل في ذلك منهي عنه، والمنهي مسبَّبٌ عن فعلهن، وإذا عطفه كان نهيا لهن وله، وليس فيه دليل على أن الطمع راجعٌ في الأصل إليهن، وواقع من أجلهن. وعليه بيت امرئ القيس: فقلْتُ له صَوِّبْ ولا تُجْهِدَنَّه ... فيَذُرِكَ من أُخْرَى القطاة فتزلَقِ4 [128و] فهذا نهي بعد نهي، كالقراءة الشاذة. ومن ذلك ما رواه عبد الوهاب5 عن أبي عمرو: "وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ"6، نصب. قال أبو الفتح: "رسول الله" منصوب على اسم "لكن"، والخبر محذوف، أي: ولكن رسول الله محمد. وعليه قول الفرزدق:
فلو كنت ضبيا عرفت فرابتي ... ولكن زنجيا غليظ المشافر1 أي: ولكن زنجيا غليظ المشافر لا يعرف قرابتي، فحذف الخبر لدلالة ما قبله عليه، وهو قوله: عرفت قرابتي، كما أن قوله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} يدل على أنه مخالف لهذا الضرب من الناس، ونحو من ذلك قول طرفة: وتبسِمُ عن أَلْمَى كان مُنَوِّرًا ... تخلل حُرَّ الرملِ دعصٌ له نَدِي2 قال أبو الحسن علي بن سليمان: لم يأت لكأن بخبر، علما بمعرفة موضعه، أي: كأن ذلك المنور ثغرها، فحذفه للعلم به، ولطول الكلام. ومن ذلك قراءة أبي بن كعب والحسن والثقفي وسلام: " أَنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ"3، بفتح الألف. قال أبو الفتح: تقديره لأن وهبت نفسها، أي أنها تحل له من أجل أن وهبت نفسها له، إلا أن حل ذلك لذلك عند هبتها نفسها له وإن هي وهبت نفسها له4. وليس يعني بذلك امرأة بعينها قد كانت وهبت نفسها له، وإنما محصوله أنها إن وهبت امرأة نفسها للنبي "صلى الله عليه وسلم" حلت له من أجل هبتها إياها له عليه السلام، فالحل إذا إنما هو مسبب عن الهبة متى كانت، فلهذا لم يعتزم به واحدة معينة قد كانت وهبت نفسها له، ويؤكد ذلك القراءة بالكسر، فصح به الشرط. ومن ذلك قراءة أبي إياس جوية بن عائذ: "بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلَّهُنَّ5"، بنصب اللام.
قال أبو الفتح: نصبه على أنه توكيد لـ"هن" من قوله1: "آتَيْتَهُنَّ"، وهو راجع إلى معنى قراءة العامة: {كُلُّهُنَّ} ، بضم اللام؛ وذلك أن رضاهن كلهن بما أوتين كلهن على انفرادهن واجتماعهن، فالمعنيان إذًا واحد، إلا أن الرفع أقوى معنى وذلك أن فيه إصراحا من اللفظ با، يرضين كلهن، والإصراح في القراءة الشاذة -أعني النصب- إنما هو بإيتائهن كلهن، وإن كان محصول الحال فيهما مع التأويل واحدا. ومن ذلك قراءة الحسن: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فَصَلُّوا عليه2". قال أبو الفتح: دخول الفاء إنما هو لما ضُمنه الحديث من معنى الشرط، وذلك أنه إنما وجبت عليه الصلاة منا لأن الله "سبحانه" قد صلى عليه، فجرى ذلك مجرى قولهم: قد أعطيتك فخذ، أي3: إنما وجب عليك الأخذ من أجل العطية: وإذا قال قد أعطيتك خذ، فالوقوف على أعطيتك، ثم استأنف الأمر له بالأخذ فهو أعلى4 معنى، وأقوم قيلا. وذلك أنه إذا علل الأخذ، فجعله واجبا عن العطية فجائز أن يعارضه المأمور بالأخذ بأن يقول: قد ثبت أن الأخذ لا يجب بعطيتك، فإن كان أخذي لغير ذلك فعلت. وهو إذ ارتجل قوله: خذ لم يسرع المعارضة له في أمره إياه؛ لاستبهام معنى [128ظ] موجب الأخذ، كما قد تقع المعارضة إذا ذكر العلة في ذلك. فإن قلت فقد يجوز أن يعارض أمره بالأخذ مرسلا، كما قد يعارضه معللا. ألا تراه قد يقول له: اذكر لي علة الأخذ لأرى فيه رأيي فيتوقف عن الأخذ إلى أن يعرف علة الأمر له بذلك؟ قيل على كل حال الأمر المحتوم به على حالاته أثبت في النفس من المعلل بما يجوز أن يعارض. وإذا راجعت نظرك وأعملت فكرتك وجدت الحال فيه على ما ذكرت لك، فلذلك كان قوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ} أقوى معنى.
ومن ذلك قراءة عيسى بن عمر الكوفي: "يَوْمَ تُقَلِّبُ وُجُوهَهُمْ"1، نصب. قال أبو الفتح: الفاعل في "تُقَلِّبُ" ضمير السعير المقدم الذكر في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا، خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} ، ثم قال: "يَوْمَ تُقَلِّبُ"، أي: تُقَلِّبُ السعيرُ وجوههم في النار، فنسب الفعل إلى النار، وإن كان المُقَلِّبُ هو الله سبحانه، بدلالة قراءة أبي حيوة: "يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهَهُمْ"، لأنه إذا كان التقليب فيها جاز أن ينسب الفعل إليها للملابسة التي بينهما، كما قال الله: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} 2، فنسب المكر إليهما لوقوعه فيهما، وعليه قول رؤبة: فَنَامَ لَيْلِي وتَجَلَّى هَمِّي3 أي: نمتُ في ليلِي: وعليه نفى جرير الفعل الواقع فيه عنه فقال: لقد لُمْتِنا يا أمَّ غَيلانَ في السُّرَى ... ونِمتِ ومَا لَيْلُ المطِيِّ بنائمِ4 فهذا نفي لمن قال: نام لَيْلُ المطِيِّ، وتطرقوا من هذا الاتساع إلى ما هو أعلى منه، فعليه بيت الكتاب: أما النهارُ فَفِي قَيْدٍ وسِلْسِلةٍ ... والليلُ فِي جَوفٍ منحُوتٍ من السَّاجِ5 فجعل النهار نفسه في القيدِ والسلسلةِ، والليلَ نفسَه في جوفِ المنحوتِ. وإنما يريد أن هذا المذكور في نهاره في القيد والسلسلة، وفي ليله في بطن المنحوت. وقد جاء هذا في الأماكن أيضا، وعليه قول رؤبة: ناجٍ وقدْ زَوْزَى بنا زِيزَاؤه6
فالزيزاء على فعلاء، وهي هذه الغليظة المنقادة من الأرض، فكأن هذه الأرض سارت بهم الفجاج؛ لأنهم ساروا عليها. وقد يمكن أن يكون "زيزاؤه" مصدر من زَوْزَيْتُ، فيكون الفعل منسوبا إلى المصدر، كقولهم: سار بنا السيرُ، وقام بهم القيامُ. فهو على قولك: سيرٌ سائرٌ، وقيامٌ قائمٌ. ومنه: شعرٌ شاعرٌ، وموتٌ مائتٌ، وويلٌ وائلٌ. والزيزاء على هذا فِعلال، كالزلزال، والقلقال. وأما قول رؤبة: هيهاتَ من منخرقٍ هيهاؤه1 فهو فعلال من لفظ. هيهات، كالزلزال، والقلقال، وليس مصدرا صريحا. وهيهات من مضاعف الياء، ومن باب الصِّيصِية2 وقد تقدم القول عليه3. ومن ذلك قراءة ابن مسعود: "وَكَانَ عَبْدًا لِلَّهِ وَجِيهًا"4. قال أبو الفتح: قراءة الكافة أقوى معنى من هذه القراءة، وذلك أن هذه إنما يُفْهَم منها أنه عبدٌ لله ولا تُفْهَم منها وجاهته عند من هي؟ أعندَ الله، أم عندَ الناس؟ وأما قراءة الجماعة فإنها تفيد كون وجاهته عند الله، وهذا أشرف [129و] من القول الأول؛ لإسناد وجاهته إلى الله تعالى، وحسبه هذا شرفا.
سورة سبأ
سورة سبأ: بسم الله الرحمن الرحيم هارون عن طُلَيْق المعلِّم قال: سمعت أشياخنا يقرءون: "لَيَأْتِيَنَّكم"1، بالياء. قال أبو الفتح: جاز التذكير هنا بعد قوله تعالى: {لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ} ، لأن المخوف منها إنما هو عقابها، والمأمول ثوابها؛ فغلب معنى التذكير الذي هو مَرْجو أو مخوف؛ فذكَّر على ذلك وإذا جاز تأنيث المذكر على ضرب من التأول كان تذكير المؤنث -لغلبة التذكير- أحرى2 وأجدر. ألا ترى إلى قول الله سبحانه: {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ} 3؛ لأن بعضها سيارة أيضا؟ وعليه قولهم: ذهبَتْ بعضُ أصابعه؛ لأن بعضها إصبع في المعنى. وحكى الأصمعي عن أبي عمرو قال: سمعت رجلا من اليمن يقول: فلان لغوبٌ4، جاءته كتابي فاحتقرها. فقلت له: أتقول: جاءته كتابي؟ فقال: نعم، أليس بصحيفة. وهذا من أعرابيٍّ جافٍ هو الذي نبه أصحابنا على انتزاع العلل. وكذلك ما يجري مجراه فاعرفه، وكذلك الآية المقدم ذكرها. ومن ذلك ما رواه عمرو بن ثابت5 عن سعيد بن جبير: "تَأْكُلُ مِنْ سَأَتِهِ"6، قال من عصاه.
قال أبو الفتح: المشهور المجمع1 عليه في ذلك: "مِنْسَأتَهُ": بالهمز، وبالبدل من الهمز، وهي العصا: مفعلة من نسأتُ الناقة والبعير: إذا زجرتَه. قال الفراء: هي العصا العظيمة تكون مع الراعي، وأنشد أبو الحسن: إذا دببتَ على المنساةِ من كِبَرٍ ... فَقَدْ تباعَدَ عنْكَ اللهْوُ وَالْغَزَلُ2 وقال الفراء: هي من سِئَة القوْس، وهي مهموزة. وقال غيرُه: أسأيتُ القوس، فالمحذوف من "سئة" هو اللام، وأن يكون ياء أجدر؛ لغلبة الياء على اللام، وكان رؤبة يهمز سئة القوس. قال الفراء: ولم تقرأ "مِن سَأتِهِ"، ولم تثبت عند قراءة سعيد بن جبير. قال: ويجوز فيها سِئَة وسَأَة، وشبهها بالقِحَة والقَحَة، والضِعَة3 والضَعَة. وبعد فالتفسير إنما هو على العصا لا سئة4 القوس، وهي من ن سء، فإن كانت "السأة" من نسأت فيه علة، والفاء محذوفة. وهذا الحذف إنما هو من هذا الضرب في المصادر، نحو: العدة، والزنة، والضعة، والقحة. وذلك مما فاؤه واو لا نون، ولم يمرر بنا ما حذفت نونه وهي فاء. وسئة القوس: فعة، واللام محذوفة كما ترى. قال أبو حاتم: إن ابن إسحاق سأل أبا عمرو: لم تركت همز "منسأته"؟ فقال: وجدت لها في كتاب الله أمثالا: {هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّة} 5، و {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيم} 6. وقال هارون كان أبو عمرو يهمز، ثم تركها. قول أبي عمرو: "خَيْرُ الْبَرِيَّةِ"، و"لَتَرَوُنَّ"، يريد أن "البرية" من برأ الله الخلق، فترك همزها تخفيفا. وكذلك "لَتَرَوُنَّ"، يريد تخفيف همز "ترى"؛ لأن أصلها ترأى، فاجتمع على تخفيف الهمزتين في الموضعين. ولا يريد أن واو "لَتَرَوُنَّ" غير مهموزة؛ وذلك لأن همز هذه الواو لضمتها شاذ من حيث كانت الحركة لالتقاء الساكنين، وليست بلازمة.
وقال أبو حاتم في حرف عبد الله: "إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ أكَلَتْ مِنْسَأَتَهُ "، وفي حرف أبي"منَسَيَتَه"- قال وهي تدل على الهمز؛ لأن الهمزة قد تحذف من الخط. [129ظ] فقول ابن مسعود: "أكلتْ" هو تفسير الدلالة، أي ما دلهم على موته إلا دابة الأرض ثم فسر وجه الدلالة، فقال: "أكَلَتْ مِنْسَأَتَهُ"، أي: فخرّ، فتبينتِ الجنّ. ومن ذلك قراءة ابن عباس والضحاك وأبي عبد الله وعلي بن حسين: "تَبَيَّنَتِ الإنْسُ"1. قال أبو الفتح: أي: تبينت الإنس أن الجن لو علموا بذلك ما لبثوا في العذاب. يدل على صحة هذا التأويل ما رواه معبد عن قتادة، قال: في مصحف عبد الله "تَبَيَّنَتِ الإنْسُ أن الجن لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا". ومن ذلك قراءة ابن جندب: "وَهَلْ يُجْزَى إِلَّا الْكَفُور"2. قال أبو الفتح: حدثنا أبو بكر محمد بن علي المراغي، ورُوِّيناه أيضا عن شيخنا أبي عليٍّ، قال: كان أبو إسحاق يقول: جزيت الرجل في الخير، وجازيته في الشر. واستدل على ذلك بقراءة العامة: {وَهَلْ يُجَازَى 3 إِلَّا الْكَفُور} ، وقرأت على أبي عليّ عن أبي زيد: لَعَمْرِي لَقَد برَّ الضبابَ بَنُوه ... وَبَعضُ البَنِينَ حُمَّةٌ وسُعَالُ جَزَوْنِي بما رَبَّيْتُهُمْ وَحَمَلْتُهُمْ ... كذلِكَ ما إنَّ الخُطُوبَ دَوَالُ4 وينبغي أن يكون أبو إسحاق يريد أنك إذا أرسلتهما ولم تعدهما إلى المفعول الثاني كانا كذلك، فإذا ذكرته اشتركا. ألا ترى إلى قوله:
جَزَانِي الزُّهدَمَانِ جَزَاء سَوء ... وكنتُ المرءَ أُجْزَى بالكَرَامَهْ1 فأما قراءة ابن جندب: " وَهَلْ يُجْزَى إِلَّا الْكَفُور" فوجهه أنه إذا كان عن الحسنة عشرا فذلك تفضل، وليس جزاء، وإنما الجزاء في تعادل العمل والثواب عنه. ولله در جرير وعذوبته قال: يا أُمَّ عمرٍو جَزاكِ اللهُ صالِحَةً ... رُدِّي عَلَيَّ فُؤادِي كالذِي كَانَا2 وقال أبو حاتم "وَهَلْ يجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ"، بالنصب قراءة قتادة وابن وثاب والنخعي، في جماعة ذَكَرَهم. ومن ذلك قراءة ابن عباس ومحمد بن علي ابن الحنفية وابن يعمر بخلاف والكلبي وعمرو ابن فائد: "رَبُّنَا" -رفع- "بَعَّدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا"3، رفع الباء على الخبر، وفتح الباء من "بعد" والعين، ونصب النون من "بين". وقرأ: "رَبَّنَا بَعُدَ"، بفتح الباء والدال، وضم العين "بَيْنَ أَسْفَارِنَا"- ابن يعمر وسعيد ابن أبي الحسن ومحمد بن السميفع وسفيان بن حسين4 -بخلاف- والكلبي، بخلاف. وقرأ: "رَبَّنَا بَاعَدَ بَيْنَ أَسْفَارِنَا" - ابن عباس وابن يعمر ومحمد بن علي وأبو رجاء والحسن -بخلاف- وأبو صالح وسلام ويعقوب وابن أبي ليلى والكلبي. قال أبو الفتح: أما "بَعَّدَ" و"بَاعَدَ بَيْنَ أَسْفَارِنَا" فإن "بين" فيه منصوب نصب المفعول به، كقولك: بَعَّدَ وبَاعَدَ مسافة أسفارنا، وليس نصبه على الظرف. يدلك على ذلك قراءة من قرأ: "بَعُدَ بَيْنُ أَسْفَارِنَا"، كقولك: بَعُدَ مَدَى أسفارِنا، فرفعُه دليل كونه اسمًا، وعليه قوله:
كأنَّ رِماحَهُم أشْطانُ بِئْرٍ ... بَعِيد بينَ جَالَيها جَرُور1 أي: بعيد مدى جاليها، أو مسافة جاليها. ويؤكد كون "بينَ" هنا اسمًا لا ظرفًا أن بَعَّدَ وبَاعَدَ فعلان متعديان، فمفعولهما معهما، وليس "بين" ههنا مثلها في قولك: جلست بين القوم؛ لأن معناه جلست في ذلك [130و] الموضع وليس يريد هنا بَعِّد أو بَاعِد فيما بين أسفارنا شيئا. قال أبو حاتم: وزعموا أن العمارة اتصلت ببلادهم، فأرادوا أن يسيروا على رواحلهم2 في الفيافي، فدعوا على أنفسهم، فهو قوله سبحانه: {وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُم} 3. وكان شيخنا أبو علي يذهب إلى أن أصل "بين" أنها مصدر بان يبين وبينا، ثم استعملت ظرفا اتساعا وتجوزا، كمقدم الحاج، وخلافة فلان. قال. ثم استعملت واصلة بين الشيئين، وإن كانت في الأصل فاصلة. وذلك لأن جهتيها وَصَلَتَا ما يجاورهما بها، فصارت واصلة بين الشيئين. هذا معنى قوله، وجماع مراده فيه. وعليه قراءة من قرأ: "لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنُكُم"5، بالرفع. أي: وصلُكم. وأجاز أبو الحسن في قوله تعالى4: "لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُم"، بالفتح أن يكون في موضع رفع، إلا أن فتحة الظرف لزمته، والمراد الرفع. ويمكن عندي أن يكون قوله: وإني وقفْتُ اليومَ والأمسِ قبلَه ... بِبابِكَ حتَّى كادَتِ الشمْسُ تغرُبُ6 المراد فيه "وأمسِ"، إلا أنه أدخل اللام عليه، فعرفه بها، وتركه على ما كان عليه من كسره المعتاد فيه7، وإن كان قد أعربه في المعنى بإبراز لام التعريف إلى لفظه الذي كان إنما يبنى لتضمنها. وإن حملته على زيادة لام التعريف مثلها في الآن فمذهب آخر. ونظر بعض المولدين إلى حديث "بين" فقال: انتصَرَ البينُ من البينِ ... واشتَفَتِ العينُ مِنَ العَينِ
فالبين الأول الوصل، والثاني القطيعة والهجر، والعين الأولى هذا الناظر، والثانية الرقيب أي: رأت فيه ما أحبت. من ذلك قراءة الزهري: "وَلَقَدْ صَدَقَ" -مخففة- "عَلَيْهِمْ إِبْلِيسَ" -نصب- "ظَنُّهُ"- رفع "إِلَّا لِيُعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ"1. وقال أبو حاتم: روى عبيد2 بن عقيل عن أبي الورقاء، قال: سمعت أبي الهجهاج وكان فصيحا -يقرأ: "إبْلِيسَ" -بالنصب- "ظَنُّهُ"، رفع. قال أبو الفتح: معنى هذه القراءة أن إبليس كان سَوَّلَ له ظنُّه شيئا فيهم، فصَدَقه ظنُّه فيما كان عقد عليهم معهم من ذلك الشيء. وأما قراءة العامة: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ} -رفع- {ظَنَّهُ} -نصب- فإنه كان قدر فيهم شيئا فبلغه منهم، فصدق ما كان أودعه طنه في معناه. فالمعنيان من بعد متراجعان إلى موضع واحد؛ لأنه قدر تقديرا فوقع ما كان من تقديره فيهم. و"عَلَى" متعلقة بـ"صَدَقَ"، كقولك: صَدَقْتُ عليْكَ فِيمَا ظَنَنْتُه بك، ولا تكون متعلقة بالظن، لاستحالة جواز تقدم شيء من الصلة على الموصول. وذهب الفراء إلى أنه على معنى في ظنه، وهذا تَمَحُّل للإعراب، وتَحَرُّفٌ عن المعنى. ألا ترى أن من رفع "ظنه" فإنما جعله فاعلا؟ فكذلك إذا نصبه جعله مفعولا على ما مضى. كذلك أيضا من شدد، فقال: "صدّق"، فنصب "الظن" على أنه مفعول به. ومن ذلك قراءة الحسن: "فُزِعَ"4، بالزاي خفيفة، وبالعين. وقرأ: "فَرَّغَ"، بفتح الفاء والراء، وبالغين الحسن -بخلاف- وقتادة وأبو المتوكل.
وقرأ: "فرغ"، بالراء خفيفة، وبالغين، والفاء مضمومة الحسن وقتادة، بخلاف عنهما. وقد رُوي عن الحسن: "فُرِّغَ"، بضم الفاء، والراء مشددة، وبالغين. وقال أبو عمرو الدوري: بلغني عن عيسى بن عمر أنه كان يقرأ: "حَتَّى إِذَا افْرُنْقِعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ". قال أبو الفتح: المعنى في جميع ذلك [130ظ] حتى إذا كُشِفَ عن قلوبهم. فأما "فُزِعَ"، بالفاء، والزاي خفيفة فمرفوعه حرف الجر وما جره، كقولنا: سِيرَ عن البلد، وَانْصُرِفَ عن كذا إلى كذا، وقد شرحنا نحوًا من ذلك في القصص2. وكذلك "فُرِغَ"، بالفاء، والراء خفيفة، وبالغين. فأما "فَزَّعَ"3 و"فَرَّغَ" ففاعلاهما مضمران: إن شئت كان اسمَ الله تعالى، أي: كشفَ اللهُ عن قلوبهم. وإن شئت كان ما هناك من الحال، أي: فَرَّغَ أو فَزَّعَ حاضر الحال عن قلوبهم، وإضمار الفاعل لدلالة الحال عليه كثير واسع، منه ما حكاه سيبويه من قولهم: إذا كان غدًا فأتني4، وكذلك قول الشاعر: فإنْ كانَ لا يُرضِيكَ حتَّى تَرُدَّنِي ... إلَى قَطَرِيّ لا إخَالُكَ رَاضِيَا5 أي: إن كان لا يرضيك ما جرى، أو ما الحال عليه.
قال أبو حاتم: قال يعقوب: روى أيوب السختياني عن الحسن: "فُرِغَ"، ضم الفاء، وكسر الراء وخففها، وأعجم الغين، فقيل للحسن: إنهم يقولون: "فُرِّغَ"، مثقلة. فقال الحسن: لا، إنها عربية. قال: ولا أظن الثقات رووها عن الحسن على وجوه إلا لصعوبة المعنى عليه. واختلفت ألفاظه، وقال فيها أقوالا1 مختلفة، يعني أبو حاتم اجتماع معنى ف ز ع مع معنى ف ر غ في أن الفزع: قلق ومفارقة للموضع المقلوق عليه، والفراغ: إخلاء الموضع، فهما من حيث ترى ملتقيان. وكذلك معنى "افْرُنْقِعَ"، يقال: افْرَنْقَعَ2 القوم عن الشيء، أي: تفرقوا عنه. ومما يحكى في ذلك أن أبا علقمة النحوي ثار به المُرَارُ3، فاجتمع الناس عليه، فلما أفاق قال: ما لكم قد تكأكأتم على كتكأكئكم4 على ذي جِنّة5؟ افْرَنْقِعُوا عني. قال: فقال بعض الحاضرين: إن شيطانه يتكلم بالهندية. ومن ذلك قراءة سعيد بن جيبر: "بَلْ مَكَرُّ الليلِ والنَّهارِ"6، وهي قراءة أبي رزين7 أيضا. وقرأ: "بَلْ مَكْرٌ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ " قتادة. قال أبو حاتم: وقرأ راشد الذي كان نظر في مصاحف الحجاج: "بَلْ مَكَرَّ"، بالنصب. قال أبو الفتح: أما "المَكَرّ" والكرور، أي: اختلاف الأوقات، فمن رفعه فعلى وجهين: أحدهما: بفعل مضمر دل عليه قوله: {أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ} 8، فقالوا في الجواب: بل صدنا مَكَرُّ الليلِ والنهارِ، أي: كرورهما.
والآخر: أن يكون مرفوعا بالابتداء، أي: مَكَرُّ الليل والنهار صَدَّنا. فإن قيل: أفهذا تراجع1 عن قولهم لهم: {لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} ؟ قيل: لا، ليس بانصراف عن التظلم منهم، وذلك أنه وصله بقوله: {إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ} أي: فكرور الليل والنهار علينا- على إغوائكم إيانا- هو الذي أصارنا إلى النار. وهذا كقول الرجل لصاحبه: أهلكني والله! فيقول وكيف ذلك؟ فيقول: في جوابه: مضى أكثر النهار وأنت تضربني؛ فيفسره بتقضي الزمان على إساءته إليه. فإن شئت جعلت "إذ تأمروننا" متعلقة بنفس الكرور، أي: كرورهما في هذا الوقت وإن شئت جعلته حالا من الكرور، أي: كرورهما كائنا في هذا الوقت؛ فنجعل طرف النهار3 حالا من الحدث، كما تجعله خبرا عنه في نحو قولك: قيامك يومَ الجمعة؛ إذ كانت الحال ضربا من الخبر. ومثله من الحال قولك: عجبت من قيامك بومَ الجمعة، تعلق الظرف بمحذوف، أي من قيامك كائنا في يوم الجمعة. وعلى نحو منه [131و] قراءة قتادة: "بَلْ مَكْرٌ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ"، فالظرف هنا صفة للحدث، أي: مكر كائن في الليل والنهار. وإن شئت علقتهما بنفس "مكر"، كقولك: عجبتُ لَكَ4 من ضربٍ زيدًا، وكقول الله: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} 5. وأما "مَكَرَّ"، بالنصب فعلى الظرف، كقولك: زرتُكَ خفوقَ النجمِ، وصياحَ الدجاجِ وهو معلق بفعل محذوف، أي: صدَدْتُمُونا في هذه الأوقات على هذه الأحوال. فإن قيل: فما معنى دخول "بل" هنا وإنما هو جواب الاستفهام؟ وأنت لا تقول لمن قال لك: أزيدٌ عندك؟: بل هو عندي وإنما تقول: نعم، أولا. قيل: الكلام محمول على معناه، وذلك أن قولهم: {أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ} معناه الإنكار له، والرد عليهم في قول المستضعفين لهم: {لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} ، فكأنهم قالوا لهم في الجواب: ما صددناكم، فردوه ثانيا عليهم، فقالوا: بل صدنا تصرم الزمان علينا وأنتم تأمروننا أن نكفر بالله. وقد كثر عنهم تأول معنى النفي وإن لم يكن6 ظاهرا إلى بادي اللفظ، قال الله تعالى: {قُل
إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} 1، أي: ما حرم إلا الفواحش، وعليه بيت الفرزدق: أنا الدافِعُ الحَامِي الذّمارَ وإنَّما ... يُدَافِعُ عن أحسابهم أنا أو مِثْلِي2 أي: ما يدافع عن أحسابهم إلا أنا. ولذلك عندنا ما3 فصل الضمير، فقال: أنا، وأنت لا تقول: يقوم أنا، ولا نقعد نحن. ولولا ما ذكرنا من إرادة النفي لقبُح الفصل، وأنشدَنا أبو علي: فاذْهَبْ فأيُّ فتًى في الناسِ أحْرَزَهُ ... مِن يَوْمِه ظُلَم دُعجٌ وَلا جَبَلُ4 أي: ما أحد أحرزه هذا من الموت، ونظائره كثيرة. وإن شئت علقت "إذ" يمحذوف، وجعلته خبرا عن "مَكَرَّ"، أي: كرورهما في هذا الوقت الذي تأمروننا فيه أن نكفر بالله، والمعنى في الجميع راجع إلى عصب الذنب5 بهم، ونسب الضلال إليهم. ومن ذلك قراءة أبي حيوة: "مِنْ كُتُبٍ يَدَّرِسُونَهَا"6، بتشديد الدال مفتوحة، وبكسر الراء. قال أبو الفتح: هذا يفتعلون من الدرس، وهو أقوى معنى من "يدرسونها"؛ وذلك أن افتعل لزيادة التاء فيه أقوى معنى من فعل. ألا ترى إلى قول الله تعالى: {أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} 7؟ فهو أبلغ معنى من قادر، وهو أشبه بما تقدمه من ذكر الأخذ والعزة. نعم، وفيه أيضا معنى
الكثرة؛ لأنه في معنى يتدارسونها. وقد ذكرنا فيما مضى قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} 1 وأن "اكْتَسَبَتْ" أقوى من "كَسَبَتْ" وأن أصل ذلك من زيادة معنى فَعَّلَ على معنى فَعَلَ، لتضعيف العين، فاعرفه. ومثل "يَدَّرِسُونَهَا" قولهم: قرأتُ القرآنَ، وَاقْتَرَأْنُهُ قال: نهارُهُم صِيامٌ2 ... وليلُهُم صَلاةٌ وَافْتِرَاءُ ومن ذلك قراءة طلحة بن مصرف: "وَأَخِذٌ مِنْ مَكَانٍ قَرِيب"3، منصوبة الألف، منونة. قال أبو الفتح: لك في رفعه ضربان: إن شئت رفعته بفعل مضمر يدل عليه قوله: {فَلا فَوْتَ} ، أي: وأحاط بهم أخذٌ من مكان قريب. وذكر القرب، لأنه أحجى بتحصيلهم، وإحاطته بهم. وإن شئت رفعته [131ظ] بالابتداء، وخبره محذوف، أي: وهناك أخذ لهم، وإحاطة بهم. ودل على هذا الخبر ما دل على الفعل في القول الأول. ويُسأل من قراءة العامة: {وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} : علام عطف هذا الفعل؟ وينبغي أن يكون معطوفا على قوله تعالى: {فَزِعُوا} وهو بالواو، لأنه لا يراد: ولو ترى وقت فزعهم وأخذهم، وإنما المراد -والله أعلم: ولو ترى إذ فزعوا فلم يفوتوا، وأخذوا. فعطف "أُخِذُوا" على ما فيه الفاء المُعَلِّقة الأول بالآخر على وجه التسبيب له عنه، وإذا كان معطوفا على ما فيه الفاء فكأن فاءً4 فيئول الحديث إلى أنه كأنه قال: ولو ترى إذ فزعوا فأخذوا، هذا إذا كانت فيه فاء، وأما وفيه الواو فلا يحسن عطفه على "فزعوا" بل يكون معطوفا على ما فيه
الفاء. وقال أبو حاتم: لا أعرف الرفع في "أَخْذٌ"، ولا يجوز إلا بالحيل والتفسير البعيد، كذا زعم. ومن ذلك قراءة مجاهد: "وَيُقْذَفُونَ"1، بضم الياء، وفتح الذال. قال أبو الفتح: بيان هذا: وقالوا آمنا به وأنى لهم التَّنَاوُشُ، أي: التناول للإيمان من مكان بعيد، وقد كفروا به من قبل؟ والوقف على قوله: {مِنْ قَبْل} ، أي: من أين لهم تناوله الآن وقد كفروا به من قبل؟ ثم قال سبحانه: {وهم وَيُقْذَفُونَ بِالْغَيْبِ} ، أي يرمون بالغيب؛ تتبُّعًا لهم بقبح أفعالهم، وسوء منقلَبهم.
سورة فاطر
سورة فاطر: بسم الله الرحمن الرحيم قرا الضحاك: "الْحَمْدُ لِلَّهِ فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ"1. قال أبو الفتح: هذا على الثناء على الله "سبحانه"، وذكر النعمة التي استحق بها الحمد. وأفرد ذلك في الجملة التي هي "جعل" بما فيها من الضمير، فكان أذهب في معنى الثناء؛ لأنه2 جملة بعد جملة. وكلما زاد الإسهاب في الثناء أو الذم كان أبلغ فيهما ألا ترى إلى قول خِرنِق3: لا يَبعَدًا قومِي الذين هُمُ ... سمُّ العُدَاة وَآفَةُ الجُزْرِ النازِلِينَ بِكُلِّ مُعْتَرَكٍ ... والطَّيِّبِينَ مَعَاقِدَ الأُزْرِ ويروى: النازلون والطيبون، والنازلين والطيبون، والطيبين والنازلون. والرفع على هُمُ، والنصب على أعني. فكلما اختلفتِ الجملُ كان الكلام أفانينَ وضروبا، فكان أبلغ منه إذا أُلْزِم شرحًا واحدًا. فقولك: أُثْنِي على الله، أعطانا فأغنى، أبلغ من قولك: أُثْنِي على الله، المعطينا والمغنينا؛ لأن معك هنا جملة واحدة، وهناك ثلاث جمل. ويدلك على صحة هذا المعنى قراءة الحسن: "جَاعِلُ الْمَلائِكَةِ"، بالرفع؛ فهذا على قولك: هو جاعل الملائكة، ويشهد به أيضا قراءة خليد بن نشيط: "جَعَلَ الْمَلائِكَةَ". قال أبو عبيدة: إذا طال الكلام خرجوا من الرفع إلى النصب، ومن النصب إلى الرفع. يريد ما نحن عليه؛ لتختلف ضروبه، وتتباين تراكيبه. ومن ذلك قراءة عيسى الثقفي: "سَيْغٌ شَرَابُهُ"4.
قال أبو الفتح: هو محذوف من سَيِّغ: فَيْعِلٍ، بمنزلة مَيْتٍ من مَيِّتٍ، وهَيْنٍ من هَيِّنٍ. وعينه واو، وأصله سَيْوِغ، كمَيْوِت في الأصل. يدل على كون عينه واوا قولهم: هذا أسوغ من هذا، وقولهم: هي أُخته سَوْغَةً، وسَوَّغْتُه، [132و] أي: يَسُوغ لها وتَسُوغ له، أي: يَقْبلها طبعه، ويقبله طبعها. فأما قول الله تعالى: {يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ} 1 فلا دلالة فيه على كون العين واوا2 وذلك لأنه في الأصل يسوغه، كما أن أصل يقيم يقوم، ويستعين يستعون، وهذا واضح وحكاه أبو حاتم عن عيسى: "سيغ"، وقال فيه: بغير ألف مشددة الياء، وهذا واضح. ومن ذلك قراءة طلحة بن مصرف: "وَهَذَا مَلِحٌ أُجَاجٌ"3. قال أبو الفتح: قد تقدم القول على مثله، وأنه في الأصل مَالِح؛ فحذفت ألفه تخفيفا4. ومن ذلك قراءة الزهري: "جَدَدٌ"5، بفتح الجيم والدال، فيما رواه سهل عن الوقاصي عنه. قال أبو الفتح: قال أبو حاتم: لا قراءة فيه غير "جُدَدٍ"، وقال قطرب: قراءة الناس كلهم: "جُدَدٌ"، وقراءة الزهري: "جُدُدٌ" فأما "جُدَد" فجمع جُدَّة، وهي الطريقة يخالف لونها لون ما يليها. قال المتلمس: لَهُ جُدَدٌ سُودٌ كأن أرَنْدَجًا ... بِأَكْرُعه وبالذِّرَاعَيْنِ سُنْدُسُ6
وقال الأعشى: كأنَّ قُطُوعَها بِعُنَيْبِسَاتٍ ... تَعَطَّفَهن ذُو جُدَدٍ فَرِيدُ1 وأما "جُدُدٌ" فجمع جَدِيد، أي: آثار جُدُد غير مُخْلِقَة؛ فهو أصح لها، وأوضح للونها. وأما "جَدَد" فلم يثبته أبو حاتم ولا قطرب. وعلى أن له معنى، وهي الطريق الواضح المسفر فالمعنى نحو من الأول. وقد يجوز في "جُدُد" -وهي جديد- الفتح؛ هربا من التضعيف إلى الفتح. وكذلك جميع ما كان مثله من المضاعف: كسَرِير وسُرُر سُرَر، وجَرِير وجُرُر وجُرَر، وتَلِيل وتُلُل2 وتُلَل، وبِئْر جَرُور وجُرُر وجُرَر وجَرَائِر أيضا. قال: كانتْ مِيَاهِي نُزُعًا قَوَاصِرَا ... وَلَمْ أَكُنْ أُمَارِسُ الْجَرَائِرَا3 وعلى كل حال فللقُرّاء الرواية، وإذا عَضَدها قياس فحسبك به من إينَاس. ومن ذلك قراءة الزهري أيضا: "والدَّوَابِ"، خفيفة. قال أبو الفتح: قد ذكرنا ذلك مشروحا فيما مضى بشواهده4. ومن ذلك قراءة علي عليه السلام: "فِيهَا لَغُوبٌ"5، بفتح اللام. وهي قراءة السُّلَمي. قال أبو الفتح: لك فيه وجهان: إن شئت حملته على ما جاء من المصادر على الفَعُول، نحو: الوَضُوء، والوَلُوغ، والوَقُود.
وإن شئت حملته على أنه صفة لمصدر محذوف، أي: لا يمسنا فيها لُغُوب1 لَغُوب، على قولهم: هذا شِعْرٌ شَاعِرٌ، وموتٌ مائِتٌ، كأنه يصف "اللُّغوب" بأنه قد لَغَبَ، أي أعيا وتعب، وهذا ضرب من المبالغة، كقول الآخر إذا ناقَةٌ شُدَّتْ بِرَحْلٍ وَنُمرُقٍ ... إلى حَكَمٍ بَعْدِي فَضَّلَ ضَلَالُها2 وعليه قالوا: جُنَّ جُنُونُه، وخرجَتْ خَوَارِجُه. ومن طريف ما مر بنا لمولدين في هذا قول شاعرنا3: وَجُبْتُ هَجِيرًا يَتْرُكُ الماءَ صَادِيًا فهذا مع ما فيه من المبالغة حلو وواصل إلى الفكر. وعلى هذا حمل أبو بكر قولهم: توضأتُ وَضُوءًا: أنه وصف لمصدر محذوف، [132ظ] أي: وُضُوءًا وَضُوءًا، كقولك: وُضُوءًا وَضِيئًا، أي: كاملا حَسَنًا. وحكى أبو زيد: رجل ساكُوتٌ بَيّن الساكُوتَة، فلما قرأت هذا الموضع على أبي علي حمله على قياس قول أبي بكر هذا، فقال: تقديره بَيّن السكْتَة الساكُوتَة، فجعل الساكوتة صفة لمصدر محذوف، وحسّن ذلك عندي شيئا أنه من لفظه، فكأن أحدهما صاحبه البتة. وحكى الأصمعي: ليس عليك في ذلك تَضُرَّةٌ4 ولا ضَارُورَة، فَضَارُورَة - على قياس قول أبي بكر- كالسَّاكُوتة، أي: ضرَّةٌ ضَارُورَة. ومن ذلك قراءة الحسن: "لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُون"5، وكذلك الثقفي.
قال أبو الفتح: "يموتون" عطف على "يُقْضَى"، أي: لا يُقْضَى عليهم، ولا يموتون. والمفعول محذوف، أي: لا يُقْضَى عليهم الموت. وحسن حذفه هنا لأنه لو قيل: لا يُقْضَى عليهم الموت فيموتون، كان تكريرا يغني من جميعه بعضه، ولا توكيد أيضا فيه فيحتمل لفظه. وعلى كل حال فقد بينا في كتابنا هذا -وفي غيره- حسن حذف المفعول لدلالة الكلام عليه، وأنه لا يصدر إلا عن فصاحة عذبة. وقراءة العامة في هذا أوضح وأشرح؛ وذلك أن فيه نفي سبب الموت، وهو القضاء عليهم. وإذا حذف السبب فالمسبب أشد انتفاء، ومن هذا قولهم: لم يقم زيد أمس؛ فنفي الماضي بلفظ المستقبل؛ وذلك أن المستقبل أسبق رتبة في النفس من الماضي، فإذا نفي الأصل كان الفرع أشد انتفاء، ونظائره كثيرة، فتأمله. ومن ذلك قراءة ابن مسعود: "وَمَكْرًا سَيئًا"1. قال أبو الفتح: يشهد لتنكيره تنكير ما قبله من قول الله سبحانه: {اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ} ، وقراءة العامة أقوى معنى؛ وذلك أن "المكر" فيها معرفة لإضافته إلى معرفة، أعنى "السَّيِّئ"، فكأنه قال: والمكرَ السَّيِّئ الذي هو عالٍ مستكرَه مستنكَر في النفوس. وعليه قال من بعد: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} ، وأبدل "استكبارا" وما بعده من النكرة قبله، وهي هو من قوله: {مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا} ، وحسن تنكير الاستكبار لأنه أدنى إلى "نفور" مما بعده. وقد يحسن مع القرب فيه ما لا يحسن مع البعد، واعتمد ذلك لقوة معناه بتعريفه، والإخبار عنه بأن مثله لا يخفى، لعظمه وشناعته.
سورة يس
سورة يس: بسم الله الرحمن الرحيم قرأ: "يَاسِينَ والقُرْآنِ "1، بفتح النون ابن أبي إسحاق -بخلاف- والثقفي. وقرأ: "يَاسِينِ "، بكسر النون أبو السمال وابن ابي إسحاق، بخلاف. وهارون عن أبي بكر الهُذَليّ2 عن الكلبي: "يَاسِينُ"، بالرفع. قال: فلقيت الكلبي فسألته، فقال: هي بلغة طيء: يا إنسان. قال أبو الفتح: أما الكسر والفتح جميعا فكلاهما لالتقاء الساكنين؛ لأنه بنى الكلام على الإدراج، لا على وقف حروف المعجم؛ فحُرِّك فيه لذلك. ومَن فتح هرب إلى خفة الفتحة لأجل ثقل الياء قبلها والكسرة. ومن كسر جاء به على أصل حركة التقاء الساكنين. ونظيره قولهم: جَيْرِ3، وهَيْتِ4 لك، وإيهِ وسيبويه [133و] وعَمْرَوَيْهِ، وبابهما. ومَن ضم احتمل أمرين: أحدهما أن يكون أيضا لالتقاء الساكنين5، كحَوْبُ6 في الزجر، ونحن، وهَيْتُ لك. والآخر أن يكون على ما ذهب إليه الكلبيّ، ورُوّينا فيه عن قطرب: فَيَا لَيْتَنِي من بعدِ فَاطا وأهلِهَا ... هلكْتُ ولم أسمَعْ بِها صوتَ إيسانِ7
ورواه أيضا: من بعد ما طاف أهلها، وقال: معناه صوت إنسان. ويحتمل ذلك عندي وجها آخر ثالثا، وهو أن يكون أراد يا إنسان، إلا أنه اكتفى من جميع الاسم بالسين، فقال: ياسين، "فيا" فيه الآن حرف نداء، كقولك: يا رجل. ونظير حذف بعض الاسم قول النبي صلى الله عليه وسلم: كفى "بالسيف شا"، أي: شاهدا، فحذف العين واللام. وكذلك حذف من إنسان الفاء والعين، غير أنه جعل ما بقي منه اسما قائما برأسه، وهو السين، فقيل: ياسين، كقولك: لو قست عليه في نداء زيد: يا دال. ويؤكد ذلك1 ما ذهب إليه ابن عباس في "حم عسق" ونحوه أنها حروف من جملة أسماء الله "عز وجل"، وهي: رحيم، وعليم، وسميع، وقدير. ونحو ذلك. وشبيه به قوله: قُلْنا لها قِفِي لَنا قالَتْ قَافْ2 أي: وقفَتْ، فاكتفت بالحرف منه الكلمة. ومن ذلك قراءة ابن عباس وعكرمة وابن يعمَرَ ويزيد البربري وعمر بن عبد العزيز ويزيد بن المهلب والنخعي وابن سيرين، بخلاف: "فَأَعْشَيْنَاهُمْ"3. قال أبو الفتح: هذا منقول من عَشِيَ يَعْشَى: إذا ضعف بصره فَعَشِيَ وأعشَيْتُه، كعَمِيَ وأعْمَيْتُه. وأما قراءة العامة: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ} فهو على حذف المضاف، أي: فأغشيْنا أبصارَهُم: فجعلنا عليها غِشاوَة. وينبغي أن يعلم أن غ ش ي يلتقي معناها مع غ ش و؛ وذلك أن الغشاوة على العين كالغشي على القلب، كل منهما يركب صاحبه ويتجلله، غير أنهم خصوا ما على العين بالواو، وما على
القلب بالياء؛ من حيث كانت الواو أقوى لفظا من الياء، وما يبدو للناظر من الغشاوة على العين أبدى للحس مما يخامر القلب؛ لأن ذلك غائب عن العين، وإنما استدل عليه بشواهده لا بشاهده ومعاينه. ولهذا في هذه اللغة من النظائر ما لو أودع كتابا لكبر حجما، وكثر وزنا. ومحصول الحال واسع وكثير، لكن المحصل له نزر قليل، وحسبنا الله ونعم الوكيل. ومن ذلك قراءة ابن محيصن والزهري: "أَنْذَرْتَهُمْ"1، بهمزة واحدة على الخبر. قال أبو الفتح: الذي ينبغي أن يعتقد في هذا أن يكون أراد همزة الاستفهام كقراءة العامة: {أَأَنْذَرْتَهُمْ} ، إلا أنه حذف الهمزة تخفيفا وهو يريدها، كما قال الكميت: طَرِبْتُ وما شَوقًا إلى البِيضِ أَطْرَبُ ... ولا لَعِبًا مِنِي وذُو الشَّيبِ يَلْعَبُ2 قالوا: معناه: أو ذو الشيب يلعب؟ تناكُرًا لذلك، وتعجُّبًا. وكبيتِ الكتاب: [133ظ] لعمْرُكَ ما أدْرِي وإن كنْتُ دارِيًا ... شُعيْثُ ابنُ سَهْمٍ أمْ شُعيْثُ ابنُ مِنْقَرِ2 يريد: أشعيث ابن سهم أم شعيث ابن منقر؟ ويدل على إرادة هذه القراءة الهمزة وأنها إنما حذفت لما ذكرنا بقاء "أم" بعدها، ولو أراد الخبر لقال: أولم تنذرهم. فإن قيل: تكون "أم" هذه منقطعة، كقولهم: إنها لإبِل أمْ شَاءٌ3، قيل: إذا قدرت ذلك بقي قوله تعالى: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِم} منقطعا لا ثاني له، وأقل ما يكون خبر سواء اثنان. فقد علمت4 بهذا أن قول ابن مجاهد على الخبر لا وجه له، اللهم إلا أن يُتحمَّل له، فيقال: أراد بلفظ الخبر وفيه من الصنعة ما تراه. ومن ذلك قراءة الماجشون: "أنْ ذُكِّرْتُمْ"5، بهمزة واحدة مفتوحة مقصورة، ولا ياء بعدها وقرأ: "أَيْنَ" بهمزة بعدها ياء ساكنة، والنون مفتوحة "ذُكِرْتُمْ"، مضمومة الذال، خفيفة الكاف الأعمش وأبو جعفر يزيد.
قال أبو الفتح: أما "أَنْ ذُكِّرْتُم" فمنصوبة الموضع بقوله سبحانه: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} ، وذلك أنهم لما قالوا لهم: {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} ، أي: تشاءمنا، قالوا لهم جوابًا عن ذلك: بل {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} ، أي: بل شؤمكم معكم1 "أَنْ ذُكِّرْتُم"، أي: هو معكم لِأَنْ ذُكِّرْتُمْ، فلم تذكروا، ولم تنتهوا. فاكتفى بالسبب الذي هو التذكير من المسبب الذي هو الانتهاء، على ما قدمناه من إقامتهم كل واحد من المسبب والسبب مقام صاحبه. ووضعوا الطائر أيضا موضع مسببه وهو التَّشَؤمُ2، لما كانوا يألفونه من تكارههم نعيقَ الغراب أو بُرُوحَه3 ونحو ذلك. ومَن رأى أنّ "أنْ" قد حُذِفَ الجارُّ عن لفظها وإرادتِه فيها مجرورةً رأى ذٍلك هنا فيها، وهو الخليل. وأما "أَيْنَ ذُكِرْتُمْ" فمعناه أين حَلَلْتُم، وكنتم، ووُجِدْتم؛ فَذُكِرْتُم. فاكتفى بالمسبب الذي هو الذكر من السبب الذي هو الوجود، و"أَين" هنا شرط وجوابها محذوف لدلالة {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} عليه، فكأنه قال: أَيْن ذُكِرْتُم، أو أين وجدتم شؤمكم معكم. وهذا كقولك: سَيفُك معك أين حَلَلْت، وجُودك معك متى4 سئلت كنت جوادا، وكقولك: أنت ظالم إن فعلت، أي: إن فعلت ظلمت. ولا يجوز الوقوف في هاتين القراءتين على "معكم" لاتصال "أنْ" و"أين" بها، لكن على5 قراءة من قرأ بالاستفهام: "أئِنْ ذُكِّرْتُم"؟ لأن الاستفهام يقطع ما قبله عما بعده؛ لأن له صدر الكلام؛ فكأنه قال: بل طائركم معكم ردًّا عليهم، ثم استأنف مستفهمًا، وهو يريد الإنكار. ومن ذلك قراءة أبي جعفر ومعاذ بن الحارث: "إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةٌ وَاحِدَةٌ"6. وقرأ ابن مسعود وعبد الرحمن بن الأسود: "إلا زَفْيَةً". قال أبو الفتح: في الرفع ضعف؛ لتأنيث الفعل، وهو قوله: "كانت". ولا يقوى أن تقول: ما قامت إلا هند، وإنما المختار من ذلك: ما قام إلا هند؛ وذلك أن الكلام
محمول على معناه، أي: ما قام أحد إلا هند. فلما كان هذا هو المراد المعتمد -ذكر [134و] لفظ الفعل، إرادة له، وإيذانا به. ثم إنه لما كان محصول الكلام: قد كانت صيحة واحدة جيء بالتأنيث؛ إخلادًا إليه، وحملا لظاهر اللفظ عليه. ومثله قراءة الحسن: "فَأَصْبَحُوا لا تُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ"1 بالتاء في "ترى". وعليه قول ذو الرمة. بَرَى النَّحْزُ والْأَجْرال ما في غُرُوضِها ... فما بقيتْ إلا الصدُورُ الجراشع2 وأقوى الإعرابين: فما بقي إلا الصدور؛ لأن المراد ما بقي شيء منها إلا الصدور، على ما مضى. وأما "زَقْيَةً" فيقال: زَقَا الطائر يَزْقُو ويَزِقِي زُقُوًّا وزُقِيًّا وزُقاء: إذا صاح، وهي الزَّقْوة والزَّقْية. وأما أبو حاتم فصرّف الفعل على الواو، فلم ير للياء فيه تصريفا، وقال: أصلها "زقوة"، إلا أن الواو أبدلت للتخفيف ياء، وشبهه بقولهم: أرض مَسْنِيَّةٌ3، وإنما هو مَسْنُوَّةٌ، وقوله: أنا الليْثُ مَعْدِيًّا عليَّ وعادِيًا4 أي: مَعْدُوًّا عليه، وأثبت أبو العباس أحمد بن يحيى الياء في "زَقْية" أصلا، وأنشدوا قوله: وتَرَى المُكَّاء فِيهِ ساقِطا ... لَثِق الرِّيشِ إذَا زَفَّ زفى5
وكأنه إنما استعمل هنا صياح الطائر: الديك ونحوه؛ تنبيها على أن البعث -بما فيه من عظيم القدرة وإعادة ما استرم1 من إحكام الصنعة وإنشار الموتى من القبور- سهل على الله "سبحانه"، كزَقْيَةٍ زَقَاها طائرٌ. فهذا نحو من قوله: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} 2، ونحو ذلك من الآي التي تدل على عظيم القدرة، جل الله جلالا، وعلا علوا كبيرا. وأنشد الفراء مستشهدا به على صحة الياء قوله: تَلِدُ غُلامًا عارِمًا يُودِيكَ ... ولَو زَقَيْتِ كَزُقَاءِ الدِّيكِ3 وقال: يُقال: زَقَوْتَ وزَقَيْتَ. ومن ذلك قراءة الأعرج ومسلم بن جندب وأبي الزناد: "يَا حَسْرَهْ"4، ساكنة الهاء، "عَلَى الْعِبَادِ". وقرأ: "يَا حَسْرَةَ الْعِبَادِ" -مضافًا- ابن عباس والضحاك وعلى بن حسين ومجاهد وأبي ابن كعب. قال أبو الفتح5: أما "يَا حَسْرَهْ"، بالهاء ساكنة ففيه النظر. وذلك أن قوله: {عَلَى الْعِبَادِ} متعلق بها، أو صفة لها. وكلاهما لا يحسن الوقوف عليها دونه، ووجه ذلك عندي ما أذكره. وذلك أن العرب إذا أخبرت6 عن الشيء -غير مُعْتَمِدَتٍهٍ ولا مُعْتَزِمَةٍ عليه- أسرعت فيه، ولم تتأن على اللفظ. المعبر به عنه. وذلك كقوله: قُلْنَا لَها قِفِي لَنا قالَتْ قَافْ7 معناه: وقفْتُ، فاقتصَرَتْ من جملة الكلمة على حرف منها؛ تهاوُنًا بالحالِ، وتثاقُلًا على الإجابة، واعتماد المقال. ويكفي في ذلك قول الله سبحانه: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ
فِي أَيْمَانِكُمْ} 1. قالوا في تفسيره: هو كقولك: لا والله، وبلى والله. فأين سرعة اللفظ بذكر اسم الله تعالى هنا من التثبت فيه، والإشباع له، والمماطلة عليه من قول الهذلي: فَوَاللهِ لا أَنْسَى قَتِيلا رُزِئْتُهُ ... بِجَانِبِ قُوسَى مَا مَشَيْتُ علَى الأرْضِ2؟ أفلا ترى إلى تَطَعُّمِكَ3 هذه اللفظة في النطق هنا4 بها، وتَمَطِّيكَ لإشباع معنى القسم [134ظ] عليها؟ وكذلك أيضا قد ترى إلى إطالة الصوت بقوله من بعده: بَلَى إنَّها تَعْفُو الكُلُومُ وإنما ... نُوكَّلُ بِالأَدْنَى وإنْ جَلَّ مَا يَمْضِي5 أفلا تراهُ -لما أكذب نفسه، وتدارك ما كان أفرط في اللفظ- أطال الإقامة على قوله: بلى؛ رجوعا إلى الحق عنده، وانتكاثًا عما كان عقد عليه يمينه؟ فأين قوله هنا: "فوالله"، وقوله: بلى، منهما في قوله: لا والله، وبلى والله؟ وعليه قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} 6، أي: وكَّدتموها، وحققتموها وإذا أوليت هذا أدنى تأمل عرفت منه وبه ما نحن بسبيله وعلى سمته، وعلى هذا قال سيبويه: إنهم يقولون: سِيرَ عليه لَيْلٌ، يريدون: ليلٌ طويلٌ. وهذا إنما يفهم عنهم بتطويل الياء، فيقولون: سِيرَ عليه ليلٌ7، فقامت المدة مقام الصفة. ومن ذلك ما تستعمله العرب من إشباع مدات التأسيس والردف والوصل والخروج عناية بالقافية، إذ كانت للشعر نظاما، وللبيت اختتاما. أخبرنا أبو أحمد الطبراني عن شيخ له ذكره عن البحتري، قال: سمعت ابن الأعرابي يقول: استجيدوا القوافي، فإنها حوافر الشعر. وقال لي الشجري في بعض كلامه: القافية
رأس البيت، وهذا ليس نقضا للأول، وإنما غرضه فيه أنها أشرف ما فيه، كما أن حوافر الفرس هي أوثق ما فيه، وبها نهوضه، وعليها اعتماده. ولقد تغنّى يوما خفير لنا بشعر مؤسس نحو قوله: ألا عَلِّلانِي قَبْلَ لَوْمِ العَوَاذِلِ فلَعهدي به وهو يمطُل الألف حتى يَخْطُوَ به فرسُه الخطوة والعشرين، ولولا ظاهر ما في القولِ لقلْتُ الأكثر. فإذا تجاوز الألف أسرع عند الدخيل، فاختلس الذال والروي بعدها. وكان أيضا يمده بتقبُّل صدى صوته مع تماديه واغتراق أقصى النفَسِ فيه ما كان يعطيه إياه نقل الفرس به؛ فإن ذلك كان يهزُّ الألف، ويصنعها، ويزيل تحيَّرها والساذَجِيَّة المملولة عنها. وعلى ذكر طول الأصوات وقصرها لقوة المعاني المعبر بها عنها وضعفها ما يحكى أن رجلا ضرب ابنا له، فقالت له أمه: لا تضربه، ليس هو ابنك؛ فرافعها إلى القاضي فقال: هذا ابني عندي، وهذه أمه تذكر أنه ليس مني. فقالت المرأة: ليس الأمر على ما ذكره، وإنما أخذ يضرب ابنه فقلت له: لا تضربه ليس هو ابنك، ومدت فتحة النون جدا، فقال الرجل: والله ما كان فيه هذا الطويل1 الطويل، والأمر يذكر للأمر على تقاربهما، أو تفاوتهما إذا كان ذلك للغرض مُوَضِحًا، وإليه بطالبه مُفْضِيًا. وقد قال: وَعِنْدَ سَعِيدٍ غَيْرَ أنْ لَمْ أَبُحْ بِهِ ... ذَكَرْتُكِ إنَّ الأمرَ يُذْكَرُ لِلْأَمْرِ2 وإذا3 كان جميع ما أوردناه ونحوه مما استطلناه فحذفناه يدل أن الأصوات تابعة للمعاني -فمتى قويت قويت، ومتى ضعفت ضعفت. ويكفيك من ذلك قولهم: قَطَعَ وقَطَّعَ، وكَسَرَ وكَسَّرَ. زادوا في الصوت لزيادة المعنى، واقتصدوا فيه لاقتصادهم فيه- علمت أن قراءة من قرأ: "يَا حَسْرَهْ عَلَى الْعِبَادِ"، بالهاء ساكنة إنما هو [135و] لتقوية المعنى في النفس، وذلك أنه في موضع وعظ. وتنبيه، وإيقاظ وتحذير، فطال الوقوف على الهاء كما يفعله المستعظم للأمر، المتعجب4 منه، الدال على أنه قد بهره، وملك عليه لفظه وخاطره. ثم قال من بعد: "على العباد"، عاذرا نفسه في الوقوف على الموصول دون صلته لما كان فيه، ودالَّا للسامع
على أنه إنما تجشم ذلك -على حاجة الموصول إلى صلته وضعف الإعراب وتحجره على جملته- ليفيد السامع منه ذهابَ الصورة بالناطق. ولا يَجْفُ ذلك عليك على ما به من ظاهر انتقاض صنعته؛ فإن العرب قد تحمل على ألفاظها لمعانيها حتى تفسد الإعراب لصحة المعنى. ألا ترى إلى أن أقوى اللغتين - وهي الحجازية في الاستفهام عن الأعلام نحو قولهم فيمن قال: مررت بزيدٍ: من زَيْدٍ؟ فالجر حكاية لجر المسئول عنه، فهذا مما احتُمل فيه إضعاف الإعراب لتقوية المعنى. ألا ترى أنه لو ركب اللغة التميمية طلبا لإصابة الإعراب فقال: مَنْ زَيْدُ؟ لم يَضِحْ من ظاهر اللفظ أنه إنما يسأل عن زيد هذا المذكور آنفا ولم يؤمن أن يُظن به أنه إنما ارتجل سؤالا عن زيد آخر مستأنفا؟ ومن الحمل على اللفظ للمعنى قوله: يا بُؤْسَ لِلْجَهْلِ ضَرَّارًا لأقْوَام1 فتجشَّم الفصل بين المضاف والمضاف إليه بلام الجر؛ لما يعقبه من توكيد معنى الإضافة، فهذا ونظائره يؤكد أن المعاني تتلعّب بالألفاظ، تارة كذا، وأخرى كذا. وفيه بيان لما مضى. وقد يجوز غير هذا كله، وهو أن يكون "حسرة" غير متعلقة بـ"على"، فيحسن الوقوف عليها, ثم تُعَلَّق "على" بمضمر، وتدل عليه "حسرة" حتى كأنه قال: أتحسَّر على العباد. وهذا في القرآن ما لا أحصيه لكثرته. وأما "يا حسرةَ العِبادِ" مضافا فإن لك فيه ضربين من التأويل: إن شئت كان "العباد" فاعلين في المعنى، كقولك: يا قيام زيد ويا جلوس عمرو أي: كأن العباد إذا شاهدوا العذاب تحسروا. وإن شئت كان "العباد" مفعولين في المعنى، وشاهده للقراءة الظاهرة: "يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ"، أي: يتحسر عليهم مَنْ يعنيه أمْرُهُم ويهمُه ما يمسهم، وهذا ظاهر.
ومن ذلك قراءة ابن مسعود وابن عباس وعكرمة وعطاء بن أبي رياح1 وأبي جعفر محمد بن علي وأبي عبد الله جعفر بن محمد وعلي بن حسين: "وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِا مُسْتَقَرَّ لَهَا"2، بنصب الراء. قال أبو الفتح: ظاهر هذا الموضع ظاهر العموم، ومعناه معنى الخصوص؛ وذلك أن "لا" هذه النافية الناصبة للنكرة لا تدخل إلا نفيا عاما؛ وذلك أنها جواب سؤال عام، فقولك: لا رجل عندك. جواب هل من رجل عندك؟ فكما أن قولك: هل من رجل عندك، سؤال عام، أي: هل عندك قليل أو كثير من الجنس الذي يقال لواحده رجل؟ فكذلك ظاهر قوله: "لِا مُسْتَقَرَّ لَهَا" نفي أن تستقر أبدا، ونحن نعلم أن السموات إذا زُلْنَ بطل سير الشمس أصلا، فاستقرت مما كانت عليه من السير. ونعوذ بالله أن نقول: إن حركتها دائمة كما يذهب مُحَبَّنُو3 الملحدة، فهذا إذًا -في لفظ العموم بمعنى الخصوص- بمنزلة قوله: أَبْكِي لفَقْدِكَ ما ناحَتْ مُطوَّقةً ... وما سما فَنَنٌ يومًا عَلَى ساقِ4 ونحن نعلم أن أقصى الأعمار الآن إنما هو مائة سنة ونحوُها، أي: لو عشت أبدا بكيتك. فكذلك "لِا مُسْتَقَرَّ لَهَا" ما دامت السموات على ما هي عليه. [135ظ] وقد تقدم ذكرنا باب المجاز في كتابنا الخصائص5، وأنه أضعاف الحقيقة قولا واحدا. ومن ذلك قراءة قتادة: "وَنُفِخَ فِي الصُّوَر"6. قال أبو الفتح: قد سبق القول على ذلك فيما مضى بشواهده7.
ومن ذلك قراءة علي بن أبي طالب "عليه السلام": "مِنْ بَعْثِنَا"1. قال أبو الفتح: أي: يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا، كقولك: يا ويلي مِن أخْذِكَ مني مالي، فـ "مِنْ" الأولى متعلقة بالويل، كقولك: يا تَأَلُّمِي منك. وإن شئت كانت حالا من "وَيْلَنَا"؛ فتعلقت بمحذوف، حتى كأنه قال: يا ويلنا كائنا من بَعْثِنا. وجاز أن يكون حالا منه، كما يجوز أن يكون خبرا عنه، كقول الأعشى: وَيْلِي عَلَيْكَ وَوَيْلِي مِنكَ يا رَجُل2 وذلك أن الحال ضرب من الخبر. وأما "من" في قوله تعالى: {مِنْ مَرْقَدِنَا} فإنها متعلقة بنفس البعث، كقولك: سرني بعثك من بلدك إليّ. ومن ذلك قراءة ابن أبي ليلى: "يَا وَيْلَتَا"1، بزيادة تاء. قال أبو الفتح: هو تأنيث الويل، فويلة كقولة، ومثله: {يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ} 3، وأصلها: يا ويلتي، فأبدلت الياء ألفا؛ لأنه نداء، فهو في موضع تخفيف، فتارة تحذف هذه الياء كقولك: يا غلامِ، وأخرى بالبدل كقولك: يا غلامَا. قال: يا أبَتَا عَلّك أو عساكا4 قإن قلت: فكيف قال: "يَا وَيْلَتَا"، وهذا لفظ الواحد وهم جماعة، ألا ترى أن
بعده {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} ؟ قيل: يكون على أن كل واحد منهم قال: "يَا وَيْلَتَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا"، كما يقول الرجل: صبرا على ما حكم الله به علينا، ورضيت بما قسم الله لنا، ونحوٌ منه قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} 1، أي: اجلدوا كل واحد منهم. ومثله ما حكاه أبو زيد من قولهم: أتينا الأمير فكسانا كلنا حلّة، وأعطانا كلنا مائة، أي: كسا كل واحد منا حلة، وأعطى كل واحد منا مائة. ومن ذلك قراءة أبي بن كعب: " منْ هَبَّنَا مِنْ مَرْقَدِنَا"2، يعني أصحاب القبور. قال أبو الفتح: قد أثبت أبو حاتم عن ابن مسعود: "مَنْ أهَبَّنَا"، بالهمزة. وهي أقيس القراءتين. يقال: هَبَّ من نومه، أي: انتبه وأَهْبَبْتُهُ أنا، أي: أنبهته. قال: أَلَا أَيُّها النُّوَامُ وَيْحَكُمُ هُبُّوا ... أُسَائِلُكُمْ: هَلْ يَقْتُلُ الرَّجُلَ الحُبُّ3 فأما "هبَنَّي" أي: أيقظني فلم أر لها في اللغة أصلا، ولعلها لغة قليلة، ولا مَرَّ بنا مَهْبُوب، بمعنى مُوقَظ. وهي -مع حسن الظن بِأُبَيّ- مقبولة. وقد أثبتها أبو حاتم أيضا، اللهم إلا أن يكون حرف الجر معها محذوفا، أي: وهب بنا، بمعنى أيقظنا، ثم حُذف حرف الجر، فوصل الفعل بنفسه. وليس المعنى على من هَبَّ فَهَبَبْنَا معه كقولك: انتبَهَ وأَنْبَهَنا4 معه، وإنما معناه من أيقظنا. ألا ترى إلى قول الله "سبحانه" {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِم} 5 ليس معناه "تعالى" أنه ذهب وذهب بنورهم معه؟ هذا مدفوع عن الله تعالى، وإنما معناه: أَذْهَبَ نُورَهُمْ، فذَهَبَ بِهِ كأَذْهَبَهُ، أي أزاله وأنفده6، فاعرف ذلك. ومن ذلك قراءة محمد بن كعب القُرَظيّ: "وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ سِلْمٌ قَوْلًا"7.
وقرأ عيسى الثقفي: "سَلامًا قَوْلًا" نصبا جميعا. قال أبو الفتح: أما الرفع فعلى أوجه: أحدها أن يكون مقطوعا مستأنفا، كأنه لما قال: {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} قال: "سِلْمٌ" [136و] أي: ذاك "سِلْمٌ"، أي: ثابت لا نزاع فيه ولا ضيم ولا اعتراض، بل هو سِلْمٌ لهم. ووجه ثان: أن يكون على: ما يدعون سِلْمٌ لهم، أي: مسلَّمٌ لهم، فـ"لهم" على هذا متعلق بنفس "سِلْمٌ"، وليس بمصدر، بل هو بمعنى اسم الفاعل أو المفعول، وإنما على مُسَالِم لهم، أو على مسلَّم لهم. ولم يجز بمعنى المصدر؛ لأنه كان يكون في صلته، ومحال تقدم الصلة أو شيء منها على الموصول. ووجه ثالث، وهو أن يكون: "لهم" خبرا عن: "ما يدعّون" و"سِلْم" بدل منه. 2ووجه رابع، وهو أن يكون "لهم" خبرا عن "ما يدعّون" و"سِلْمٌ" خبر آخر، كقولنا: زيد جالس متحدث، كما جاز أن يكون بدلا من "لهم" فكذلك يجوز أن يكون خبرا معه آخر. فإن قلت: فإذا كان لهم سلم لا حرب لهم فما فيه من الفائدة؟ قيل: قد يكون الشيء لك لكن على خلاج1 وبعد شواجر الخلاف، وذلك كالشيء المتناهَب، فقد يحصل لأحد الفريقين، لكن على أغراض من النزاع باقية فيه، ولم يَصْفُ صفاء ما لا تعلق للمتبِع به، فمعلوم أن هذه الثوابت لأربابها لا تتساوى أحوالها في انحسار الشُّبَه والزخارف عنها. ونَصب "قولا" على المصدر، أي: قال الله ذلك قولا أو يقال ذلك قولا. ودل على الفعل المحذوف لفظ مصدره، وأن القرآن إنما هو أقوال متابِعة. وأما "سلامًا" بالنصب فحال مما قبله، أي: ذلك لهم مسلَّما، أو مُسالِما، أي: ذا سلام وسلامة. ونصب "قولا" على المصدر كما مضى.
ومن ذلك قراءة الحسن وعبد الله بن عبيد بن عمير1 وابن أبي إسحاق والزهري والأعرج وحفص بن حميد: "جُبُلًّا"2، بضم الجيم والباء، واللام مشددة. وقرأ: "جِبْلًا"، مكسورة الجيم، ساكنة الباء الأشهب العقيلي. قال أبو الفتح: قد تقدم ذكر هذا3 الحرف بما فيه. ومن ذلك قراءة طلحة -رواه عبد الرحمن بن محمد بن طلحة عن أبيه عن جده: "نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَلِتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَلِتَشْهَدَ أَرْجُلُهُمْ"4. قال أبو الفتح: الكلام محمول على محذوف، أي: نختم على أفواههم وَلِتُكَلِّمُنَا أيديهم ولتشهَدَ أرجلُهم بما كانوا يكسبون ما نختم على أفواههم، كقولك: أحسنت إليك ولشكرك ما أحسنت إليك، وأنلتك سؤالك ولمسألتك ما أنلتك سؤلك، كما قال: أَحْبَبْتُها وَلِحَيْنِي كانَ حُبِّيها ... هَلْ أنتَ يا سعْدُ يومًا مَا مُلاقِيها؟ ومن ذهب إلى زيادة الواو نحو قول الله "سبحانه": {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} جاز أن يذهب إلى مثل ذلك في هذا الموضع، فكأنه اليوم نختم على أفواههم لِتُكَلِّمُنَا أيديهم. فأما الواو في قوله "تعالى": "ولِتَشْهَدَ" فعطف على ما قبلها، وهو "لِتُكَلِّمَنَا"، وعلى أن زيادة الواو لا يعرفها البصريون، وإنما هو للكوفيين خاصة. ومن ذلك قراءة الحسن والأعمش: "رُكُوبُهُم "5، برفع الراء وقرأ: [136ظ] "رَكُوبَتُهُمْ" عائشة وأبي بن كعب. قال أبو الفتح: أما الرُّكوب، بضم الراء فمصدر، والكلام محمول على حذف المضاف مقدما أو مؤخرا.
فإن شئت كان التقدير فيها ذو رُكُوبهم، وذو الرُّكوب هنا هو المركوب، فيرجع المعنى بعد إلى معنى قراءة من قرأ: "رَكُوبهم" بفتح الراء، و"رَكُوبَتُهُمْ". وإن شئت كان التقدير فمن منافعها أو من أغراضها رُكوبهم، كما تقول لصاحبك: من منافعك إعطاؤك لي، ومن بركاتك وصول الخير إليّ على يدك. ومثله في تقدير حذف المضاف من جهتين أيَّ الجهتين شئت قول الله "سبحانه": {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} 1 ، إن شئت كان على تقدير: ولكنّ البِرَّ بِرُّ من اتقى، وإن شئت كان تقديره: ولكنّ ذا البِرِّمن اتقى. والتقدير الأول في هذا أجود عندنا؛ وذلك أن تقديره حذف المضاف من الخبر، أعني: برُّ من اتقى، والخبر أولى بذلك من المبتدأ؛ وذلك أن حذف المضاف ضرب من التوسع. والتوسعُ آخرُ الكلام أولى به من أوله، كما أن الحذف والبدل كلما تأخر2 كان أمثل؛ من حيث كانت الصدور أولى بالحقائق من الأعجاز وهذا واضح، ولذلك اعتمده عندنا صاحب الكتاب فحمله على أن التقدير: ولكنّ البِرَّ بِرُّ من اتقى3. وأجاز أبو العباس أن يكون الحذف من الأول على ما مضى، وهو لعمري جائز، إلا أن الوجه ما قدمنا ذكره، لكن الحذفين في قوله: "فَمِنْهَا رَكُوبُهُم" -على ما قدمنا- متساويان، وذلك إن قدرته على أنه: فمن منافعها رُكُوبُهُمْ فإنما حذفت من الخبر؛ لأن تقديره: فَرُكُوبُهُمْ منها، فهو -وإن كان مقدما في اللفظ- مؤخر في المعنى. وإن قدرته على معنى: فمنها ذو رُكُوبُهُمْ، فَحَسَنٌ أيضا، وإن كان مقدما في المعنى فإنه مؤخر في اللفظ، فاعرف ذلك. وأما "رَكُوبَتُهُمْ" فهي المركوبة: كالقَتُوبَة4"، والجَزُوزَة، والحَلُوبَة، أي: ما يُقْتَبُ، ويُجَزُّ، ويُحْلَبُ. وقد أشبعنا هذا الموضع في كتابنا المعروف بالخطيب، وهو شرح كتاب المذكر والمؤنث ليعقوب بن السكيت. ومن ذلك قراءة طلحة وإبراهيم التيمي الأعمش: "مَلَكَةُ كُلِّ شَيْءٍ"5.
قال أبو الفتح: معناه -والله أعلم- سبحان الذي بيده عصمة كل شيء وقدرة كل شيء، وهو من مَلَكْتُ العجينَ: إذا أَجَدْت عجنه، فقويتَهُ بذلك. ومنه المِلْكُ؛ لأنه القدرة على المملوك، ومنه المُلْكُ؛ لأن به قِوَام الأمور. والمَلَكُوت فَعَلُوت منه، زادوا الواو والتاء للمبالغة بزيادة اللفظ، وهذا1 لا يطلق الملكوت إلا على الأمر الأعظم. ألا تراك تقول: مِلْك البزاز والعطار والحناط، ولا تقول الملكوت في شيء من ذلك؟ ونظيره الجَبَرُوت، والرَّغَبُوت2، الرَّهَبُوت3، ومنه عندنا الطاغُوت، هو فَعَلُوت من الطغيان، إلا أنه قُلِب وأصلُه طَغَيُوت، فَقُدِّمت اللام على العين، فصارت طَيَغُوت، ثم قلبتِ الياء لوقوعها متحركة بين متحركين فصار [137و] طاغُوت، وقد تقصينا ذلك في كتابنا الموسوم بالمنصف4.
سورة الصافات
سورة الصافات: بسم الله الرحمن الرحيم قرأ: "مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دَحُورًا"1. السلمي. قال أبو الفتح: في فتح هذه الدال وجهان: إن شئت على ما جاء من المصادر على فَعُول -بفتح الفاء- على ما فيه من خلاف أبي بكر فيه، وقد بيناه فيما مضى من هذا الكتاب2 وغيره. وإن شئت: أراد وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ بِدَاحِرٍ، أو بِما يَدْحَرُ، وهذا كأنه الثاني من الوجهين، لما فيه من حذف حرف الجر وإرادته. وأكثر ما يأتي في الشعر، كما قال: نُغَالِي اللَّحْمَ لِلأضْيافِ نِيئًا ... ونُرْخِصُه إذا نَضِجَ القَدِيرُ3 أي: باللحم، ومثله {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ} 4 أي: أعلم به، فيمن قدر ذلك. ومن ذلك قراءة ابن عباس وأبي سراج وابن أبي عمار عبد الرحمن -ويقال عمار بن أبي عمار- وأبي عمرو - بخلاف- وابن محيصن: "هَلْ أَنْتُمْ مُطْلِعُونَ فَأُطْلِعَ"5. قال أبو الفتح: يقال طَلَع: إذا بدا، وأطْلَعَ: أقْبَلَ. فهو على هذا: هل أنتم مقبلون.
فأقبل؟ فالفعل إذًا الذي هو "فَأُطْلِعَ" مسند إلى مصدره، أي: فَأُطْلِعَ الإطلاعُ، كقولك: قد قِيمَ، أي: قِيمَ القيامُ، وقد قُعِدَ، أي: قُعِدَ القعود. قال أبو الفتح: قال أبو حاتم: لا يجوز إلا فتح النون من "مطلعونَ"، مشددة الطاء كانت، أو مخففة. قال: وقد شكلها بعض الجهال بالحضرة مكسورة النون1، قال: وهذا خطأ. لو كان كذلك لكان مُطْلِعِيِّ، تقلب واو مُطْلِعُون ياء، يعني لوقوع ياء المتكلم بعدها، والأمر على ما ذهب إليه أبو حاتم، إلا أن يكون على لغة ضعيفة، وهو أن يُجري اسم الفاعل مجرى الفعل المضارع؛ لقربه منه، فيُجْرَى "مُطْلِعُونِ" مجرى يُطْلِعُونِ. وعليه قال بعضهم: أَرَيْتَ إنْ جِئْتُ بِهِ أُمْلُودَا ... مُرَجَّلا وَيَلْبَسُ البُرُودَا أَقَائِلُنَّ أَحْضِرِ الشِّهُودَا2 فوكد اسم الفاعل بالنون، وإنما بابها الفعل، كقول الله "تعالى": {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} 3، وقوله "تعالى": {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} 4، ونحو ذلك. ومنه قول الآخر: وما أدْرِي وَظَنِّي كُلّ ظَنٍّ ... أَمُسْلِمُنِي إلَى قَوْمِي شَرَاحِي5 يريد: أمسلمًى، وهذا شاذ كما ترى، فلا حاجه للقياس عليه. ومن ذلك قراءة شيبان النحوي6: "لَشُوبًا"7.
قال أبو الفتح: الشَّوبُ: الخلط، بفتح الشين. ولم يمرر بنا الضم، ولعله لغة فيه كالفَقر والفُقر، والضَّر والضُّر، ونحو ذلك. ومن ذلك قراءة الحسن "فَرَاغَ عَلَيْهِمْ سَفْقًا بِالْيَمِينِ"1. قال أبو الفتح: قد قالوا: صفقْتُ البابَ، وسفَقْتُه، والصاد أعلى. وقالوا أيضا: أَسْفَقْتُه إسْفاقًا، وقالوا في التَّصْفِيق: التَّصْفَاق، إذا كثر ذلك، كالتَّضْرَاب والتَّلْمَاح والتَّمْشَاء وروي عن الحسن, أيضا: "صَفْقًا". ومن ذلك قراءة عبد الله بن يزيد: "يَزِفُونَ"2، خفيفة. قال أبو الفتح: المسموع في هذا زَفَّ القومُ يَزِفُّونَ زَفِيفًا، وقالوا أيضا: أَزَفُّوا يُزِفُّونَ، كما قالوا: زَفَفْت العروس، وقالوا [137ظ] أَزْفَفْتُها أيضا. فأما "يَزِفُونَ" بالتخفيف فذهب قطرب إلى أنها تخفيف يَزِفُّونَ، كما قال الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} 3، أي: اُقْرَرْنَ. قال الهذلي: وَزَفَّتِ الشَّوْلُ مِن بَرْدِ العَشِيِّ كَمَا ... زَفَّ النَّعَامُ إلى حَفَّانِهِ الرُّوحُ4 إلا أن ظاهر "يَزِفُونَ" أن يكون من وَزَفَ5، كيَعِدون من وعد. ويؤنِّس بذلك قربه من لفظ الوَفز6، وهو واحد الأوْفَاز، من قولهم: أنا على أوْفَاز. إذا كان كذلك فهو
قريب من لفظ وَزَفَ، أي: أسرع، وقريب من معناه. ولم يثبت الكسائي ولا الفراء: "وَزَفَ"، إلا أن ظاهر اللفظ مقتضٍ لها على ما مضى. وعلى أن أحمد بن يحيى قد أثبت وَزَفَ: إذا أسرع، وشاهده عنده هذه القراءة: "يَزِفُونَ" أي: يسرعون. ومن ذلك قراءة الأعمش والضحاك: "فَانْظُرْ مَاذَا تُرَى"1، بضم التاء. قال أبو الفتح: رُوِّينا عن قطرب: "مَاذَا تُرَى"، و"تُرِي" بفتح الراء وكسرها. فَتُرَى، أي: يُلْقَى إليك، ويُوقَعُ في خاطرك. وأما "تُرِي" فتشير به، وتدعو إلى العمل بحسبه. و"تَرَى" هذه ليست من معنى الرؤية بالبصر؛ لأن الرأي ليس مما تدركه حاسة البصر، ولا هي من معنى العلم أيضا؛ لأنه ليس يكلفه هنا أن يقطع له بصريح الحق وجَليّة اليقين، وإنما يسأله عما يُحضره إياه رأيُه، فهي إذًا من قولك: ما رأيك في هذا؟ وما الذي يَحْضُرُك في كذا؟ ومنه قول الله "تعالى": {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} 2، أي: بما يُحْضِرُك إياه الرأي والخاطر. وفيه شاهد لجواز اجتهاد النبي "صلى الله عليه وسلم". ومنه قولهم: فلان يرى رأي الخوارج، ويرى رأي أبي حنيفة، أي: يذهب مذهبه ويعتقد اعتقاده، ليس أنه يُبصر بصرَه، ولا يعلم يقينا علمَه، وإنما هو أن يعتقد رأيَه، صوابًا كان، أو خطأ. ومن ذلك قراءة علي بن أبي طالب وابن عباس وابن مسعود ومجاهد والضحاك والأعمش والثوري وجعفر بن محمد: "فَلَمَّا سَلَّمَا"3، بغير ألف ولام مشددة. قال أبو الفتح: أما "أَسْلَمَا" ففوضا وأطاعا، وأما "سَلَّمَا" فمن التسليم، أي: سلما أنفسهما وآراءهما كالتسليم باليد4 لما أُمِرَا به، ولم يخالفا ما أُرِيدَ منهما من إجماع إبراهيم "عليه السلام" الذبح، وإسحاقَ الصبر.
ومن ذلك قراءة ابن محيصن وعكرمة -بخلاف- والحسن -بخلاف- وأبي رجاء: "وَإِنَّ الْيَاسَ"1، بغير همز. "سَلامٌ عَلَى الْيَاسِينَ"2، بغير همز. قال أبو الفتح: أما "الياسَ" موصول الألف فإن الاسم منه "يَاسٌ"، بمنزلة باب ودار، ثم لحقه لام التعريف، فصار "الياس"، بمنزلة الباب والدار. و"الْيَاسِين" على هذا كأنه على إرادة ياء النسب، كأنه الياسيِّين، كما حكى عنهم صاحب الكتاب: الأشْعَرُون والنُّمَيْرُون، يريد الأشعرِيِّين والنُّمَيْرِيِّين. ورُوينا عن قطرب عنهم: هؤلاء زيدون, منسوبون إلى زيد بغير ياء النسبة. وقال أبو عمرو: هلك اليَزِيدُون، يريد ثلاثةً يزيديِّين. وقد يجوز أن يكون جعل كل واحد من أهل "الياس" ياسًا، فقال: "الياسِين"، كقوله: [138و] . قَدْنِيَ مِنْ نَصْرِ الخُبَيْبِينَ قَدِي3 يريد أبا خبيب وأصحابه، كأنه جعل كل واحد منهم خُبَيْبًا. ونحو منه قولهم: شابَتْ مَفَارِقُه4، جعل كل جزء من مفرقِه مفرقًا، ثم جمعه على ذلك. وكذلك: امرأةٌ واضحةُ اللبّات5، جعل كل جزء يجاور اللبة لبة. وقال: يُطِفْنَ بِجَمَّاءِ المَرَافِقِ مِكسال6
جمع مرفقيها بما حولها، ومثله ما رويناه عن أبي علي من قوله: مَرَّتْ بِنا أوَّلَ مِن أُمُوسِ ... تَمِيسُ لِينا مِشْيَةَ الْعَرُوسِ1 فسَمَّى كل جزء من أمسِ أمسًا، ثم جمع عليه. ويشهد لوصل ألف الياس قوله: أُمَّهَتِي خِنْدِفُ وَالْيَاسُ أَبِي2 وتكون لام التعريف هنا -بمنزلتها في اليسع- زائدة؛ لأن الاسم علم وليس بصفة، فيجري مجرى العباس والحارث. قال أبو عثمان: سألت الأصمعي عن قول الشاعر: وَلَقَدْ جَنيْتُكَ أَكْمُؤًا وَعَساقِلا ... وَلَقَدْ نَهَيْتُكَ عَن بَناتِ الأَوْبَرِ3 فقال: الألف واللام هنا زيادة. ولذلك نظائر كثيرة، ولو قيل: إنها لحقت هنا لأنه4 مصدر، فَشُبِّهَ بالصفة، كالعلاء والفضل لكان وجها. ومن ذلك قراءة ابن مسعود ويحيى والأعمش، والمنهال بن عمرو5 والحكم بن عتيبة: " وإنَّ إِدْرِيس"، "سَلامٌ عَلَى إِدْرَاسِينَ"6.
قال أبو الفتح: روينا عن قطرب عن ابن مسعود: "وإنَّ إدْرَاسَ"، و"سَلامٌ عَلَى إدراسِينَ": قال: وجاء عنه: "إِدْرَسِينَ"، وكذلك عن قتادة. وقال: وفي بعض القراءة: "إِدْرِيسِينَ". قال أبو الفتح: أما ما رواه ابن مجاهد عن ابن مسعود من "إدْرِيسَ" و"إدْرَاسِينَ" فيجب أن يكون من تحريف العرب الكلمَ الأعجمي لأنه ليس من لغتها، فَتُقِلُّ الحَفْل به، وقد ذكرنا مثله1. وقياسه سلام على إدْرِيسِينَ، كما حكاه قطرب، إلا أنه حكاه: "وإن إدْرِيسِينَ"، كما ترى. وأما ما رواه قطرب من "إدْرَاسَ" و"إدْرَاسِينَ" فجمع الصحة، كالياس والياسين. ولو كان جمع تكسير لقال: سلام على الأَدَارِيس، كقولك في قرطاس: قَرَاطِيس، لكنه جمع صحة للتذكير، كالزيدين والقاسمين. فأما "إِدْرِسِين" فيشبه أن يكون أراد "إِدْرَاسِينَ"، إلا أنه استطال الاسم، وجَفَتْ عليه أيضا عجمته؛ فحذف الألف تخفيفا. وإذا كانوا قد حذفوها للتخفيف من نفس كلامهم وسِرّ لغتهم في قولهم في اصْفَارَّ، واحْمَارَّ، واسْوَادَّ، وابْياضَّ: اصْفَرَّ، واحمَرَّ، واسوَدَّ، وابيضَّ، فهم بحذف هذه الألف فيما ليس من لغتهم، ولا ينصرف إليه محاماتهم عنه أجدر بجواز ذلك فيه. نعم، وقد يمكن مع هذا أن تكون هذه الألف في نحو احْمَارَّ واسْوَادَّ إنما حذفت لالتقاء الساكنين، كما زيد في مدها في أكثر اللغة لالتقائهما، وكما همزت في نحو قولهم: إذَا مَا العَوَالِي بالْعَبِيطِ احْمَأَرَّتِ2 فتارة يُسْتَرْوَح من اجتماعها إلى إطالةِ المدّ، وأُخرى إلى الحذف، وأُخرى إلى الهمز، وكل هذا تَفَادٍ من التقاء الساكنين. وحكى أبو حاتم عن أُبَيّ: " وإن إِيلِيسَ"، و"على إِيلِيسِينَ".
قال: وقال خارجة1: بلغنا أن اسمه كان إيليسَ، وإدريس [138ظ] . ومن ذلك قراءة جعفر بن محمد: "وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ وَيَزِيدُون"2، وهكذا هي، ليس فيها "أو". قال أبو الفتح: في هذه الآية إعراب حسن، وصنعة صالحة؛ وذلك أنْ يقال: هل لقوله: "ويزيدون" موضع من الإعراب، أو هو مرفوع اللفظ. لوقوعه موقع الاسم حَسْبُ، كقولك مبتدئا: يزيدون؟ والجواب أن له موضعا من الإعراب، وهو الرفع؛ لأنه خبر مبتدإ محذوف، أي: وهم يزيدون على المائة. والواو لعطف على جملة، فهو كقولك: مررت برجل مثل الأسد، وهو والله أشجعُ. ولقيت رجلا جوادا، وهو والله فوق الجواد. فإن قلت: فقد تقول: لقيت من زيد رجلا كالأسد وأشجعَ منه، فهل يجوز على هذا أن يكون تقديره: وأرسلناه إلى مائة ألف ويزيدون، فيعطف يزيدون على المائة؟ قيل: يفسد هذا؛ لأن "إلى" لا تعمل في "يزيدون"، فلا يجوز أن يعطف على ما تعمل فيه "إلى" فكما لا تقول: مررت بيزيدون على المائة فكذلك لا تقول ذلك. فإن قلت: فقد يجوز في المعطوف ما لا يجوز في المعطوف عليه، كقولنا: رب رجل وأخيه، وكلُّ شاةٍ وسَخْلتِهَا3، ومررت برجل صالح أبوه لا طالِحَيْن، ومررت بزيد القائم أبواه لا القاعدين ونحو ذلك. قيل قَدْر المتجوَّز في هذا ونحوه لا يبلغ ما رُمْتَه من تقدير حرف الجر مباشرا للفعل. ألا تراك لا تجيز مررت بقائم يقعد وأنت تريد مررت بقائم وبقاعد؟
فإن قيل: فقدِّر هناك موصوفا محذوفا مجرورا ليكون تقديره: وأرسلناه إلى مائة ألف وجمع يزيدون، على قول الراجز: جَادَتْ بِكَفَّيْ كانَ مِنْ أَرْمَى الْبَشَرْ1 أي: بِكَفَّيْ إنسان كان من أرمى البشر قيل: تقدير مباشرةِ حرف الجر للفعل أشد من تقدير الإضافة إليه. ألا ترى أنه على كل حال قد يضاف إلى الفعل ظروف الزمان وغيره، على كثرة ذلك في أسماء الزمان؟ وينضاف إلى ذلك إفساد المعنى وذلك أنه يصير معناه إلى أنه كأنه قال: وأرسلناه إلى جَمْعَيْن: أحدهما مائة ألف، والآخر زائد على مائة ألف. وليس الغرض والمراد هنا هذا، وإنما الغرض -والله أعلم- وأرسلناه إلى جمع لو رأيتموهم لقلتم أنتم: هؤلاء مائة ألف، وهم أيضا يزيدون. فالجمع إذًا واحد لا جمعان اثنان. وكذلك قراءة الجماعة: {أَوْ يَزِيدُون} ، وتقديره أو: هم يزيدون، فحذف المبتدأ لدلالة الموضع عليه كما مضى مع الواو2، وأما قول الآخر: ألا فَالْبَثَا شَهْرَيْنِ أو نِصْفَ ثَالِثٍ ... إلَى ذاكُما ما غَيَّبَتْنِي غَيَابِيَا3 فقالوا: معناه أو شهرين ونصف ثالث؛ وذلك أن قوله: أو نصفَ ثالثٍ لا يكون ثالثا حتى يتقدمه شهران، إلا أنه هنا حَذف المعطوف عليه مع حرف العطف جميعا. وفي قوله "سبحانه": {أَوْ يَزِيدُون} وعلى قراءة جعفر بن محمد: "يَزِيدُون" إنما حُذف اسم مفرد، وهو هم. وعلى أنه قد جاء عنهم حَذف الاسم ومعه حرف العطف، وذلك قولهم فيما رُوِّيناه عن أبي بكر محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى: راكب الناقة طَلِيحَان، أي: راكب الناقة والناقة طليحان4، فحذف الناقة وحرف5 العطف معهما. وعلى أنه قد يحتمل
ذلك تأويلا آخر، وهو أن يكون أراد: راكب الناقة أحد طليحين، فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه. والذي عندي في قوله: ألا فَالْبَثَا شَهْرَيْنِ أو نِصْفَ ثَالِثٍ [139و] أن يكون على حذف المضاف، أي: ألا فالبثا شهرين أو شهرَيْ نصف ثالث، أي: والشهرين اللذين يتبعهما نصف ثالثهما؛ لأنه ليس كل شهرين يؤمر بلبثهما لابد أن يصحبهما نصف ثالثهما، لكن البثا أنتما شهرين، أو الشهرين اللذين يتبعهما في اللبث نصف ثالثهما. وصحت1 الإضافة فيهما هذا القدر من الوُصلة بينهما. وقد أضافت العرب الأول إلى الثاني لأقلَّ وأخفضَ من هذه الشبْكة بينهما. أنشدَنا أبو علي: إذَا كَوْكَبُ الخَرْقَاءِ لَاحَ بِسُحْرَةٍ ... سُهَيْلٌ أذاعَتْ غَزْلَهَا فِي الغرائب2 قال: فأضاف سهيلا إليها لجِدها في عملها عند طلوعه، وقريب من هذا قول الرجلين بحملان الخشبة -أحدهما لصاحبه-: خذ أنت طرفك، ولآخذ أنا طرفي. وإنما الطرف للخشبة، لا لحاملها، فاعرف كلام القوم تر العجب منه والحكمة البالغة فيه بإذن الله تعالى. ومن ذلك قراءة الحسن: "إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ3"، بضم اللام. قال أبو الفتح: كان شيخنا أبو علي يحمله على أنه حذف لام "صال" تخفيفا، وأعرب اللام بالضم، كما حذفت لام البالة من قولهم: ما باليت به بالة، وهي البالية، كالعافية والعاقبة. وذهب قطرب فيه إلى أنه أراد جمع "صال"، أي: صالون، فحذف النون للإضافة وبقي الواو في صالو، فحذفها من اللفظ لالتقاء الساكنين، وحمل على معنى "من" لأنه جمع، فهو كقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ 4} ، وهذا حسن عندي، وقول أبي علي وجه مأخوذ به.
ومن ذلك قراءة ابن مسعود: "فَإِذَا نُزِلَ بِسَاحَتِهِم"1. قال أبو الفتح: لفظ هذا الموضع على الاستفهام2، ومعناه الوضوح والاختصاص؛ وذلك أن الغرض فيه إنما هو: فإذا نزل العذاب بساحتهم، يدل عليه قوله قبله معه: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} ؟ فإذا قال: {فَإِذَا نُزِلَ بِسَاحَتِهِم} فلا محالة أن معناه: فإذا نزل عذابنا بساحتهم، فأبهم الفاعل واعتمد ذكر المكان المنزول فيه. ومثله في المعنى قول الله "سبحانه": {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} 3، ونحن نعلم أن الله "تعالى" خالقه. وكذلك {خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ عَجَل} 4، ألا ترى إلى قوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} 5، وقوله "عز اسمه": {خَلَقَ الْأِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَان} 6، وقول: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} 7، ونظائره كثيرة: فكذلك قوله "تعالى": {فَإِذَا نُزِلَ بِسَاحَتِهِم} على ما شرحناه من حاله، وهذا أحد ما يدلك على أن إسناد الفعل إلى المفعول نحو: ضرب زيد، لم يكن لجهل المتكلم بالفاعل من هو؟ البتة، لكن قد يسند إلى المفعول، ويطرح ذكر الفاعل لأن الغرض إنما هو الإعلام بوقوع الضرب بزيد، ولا غرض معه في إبانة الفاعل من هو؟ فاعرفه.
سورة ص
سورة ص: بسم الله الرحمن الرحيم قراءة أبي بن كعب والحسن وابن أبي إسحاق: "صَادِ"1، بكسر الدال. وقرأ: "صَادَ وَالْقُرْآن" -بفتح الدال- الثقفي. قال أبو الفتح: المأثور عن الحسن أنه إنما كان يكسر الدال من "صاد" لأنه عنده أمر من المصاداة، أي: عارض عملك بالقرآن. قال أبو علي: هو فاعل من الصدى، وهو يعارض الصوت في الأماكن الخالية من الأجسام الصلبة، قال: وليس فيه أكثر من جعل "الواو" بمعنى الباء في غير القسم، وقد يمكن أن تكون كسرة الدال [139ظ] لالتقاء الساكنين، كما أن فتحها فتح لذلك، وقد يجوز أن يكون من فتح جعل "صاد" علما للسورة، فلم يصرف، فالفتحة على هذا إعراب. ومن ذلك قراءة السلمي: "لَشَيْءٌ عُجَاب"2. قال أبو الفتح: قد كثر عنهم مجيء الصفة على فعيل وفعال -بالتخفيف- وفعال، بالتشديد قالوا: رجل وضيء ووضاء، وأنشدوا: والمرء يلحقه بفتيان الندى ... خلق الكريم وليس بالوضاء3 أي: ليس بالوضئ وقال: نحن بذلنا دونها الضرابا ... إنا وجدنا ماءها طيابا4
وقال: جاءوا بصيد عجب من العجب ... أزيرق العين وطوال الذنب ومثله: رجل كريم، وكرام، وكرام. وزادوا مبالغة فيه بإلحاق التاء، فقالوا: كرامة. والشواهد كثيرة، إلا أنه كتاب سئلنا اختصاره، لئلا يطول على كاتبه، فأوجبت الحال الإجابة إلى ذلك. ومن ذلك قراءة أبي رجاء وقتادة: "وَلا تُشْطِط1"، بفتح التاء، وضم الطاء. قال أبو الفتح: يقال: شط يشط، ويشط: إذا بعد، وأشط: إذا أبعد. وعليه قراءة العامة: {وَلا تُشْطِط} ، أي: ولا تبعد، وهو من الشط، وهو الجانب، فمعناه أخذ الجانب الشيء وترك وسطه وأقربه، كما قيل: تجاوز، وهو من الجيزة، وهي جانب الوادي، وكما قيل: تعدى، وهو من عدوة الوادي، أي: جانبه. قال عنترة: شطت مزار العاشقين فأصبحت ... عسرا على طلابك ابنة مخرم2 أي: بعدت عن مزار العاشقين. وكما بالغ في ذكر استضراره خاطبها بذلك؛ لأنه أبلغ فعدل عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب، فقال: "طلابك"، فافهم ذلك، فإنه ليس الغرض فيه وفي نحوه السعة في القول، لكن تحت ذلك ونظيره أغراض من هذا النحو، فتفطن لها. ومن ذلك قراءة الحسن -بخلاف-: "تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً3". قال أبو الفتح: قد كثر عنهم مجيء الفعل والفعل على المعنى الواحد، نحو البزر والبزر، والنفط والنفط، والسكر4 والسكر، والحبر والحبر، والسبر5 والسبر. فلا ينكر -على ذلك- "التسع" بمعنى التسع، لاسيما وهي تجاور العشرة، بفتح الفاء.
ومن ذلك قراءة الحسن والأعرج: "نَعْجَة1"، بكسر النون. قال أبو الفتح: هذا أيضا كالذي قبله سواء، وقد اعتقبت فعله وفعله على المعنى الواحد، قالوا للعقاب: لقوة ولقوة، وقوم شجعة وشجعة للشجعاء، والمهنة والمهنة للخدمة، وله نظائر. فكذلك تكون "النَّعْجَة"، و"النَّعْجَة"، ولم يمرر بنا الكسر إلا في هذه القراءة. ومن ذلك قراءة أبي حيوة: " وَعَزَّنِي2"، مخففة. قال أبو الفتح: أصله "عزني"، غير أنه خفف الكلمة بحذف الزاي الثانية أن الأولى، كما حكاه ابن الأعرابي من قولهم: ظنت ذاك، أي: ظننت، وكقول أبي زبيد: خلا أن العتاق من المطايا ... أَحَسْنَ به فهن إليه شوس3 وقالوا في مست: مست، [140و] وفي ظللت: ظلت. وحكى أحمد بن يحيى الحذف في نحو ذلك من المكسور، نحو شممت وبابه. وذلك كله على تشبيه المضاعف بالمعتل العين لكن "عزني" أغرب منه كله، غير أنه مثله في أنه محذوف للتخفيف. ومن ذلك قراءة عمر بن الخطاب "رضي الله عنه": "فَتَنَّاه4". وقرأ: "فَتَنَّاه" قتادة وأبو عمرو في قراءة عبد الوهاب5 وعلي بن نصر6 عنه. قال أبو الفتح: أما "فتناه"، بتشديد التاء والنون ففعلناه، وهي للمبالغة. ولما دخلها معنى نبهناه ويقظناه جاءت على فعلناه؛ انتحاء للمعنى المراد.
وأما "فَتَنَّاه" فإن المراد بالتثنية هما الملكانن وهما الخصمان اللذان اختصما إليه، أي: علم أنهما اختبراه، فخبراه بما ركبه من التماسه امرأة صاحبه، فاستغفر داود ربه. ومن ذلك قراءة الحسن والثقفي والأعمش -بخلاف عنهم-: " أولى الْأَيْد1"، بغير ياء. قال أبو الفتح: يحتمل ذلك أمرين: أحدهما أن أراد "بالأيد": "بالأيدي" على قراءة العامة، إلا أنه حذف الياء تخفيفا، كما قال: {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُر 2} وغير ذلك مما حذفت فيه الياء تخفيفا. والآخر أن يكون أراد: "بالأيد": القوة، أي: القوة في طاعة الله والعمل بما يرضيه. ألا تراه مقرونا بقوله: {وَالْأَبْصَار} ، أي: البصر بما يحظى عند الله؟. وعلى ذلك فـ"الأيدى" هنا إنما هي جمع اليد التي هي القوة، لا التي هي الجارحة ولا النعمة، لكنه كقولك: له يد في الطاعة، وقدم في المتابعة. فالمعنيان إذا واحدن وهو البصيرة والنهضة في طاعة الله، فهو إذا من قول لبيد: حتى إذا ألقت يدا في كافر ... وأجن عورات الثغور ظلامها3 ألا تراهم قالوا في تفسيره: بدأت في المغيب؟ وأصله لثعلبة بن صغير المازني في قوله يصف الظليم والنعامة وقد جدا في طلب بيضهما:
فتذكر ثقلا رثيدا بعدما ... ألقت ذكاء يمينا في كافر1 يعني بكافر الليل، وهذا أبلغ معنى من قول لبيد. ألا تراه ذكر اليمين خصوصية، وهي أشبه بالقوة؛ لأنها أقوى من الشمال؟ ولبيد اقتصر على ذكر اليد، فقد تكون شمالا كما قد تكون يمينا. ومثله قول الشماخ: تلقاها عرابة باليمين2 أي: بالقوة. وإنما سميت القوة يمينا تشبيها لها بالجارحة اليمنى، وإذا شبه العرض والجوهر فذلك تناه به، وإعلاء منه. ولهذا ما ذم الطائي الكبير قلب ذلك، فقال: مودة ذهب أثمارها شبه ... وهمة جوهر معروفها عرض3 ووصف بالجواهر لقوته، كما وصف الآخر بالحديد لقوته، فقال في أحد التأويلين: بمنجرد قيد الأوابد هيكل4 وعليه أيضا قال: "هيكل"، فوصف بالاسم غير المماس للفعل، لما في الهيكل من العلو والرحابة والشدة، فاعرف ذلك مذهبا للقوم، وانتحه تصب بإذن الله. ومن ذلك قراءة أبي جعفر: "إِنْ يُوحَى [140ظ] إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا5"، بكسر الألف.
قال أبو الفتح: هذا على الحكاية، حتى كأنه قال: إن يوحى، أي: إن يقال لي: إلا أنت نذير مبين. فإن قيل: فإذا كان حكاية فقد كان يجب أن يرد اللفظ عينه، وهو لم يقل له: أنا نذير مبين، فهلا أعاده البتة، فقال: إن يوحي إلا أنت نذير مبين؟ قيل: هذا أراد، إلا أنه إذا قال: إلا إنما أنا نذير مبين فكأنه قد قال: أنت نذير مبين، ألا تراك تقول لصاحبك: أنت قلت: إنك شجاع، فزدت الحرف، وهو لم يقل: إنك شجاع، وإنما قال: أنا شجاع. فلما أردت1 قوله حاكيا له أوقت موقع "أنا" إنك. وعله تحريف هذا الحرف الواحد من الجملة المحكية أنك مخاطب له، فغلب لفظ الخطاب الحاضر اللفظ - المنقضي لقوة الحاضر على الغائب. هذا أيضا مع ارتفاع الشبهة والإشكال في أن الغرض بهما جميعا شيء واحد. ونحو من هذا في بعض الانحراف عن المحكي لدلالة عليه قول الشاعر: تنادوا بالرحيل غدا ... وفي ترحالهم نفسي أجاز لي فيه أبو علي بحلب سنة سبع وأربعين ثلاثة أضرب من الإعراب: بالرحيل، والرحيل، والرحيل: رفعا، ونصبا، وجرا. فمن رفع أو نصب فقدر في الحكاية اللفظ المقول البتة فكأنه قالوا: الرحيل غدا، والرحيل غدا. فأما الجر فعلى إعمال الباء فيه، وهي معنى ما قالوه، لكن حكيت منه قولك: غدا وحده، وهو خبر المبتدأ وفي موضع رفع، لأنه خبر المبتدأ. ولا يكون ظرفا لقوله: تنادوا؛ لأن الفعل الماضي لا يعمل في الزمان الآتي. وإذا قال: تنادوا بالرحيل غدا، فنصب الرحيل فإن "غدا" يجوز أن يكون ظرفا لنفس الرحيل، فكأنهم قالوا: أجمعنا الرحيل غدا، ويجوز أن يكون ظرفا لفعل نصب الرحيل آخر، أي: نحدث الرحيل غدا. فأما أن يكون ظرفا لتنادوا فمحال، لما قدمنا.
سورة الزمر
سورة الزمر: بسم الله الرحمن الرحيم قرأ الحسن: "اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ1". قال أبو الفتح: قد تقدم القول على حديث الطاغوت2 وأنه مقلوب، ووزنه فلعوت من طغيت، وقالوا أيضا: طغوت. وقولهم: طغيان دليل على أن اللام ياء، فأصله إذا طغيوت، مصدر كالرغبوت والرهبوت والملكوت، ثم قدمت اللام على العين، فصارت طيغوت، ثم قلبت الياء-لتحركها وانفتاح ما قبلها ألفا، فصارت طاغوت، وكان قياسه إذا كسر أن يقال: طياغيت، إلا أنه ينبغي أن يكون الطواغيت جاء على لغة من قال: طغوت. ومثال طواغيت -على ما ترى- فلاعيت، وتبني مثلها من ضرب فتقول: ضاربتن ومن قتل قلاتيت، ومن وأيت ويائيت. ومثلها سواء الحانوت، وهي في الأصل حنووت، فعلوت من حنوت؛ لأن الحانوت يحنو على ما فيه، ثم قدمت اللام على العين، فصار حونوت، ثم انقلبت الواو كما انقلبت في طوغوت، فصار حانوت، ووزنها فلعوت، وعليه قالوا [141و] في تكسيرها: حوانيت، وهي فلاعيت. والحانة محذوفة اللام، كالبالة من باليت، وعليه قال عمارة: وكيف لنا بالشرب فيها وما لنا ... دنانير عند الحانوي ولا نقد3؟ فهذا على النسبة، إلى ناجية ناجوى. ويجوز في الطواغيت وجه آخر، وهو أن يكون من طغيت، إلا أنه لما قدم اللام وقبلها،
فصارت إلى طاغوت - أشبهت فاعوا، فكسرها بالواو، كعاقول1 وعواقيل، وساجور2 وسواجير، لا سيما وقد كثر عنهم التخليط في هذا المثال. ألا تراهم قالوا: شيراز3، ثم كسروا فقالوا: شواريز، فيما حكاه أبو الحسن. وقياسه شياريز، أو شراريز. والوجه الأول أقرب مأخذا، وهذا الثاني أيضا مقبول على ما ترى. ومن ذلك قراءة أبي صالح الكوفي4 ومحمد بن جحادة وعكرمة بن سليمان5: "وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ6"، خفيفة. قال أبو الفتح: قوله: "صدوق به"، خفيفة - ضرب في الثناء على المؤمن، فهو كقولك: الذي يأمر بالمعروف، ويتبع سبيل الخير فيه - مثاب عند الله، فكذلك قوله: {وَصَدَّقَ بِه} ، أي: استحق اسم الصدق في مجيئه به، فمن أمره كذا. ومن ذلك قراءة أبي جعفر: "يَا حَسْرَتَاى7". وروى ابن جماز عنه: "يَا حَسْرَتَاى"، مجزومة الياء. قال أبو الفتح: في هذه القراءة إشكال، وذلك أن الألف في "حسرتا" إنما هي بدل من ياء
حسرتي. أبدلت الياء ألفا هربا إلى خفة الألف من ثقل الياء، كقولك: يا غلاما ويا صاحبا، أنت تريد: يا غلامي ويا صاحبي. وأنشده منه قوله: يا بنت عما لا تلومي واهجمي1 وذلك أنه أبدل من ياء "عمي" ألفا، وليس العم منادى. وهذا البدل إنما بابه النداء، كقولك: يا أبا، ويا أما وكان -على هذا- ينبغي ألا يأتي بياء المتكلم بعد الألف؛ لأن هذه الألف إنما هي بدل من ياء الضمير، وليس له هناك ياءان، فهذا وجه إشكال هذا، وهو واضح. والذي عندي فيه أه جمع بين العوض والمعوض منه، أعني البدل والمبدل منهن كمذهب أبي إسحاق وأبي بكر في قول الفرزدق: هما نفثا في في من فمويهما ... على النابح العاوي أشد رجام2 أي: مراجعة3: وأنه جمع بين الميم والواو، وإنما الميم بدل من الواو. ومثله ما أنشده أبو زيد: إني إذا ما حدث ألما ... دعوت يا اللهم يا اللهما4؟
فجمع بين "يا" والميم، وإنما الميم في آخر الاسم عوض من "يا" في أوله، إذا قلت: اللهم اغفر لنا، وعليه قول الآخر: يا أمتا أبصرني راكب ... في بلد مسحنفر لاحب1 وإنما التاء في "يا أمت" بدل من الياء في يا أمي، فجمعت بينهما ثم أبدلت من الياء ألفا، فقالت: "يا أمتا". وقال أبو علي في قوله: ضخم يحب الخلق الأضخما2 إنه يجري مجرى الجمع بين العوض والمعوض منه، [141ظ] قال: وذلك أن هذا التشديد الذي يعرض في الوقف إنما دخل إيذانا بأن آخر الحرف محرك في الوصل، إذ لا يجتمع ساكنان في الإدراج هكذا، فكان يجب إذا أطلق في الوصل أن يحذف التشديد لزوال الحاجة إليه بالإطلاق، قال: فتركه الحرف المزيد في الوقف للتثقيل مع استغنائه عنه بإطلاق الحرف -فكأنه جمع بين العوض والمعوض منه, وهذا تأول -وإن كان صحيحا- بعيد، والذي رأيناه نحن أقرب القريب. وأما إسكان الياء في "يَا حَسْرَتَاى" في الرواية الثانية هو3 على ما مضى من قراءة نافع: "َمَحْيَايَ وَمَمَاتِي4". وأرى مع هذا لهذا الإسكان هنا مزية على ذلك، وذلك أنه قد كان ينبغي ألا يجمع بين الألف والياء؛ إذ كانت الألف هي الياء، إلا أنه لما صانع عن ذلك بما ذكرناه، فألحق الياء على ما في ضعفت في نفسه؛ لضعف القياس في إثباتها مع الألف، فضاءل منها وألطأ5 بالسكون شخصها. وإذا لاطفت فكرك في تأمل ذلك وأنسته به أصحب6 إليه، وتابعك مع إنارة الفكر عليه. ومن ذلك قراءة ابن عباس: "وَأَشْرَقَتِ الْأَرْض7".
قال أبو الفتح: شرقت الشمس: إذا طلعت، وأشرقت: إذا أضاءت وصفت، وشرقت: إذا احمرت لقربها من الأرض؛ فتكون هذه القراءة التي هي "أشرقت" منقولة من شرقت: إذا طلعت. وأشرقت أبلغ منه؛ لقوة نورها وإضاءتها. وفي "أشرقت" معنى آخر، وهو أنها إذا أشرقت وأضاءت فإنما زاد نورها، وقد كان قرصها ظاهرا قبل ذلك. وأما شرقت، أي: طلعت فإنها -وإن لم يكن لها صفاء المشرقة- فإنه قد أشرف على الأرض من شخصها عقيب ظلمة الليل قبلها ما هال رائيه ونسخ ما كان من سواد الليل قبله. فهذا القدر -لارتجاله وفجاءة وجه الأرض به- أظهر قدرا من إضاءتها عقيب ما سبق من ظهور قرصها، وطبق الأرض من نورها. وهذا كان يعطيك رجل عشرة دراهم على حاجة منك إليها؛ فتقع موقعها. فإن زادك هو أو غيره درهما آخر فصارت أحد عشر - فهي لعمري أكثر من عشرة، إلا أن قدر الدرهم المزيد عليها لا يفي بقدر العشرة الواردة على قوة الحاجة، فشرقت كالعشرة، وأشرقت كالأحد عشر، فافهم ذلك ممثلا بإذن الله.
سورة المؤمنون
سورة المؤمنون: بسم الله الرحمن الرحيم قرأ معاذ بن جبل1 على المنبر: "إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ2"، أي سبيل الله. قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون هذا من قولهم: رشد يرشد، كعلام من علم يعلم، أو من رشد يرشد، كعباد من عبد يعبد. ولا ينبغي أن يحمل على أنه من أرشد يرشد؛ لأن فعالا3 لم يأت إلا في أحرف محفوظة، وهي أجبر فهو جبار، وأسأر4 فهو سأر، وأقصر فهو قصار، أدرك فهو دراك، وأنشدوا للأخطل: [142و] . وشارب مربح بالكأس نادمني ... لا بالحصور ولا فيها بسار5 وأجود الروايتين "بسوار"، أي: بمعربد. وأنشد ابن الأعرابي: "غير قصار". وعلى أنهم قد قالوا: جبره على الأمر وقصر عن الأمر، فينبغي أن يكون جبار وقصار من فعل، هذين الحرفين، وكذا ينبغي أن يعتقد في سار ودراك على أنهما خرجا بحرف الزيادة، فصارا
إلى سأر ودرك تقديرا، وإن لم خرجا إلى اللفظ استعمالا، كما قالوا: أبقل المكان فهو باقل، وأورس الومث1 فهو وارس، وأيفع الغلام فهو يافع، وأعضى2 الليل فهو غاض. قال: يخرجن من أجزاو ليل غاض3 أي: مغض، وقالوا أيضا: ألقحت الريح السحاب، فهو لاقح. فهذا على حذف همزة أفعل، وإنما قياسه ملقح، فعلى ذلك خرج "الرشاد"، أي: رشد بمعنى أرشد تقديرا لا استعمالا، كما قال الآخر: إذا ما استحمت أرضه من سمائه ... جرى وهو مودوع وواعد مصدق4 وكان قياسه أن يكون مودع لأنه من أودعته، فودع يدع، وهو وادع، ولا يقال: ودعته في هذا المعنى فيقال مودع، كوضعته فهو موضوع. فإن قيل: فإن المعنى إنما هو على أشد، فكيف أجزت أن يكون إنما مجيئه من رشد أو رشد في معنى رشد، وأنه ليس من لفظ أرشد؟. قيل: المعنى راجع فيما بعد إلى أنه مرشد؛ وذلك لأنه إذا رشد أرشد؛ لأن الإرشاد من الرشد. فكأنه من باب الاكتفاء بذكر السبب من المسبب. وعليه قالوا في قول الله "سبحانه": {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِح 5} -: إنها من لقحت هي، فإذا لقحت ألقحت غيرها، فهو كقولك: إنها زاكية، فإذا زكت في نفسها أزكت غيرها، فهذا المذهب ليس هو الأول الذي على تقدير الزيادة من ألقح، ولكل طريق.
ومن ذلك قراءة ابن عباس والضحاك وأبي صالح والكلبي: "يَوْمَ التَّنَاد1"، بتشديد الدال. قال أبو الفتح: هو تفاعل، مصدر تناد القوم، أي: تفرقوا، من قولهم: ند يند، كنفر ينفر. وتنادوا كتنافروا، والتناد كالتنافر، وأصله التنادد، فأسكنت الدال الأولى وأدغمت في الثانية استثقالا لاجتماع المثلين متحركين. فإن قيل: فهلا أظهر نحو ذلك، وهو ملحق بالتفاعل من غير التضعيف نحو التنافر، والتضافر، والتحاسر، والتحاسد. قيل: هذا من أقبح الخطأ، وذلك أن الغرض في الإلحاق إنما هو رفع دوات الثلاثة إلى ذوات الأربعة، نحو جلبب، وشملل2، فهما ملحقان بدحرج وهملج3، أو بذوات الخمسة نحو كوالل4، في إلحاقه بسفرجل، مجتازا في طريقه بقفعدد5 وسبهلل6، أو رفع بنات الأربعة إلى بنات الخمسة، نحو شنخف7، وهلقس8 في إلحاقهما بجردحل9. فأما أن تلحق بنات الثلاثة ببنات الثلاثة فلغوا [142ظ] من القول، فلم يكن في إلا فساد معنى قولهم: ملحق؛ لأن الأصل لا يلحق بنفسهن فكذلك أيضا "التناد" ثلاثي، كما أن التنافر ثلاثي, أفيلحق الشيء بنفسه؟ ألا ترى أن ند ثلاثي، كما أن نفر كذلك؟ وهذا واضح. ولو جاز هذا للزمك عليه أن تقول في شد وحل: شدد وحلل، فتظهرهما، وتقول: هما ملحقان بدخل وخرج. فإن قلت: فقد قالوا في فيعل - نحو خيفق10 وصيرف- وفوعل من رددت: ريدد ورودد، وإن كنا قد أحطنا علما بأن كل واحد من خيفق وصيرف ثلاثي الأصل.
قيل: أجل، إلا أنك ألحقت فيهما جميعا ثلاثيا برباعي، ألا ترى أن خيفقا وصيرفا ملحقان بجعفر وسلهب1؟. فإن قال لك: ابن من رد مثل فيعل وفوعل فكأنه إنما قال: ألحق رد بجعفر على حد فيعل وفوعل، اللذين ألحقتهما به، وهذا واضح، وليس كذلك التفاعل؛ لأن التفاعل ليس ملحقا بشيء، كإلحاق صيرف وجوهر بجعفر، فهذا فرق. ومن ذلك قراءة ابن عباس وابن مسعود: "وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُون3"، بفتح اللام. قال أبو الفتح: التقدير فيه إذ الأغلال أعناقهم ويسحبون السلاسل، فعطف الجملة من الفعل والفاعل على التي من المبتدأ والخبر، كما عودلت إحداهما بالأخرى في نحو قوله: أقيس بن مسعود بن قيس بن خالد ... أموف بأدراع ابن ظبية أم تذم3 أي: أأنت موف بها أم تذم؟ فقابل المبتدأ والخبر التي من الفعل والمفعول الجاري مجرى الفاعل وقال الله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ 4} ، أي: أصمتم؟ وعلى أنه لو كان إذ في أعناقهم الأغلال والسلاسل يسحبون لكان أمثل قليلا؛ من قبل أن قوله: في أعناقهم الأغلال يشبه في اللفظ تركيب الجملة من الفعل والفاعل؛ لتقدم الظرف على المبتدأ، كتقدم الفعل على الفاعل، مع قوة شبه الظرف بالفعل. وعلى أن أبا الحسن يرفع زيدا من قولك: في الدار زيد بالظرف، كما يرفعه بالفعل. ومن غريب شبه الظرف بالفعل أنهم لم يجيزوا في قولهم: فيك يرغب أن يكون فيك مرفوعا بالابتداء، وفي "يرغب" ضميره، كقولك: زيد يضرب، من موضعين: أحدهما أن الفعل لا يرتفع بالابتداء، فكذلك الظرف. والآخر أن الظرف لا ضمير له، كما أن الفعل لا ضمير له. ومن ذلك أيضا قوله: زمان على غراب غداف ... فطيره الشيب عني فطارا5 فعطفه الفعل على الظرف من أقوى دليل على شبهه به، وفيه أكثر من هذا فتركناه؛ لأن في هذا مقنعا بإذن الله.
سورة السجدة
سورة السجدة: بسم الله الرحمن الرحيم قراءة ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد: "أَتَيْنَا طَائِعِين1". قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون "آتينا" هنا فاعلنا، كقولك: سارعنا وسابقنا، ولا يكون أفعلنا؛ لأن ذلك متعد إلى مفعولين، وفاعلنا متعد إلى مفعول [143و] واحد. وحذف الواحد أسهل من حذف الاثنين؛ لأنه كلما قل الحذف كان أمثل من كثرته. نعم، ولما في سارعنا من معنى أسرعنا. ومثل "آتينا" في أنه فاعلنا لا أفعلنا القراءة الأخرى: "وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا2"، أي: سارعنا بها، وقد تقدم ذكره. ومن ذلك قراءة الحسن وعمرو بن عبيد وموسى الأسواري: "وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا"، بضم الياء - "فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ3"، بكسر التاء. قال أبو الفتح: أي لو استعتبوا لما أعتبوا، كقولك: لو استعطفوا لما عطفوا؛ لأنه لا غناء عندهم، ولا خير فيهم، فيجيبوا إلى جميل، أو يدعوا إلى حسن. وإذا جاز للشاعر أن يقول: لها حافر مثل قعب الوليد ... تتخذ الفار فيه مغارا4 ومعناه: لو اتخذت فيه مغارا لوسعها - جاز أيضا أن يقال: "وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا"؛ لأن الشرط ليس بصريح إيجاب، ولا بد فيه من معنى الشك. وتتخذ الغار فيه لفظ التصريح به5، وهو
مع ذلك لم يقع، ولا يقع فهذا طريق قوله تعالى: {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} ؛ لأن لفظه لفظ الشك، وإن لم يكن هناك استعتاب لهم أصلا. ألا ترى إلى قوله في الآية الأخرى: {فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ؟ 1} . ومن ذلك قراءة بكر بن حبيب السهمي: "وَالْغَوْا فِيه"2، بضم الغين. قال أبو الفتح: اللغو اختلاط القول في تداخله، يقال منه: لغا يلغو، وهو لاغ. ومنه الحديث: من قال في الجمعة: صه فقد لغا3، يراد بذلك توقيرها وتوفيتها حقها من الخشوع والإخبات4 فيها، أي: فهو بمنزلة من أطال الكلام وخلط فيه. وفي الحديث أيضا: إياكم وملغاة أول الليل، أي: كثرة الحديث. فهذا كالحديث المرفوع: خرج علينا عمر، فجدب لنا السمر5، أي: عابه. ونحو منه قول الله "سبحانه": {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا 6} ، وقوله: و {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ 7} ، أي: بالباطل، فهو راجع إلى هذا؛ لأن كثرة القول مدعاة إلى الباطل، وقوله "تعالى": {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً 8} يحتمل أمرين: أحدهما كلمة لاغية. والآخر أن يكون مصدرا، كالعاقبة، والعافية، أي: لا يسمع فيها لغو، وهذا أقوى من الأول؛ لأن في ذلك إقامة الصفة مقام الموصوف، وهذا غير مستحسن في القرآن.
ويقال فيه أيضا: لغى يلغى لغا، قال: عن اللغا ورفث التكلم1 ويقال أيضا: لغى بالشيء يلغي به، كقولك: لزمه وأحبه، فيكون كقوله: من أحب شيئا أكثر من ذكره. يقال: لغى به، وغرى به، وغره به، ولكي به، ولزم به، وسدك به، وعسق به: إذا واصله، وأقام عليه. ومن ذلك قراءة أبي جعفر يزيد: "وَرَبأَتْ2". قال أبو الفتح: هذه القراءة راجعة بمعناها إلى معنى ما عليه قراءة الجماعة، وذلك أن الأرض إذا ربت ارتفعت، والرابئ أيضا كذلك؛ لأنه هو المرتفع. ومنه الربيئة، وهو طليعة القوم وذلك لشخوصه على الموضع المرتفع. قال الهذلي [143ظ] . فوردن والعيوق مقعد رابئ الضـ ... ـرباء خلف النجم لا يتتلع3 ومن ذلك قراءة الحسن وأبي الأسود والجحدري وسلام والضحاك وابن عامر؛ بخلاف: "أَعْجَمِي"4، بهمزة واحدة مقصورة، والعين ساكنة.
وقرأ بهمزة واحدة غير ممدودة وفتح العين - عمرو بن ميمون. قال أبو الفتح: أما "أَعْجَمِي"، بقصر الهمزة، وسكون العين فعلى أنه خبر لا استفهام، أي: لقالوا: لولا فصلت آياته، ثم أخبر فقال: الكلام الذي جاء به أعجمي، أي: قرآن، وكلام أعجمي. ولم يخرج مخرج الاستفهام على معنى التعجب والإنكار على قراءة الكافة، وهذا كقولك للآمر بالمعروف، التارك لاستعماله: أراك تأمر بشيء ولا تفعله. وعلى قراءة الكافة: أتأمر بالبر وتتركه؟. وأما قراءة عمرو بن ميمون: "أَعْجَمِي" فهذه همزة استفهام، وهو منسوب إلى العجم. وأما أعجمي بسكون العين فلفظه لفظ. النسب، وليس هناك حقيقة نسب، وإنما هو لتوكيد معنى الصفة. ونظيره قولهم: رجل أحمر وأحمري، وأشقر وأشقري. وعليه قول العجاج: غضف طواها الأمس كلابي1 أي: كلاب، يعني صاحب كلاب، كبغال وحمار. وقوله أيضا: والدهر بالإنسان دواري2 أي: دوار. فكذلك أعجمي، معناه أعجم. ومنه قولهم: زياد الأعجم. رجل أعجم، ومرأة عجماء، وقوم عجم. فهذا كأحمر وحمراء وحمر. فأما الأعاجم فتكسير أعجمي، وهو على حذف زيادة ياءي الإضافة. وجاز تكسيره على أفاعل؛ لأنه بدخول ياءي الإضافة عليه فارق في اللفظ باب أفعل وفعلاء، فكسر تكسير الأسماء. ووجه مفارقته إياه لحاق تاء التأنيث، فصار كظريف وظريفة، وقائم وقائمة. فلما فارق أحكام أفعل وفعلاء كسر على الأفاعل، فجرى مجرى أحمد وأحامد. نعم، وصرفه عند لحاق التأنيث له يزيده بعدا عن حكم أحمر وبابه، وأنت أيضا تصرفه معرفة ونكرة، وأحمر لا ينصرف معرفة ونكرة. والحديث هنا طويل، وفيما مضى كاف على ما عقدنا عليه من الاقتصاد في هذا الكتاب، على حد ما سئلنا في معناه.
سورة عسق
سورة عسق: بسم الله الرحمن الرحيم روى محبوب عن إسماعيل عن الأعمش عن ابن مسعود: "حم سق1". قال أبو الفتح هذا مما يؤكد أن الغرض في هذه الفواتح إنما هو لكونها2 فواصل بين السور، ولو كانت أسماء الله سبحانه لما جاز تحريف شيء منهان وذلك لأنها لو كانت أسماء له لكانت أعلاما، كزيد وعمرو، فالأعلام لا طريق إلى تحريف شيء منها، بل هي مؤداة بأعيانها. فأما الخلاف الذي في باب جبريل، وإسرافيل، وميكائيل، وإبراهيم، ونحو ذلك فالعذر فيها أنها أسماء أعجمية، ولام التعريف لا تدخلها؛ فبعدت عن أصول كلام العرب، واجترأت عليه وتلعبت بها لفظا، تارة كذا، وأخرى كذا. وليس كذلك "حم?، عسق" وبقية الفواتح؛ لأنها حروف [144و] العرب المركب منها كلامها. فأما ترك إعرابها فكترك إعراب كثير من كلامها، كالأفعال غير المضارعة، وجميع الحروف. وعلى أن الأعجمي على ما ذكرنا من حاله معرب فهذا هذا. وكان ابن عباس قرأها بلا عين أيضا، ويقول: السين: كل فرقة تكون، والقاف: كل جماعة تكون. ومن ذلك قراءة سلام: "نُؤْتِهِ مِنْهَا3". قال أبو الفتح: هذا على لغة أهل الحجاز، ومثله قراءتهم: "فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ4"، وقد تقدم القول عليه.
ومن ذلك قراءة مسلم بن جندب: "وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم1"، نصب. قال أبو الفتح: هو معطوف على كلمة "الفصل"، أي: ولولا كلمة الفصل، وإن الظالمين لهم عذاب أليم، ولولا أن الظالمين قد علم منهم أنهم سيختارون ما يوجب عليهم العذاب لهم2 لقضى بينهم. ونعوذ بالله مما يجنيه الضعف في هذه اللغة العربية على من لا يعرفها، فإن أكثر من ضل عن القصد حتى كب على منخريه في قعر الجحيم إنما هو لجهله بالكلام الذي خوطب به، ثم لا يكفيه عظيم ما هو عليه وفيه دون أن يجفوها، ويعرض عما يوضحه له أهلوها. نعم، ويقول: ما الحاجة إليها؟ وأين وجه3 الضرورة الحاملة عليها؟ نعوذ بالله من التتابع في الجهالة، والعدول عما عليه أهل الوفور والمثالة. وجاز الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجواب "لولا" الذي هو قوله: {لَقُضِيَ بَيْنَهُم} ، لأن ذلك شائع، وكثير عنهم. قال لبيد: فصلقنا في مراد صلقة ... وصداء ألحقتهم بالثلل4 أي: فصلقنا في مراد وصداء صلقة. وفيه أيضا فصل بين الموصوف الذي هو صلقة، والصفة التي هي قوله: ألحقتهم بالثلل - بالمعطوف الذي هو قوله: وصداء، والموصوف مع ذلك نكرة. وما أقوى حاجتها إلى الصفة! ومثله ما أنشدناه أبو علي من قول الآخر: أمرت من الكتاب خيطا وأرسلت ... رسولا إلى أخرى جريا يعينها5
ففصل بين قوله: "رسولا"، وبين صفته التي هي "جريا" بقوله: إلى أخرى، وهو معمول أرسلت, على هذا حمله أبو علي وإن كان يجوز أن يكون صفة لـ"رسول" متعلقة بمحذوف، وأن يكون أيضا متعلقا بنفس "رسول". وقد يجوز في "أنَّ1" أن تكون مرفوعة بفعل مضمر، حتى كأنه قال: ووجب، أو وحق أن الظالمين لهم عذاب أليم. يؤنسك بانقطاعه عن الأول إلى هنا قراءة الجماعة بالكسر و "إن" بالكسر فهذا استئناف -كما ترى- لا محالة. ومن ذلك قراءة مجاهد وحميد: "ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ2"، بضم الياء، وسكون الباء، وكسر الشين. قال أبو الفتح: وجه هذه القراءة أقوى في القياس، وذلك أنه يقال: بشر زيد بكذا، ثم نقل بهمزة النقل، فقيل: أبشره الله بكذا، فهذا كمر زيد بفلان، وأمره الله به. ورغب فيه، وأرغب الله فيه. نعم، وأفعلت ههنا كفعلت فيه، وهو أبشرته وبشرتهه، وكلاهما منقول للتعدي: أحدهما بهمزة أفعل، والآخر بتضعيف [144ظ] العين. فهذا كفرح وأفرحته وفرحته، وهو بشر وأبشرته وبشرته. وأما بشرته -بالتخفيف- فعلى معاقبة فعل لأفعل في معنى واحد، نحو جد في الأمر وأجد، وصد عن كذا وأصد. قال أبو عمرو: وإنما قرأت هذا الحرف وحده "يبشر" لأنه ليس معه "به3"، وهذا صحيح حسن.
ومن ذلك قراءة قتادة: "فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ1"، بكسر اللام2. قال أبو الفتح: هذه القراءة على ظللت أظل، كفررت أفر. والمشهور فيها فعلت أفعل: ظللت أظل. وأما ظللت أظل فلم يمرر بنا، لكن قد مر نحو ضللت أضل، وضللت أضل. ولم يقرأ قتادة -إن شاء الله- إلا بما رواه، وأقل ما في ذلك أن يكون سمعه لغة.
سورة الزخرف
سورة الزخرف: بسم الله الرحمن الرحيم قراءة أبي جعفر يزيد: "بَلْدَةً مَيْتًا1"، بالتشديد. قال أبو الفتح: التذكير مع التشديد ليس في حسن التذكير مع التخفيف؛ وذلك أن "ميتا" بالتشديد يكاد يجري مجرى فاعل، فكأنه مائت؛ ولذلك اعتقبا على الموضع الواحد2، فقالوا: رجل سائد وسيد، وبائع وبيع، وقائم بالأمر وقيم. وقرئ: "إنك مَائِت3" و"مَيّت". وعليه أيضا حذفت عين فيعل مما اعتلت عينه، كما حذفت عين فاعل منه فصار ميت، وهين، ولين - كشاك4، وهار5، ولاث6. وإذا جريا مجرى المثال الواحد - لما
ذكرناه، ولما استطلناه فتركناه- ضعف "بَلْدَةً مَيْتًا " بالتثقيل، كما ضعفت امرأة مائت وبائع. وليس الموت أيضا مما يختص بالتأنيث فيحمل على تذكير طالق وطامث1 وبابه وهو2 إذا خفف فقيل ميت أشبه لفظ المصدر، نحو البيع، والضرب، والموت، والقتل وتذكير المصدر إذا جرى وصفا على المؤنث ليس بمستنكر، نحو امرأة عدل، وصوم، ورضا، وخصم. فهذا فرق -كما ترى- لطيف. ومن ذلك قراءة الزهري: "أَشَهِدُوا3"، بغير استفهام. قال أبو الفتح: أما حذف همزة الاستفهام تخفيفا، كأنه قال: أشهدوا خلقهم؟ كقراءة الجماعة - فضعيف؛ لأن الحذف في هذا الحرف أمر موضعه الشعر، ولكن طريقه غير هذا. وهو أن يكون قوله: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} صفة لـ"إناث" حتى كأنه قال: وجعلوا الملائكة الذين هم عباد لرحمن إناثا مشهدا خلقهم هم. فإن قلت: فإن المشركين لم يدعوا أنهم أشهدوا خلق ذلك، ولا حضروه. قيل: اجتراؤهم على ذلك، ومجاهرتهم به، واعتقادهم إياه، وانطواؤهم عليه -فعل من شاهده، وعاين معتقد ما يدعيه فيه، لا من هو شاك ومرجم ومتظن، وإن لم يكن معاندا ومتخرصا لما لا يعتقده أصلا. فلما بلغوا هذه الغاية صاروا كالمدعين أنهم قد شهدوا ما تشهروا4 به وأعصموا5 باعتقاده. وهذا كقولك لمن يزكي نفسه، وينفي الخبائث عنها، أو شيئا من الرذائل أن تتم6 عليها: وأنت إذا تقول: إنك معصوم، وهو لم يلفظ بادعائه العصمة، لكنه لما ذهب بنفسه ذلك المذهب صار بمنزلة من قال: أنا معصوم.
ومثله أن يقول الإنسان: القرآن ليس بمعجز، والنبي -صلى الله عليه وسلم- ليس بمرسل، فتقول أنت: هذا الذي تقول الحق باطل، وهو لم يلفظ بذلك، لكن صورته صورة من لفظ به. وعليه قول الله "سبحانه": {يَدْعُو [145و] لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ 1} ، إذا تأولت ذلك على أنه كأنه قال: يقول: لمن ضره أقرب من نفعه إله، ثم حذفت خبر المبتدأ، وإن كان هو لم يقل ذلك، بل هو يعتقد أن نفعه أقرب من ضره، لكنك أخبرت عنه أن صورته مع تحصيلها صورة من يقول: ذلك. ومن ذلك قراءة أبي رجاء: "لَمَّا مَتَاع2". قال أبو الفتح: ما هنا بمنزلة الذي، والعائد إليها من صلتها محذوف، وتقديره: وإن كل ذلك للذي هو متاح الحياة الدنيا، فكأنه قال: وإن كل ذلك لما يتمتع به أحوال الدنيا، فجاز حذف هذا الضمير على انفصاله جوازا قصدا لا مستحسنا، ومثله على توسطه قراءة من قرأ: "مَثَلًا مَا بَعُوضَة3، أي: ما هو بعوضة، وقوله: لم أر مثل الفتيان في غبن الـ ... أيام ينسون ما عواقبها4 أي: ينسون الذي هو عواقبها. وقد ذكرناه بما فيه، إلا أن ابن مجاهد لم يذكر كيف إعراب "كل" في هذه الآية؟ هل هو مرفوع أو منصوب؟ وينبغي أن يكون منصوبا؛ وذلك أن "أن" هذه مخففة من الثقيلة، ومتى خففت منها وأبطل نصبها لزمتها اللام في آخر الكلام للفرق بينها وبين إن النافية بمعنى ما، وذلك قولك: إن زيد لقائم، وقوله: شلت يمينك إن قتلت لمسلما5
أي: إنك قتلت مسلما، وهذا موضح في بابه. فلو كانت "كل" هنا رفعا لم يكن بد معها من اللام الفاصلة بين المخففة والنافية، ولالام معك؛ لأن هذه الموجودة في اللفظ إنما هي الجارة المكسورة، ولو جاءت معها لوجب أن تقول: وإن كل ذلك للمامتاع الحياة الدنيا، كقولك: إن زيد لمن الكرام. فإن قلت: إنه قد يجوزم أن يكون أراد اللام الفاصلة، لكنها جفت مع اللام الجارة، فحذفت وصارت هذه الجارة في اللفظ كالعوض منها. قيل: فقد قال: فلا والله لا يلفي لما بي ... ولا للما بهم أبدا دواء1 فجمع بين اللامين، وكلتاهما جارة. فجاز الجمع بين الجارتين، وهما بلفظ واحد، وعمل واحد- فجمع المفتوحة مع المكسورة العاملة أحرى بالجوز. وبعد، فالحق أحق أن يتبع. هذا بيت لم يعرفه أصحابنا ولا رووه، والقياس من بعد على نهاية المج له والإعراض عنه، لاسيما وقد جاور بحرف الجر حرفا مثله لفظا ومعنى, فلو وجد هذا البيت عنوانا على كل ورقة من مصحف أبي عمرو لما جاز استعمال مثله في الشعر إلا كلا ولا2، فضلا عن الأخذ به في كتاب الله. فإذا كان كذلك بطل رفع "كل" لما ذكرناه، وجب أن يكون نصبا على لغة من نصب مع التخفيف، فقال: إن زيدا قائم؛ لأنه إذا نصب زال لاشك في أنها ليست بالنافية؛ لأن تلك غير ناصبة للمبتدأ. وترك ابن مجاهد ذكر الإعراب في "كل" يدعو إلى أن يكون رفعا؛ إذ لو كان نصبا لذكره لما فيه من الشذوذ الذي عليه وضع الكتاب، ففيه إذا ما تراه، فتعجب منه.
ومن ذلك قراءة علي بن أبي طالب وابن مسعود "رضي الله عنهما" ويحيى والأعمش: "يَا مَالِ1". قال أبو الفتح: هذا المذهب المألوف في الترخيم [145ظ] ، إلا أن فيه في هذا الموضع سرا جديدا، وذلك أنهم -لعظم ما هم عليه- ضعفت قواهم، وذلت أنفسهم، وصغر كلامهم؛ فكان هذا مواضع الاختصار ضرورة عليه، ووقوفا دون تجاوزه إلى ما يستعمله المالك لقوله، القادر على التصرف في منطقه. ومن ذلك قراءة أبي عبد الرحمن اليماني: "فَأَنَا أَوَّلُ الْعَبِدِين2". قال أبو الفتح: معناه -والله أعلم- أول الأنفين. يقال: عبدت من الأمر أعبد عبدا، أي: أنفت منه. وهذا يشهد لقول من قال في القراءة الأخرى: "فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِين"، أي: الأنفين. ولم يذهب إلى أنه أول العابدين؛ لأني لا أذهب إلى ما يذهبون إليه من أن معناه: أن كان للرحمن عندكم أنتم ولد فأنا أول من يعبده، لأن الأمر بخلاف ما قدرتموه أنتم., ألا ترى أن العبدين من عبد يعبد؟ فإن قلت: فقد قال: أصبح قلبي صردا ... لا يشتهي أن يردا إلا عرادا عردا ... وصليانا بردا وعنكثا ملتبدا3 يريد عاردا وباردا، كما قال العجلي: كأن في الفرش القتاد العاردا3 قيل: إنما جاز في الضرورة؛ لأن القافية غير مؤسسة، فحذف الألف ضرورة كما حذفها الآخر من قوله: مثل النقا لده ضرب الطلل4 يريد الطلال، كما قال القحيف العقيلي: ديار الحي يضربها الطلال ... بها أهل من الخافي ومال4
وكذلك مذهب ابن عباس في قوله: "فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِين"، أي: الأنفين. ووجه ثالث مقول أيضا، وهو أن تكون "إن" بمعنى ما، أي: ما كان للرحمن ولد، فأنا أول العابدين له؛ لأنه لا ولد له. قال الفرزدق: وأعبد أن تهجى كليب بدارم1 أي: آنف من ذلك. وروينا عن قطرب أن العابد العالم، والعابد الجاحد، والعابد الأنف الغضبان، قال: ومعنى هذه الآية يحتمل كل هذه المعاني، وفيه ما ذكرته أنا لك. ومن ذلك قراءة الأعرج ورويت عن أبي قلابة وعن مجاهد أيضا: "وقيله2"، رفعا. قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون ارتفاعه عطفا3 على "علم" من قوله: {وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَة} ، و"قيله"، أي: وعلم قيله، فجاء على حذف المضاف، كما أن من جره "وقيله" فهو معطوف عنده على "الساعة". فالمعنيان -كما تراه- واحد، والإعرابان مختلفان. فمن نصب فقال: "وقيله" كان معطوفا على "الساعة" في المعنى، إذ كانت مفعولا بها في المعنى، أي: عنده أن يعلم الساعة وقيله. وهذا كقولك: عجبت من أكل الخبز والتمر، أي: من أن أكلب هذا وهذا. وروينا عن أبي حاتم، قال: "وقيله" نصب معطوف على "نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ4"، و"قيله". قال: قال ذلك جماعة، منهم يعقوب القارئ. وبعد، فليعم أن المصدر الذي هو "قيل" مضاف إلى الهاء، وهي مفعولة في المعنى لا فاعله؛ وذلك أن وعنده عطفا
علم أن يقال له: يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون. فالمصدر هنا مضاف إلى المفعول لا إلى الفاعل، وإنما هو [146و] من باب قول الله "سبحانه": {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ 1} ، أي: بسؤاله إياك نعجتك. ومثله قوله "تعالى": {لا يَسْأَمُ الْأِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ 2} ، أي: من دعائه الخير، لا بد من هذا التقدير. ألا ترى أنه لا يجوز أن تقدره على أنه: وعنده علم أن يقول الله: يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون؟ لأن هذا إنما يقال لله "تعالى" دون أن يكون "سبحانه" يقول: يا رب إن هؤلاء كذا، فتم الكلام على "يؤمنون"، ثم قال الله: يا محمد، فاصفح عنهم، وليس يريد "تعالى" الصفح الذي هو المساهلة والعفو؛ إنما المراد فأعرض عنهم بصفح وجهك، كما قال "تعالى" {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين 3} . وقوله: "قل سلام4"، أي: أمرنا وأمركم متاركة وتسلم، كما قال: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا 5} . وقوله: {فَسَوْفَ يَعْلَمُون 6} من كلام الله أيضا، ألا ترى أن النبي "صلى الله عليه وسلم" لا يقول لله "سبحانه": {فَسَوْفَ يَعْلَمُون} ؟ لأن هذا إعلام، والله أحق المعلمين بهم.
سورة الدخان
سورة الدخان: بسم الله الرحمن الرحيم قراءة الحسن وأبي رجاء طلحة، بخلاف: "يَوْمَ نَبْطِش1"، مضمومة النون، مكسورة الطاء. قال أبو الفتح: معنى نبطش أي نسلط عليهم من يبطش بهم، فهذا من بطش هو، وأبطشته أنا، كقولك: قدر وأقدرته، وخرج وأخرجته. وإلى هذا ذهب أبو حاتم في هذه الآية فيما رويناه عنه. وأما انتصاب "البطشة" فبفعل آخر غير هذا الظاهر، إلا أن هذا دل عليه، فكأنه قال: يوم نبطش من نبطشه، فيبطش البطشة الكبرى، فيجري نحو من قولهم: أعلمت زيدا عمرا العلم اليقين إعلاما، فإعلاما منصوب بأعلمت. وأما العلم اليقين فمنصوب بما دل عليه أعلمت، وهو علم العلم اليقين. وعليه قوله: ورضت فذلت صعبة أي إذلال2 فأي إذلال منصوب بما دل عليه قوله: {رُضْت} ؛ لأن "رضتها" وأذللتها بمعنى3 واحد ولك أن تنصب "البطشة الكبرى" لا على المصدر، ولكن على أنها مفعول به، فكأنه
قال: يوم نقوى البطشة الكبرى عليهم، وتمكنها منهم، كقولك: يوم نسلط القتل عليهم، وتوسع الأخذ منهم. ومن ذلك قراءة عكرمة: "وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِين1". قال أبو حاتم: وفي قراءة عبد الله بن مسعود: "وَزَوَّجْنَاهُمْ بِعيس عِين". قال أبو الفتح: هذه الإضافة تفيد ما تفيده الصفة؛ لأن حور العين حور عين في المعنى، إلا أن لفظ الصفة أوفى2 من لفظ الإضافة؛ إذ كان المضاف والمضاف إليه جاريين مجرى المفرد. والصفة تأتي من الاختصاص المستفاد منها مأتى الزيادة المسهب بها، وهي مع ذلك أشد إصراحا بالمعنى من المضاف. ألا ترى أنك إذا قلت: مررت بظريف كرام جاز أن يكون ذلك الظريف كريما، وجاز أن يكون منسوبا إليهم؛ لاتصاله بهم وإن لم يكن كريما مثلهم؟ وإذا قلت: مررت بظريف كريم فقد أثبت له مذهب الكرم [146ط] البتة. وأما قراءة عبد الله: "بِعِِيسٍ عِين" فإن العيساء: البيضاء، والأعيس: الأبيض، وكذلك فسرها أبو حاتم والفراء جميعا.
سورة الجاثية
سورة الجاثية: بسم الله الرحمن الرحيم قراءة ابن عباس وعبد الله بن عمرو الجحدري وعبد الله بن عبيد بن عمير: "جَمِيعًا مِنَّةً1"، منصوبة، منونة. وقرأ: "جَمِيعًا مِنُّةً" -سلمة -فيما حكاه ورويته عنه- أبو حاتم. قال أبو الفتح: أما "منة" فمنصوب على المصدر بما دل عليه قوله "تعالى": {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} ؛ لأن ذلك منه "عز اسمه" منة منها عليهم، فكأنه قال: من عليهم منة. ومن نصب وميض البرق من قولهم: تبسمت وميض البرق بنفس تبسمت، لكونه في معنى أومضت -نصب أيضا "منة" بنفس سخر لكم، على ما مضى. وأما "منة" بالرفع فحمله أبو حاتم على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: ذلك، أو هو "منة"، كذا قال. ويجوز أيضا عندي أن يكون مرفوعا بفعله هذا الظاهر، أي: سخر لكم ذلك "منة" كقولك: أحياني إقبالك علي، وسدد أمري حسن رأيك في؛ فتعمل فيه هذا اللفظ الظاهر، ولا تحتاج إلى إبعاد التناول واعتقاده ما ليس بظاهر. ومن ذلك قراءة يعقوب: "كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى2"، بفتح اللام. قال أبو الفتح: "كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى" بدل من قوله: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} . وجاز إبدال الثانية من الأولى لما في الثانية من الإيضاح الذي ليس في الأولى؛ لأن جثوها ليس فيه شيء من شرح حال الجثو. والثانية فيها ذكر السبب الداعي إلى جثوها، وهو استدعاؤها إلى ما في
كتابها، فهي أشرح من الأولى،0 فذلك أفاد إبدالها منها. ونحو ذلك رأيت رجلا من أهل البصرة رجلا من الكلاء1. فإن قلت: فلو قال: وترى كل أمة جاثية تدعى إلى كتابها لأغني عن الإطالة. قيل: الغرض هنا هو الإسهاب؛ لأنه موضع إغلاط ووعيد، فإذا أعيد لفظ "كل أمة" كان أفخم من الاقتصار على الذكر الأول، وقد مضى نحو هذا.
سورة الأحقاف
سورة الأحقاف: بسم الله الرحمن الرحيم قراءة ابن عباس -بخلاف- وعكرمة وقتادة وعمرو بن ميمون، ورويت عن الأعمش: "أَوْ أَثَرَةٍ مِنْ عِلْمٍ1"، بغير ألف. وقرأ علي "عليه السلام" وأبو عبد الرحمن السلمي: "أَوْ أَثَرَةٍ"، ساكنة الثاء. قال أبو الفتح: الأثرة والأثارة التي تقرأ2 بها العامة: البقية، وما يؤثر. وهي من قولهم: أثر الحديث يأثره أثرا وأثرة. ويقولون: هل عندك من هذا أثرة وأثارة، أي: أثر. ومنه سيف مأثور، أي: عليه أثر الصنعة، وطرائق العمل. وأما "الأثرة3"، ساكنة الثاء فهي أبلغ معنى؛ وذلك أنها الفعلة الواحدة من هذا الأصل، فهي كقولك: ائتوني بخبر واحد، أو حكاية شاذة، أي: قد قنعت في الاحتجاج لكم بهذا القدر، على قلته، وإفراد عدده. ومن ذلك قراءة عكرمة وابن أبي عبلة وأبي حيوة: "بِدْعًا مِنَ الرُّسُل". قال أبو الفتح: هو على [147و] حذف المضاف، أي: ما كنت صاحب بدع، ولا معروفة مني البدع. قال: وكيف تواصل من أصبحت ... خلالته كأبي مرحب4
أي كخلالة أبي مرحب. وما أكثر هذا المضاف في القرآن، وفصيح الكلام. ومن ذلك قراءة علي وأبي عبد الرحمن السلمي: "بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا1". قال أبو الفتح: تحتمل اللغة أن تكون حسنا هنا مصدرا، كالمصادر التي اعتقب عليها الفعل والفعل، نحو الشغل والشغل، والبخل والبخل، وهو واضح. وتحتمل أن يكون "الحسن" هنا اسما صفة لا مصدرا، لكنه رسيل2 القبيح كقولنا: الحسن من الله، والقبيح من الشيطان، أي: وصيناه بوالديه فعلا حسنا، ونصبه وصيناه به؛ لأنه يفيد مفاد ألزمنا الحسن في أبويه. وإن شئت قلت: هو منصوب بفعل غير هذا، لا بنفس هذا؛ فيكون منصوبا بنفس ألزمناه، لا بنفس وصيناه؛ لأنه في معناه. ومن ذلك قراءة ابن مسعود: "هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ3". قال أبو الفتح: قد كثر عنهم حذف القول؛ لدلالة ما يليه عليه، كقول الله تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ 4} ، أي: يقولون: سلام عليكم، وكذلك هذه القراءة، مفسرة لقراءة الجماعة: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِه} ، لو لم تأت قراءة عبد الله هذه لما كان المعنى إلا عليها، فكيف وقد جاءت ناصرة لتفسيرها؟ ومن ذلك قراءة الحسن وأبي رجاء والججدري وقتادة وعمرو بن ميمون والسلمي ومالك ابن دينار والأعمش وابن أبي إسحاق، واختلف عن الكل إلا أبا رجاء ومالك بن دينار: "لا تَرَى"، بالتاء مضمومة، "إِلَّا مَسَاكِنُهُم5"، بالرفع. وقرأ الأعمش: "إِلَّا مَسَاكِنُهُم"، وكذلك يروى عن الثقفي ونصر بن عاصم.
قال أبو الفتح: أما "ترى"، بالتاء ورفع "المساكن" فضعيف في العريبة، والشعر أولى بجوازه من القرأن؛ وذلك أنه من مواضع العموم في التذكير، فكأنه في المعنى لا يرى شيء إلا مساكنهم. وإذا كان المعنى هذا كان التذكير لإراته هو الكلام. فأما "ترى" فإنه على معاملة الظاهر، والمساكن مؤنثة، فأنث على ذلك. وإنما الصواب ما ضرب إلا هند، ولسنا نريد بقولنا: أنه على إضمار أحد وإن هند بدل من أحد المقدر هنا، وإنما نريد أن المعنى هذا؛ فلذلك قدمنا أمر التذكير. وعلى التأنيث قال ذو الرمة: يرى النحز والأجرال ما في غروضها ... فما بقيت إلا صدور الجراشع1 وهو ضعيف، على ما مضى. وأما "مسكنهم" فإن شئت قلت: واحد كنى من جماعته، وإن شئت جعلته مصدرا وقدرت حذف المضاف، أي: لا ترى إلا آثار مسكنهم. فلما كان مصدرا لم يلق لفظ. الجمعية به كما قال ذو الرمة: تقول عجوز مدرجي متروحا ... على بابها من عند أهلي وما ليا2 فالمدرج هنا [147ظ] مصدر، ألا تراه قد نصب الحال؟ ولو كان مكانا لما عمل، كما أن المغار من قوله: وما هي إلا في إزار وعلقة ... مغارا بن همام على حي خثعما3 مصدر أيضا: ألا تراه قد علق به حرف الجر؟ وهذا واضح. وحسن أيضا أن يريد "بمسكنهم" هنا الجماعة، وإن كان قد جاء بلفظ الواحد؛ وذلك أنه موضع تقليل لهم وذكر العفاء عليهم، فلاق بالموضع ذكر الواحد؛ لقلته عن الجماعة، كما أن قوله "سبحانه":
{ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا 1} ، أي: أطفالا. وحسن لفظ الواحد هنا؛ لأ، هـ موضع تصغير لشأن الإنسان، وتحقير لأمره، فلاق به ذكر الواحد لذلك، لقلته عن الجماعة، ولأن معناه أيضا تخرج كل واحد منكم طفلا، وقد ذكرنا نحو هذا2. وهذا مما إذا سئل الناس عنه قالوا: وضع الواحد موضع الجماعة اتساعا في اللغة، وأنسوا حفظ المعنى ومقابلة اللفظ به؛ لتقوى دلالته عليه، وتنضم بالشبه إليه. ومن ذلك قراءة ابن عباس وأبي عياض وعكرمة3 وحنظلة بن النعمان بن مرة: "إِفْكِهِم4"، بفتح الألف، والفاء، والكاف. وقرأ: "وَذَلِكَ إِفْكُهُم"، بالمد، وفتح الفاء مخخفة - عبد الله بن الزبير. وقرأ: "إِفْكُهُم"، مشددة الفاء - أبو عياض، بخلاف. وقراءة الناس: "وَذَلِكَ إِفْكُهُم"، فذلك أربعة أوجه. قال أبو الفتح أما "إِفْكُهُم" فصرفهم، وثناهم. قال: إن تك عن أحسن المروءة ومأ ... فوكا ففي آخرين قد أفكوا5 وهو صرف بالباطل، وأرض مأفوكة، أي: مقلوبة التراب. وأما "إِفْكُهُم" فيجوز أن يكون أفعلهم، أي: أصارهم إلى الإفك، أو وجدهم كذلك، كما تقول: أحمدت الرجل: وجدته محمودا.
ويجوز أن يكون أفعل على معنى فعل، كصد وأصد، وقد مضى ذكره. ويجوز أن يكون "آفْكُهُم" فاعلهم كغالطهم وخادعهم. وأما "أفْكُهُم" ففعلهم؛ وذلك لتكثير ذلك1 الفعل بهم، وتكرره منه عليهم. وحكى الفراء فيها قراءة أخرى، وهي: "وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ"، وقال فيه: إلإفك والأفك، الحذر والحذر. ومن جهة أحمد بن يحيى: مالي أراك عاجزا أفيكا ... أكلت جديا وأكلت ديكا تعجز أن تأخذ ما أريكا2 الأفيك: المصروف عن وجهه وحيلته. وروينا عن قطرب أن ابن عباس قرأ: "وَذَلِكَ آفْكُهُمْ"، بمعنى صارفهم، فذلك ست قراآت. ومن ذلك قراءة الحسن وعيسى الثقفي: "مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌا3". قال أبو الفتح: هو على فعل مضمر، أي: بلغوا أو بلغو بلاغا، كما أن من رفع فقال: "بلاغ" فإنما رفع على أضمار المبتدأ، أي: ذلك بلاغ، أو هذا بلاغ. قال أبو حاتم: قرأ: "بلغ"، على الأمر أبو - مجلز وأبو سراج الهذلي. ومن ذلك قراءة ابن محيصن: "فَهَلْ يُهْلَك4". قال هارون: وبعض الناس يقول: "فَهَلْ يُهْلَك". وقرأ الناس: "يُهْلَك". قال أبو الفتح: "أما يهلك"، بكسر اللام فواضحة، وهي المعروفة. وأما "يهلك" بفتح الياء واللام جميعا فشاذة، ومرغوب عنها؛ لأن الماضي هلك، فعل مفتوحة [148و] العين، ولا يأتي يفعل، بفعل العين فيهما جميعا إلا الشاذ. وإنما هو أيضا
لغات تداخلت، ولكنه يأتي مع حروف الحلق إذا كانت1 عينا أو لاما، نحو قرأ يقرأ، وسأل يسأل. وليس لك أن تحمل هلك يهلك على أبى يأبى، وتحتج بأن أول هلك حرف حلق كأبى، لأن آخر أبى ألف، والألف قريبة المخرج من الهمزة، وإن كانت في أبى منقلبة. ومن ذلك ما رواه عمرو عن الحسن: "وَلَمْ يَعْي2"، بكسر العين، وسكون الياء. قال أبو الفتح: هذا مذهب ترغب3 العرب عنه، وهو إعلال عين الفعل وتصحيح لامه، وإنما جاء ذلك في شيء من الأسماء، وهو غاية، وآية، وثاية4، وطاية5. وقياسها6 غياة، وأياة، وطياة، وثياة، أو ثواة. ولم يأت هذا في الفعل إلا في بيت شاذ. أنشده الفراء، وهو قول الشاعر: وكأنها بنين النساء سبيكة ... تمشي بسدة بيتها فتعي7 فأعل العين، وصحح اللام، ورفع ما لم ترفعه العرب. وإنما تعله، نحو يرمي ويقضي. وكذلك قوله: {وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ} أجراه مجرى لم يبع، فحذف العين؛ لسكونها، وسكون الياء الثانية. ووزن لم يعي لم يفل مثل لم يبع، والعين محذوفة لالتقاء الساكنين.
سورة محمد
سورة محمد صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم قرأ علي وابن عباس "رضي الله عنهما": "مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ1". قال أبو الفتح: هذه القراءة دليل على أن القرءة العامة التي هي "مثل"، بالتوحيد - بلفظ الواحد ومعنى الكثرة؛ وذلك لما فيه من معنى المصدرية؛ ولهذا جاز مررت برجل مثل رجلين وبرجلين مثل رجال، وبامرأة مثل رجل، وبرجل مثل امرأة. ألا ترى أنك تستفيد في أثناء ذلك معنى التشبيه والتمثيل؟ ومثل ومثل بمعنى واحد، كشبه وشبه، وبدل وبدل. فإن قيل: فإنه لم يأت عنهم ضربت له مثلا، كما يقال: ضربت له مثلا. قيل: المعنى الواحد، وإن لم يأت الاستعمال به، كما أتى الآخر في هذا المعنى. ألا ترى أنك لا تضرب مثلا إلا بين الشيئين اللذين كل واحد منهما مثل صاحبه، ولو خالفه فيما ضربته فيه لم تضربه مثلا؟ ومن ذلك قراءة أهل مكة -فيما حكاه أبو جعفر الرواسي2: "إنْ تَأْتِهِمُ3"، بكسر الألف من غير ياء. قال أبو الفتح: هذا على استئناف شرط؛ لأنه وقف على قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَة} ، ثم قال: {أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} فأجاب الشرط بقوله: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا}
فإن قلت: فإن الشرط لا بد فيه من الشك، وهذا موضع محذوف عنه الشك البتة. ألا ترى إلى قوله "تعالى": {إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا 1} ، وغير ذلك من الآي القاطعة بإتيانها؟ قيل: لفظ الشك من الله "سبحانه"، ومعناه منا، أي: إن شكوا في مجيئها بغتة فقد جاء أشراطها، أي: أعلامها، فهو توقعوا وتأهبوا لوقوعها مع دواعي العلم بذلك لهم إلى حال وقوعها. فنظيره مما اللفظ فيه من الله "تعالى"، ومعناه منا - قوله "تعالى": {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ 2} ، أي: يزيدون عندكم أنتم؛ لأنكم لو رأيتنم جمعهم [148ظ] لقلتم أنتم: هؤلاء مائة ألف، أو يزيدون. وقد مضى هذا مشروحا فيما قبل. ومن ذلك قراءة أبي عمرو في رواية هارون3 بن حاتم عن حسين4 عنه: "بَغْتَة5". قال أبو الفتح: فعله مثال لم يأت في المصادر ولا في الصفات أيضا، وإنما هو مختص بالاسم، منه الشربة: اسم موضع. أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن عن أبي العباس أحمد بن يحيى: يقول عبد الله بن الحجاج التغلبي لعبد الملك بن مروان في خبر له معه: ارحم أصيبيتي الذين كأنهم ... حجلى تدرج بالشربة وقع6
ومنه الجزية: الجماعة. قال: جربة كحمر الأيك ... لا ضرع فيها ولا مذكى1 وجاء بلا تاء في الاسم أيضا، وهو معد، وهبي، وهو الصبي الصغير. ولا بد من إحسان الظن بأبي عمرو، ولا سيما وهو القرآن، وما أبعده عن الزيغ والبهتان! ومن ذلك قراءة النبي "صلى الله عليه وسلم": "فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ2". وروي عن علي: "إِنْ تَوَلَّيْتُم". قال أبو الفتح: قال أبو حاتم: معناه إن تولاكم الناس. ومن ذلك قراءة الأعرج ومجاهد والجحدري والأعمش ويعقوب: "سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ3"، بضم الألف، وسكون الياء. قال أبو الفتح: تقديره الشيطان سول لهم، وأملي أنا لهم، أي: الشيطان يغويهم وأنا أنظرهم. ومعنى سول لهم، أي: دلاهم، وهو من السول، وهو استرخاء البطن. رجل أسول، وامرأة سولاء: إذا كانا مسترخين البطون. قال الهذلي: كالسحل البيض جلا لونها ... سح نجاء الحمل الأسول4 أي: السحاب المسترخى الأسافل، لثقله وغزر مائه. فهذا إذا كقول الله "سبحانه": {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ5} ، وهذا اشتقاق حسن، أخذناه عن أبي علي.
ومن ذلك: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ 1} ، بالتشديد. قرأ بها السلمي. قال أبو الفتح: معنى تدعو هنا، أي: تنسبوا إلى السلم، كقولك: فلان يدعى إلى بني فلان، أي: ينتسب إليهم، ويحمل نفسه عليهم. وإلى هذا يرجع معنى قوله: فما برحت خيل تثوب وتدعى2 فأما قوله: فلا وأبيك ابنه العامري ... لا يدعي القوم أني أفر3 فإنه من الدعوى المستعملة في المعاملات، المحوجة إلى البينة. وقد تمكن رجوعها أيضا إلى معنى الانتساب، أي: لا ينسبونني إلى الفرار. وما أقرب أطراف هذه اللغة على ظاهر بعدها وأشد تلاقيها مع مظنون تنافيها! ومن ذلك ما رواه الحلواني عن أبي معمر4 عن عبد الوارث عن أبي عمرو: "وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ5"، مرفوعة الجيم.
قال أبو الفتح: هو على القطع تقديره {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا} ، ثم الكلام هنان ثم استأنف فقال: وهو {يُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} على كل حال، أي: هذا ما يصح منه، فاحذروه أن يتم منه عليكم، فهو راجع بالمعنى إلى معنى الجزم. وهذا كقولك: إذا زرتني فأنا ممن يحسن إليك، أي: فحرى بي أن أحسن إليك. ولو جاء بالفعل مصارحا به فقال: إذا زرتني أحسنت إليك لم يكن في لفظه ذكر عادته التي يستعملها من الإحسان إلى زائره. وجاز أيضا أن يظن به عجز عنه، أو وني وفتور دونه. فإذا ذكر أن ذلك عادته، ومظنة منه -[149و] كانت النفس إلى وقوعه أسكن، وبه أوثق. فاعرف هذه المعاريض في القول، ولا ترينها تصرفا واتساعا في اللغة، مجردة من الأغراض المرادة فيها، والمعاني المحمولة عليها.
سورة الفتح
سورة الفتح: بسم الله الرحمن الرحيم قرأ: "تُعَزِّرُوه1"، خفيفة، مفتوحة التاء، مضمومة الزاي - الجحدري. قال أبو الفتح: "تُعَزِّرُوه"، أي: تمنعوه، أو تمنعوا دينه وشريعته، فهو كقوله "تعالى": {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ 2} ، أي: إن تنصروا دينه وشريعته، فهو على حذف المضاف. وأما "تُعَزِّرُوه"، بالتشديد فتمنعوا منه بالسيف، فيما ذكر الكلبي. وعزرت فلانا، أي: فخمت أمره. قالوا: ومنه عزرة: اسم الرجل، ومنه عندي قولهم: التعزير، للضرب دون الحد، وذلك أنه لم يبلغ به ذل الحد الكامل وكأنه محاسنة له ومباقة فيه. قال أبو حاتم قرأ: "تُعَزِّزوه"، بزايين - اليمامي3، أي: يجعلوه عزيزا. ومن ذلك قراءة تمام بن عباس بن عبد المطلب: "إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ4". قال أبو الفتح: هو على حذف المفعول؛ لدلالة ما قبله عليه، فكأنه قال: إن الذين يبايعونك إنما يبايعونك لله، فحذف المفعول الثاني؛ لقربه من الأول، وأنه أيضا بلفظه وعلى وضعه. وهذا المعنى وهو راجع على معنى القراءة العامة: {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} ، أي: إنما يفعلون ذلك لله، إلا أنها أفخم معنى من قوله: "لله"، أي: إنما المعاملة في ذلك معه، فهو أعلى لها وأرجح بها.
ومن ذلك قراءة الحسن: "أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ1". قال أبو الفتح: نصبه على الحال، أي: "محمد رسول الله والذين معه"، فـ"معه" خبر عن الذين آمنوا2، كقولك: محمد رسول الله علي معه، ثم نصب "أشداء" و"رحماء" على الحال، أي: هم معه على هذه الحال، كقولك: زيد مع هند جالسا، فتجعله حالا من الضمير في معه3، لأمرين: أحدهما قربة منه، وبعده عن زيد. والآخر ليكون العامل في الحال -أعني الضمير- هو العامل في صاحب الحال4، أعني الظرف. ولو جعلته حالا من الذين كان العامل في الحال غير العامل في صاحبها، وإن كان ذلك جائزا، كقوله تعالى: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا 5} ، إلا أن الأول أوجه. وإن شئت نصبت أشداء ورحماء على المدح، وأصف وأزكى أشداء ورحماء. وكسر رحيم على رحماء -فعلاء- وشديد على أشداء -أفعلاء- كراهية التضعيف في أشداء، وقد وجدوا له نظير على أفعلاء، فقالوا: صفي وأصفياء، ووفي وأوفياء، كراهية لصفواء ووفياء، لما يجب من الاعتذار من ترك قلب الواو والياء؛ لتحركهما وانفتاح ما قبلها. فهذا ونحوه مما يدلك ويبصرك أنهم لا يتنكبون شيئا إلى آخر تطربا ولا تبدلا، لا بل إنعاما وتأملا. ومن ذلك قراءة عيسى الهمداني -بخلاف-: "شَطَاءهُ6"، ممدود، مهموز.
وقرأ عيسى: "شَطْأَه". وقرأ الجحدري: "شَطْوَهُ". قال أبو الفتح: الشطء: الفراخ للزرع، وجمعه شطوء. ويقال أيضا: هو الورق. والشطء: السنبل أيضا. شطأ الزرع شطئا، وأشطأ إشطاء. ويقال: إن معفر بن حمار البارقي شامت1 ابنته برقا، فقالت: يا أبه2، جاءتك السماء! فقال لها: كيف ترينها؟ فقالت له: كأنها عين جمل طريف3. فقال لها: ارعى غنيماتك، فرعت مليا، ثم جاءته فقالت: يا أبه، جاءتك السماء! فقال: [149ظ] كيف ترينها؟ فقالت: كأنها فرس دهماء تجر جلالها. فقال لها: ارعى غنيماتك، فرعت مليا، ثم جاءته فقالت: يا أبه، جاءتك السماء! فقال: كيف ترينها؟ فقالت: سطحت4 وابيضت5. فقال: أدخلي غنيماتك، فجاءت السماء بشيء شطأ له الزرع. ومنه عندي قولهم: شاطئ النهر والوادي؛ لأنه ما برز منه وظهر؛ ولهذا سموه السيف؛ لأنه من لفظ السيف ومعناه. ألا ترى أنهم يصفون السيف بالصقال والانجراد؟ قال: كأنني سيف بها إصليت6 أي: بارز صلت7. وموجب الوصية في ترتيب أحوال المشتق والمشتق منه في التقدم والتأخر -أن يكون السيف مشتقا من السيف؛ لأن السيف من صنعة البشر، والسيف من صنعة القديم "سبحانه"، فهو أسبق مرتبة في الزمان، فليكن أسبق مرتبة في الكلام. ألا ترى أن آدم عليه السلام مخلوق من التراب؟ وهذا واضح. وأما "شَطْوَهُ"، بالواو فلن يخلو أن يكون لغة، أو بدلا من الهمزة. ولا يكون الشطء إلا في البر والشعير8.
سورة الحجرات
سورة الحجرات: بسم الله الرحمن الرحيم قرأ الضحاك ويعقوب: "لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ1". قال أبو الفتح: أي لا تفعلوا ما تؤثرونه، وتتركوا ما أمركم الله به. وهذا هو معنى القراءة العامة: {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} ، أي: لا تقدموا أمرا على ما أمركم الله به، فالمفعول هنا محذوف كما ترى. ومن ذلك قراءة زيد بن ثابت وابن مسعود والحسن -بخلاف- وعاصم الجحدري: "فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ2". قال أبو الفتح: هذه القراءة تدل على أن القراءة العامة التي هي: {بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} لفظها لفظ التثنية، ومعناها الجماعة، أي: كل اثنين فصاعدا من المسلمين اقتتلا فأصلحوا بينهما. ألا ترى أن هذا حكم عام في الجماعة، وليس يختص به منهم اثنان مقصودان؟ ففيه إذا شيئان: أحدهما لفظ التثنية يراد به الجماعة. والآخر لفظ الإضافة لمعنى الجنس، وكلاهما قد جاء منه قولهم: لبيك وسعديك، فليس المراد هنا إجابتين ثنتين، ولا إسعادين اثنين. ألا ترى أن الخليل فسره فقال: معناه كلما
كانت في أمرين فدعوتني له أجبتك إليه، وساعدتك عليه1. فقوله: كلما يؤكد ما نحن عليه ومنه قولهم: فلو كنت مولى العز أو في ظلاله ... ظلمت ولكن لا يدي لك بالظلم2 ألا تراه لا ينفي قوتين وثنتين، وإنما ينفي جميع قواه؟ وكذلك قول الله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ 3} . ونعم الله تعالى أكثر من أن تحصى، وكذلك قوله: إذا شق برد شق بالبرد مثله ... دواليك حتى ليس للبرد لابس4 أي: مداولة بعد مداولة، وكقول العجاج: شربا هذا ذيك وطعنا وخضا5 أي: بعد هذ، ولا هذين اثنين ليس غير، ونظائره كثيرة. وأما إفادة المضاف لمعنى الجنسية فقولهم: منعت العراق قفيزها6 ودرهمها، أي: قفزانها
ودراهمها، ومنعت مصر إردبهان، أي: أرادبها، [150و] ومنه قوله "تعالى": {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ 1} ، ومنه قولهم: نعم الرجلان الزيدان، وله أشباه. ومن ذلك قراءة ابن عباس "لِتَعرفوا2"، قال أبو الفتح: المفعول هنا محذوف أي: لتعرفوا ما أنتم محتاجون إلى معرفته من هذا الوجه، وهو كقوله: وما علم الإنسان إلا ليعلما3 أي ليعلم ما علمه، أو ليعلم ما يدعو إلى علمه ما علمه. وحذف المفعول كثير جدا، وما أغربه وأعذبه لمن يعرف مذهبهم4!.
سورة ق
سورة ق: بسم الله الرحمن الرحيم قرأ الثقفي: "قَافَ"1، بفتح الفاء. وقرأ: "قافِ" -بالكسر- الحسن وابن أبي إسحاق. قال أبو الفتح: يحتمل "قاف"، بالفتح أمرين: أحدهما أن تكون حركته لالتقاء الساكنين، كما أن من يقرأ: "قاف" بالكسر كذلك، غير أن من فتح أتبع الفتحة صوت الألف؛ لأنها منها، ومن كسر فعلى أصل التقاء الساكنين. والآخر أن يكون "قاف" منصوبة الموضع بفعل مضمر، غير أنه لم يصرفها لاجتماع التعريف والتأنيث "في"2 معنى السورة. وأما قراءة الحسن "صاد3" بالكسر فقد تقدم أنه يريد بها مثال الأمر من صاديت، أي: عارض عملك بالقرآن، فلا وجه لإعادته. وقيل: "قاف" جبل محيط بالأرض، فكان قياسه الرفع، أي: هو "قاف" وقد تمحل الفراء في هذا، فقال: جاء ببعض الاسم كقوله: قلنا لها قفي لنا قالت قاف4 وفي هذا ضعفت، ألا ترى إلى الفتح والكسر فيه؟ ومن ذلك قراءة يحيى والأعرج وشيبة وأبي جعفر وصفوان بن عمرو: "إِذَا مِتْنَا5"، بغير استفهام.
قال أبو الفتح: يحتمل هذا أمرين: أحدهما حذف همزة الاستفهام على القراءة العامة، فحذفها تخفيفا، وقد مضى نحو هذا، وذكرنا ضعفه1. والآخر أن يكون غير مريد للهمزة، فكأنه قال: إذا متنا وكنا ترابا بعد رجعنا ونشورنا ودل قوله: {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيد} على هذا الفعل الذي هو "بعد"، كما أن قولك: إذا زرتني فلك درهم ناب قوله: فلك درهم عن الفعل الذي استحققت "عليه"2 ردهما، وإن كان قوله: فلك درهم جوابا، وقوله: {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيد} أي بعيد في التقدير والظن، لا في الزمان؛ لأنهم لم يكونوا يعترفون البعث، لا قريبا ولا بعيدا. ومن ذلك قراءة الجحدري: "لَمَّا جَاءَهُم3"، بكسر اللام. وقراءة الجماعة: " لَمَّا جَاءَهُم". قال أبو الفتح: معنى "لَمَّا جَاءَهُم"، أي: عند مجيئه إياهم، كقولك أعطيته ما سأل لطلبه، أي: عند طلبه ومع طلبه، وفعلت هذا لأول وقت، أي: عند ومعه، وكقولك في التاريخ: لخمس خلوان، أي: عند خمس خلوان، أو مع خمس خلوان. فرجع ذلك المعنى إلى معنى القراءة العامة: {لَمَّا جَاءَهُم} ، أي: وقت مجيئة إياهم قال: شنئت العقر عقر بني شليل ... إذا هبت لقاربها الرياح4 أي: عند وقتها [150ظ] وقال تعالى: {لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ 5} أي: عند وقتها. ومن ذلك ما يروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ6" و"بَاصقَاتٍ".
قال أبو الفتح: الأصل السين، وإنما الصاد بدل منها؛ لاستعلاء القاف؛ فأبدلت السين صادا لتقرب من القاف؛ لما في الصاد من الاستعلاء، ونحوه قولهم في سقر: صقر، وفي السقر الصقر؟ وروينا عن الأصمعي قال: اختلف رجلان من العرب في السقر، فقال أحدهما: بالصاد وقال الآخر: بالسين؛ فتراضيا بأول من يقدم عليهما، فإذا راكب فأخبراه ورجعا إليه، فقال: ليس كما قلت، ولا كما قلت: إنما هو الزفر. وهذا أيضا تقريب الحرف من الحرف، وذلك أن السين مهموسة، والقاف مجهورة، فأبدل السين زايا، وهي مجهورة، والزاي أخت السين، كما أن الصاد أختها. وهذا التقريب للحرف من الحرف باب طويل منقاد، وهو في فصل الإدغام، وما أصنعه وألطفه وأظرفه! ومن ذلك ما روى عن أبي بكر "رضي الله عنه" عند خروج نفسه: "وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْحَقِّ بالْمَوْتِ1"، وقرأ بها سعيد بن جبير وطلحة. قال أبو الفتح: لك في هذه الباء ضربان من التقدير: إن شئت عاقتها بنفس "جاءت"، كقولك: جئت بزيد، أي: أحضرته2 وأجأته3 وإن شئت علقتها بمحذوف، وجعلتها حالا، أي: وجاءت سكرة الحق ومعها الموت، كقولنا: خرج بثيابه: أي: وثيابه عليه. ومثله قول الله تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ 4} ، أي: وزيتنته عليه، ومثله قول الهذلي: يعثرن في حد الظبات كأنها ... كسيت برود بني يزيد الأذرع5 أي: يعثرن وهن في حد الظبات، وكقوله - أنشده الأصمعي: ومتنة كاستنان الخرو ... ف قد قطع الحبل بالمرود5
أي قطعه: وفيه مردوده، وكذلك القراءة العامة: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} : إن شئت علقت الياء بنفس "جاءت" على ما مضى. وإن شئت علقتها بمحذوف وجعلتها حالان فكأنه قال: وجاءت سكرة الموت ومعها الحق. فإن قلت: فكيف يجوز أن تقول: جاءت سكرة الحق بالموت، وأنت تريد به: وجاءت سكرة الموت بالحق، فياليت شعري أيتهما الجاثية بصاحبتها؟ قيل: لاشتراكهما في الحال، وقرب إحداهما من صاحبته صار كأن كل واحدة منهما جاثية بالأخرى؛ لأنهما ازدحمنا في الحال، واشتبكتا حتى صارت كل واحدة منهما جاثية بصاحبتها؛ كما يقول، الرجلان المتوافيان في الوقت الواحد إلى المكان -كل واحد منهما لصاحبه-: لا أرى أأنا سبقتك، أم أنت سبقتني؟. ومن ذلك قراءة الحسن: "أَلْقِيَا فِي جَهَنَّم1"، بالنون الخفيفة. قال أبو الفتح: هذا يؤكد قول أصحابنا في "ألقيا": إنه أراد "ألقيا"، وأجرى الوصل فيه مجرى الوقف، كقوله: يا حرسي2 اضربا عنقه. ومن ذلك قراءة ابن مسعود والحسن والأعمش: "يَوْمَ يقال لِجَهَنَّمَ3". قال أبو الفتح: هذا يدل على أن [151و] قولنا: ضرب زيد ونحوه لم يترك ذكر الفاعل للجهل به، بل لأن الغناية انصرفت إلى ذكر وقوع الفعل بزيد، عرف الفاعل بهن أو جهل؛ لقراءة الجماعة: {يَوْمَ نَقُولُ} ، وهذا يؤكد عندك قوة العناية بالمفعول به. وفيه شاهد وتفسير لقول سيبويه في الفاعل والمفعول: وإن كانا جميعا يهمانهم ويعنيانهم ومن شدة قوة العناية بالمفعول أن جاءوا بأفعال مسندة إلى المفعولن ولم يذكروا الفاعل معها أصلا، وهي نحو قولهم: امتقع لون الرجل، وانقطع به، وجن زيد, ولم يقولوا: امتقعه ولا انقطعه، ولا جنه. ولهذا نظائر، فهذا4 كإسنادهم الفعل إلى الفاعل البتة فيما لا يتعدى، نحو قام زيد، وقعد جعفر.
ومن ذلك قراءة ابن عباس وأبي العالية ويحيى بن يعمر ونصر بن سيار: "فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ1"، بكسر القاف مشددا. قال أبو الفتح: هذا أمر للحاضرين، ثم لمن بعدهم. فهو كقولك: قد أجلتك2 فانظر هل لك من منجي أو من وزر؟ وهو فعلوا من النقب، أي: ادخلوا وغوروا في الأرض، فإنكم لا تجدون لكم محيصا. ومن ذلك قراءة السدي: "أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ3". قال أبو الفتح: أي: ألقي منه، وهذا كأنه أندى معنى إلى النفس من القراءة العامة، وذلك أن قوله تعالى: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} معناه: ألقي سمعه نحو كتاب الله تعالى وهو شهيد، أي: قلبه حاضر معه، ليس غرضه أن يصغى كما أمر بالإصغاء نحو القرآنن ولا يجعل قلبه إليه، إلا ظاهر الأمر وأكثره أن إذا ألقي سمعه أيض فقلبه أيضا نحوه ومعه. وهذه القراءة المنفردة كأنها أشد تشابه لفظ: لأن ظاهرها أن قلبه ألقي إليه، وليس في اللفظ أنه هو ألقاه، فاتصل بعض ببعض، فكأنه ألقي سمعه إليه وقلبه، حتى كأن ملقيا غيره ألقي سمعه إلى القرآن. وليس عجيبا أن يقال: إن قلبه عند ذلك معه، لأنه إذا كان هو الذي ألقه نحوه فالعرف أن يكون قلبه معه، وهو شاهد لا غائب. ومن ذلك قراءة أبي عبد الرحمن السلمي وطلحة: "وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوب4"، بفتح اللام. قال أبو الفتح: قد تقدم القول على ذلك5، وذكرنا رأي أبي بكر ونحوه من المصادر التي جاءت على فعول بفتح الفاء، كالوضوء، والولوع، والطهور، والوزوع6، والقبول، وأنها صفات مصادر محذوفة، أي: توضأت وضوءا وضوءا، أي وضوءا حسنا. وكذلك هذا أي: ما مسنا من لغوب لغوب، فيصف اللغوب بأنه لغوب، أي لغب ملغب.
سورة الذاريات
سورة الذاريات: بسم الله الرحمن الرحيم قراءة الحسن: "الْحُبُك1"، مضمومة الحاء، ساكنة الباء. وروي عنه: "الْحُبُك"، بكسر الحاء، ووقف الباء. وكذلك قرأ أبو مالك الغفاري2: وروي عنه: "الْحُبُك"، بكسر الحاء، وضم الباء. وروي عنه: "الْحُبُك". وروي عنه: "الْحُبُك". الوجه السادس قراءة الناس3. وروى عن عكرمة وجه سابع، وهو: "الْحُبُك" [151ظ] . قال أبو الفتح: جميعه هو طرائق الغيم، وأثر حسن الصنعة فيه، وهو الحبيك في البيض. قال: الضاربون حبيك البيض إذ لحقوا ... لا ينكصون إذا ما استلحموا وحموا4 ويقال: حببكة الرمل، وحبائك. فهذا كسفينة، وسفن، وسفائن. وكذلك أيضا حبك الماء لطرائقه.
قال زهير: مكلل بأصول النبت تنسجه ... ريح خريق لضاحي مائه حبك1 فأما "الحبك" فمخفف من "الحبك"، وهي لغة بني تميم، كرسل وعمد، في رسل وعمد. وأما "الحبك" ففعل، وذلك قليل، منه: إبل، وإطل2، وامرأة بلز3، وبأسنانه حبر4. وأما "الحبك" فمخفف منه، كإبل، وإطل. وأما "الحبك" بكسر الحاء، وضم الباء فأحسبه سهوا. وذلك أنه ليس في كلامهم فعل أصلا، بكسر الفاء، وضم العين. وهو المثال الثاني عشر من تركيب الثلاثي، فإنه ليس ف اسم ولا فعل أصلا والبتة. أو لعل الذي قرأ به تداخلت عليه القراءتان: بالكسر، والضم. فكأنه كسر الحاء يريد "الحبك"، وأدركه ضم الباء على صورة "الحبك" وقد يعرض هذا التداخل في اللفظة الواحدة، قال بلال بن جرير: إذا جئتهم أو سآيلتهم ... وجدت بهم علة حاضرة5 أراد: أو سألتهم، أو ساءلتهم، أو لغة من قال: سايلتهم، فأبدلت، فتداخلت الثلاث عليه فخلط، فقال: سآيلتهم، فوزنها إذا فعاعلتهم؛ لأن الياء في سايلتهم بدل من الهمزة في ساءلتهم. فجمع بين اللغتين في موضعين على تلفته إلى اللغتين. كذلك أيضا نظر في "الحبك" إلى "الحبك"، و"الحبك"، فجمع بين أول اللفظة على هذه القراءة، وبين آخرها على القراءة الأخرى6.
فإما "الحبك" فكأن واحدتها حبكة، كطرقة1 وطرق، وعقبة وعقب. وأما "الحبك" فعلى حبكة، كطرقة وطرق، وبرقة2 وبرق. ولا يجوز أن يكون "حبك" معدولا إليها عن "حبك" تخفيفا، إنما ذلك شيء يستسهل في المضاعف خاصة، كقولهم في جدد: جدد، وفي سرر: سرر، وفي قلل: قلل. ومن ذلك قراءة السلمي: "أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ3". قال أبو الفتح: هذه لغة في "أيان"، وينبغي أن يكون "أيان" م لفظ أي، لا من لفظ أين؛ لأمرين: أحدهما أن أين مكان، و"أيان" زمان. والآخر أن يكون قلة فعال في الأسماء مع كثرة فعلان. فلو سميت رجلا بأيان لم تصرفه كحمدان، ولسنا ندعى أن أين مما يحسن اشتقاقها والاشتقاق منها؛ لأنها مبنية كالحرف، إلا أنها مع هذا الاسم، وهي أخت أنى، وقد جاءت فيها الإمالة التي لاحظ للإمالة فيها، وإنما الإمالة للأفعال والأسماء؛ إذ كانت ضربا من التصرف. والحروف لا تصرف فيها. ومعنى أي: أنها بعض من كل، فهي تصلح للأزمنة صلاحها لغيرها؛ إذ كان البعض شاملا لذلك كله. قال أمية: والناس راث عليهم أمر يومهم ... فكلهم قائل: أيان أيانا4 فإن سميت5 بأيان سقط الكلام في حسن تصريفها، للحاقها -بالتسمية بها- ببقية الأسماء المنصرفة.
ومن ذلك قراءة يحيى والأعمش: "ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ1". قال أبو الفتح: يحتمل أمرين: أحدهما أن يكون وصفا [152و] للقوة، فذكره على معنى الحبل، ويريد: قوى الحبل؛ لقوله: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا 2} . والآخر أن يكون أراد الرفع وصفا للرزاق، إلا أنه جاء على لفظ القوة لجوارها إياه، على قولهم: هذا حجر ضب خرب، وعلى هذا في النكرة -على ما فيه- أسهل منه في المعرفة؛ وذلك أن النكرة أشد حاجة إلى الصفة. فبقدر قوة حاجتها إليها تتشبث بالأقرب إليها. فيجوز هذا حجر ضب خرب؛ لقوة حاجة النكرة إلى الصفة. فأما المعرفة فتقل حاجتها إلى الصفة، فبقدر ذلك لا يسوغ التشبث بما يقرب منها لاستغنائها في غالب الأمر عنها. ألا ترى أنه قد كان يجب ألا توصف المعرف، لكنه لما كثرت المعرفة تداخلت فيما بعد، فجاز وصفها، وليس كذلك النكرة لأنها في أول وضعها محتاجة -لإبهاامها- إلى وصفها. فإن قلت: إن القوة مؤنثة، والمتين مذكر. فكيف جاز أن تجريها عليها على الخلاف بينهما؟ أو لا ترى أن من قال: هذا حجر ضب خرب لا يقول: هذان حجرا ضب خربين لمخالفة الاثنين الواحد؟ قيل: قد تقدم أن القوة هنا إنما المفهوم منها الحبل، على ما تقدم فكأنه قال: إن الله هو الرزاق ذو الحبل المتين، وهذا واضح. وأيضا فإن المتين فعيل، وقد كثر مجيء فعيل مذكرا وصفا للمؤنث، كقولهم: حلة خصيف3، وملحفة جديد، وناقة حسير وسديس4، وريح خريق5.
سورة الطور
سورة الطور: بسم الله الرحمن الرحيم قرأ عبد الله وإبراهيم: "وَزَوَّجْنَاهُمْ بِعيس عِينٍ1". قال أبو الفتح: قد تقدم ذكر العيس2، وأن المرأة العيساء: البيضاء. ومثله جمل أعيس، وناقة عيساء. قال في وصف امرأة: كأنها البكرة العيساء ومن ذلك قراءة الأعرج: "وَمَا أَلَتْنَاهُم"، على أفعلناهم3. قال أبو الفتح: وفيما روينا عن قطرب، قال: قراءة عبد الله وأبي: و"مالتناهم". وكان ابن عباس يقول: "ألتناهم": نقصناهم. يقال: ألته يألته ألتا، وآلته يؤلته إيلاتا، ولاته يليته ليتا. كلهن بمعنى واحد. أي: نقصه، ويقال أيضا: ولته يلته ولتا، بمعناه. قال الحطيئة: أبلغ لديك بني سعد مغلغلة ... جهد الرسالة لا ألتا ولا كذبا4 وقالوا: ولته يلته: إذا صرفه عن الشيء يريده، وقالوا: ألته يألته باليمين: إذا غلظ عليه بها، وآلته يؤلته بها: إذا قلده إياها، وقال رؤبة: وليلة ذات ندى سريت ... ولم يلتني عن سراها ليت5
أي: لم يثني عنها ثان1. ومن ذلك قراءة الناس: "أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ2". وقرأ مجاهد: "بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُون"، في الطور3. قال أبو الفتح: هذا هو الموضع الذي يقول أصحابنا فيه: إن أم المنقطعة بمعنى بل، للترك والتحول، إلا أن مات بعد بل متيقن، وما بعد أم مشكوك فيه، مسئول عنه. وذلك كقول علقمة بن عبدة. هل ما علمت وما استودعت مكتوم ... أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم4؟ كأنه قال: بل أحبلها إذ نأتك اليوم مصروم؟ ويؤكده يوله بعده [152ظ] : أم هل كبير بكى لم يقض عبرته ... إثر الأحبة يوم البين مشكوم5 ألا ترى إلى ظهور حرف الاستفهام، وهو "هل" في قوله: أم هل كبير بكى حتى كأنه قال: بل هو كبير؟ ترك الكلام الأول، وأخذ في استفهام مستأنف. وقد توالت "أم" هذه في هذا الموضع من هذه السورة، قال "تعالى": {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ 6} ، أي: بل أيقولون ذلك؟، "أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ7"، أي: بل أهم قوم طاغون. أخرجه مخرج الاستفهام، وإن كانوا عنده "تعالى" قوما طاغين؛ تلعبا بهم، وتهكما عليهم. وهذا كقول الرجل لصاحبه الذي لا يشك في جهله:
أجاهل أنت؟ توبيخا له، وتقبيحا عليه. ومعناه: إني قد نبهتك على حالك، فانتبه لها، واحتط لنفسك منها. قال صخر الغي: أرائح أنت يوم اثنين أم غادي ... ولم تسلم على ريحانه الوادي1 ليس يستفهم نفسه عما هو أعلم به. ولكنه يقبح هذا الرأي2 لها، وينعاه عليها هكذا مقتاد كلام العرب، فاعرفه وأنس به. ومن ذلك قراءة الجحدري: "بِحَدِيثٍ مِثْلِه3". قال أبو الفتح: الهاء في "مثله" في هذه القراءة ضمير النبي "صلى الله عليه وسلم". ألا ترى أن قلبه: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ} ؟ أي: فليأتوا بحديث مثل النبي، صلى الله عليه وسلم. وأما الهاء في قراءة الجماعة: {بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ 4} فللقرآن، أي: مثل القرآن. ومن ذلك قراءة سالم أبي الجعد: "وَإِدْبَارَ النُّجُوم5". قال أبو الفتح: هذا كقولك: في أعقاب النجوم، قيل له: دبر، كما قيل له: عقب قال: فأصبحت من ليلى الغداة كناظر ... مع الصبح في أعقاب نجم مغرب6
سورة النجم
سورة النجم: بسم الله الرحمن الرحيم قرأ: "جَنَّةُ الْمَأْوَى1"، بالهاء - على "عليه السلام" وابن الزبير -بخلاف- وأبو هريرة وأنس -بخلاف- وأبو الدرداء وزر بن حبيش وقتادة ومحمد بن كعب. قال أبو الفتح: يقال: جن عليه الليل، وأجنه الليل، وقالوا أيضا: جنه، بغير همز، ولا حرف جر. وروينا عن قطرب، قال: سأل ابن عباس أبا العالية: كيف تقرءونها يا أبا العالية؟ فقال: "عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى"، فقال: صدقت، هي مثل الأخرى: "جَنَّاتُ الْمَأْوَى" فقالت عائشة -رحمة الله عليها-: من قرأ: "جَنَّةُ الْمَأْوَى" يريد جن عليه، فأجنه الله. قال قطرب أيضا: وقد حكى عن علي -عليه السلام- أنه قرأ "جنة"، يعني فعله. قال أبو حاتم: روى عن ابن عباس وعائشة وابن الزبير قالوا3: من قرأها4: "جَنَّةُ الْمَأْوَى" فأجنه الله، قال: وقال سعد بن مالك: وقيل إن فلانا يقرأ: "جَنَّةُ الْمَأْوَى"، فقال ماله أجنه الله؟ وروى أيضا أبو حاتم عن عبد الله بن قيس قال: سمعت عبد الله بن الزبير يقرؤها: "جَنَّةُ الْمَأْوَى"، بالهاء البينة، قال: يعني فعله المأوى، والمأوى هو الفاعل، فقد ترى إلى اختلاف هذا الحديث. والذي عليه اللغة أن جنه الليل: أدركه الليل، وجن عليه الليل، وأجنه: ألبسه سواده. جن عليه الليل جنونا وجنانا، وأجنه أجنانا. قال: ولولا جنون الليل أدرك ركضنا ... بذي الرمث والأرطي عياض بن ناشب5
والمعنى الجامع لتصريف ج ن ن أين وقعت إنما هو الاستخفاء والستر. ومنه الجن، والجنة. والجان، [153و] والجنان لا ستتار الجن، ومنه المجن -للترس- لسرته، ومنه الجنين لاستتاره في الرحمن ومنه الجنة؛ لأنها لا تكون جنة حتى يكون فيها شجر، وذلك ستر لها، والجنان: روح القلب لاستتار ذلك، والجنن: القبر، وعليه بقية الباب. ومن ذلك قراءة ابن عباس ومنصور بن المعتمر1 وطلحة: "اللَّات2". قال أبو الفتح: روينا عن قطرب: كان رجل بسوق العكاظ3 يلت السويق والسمن عند صخرة، فإذا باع السويق والسمن صب على الصخرة، ثم يلت. فلما مات ذلك الرجل عبدت ثقيف تلك الصخرة، إعظاما لذلك الرجل صاحب السويق. قال أبو حاتم: كان رجل يلت لهم السويق، فإذا شرب منه أحد سمن، فعبدوا ذلك الرجل. وحكى أبو الحسن فيها "أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ"، بكسر التاء. وذهب إلى أنها بدل من لام الفعل4، بمنزلة التاء في كبت5 وذيت، وأن الألف قبلها عين الفعل، بمنزلة ألف شاة وذات مال. ومن ذلك قراءة النبي "صلى الله عليه وسلم": "الَّذِي وَفَّى6"، خفيفة. واختلف عنه، وهو قراءة أبي أمامة وسعيد بن جبير وابن السميفع وأبي مالك.
قال أبو الفتح: هذا على تسمية المسبب باسم سببه. ألا ترى أن معناه الذي وعد ذلك، فوفي بحاضره وسيفي بغائبه يوم القيامة؟ وذلك منهم لصدق الوعد، أي: إذا قال فقد فعل، أو قد وقع ما يقوله. وهذا كقولهم: وعد الكريم نقد، ونقد اللئيم وعد. وأخذه بعض المولدين فقال في صفة باز أو شاهين: مبارك إذا رأى فقد رزق وما أسمعه! وأصله لامرئ القيس في وصف الفرس: إذا ما غدونا قال ولدان أهلنا ... تعالوا إلى أن يأتي الصيد نحطب1 ومن ذلك قراءة طلحة: "ليس لها مما يدعون من دون الله كاشفة وهي على الظالمين ساءت الغاشية2". قال أبو الفتح: هذه القراءة تدل على أن المراد بقراءة الجماعة: {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} - حذف مضاف بعد مضاف. ألا ترى أن تقدير: ليس لها من جزاء عبادة معبود دون الله كاشفة؟ فالعبادة على هذا مصدر مضاف إلى المفعول، كقوله: {بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ 3} ، و {لا يَسْأَمُ الْأِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ 4} ، ثم حذف المضاف الأول، فصار تقديره: ليس لها من عبادة معبود دون الله كاشفة، ثم حذف المضاف الثاني الذي هو "عبادة"، فصار تقديره: ليس لها من معبود دون الله كاشفة، ثم حذف المضاف الثالث، فصار إلى قوله: ليس لها من دون الله كاشفة. وهذا على تقديرك "دون الله" اسما هنا، لا ظرفا، لأن الإضافة إليه تسلبه معنى الظرفية التي فيه، كقولهم: يا سارق الليلة أهل الدار5
وتلك عادة سيبويه إذا أراد تجريد الظرف من معنى الظرفية، فإنه يمثله بالإضافة إليه، وذلك مما ينافي تقدير حرف الجر معه؛ لأن حرف الجر يسقط، فلا يعترض بين المضاف والمضاف إليه. ولا تستنكر كثرة المضافات المحذوفة هناك، فإن المعنى إذا دل على شيء وقبله القياس أمضى على ذلك ولم يستوحش منه [153ظ] ألا ترى إلى قول الله "سبحانه": {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ 1} ؟ ألا تراه أن معناه: من تراب أرض أثروطء حافر فرس الرسول، أي من تراب الأرض الحاملة لأثر وطء فرس الرسول. المعنى على هذا؛ لأنه في تصحيحه من تقريه لاستيفاء2 معانيه، وإذا دل الدليل كان التعجب من حيلة العاجز الذليل. وقوله: "وهي عَلَى الظَّالِمِين ساءت الغاشية" - هذا جار مجرى قولهم: زيد بئس الرجل؛ لأن ساء بمعنى بئس، و"الغاشية" هنا جنس، والعائئد منها إلى "هي" ضمير يتجرد ويماز من معنى الجماعة، كقولهم: زيد قام بنو محمد، إذا كان محمد أباهم، فكأنه قال: زيد قام في جملة القوم، كما أن قولك: زيد نعم الرجل العائد عليه في المعنى ذكر يخصه من جماعة الرجال.
سورة القمر
سورة القمر: بسم الله الرحمن الرحيم قرأ حذيفة: "اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ1". قال أبو الفتح: هذا يجري مجرى الموافقة على إسقاط العذر ورفع التشاك، أي: قد كان انشقاق القمر متوقعا دلالة على قرب الساعة، فإذا كان قد انشق -وانشقاقه من أشراطها، وأحد أدلة قربها - فقد توكد الأمر في قرب وقوعها. وذلك أن "قد" إنما هي جواب وقوع أمر كان متوقعا، يقول القائل: انظر أقام زيد؟ وهل قام زيد؟ وأرجو ألا يتأخر زيد. فيقول المجيب: قد قام، أي: قد وقع ما كان متوقعا. ومن ذلك قراءة أبي جعفر يزيد: "وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِر2". قال أبو الفتح: رفعه3 عندي عطف على الساعة، أي: اقتربت الساعة وكل أمر4 أي: قد اقترب استقرار الأمور في يوم القيامة، من حصول أهل الجنة في الجنة، وحصول أهل النار في النار. هذا وجه رفعه. والله أعلم.
من ذلك قراءة مجاهد والجحدري وأبي قلابة: "إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ1". قال أبو الفتح: يقال: أنكرت الشيء فهو منكر، ونكرته فهو منكور. وجمع الأعشى بين اللغتين، فقال: وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا2 وكذلك هذه القراءة: "إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ"، إلى شيء يجهل. ومثله مررت بصبي ضرب، ونظرت إلى امرأة أكرمت، وصف بالفعل الماضي. ومن ذلك قراءة يزيد بن رومان3 وقتادة: "لِمَنْ كَانَ كُفِر4". قال أبو الفتح: أي: جزاء الكافرين بنوح عليه السلام. وأما قراءة الجماعة: {جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} فتأويله: جزاء لهم بكفرهم بنوح، "عليه السلام"، فاللام الأولى التي هي مفعول بها محذوفة، واللام الثانية الظاهرة في قوله: {لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} لام المفعول له. وهناك مضاف محذوف، أي: جزاء لهم؛ لكفر من كفر، أي: لكفرهم بمن كفروا به. ومن ذلك قراءة أبي السمال: "أبشر منا" - بالرفع - "وَاحِدًا نَتَّبِعُه5"، بالنصب. قال أبو الفتح: "بشر" عندي مرفوع بفعل يدل عليه قوله: "أولقى عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا"، فكأنه قال: أينبأ، أو يبعث بشر منا؟ فأما انتصاب "واحدا" فإن شئت جعلته حالا من الضمير [154و] في "منا6" أي: أينبأ بشركائن منا؟ والناصب لهذه الحال الظرف، كقولك: زيد في الدار جالسا.
وإن شئت جعلته حالا من الضمير في قوله: "نتبعه" أي: نتبعه واحد منفردا ولا ناصر له. ويؤكده قوله: {وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ 1} . ونظائره في القرآن كثيرة، نحو قوله "تعالى" {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ 2} ؟ وقوله: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا 3} ؟ ونحو ذلك. ومن ذلك قراءة أبي قلابة: "الْكَذَّابُ الْأَشِرُ4". مجاهد: "الأشر"، بضم الشين خفيفة. قال أبو الفتح: "الأشر" بتشديد الراء هو الأصل المرفوض، لأن أصل قولهم: هذا خبر منه وهذا شر منه -هذا أخير منه، وأشر منه. فكثر استعمال هاتين الكلمتين، فحذف الهمزة منهما. ويدل على ذلك قولهم: الخورى والشرى، تأنيث الأخير والأشر. وقال رؤبة: بلاد خير الناس وابن الأخير5 فعلى هذا جاءت هذه القراءة. وأما "الأشر" بضم الشين، وتخفيف الراء فعلى أنه من الأوصاف التي اعتقب عليها المثالان اللذان هما فعل وفعل فأشر وأشر، كحذر وحذر، ويقظ "ويقظ"، ورجل حدث وحدث: حسن الحديث، ووظيف عجر وعجر، أي: صلب. والضم أقوى معنى من الكسر؛ لأنه أبعد عن مثال الفعل، فأشر -من آشر- كضروب من ضارب. ومطعان من طاعن، والاسم البطر6. ومن ذلك قراءة الحسن: "كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ7"، بفتح الظاء.
قال أبو الفتح: المحتظر هنا مصدر، أي: كهشيم الاحتظار، كقولك: كآجر البناء وخشب النجارة. والاحتظار: أن يجعل حظيرة. وإن شئت جعلت "المحتظر" هنا هو الشجر، أي: كهشير الشجر المتخذة منها الحظيرة، أي: كما يتهافت من الشجر المجعولة حظيرة والهشيم: ما تهثم منه، وانتشر. ومن ذلك قراءة أبي السمال: "إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ1"، بالرفع. قال أبو الفتح: الرفع هنا أقوى من النصب، وإن كانت الجماعة على النصب؛ وذلك أنه من مواضع الابتداء، فهو كقولك: زيد ضربته، وهو مذهب صاحب الكتاب2 والجماعة. وذلك لأنها جملة3 وقعت في الأصل خبرا عن مبتدأ في قولك: نحن كل شيء حلقناه بقدر، فهو كقولك: هند زيد ضربها، ثم تدخل إن، فتنصب الاسم، وبقي الخبر على تركيبه الذي كان عليه من كونه جملة من مبتدأ وخبر. واختار محمد بن يزيد هنا النصب، وقال: لأن تقديره إنا فعلنا كذا، وقال: فالفعل منتظر بعد إنا، فلما دل ما قبله عليه حسن إضمار. وليس هذا شيئا؛ لأن أصل خبر المبتدأ أن يكون اسما لا فعلا، جزءا منفردا. فما معنى توقع الفعل هنا، وخبر إن وأخواتها كأخبار المبتدأ؟ وعليه قول الله سبحانه: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ 4} ، فهذه الجملة التي هي وجوههم مسودة في موضع المفعول الثاني لرأيت، وهو في الأصل خبر المبتدأ. وقد ذكرنا هذا في غير موضع من كتبنا والعليق عنا. ومن ذلك قراءة زهير الفرقبي: "فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ5". قال [154ظ] أبو الفتح: هذا جمع نهر، كما جاء عنهم من تكسير فعل على فعل، كأسد وأسد، ووثن ووثن.
وحكى سيبويه قراءة: "إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أثنا1"، جمع وثن. وذهب محمد بن السري في قولهم: أسد وأسد إلى أنه مقصور من فعول، يريد أسودا، فحذفت الواو، فبقى أسد، ثم أسكنت السين تخفيفا، كقولهم في طنب2: طنب. وهذه القراءة التي هي "نهر" تشهد لقوله: إن أصله أسود، ثم حذفت الواو، فبقى أسد. فإن قلت: فقد جاء أسود، ولم يأت نهور جمع نهر. قيل: وإن لم يأت لفظا فهو مقدر تصورا، كأشياء تثبت تقديرا، فتعامل معاملة المستعمل. فإن شئت قلت في "نهر": إنه جمع نهر الساكن العين، فيكون كسقف وسقف، ورهن ورهن، وثط3 وثط، وسهم حشر4 وسهام حشر وفرس ورد5 فصارت نهر، ثم ثقل إتباعا، فصارت إلى "نهر". وأنس بذلك أن ما قبل الراء في أواخر هذه الآي، وهي "سقر"، و"قدر"، و"نكر"، و"مدكر"، و"زبر"، و"مستطر"، و"مقتدر" محرك، فكأنه الرغبة في استواء هذه الفواصل هو الذي زاد في الأنس بتثقيل "النهر" على هذا التأويل الذي في " نهر"، كما يختار ترك همز "الشان"6 في سورة الرحمن؛ لتوافق رءوس الآي فيها: "تكذبان"، ونحوها، وإليه ذهب الفراء.
سورة الرحمن
سورة الرحمن: بسم الله الرحمن الرحيم قرأ أبو السمال: "وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا1"، رفع. قال أبو الفتح: الرفع هنا أظهر قراءة الجماعة؛ وذلك أنه صرف إلى الابتداء؛ لأنه عطفه على الجملة الكبيرة التي هي قوله "تعالى": {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ 2} ، فكما أن هذه الجملة مركبة من مبتدأ وخبر، فكذلك قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا} جملة من مبتدأ وخبر، معطوفة على قوله: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} . وأما قراءة العامة بالنصب: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا} فإنها معطوفة على "يسجدان" وحدها، وهي جملة من فعل وفاعل، والعطف يقتضي التماثل في تركيب الجمل، فيصير تقديره: يسجدان، ورفع السماء. فلما أضمر "رفع" فسره بقوله: "رفعها"، كقولك: قام زيد، وعمرا ضربته، أي: وضربت عمرا؛ لتعطف جملة من فعل وفاعل على أخرى مثلها. وفي نصب "السماء" على قراءة العامة رد على أبي الحسن في امتناعه أن يقول: زيد ضربته وعمر كلمته، على أن يكون تقديره: وكلمت عمرا، عطفا على ضربته، قال: لأن قولك: "ضربته" جملة ذات موضع من الإعراب؛ لكونها خبر مبتدأ، وقولك: وكلمت عمرا لا موضع لها من الإعراب؛ لأنها ليست خبرا عن زيد؛ لخلوها من ضميره، قال: فلا يعطف جملة غير ذات موضع على جملة ذات موضع؛ إذ العطف نظير التثنية، فينبغي أن يتناسب المعطوف والمعطوف عليه. وهذا ساقط عند3 سيبويه؛ وذلك أن ذلك الموضع من الإعراب لما لم يخرج إلى اللفظ سقط حكمه، وجرت الجملة ذات الموضع كغيرها من الجملة غير ذات الموضع، كما أن الضمير
في اسم الفاعل لما لم يظهر إلى اللفظ جرى مجرى [155و] ما لا ضمير فيه، فقيل: في تثنيته: قائمان، كما قيل: فرسان ورجلان، بل إذا كان اسم الفاعل قد يظهر ضميره إذا جرى على غير من هو له، ثم أجرى مع ذلك مجرى ما لا ضمير فيه لما لم يظهر في بعض المواضع -كان ما لا يظهر فيه الإعراب أصلا أحرى بأن يسقط الاعتداد به، والكلام هنا فيه طول، وهذا كتاب شرطنا فيه اختصاره؛ ليقرب على القرأة فهمه، فمنع ذلك من تقصيه وإغراق مدى القول فيه. ومن ذلك قراءة بلال بن أبي بردة1: "وَلا تُخْسِرُوا2"، بفتح التاء والسين. وقرأ بلال أيضا: "وَلا تُخْسِرُوا"، من خسر يخسر، بخلاف. قال أبو الفتح: أما تخسروا -بفتح التاء والسين- فينبغي أن يكون على حذف حرف الجر، أي: تخسروا في الميزان، فلما حذف الجر أفضى إليه الفعل قبله، فنصبه؛ كقوله "تعالى": {وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ 3} ، أي: في كل مرصد، وعلى كل مرصد، وكقوله: بأسرع الشد مني يوم لانية ... لما لقيتهم واهتزت اللمم4 أراد بأسرع في الشد، فحذف الحرف وأوصل "أسرع"، أو فعلا دل عليه أسرع هذه5. وأما "تخسروا"، بفتح التاء، وكسر السين فعلى خسرت الميزان، وإنما المشهور أخسرته. خسر الميزان، أي: نقص، وأخسرته. ويشبه أن يكون لغة في أخسرته، كما يشترك فيه فعلت وأفعلت من المعنى الواحد، نحو أجبرت الرجل وجبرته، أهلكت الشيء هلكته.
ومن ذلك قراءة عيسى الثقفي: "سَنَفْرُغُ1 لَكُمْ"، بكسر النون، وفتح الراء. وقرأ: "سَنَفْرُغُ لَكُمْ"، بفتح النون والراء - قتادة ويحيى بن عمارة الزارع والأعمش -بخلاف- وابن إدريس. وقرأ: "سَنَفْرُغُ لَكُمْ"، بنصب الياء والراء أبو عمرو والأعرج. أبو حاتم عن الأعمش: "سَنَفْرُغُ لَكُمْ". قال أبو الفتح: يقال: فرغ يفرغ كدفع يدفع، وفرغ يفرغ كذبغ يدبغ، وفرغ يفرغ كلثغ يلثغ. وأما "سَيفْرُغُ"، بالياء فالفاعل فيه اسم الله تعالى. و"سَيفْرُغُ" واضح. ومن ذلك قراءة ابن أبي بكرة: "ونَحُسٌ2"، بفتح النون، وضم الحاء، وتشديد السين، رفع. قال أبو الفتح: "نَحُسٌ"، أي: نقتل بالعذاب. يقال: حس القوم يحسهم حسا: إذا استأصلهم. قال الله "تعالى": {إِذْ تَحُسُّونَهُم 3} ، أي: تقتلونهم قتلا ذريعا. ومن ذلك قراءة ابن محيصن: "مِنْ إِسْتَبْرَق4"، بالوصل. قال أبو الفتح: هذه صورة الفعل البتة، بمنزلة استخرج، وكأنه سمى بالفعل وفيه ضمير الفاعل، فحكى كأنه جملة، وهذا باب إنما طريقه في الأعلام، كتأبظ شرا، وذري حبا، وشاب قرناها. وليس الإستبراق علما يسمى بالجملة، وإنما هو قولك: بزيون5. وعلى أنه إنما استبرق: إذا بلغ فدعا البصر إلى البرق وقال: تستبرق الأفق الأقصى إذا ابتسمت ... لاح السيوف سوى أغمادها القضب6
[هذا إن شئت قلت: معناه تستبرق أبصار أهل الأفق وإن شئت قلت: تبرقه، أي: تأتي بالبرق منه1] . وأما البزيون فبعيد عن هذا، اللهم إلا أن نقول: إنه لمائه2 وصنعته تستبرق، أي: تبرق فيكون [155ظ] كفر واستقر. ولست أدفع أن تكون قراءة ابن محيصن بهذا، لأنه توهم فعلا، وإذ كان على وزنه، فتركه مفتوحا على حاله، كما توهم الآخر أن ملك الموت من معنى الملك حتى قال: فمالك موت بالقضاء دهاني فبني منه صورة فاعل من الملك، وهذا أسبق ما فيه إلي. ومن ذلك قراءة الحسن وعمرو بن عبيد: "وَلا جَأن3"، بالهمز. قال أبو الفتح: قد تقدم القول على هذا. لما حرك الألف لالتقاء الساكنين همزها، كقراءة أيوب السختياني: "وَلا الضَّالِّين4". ومن ذلك قراءة النبي "صلى الله عليه وسلم" وعثمان ونصر بن علي والجحدري وأبي الجلد ومالك بن دينار وأبي طعمة وابن محيصن وزهير الفرقبي: "رَفْارَفٍ خُضْرٍ وَعَبْاقَرِيٍّ حِسَانٍ5". وقرأ: "خُضُرا"، مثقلا - الأعرج. قال أبو الفتح: كذلك رويته عن قطرب: "عَبَاقِرِيّ"، بكسر القاف غير مصروف. ورويناه عن أبي حاتم: "عَبْاقَرِيٍّ"، بفتح القاف غير مصروف أيضا. قال أبو حاتم: ويشبه أن يكون عباقر بكسر القاف على ما يتكلم به العرب، قال: ولو قالوا: عباقري6، فكسروا القاف، وصرفوا لكان أشبه بكلام العرب، كالنسب إلى مدائن
مدائني، قال: وقال سعيد بن جبير: رفارف: رياض الجنة1، قال: وعبقر: موضع قال امرؤ القيس: كأن صليل المرحين تشذه ... صليل زيوف ينتقدن بعبقرا2 وقال زهير: بخيل عليها جنة عبقرية ... جديرون يوما أن ينالوا فيستعلوا3 وأما ترك صرف "عباقري" فشاذ في4 القياس، ولا يستنكر شذوذه في القياس ما استمراره في الاستعمال، كما جاء عن الجماعة: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ 5} ، وهو شاذ في القياس ما استمراره في الاستعمال. نعم، إذا كان قد جاء عنهم عنكبوت وعناكيب، وتخربوت6 وتخاربيت - كان عباقري أسهل منه؛ من حيث كان فيه حرف مشدد، يكاد يجري مجرى الحرف الواحد ومع ذلك أنه في آخر الكلمة، كياءي بخاتي7 وزرابي8. وليس لنا أن نتلقى قراءة رسول الله "صلى الله عليه وسلم" إلا بقبولها، والاعتراف لها. وأما "خضر" بضمخ الضاد فقليل، وهذا من مواضع الشعر كما قال طرفة: ورادا وشقر9 بضم القاف.
سورة الواقعة
سورة الواقعة: بسم الله الرحمن الرحيم قرأ الحسن واليزيدي والثقفي وأبو حيوة: "خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ1"، بالنصب. قال أبو الفتح: هذا منصوب على الحال، وقوله: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} حينئذ2 حال أخرى قبلها، أي: إذا وقعت الواقعة، صادقة الواقعة، خافضة، رافعة. فهذه الثلاث أحوال، أولاهن الجملة التي هي قوله: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} ، ومثله: مررت بزيد، جالسا، متكئا، ضاحكا. وإن شئت أن تأتي بعشر أحوال إلى أضعاف ذلك لجاز3 وحسن، كما لك أن تأتي للمبتدأ من الأخبار بما شئت، كقولك: زيد عالم، جميل، جواد، فارس، بصري4، بزاز، ونحو ذلك. ألا ترى أن الحال زيادة في الخير، وضرب منه؟ وعلى ذلك امتنع أبو الحسن أن يقول: لولا هند جالسة لقمت ونحو ذلك، قال: لأن هذا موضع قد امتنعت العرب أن تستعمل فيه [156و] الخبر، والحال ضرب من الخبر. فلا يجوز استعمالها في لذلك. والعامل في "إذا" محذوف لدلالة المكان عليه، كأنه قال: إذا وقعت الواقعة كذلك فاز المؤمنون وخاب الكافرون، ونحو ذلك ويجوز أن تكون "إذا" الثانية، وهي قوله: {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا 5} خبرا عن "إذا" الأولى، ونظيره: إذا تزورني إلا يقوم زيد، أي: وقت زيارتك
إياي وقت قيام زيد. وجاز لـ"إذا" أن تفارق الظرفية وترتفع بالابتداء، كما جاز لها أن تخرج بحرف جر عن الظرفية1 كقوله: حتى إذا ألقت يدا في كافر ... وأجن عورات الثغور ظلامها2 وقال الله "سبحانه": {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ 3} ، إذا مجرورة عند أبي الحسن بحتى، وذلك يخرجها من الظرفية، كما ترى. ومن ذلك قراءة ابن أبي إسحاق: "وَلا يُنْزِفُون4"، بفتح الياء، وكسر الزاي. قال أبو الفتح: يقال: أنزف عبرته: إذا أفنى دمعه بالبكاء، ونزف البئر - ينزفها نزفا: إذا استقى ماءها، وأنزفت الشيء: إذا أفنيته، قال: لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم ... لبئس الندامى كنتم آل أبجرا5 وقال العجاج: وأنزف العبرة من لا في العبر6 وقال: أيام لا أحسب شيئا منزفا7 أي: فانيا، فكأنه "سبحانه" قال: "لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ عقولهم" كما ينزف ماء البئر. والنزيف: السكران، وكله راجع إلى معنى واحد.
ومن ذلك قراءة أبي بن كعب وابن مسعود: "وَحُورًا عِينًا1". قال أبو الفتح: هذا على فعل مضمر، أي: ويؤتون، أو يزوجون حورا عينا، كما قال: {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ 2} ، وهو كثير في القرآن والشعر. ومن ذلك قرأ: "إِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا3 إنا"، على الخبر كلاهما بلا استفهام. قال أبو الفتح: مخرج هذا منهم على الهزء، وهذا كما تقول لمن تهزأ به، إذا نظرت إلي مت منك فرقا، وإذا سألتك جممت لي بحرا، أي: الأمر بخلاف ذلك، وإنما أقوله هازئا. ويدل على هذا شاهد الحال حينئذ، ولولا شهود الحال لكان حقيقة لا عبثا، فكأنه قال: إذا متنا وكنا ترابا بعثنا. ودل قوله: {إِنَّا لَمَبْعُوثُون} على بعثنا ولا يجوز أن يعمل فيه "مبعوثون" لأن ما بعد إن لا يعمل فيما قبلها. ومن ذلك قراءة الحسن والثقفي: "فَلأقْسِم"، بغير ألف. قال أبو الفتح: هذا فعل الحال، وهناك مبتدأ محذوف، أي: لأنا أقسم، فدل على ذلك أن جميع ما في القرآن من الأقسام إنما هو على حاضر الحال، لا وعد الأقسام، كقوله "سبحانه": {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُون 5} ، و {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا 6} ، وكذلك حملت "لا" على الزيادة في قوله: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} ، ونحوه. نعم، ولو أريد الفعل المستقبل للزمت فيه النون، فقيل: لأقسمن، وحذف هذه النون هنا ضعيف جدا.
ومن ذلك قراءة علي وابن عباس -ورويت عن النبي "صلى الله عليه وسلم"-: "وَتَجْعَلُونَ شكركم أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ1". قال أبو الفتح: هو على حذف المضاف، أي: تفعلون بدل شكركم [156ظ] ومكان شكركم التكذيب ومثله قول العجاج: ربيته حتى إذا تمعددا ... كان جزائي بالعصا أن أجلدا2 أي: كان مكان جزائي الجلد بالعصا ومن ذلك قراءة النبي "صلى الله عليه وسلم وابن عباس وقتادة والحسن والضحاك والأشهب ونوح3 القارئ وبديل وشعيب بن الحارث وسليمان التيمي والربيع بن خثيم4 وأبي عمران الجوني وأبي جعفر محمد بن على والضحاك وفياض: "فَرَوْح"، بضم الراء. قال أبو الفتح: هو راجع إلى معنى الروح، فكأنه قال: فمسك روح، وممسكها هو الروح، كما تقول: هذا الهواء هو الحياة، وهذا السماع هو العيش، وهو الروح.
سورة الحديد
سورة الحديد: بسم الله الرحمن الرحيم قرأ: "بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم1"، بكسر الهمزة - سهل بن شعيب النهمي. قال أبو الفتح: قوله "وَبِأَيْمَانِهِمْ" معطوف على قوله: "بَيْنَ أَيْدِيهِمْ". فإن قلت: فإن قوله: "بَيْنَ أَيْدِيهِمْ" ظرف، وقوله: "بِأَيْمَانِهِمْ" ليس ظرفا. ألا ترى أنه ليس معناه يسعر في إيمانهم؟ فكيف يجوز أن يعطف على الظرف ما ليس ظرفا، وقد علمت أن العطف بالواو نظير التثنية، والتثنية توجب تماثل الشيء؟ قيل: الظرف الذي هو بين أيديهم معناه الحال، وهو متعلق بمحذوف، أي: يسعى كائنا بين أيديهم، وليس بين أيديهم متعلقا بنفس يسعى، كقولك: سعيت بين القوم، وسعيت في حاجتي. وإذا كان الظرف هنا في موضع الحال جاز أن يعطف عليه الباء وما جرته، حتى كأنه قال: يسعى كائنا بين أيديهم، وكائنا بإيمانهم؛ أي: إنما حدث السعى كائنا بإيمانهم، كقول الله "تعالى": {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ 2} ، أي: ذلك كائن بذلك. فعلى هذا التقدير يجب أن يكون قوله: "وبإيمانهم". فأما أن يعلق "بين" بنفس "يسعى" يعطف عليه "بإيمانهم" فلا؛ لما تقدم. ومن ذلك قراءة سماك بن حرب3: "وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ4"، بضم الغين.
قال أبو الفتح: هو كقوله: وغركم بالله الاغترار، وتقديره على حذف المضاف، أي: وغركم بالله سلامة الاغترار، ومعناه سلامتكم منه مع اغتراركم. ومن ذلك قراءة الحسن: "أَلَمْا يَأْنِ لِلَّذِينَ"، مثقلة. قال أبو الفتح: أصل "لما" لم، زيد عليها ما، فصارت نفيا لقوله: قد كان كذا، و"لم" ونفي فعل. تقول: قام زيد، فيقول المجيب بالنفي: لم يقم. فإن قال: قد قام. قلت: لما يقم، لما زاد في الإثبات "قد"- زاد في النفي "ما"، إلا أنهم لما ركبوا "لم" مع "ما" - حدث لها معنى ولفظ. أما المعنى فإنها صارت في بعض المواضع ظرفا، فقالوا: لما قمت قام زيد، أي: وقت قيامك قام زيد. وأما اللفظ. فلأنها جاز أن يقف عليها دون مجزومها، كقولك: جئت ولما، أي: ولما تجئ. ولو قلت: جئت ولم-لم يجز. فإن قلت: فقد علمنا أن أصل لما - على ما وصفت -"لم" و"ما" - حدث لها معنى ولفظ. أما المعنى فإنها صارت في بعض المواضع ظرفا، فقالوا: لما قمت قام زيد، أي: وقت قيامك قام زيد. وأما اللفظ. فلأنها جاز أن يقف عليها دون مجزومها، كقولك: جئت ولما، أي: ولما تجيء. ولو قلت: جئت ولم - لم يجز. فإن قلت: فقد علمنا أن أصل لما -على ما وصفت - "لم" و"ما"، وهما حرفان2، وأما الظرف فاسم، فكيف جاز للحرف أن يستحيل، فيصير اسما؟ قيل: كما استحال الاسم لما ركب مع الحرف، فاعتد مجموعهما حرفا في قولهم: إذ ما تقم أقم. ألا ترى أن سيبويه ذكر "إذ ما" في الحرف، وقرنها بإن [157و] في الشرط؟ وذلك أن التركيب يحدث للمركبين حكما مستأنفا، ويخلقه خلقا مرتجلا. ألا ترى إلى قولهم: بأبأت الصبي: إذا قلت له: بأبي أنت، والباء في أوله مزيدة للجر، والثانية أيضا قد يمكن أن تكون للجر كررت، إلا أنك إذا مثلت قلت: هو فعللت، فجعلت الباء الزائدة للجر مقابلة للفاء؟ وكذلك قولهم: بسملت، فالباء من قولهم: "بسم الله"، والسين فاء "اسم"، واللام عين إله، ثم إنك إذا مثلت بسملت قلت: هو فعللت، ومثله حوقلت: إذا قلت: لا حول ولا قوة إلا بالله، ومثال حرقلت: فوعلت، والواو -كما ترى- زائدة،
وهي عين حول في الأصل. أفلا ترى إلى استحالة أحوال الحروف من الزيادة إلى الأصل، ومن الأصل إلى الزيادة؟ وهذا كقول الله سبحانه: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَر 1} . ومن ذلك قراءة الحسن: "وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيل2"، بفتح الهمزة. قال أبو الفتح: هذا مثال لا نظير له؛ لأنه أفعيل، وهو عندهم من تجلت الشيء: إذا استخرجته؛ لأنه حال الحرام من الحلال، كما قيل لنظيره: التوراة، وهي فوعلة من ورى الزند يرى: إذا أخرج النار، ومثله الفرقان، وهو فعلان من فرق بين الشيئين. قال أبو النجم: تنجل أيديهن كل منجل3 يصف أيدي الإبل، وإنها في سيرها تثير الأرض، وتستخرج باطنها. فعلى هذا لا يجوز فتح الهمزة؛ لأنه لا نظير له. وغالب الظن وأحسنه به- أن يكون ما قرأة. إلا عن سماع، فإن يكن كذلك فشاذ شذ، كما قال بعضهم في البرطيل: البرطيل، ونحو منهما ما حكاه أبو زيد من قولهم: السكينة بفتح السين، وتشديد الكاف. وربما ظن "الأنجيل" أعجميا فأجرى عليه بتحريف مثاله. ومن ذلك قراءة الحسن: "لِيلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ4"، بنصب اللام5، وبجزم الياء، ولا يهمز. قال أبو الفتح: حكاه قطرب -فيما رويناه عنه- "ليلا"، بكسر اللام، وسكون الياء، وقال: حذف همزة "أن"، وأبدل "النون" ياء، هكذا قال. والذي حكاه ابن مجاهد: بفتح اللام، وسكون الياء. وما ذكره قطرب من الكسر أقرب؛ وذلك أنه إذا حذف "الهمزة" بقى بعد ذلك "لئلا"،
فيجب إدغام النون في اللام، فيصير اللفظ "للا"، فتجتمع اللامات، فتبدل الوسطى لإدغامها وانكسار ما قبلها، فتصير "ليلا"، كما أبدلوا راء قراط، ونو دنار لذلك، فقالوا: قيراط، ودينار - وميم دماس، فقالوا كذلك: ديماس1، فيمن قال: دماميسن وباء دباج، فقالوا: ديباج، فيمن قال دبابيج. وأما فتح اللام من "ليلا" فجائز هو البدل جميعا، وذلك أن منهم من يفتح لام الجر مع الظاهر. حكى أبو الحسن عن أبي عبيدة أن بعضهم قرأ: "وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ2"، وحسن ذلك أيضا مع "أن" لمشابهتها المضمر، كما يشبه المضمر الحرف، فيبنى. وعليه اختاروا: "وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا3"، فجعلوا اسم كان "أن قالوا"، لأنه ضارع المضمر بالامتناع من وصفه، كالامتناع من وصف المضمر. والمضمر أعرف من "جواب قومه". وإذا كان أعرف كان بكونه اسم كان [157ظ] أجدر؟ وأما إبداله أحد المثلين مع الفتح فقد جاء ذلك، ألا ترى إلى قوله سعد بن قرط: يا ليتما أمنا شالت نعامتها ... أيما إلى جنة أيما إلى نار4؟ يريد: أما بالفتح. ومثله ما رويناه عن قطرب أيضا من قول الراجز: لا تفسدوا آبالكم ... أيما لنا أيما لكم5 فاجتمع من ذلك أن صار اللفظ إلى "ليلا"، وعليه قال الخليل: في لن: إن أصلها لا أن، فحذف الهمزة تخفيفا، والألف لالتقاء الساكنين.
سورة المجادلة
سورة المجادلة: بسم الله الرحمن الرحيم قرأ: "مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ1"، بالتاء - أبو جعفر وأبو حية. قال أبو الفتح: التذكير الذي عليه العامة هو الوجه؛ لما هناك من الشياع وعموم الجنسية، كقولك: ما جاءني من امرأة، وما حضرني من جارية. وأما "تكون"، بالتاء فلا عتزام لفظ التأنيث، حتى كأنه قال: ما تكون2 من نجوى ثلاثة، كما تقول: ما قامت امرأة، ولا حضرت جارية وما تكون نجوى ثلاثة. ومن ذلك قرأ الحسن وداود بن أبي هند3: "تَفَاسَحُوا4"، بألف. قال أبو الفتح: هذا لائق بالغرض؛ لأنه إذا قيل: تفسحوا في المجلس لم يكن فيه إصراح بدليل: ليفسح بعضكم لبعض، وإنما ظاهر معناه: ليكن هناك تفسح. وأما التفاسح فتفاعل، والمراد به هنا المفاعلة، وبابها أن يكون فما فوق الواحد، كالمقاسمة والمكايلة والمساقات والمشاربة، إلا أنه قد يستفاد أيضا مع "تفسحوا" هذا المعنى؛ لأنه لم يقصد به تفسح مخصوص، فهو شائع بينهم، فسرى لذلك في جميعهم. ومن ذلك قراءة الحسن: "اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُم5،" بكسر الهمزة. قال أبو الفتح: هذا على حذف المضاف، أي: اتخذوا إظهار إيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين، وهذا حديث المنافقين المعروف.
سورة الحشر
سورة الحشر: بسم الله الرحمن الرحيم قرأ: "كَيْ لا تكُونَ دُولَةً1"، بالتاء مرفوعة الدال والهاء - أبو جعفر يزيد. قال أبو الفتح: منهم من لا يفصل بين الدولة والدولة، ومنهم من يفصل فيقول: الدولة في الملك، والدولة في الملك. "وتكون" هنا هي التامة، ولا خير لها، أي: كي لا تقع دولة أو تحدث دولة بين الأغنياء. وإن شئت كانت2 صفة لـ"دولة"، وإن شئت كانت متعلقة بنفس "دولة"، تداول بين الأغنياء، وإن شئت علقتها بنفس "تكون" أي: لا تحدث بين الأغنياء منكم، وإن شئت جعلتها "كان" الناقصة، وجعلت "بين" خبرها. والأول الوجه، ومعناه: كي لا تقع دولة فيه أو عليه، يعنى على المفاء من عند الله. ومن ذلك قراءة أبي رجاء وأبي حية: "جُدْر3"، بضم الجيم، وتسكين الدال. قال أبو الفتح: هذه مخففة من جدر، جمع جدار. وأما من قرأ: "مِنْ وَرَاءِ جِدَار" فيحتمل أمرين: أحدهما أن يكون واحد وقع موقع الجماعة، كقوله تعالى: {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا 4} ، أي: أطفالا. وفيه وجه آخر لطيفن وفيه الصنعة، وهو أن يكون "جدار" تكسير جدار أيضا، فتكون ألف [158و] جدار في الواحد، كألف كتاب وحساب، وفي الجماعة كألف ظراف وكرام.
ومثله مما كسر من من فعال على فعال قولهم: ناقة هجان1 ونوق هجان، ودرع دلاص2 وأدرع دلاص. ويدل على أن هجانا ليس لفظا واحد يقع على الواحد فما فوقه كجنب وبابه- قولهم: هجانان، وهذا واضح. وإنما جاز تكسير فعال على فعال من حيث كانت فعال أخت فعيل. ألا ترى كل واحد منهما ثلاثيا وقيل لامه حرف لين؟ فكما كسر فعيل على فعال كشريف وشراف، وكريم وكرام - كذلك أيضا جاز تكسير فعال على فعال، وكما أن ألف جدار في الواحد ليست ألف جدار في الجمع - فكذلك كسرة الجيم فيه غير كسرته فيه، وفتحة الدال فيه غير فتحته فيه، كما أن كسرة الشين في شراف غير فتحتها في شريف، وكما أن فتحة الدال في جدار غير كسرة الراء من شريف. فهذا الخلاف لفظا هو الذي سوغ اعتقاد المتفقين لفظا مختلفين تقديرا ومعنى. وهذا غور من العربية بطين، وله نظائر كثيرة، وفيه صنعة لطيفة, وقد أفردنا له بابا في كتابنا الخصائص فيما اتفق لفظه واختلف معناه من الحروف والحركات والسكون3، ومثله سواء قول الله "تعالى": {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا 4} ، يكون "إمام" مع إمام، على ما شرحناه في جدار. وذهب أبو الحسن إلى أنه جمع آم، كقائم وقيام. ومن ذلك قال ابن مجاهد وأبو حاتم عن يعقوب، قال: سمعت أعرابيا يكنى أبا الدينار عند الكسائي يقرأ: "الْقَدُّوس"، بفتح القاف. قال أبو الفتح: فعول في الصفة قليل، وذكر سيبويه في الصفة السبوح، والقدوس، وحكى
في الصفة أيضا السبوح، والقدوس، بالضم، وإثبات الفعول الاسم كشبوط1، وسمور2، وتنور، وسفود3، وهبود4، -لجبل باليمامة، - وعبود. ومن ذلك قرأ الأعمش: "وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِمْرًا5". قال أبو الفتح: هو راجع بالمعنى إلى أنه من قولهم: منديل الغمر؛- لأنه الدنس وفساد المعتقد، وكلام العرب لطيف المذهب، وكريم المضطرب لكن بقى من يشبه6، وينجلى بنظره أغماؤه7 وأشبه8.
سورة الممتحنة
سورة الممتحنة: بسم الله الرحمن الرحيم قرأ عيسى الثقفي: "بِرَاء1"، بكسر الباء، وليس بين الراء والألف همزة، في وزن براع. قال أبو الفتح: هذا جمع بريء، وفي تكسره أربعة أوجه: بريء وبراء كظريف وظراف، وبريء وأبرياء كصديق وأصدقاء، وبريء وبرآء كشريف وشرفاء، وبريء وبراء -على فعال- كتؤام2، ورباب: جمع شاة ربي: حديثة العهد بالنتاج. وعليه بيت الحارث: فإنا من حربهم لبراء3 وقال الفراء: أراد برآء، فحذف الهمزة التي هي لام تخفيفا، فأخذ هذا الموضع من أبي الحسن في قوله: إن أشياء أصلها أشيياء، ومذهبه هذا يوجب ترك صرف براء؛ لأنها عنده همزة التأنيث. ومن ذلك قراءة الأعرج: "فَعَقَّبْتُمْ4" [158ظ] . النخعي والزهري ويحيى بخلاف-: "فعقبتم"، خفيفة القاف من غير ألف.
مسروق: "فَعَقِبتُهم"، بكسر القاف بغير ألف. وقراءة الناس: "فَعَاقَبتُم". قال أبو الفتح: روينا عن قطرب، قال: "فعاقبتم:" أصبتم عقبا1 منهن. يقال عاقب الرجل شيئا: إذا أخذ شيئا، وأنشد لطرفة: فعقبتم بذنوب غير مر2 جمع مرة، فسروه على أعطيتم وعدتم. وقال في قوله: {وَلَمْ يُعَقِّب 3} : لم يرجع، كذا قال أحمد بن يحيى. قال أبو حاتم: قرأ مجاهد: "فأعقبتم"، قال: معنى أعقبتم: صنعتم بهم مثل ما صنعوا بكم. وحكى عن أبي عوانة4 عن المغيرة: قرأت على إبراهيم: "فعاقبتم"، فأخذها علي: "فعقبتم"، خفيفة. وحكى عن الأعمش، قال: "عقبتم" "عقبتم"، فقد يجوز أن يكون عقبتم بوزن غنمتم ومعناه جميعا. وروى أيضا بيت طرفة: "فعقبتم"، بكسر القاف.
سورة الصف
سورة الصف: بسم الله الرحمن الرحيم قرأ طلحة: "وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْأِسْلامِ1". قال أبو الفتح: ظاهر هذا أن يقال: يدعى الإسلام، إلا أنه لما كان يدعى الإسلام: ينتسب إليه قال: يدعى إلى الإسلام، حملا على معناه، كقول الله "تعالى" {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى 2،} وعادة الاستعمال: هل لك في كذا، لكنه لما كان معناه أدعوك إلى أن تزكى استعمل "إلى" هنا، تطاولا نحو المعنى. وقد تقدم هذا، وهو غور عظيم.
سورة الجمعة
سورة الجمعة: بسم الله الرحمن الرحيم قرأ ابن يعمر وابن إسحاق: "فَتَمَنَّوُا الْمَوْت1"، بالكسر. قال أبو الفتح: قد سبق القول على هذا فيما مضى2، فأغنى عنه هنا. ومن ذلك قراءة علي "عليه السلام" وعمر "صلوات الله عليه" وابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب وابن عمر وابن الزبير "رضي الله عنهم" وأبي العالية والسلمي ومسروق طاوس3 وسالم بن عبد الله4 وطلحة، بخلاف: " فامضوا ذِكْرِ اللَّه5". قال أبو الفتح: في هذه القراءة تفسير للقراءة العامة: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} ، أي: فاقصدوا، وتوجهوا. وليس فيه دليل على الإسراع، وإنما الغرض المضي إليها، كقراءة من ذكرنا.
سورة المنافقين
سورة المنافقين: بسم الله الرحمن الرحيم قراءة الحسن: "اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً1". قال أبو الفتح: هذا على حذف المضاف، أي: اتخذوا إظهار إيمانهم جنة، وقد مضى ذكر ذلك2. ومن ذلك قراءة أبي جعفر: "آسْتَغْفَرْت3"، بالمد. وروى عنه: "اسْتَغْفَرْت"، بالوصل. قال أبو الفتح: هاتان القراءتان كلتاهما مضعوفتان. أما "آسْتَغْفَرْت"، بالمد فأنه أثبت همزة الوصل، وقد استغنى عنها بهمزة الاستفهام من قبلها، وليس كذلك طريق العربية. ألا ترى إلى قول ذي الرمة: أستحدث الركب عن أشياعهم خبرا ... أم عاود القلب من أطرابه طرب4؟ وأما "استغفرت"، بالوصل ففي الطرف الآخر من الضعف، وذلك أنه حذف همزة الاستفهام، وهو يريدها. وهذا مما يختص بالتجوز فيه الشعر، لا القرآن، نحو قوله: [159و] لعمرك ما أدري وإن كنت داريا ... شعيث ابن سهم أم شعيث ابن منقر5
سورة التغابن
سورة التغابن: بسم الله الرحمن الرحيم قرأ: "يَهْدأ قَلْبَهُ1"، مهموزا - عكرمة وعمرو بن دينار. قال أبو الفتح: أي: يطمئن قلبه، كما قال: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ 2} .
سورة الطلاق
سورة الطلاق: بسم الله الرحمن الرحيم قرأ: "فطلقوهن في قبل عدتهن1"- النبي "صلى الله عليه وسلم" وعثمان وابن عباس وأبي بن عب وجابر بن عبد الله ومجاهد وعلي بن الحسين وجعفر بن محمد، رضي الله عنهم. قال أبو الفتح: هذه القراءة تصديق لمعنى قراءة الجماعة: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ، أي: عند عدتهن. ومثله قول الله تعالى: {لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ 2} ، أي: عند وقتها. ومن ذلك قراءة داود بن أبي هند: "إِنَّ اللَّهَ بَالِغ" - منونة - "أَمْرِه3"، بالرفع. قال أبو الفتح: معناه أن أمره بالغ ما يريده الله به، فقد بلغ أمر الله ما أرداه، والمفعول كما ترى محذوف.
سورة التحريم
سورة التحريم 1: بسم الله الرحمن الرحيم قرأ: "وَقُودُهَا2" - بضم الواو - مجاهد والحسن وطلحة وعيسى الهمداني. قال أبو الفتح: هذا على حذف المضاف، أي: ذو وقودها يعنى ما تطعمه النار من الوقود وقد مضى ذكره3، وتفسير ما فيه. ومن ذلك قراءة سهل بن شعيب: "وَبِأَيْمَانِهِم4"، مكسورة الهمزة. قال أبو الفتح: قد تقدم القول على ذلك5، وأنه معطوف عل الظرف، على أن الظرف حال. ومن ذلك قراءة أبي رجاء: "وَكُتُبِهِ وَكَانَت6"، ساكنة التاء، واختلف عنه. وقرأ "وكتابه". قال أبو الفتح قال أبو حاتم: كتبه أجمع من كتابه، وكل صواب. وعلى كل حال ففيه وضع المضاف موضع الجنس، وقد تقدم تفسيره.
سورة القلم
سورة القلم: بسم الله الرحمن الرحيم قرأ الحسن: "أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ1" بالنصب. قال أبو الفتح: يجوز أن يكون "بالغة" حالا من الضمير في لكم؛ لأنه خبر عن "إيمان"، ففيه ضمير منه. وإن شئت جعلته حالا من الضمير في "علينا" إذا جعلت "علينا" وصفا لأيمان، لا متعلقا بنفس الـ"أيمان"؛ لأن فيه ضميرا كما يكون فيه ضمير منه إذا كان خبرا عنه. ويجوز أن يكون حالا من نفس "أيمان" وإن [159ظ] كانت نكرة كما أجاز أبو عمر في قوله "سبحانه": و {لِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ 2} أن يكون "حقا" حالا من متاع. ومن ذلك قراءة ابن عباس: "يَوْمَ تكْشَفُ عَن3"، بالتاء، والتاء منتصبة. وروى: "تكشف"، بالتاء مضمومة. قال أبو الفتح: أي: تكشف الشدة والحال الحاضرة عن ساق. وهذا مثل، أي: تأخذ في أغراضها، ثم شبهت بمن أراد أمرا وتأهب له، كيف يكشف عن ساقه؟ قال: كشفت لكم عن ساقها ... وبدا من الشر الصراح4 فأضمر الحال والشدة؛ لدلالة الموضع عليه. ونظيره من إضمار الفاعل لدلالة الحال عليه مسألة الكتاب: إذا كان غدا فأتني5، أي: إذا كان ما نحن عليه من البلاء في غد فأتني. وكذلك قولهم: من كتاب كان شرا له، أي: كان الكذب شرا، فأضمر المصدر لدلالة المثال عليه. وأما "يكشف" بتاء مضمومة فعلى نحو ذلك أيضا، أي: تكشف الصورة والآخرة هناك عن شدة، ويسرى6 ثوبها عن الحال الصعبة، والطريق واحد. ومن ذلك قراءة ابن هرمز والحسن: "لَوْلا أَنْ تَدَارَكَه7"، مشددة. قال أبو الفتح: روى هذه القراءة أبو حاتم عن الأعرج لا غير، قال: وقال بعضهم: سألت عنها أبا عمرو فقال: لا. قال أبو حاتم: لا يجوز ذلك؛ لأنه فعل ماض، وليست فيها إلا تاء واحدة، ولا يجوز تتداركه، وهذا خطأ منه؛ أو عليه.
قال أبو الفتح: قول أبي حاتم: هذا خطأ - لا وجه له؛ وذلك أنه يجوز على حكاية الحال الماضية المنقضية، أي لولا أن كان يقال فيه: تتداركه، كما تقول: كان زيد سيقوم، أي: كان متوقعا منه القيام، فكذلك هذا: لولا أن يقال: تتداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء. ومثله ما أنشدناه أبو علي، وهو رأيه وتفسيره من قوله: فإن تقتلونا يوم حرة واقم ... فلسنا على الإسلام أول من قتل أي: فإن تكونوا الآن معروفا هذا من خلالكم فيما مضى فلسنا كذا، وعليه قول الله "سبحانه": {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ 1} ، فأشار "سبحانه" إليهما إشارة الحاضر؛ لأنه لما كان حكاية حال صارت كأنها حاضرة، فقيل: هذا، وهذا. ولولا ذلك لقيل: أحدهما كذا، والآخر كذا. وكذلك قوله تعالى: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ 2} ، أعمل اسم الفاعل وإن كان لما مضى لما أراد الحال، فكأنها حاضرة. واسم الفاعل يعمل في الحال، كما يعمل في الاستقبال. وقد مضى هذا في هذا الكتاب، وفي غيره من كتبنا مشروحا ملخصا.
سورة الحاقة
سورة الحاقة: بسم الله الرحمن الرحيم قال ابن مجاهد حدثنا الطبري1 عن العباس بن الوليد2 عن عبد الحميد بن بكار3 عن أيوب عن يحيى4 عن ابن عامر: "وَحُمِلَتِ الْأَرْض5"، مشددة الميم. قال ابن مجاهد: وما أدري ما هذا؟. قال أبو الفتح: هذا الذي تبشع على ابن مجاهد حتى أنكره من هذه القراءة - صحيح وواضح. وذلك أنه أسند الفعل إلى المفعول الثاني، حتى كأنه في الأصل: وحملنا قدرتنا، أو ملكا من ملائكتنا، أو نحو ذلك - الأرض، ثم أسند الفعل إلى المفعول الثاني، فبني له، فقيل: فحملت [160و] الأرض. ولو جئت بالمفعول الأول لأسندت الفعل إليه، فقلت:
وحملت قدرتنا الأرض. وهذا كقولك: ألبست زيدا الجبة، فإن أقمت المفعول الأول مقام الفاعل قلت: ألبس زيد الجبة، وإن حذفت المفعول الأول أقمت الثاني مقامه، فقلت: ألبست الجبة. نعم، وقد كان أيضا يجوز مع استيفاء المفعول الأول أن يبنى الفعل للمفعول الثاني، فتقول: ألسبت الجبة زيدا، على طريق القلب؛ للاتساع، وارتفاع الشك. فإذا جاز على هذا أن تقول حملت الأرض الملك، فتقيم الأرض مقام الفاعل مع ذكر المفعول الأول - فما ظنك بجواز ذلك وحسنه، بل بوجوبه إذا حذف المفعول الأول؟ وكذلك أطعمت زيدا الخبز، وأطعم زيد الخبز، وتتسع فتقول: أطعم الخبز زيدا، ثم تحذف زيدا، فلا تجد بدا من إقامة الخبز مقام الفاعل، فتقول: أطعم الخبز. ومثله اركب الفرس وأبث الحديث، وكسيت الجبة، وأطعم الطعام، وسقى الشراب، ولقى الخير، ووقى الشر. ورحم الله ابن مجاهد! فلقد كان كبيرا في موضعه، مسلما فيما لم يمهر به. ومن ذلك قراءة الزهري والحسن وموسى بن طلحة: "الخاطيون1"، بإثبات الياء، ولا يهمز. قال أبو الفتح: يحتمل هذا قولين: أحدهما أن يكون تخفيفا للهمز، لكن على مذهب أبي الحسن في قول الله تعالى: "يَسْتَهْزِيون2"، بإخلاص الهمزة في اللفظ ياء، لانكسار ما قبلها. وسيبويه يجعلها بين حين على مذهبه في مثل ذلك، وقد ذكرناه، وفيه بعض الطول، ومثله أيضا يدق على القراء. والآخر أن يكون قد بقى من الهمز جزء ما على مذهب سيبويه، إلا أنه يلطف على القراء، فيقولونه بإخلاص الياء، ومعذورون فيه لغموضه. ومن ذلك ذكر محمد بن ذكوان أنه سمع أباه يقرأ: "وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ3". قال أبو الفتح: في هذه القراءة تعريض بما صرحت به القراءة العامة التي هي: "وَلَوْ تَقَوَّلَ"، وذلك أن "تقول" لا تستعمل إلا مع التكذب، فهي مثل تخرص وتزيد. وأما "يقول" فليست مختصة بالباطل دون الحق، وبالكذب دون الصدق، لكن قوله "تعالى": {بَعْضَ الْأَقَاوِيل} فيه الكناية والتعريض بالقبيح، كقولك: للرجل وأنت في ذكر التعتب عليه: لو ذكرني لاحتملته، أي: لو ذكرني بغير الجميل، ودل قولك: لاحتملته وما كنتما عليه من الأحوال - على ذلك، فكذلك قوله: {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} ، لا سيما وهناك قوله: "علينا"، فهذا أيضا مما يصحب الذكر غير الطيب؛ لأنه عليه، لا له.
سورة المعارج وسورة نوح
سورة المعارج وسورة نوح ... سورة المعارج: بسم الله الرحمن الرحيم قرأ: "سَالَ سَيلٌ1" - ابن عباس. قال أبو الفتح: السيل هنا: الماء السائل، وأصله المصدر من قولك: سال الماء سيلا، إلا أنه أوقع على الفاعل2 كقوله: {إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا 3} ، أي: غائرا. يؤكد ذلك عندك ما أنشدناه أبو علي من قوله: فلينك حال البحر دونك كله ... فكنت لقى تجري عليك السوائل4 قال أبو علي [160ظ] فتكسيره سيلا على ما يكسر عليه سائل، وهو قولك؛ السوائل - يشهد بما ذكرناه. ومثل ذلك مما كسر من المصادر تكسير اسم الفاعل لكونه في معناه ما أنشدناه أيضا من قوله: وإنك ياعام بن فارس قرزل ... معيد على قيل الخنا والهواجر5 فكسر الهجر، وهو الفحش على الهواجر، حتى كأنه إنما كسر هاجرا، ولا هجر. فاعرف ذلك إلى غيره، مما يدل على مشابهة المصدر لاسم الفاعل. سورة نوح: لا شيء فيها
سورة الجن
سورة الجن: بسم الله الرحمن الرحيم قرأ: "أُحِىَ1" - من وحيت، في وزن فعل - جؤية بن عائذ. قال أبو الفتح: يقال: أوحيت إليه، ووحيت إليه. قال العجاج: *وحى لها القرار فاستقرت2* وأصله: "وحى"، فلما انضمت الواو ضما لازما همزت، على قوله "تعالى": {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَت 3} . وقالوا في وجوه: أجوه، وفي ورقة4 أرقة، وقالوا: أجنة، يريدون: الوجنة5. قال أبو حاتم: ولم يستعملوها على الأصل: وجنة. وتقول على هذا: أحى إليه، فهو موحي إليه، فتردد الواو لزوال الضمة عنها. ومثله: أعد فهو موعود، وأرث المال فهو موروث. ولا يجوز مأعود، ولا مأروث؛ لزوال الضمة عن الواو. فأما قوله: ومن حديث يزيدني مقة ... ما لحديث المأموق من ثمن6
فليس على الهمز، لكنه أراد الموموق، إلا أنه أبدل الواو ألفا، لانفتاح ما قبلها وإن كانت ساكنة، كما قالوا في يوجل: ياجل، وفي يوحل ياحل، وفي يوتعد -في اللغة الحجازية-: ياتعد، وفي يوتزن: ياتزن. فهذا1 على قلب الواو ألفا لانفتاح ما قبلها، ليس على طريق الهمز. وينبغي أن يحمل على هذا أيضا قوله عليه السلام: ارجعن مأزورات غير مأجورات يريد: موزورات، ثم تقلب الواو؛ لما ذكرنا - ألفا. وعلى أنه قد يمكن أن يكون قلب الواو همزة هنا إتباعا لمأجورات. ومن ذلك قراءة عكرمة: "جَدًّا رَبُّنَا2". وروى عنه: "جَدًّا رَبُّنَا"، وغلط3 الذي رواه. قال أبو الفتح: أما انتصاب "جَدًّ" فعلى التمييز، أي: تعالى ربنا جدا، ثم قدم المميز، على قولك: حسن وجها زيد. فأما "جد ربنا" فإنه على إنكار ابن مجاهد صحيح؛ وذلك أنه أراد: وأنه تعالى جد جد ربنا على البدل، ثم حذف الثاني، وأقام المضاف إليه مقامه. وهذا على قوله "سبحانه": {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ 4} ، أي: زينة الكواكب، فـ"الكوكب" إذا بدل من "زينة". فإن قلت: فإن الكواكب قد تسمى زينة، والرب "تعالى" لا يسمى جدا. قيل: الكواكب في الحقيقة ليست زينة، لكنها ذات الزينة, ألا ترى إلى القراءة بالإضافة وهي قوله: {بِزِينَةٍ الْكَوَاكِب 5} ؟ وأنت أيضا تقول: تعالى ربنا، كما تقول:
تعالى جد ربنا. فالتعالى مستعمل معهما جميعا، كما يقال: يسرني زيد قيامه، وأنت تقول: يسرني زيد، ويسرني قيامه. وهذا بيان ما أنكره ابن مجاهد. ومن ذلك قراءة الحسن والجحدري ويعقوب وابن أبي بكرة، بخلاف: "أَنْ لَنْ تَقُول1". قال أبو الفتح: "كذبا" -في هذه القراءة- منصوب على المصدر من غير حذف الموصوف معه، وذلك أن "تقول" في معنى تكذب، فجرى تبسمت وميض البرق، أي: أنه2 منصوب بعفل مضمر، ودلت عليه تبسمت، [161و] أي: أومضت. فعلى هذا كأنه قال: أن لن يكذب الإنس والجن على الله كذبا. ومن رأى أن ينصب "وميض البرق" بنفس تبسمت؛ لأنه بمعنى أومضت نصب أيضا "كذبا" بنفس "تقول"؛ لأنه بمعنى كذب. وأما من قرأ "أَنْ لَنْ تَقُول3"، بوزن تقوم فإنه وصف مصدر محذوف، أي: أن لن تقول الإنس والجن على الله قولا كذبا، فكذب هنا وصف لا مصدر، كقوله "تعالى": {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ 4} ، أي: كاذب. فإن جعلته هنا مصدرا نصبته نصب المفعول5 به، أي: لن تقول كذبا، كقولك: قلت حقا، وقلت باطلا، وقلت شعرا، وقلت سجعا. ولا يحسن أن تجعله مع "تقول" وصفا، أي: تقولا كذبا؛ لأن التقول لا يكون إلا كذبا، فلا فائدة إذا فيه. ومن ذلك قراءة الأعمش ويحيى: "وَأَن لَوُ اسْتَقَامُوا6"، بضم الواو. قال أبو الفتح: هذا على تشبيه هذه الواو بواو الجماعة، نحو قوله: {اشْتَرَوُا الضَّلالَة 7} ، كما شبهت تلك أيضا بهذه فقرءوا: "اشْتَرَوُا الضَّلالَة"، وقد مضى ذلك8.
ومن ذلك قراءة الجحدري والحسن، بخلاف: "لُبَدًا1"، مشددة. قال أبو الفتح: هذا وصف على فعل: كالجباء2، والزمل3، واللبد: الكثير يركب بعضه بعضا، حتى يتبلد من كثرته. ابن مجاهد: وروى عن عاصم الجحدري؛: "لبُدًا"، بضم اللام والباء. قال أبو الفتح: هذا من الأوصاف التي جاءت على فعل، كرجل طلق4، ناقة سرح5. ومن ذلك قراءة مارواه يحيى عن ابن عامر: "أَدْرِي أَقَرِيب6"، وهذا لا يجوز. قال أبو الفتح: طريق هذا أنه شبه آخر فعل المتكلم بيائه، كقولك: هذا غلامي وصاحبي، وأنسخ بذلك أن للمتكلم في "أدري" حصة، وهي همزة المضارعة، كما أن له حصة في اللفظ، وهي ياؤه. وعلى كل حال فهذه شبهة السهو فيه، لا علة الصحة له، كما أن ياء مصيبة أشبهت في اللفظ ياء صحيفة، حتى قالوا: مصائب سهوا، كما قالوا صحائف.
سورة المزمل
سورة المزمل: بسم الله الرحمن الرحيم قرأ عكرمة: "الْمُزَّمِّل1"، و"الْمُدَّثِّر2"، خفيفة الزاي، والدال، مشددة الميم، والثاء. قال أبو الفتح: هذا على حذف المفعول، يريد: يأيها المزمل نفسه، والمدثر نفسه؛ فحذفه فيهما جميعا. وحذف المفعول كثير، وفصيح، وعذب. ولا يركبه إلا من قوى طبعه، وعذب وضعه. قال الله "سبحانه": {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ 3} ، أي: أوتيت من كل شيء شيئا. وأنشدنا أبو علي للحطيئة: منعمة تصون إليك منها ... كصونك من رداء شرعبي4 أي: تصون حديثها وتخزنه، كقول الشنفرى: كأن لها في الأرض نسيا تقصه ... على أمها وإن تخاطبك تبلت5 ومن ذالك قراءة أبي السمال: "قُمِ اللَّيْل6". وروح -عن أبي اليقظان- قال: سمعت أعرابيا من بلعنبر7 يقرأ كذلك.
قال أبو الفتح: علة جواز ذلك أن الغرض في هذه الحركة إنما التبلغ به هربا من اجتماع الساكنين، فبأي الحركات حركت أحدهما فقد وقع الغرض، ولعمري إن الكسر أكثر، فأما ألا يجوز غيره فلا. حكى قطرب عنهم: "قُمِ اللَّيْل"، وَقُلِ الْحَق1" وبع الثوب فمن كسره فعلى أصل الباب، ومن ضم، أو كسر أيضا أتبع2، ومن فتح فجنوحا إلى خفة الفتح. ومن ذلك حدثنا عباس الدوري [161ظ] عن أبي يحيى الحماني3 عن الأعمش عن أنس أنه قرأ: "وَأَقْوَمُ قِيلًا"، و"وأَصْوَبُ4". فقيل له: يا أبا حمزة، إنما هي: "وَأَقْوَمُ قِيلًا"، فقال أنس: إن أقوم أصوب وأهيأ واحد. قال أبو الفتح: هذا يؤنس بأن القوم كانوا يعتبرون المعاني، ويخلدون إليها، فإذا حصلوها وحصنوها سامحوا أنفسهم في العبارات عنها5. ومن ذلك ما رؤينا عن أبي زيد أن أبا سرار الغنوي كان يقرأ: "فَحاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ6"، والحاء غير معجمة. فقيل له: إنما هو "جاسوا"، فقال: حاسوا، وجاسوا واحد7. ومن ذلك حكاية ذي الرمة في قوله: وظاهر لها من يابس الشخت8 فقيل له" أنشدتنا بائس السخت فقال: بائس، ويابس واحد. وأخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن عن أبي العباس أحمد بن يحيى قال: قال بعض أصحاب ابن الأعرابي له في قوة الشاعر: وموضع زبن لا أريد مبيته ... كأني به من شدة الروع آنس9 أنشدتناه وموضع ضيق، فقال له أبن الأعرابي: سبحان الله! تصحبنا منذ كذا وكذا سنة ولا تدري أن "زبن" و"ضيق" واحد؟
سورة المدثر
سورة المدثر: بسم الله الرحمن الرحيم قد ذكرنا من خففه1. ومن ذلك قراءة الحسن: "وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ2"، جزما. وقرأ الأعمش: "تَسْتَكْثِرُ"، نصبا. قال أبو الفتح: أما الجزم فحتمل أمرين: أحدهما: أن يكون بدلا من قوله: {تَمْنُن} ، حتى كأنه قال: لا تستكثر، فإن قال. فعبرة البدل أن يصلح لإقامة الثاني مقام الأول، نحو ضربت أخاك زيدا، فكأنك قلت: ضربت زيدا، وأنت لو قلت: لا تستكثر لم يدللك النهي عن المن للاستكثار، وإنما كان يكون فيه النهي عن الاستكثار مرسلا، وليس هذا هو المعنى، وإنما المعنى: لا تمنن من مستكثر، أي: امنن من من لا يريد عوضا، ولا يطلب الكثير عن القليل. قيل: قد يكون البدل على حذف الأول، وكذلك أيضا قد يكون على نية إثباته. وذلك كقولك: زيد مررت به أبي محمد، فتبدل أبا محمد من الهاء. ولو قلت: زيد مررت بأبي محمد على
حذف الهاء كان قبيحا. فقوله تعالى: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} من هذا القبيل، لا من الأول وأنكر أبو حاتم الجزم على البدل، وقال: لأن المن ليس بالاستكثار فيبدل منه، وبينهما من النسبة ما ذكرته لك. وأما الوجه الآخر فأ، يكون أراد: {تَسْتَكْثِرُ} ، فأسكن الراء؛ لثقل الضمة مع كثرة الحركات، كما حكاه أبو زيد من قولهم: "بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ1"، بإسكان اللام. وقد مضى هذا فيما قبل مستقصى2. فأما "تَسْتَكْثِرُ"، بالنصب فبأن مضمرة على ما أذكره لك، وذلك أن يكون بدلا من قوله: {وَلا تَمْنُن} على المعنى. ألا ترى أن معناه لا يكن منك من واستكثار؟ فكأنه قال: لا يكن منك من أن تستكثر فتضمر أن لتكون مع الفعل المنصوب بها بدلا من المن في المعنى الذي دل عليه الفعل، ونظير اعتقاد المصدر مغروما3 عن الفعل في نحو هذا - قولهم: لا تشتمه فيشتمك4، أي: لا يكن منك شم له، ولا منه أن يشتمك. فكما ساغ هناك تقدير المصدر، فكذلك ساغ هنا تقديره أيضا. ومما وقع في الفعل موقع المصدر ما أنشده أبو زيد من قوله: فقالوا ما تشاء فقلت ألهو ... إلى الإصباح آثر ذي أثير5 [162و] أراد اللهو موضع ألهو وهذا واضح. ومن ذلك قراءة أبي جعفر يزيد وطلحة بن سليمان: "عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَر6"، بإسكان العين. وقرأ أنس بن مالك: "تِسْعَةَ أعَشُرَ".
روى عنه: "تِسْعَةَ وعَشَرَ"، برفع الهاء، وبعدها واو مفتوحة، وعين مجزومة. وروى عنه: "تِسْعَةَ عَشَرَ". وروى عنه: "تِسْعَةَ عَشَرَ". وروى عن ابن عباس: "تِسْعَةَ عَشَرَ"، برفع تسعة. قال أبو الفتح: أما "تِسْعَةَ عَشَرَ"، بفتح هاء تسعة، وسكون عين عشر - فلأجل كثرة الحركات، وأن الاسمين جعلا كاسم واحد، فلم يوقف على الأول منهما فيحتاج - إلى الابتداء بالثاني. فلما أمن ذلك أسكن تخفيفا أوله وجعل ذلك أمارة لقوة اتصال أحد الاسمين بصاحبه. قال أبو الحسن: ولا يجوز ذلك مع اثنا عشر ولا اثنى عشر؛ لسكون الاول من الحرفين، أعني الألف والياء، فيلتقي ساكنان في الوصل، ليس أولهما حرف لين والثاني مدغما. وعلى أنه قد روى ابن جماز عن أبي جعفر: اثنا عشر، بسكون العين، وفيه ما ذكرناه. وقال أبو حاتم في تسعة أعشر: لا وجه له نعرفه، إلا أن يعني تسعة أعشر جمع العشر أو شيئا غير الذي وقع في قلوبنا. وأما "تِسْعَةَ وعَشَرَ" فطريقه أنه فك التركيب وعطف على تسعة عشر على أصل ما كان عليه الاسمان قبل التركيب من العطف. ألا ترى أن أصله تسعة وعشرة؟ كقولك: تسعة وعشرون، إلا أنه حذف التنوين من تسعة لكثرة استعماله، كما حكى أبو الحسن عنهم من قولهم، سلاما عليكم، بحذف تنوين "سلام"، قال: وذلك كثرة استعمالهم إياه. وأما "تِسْعَةَ وعَشَرَ" فطريقه أنه أراد تسعة أعشر، بهمزة كما ترى، كالرواية الأخرى "تِسْعَةَ أعَشَرَ"، فخفف الهمزة، بأن قلبها واو خالصة في اللفظ؛ لأنها مفتوحة وقبلها ضمة،
فجرت مجرى تخفيف جون، إذا قلت: جون1. وعلى أن هذه الهمزة ههنا - منكرة غير معرفة عند أصحابنا، ولذلك قال سيبويه في هذا هي: أحد عشر بلا ألف كقولك أحد حمل تحايدا عن هذه الهمزة واستنكارا لها، والعامة مع ذلك مولعة بها2. ومن ذلك قراءة سعيد بن جبير: "صُحُفًا مُنَشَّرَة3"، بسكون الحاء والنون. قال أبو الفتح: أما سكون الحاء فلغة تميمية، وأما "منشرة"، بسكون النون فإن جاري العرف في الاستعمال نشرت الثوب ونحوه، ونشر الله الموتى فنشروا هم. وقد جاء عنهم أيضا: نشر الله الميت، قال التيمي: ردت صنائعه إليه حياته ... فكأنه من نشرها منشورا4 ولم نعلمهم قالوا: أنشرت الثوب ونحوه، إلا أنه قد يجوز أن يشبه شيء بشيء، فكما جاز أن يشبه الميت بالشيء المطوي، حتى قال التيمي: "منشور" فكذلك يجوز أن يشبه المطوي بالميت، فيقال: صف منشرة، [162ظ] أي: كأنها كانت بطيها ميتة، فلما نشرت حيت بذلك، فقيل منشرة.
سورة القيامة
سورة القيامة: بسم الله الرحمن الرحيم قرأ الحسن: "لأُقْسِم"، بغير ألف، و"لا أُقْسِم1"، بألف. وروى عنه بغير ألف فيهما جميعا، والألف فيهما جميعا. قال أبو الفتح: حكى أبو حاتم عن الحسن أنه قال: أقسم بالأولى، ولم يقسم بالثانية. قال أبو حاتم: وكذلك زعم خارجة عن ابن أبي إسحاق: يقسم بيوم القيامة، ولا يقسم بالنفس اللوامة. ورواها أبو حاتم أيضا عن أبي عمرو وعيسى مثل ذلك. وينبغي أن تكون هذه اللام لام الابتداء، أي: لأنا أقسم بيوم القيامة، وحذف المبتدأ للعلم به، على غرة2 حال الحذف والتوكيد. فهذا هو الذي ينبغي أن يحتمل عليه هذه القراءة، ولا ينبغي أن يكون أراد النون للتوكيد؛ لأن تلك تختص بالمستقبل، لأن الغرض إنما هو الآن مقسم لا أنه سيقسم فيما بعد، ولذلك حملوه على زيادة "لا"، وقالوا: معناه أقسم بيوم القيامة، أي: أيا مقسم الآن، ولأن حذف النون هنا ضعيف خبيث. ومن ذلك قراءة اب عباس وعكرمة وأيوب السختياني والحسن: "الْمَفِرّ3". وقرأ: "الْمَفَر" الزهري. قال أبو الفتح: "الْمَفَر"، بفتح الميم، والفاء - المصدر، أين الفرار. و"المفر" - بفتح
الميم، وكسر الفاء-: الموضع الذي يفر إليه. "والْمَفَر" - بكسر الميم، وفتح الفاء-: الإنسان الجيد الفرار، كقولهم: رجل مطعن ومضرب، أي: مطعان ومضراب. قال: مكر مفر مقبل مدبر معا1 معناه: أين الإنسان الجيد الفرار؟ ولن ينجو من ذلك، لا أن هناك مطمعا في الحياة. ومن ذلك قراءة ابن عباس: "وَأيقن أَنَّهُ الْفِرَاقُ2"، وقال ابن عباس في تفسيره: ذهب الظن. قال أبو الفتح: ينبغي أن يحسن الظن بابن عباس، فيقال: إنه أعلم بلغة القوم من كثير من علمائهم، ولم يكن ليخفى عليه أن ظننت قد تكون بمعنى علمت، كقوله: فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج ... سراتهم في الفارسي المسرد3 أي: أيقنوا بذلك وتحققوه، لكنه أراد لفظ اليقين الذي لا يستعمل في الشك، وكأنه قال: ذهب اللفظ الذي يصلح للشك، وجاء اللفظ الذي هو تصريح باليقين. إلى هذا ينبغي أن يذهب بقوله، والله أعلم. ومن ذلك قراءة طلحة بن سليمان: "أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى4"، ساكنة
قال أبو الفتح: معنى قول ابن مجاهد: أنه قرأ على سكون الياء من "يُحْيِيَ"، على لغة من قال: يا دار هند عفت إلا أثافيها1 فأسكن الياء في موضع النصب، لا أن الياء في قوله: {يُحْيِيَ الْمَوْتَى} ساكنة، وذلك أنه لا ياء هناك في اللفظ أصلا، لا ساكنة ولا متحركة؛ لأنها قد حذفت لسكونها وسكون اللام من "الموتى". قال أبو العباس: إسكان هذه الياء في موضع النصب من أحسن الضرورات، حتى إنه لو جاء به جاء في النثر لكان جائزا، وشواهد ذلك في الشعر أكثر من أن يؤتى بها. ومما جاء منه في النثر قولهم: لا أكلمك حيرى دهر، فأسكن الياء من حيرى، وهي في موضع نصب. وفيه عندي شيء [163و] لم يذكره أبو علي ولا غيره من أصحابنا، وذلك أنه أصله حيرى دهر، ومعناه مدة الدهر، فكأنه مدة تحير الدهر وبقائه، فلما حذفت أخرى الياءين بقيت الياء ساكنة كما كانت قبل الحذف؛ دلالة على أن هذا محذوف من ذلك الذي لو لم يحذف لما كانت ياؤه إلا ساكنة، ومثل ذلك عندي قول الهذلي: رب هيضل لجب لففت بهيضل2 أراد: رب، فحذف أحدى الياءين، وبقى الثانية مجزومة3 كما كانت قبل الحذف،
وإن لم يكن هناك موجب للحركة لالتقاء الساكنين، ولولا ذلك لوجب1 تسكين باء رب، كتسكين لام هل وبل، ودال قد إذ لا ساكنين هناك فتجب الحركة لالتقائهما. ولهذا نظائر كثيرة في المجيء باللفظ على حكم لفظ آخر لأنه في معناه وإن عرى هذا من موجب اللفظ في ذاك، نحو تصحيح عور وحول لأنهما في معنى ما لا بد من صحته، وهو اعور واحول. ولولا الإطالة المعقود على تحاميها، وتجنب الإكثار بها - لأوسعنا ساحة القول في هذا ونحوه، ولم نقتصر على ما نورده منه. ولولا ما رددناه من شاهد قد مضى هو أو مثله فليكون2 الموضع المقول عليه حاملا لنفسه، ناهضا بشواهده، لا سيما مع م لا يؤمن من شذوذ ما قبله، فيختل الموضع لذلك.
سورة الإنسان
سورة الإنسان: بسم الله الرحمن الرحيم قرأ: "وَاسْتَبْرَق1"، بوصل الألف، وفتح القاف - ابن محيصن. قال أبو الفتح: قد تقدم القول على هذا عند قول الله تعالى: {بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ 2} وغيره. ومن ذلك قراءة عبد الله بن الزبير وأبان بن عثمان: "والظالمون أعدّ"، بالواو. قال أبو الفتح: هذا على ارتجال جلمة مستأنفة، كأنه قال: الظالمون أعد لهم عذابا أليما، ثم إنه عطف الجملة على ما قبلها. وقد سبق الرفع إلى مبتدئها، غير أن الذي عليه الجماعة أسبق، وهو النصب. ألا ترى أن معناه يدخل من يشاء في رحمته ويعذب الظالمين؟ فلما أضمر هذا الفعل فسره بقوله: {أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} ، وهذا أكثر من أن يؤتى له بشاهد.
سورة المرسلات
سورة المرسلات: بسم الله الرحمن الرحيم قرأ ابن عباس: "فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا1"، مشددة. قال أبو الفتح: معنى الملقيات، بتشديد القاف: الموصلات له إلى المخاطبين به، كقولك: لقيته الرمح، ولقيته سوء عمله. وأما الملقيات"، بتخفيف القاف فكأنه الحاملات له، والطارحات له، ليأخذه من خوطب به. وهذا كقول الله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ 2} ، كقوله: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ 3} ، ونحو ذلك. ومن ذلك قراءة أبي جعفر: "وُقِتَتْ4"، بواو، خفيفة القاف. وقراءة الحسن: "وُوقِتَتْ "، بواوين: الأولى مضمومة، والثانية ساكنة. قال أبو الفتح: أما "وُقِتَتْ" خفيفة، ففعلت، من الوقت كقوله تعالى: {كِتَابًا مَوْقُوتًا 5} ، فهذا من وقت. وأما "ووقتت" فكقولك: عوهدت [163ظ] عليه، وووفقت عليه، وكلاهما من الوقت. ويجوز أن تهمز هاتان الواوان، فيقال: أقتت، كما قرءوا: "أقتت"، بالتشديد، وأوقتت، فتكون بلفظ أفعلت، وبمعنى فوعلت.
ومن ذلك قراءة الأعرج: "ثُمَّ نُتْبِعُهُم1"، بالجزم. قال أبو الفتح: يحتمل جزمه أمرين: أحدهما أن يكون أراد معنى قراءة الجماعة: {نُتْبِعُهُم} ، بالرفع، فأسكن العين استثقالا لتوالي الحركات على ما مضى في غي موضع من هذا الكتاب2. والآخر أن يكون جزءا، فيعطفه على قوله: "نُهْلِك"، فيجري مجرى قولك: ألم تزرني ثم أعطك؟ كقولك3: فأعطك ألم أحسن إليك ثم أوال ذلك عليك؟ فيكون معنى هذه القراءة أنه يريد قوما أهلكهم الله سبحانه بعد قوم قبلهم على أختلاف أوقات المرسلين إليهم شيئا بعد شيء فلما ذكر ما تقضي على اختلاف الأوقات فيه قال تعالى مستأنفا: {كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِين} ، فيكون المجرمون هنا من نهلكه من بعد. وقد يجوز أن يعني بالمجرمين من مضى منهم ومن يأتي فيما بعد، المعنيان جميعا متوجهان. ومن ذلك قراءة ابن عباس وسعيد بن جبير -واختلف عنهما-: "كَالْقَصْر"، بكسر القاف، وفتح الصاد. قال أبو الفتح: رواها أبو حاتم: "كالقصر" - القاف والصاد مفتوحان - عن ابن عباس وسعيد بن جبير، وروى أيضا عن سعيد بن جبير: "كالقصر"، بكسر القاف، وفتح الصاد، وقال: القصر: أصول الشجر، الواحدة قصرة. وكذا رواها لنا أبو علي أيضا، قال: ومنه قولهم: غلة نقية من القصر، قال: وقول الكتاب: نقية من القصر لا وجه له. قال أبو حاتم: قال الحسن: أصول الشجر، قال: وقال قتادة والكلبي: أصول الشجر والنخل. وقال مجاهد: حزم الشجر، قال: وكذلك قرأها مجاهد. قال أبو حاتم: لعل القصر -بكسر القاف- لغة، كحاجة وحوج. قد قالوا أيضا في حلقة الحديد: حلقة -بفتح اللام- وقالوا: حلق؛ بكسر الحاء. أبو حاتم: قال الحسن: قصرة وقصر، مثل جمرة وجمر، كأنه قرأها ساكنة الصاد. قال: والعامة يجعلونها على القصور.
وحدثنا أبو علي أن القصر هنا بمعنى القصور قال: وهي بيوت من أدم كانوا يضربونها إذا نزلوا على الماء. ومن ذلك قراءة ابن عباس وسعيد بن جبير -بخلاف- والحسن -بخلاف- وأبي رجاء -بخلاف- وقتادة -بخلاف-: "جِمَالاتٌ صُفْرٌ1"، بضم الجيم. قال أبو الفتح: أبو حاتم عن ابن عباس: إنها حبال السفينة2.
سورة عم يتساءلون
سورة عم يتساءلون: بسم الله الرحمن الرحيم عكرمة وعيسى: "عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ1". قال أبو الفتح: هذا أضعف اللغتين، أعني إثبات الألف في "ما" الاستفهامية إذا دخل عليها حرف جر. وروينا عن قطرب لحسان. على ما قام يشتمني لئيم ... كخنزير تمرغ في دمان2 فأثبت الألف مع حروف الجر. ومن ذلك قراءة ابن الزبير وابن عباس والفضل بن عباس وعبد الله بن يزيد وقتادة: "وَأَنْزَلْنَا بالْمُعْصِرَاتِ3".
قال أبو الفتح إذا أنزل منها فقد أنزل بها، كقولهم: أعطيته من يدى درهما، وبيدي درهما. المعنى واحد، وليست "من" ههنا مثلهم في قولهم: أعطيته [164و] من الدراهم، لأن هذا معناه بعضها، وليس يريد أن الدرهم بعض اليد، لكن معنى "من" هنا ابتداء الغاية، أي كان ابتداء العطية من يده وليس معناه: أعطاه بعض يده. ومن ذلك قراءة علي: "وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا كِذَّابًا1". قال أبو الفتح: يقال: كذب يكذب كذبا وكذابا، وكذب كذابا، بتثقيل الذال فيهما جميعا. وقالوا أيضا: كذابا، خفيفة. وقال قطرب: قالوا: رجل كذاب: صاحب كذب. وحكى أبو حاتم عن عبد الله بن عمر: "وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا كِذَّابًا"، بضم الكاف، وتشديد الذال، وقال: لا وجه له، إلا أن يكون "كذاب" جمع كاذب، فتنصبه على الحال: وكذبوا بآياتنا في حال كذبهم. وقال طرفة: إذا جاء ما لا بد منه فمرحبا ... به حين يأتي لا كذاب ولا علل2 وقال: رجل كيذبان، وكيذبان، وكاذب، وكذوب، وكذب، وكذاب، وكذبذب -بتشديد الذال - وكذبذب، بتخفيفها. قرأت على أبي علي في نوادر أبي زيد، ورويناه عن قطرب وغيره من أصحابنا: وإذا أتاك بأنني قد بعثها ... بوصال غائبة فقل: كذبذب3 وهو أحد الأمثلة الفائتة لكتاب سيبويه. وقد يجوز أن يكون قوله: "كِذَّابًا" - بالضم، وتشديد الذال - وصفا لمصدر محذوف، أي: كذبوا بآياتنا كذابا كذابا، أي: كذابا متناهيا في معناه، فيكون الكذاب ههنا واحدا لا جمعا، كرجل حسان، ووجه وضاء، ونحو
ذلك من الصفات على فعال. ويجوز أيضا أن يكون أراد جمع كذب، لأنه جعله نوعا وصفه بالكذب، أي كذبا كاذبا، ثم جمع فصار كذابا كذابا، فافهم ذلك. ومن ذلك قراءة ابن فطيب: "عَطَاءً حِسَابًا1". قال أبو الفتح: طريقة عندي -والله أعلم- عطاء محسبا، أي كافيا. يقال: أعطيته ما أحسبه، أي: كفاه، إلا أنه جاء بالاسم من أفعل على فعال. وقد جاءت منه أحرف، قالوا: أجبر فهو جبار، وأدرك فهو دراك، وأسأر2 من شرابه فهو سأار، وأقصر عن الشيء فهو قصار، وقد تقدم ذلك. وأنا أذهب في قولهم: أحسبه، من العطية، أي: كفاه - إلى أنه من قولهم: حسبك كذا، أي: أعطاه حتى قال: حسب، كما أن قولهم: بجلت الرجل، ورجل بجيل وبجال - كأنه من قولهم: بجل، أي: حسب، فكأنه انتهى من الفضل والشرف إلى أنه متى جرى ذكره قيل: بجل، قف حيث أنت، فلا غايةن وراءه. وكذلك عندي أصل تصرف النعمة والنعيم والإنعام وجميع ما في هذا الحرف - إنما هو من قولنا: نعم، وذلك أن "نعم" محبوبة مستلذة، وهي ضد "لا" الكزة3 المستكرهة. فإن قيل: فكيف يجوز الاشتقاق من الحروف؟ قيل: قد اشتق منها في غير موضع، قالوا: سألني حاجة، فلا ليت له، أي: قلت له: لا. وسألتك حاجة، فلوليت لي، أي: قلت: لولا. وقالوا: حاحيت، وعاعيت، وهاهيت، -فاشتقوا من حاء وعاء، وهاء، وهن أصوات، والأصوات للحروف أخوات، وما أكثر ذلك!
سورة النازعات
سورة النازعات: بسم الله الرحمن الرحيم [164ط] قراءة أبي حيوة: "فِي الْحَفِرَة1"، بفتح الحاء، وكسر الفاء بغير ألف. قال أبو الفتح: وجه ذلك أن يكون أراد "الحافرة"، كقراءة الجماعة، فحذف الألف تخفيفا، كما قال: إلا عرادا عردا2 أي: عاردا، وقد ذكرناه. وفيه وجه آخر ذو صنعة، وهو أنهم قد قالوا: حفرت أسنانه: إذا ركبها الوسخ من ظاهرها وباطنها. فقد يجوز أن يكون أراد الأرض الحفرة، أي: المنتنة؛ لفسادها بأخباثها، وبأجسام الموتى فيها. وعليه فسروا قراءة من قرأ: " صَلَلْنا فِي الْأَرْض3" من النتن، ورواها أحمد ابن يحيى: "صَلِلنا"، بكسر اللام. ومن ذلك قراءة الحسن وعمرو بن عبيد: "وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا4"، بالرفع. قال أبو الفتح: هذا كقراءة عبد الله بن الزبير وأبان بن عثمان: "وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا"، وقد ذكرناه هناك5.
ومن ذلك ما رواه الأعمش عن مجاهد: " وَالْأَرْضَ من ذَلِكَ دَحَاهَا1". قال أبو الفتح: ليست هذه القراءة مخالفة المعنى لمعنى القراءة العامة: {بَعْدَ ذَلِك} ، لأنه ليس المعنى -والله أعلم- أن الأرض دحيت مع خلق السموات وفي وقته، وإنما اجتماعهما في الخلق، لا أن زمان الفعلين واحد. وهذا كقولك: فلان كريم، فيقول السامع: وهو مع ذلك شجاع، أي: قد اجتمع له الوصفان، وليس غرضه فيه ترتيب الزمان. ومن ذلك قراءة عكرمة: "وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى2"، بالتاء مفتوحة. قال أبو الفتح: إن شئت كانت التاء في "ترى" للجحيم، أي: لمن تراه النار. وإن شئت كانت خطايا للنبي "صلى الله عليه وسلم" أي: لمن ترى يا محمد، أي: للناس، فأشار إلى البعض، وغرضه جنسه وجميعه، كما قال لبيد: ولقد سئمت من الحياة وطولها ... وسؤال هذا الناس: كيف لبيد3؟ فأشار إلى جنس الناس في هذا المعنى، ونحن نعلم أنه ليس جميعه مشاهدا حاضر الزمان. فإن قيل: فإن النبي "صلى الله عليه وسلم" كان بحضرته المؤمنون الذين قد شهد لكثير منهم بالجنة، وشهد من حال الإيمان لهم بها، فكيف يجوز أن يقول الله له: النار لهؤلاء الذين تراهم؟. قيل: يخصه ويخلصه محصول معناه، فهذا كقوله "تعالى": {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا 4} ، وقوله: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيل 5} ، وقوله: {وَقَلِيلٌ مَا هُم 6} ، كأنه عام لجميع من يقع البصر عليه، إغلاظا، وإرهابا. والمؤمنون مستثنون منه بما تقدمت الأدلة عليه، وله أشباه كثيرة. ومن ذلك قراءة السلمي: "أَيَّان8" بكسر الألف. قال أبو الفتح: قد تقدم القول على ذلك9".
سورة عبس
سورة عبس: بسم الله الرحمن الرحيم قرأ: "آنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى1"، بالمد - الحسن. قال أبو الفتح: "أن معلقة بفعل محذوف دل عليه قوله "تعالى": {عَبَسَ وَتَوَلَّى} ، تقديره: أأن جاءه الأعمى أعرض عنه، وتولى بوجهه؟ فالوقف إذا على قوله: "وتولى"، ثم استأنف لفظ الاستفهام منكرا للحال، فكأنه قال: ألأن جاءه الأعمى كان ذلك منه؟ وأما "أن" على القراءة العامة فمنصوبة بـ"تولى": لأنه الفعل الأقرب منه، فكأنه قال: تولى لمجيء الأعمى ومن أعمل الأول2 نصب "أن" بـ"عبس"، فكأنه قال: عبس أن جاءه الأعمى، وتولى لذلك، فحذف مفعول "تولى" كما تقول: ضربت فأوجعته زيدا، إذا أعملت الأول، وإن شئت لم تأت بمفعول أوجعت [165و] فقلت: ضربت فأوجعت زيدا، أي وأنت تريد أوجعته، إلا أنك حذفته تخفيفا، وللعلم به، والوجه إعمال الثاني؛ لقربه. فأما أن تنصبه بمجموع الفعلين فلا، وهذا واضح. ومن ذلك قراءة أبي جعفر: "فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى3"، بضم التاء، وتخفيف الصاد. قال أبو الفتح: معنى "تصدى"، أي: يدعوك داع من زينة الدنيا وشارتها إلى التصدي له، والإقبال عليه. وعلى ذلك قراءته أيضا: "فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى4"، أي: تصرف عنه، ويزوى وجهك
دونه؛ لأنه لا غنى عنده، ولا ظاهر معه، فخرج بذلك مخرج التنبيه للنبي "صلى الله عليه وسلم" فيما جرى من قصة ابن أم مكتوم. ومن ذلك أبو حيوة عن نافع وشعيب بن أبي عمرو قرأ: "شَانَشَرَهُ1"، مقصورة، وقد اختلف عن نافع. قال أبو الفتح: قد سبق القول على نشره الله، وأن أقوى اللغتين أنشره2. ومن ذلك قراءة ابن محيصن: "شَأْنٌ يُغْنِيهِ3"، مفتوحة الياء، بالعين. قال أبو الفتح: وهذه قراءة حسنة أيضا، إلا أن التي عليها الجماعة أقوى معنى، وذلك أن الإنسان قد يعنيه الشيء ولا يغنيه عن غيره. وذلك كأن يكون له ألف درهم، فيؤخذ منها مائة درهم، فيعنيه أمرها، ولا يغنيه عن بقية ماله أن يهتم به ويراعيه. فأما إذا أغناه الأمر عن غيره فإن ذلك أقوى المطلبين، وأعلى الغرضين، فاعرف ذلك مع وضوحه. سورة كورت 4 لا شيء فيها
سورة الانفطار
سورة الانفطار: بسم الله الرحمن الرحيم روى عن سعيد بن جبير: "يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ1"، ممدودة، على التعجب. قال أبو الفتح: هذا كقول الله "سبحانه": {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ 2} أي: على أفعال
أهل النار، ففيه حذف مضافين شيئا على شيء كما قدمنا في قوله: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ 1} ، وغير ذلك. وقيل في قوله: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّار} : أي: ما الذي دعاهم إلى الصبر على موجبات النار؟ فكذلك يجوز أن يكون قوله أيضا: "مَا أغَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ"، أي: ما الذي دعاك إلى الاغترار به؟ غر الرجل، فهو غار، أي: غفل. سورة المطففين 2 لا شي فيها سورة انشقت كذلك3 سورة البروج كذلك4
وأما في هذه القراءة فإنه كرر اللفظ والمثال جميعا، فقال: "مَهِّلِ الْكَافِرِينَ مَهِلْهُمْ"، فجعل ما تكلفه من تكرير اللفظ والمثال جميعا عنوانا لقوة معنى توكيده، إذ لو لم يكن كذلك لانحرف في الحال بعض الانحراف. وهذا كقول الرجل لصاحبه: قد عرفت أنني لم آتك في هذا الوقت، وإلى هذا المكان، وعلى هذه الحال إلا لداع إليه قوي، وأمر عان. ويدلك على كلفة التكرير عليهم أشياء: منها التضعيف، نحو شدد، فإذا سكن الأول من المثلين فوقع هناك خلاف ما سهل اللفظ بهما1 [165ظ] فقيل: شد. وكذلك إن سكن الثاني قيل: شددت. ومنها أنهم لما آثروا التكرير للتوكيد في نحو جاء القوم أجمعون أكتعون أبصعون أبتعون2 خالفوا بين الفاء والعين، ووفقوا بين اللامات، وهي العينات منها؛ لتختلف الحروف، فتقل الكلمة. فإن قيل: فلم خالفوا بين الفاءات والعينات ووفقوا بين اللامات؟ قيل: لأن اللام مقطع الحروف، وإليها المفضي، وعليها المتسقر، فوفقوا بينها لتتلاقى المقاطع على لفظ واحد, فيكون ما شذ من الفاء والعين مجموعا باللام، فاعرف ذلك3.
سورة الغاشية
سورة الغاشية: بسم الله الرحمن الرحيم روى عبيد عن شبل عن ابن كثير: "عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ، تَصْلَى1". قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون النصب على الشتم، أي: أذكرها عاملة2 ناصبة في الدنيا على حالها هناك، فهذا كقوله تعالى: {يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ 3} ، وذلك أنهم لم يخلصوها لوجهه، بل أشركوا به معبودات غيره، وله نظائر في القرآن ومأثور الأخبار. ومن ذلك قرأ: "إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ4"، بفتح أوائل هذه الحروف كلها، وضم التاء - علي بن أبي طالب، عليه السلام. قال أبو الفتح: المفعول هنا محذوف لدلالة المعنى عليه، أي: كيف خالقتها، ورفعتها، ونصبتها، وسطحتها؟ وتقدم القول على حسن حذف المفعول به، وأن ذلك أقوى دليل على قوة عربية الناطق به. عبد الوارث قال: سمعت هارون الخليفة يقرأ: "وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَت"، مشددة الطاء. قال أبو الفتح: إنما جاز هنا5 التضعيف للتكرير، من قبل أن الأرض بسيطة وفسيحة،
فالعمل فيها مكرر على قدر سمعتها، فهو كقولك: قطعت الشاة؛ لأنه1 أعضاء يخص كل عضو منها عمل، وكذلك نظائر هذا. ومن ذلك قراءة ابن عباس وزيد بن أسلم وقتادة وزيد بن علي: "إِلَّا مَنْ تَوَلَّى2"، بالتخفيف. قال أبو الفتح: "ألا" افتتاح كلام، "وَمَن" هنا شرط، وجوابه "فَيُعَذِّبُهُ اللَّه"، كقولك: من قام فيضربه زيد، أي: فهو يضربه زيد. كذلك الآية، أي: من يتول ويكفر فهو يعذبه الله، لا بد من تقدير المبتدأ هنا؛ وذلك أن الفاء إنما يؤتي بها في جواب الجزاء بدلا من الفعل الذي يجاب به، فإذا رأيت الفاء مع الفعل الذي يصلح أن يكون جوابا للجزاء فلا بد من تقدير مبتدأ محذوف هناك؛ لأنه لو أريد الجواب على الظاهر لكان هناك فعل يصلح له، فكان يقال: ألا من تولى وكفر يعذبه الله، كقولك: من يقم أعطه درهما. ولو دخلت الفاء هنا لقلت من يقم فأعطيه درهما، أي: فأنا أو فهو أعطيه درهما، فهو كقول الله "سبحانه": {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْه 3} ، أي: فهو ينتقم الله منه. ومن ذلك قراءة أبي جعفر يزيد: "إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ4"، بالتشديد. قال أبو الفتح: أنكر أبو حاتم هذه القراءة، وقال: حملها على نحو "كذبوا كذبا5"، قال: وهذا لا يجوز؛ لأنه كان يجب إوابا؛ لأنه فعال، قال: ولو أراد ذلك لقال: أبوابا، فقلب الواو ياء للكسرة قبلها، كديوان، وقيراط، [166و] ، ودينار؛ لقولهم: دواوين، وقراريط، ودنانير.
وهذا لو كان لا بد أن يكون إيابا، فعالا، مصدر أوبت التي مطاوعها تأوب، أي: تفعل، كما قال: تأوبه خيال من سليمي ... كما يعتاد ذا الدين الغريم1 لكان الذهاب إليه فاسدا؛ لأنه كان يجب فيه التصحيح لاحتماء العين بالإدغام، كقولهم: اجلوذ2 اجلواذا. فأما اجليوذا وديوان3 فشاذان. وعلى أنه يجوز أن يكون فعالا، إوابا، إلا أنه قلب الواو ياء - وإن كانت متحصنة4 بالإدغام - استحسانا للاستخفاف، لا وجوبا ألا تراهم قالوا: ما أحيله من الحيلة؟ وهو من الواو لقولهم: يتحاولان، وقالوا في دومت5 السماء: ديمت. قال: هو الجواد ابن الجواد بن سبل ... إن ديموا جاد وإن جادوا وبل6 يريد: دوموا؛ لأنه من دام يدوم، لكن من روى هذا مما هو أشد قياسا منه7، وذلك أن يكون بني من آب فيعلت، وأصله أيوبت، فقلبت الواو ياء؛ لوقوع الياء ساكنة قبلها، فصارت أيبت، ثم جاء المصدر على هذا إيابا، فوزنه فيعال إيواب - فقلب بالواجب. وإن شئت أيضا جعلت أوبت فوعلت بمنزلة حوقلت، وجاء المصدر على الفيعال، كالحيقال. أنشد الأصمعي: يا قوم قد حوقلت أو دنوت ... وبعد حيقال الرجال الموت8
فصارت إيوابا، كالحيقال، ثم قلبت الواو للياء قبلها، فصارت إيابا. فإن قلت: فهلا حماها الإدغام من القلب. قيل: هيهات، إنما ذلك إذا كانتا عينين؛ لأنهما لا يكونان إلا من لفظ واحد، وكذلك واو افعول؛ لأنه لا يكون فيها زائد بعدها إلا من لفظها. فأما فوعلت فالواو زائدة، والعلل إليها مسرعة؛ لأنها ليست عينا فتتحامل بها أختها. ألا تراك لو بنيت فعل من فوعلت من القول لقلت: قوول؟ فمددت1، ولم تدغم، وأجريتها مجرى فعل من فاعلت من القول، إذا قلت: قوول. ولو بنيت فعل من فعلت من القول لقلت: قول فأجريتها في الصحة مجرى قطع وكسر. نعم، ويجوز أن يكون أوبت فعولت كجهور، فتقول في مصدره على حد جهوار: إياب، فتقلب الواو ياء؛ لسكونها، وانكسار ما قبلها. ولم يحمها من القلب إدغامها؛ لأنها لم تدغم في عين فتحميها وتنهض بها، إنما أدغمت في واو فعولت الزائدة الجارية مجرى ألف فاعلت، فقد علمت بذلك أن أبا حاتم -عفا الله عنه- أغفل هذين الوجهين2.
سورة الفجر
سورة الفجر: بسم الله الرحمن الرحيم قرأ ابن عباس -وروى ذلك أيضا عن الضحاك-: "بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ1". وروى أيضا عن الضحاك: "بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ"، الألف مفتوحة، والراء ساكنة. وروى عن ابن الزبير: "بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ". وروى عن ابن الزبير أيضا: "بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ"، بكسر الميم.
قال أبو الفتح: أما "أرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ" فجعلها رميما، رمت هي واسترمت، وأرمها غيرها، ورم العظم يرم رما ورميما: إذا بلى، ونخر. قال: والنيب إن تعرمني رمة خلقا ... بعد الممات فإني كنت أثئر1 [166ظ] وأما "أرم" فتخفيف أرم المروية عن ابن الزبير. وأما "بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ" فأضاف "عاد" إلى "إرم"، المدينة التي يقال لها: ذات العماد، أي: أصحاب الأعلام هذه المدينة، والأرم: العلم، وجمعه آرام. قال لبيد: مثلا آرامها2 أي: أعلامها. وقوله تعالى: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} تفسير لقوله: فعل بعاد، فكأن قائلا قال: ما صنع بها؟ فقال: "إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ "، أي: مدينتهم، وهذا يدل على هلاكهم. وأما "بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ" فعلى أنه أراد: أهل أرم، هذه المدينة، فحذف المضاف وهو يريده، كما مضى من قوله: {بِزِينَةٍ الْكَوَاكِب 3} ، أي: زينة الكواكب. ومن ذلك قراءة ابن عباس وعكرمة والضحاك وأبي شيخ الهنائي والكلبي وابن السميفع: "فَادْخُلِي فِي عِبْدِي4"، على واحد.
قال أبو الفتح: هذا لفظ الواحد، ومعنى الجماعة، أي: عبادي، كالقراءة العامة. وقد تقدم القول على نظيره1، وأنه إنما خرج بلفظ الواحد ليس اتساعا واختصارا عاريا من المعنى، وذلك أنه جعل عباده كالواحد، أي: لا خلاف بينهم في عبوديته، كما لا يخالف الإنسان نفسه، فيصير كقول النبي "صلى الله عليه وسلم": وهم يد على من سواهم، أي: متضافرون متعانون، لا يقعد بعضهم عن بعض، كما لا يخون بعض البلد بعضا. وضد هذا قوله "تعالى": {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} .2
سورة البلد
سورة البلد: بسم الله الرحمن الرحيم قرأ الحسن: "لأُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَد1"، بغير ألف. قال أبو الفتح: قد مضى مثل هذا2. وقرأ أبو جعفر: "مَالًا لُبَدًا3". قال أبو الفتح: يكون بلفظ الواحد زمل وجباء، ويكون جمع لا بد، كقائم وقوم، وصائم وصوم، وقد تقدم ذكره4. ومن ذلك قراءة الأعمش: "أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَد5"، ساكنة الهاء.
قال أبو الفتح: قد سبق القول على سكون هذه الهاء فيما مضى1. ومن ذلك قرأ: "فِي يَوْمٍ ذِا مَسْغَبَةٍ2" - الحسن وأبو رجاء. قال أبو الفتح: هو منصوب، ويحتمل نصبه أمرين: أظهرهما أن يكون مفعول "إطعام"، أي: وأن تطعموا ذا مسغبة، "ويتيما" بدل منه، كقولك: رأيت كريما رجلا. ويجوز أن يكون يتيما وصفا لذا مسغبة، كقولك: رأيت كريما عاقلا، وجاز وصف الصفة الذي هو كريم؛ لأنه لما لم يجز على موصوف أشبه الاسم، كقولك الأعشى: وبيداء تحسب آرامها ... رجال إباد بأجيادها3 فقوله: "تحسب" صفة لبيداء، وإن كانت في الأصل صفة. وكذلك قول رؤبة: وقاتم الأعماق خاوي المخترق4 فقوله: خاوي المخترق صفة لقوله: قاتم الأعماق، وهو صفة لموصوف محذوف، أي: وبلد قاتم قاتم الأعماق، كما أن قوله: "وبيداء، ورب بيداء، ورب بلدة بيداء. فاعرف ذلك، فهذا أحد وجهي قوله: "ذِا مَسْغَبَةٍ". والآخر أن يكون أيضا صفة، إلا أنه صفة لموضع الجار والمجرور جميعا، وذلك أن قوله {فِي يَوْمٍ} ظرف، وهو منصوب الموضع، فيكون وصفا له على معناه دون لفظه، كما جاز أن يعطف عليه في معناه دون لفظه في قوله: ألا حي ندماني عمير بن عامر ... إذا ما تلاقينا من اليوم أوغدا5 [167و]
حتى كأنه قال: اليوم، أو غدا. وكذلك قول الآخر: كشحا طوى من بلد مختارا ... من يأسه اليائس أو حذارا1 ونظائره كثيرة، فلذلك يكون قوله: "فِي يَوْمٍ ذِا مَسْغَبَةٍ" على أن "مسغبة" صفة ليوم على معناه، دون لفظه.
سورة الشمس
سورة الشمس: بسم الله الرحمن الرحيم قرأ: "بِطَغْوَاهَا1" - الحسن. قال أبو الفتح: هذا مصدر على فعلى، كأخواته من: الرجعى، والحسنى، والبؤسى والنعمى. وعليه ما حكاه أبو الحسن من قراءة بعضهم: "وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنى2" كقولك: عرفا3.
سورة الليل
سورة الليل: بسم الله الرحمن الرحيم قرأ: "وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى والذَّكَرَ وَالْأُنْثَى" بغير "ما1" - النبي "صلى الله عليه وسلم" وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وأبو الدرداء وابن عباس، رضي الله عنهم. قال أبو الفتح: في هذه القراءة شاهد لما أخبرنا به أبو بكر محمد بن الحسن عن أبي العباس أحمد بن يحيى من قراءة بعضهم: "وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى"، وذلك أنه جره لكونه بدلا من "ما"، فقراءة النبي "صلى الله عليه وسلم" شاهد بذلك.
سورة الضحى
سورة الضحى: بسم الله الرحمن الرحيم قرأ: "مَا وَدَّعَك1"، خفيفة - النبي "صلى الله عليه وسلم" وعروة بن الزبير. قال أبو الفتح: هذه قليلة الاستعمال. قال سيبويه: استغنوا عن وذر وودع بقولهم: ترك2، وعلى أنها قد جاءت في شعر أبي الأسود، قال: وأنشدناه أبو علي: ليت شعري عن خليلي ما الذي ... غاله في الحب حتى ودعه3
إلا أنهم قد استعملوا مضارعة، فقالوا: يدع. ويروى بيت الفرزدق: وعض زمان يا بن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحتا أو مجلف1 على ثلاث أصرب: لم يدع، ولم يدع -بكسر الدال، وفتح الياء- ولم يدع، بضم الياء. فأما يدع -بفتح الياء والدال- فهو المشهور، وإعرابه أنه لما قال: لم يدع من المال إلا مسحتا دل على أنه قد بقى، فأضمر ما يدل عليه القول، فكأنه قال: وبقى مجلف. وأما يدع -بفتح الياء وكسر الدال- فهو من الاتداع، كقولك: قد استراح وودع، وهو وادع من تعبه. فالمسحت -على هذه الرواية- مرفوع بفعله، ومجلف معطوف عليه، وهذا ما لا نظر فيه لوضوحه. وأما يدع -بضم الياء- فقياسه يودع، كقول الله "تعالى": {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ 2} ، ومثله يوضع، والحديد يوقع، أي: يطرق، من قولهم: وقعت الحديدة، أي: طرقتها. قالوا: إلا أن هذا الحرف كأنه -كثرة استعماله- جاء شاذا، فحذفت واوه تخفيفا، فقيل: لم يدع3، أي: لم يترك، والمسحت والمجلف جميعا مرفوعان أيضا، كما يجب.
سورة ألم نشرح
سورة ألم نشرح: بسم الله الرحمن الرحيم الخليل بن أسد النوشحاني قال حدثنا أبو العباس العروضي قال: سمعت أبا جعفر المنصور يقرأ: "أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَك1". قال ابن مجاهد: وهذا غير جائز أصلا، وإنما ذكرته لتعرفه. قال أبو الفتح ظاهر الأمر ومألوف الاستعمال ما ذكره ابن مجاهد، غير أنه قد جاء2 مثل هذا سواء في الشعر. قرأت على أبي علي في نوادر أبي زيد: [167ظ] . من أي يومي من الموت أفر ... أيوم لم يقدر أم يوم قدر3 قيل: أراد: لم يقدر، بالنون الخفيفة، وحذفها. وهذا عندنا غير جائز، وذلك أن هذه النون للتوكيد، والتوكيد أشبه شيء به الإسهاب والإطناب، لا الإيجاز والاختصار. لكن فيه قول ذو صنعة، وقد ذكرته في كتابي الموسوم بسر الصناعة4.
وفي نوادر أبي زيد أيضا بيت آخر، ويقال: إنه مصنوع، وهو قوله: إضرب عنك الهموم طارقها ... ضربك بالسيف قونس الفرس فقالوا: أراد: اضربا، بالنون الخفيفة، وحذفها. وقرأ أنس فيما رواه أبان عنه: "وحططنا عَنْكَ وِزْرَكَ2"، قال: قلت يا أبا حمزة! "ووضعنا"، قال: وضعنا وحللنا وحططنا عنك وزرك سواء. إن جبريل أتى النبي "صلى الله عليه وسلم" فقال: اقرأ على سبعة أحرف، ما لم تخلط مغفرة بعذاب، أو عذابا بمغفرة. قال أبو الفتح: قد سبقت مثل هذه الحكاية سواء عن أنس3، وهذا ونحوه هو الذي سوغ انتشار هذه القراءات4، ونسأل الله توفيقا. سورة التين لا شيء فيها سورة اقرأ مثله
سورة القدر
سورة القدر: بسم الله الرحمن الرحيم قرأ: "مِنْ كُلِّ امْرٍئ سَلامٌ1" - ابن عباس وعكرمة والكلبي. قال أبو الفتح: أنكر أبو حاتم هذه القراءة، على أنه حكى عن ابن عباس أنه قال: يعني الملائكة، قال: ولا أدري ما هذا المذهب؟ قال: وإنما هو: "تنزل الملائكة فيها كل أمر"، كقوله "تعالى": {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ 2} . و {مِنْ كُلِّ أَمْر} ، فتم الكلام، فقال: "سلام"، أي: هي سلام إلى أن يطلع الفجر. وقال قطرب: معناه هي سلام من كل أمر وامرئ، ويلزم على قول قطرب أن يقال: فكيف جاز أن يقدم معمول المصدر الذي هو "سلام" عليه وقد عرفنا امتناع جواز تقديم صلة الموصول أو شيء منها عليه؟ والجواب أن "سلاما" في الأصل -لعمري- مصدر، فأما هنا هو موضوع موضع اسم الفاعل الذي هو سالمة، أو المفعول الذي هو مسلمة، فكأنه قال: من كل امرئ سالمة3 هي، أو مسلمة4 هي، أي: سالمة، فهذا طريق هذا.
سورة لم يكن
سورة لم يكن: بسم الله الرحمن الرحيم قال عامر بن عبد الواحد: سمعت إماما لأهل مكة يقرأ: "أُولَئِكَ هُمْ خِيَارُ الْبَرِيَّةِ1". قال أبو الفتح: يجوز أن يكون خيار، جمع خير، فيكسر فيعل على فعال، كما كسر فاعل على فعال، نحو صائم وصيام، وقائم وقيام، ونظيره كيس، وكياس. ويجوز أن يكون جمع خائر، كقولك: خرت الرجل فهو مخير، وأنا خائر له، فيكون على هذا أيضا كقائم وقيام. ويجوز أن يكون جمع خبر الذي هو ضد الشر، كقولك: هذا الرجل مجبول من خير، ومطين2 من عقل. ويجوز وجه غير هذه، وهو أن يكون جمع خير من قولك: هذا خير من هذا3 وأصله أفعل: أخير، فيكسر على فعال. فقد جاء تكسير أفعل فعالا، قالوا: أبخل وبخال. سورة الزلزلة: لا شيء فيها
سورة العاديات
سورة العاديات: بسم الله الرحمن الرحيم قرأ: "فَأَثَرْنَ بِه1"، مشددة الثاء أبو حيوة. قال أبو الفتح: هذا كقولك: أرين، وأبدين2 نقعا، كما يؤثر الإنسان النفس وغيره، مما يبديه للناظر. [168و] وليس "أثرن" من لفظ أثرن خفيفة، بل يكون من لفظ أث ر، وأثرن خفيفة من لفظ ث ور. وقرأ: "فَوَسَطْن3 بِهِ"، مشددة - علي بن أبي طالب وابن أبي ليلى وقتادة. قال أبو الفتح: أي: أثرن باليد نقعا، ووسطن بالعدو جمعا. وأضمر المصدر لدلالة اسم الفاعل عليه، كما أضمر لدلالة الفعل عليه في قوله: من كذب كان شرا له، أي: كان الكذب شرا له، وقول الآخر: إذا نهى السفيه جرى إليه ... وخالف والسفيه إلى خلاف4 أي: جرى إلى السفه، وأضمره لدلالة السفيه عليه. فأما "وَسَّطْنَ"، بالتشديد فعلى معنى ميزن به جمعا، أي: جعلنه شطرين: قسمين: شقين. ومعنى وسطنه: صرن في وسطه، وإن كان المعنيان متلاقيين، فإن الطريقين مختلفان:
ومعنى "وسطن"، خفيفة كمعنى توسط، ألا ترى إلى قوله: فتوسطا عرض السرى وصدعا ... مسجورة متجاورا قلامها1 ووسطنه -مشددة- أقوى معنى وسطنه مخففا، لما مع التشديد من معنى التكثير والتكرير سورة القارعة: لا شيء فيها
سورة التكاثر
سورة التكاثر: بسم الله الرحمن الرحيم روى عن الحسن وأبي عمرو -واختلف عنهما- أنهما همز "لَتَرَؤنَّ الْجَحِيمَ، ثُمَّ لَتَرَؤنَّهَا1". قال أبو الفتح: هذا على إجراء غير اللازم مجرى اللازم، وله باب في كتابنا الخصائص2، غير أنه ضعيف مرذول. وذلك أن الحركة فيه لالتقاء الساكنين، وقد كررنا في كلامنا أن أعراض التقاء الساكنين غي محفول بها، هذا إذا كانا في كلمتين، إلا أن الساكنين هنا مما هو جار مجرى الكلمة الواحدة. ألا ترى أن النون تبنى مع الفعل كخمسة عشر، وذلك في قولك: لأفعلن كذا؟ فمن ههنا ضارعت حركة نون أين، وفاء كيف، وسين أمس، وهمزة هؤلاء، وذال منذ. وكل واحدة من هذه الحركات معتدة، وإن كانت لالتقاء الساكنين. ألا ترى أنهم احتسبوها، وأثبتوها، وجعلوا ما هي فيه مبنيا عليها؟ وهذه الحركات -لما ذكرنا من كونها في كلمة واحدة- أقوى من حركات التقائهما في المنفصلين.
ألا ترى إلى إجتماعهم على أنه لم يبن فعل على الكسر، هذا مع كثرة ما جاء عنهم من نحو "قُمِ اللَّيْل1" و"قُلِ اللَّهُم2"، وقول الشاعر: زيادتنا نعمان لا تحرمننا ... تق الله فينا والكتاب الذي تتلو3 وسبب ترك اعتدادهم بها كون الساكنين من كلمتين، وكذلك أيضا قولهم: لا ضم في الفعل، وقد قرئ: "قُمِ اللَّيْل4"، وهذا واضح. فإذا ثبت بذلك الفرق بين حركتي التقاء الساكنين وهما متصلان وبينهما وهما منفصلان سكنت إلى همز الواو من قوله: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيم} و {لَتَرَوُنَّهَا} ، فاعرف ذلك؛ فإن جميع أصحابنا تلقوا همزة هذه الواو بالفساد، وجمعوا بينها وبين همز الواو من قوله: "اشْتَرَءوُا الضَّلالَة5" فيمن همز الواو، وهذه لعمري قبيحة؛ [168ظ] لأن الساكنين من كلمتين، فلذلك فرق ما بين الموضعين. سورة والعصر: لا شيء فيها سورة الهمزة: مثله
سورة الفيل
سورة الفيل: بسم الله الرحمن الرحيم قرأ أبو عبد الرحمن: "أَلَمْ تَرَ كَيْف1"، ساكنة الراء. قال أبو الفتح: هذا السكون إنما بابه الشعر، لا القرآن؛ لما فيه من استهلاك الحرف والحركة قبله، يعني الألف والفتحة من "ترا" أنشد أبو زيد في نوادره: قالت سليمى اشتر لنا سويقا2 يريد: اشتر، فحذف الياء من يشتري والكسرة وفيها أيضا: قالت له كليمة تلجلجا ... لو طبخ النئ بها لأنضجا يا شيخ لا بد لنا أن نحججا ... قد حج في ذا العام من كان رجا فاكتر لنا كرى صدق فالنجا ... واحذر فلا تكثر كريا أعوجا علجا إذا ساق بنا عفنججا3 فحذف كسرة "اكتر" في الموضعين جميعا كما ترى. وروينا عن أبي بكر محمد بن الحسن بن يعقوب بن مقسم: ومن يتق فإن الله معه ... ورزق الله مؤتاب وغادي3 يريد: "يتق"، فحذف الكسرة بعد الياء. وقرأ أبو المليح الهذلي: "فَتَرَكَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ4".
قال أبو الفتح: هذا على إقامة المسبب مكان السبب، إذ المراد به معنى القراءة العامة: {فَجَعَلَهُم} ، وذلك أنه ليس كل من جعل شيئا على صورة تركه عليها، بل قد يجوز أن يجعله عليها، ثم ينقله عقيب جعله إياه عنها. فقوله "تعالى": "فتركهم1" يدل على أنه بقاهم على ما أصارهم إليه، من الإجحاف بهم وغلظ المنال منهم، كذا توجب اللغة. ثم إنه قد يجوز مع هذا أن يريد به معنى الجعل الذي من حصل عليه كان معرضا لبقائه بعد على تمادي الحال به. وقرأ: "تَرَؤنَّ2" بالهمز ابن أبي إسحاق والأشهب العقيلي. قال أبو الفتح: قد فرط. آنفا من القول على همز هذه الواو ما فيه كاف بمشيئة الله3. سورة قريش: لا شيء فيها
سورة أرأيت
سورة أرأيت: بسم الله الرحمن الرحيم أبو رجاء: "الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيم1". قال أبو الفتح: معناه -والله أعلم- يعرض عنه ويجفوه، فهو صائر إلى معنى القراءة العامة: {يَدُعُّ الْيَتِيم} ، أي: يدفعه، ويجفوه عليه. سورة الكوثر: لا شيء فيها سورة الكافرون: 2 كذلك سورة النصر: 3 كذلك
سورة تبت
سورة تبت: 1 بسم الله الرحمن الرحيم ابن مسعود: "ومريئته حَمَّالَةَ للْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ2". قال أبو الفتح: "حمالة" خبر عن "مريئته"، و"حبل": غليظ، ومنه قولهم: رجل حبل الوجه، أي: الغليظ بشرته. وحبل الرأس: أي قوى غليظ. وكذلك قوله: {حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} ، أي: غليظ من ذلك. وقيل: المسد: سلسلة في النار. وقيل: المسد: ليف المقل. سورة الإخلاص: 3 لا شيء فيها
سورة الفلق والناس
سورة الفلق والناس: بسم الله الرحمن الرحيم لم يختلف الناس في {مَلِكِ النَّاس 1} أنها بغير ألف. قال أبو الفتح: ينبغي أنه يكون -والله أعلم- إنما وقع الإجماع على ذلك لأنه من جملة الثناء على الله -سبحانه- بالربوبية والألهية، فكان معنى الملك أليق بالربوبية والإلهية من معنى الملك؛ إذ كل ملك مالك، وليس كل مالك ملكا، فكما يوفق بين الألفاظ. في القوافي والسجوع والمقاطع ينبغي أن يوفق أيضا بين المعاني. ألا ترى إلى بعضهم قد سمع قارئا يقرأ. مبيض2 [196و] صورة ما في آخر نسخة الأصل كمل الكتاب المحتسب في تبيين وجوه شواهد القراءات والإيضاح عنها، تأليف أبي الفتح عثمان بن جني النحوي، رحمه الله. والحمد لله كثيرا على ذلك، وصلواته على خير خلقه، وعلى أهله وسلم تسليما. كبته محمد بن الحسين بن محمد بن سعي المغربي الأندلسي بثغر ... 3 حرسه الله، فتم عشية يوم الأحد التاسع عشر من شهر المحرم عام ثمانية وعشرين وخمسمائة. نفعه الله به، وجميع من يقرؤه بمنه وطوله. نقله من كتاب الفقيه المغربي أبي الحسين نصر بن عبد العزيز بن أحمد بن نوح الشيرازي وبخطه، وقرأه على علي بن زيد القاشاني، وكتب له القاشاني بالقراءة على ظهر الكتاب4 ... في ذي الحجة سنة إحدى عشرة وأربعمائة، وسمعه القاشاني من مؤلفه: شيخه أبي الفتح عثمان بن جني، رحمه الله عليهم أجمعين. وهذه نسخة القراءة: قرأ علي أبو الحسين نصر بن عبد العزيز بن أحمد بن نوح الشيرازي - أدام الله عزه وهذا الكتاب وهو المحتسب - وأنا أنظر في أصله المسموع من شيخنا أبي الفتح عثمان بن جني -رحمه الله- من أوله إلى آخره.
وكتب على بن زيد القاشاني بخطه في ذي الحجة سنة إحدى عشرة وأربعمائة، حامدا الله، ومصليا على النبي محمد وعلى آله، ومسلما1.
استدراك على الجزء الأول من المحتسب
استدراك على الجزء الأول من المحتسب: نورد هنا مستدركات على شواهد الجزء الأول من المحتسب، وأخرى على نصه. مستدركات الشواهد وقفنا على بعض هذه المستدركات بعد طبع الجزء الأول، ونبهنا على بعضها الآخر صديقنا العالم المحقق الأستاذ علي السباعي. أحسن الله إليه، وجزاه عن العلم خيرا: ص43 أمير المؤمنين على صراط ... إذا اعوج الموارد مستقيم نسبه ابن جني إلى كثير، وهو لجرير من قصيدة في مدح هشام بن عبد الملك. الديوان: 507، والكامل للمبرد: 2: 212، وتفسير القرطبي: 1: 128. ولم نجده في ديوان كثير، وليس له قصيدة فيه على هذا الروي. ص87 ما يحسن الرمان يجمع نفسه ... في قشره إلا كما نحن رواه في المخصص "11: 140" ولم ينسبه، وقال: يصف مجمع قوم قد ضغطهم وضمهم، وروايته هناك: ما أحسب الرمان يجمع حبه ... ص85 يبني تجاليدي وأقتادها ... ناو كرأس الفدن المؤيد للمثقب العبدي. الأمالي: 1: 26، واللسان: أيد. ص127 إذا تخازرت وما بي من خزر رواه في الأماني "1: 96"، ولم ينسبه. وروى بعده: ثم كسرت العين من غير عور
ألفيتني ألوى بعيد المستمر ... أحمل ما حملت من خير وشر وزاد في سمط اللآلي "299" بيتين على ما في الأمالي. ونسبه إلى أرطاة بن سهية. شاعر إسلامي، قال الشعر زمن معاوية، وبقى إلى زمن سليمان بن عبد الملك. وسهية أمه، وهي كليبة، وكانت أخيذة فغلبت عليه. ص134 وكيف لنا بالشرب فيها وما لنا ... دوانيق عند الحانوي ولا نقد والبيت مع بيت آخر في ذيل ديوان ابن مقبل، المقطعة: 19. وهما أيضا في مفردات ديوان ذي الرمة: 665، مع خلاف في الرواية ص181 وأتى صواحبها فقلن هذا الذي ... منح المودة غيرنا وقلانا والبيت لجميل، كما في اللسان: ذا ص197 سأترك منزلي لبني تميم ... وألحق بالحجاز فأستريحا البيت للمغيرة بن حبناء، كما في الدرر اللوامع: 1: 51، وحرقت فيه "حبناء" إلى حنين. ص219 بضرب السيوف رءوس قوم ... أزلنا هامهن عن المقبل البيت للمرار بن منقذ، كما في فرائد القلائد في مختصر الشواهد،: 250. ص319 يأيها الفصيل المعني ... إنك ريان فصمت عني ... للأخوص بن عبد الله الرياحي، كما في اللسان: ثنن. ص340 إذا شرب المرضة قال أوكى ... على ما في سقائك قد روينا لابن أحمر، كما في الصحاح، والأساس: رض.
ص364 حلت عليه بالقطيع ضربا ... ضرب بعير السوء إذ أحبا لأبي محمد الفقعسي، كما في الأصمعيات: 185، واللسان: 14: 79. مستدركات النص: عنى السيد الأستاذ أحمد راتب النفاخ بمعارضة بعض الجزء الأول من المحتسب بنسخة من الكتاب مصورة عن مخطوطة في مكتبة راغب بتركيا. ونشر فروق هذه المعارضة في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق في الأجزاء: الرابع من المجلد الثاني والأربعين، والأول، والثاني من المجلد الثالث والأربعين. ورمز لنسخته بالحرف "ت". وقد ذهبت صفحة العنوان من مصورتنا المعتمدة للتحقيق بكثير من هذه الفروق؛ لغلبة التآكل عليها، وشيوع الطمس والغموض في رسمها. ونورد هنا من الفروق ما رأيناه يقوم عبارة، أو يرد سقطا، أو يصحح محرفا في نسخ الأصل، أو في طبع المطبوع. أما ما لم نورده فبعضه صواب غفل عنه، وبعضه فروق من تلك التي تتعدد بتعدد نسخ الكتاب الواحد، دون أن تغير من النص شيئا. وأنا لنشكر الأستاذ النفاخ جهده، ونثني على إخلاصه وحسن معاونته. يوجد صورة في هذه الورقة
يوجد بالصفحة جدولا يسحب سكانر
فهرس الجزء الثاني من المحتسب
فهرس الجزء الثاني من المحتسب: سورة الحجر: 3-6 قوله تعالى: "سَكِرَتْ أبصارنا" مأخذ السكر، والمناسبة بينه وبين سكر العربة "3" قوله تعالى: "صِرَاطٌ عَلِيٌّ مُسْتَقِيمٌ" ومعنى "عليّ" هنا "3"، تفسير أبي الحسن للآية على قراءة الجماعة "3". قوله تعالى: "لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزٌّ مَقْسُومٌ": تخفيف همزة "جزء" وبيان كيف صارت "جُزٌّ" "4". قوله تعالى: "لا تُوجَلْ"، ونقل "تُوجل" من "تَوْجل" "4". قوله تعالى: "من القَنِطين"، وحذف ألف فاعل للتخفيف "4" وانظر الصفحة 171 من الجزء الأول، قد يكون "القنطين" من قَنِطَ يقنَطُ "5". قوله تعالى: "ومن يَقْنُط": لغات قنط، وذكر نظائر لقنَط يقنَط "5". قوله تعالى: "يَنْحَتُونَ": أجود اللغتين نحت ينحِت5 المقاربة بين الألفاظ والمعاني، وأمثلة لذلك "6". قوله تعالى: "إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الخَالِقُ"، ووجه دلالة فَعَلَ على فَعَّلَ هنا "6". سورة النحل: 7-13 قوله تعالى: "دِفُ"، وقراءة "دف" أقيس من قراءة "جُزّ"، وانظر ص4 من هذا الجزء. قوله تعالى: "بِشَقِّ الْأَنْفُس"، ومعنى "الشق" بالفتح والكسر "7". قوله تعالى: "لِتَرْكَبُوهَا زِينَةً"، وإعراب "زينة" من وجهين "8".
قوله تعالى: "وَبِالنُّجُمِ هُمْ يَهْتَدُون"، وقوله: "وَبِالنُّجْمِ": أمثلة لفَعْل الذي كسر على فُعُل "8" قد يكون "النُّجُم" مقصورا من "النجوم" "8"، أمثلة من هذا القصر وشواهد له "8"، وانظر الصفحة 199 من الجزء الأول. قوله تعالى: "إيان يُبْعَثُون"، واللغتان المسموعتان في "أيان" "9"، وانظر الصفحة 268 من الجزء الأول. قوله تعالى: "فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السُّقْفُ مِنْ فَوْقِهِم"، وقوله "لِبُيُوتِهِمْ سُقْفًا"، انظر الصفحة "8" من هذا الجزء. قوله تعالى: "إِنْ تَحْرَصْ": أعلى اللغتين حَرَصَ يحْرِص "9" اشتقاق الفعل من معنى السحابة الحارصة "9". قوله تعالى: "لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً"، وقراءة "لَنُثْوِيَنَّهُمْ": وضع "حسنة" هنا موضع إحسان، ووجهه "9". قوله تعالى: "تَتَفَيَّأُ ظُلَلَهُ"، وقراءة {ظِلالُهُ} : واحد "الظلل"، وواحد "الظلال" "10". قوله تعالى: "تَجَرُون"، وكيف صارت "تجأرون" إلى "تَجَرُون"؟ "10"، وانظر الصفحة 7 من هذا الجزء. قوله تعالى: "ثُمَّ إِذَا كَاشَفَ الضُّرَّ": مجيء فاعل بمعنى فعل، وأمثلة لذلك "10". قوله تعالى: "فَيُمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُون": إعراب الآية "11". قوله تعالى: "وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ": إعراب الآية على هذه القراءة وقراءة الجماعة "11". قوله تعالى: "سَيْغًا"، وقراءة الناس {سَائِغًا} : سَيْغ مخفف سَيِّغ، ولم لا يكون على فعْل في الأصل؟ "11". قوله تعالى: "أَيْنَمَا يُوَجِّهْ"، وروي "يُوَجَّهْ": إعراب الآية ومعناها على القراءتين "11". قوله تعالى: "بَشَرٌ الِلسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ": معنى الآية على هذه القراءة وقراءة الجماعة وإعرابها "12"، الفرق بين الأعجمي والعجمي "12". قوله تعالى: "أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبِ"، وقرئ: "الكُذُبَ"، وقرئ: "الكُذُبُ"، وتوجيه الآية على هذه القراءات "12". قوله تعالى: "وَإِنْ عَقَّبْتُمْ فَعَقِّبُوا" وتفسير الآية على هذه القراءة مع الاستشهاد له "13".
سورة بني إسرائيل: 14-23 قوله تعالى: {ذُرِّيَّة} "14"، وانظر الصفحة 156 وما بعدها من الجزء الأول. قوله تعالى: {لَتَفْسَدُنَّ} وقرئ "لَتَفْسُدُنَّ"، وشهادة إحدى القراءتين للأخرى "14". قوله تعالى: {عَبِيدًا لنا} ، وكثرة استعمال العبيد للناس والعباد لله "14". قوله تعالى: {فَحَاسُوا} ومعنى تخير بعض القراءة بلا رواية "15". قوله تعالى: {لنسوءًا} ووجه كون اللام للأمر "15". قوله تعالى: {آمَرْنا} وبقية القراءات فيه "15"، وجهان لاستعمال مأمورة مكان مؤمرة في حديث خير المال ... "16"، الغدايا جمع غَدِيَّة عند ابن الأعرابي "16"، مأخذ "أمرنا" من أمِر، أو أمَر ومعنى اللفظين "17"، تفسير أبي عمرو لـ"أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا" "17" مقاربة "أم ر" لمعنى "ع م ر" "17". قوله تعالى: "أُفٌّ" وبيان لغاتها الثمان "18". قوله تعالى: "جَنَاحَ الذِّلِّ" ووجه استعمال "الذِّلِّ" للدابة، و"الذُّلِّ" للإنسان "18"، أمثلة توضح دلالة الحركات على وجه التفرقة في الاستعمال "19". قوله تعالى: "خَطَاءً" وبقية قراءاته "19"، توجيه كل قراءة "20". قوله تعالى: "فَلا يُسْرِفُ فِي الْقَتْلِ" ومجيء الخبر بمعنى الأمر "20"، يمكن جعل المعنى على ما دون الأمر "20". قوله تعالى: "وَالْبَصَرَ وَالْفَوَادَ" ووجه فتح الفاء ووجود الواو بعدها "21". قوله تعالى: "صَرَفْنَا" ومجيء فعَل بمعنى فعَّل "21"، وانظر الصفحة 81 من الجزء الأول والصفحة 6 من هذا الجزء. قوله تعالى: "لِلْمَلائِكَةُ اسْجُدُوا" "21"، وانظر الصفحة 71 من الجزء الأول. قوله تعالى: "بِخَيْلِكَ وَرَجِلِك" والرجِل بمعنى الرجال "22". هل رجْل جمع راجل أو اسم جمع؟ "22".
قوله تعالى: "يَوْمَ يُدْعَوْ كُلُّ أُنَاسٍ" ولغة إبدال الألف واو في الأصل "22"، لغة إبدال الألف ياء تؤيد يونس أن ياء لبيك ألف "22". قوله تعالى: "وَقُرْآنًا فَرَّقْنَاه" ومعنى الآية على التفصيل والنزول شيئا بعد شيء "23". سورة الكهف: 24-35 قوله تعالى: "كَبُرَتْ كَلِمَةٌ" وإطلاق الكلمة على الكلام كإطلاق الواحد على جنسه "24"، شاهد من فصاحة الحجاج "24". قوله تعالى: "بِوِرْقكُّمْ" وتوجيه القراءة على الإخفاء لا الإدغام "24". من عادة القراء التعبير عن المخفي بالمدغم "24". قراءة "بِوِرْقكُّمْ" على الإدغام لا نظر في جوازها "25". قوله تعالى: "تَزْوارُّ": افعال قليل في غير الألوان "25" مجيء افعلّ -وهو مقصور- من افعالّ في غير الألوان "25". قوله تعالى: "وَتَقَلُّبَهُمْ" وإعراب الآية على هذه القراءة "26". قوله تعالى: "ثَلاتٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ" وإدغام الثاء في التاء لقربها منها "26". قوله تعالى: "خَمَسَةَ" وإتباع خمسة لعشرة في التحريك "27". قوله تعالى: "وَلا تُعْدِ عَيْنَيْكَ" ونقل تعدي من تعدو "27. قوله تعالى: "مَنْ أَغْفَلَنَا قَلْبُهُ" وهمزة "أغفلنا" للمصادفة "28". معنى الآية على هذا الاعتبار "28". قوله تعالى: "مِنْ سُنْدُسٍ وَاسْتَبْرَقَ" والتسمية بالفعل مع احتماله للضمير "29". قوله تعالى: "لَكِنْ أَنَا هُوَ اللَّهُ رَبِّي" كيف أن هذه القراءة أصل قراءة "لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي" "29" وجه استغناء خبر ضمير الشأن عن الرابط مع أنه جملة "30" قوله تعالى: "مَجْمِعَ الْبَحْرَيْن" ومجيء المفْعِل مكان المَفْعَل في اسم المكان "30". قوله تعالى: "جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يُنْقَضَ" وبقية قراءات الآية "31". حسن موقع "يريد" هنا ووجهه "31". و"يَنْقَضّ" يحتمل أن يكون ينفعل من القضَّة أو يفْعَلّ من نَقَضْت "32". توجيه قراءة "يُرِيدُ ليُنْقَضَ" "32".
قوله تعالى: "وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَانِ" وأوجه إعراب الآية "33". قوله تعالى: "الصَّدُفَيْنِ" ولغات الكلمة "34". قوله تعالى: "أَفَحَسْبُ الَّذِينَ"، تفسير الآية على هذه القراءة، والفرق بينها وبين قراءة الجماعة في المعنى "34". قوله تعالى: "وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مِدَادًا" وإعراب الآية "35". سورة مريم: 36-46 قوله تعالى: "كافْ هَا يَا عَين صَاد" وبقية قراءاته "36"، الإمالة والتفخيم في الحروف ضرب من الاتساع "36"، سر دخول التصرف فيها "36"، إذا وقعت الألف عينا وجهلت عدت منقلبة عن الواو "36"، أمثلة لذلك "37". قوله تعالى: "ذَكَّرَ رَحْمَة رَبِّكَ"، وإعراب هذه القراءة وقراءة الجماعة "37". قوله تعالى: "خَفَّتِ الْمَوَالِي"، تفسير الآية على هذه القراءة "37"، كلام عن الحال المتوقعة "37. قوله تعالى: "يَرِثُنِي وَارثٌ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ" وكلام عن التجريد "38". قوله تعالى: "الْكِبَرِ عَتِيًّا"، وقوله: "أَوْلَى بِهَا صَلِيًّا" والرد على قول ابن مجاهد: لا أعرف لهما في العربية أصلا "39". قوله تعالى: "فَأَجَأها"، وتخريج هذه القراءة "39". قوله تعالى: "نَسْئًا" وتفسير أبي زيد لنسئ "40"، معنى الآية على تفسيره "40". قوله تعالى: "يُسَاقِط" والفرق بين يساقط ويسقط "41". قوله تعالى: "رُطَبًا جِنِيًّا": اتباع فتحة الجيم كسرة النون "41"، إجراء الشيء مجرى نقيضه "41". قوله تعالى: "فَإِمَّا تَرَيِنَ" وقرئ "تَرَئِنَّ" ضعف الهمز هنا ووجهه "42"، الكوفيون يحكون الهمز في الآية "42"، ثبوت نون الرفع مع الجازم لغة "42". قوله تعالى: "وبِرًّا"، والعطف على موضع الجار والمجرور "43". قوله تعالى: "وريًِا"، والري إما فعل من رأيت أو من رويت "44". توجيه "ريا" بعد ذلك من طريقين "44". توجيه قراءة "وزيا" "45".
قوله تعالى: {كلا سيكفرون} ، وإعراب الآية، وبيان موطن الوقف فيها "45". قوله تعالى: {شيئا أدا} : معنى الأد، وكلام عن الوصف بالمصدر "46". سورة طه: 47-60 قوله تعالى: {طاوي} "47". قوله تعالى: {أخفيها} : أخفيت بمعنى كتمت وأظهرت، وخفيت أظهرت فقط "47"، شواهد ذلك "48"، بم يتعلق "ليجزي" على أخفيت بمعنى كتمت وأخفيت بمعنى أظهرت؟ "48". قوله تعالى: {وهي عصاي} ، وقراءة "عصاي": كسر الياء هنا ثقيل وله مع ذلك وجه "49" أمثله منه "49"، الرد على ابن مجاهد في اعتبار كسر ياء غلامي ككسر ياء عصاي "49". قوله تعالى: "وأهس"، وقرئ "وأهش" توجيه القراءة الأخيرة من طريقين "50" أمثلة من فعل يفعل المضعف المتعدي "50"، وانظر الصفحة 136 من الجزء الأول معنى الآية على قراءة "أهس" ووجه تعدية "أهس" بعلى "51". قوله تعالى: {ولتصنع على} ، وقرئ "ولتصنع": الفرق بين لامي "ولتصنع" و"فبذلك فلتفرحوا" "51"، بين "ولتصنع" وقوله "ولتصنع" "52". قوله تعالى: {أن يفرط} ، ونقل "يفرط" من "يفرط" "52". قوله تعالى: {مكانا سوى} ومنع تنوين "سوى" يحمل على الوقف عليه "52". قوله تعالى: {يوم الزينة} : موقع "يوم" من "موعدكم" قبله "53"، موقع {وأن يحشر الناس} بحتمل وجهين "53"، امتناع عطف الشيء على نفسه "53"، توجيه {يوم الزينة} برفع يوم "54"، المصدر الصريح أشبه بالظرف من أن وصلتها "54". قوله تعالى: {وأن يحشر الناس ضحى} ، ومرجع ضمير {يحشر} "54". قوله تعالى: {تخيل} ، وإبدال "أنها تسعى" من ضمير "تخيل" "55". قوله تعالى: "فقبصت قبصة" وقرئ "قبصة": الفرق بين "القبض" و"القبص" من دلائل تقارب الألفاظ لتقارب المعنى "55"، معنى "قبصة" "56"
قوله تعالى: {لا مساس} ، وتخريجه على الحكاية بالقول "56"، إرادة اللفظ مع عدم التصريح به "57". قوله تعالى: {لن نخلفه} ، وقرئ "لن يخلفه"، ومعنى القراءتين "57". قوله تعالى: {لنحرقنه} ، ومعنى هذه القراءة "58". قوله تعالى: {وسع كل شيء علما} ، وتفسير الآية على هذه القراءة "59". قوله تعالى: {في الصور} ، والصور جمع صورةن وقد يقال صير "59". قوله تعالى: {أو يحدث لهم ذكرا} والتسكين هنا للتخفيف "59". قوله تعالى: {فنسي} ، ووجه سكون الياء "60"، وانظر الصفحة 126 من الجزء الأول. قوله تعالى: {ونحشره يوم القيامة أعمى} ، وجزم "نحشره" للعطف على جواب الشرط قبله "60". سورة الأنبياء: 61-71 قوله تعالى: {هذا ذكر من معي وذكر من قبلي} ، دلالة هذه القراءة على اسمية "مع" "61". قوله تعالى: {الحق فهم معرضون} ، وبيان موضع الوقف في الآية وفي التي قبلها "61". قوله تعالى: {فذلك نجزيه} ، ورد "نجزيه" إلى نجزي به ثم بيان التغيرات التي دخلته "62". قوله تعالى: {رتقا} ، وكثرة ما ورد من المصادر على فعل واسم المفعول منه على فعل "62"، وقراءة "رتقا" وضع فيها المصدر موضع اسم المفعول "62"، أمثلة من المصدر الذي على فعل واسم المفعول الذي فعل "63" تعاقب فعل وفعل على المعنى الواحد "63" العدول بفعل إلى فعل تارة، وفعل أخرى "63"، أمثلة مما فيه ثلاث لغات "63". قوله تعالى: {آتينا بها} ، ووجه جعل "آتينا" فاعلنا لا أفعلنا "63". قوله تعالى: {الفرقان ضياء} ، وإعراب الآية على هذه القراءة "64". قوله تعالى: {فجعلهم جذاذا} ، ولغات "جذاذا" "64". قوله تعالى: {أمتكم أمة واحدة} ، وإعراب الآية على هذه القراءة "65". قوله تعالى: {وحرم على قرية} ، وبقية القراءة "حرم" الخمس "65"، وتوجيه هذه القراءات "66".
قوله تعالى: {من كل جدث ينسلون} ، والجدث والجدف لغتان في القبر "66" قد تكون فاء جدف بدلا من ثاء جدث "66". قوله تعالى: {حصب جهنم} ، وقرئ "حضب"، و"حضب"، و"حطب" "66"، "حضب" و"حصب" من وضع المصدر موضع اسم المفعول "67" وانظر الصفحة 62 من هذا الجزء. قوله تعالى: {السجل} ، وبقية قراءاته: معنى "السجل"، وهل هو عربي؟ "68". قوله تعالى: {وإن أدري} ، وإنكار ابن مجاهد تحريك الياء "68"، وبين ياء أدري وياء غلامي "68"، أمثلة من الشبيه الذي جرى عليه حكم شبيهه "68". قوله تعالى: {قل رب احكم} ، وضعف حذف حرف النداء مع ما يجوز أن يكون وصفا لأي "69" وجه ضعف إعراب "هؤلاء" منادى من آية {هؤلاء بناتي هن أطهر" "69"، وجه احتمال الأمثال للضرورة كالشعر "70". سورة الحج: 72-76 قوله تعالى: {وترى الناس سكرى وما هم بسكرى} : سمع سكران وسكرانة "72" فعلى في التكسير يختص به المبتلون، ووجه جمع سكران على فعلى "72"، وسكارى منحرف عن سكارين ثم صار سكارى ببعض التصريف "72"، دليل انحراف سكارى عن سكارين "73"، سكارى مفرد في ظاهره، وقد يكون جمع تكسير "73"، سكرى مفرد "74". قوله تعالى: {وربأت} : ربأت غير ربت في المعنى "74"، طريق تلاقي الكلمتين في المعنى "74"، شواهد تؤيد تلاقي الكلمتين "75". قوله تعالى: {خاسر الدنيا والآخرة} : إعراب الآية على هذه القراءة "75"، أمثلة للجمل الفعلية الواقعة بدلا من جواب الشرط "75". قوله تعالى: {والدواب} : ضعف تخفيف الباء هنا قياسا وسماعا ووجهه "76"، أمثلة من التخفيف، لكن مثله أشبه بالشعر "77".
قوله تعالى: {يحلون} : {يحلون} من حلي بمعنى ظفر "77"، وجه تلاوة {يحلون} و {يحلون} "77". قوله تعالى: {ولؤلؤا"، والنصب هنا على إضمار فعل "78". قوله تعالى: {وأذن في الناس} : إعراب الآية ووجه جزم {يأتوك رجالا} على هذه القراءة "78". قوله تعالى: {رجالا} : بقية قراءات الآتية، وتوجيه كل منها "79". قوله تعالى: {والمقيمي الصلاة} : حذف النون هنا للتخفيف "80"، لم كان الحذف في {المقيمي} أهون منه في {غير معجزي الله} ؟ "80"، أمثلة للحذفين "81". قوله تعالى: {صوافن} ، وقرئ "صوافي"، والصوافن من أوصاف الخيل واستعمل هنا للإبل "81"، معنى "صوافي" وشاهده "82". قوله تعالى: {القنع} وأصله القانع "82"، وانظر الصفحة 171 من الجزء الأول. قوله تعالى: {والمعتري} ، ومعنى "المعتري" و"المعتر" "83". قوله تعالى: {وصلوت} : بقية القراءات "83"، وجه اشتقاق الصلاة من الصلوين "84"، تصريف الكلمة في القراءات الأخرى "84". قوله تعالى: {وبئر معطلة} ، ومأخذ "معطلة" من أعطلت منقولا من فعلت أو فعلت "85". قوله تعالى: {فلا ينزعنك} : تفسير الآية على هذه القراءة "86"، بين هذه القراءة وقراءة "ينازعنك" "86". سورة المؤمنين: 87-98 قوله تعالى: {عظما، فكسونا العظام} ، وقرئ: "عظاما فكسونا العظم": وقوع المفرد موقع الجمع "87" توجيه القراءتين والموازنة بينهما "87". قوله تعالى: {تنبت بالدهن} : إعراب "بالدهن" على قراءات الآية "88"، مجيء أنبت بمعنى نبت "89" وجه ضعف أن يكون الباء زائدة "89". قوله تعالى: {لعبرة تسقيكم} : لم لا تكون "تسقيكم" صفة لعبرة؟ "90"، أين يكون الوقف في الآية؟ "90"، من شواهد قوة مشابهة الظرف للفعل "90".
قوله تعالى: {هيهات هيهات} : بقية القراءات وتوجيهها "90" متى تكتب تاء "هيهات" تاء ومتى تكتب هاء؟ "91"، وجه الوقف عليها بالتاء والهاء "92" ضعف كون لام "لما" زائدة ووجهه "93"، بعض ما نون وهو مبني على الضم "93"، أخذ اسم معرب من "هيهات" "93"، هيه وهيهات لفظان متقاربان "94". قوله تعالى: {نسرع لهم} وبقية القراءات "94"، توجيه وإعراب "95". قوله تعالى: {يأتون ما أتوا} : تفسير الآية "95"، سؤال عبيد الله بن عمير لعائشة عن أحب قراءة إليها للآية "95". قوله تعالى: {أولئك يسرعون في الحيرات} ، ومعنى يسرعون ويسارعون "96". قوله تعالى: {سمرا يهجرون} : السمر جمع سامر، وقد يكون السامر جمعا "96"، بين "تهجرون" و"تهجرون" "97". قوله تعالى: {ولو اتبع الحق أهواءهم} : ضم هذه الواو قليل "97"، تشبيهها بواو الجمع يجعل الضم وجها "97"، التخلص من الساكنين بالحركات الثلاث ووجهه "97". قوله تعالى: {بل أتيناهم نذكرهم} : بقية قراءات الآية "98"، تلافي المعاني في قراءاتها "98". قوله تعالى: {ولا تكلمون أنه} : بقية قراءات الآية، وتأييد بعضها بعضا "98". قوله تعالى: {عند ربه أنه لا يفلح الكافرون} وتفسير الآية على هذه القراءة "98". سورة النور: 99-116 قوله تعالى: {سورة} : تخريج النصب من وجهين "99"، الرفع في قراءة الجماعة على الابتداء "100". قوله تعالى: {الزاينة والزاني} : النصب هنا بفعل مضمر "100"، وجه دخول الفاء في قوله {فاجلدوا} "100" أوجه امتناع إعراب "فاجلدوا" وصفا "100". قوله تعالى: {بأربعة شهداء} : متى تضاف الأعداد من الثلاثة إلى العشرة إلى الأوصاف؟ "101" "شهداء" على قراءة الجماعة مستعملة استعمال الأسماء "101". متى يحسن إقام الصفة مقام موصوفها؟ "101"، لم يقبح حذف الموصوف؟ "102"، قد يفيد الموصوف في صفته "102".
قوله تعالى: {أن لعنة الله} ، و {وأن غضب الله} : توجيه هذه القراءة والقراءة الأخرى "102" الفرق بين اتصال إ، وأن بالاسم والخبر "103"، لم يجب تقدير اسم لأن المخفضة، ولا يجب لإن المخففة؟ "103". قوله تعالى: {كبره} ، والفرق بين الكبر والكبر "104". قوله تعالى: {إذ تلقونه} : بقية القراءات، ومعنى الآية على كل قراءة "104". قوله تعالى: {ما زكا} بالإمالة: وجه إمالة الألف في الفعل مع انقلابها عن واو "105". قوله تعالى: {خطوات} ، وقرئ "خطوات" "105"، وانظر الصفحة 117 من الجزء الأول. قوله تعالى: {يتأل} ، ومعنى الآية على هذه القراءة "106". قوله تعالى: {ولتعفوا ولتصفحوا} "106"، وانظر الصفحة 313 من الجزء الأول. قوله تعالى: {يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق} ، وإعراب الآية "107". قوله تعالى: {تستأذنوا} ، وقول ابن عباس: أخطأ الكاتب "107"، معنى "تستأذنوا" و"تستأنسوا" "108". قوله تعالى: {من بعد إكراههن لهن غفور رحيم} : وجه تعليق "لهن" بغفور، ووجه تعليقها برحيم "108". وجه امتناع تعليق "لهن" برحيم إذا جعل صفة لغفور "109". سورة الفرقان: 117-126 قوله تعالى: {نزل الفرقان على عباده} ، وتوجيه هذه القراءة "117". قوله تعالى: {أكتتبها} ، ومعنى الآية على هذه القراءة وقراءة الجماعة "117"، تخريج "أكتتبها" على القلب "117"، تخريج "اكتتبها" بمعنى كتبها "118". قوله تعالى: {ويجعل لك} ، والنصب لوقوع الفعل بعد جواب الشرط مقرونا بالواو "118". قوله تعالى: {نحشرهم} ، ولم كان يفعل المتعدي أقيس من يفعل؟ "119"، اختلاف حركة العين في الماضي والمضارع أقيس ووجه ذلك "119". قوله تعالى: {نتخذ} ، وإعراب "من أولياء" على هذه القراءة وقراءة الجماعة "120". قوله تعالى: {ويمشون في الأسواق} : معنى "يمشون"، ووجه مجيئه على فعل "120".
قوله تعالى: {ونزل الملائكة} ، وحمل "نزل" على "ننزل"، مع حذف النون الثانية "120". قراءة "ونزل الملائكة} إما على لغة لم تبلغنا، وإما على حذف مضاف "121"، معنى الآية على هذه القراءة "122". قوله تعالى: {فدمرانهم} : بقية القراءات، ومعنى الآية على هذه القراءة "122". قوله تعالى: {من اتخذ إلاهة هواه} ، ومعنى إلاهة "123". قوله تعالى: {ويذرك وإلاهتك} وتفسير الآية على هذه القراءة "123". قوله تعالى: {الرياح بشرى} ، وأمثلة للمصار التي وقعت حالا ك"بشرى" "123". قوله تعالى: {وهذا ملح أجاج} : إنكار أبي حاتم قراءة "ملح" "124"، قد يكون أصل "ملح" مالحا، وحذف الألف "124"، من الأوصاف التي على فعل "124". جواز "مالح" عند ابن الأعرابي "124". قوله تعالى: {وكان بين ذلك قواما} : بين القوام والقوام "125" معنى "قواما" في الآية "125". قوله تعالى: {نضعف له العذاب، وتخلد فيه} ، وتخريج "تخلد" على الالتفات "126" وانظر الصفحة 145 من الجزء الأول. قوله تعالى: {فقد كذب الكافرون} وهو على الالتفات أيضا "126". سورة الشعراء: 127-133 قوله تعالى: {وقوم فرعون ألا تتقون} ، وكثرة حذف القول عنهم "127". قوله تعالى: {وفعلت فعلتك} ، وجريان اسم الهيئة مجرى المصدر "127". قوله تعالى: {خطايانا إن كنا"، وتأويل الآية على الاستظهار والإدلال "127". قوله تعالى: {حادون} : تفسير الحادر، والاحتجاج له "128". قوله تعالى: {لمدركون} وتفسير الإدراك وأفعاله "129". قوله تعالى: {وأزلقنا} : معنى الآية على هذه القراءة وقراءة "أزلفنا" "129". قوله تعالى: {هل يسمعونكم} : حذف المفعول على هذه القراءة "129"، سمع تتعدى إلى ما كان صوتا، فإن وقعت على جوهر تعدت إلى مفعولين ثانيهما صوت "129".
قوله تعالى: {لعلكم تخلدون} : تفسير مادة الخلود والاحتجاج لمعانيها المختلفة "130". قوله تعالى: {وأتباعك} : تخريج هذه القراءة من وجهين "131"، الفصل حين العطف على الضمير المرفوع المتصل ينبغي أن يكون في جانب المعوض منه وقبل العاطف "131". قوله تعالى: {الأعجميين} : تفسير هذه القراءة لقراءة "الأعجمين" "132" أصل "الأعجمين" "الأعجميين"، فحذفت ياء النسب، وجعل جمعها بالواو والنون أمارة إرادتها "132"، إرادة ياء النسب في "الأعجمين" تسوغ جمع عجماوات قياسا "132". قوله تعالى: {فتأتيهم بغتة} ، وعود الضمير الفاعل على مفهوم من الكلام "133". قوله تعالى: {وما تنزلت به الشياطون} ، وأمثلة من تداخل المتشابهات "133". سورة النمل: 134-146 قوله تعالى: {تباكت الأرض} : تفاعل أبلغ من فعل، ونظائر له من غير وزنه "134"، كلام عن الخزم "135". قوله تعالى: {كأنها جأن} "135"، وانظر الصفحة 147 من الجزء الأول. قوله تعالى: {ألا من ظلم} ، وإعراب "من" على هذه القراءة وقراءة "إلا من ظلم" "136". قوله تعالى: {مبصرة} : دلالة مفعلة على الشياع وأمثلة لها "136"، وجه دلالتها على الشياع "136". قوله تعالى: {قالت نملة يأيها النمل} : بقية القراءات، وتوجيه كل قراءة "137". قوله تعالى: {لا يحطمنكم} ، وقراءة "يحطمنكم": رد الفعلين إلى يحتطمنكم، وبيان التغيرات التي دخلته "137"، تغيير الماضي واسم الفاعل والمصدر على حسب تغييرات المضارع "138". وتوجيه قراءات "المعذرون"، و"مردفين" "138". قوله تعالى: {فتبسم ضحكا من قولها} : موقع "ضحكا" من الإعراب عند سيبويه وأبي عثمان "139"، الاحتجاج لرأي سيبويه "139". قوله تعالى: {أن لا تغلوا} : وجه اختلاف مصدري غلا في القول وغلا في السعر "139"، اتفاق الألفاظ والصيغ مع تغيير بعض الصيغ يقوم مقام تغييرها كلها "139"،لماذا جعلوا مصدر غلا في القول على فعول ومصدر غلا السعر على فعال؟ "140".
قوله تعالى: {عفرية} : معنى "عفرية" وأصل اشتقاقها "141"، وزن "تفعلت" في الأفعال غريب "141". قوله تعالى: {فما كان جواب قومه} ، وقراءة نصب "جواب" أقوى لشبه المصدر المؤول بالضمير "141"، وانظر الصفحة 115 من الجزء الأول. قوله تعالى: {أمن خلق} ، وموقع "من" من الإعراب على هذه القراءة والقراءة العامة "142". قوله تعالى: {إيان يبعثون} "142"، وانظر الصفحة 268 من الجزء الأول والصفحة 7 من هذا الجزء. قوله تعالى: {بل إدرك علمهم} : بقية قراءات الآية، وتوجيه كل قراءة "143". قوله تعالى: {ردف لكم} : بين "ردف" و"ردف"، والكسر أفصح "143". قوله تعالى: {تكن صدروهم} : بين أكننت وكننت "144". قوله تعالى: {تكلمهم} وهذه القراءة شاهد لتفسير "تكلمهم" بتجرحهم "144"، شاهد تفسير "تكلمهم" تنبئهم "145". قوله تعالى: {وكل أتاه داخرين} : حمل "أتاه" على لفظ "كل" و"داخرين" على معناه، والعكس غير حسن "145"، كل غير المضافة يخبر عنها بالجمع والمضافة إلى جمع يخبر عنها بالمفرد "146". سورة القصص: 147-157 قوله تعالى: {أن ارضعيه} ، وحذف الهمزة هنا اعتباطا لا تخفيفا "147". قوله تعالى: {وأصبح فؤاد أم موسى فزعا} : بقية القراءات ومعنى الآية عليها "147". قوله تعالى: {موسى} : مجاورة الساكن للمتحرك كثيرا ما تجعل الحركة كأنها في الساكن "148". قوله تعالى: {عن جانب} ، وقرئ: "عن جنب" واتحاد المعنى على لقراءتين "149". قوله تعالى: {فجاءته أحداهما} : ضعف إسقاط الهمزة هنا "150" وانظر الصفحة 120 من الجزء الأول، والصفحة 147 من هذا الجزء. قوله تعالى: {أيما الأجلين} : في تخفيف الياء طريقان "150"، أي عند المصنف مما عينه واو ولامه ياء ووجه ذلك "150".
قوله تعالى: {عضدك} ولغات عضد الخمس "152". قوله تعالى: {ثمرات} : التغييرات التي دخلت المفرد في طريقه إلى الجمع "153"، وجه جمع ما لا يعقل جمع تأنيث "153". قوله تعالى: {ما إن مفاتحه لينوء} والتذكير على ملاحظة معنى الواحد "153"، محاورة بين أبي عبيدة ورؤبة في بعض شعره "154". قوله تعالى: {ويك أنه} ، والأقوال الثلاثة التي فيها "155"، ترجيح قول الخليل وسيبويه فيها ومعنى الآية عليه "155". قوله تعالى: {لخسف بنا} ، وقرئ: "لا نخسف بنا"، وإعراب الآية على القراءتين "156"، "157". سورة العنكبوت: 158-162 قوله تعالى: "أل لام ميم حسب": ضعف تخفيف همزة "حسب" وسببه "158". قوله تعالى: {فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} ، وبقية قراءات الآية "159"، المعنى على هذه القراءات والاستشهاد له "159". وإعراب الآية على هذه القراءات "159". قوله تعالى: {وتخلقون إفكا} ، وقرئ: "وتخلقون إفكا": معنى الآية على القراءتين "160"، تخريج "إفكا" من ثلاثة أوجه "161". قوله تعالى: {أولم يروا كيف يبدا الله الخلق"، والهمزة هنا مخففة لا مبدلة "161". سورة الروم: 162-166 قوله تعالى: {وآثاروا الأرض} ، والمد على إشباع الهمزة، فنشأت عنا ألف "162". قوله تعالى: {حينا تمسون} : حذف العائد من جملة الصفة لدلالة الفعل عليه "163"، ترجيح مذهب أبي الحسن في تبيين طريقة الحذف "164". قوله تعالى: {فيمتعوا فسوف يعلمون} ، وإعراب "فيمتعوا" "164". قوله تعالى: من خلله"، وتخريج "خلله" من وجهين "164".
قوله تعالى: {أثر رحمة الله كيف تحيي} : وجه تأنيث الفعل هنا "165"، متى يمكن التأنيث ذهابا إلى لفظ. المضاف إليه؟ "165"، لم كانت جملة "كيف تحيى" حالا على المعنى لا على اللفظ؟ "165". قوله تعالى: {إلى يوم البعث فهذا يوم البعث} : وجه فتح عين "البعث"، وترجيح قول البغداديين فيه "166"، وانظر الصفحة 184 من الجزء الأول. قوله تعالى: {ولا يستحقنك} ، ومعنى الآية على هذه القراءة "166". سورة لقمان: 167-172 قوله تعالى: {حملته أمه وهنا على وهن} "167"، وانظر في فتح الهاء الصفحة 166 من هذا الجزء، والصفحة 84 من الجزء الأول. تخريج الفتح على قراءة "فما وهنوا" "167". قوله تعالى: {وفصله في عامين} ، ووجه كون "الفصال" هنا أوقع من "الفصل" "167". قوله تعالى: {فتكن في صخرة} ، وأصل الوكون "168". قوله تعالى: {وأصبغ عليكم نعمته ظاهرة وباطنة} : وجه إبدال السين صادا هنا وأمثلة منه "168". قوله تعالى: {وبحر يمده} : بقية قراءات الآية وإعرابها "169". قوله تعالى: {الفلك} ، وسماع فعل في فعل "170"، وانظر الصفحة 136 من هذا الجزء. قوله تعالى: {بنعمات الله} : لغات جمع فعلة وفعلة بالألف والتاء "170"، الدليل على أن الألف والتاء في الجمع في تقدير الاتصال "171"، يرى ابن جني أن تسكين عين فعلات أمثل من تسكين عين فعلات "171" لم يمتنع الإتباع في نحو رشوة ومدية؟ "171". قوله تعالى: {ولا يغرنكم بالله الغرور} ، ومعنى الغرور "172". سورة السجدة: 173-175 قوله تعالى: {وبدا خلق الإنسان} : ترك الهمز هنا تخفيف لا إبدال "173"، وانظر الصفحة 67 من الجزء الأول.
قوله تعالى: {صللنا} ، وتفسير الآية على هذه القراءة "174". قوله تعالى: {قرات أعين} ، والقياس ألا نجمع المصدر، لكن جعلت "القرة" هنا نوعا "174" قوله تعالى: {يمشون في مساكنهم} ، ودلالة يمشون على الكثرة "175". قوله تعالى: {إنهم منتظرون} ، وإنكار أبي حاتم فتح الظاء "175". سورة الأحزاب: 176-185 قوله تعالى: {إن بيوتنا عورة وما هي بعورة} : صحة واو "عورة" شاذة استعمالا "176"، وزن نحو "مال" في قولهم: رجل مال - فعل عند ابن جني "176". قوله تعالى: {بدي في الإعراب} ، و"بدي" على وزن فعل لا فعال "177". قوله تعالى: {ثم سولوا الفتنة} ، وحمل هذه القراءة على لغة سال يسال "177"، ولغات الأجوف إذا بني للمجهول "177"، حمل القراءة على لغة سأل يسأل والتغييرات التي تدخل هذا الفعل "178". قوله تعالى: {يا نساء النبي من تأت منكن} ، وحمل الإسناد على معنى "من" "179". الحمل على المعنى في الصلة أشبه منه في الصفة "180". قوله تعالى: {فيطمع الذي} ، والجزم هنا على العطف "181"، وجه كون النصب أقوى معنى "181". قوله تعالى: {ولكن رسول الله} ، وحذف خبر "لكن" "181". قوله تعالى: {أن وهبت نفسها للنبي} ، والمعنى على التعليل "182". قوله تعالى: {بما آتيتهن كلهن} ، ووجه تلاقي قراءتي نصب "كلهن" ورفعه "183". قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا فصلوا عليه} ، ودخول الفاء هنا لتضمن الحديث معنى الشرط "183". قوله تعالى: {يوم تقلب وجوههم} ، وإسناد "تقلب" إلى السعير على المجاز "184". قوله تعالى: {وكان عبدا لله وجيها} ، ووجه كون قراءة الكافة أقوى معنى "185". سورة سبأ: 186-197 قوله تعالى: {ليأتينكم} ووجه غلبة التذكير "186". حكاية الأصمعي عن أبي عمرو تأنيث كتاب على معنى رسالة "186".
قوله تعالى: {تأكل من سأته} ، واشتقاق "السأة" من سئة القوس "187"، كلام عن تخفيف الهمزة "187". قوله تعالى: {تبينت الإنس} ، وتأويل الآية على هذه القراءة "188". قوله تعالى: {وهل يجزى إلا الكفور} : بين جزى وجازي في المعنى "188". قوله تعالى: {ربنا بعد بين أسفارنا} : بقية القراءات وتوجيهها "189"، أصل "بين" عند الفارسي "190". قوله تعالى: {ولقد صدق عليهم إبليس ظنه} ووجه تلاقي هذه القراءة وقراءة الجماعة "191". ابن جني يرد إعراب الفراء للآية "191". قوله تعالى: {فزع} : بقية القراءات ووجه تلاقيها على معنى واحد "192". وإضمار الفاعل لدلالة الحال "192". كلام أبي علقمة النحوي حين اجتمع الناس عليه "193". قوله تعالى: {بل مكر الليل والنهار} : بقية القراءات وتوجيهها "193". وجه ذكر "بل" في جواب الاستفهام هنا "194". كثرة تأويل الكلام على النفي وإن لم يكن ظاهرا "194". قوله تعالى: {من كتب يدرسونها} ، وقوة معنى المزيد فيه "195". قوله تعالى: {وأخذ من مكان قريب} : تخريج "أخذ" من وجهين "196". إعراب "أخذوا" على قراءة الجماعة "196". قوله تعالى: {ويقذفون} ، ومعنى الآية على هذه القراءة "197". سورة فاطر: 198-202 قوله تعالى: {الحمد لله فطر السموات والأرض} ، والإسهاب في الحمد والذم أبلغ "198" تنويع الإعراب إذا طال الكلام "198". قوله تعالى: {سيغ شرابه} ، وتخفيف "سيغ" من سيغ "198". قوله تعالى: {وهذا ملح أجاج" "199"، وانظر الصفحة 171 من الجزء الأول، والصفحة 89 من الجزء الثاني. قوله تعالى: {جدد} ، بقية القراءات وتوجيهها "199".
قوله تعالى: {والدواب} "200"، وانظر الصفحة 173 من هذا الجزء. قوله تعالى: {فيها لغوب} ، و"لغوب" مصدر على فعول أو صفة مصدر محذوف "200". قوله تعالى: {لا يقضي عليهم فيموتون} : توجيه هذه القراءة ووجه كون قراءة العامة أوضح "202". قوله تعالى: {ومكرا سيئا} ، ووجه كون قراءة العامة أقوى معنى "202". سورة يس: 203-218 قوله تعالى: "ياسين والقرآن": بقية القراءات، وتوجيهها "203"، "ياسين" معناه في لغة طيئ يا إنسان "203"، من أمثلة الاكتفاء من الكلمة بحرف "204". قوله تعالى: "فأعشيناهم": المعنى على هذه القراءة وقراءة العامة "204"، التقاء غ ش ي، وغ ش وفي المعنى "204". قوله تعالى: {أنذرتهم} ، وحذف همزة الاستفهام تخفيفا مع إرادتها "205". قوله تعالى: {أن ذكرتم} وقرئ: "أين ذكرتم". المعنى على القراءتين "205" وجه امتناع الوقف في القراءتين على "معكم" قبل الآية "206". قوله تعالى: {إن كانت إلا صيحة واحدة} ، وقرئ: "إلا زقية": لم يضعف رفع "صيحة"؟ "206" زقا واوي ويائي "507"، أصل الزقية عند أبي حاتم زقوة "207"، شواهد تثبت أن الفعل يائي "207". قوله تعالى: "يا حسره"، وقرئ: "يا حسرة العباد": إسراع العرب في الإخبار عما 0لا تعتمده "208" عناية العرب بقوافي الشعر "209". إطالة الأصوات وتقصيرها لقوة المعنى وضعفه "210". قد تذهب العرب مع المعاني حتى تفسد الإعراب لصحتها "211". تخريج "يا حسرة العباد" من وجهين "211". قوله تعالى: "والشمس تجري لا مستقر لها": لا الناصبة للنكرة جواب سؤال عام "212"، العموم في الآية بمعنى الخصوص "212". قوله تعالى: {ونفخ في الصور} "212"، وانظر الصفحة 56 من الجزء الثاني. قوله تعالى: {من بعثنا} ، إعراب الآية على هذه القراءة "213".
قوله تعالى: {يا ويلتا} ، والويلة تأنيث الويل "213". كيف تتلاقي "ويلتا" بلفظ واحد، و"بعثنا" بلفظ الجمع؟ "213". قوله تعالى: "من هبنا من مرقدنا"، وقرئ: "من أهبنا": "أهبنا": أقيس القراءتين "214"، قد يكون تقدير "هبنا" هب بنا "214". قوله تعالى: {جبلا} ، وقرئ: "جبلا" "216"، وانظر الصفحة 131 من الجزء الثاني. قوله تعالى: {نختم على أفواههم ولتكلمنا أيديهم ولتشهد أرجلهم} : تأويل الآية على هذه القراءة "216" لا تزاد الواو عند البصريين "216". قوله تعالى: {ركوبهم} ، وقرئ: "وكوبتهم": معنى الآية على القرءاتين "216"، حذف المضاف ضرب من الوسع آخر الكلام أولى به "217". قوله تعالى: {ملكة كل شيء} : معنى الآية على هذه القراءة "217"، زيادة الواو والتاء في الملكوت وأخواته للمبالغة "218". سورة الصافات: 219-229 قوله تعالى: {من كل جانب دحورا} ، وتخريج "دحورا" من وجهين "219"، وانظر الصفحة 63 من الجزء الأول. قوله تعالى: "هل أنتم مطلعون فأطلع": تفسير الآية على هذه القراءة وإسناد الفعل إلى المصدر "219"، كسر نون "مطلعون" خطأ عند أبي حاتم "220"، ابن جني يلتمس له وجها من الصحة "220". قوله تعالى: {لشوبا} ، واحتمال أن يكون الشوب لغة في الشوب "221". قوله تعالى: {فراغ عليهم سفقا باليمين} ، والسفق لغة في الصفق "221". قوله تعالى: {يزفون} ، "يزفون" مخفف "يزفون" عند قطرب "221"، هو عند ابن جني من وزف "221".
قوله تعالى: {فانظر ماذا ترى} ، والفرق بين "ترى" و"ترى" "222". قوله تعالى: {فلما سلما} ، والفرق بين "أسلما" و"سلما" "222". قوله تعالى: "وإن الياس" و"سلام على الياسين": أصل: "الياس" ياس كباب "223". "الياسين" إما على النسب أو الجمع "223". جموع أطلقت على مفردات "223". قوله تعالى: "وإن إدريس"، "سلام على إدراسين": بقية القراءات وتحريف العرب للكلم الأعجمي "225" توجيه القراءات "225". قوله تعالى: {وإن أبليس} ، و"على إبليسين"، و"إبليس" اسم آخر لإدريس "225". قوله تعالى: {وأرسلناه إلى مائة ألف ويزيدون} : موضع "ويزيدون" من الإعراب "226". يمتنع في الآية تطبيق قولهم: يجوز في المعطوف ما لا يجوز في المعطوف عليه "226". تقدير الإضافة إلى الفعل أهون من تقدير مباشرة الجار له "227". حذف العاطف والمعطوف "227"، الإضافة لأدنى ملابسة "228". قوله تعالى: {إلا من صال الجحيم} : حذف لام الكلمة وجعل الإعراب على العين "228". قوله تعالى: {فإذا نزل بساحتهم} ، وبناء الفعل على معلوم من فحوى الكلام "229". سورة ص: 230-235 قوله تعالى: {صاد} ، وقرئ "صاد": معنى الكلمة، وتوجيهها لغويا ونحويا. "230". قوله تعالى: {لشيء عجاب} ، وذكر طائفة من أوزان الصفات "230". قوله تعالى: {ولا تشطط} ، ومأخذ الكلمة من الشط "231". قوله تعالى: {تسع وتسعون نعجة} ، وكسرة ورود الفعل والفعل على المعنى الواحد "231". قوله تعالى: {نعجة} ، ومجيء فعلة وفعلة على المعنى الواحد أيضا "232". قوله تعالى: {وعزني} ، وحذف إحدى الزايين تخفيفا "232" قوله تعالى: {فتناه} ، وقرئ: "فتناه"، والتشديد للمبالغة والتخفيف على الإسناد إلى الملكين "232". قوله تعالى: {أولى الأيد} ، واحتمال "الأيد" وجهين من التخريج "233". تشبيه العرض بالجوهر إعلاء له "234".
قوله تعالى: {إن يوحى إلي إلا إنما} والمعنى على الحكاية بالقول "234"، وجه عدم إعادة اللفظ. بعينه مع الحكاية "235". سورة الزمر: 236-241 قوله تعالى: "اجتنبوا الطواغيت" "236، وانظر الصفحة 131 من الجزء الأول. تخليطهم في الجمع على فواعيل "237". قوله تعالى: {والذي جاء بالصدق وصدق به} ومعنى "صدق به" في الآية "237". قوله تعالى: "ياحسرتاي"، وقرئ: "يا حسرتاي"، وإشكال الجمع بين العوض والمعوض "238". وجه إسكان ياء "حسرتاي" "239". قوله تعالى: {وأشرقت الأرض} ، ومعنى شرق في لغتيه وأشرق "240". سورة المؤمن: 241-244 قوله تعالى: {إلا سبيل الرشاد} : "الرشاد" فعال من رشد "241"، قلة فعال من أفعل "241" أمثلة من أفعل الذي وصفه على فاعل "242". قوله تعالى: {يوم التناد، و"التناد" تفاعل من تفاعل "243"، الغرض في الإلحاق رفع عدد الحروف "243". قوله تعالى: {والسلاسل يسحبون} : عطف الجملة من الفعل والفاعل على التي من المبتدأ والخبر "244"، شبه الظرف بالفعل "244". سورة السجدة: 245-248 قوله تعالى: {آتينا طائعين} ، ووجه كون "آتينا" فاعلنا لا أفعلنا "245". قوله تعالى: {إن يستعتبوا فما هم من المعتبين} ، وتفسير الآية على هذه القراءة "245". قوله تعالى: {والغوا فيه} : معنى اللغو ومأخذه اللغوي "246" تخريج "لا تسمع فيها لا غية" من وجهين "246". قوله تعالى: {وربأت} ، ووجه تلاقي هذه القراءة وقراءة الجماعة "247". قوله تعالى: {أعجمي} ، وقرئ: "أعجمي": تخريج القراءتين "248". ياء أعجمي لتوكيد الصفة، وأمثلة لذلك "248" الأعاجم جمع أعجمي على حذف ياء النسب "248".
سورة عسق: 249-252 قوله تعالى: {حم سق} ، دلالة هذه القراءة على أن الفواتح فواصل بين السور "249" تلعب العرب بالأسماء الأعجمية "249". قوله تعالى: {نؤته منها} "249"، وانظر الصفحة 67 من الجزء الأول. قوله تعالى: {وأن الظالمين لهم عذاب أليم} : إعراب الآية وشيوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه "250". قوله تعالى: {ذلك الذي يبشر} ، ووجه قوة هذه القراءة في القياس "251". قوله تعالى: {فيظللن رواكد} ، وقد يكون أظل لغة "252" سورة الزخرف: 253-259 قوله تعالى: {بلدة ميتا} ، ووجه كون التذكير مع التشديد ليس في حسن التذكير مع التخفيف "253". قوله تعالى: "إنك مائت"، وقرئ: "ميت"، واعتقاب "مائت" و"ميت" يدل على أن المشدد يكاد يجري مجرى فاعل "253". قوله تعالى: {أشهدوا} : ضعف حذف همزة الاستفهام "254"، تخريج القراءة على الوصفية "254". قوله تعالى: {لما متاع} ، وإعراب الآية على هذه القراءة "255". قوله تعالى: {يا مال} ، وحكمة الترخيم في هذا الموقف "257". قوله تعالى: {فأنا أول العبدين} ، وأقوال في تفسير "العبدين" "258". قوله تعالى: {وقيله} ، وإعراب الكلمة رفعا ونصبا وخفضا "258". سورة الدخان: 260-261 قوله تعالى: "يوم نبطش" وإعراب الآية على هذه القراءة "260". قوله تعالى: {وزوجناهم بحور عين} ، وقرئ: "بعيس عين": وجه إفادة الإضافة في الأولى مفاد الصفة "261"، معنى الآية على القراءة الأخرى "261".
سورة الجاثية: 262-263 قوله تعالى: {جميعا منة} ، وقرئ: "جميعا منه"، وإعراب القراءتين "262". قوله تعالى: {كل أمة تدعى} ، وإعراب الآية على هذه القراءة "262". سورة الأحقاف: 264-269 قوله تعالى: {أو أثرة من علم} ، وقرئ: "أو أثرة": تفسير القراءتين، ووجه كون "الأثرة" أبلغ "264". قوله تعالى: {بدعا من الرسل} والكلام على حذف مضاف "264". قوله تعالى: {بوالديه حسنا} ، وتأويل هذه القراءة "265". قوله تعالى: {هذا عارض ممطرنا، قال هود بل هو ما استعجلتم به} وكثرة حذف القول "265". قوله تعالى: {لا ترى إلا مساكنهم} ، وقرئ: "إلا مسكنهم": ضعف تأنيث "ترى" ووجهه "266". "مسكنهم" إما واحد مكان الجمع، وإما مصدر حذف مضاف قبله "266". قوله تعالى: {أفكهم} : بقية القراءات، وتوجيه كل قراءة "267". قوله تعالى: {من نهار بلاغا} ، وقرئ "بلغ"، وإعراب "بلاغا" و"بلاغ" "268". قوله تعالى: {فهل يهلك} : بقية القراءات، وتوجيه كل "268". قوله تعالى: {ولم يعي} : رغبة العرب عن إعلال العين وتصحيح اللام، وأمثلة لذلك "269". سورة محمد -صلى الله عليه وسلم-: 270-274 قوله تعالى: {أمثال الجنة التي وعد المتقون} ، ودلالة هذه القراءة على أن "مثل" في القراءة العامة مفرد في معنى الجمع "270". قوله تعالى: {إن تأتهم} : كسر "إن" على استئناف الشرط "270"، وجه مجيء الكلام بأسلوب الشك "271". قوله تعالى: {بغتة} : اختصاص فعلة بالأسماء "271"، أحسان الظن مع ذلك بأبي عمرو، وفي روايتها "272". قوله تعالى: {فهل عسيتم إن وليتم أن تفسدوا في الأرض} ، وقرئ: "توليتم"، ومعنى الآية على القراءتين "272".
قوله تعالى: {سول لهم وأملي لهم} ، وتفسير الآية على هذه القراءة "272". قوله تعالى: {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم} ، ومعنى الآية على هذه القراءة "273". قوله تعالى: {ويخرج أضغانكم} ، والرفع هنا على الاستتئناف "274". سورة الفتح: 275-277 قوله تعالى: {تعزروه} ، ومعنى الآية على هذه القراءة وقراءة الجماعة "275". قوله تعالى: {إنما يبايعون لله} ، وتقدير المفعول يرجع بهذه القراءة إلى القراءة الأخرى "275". قوله تعالى: {أشداء على الكفار رحماء} ، حكمة جعل الحال هنا من الضمير في معه "276". تكسير فعيل على فعلاء وأفعلاء وسببه "276". قوله تعالى: {شطاءه} ، وبقية القراءات "276"، قصة معفر البارقي وابنته حين شامت برقا "277". سورة الحجرات: 278-280 قوله تعالى: {لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} ، ومعنى الآية في هذه القراءة والقراءة الأخرى "278". قوله تعالى: {فأصلحوا بين إخوانكم} ، وإرادة الجمع بلفظ التثنية "278"، إفادة الإضافة لمعنى الجنسية "279". قوله تعالى: {لتعرفوا} ، وفي الآية حذف المفعول به "280". سورة ق: 281-285 قوله تعالى: "قاف"، وقرئ: "قاف". وإعراب "قاف" على القراءتين "281". قوله تعالى: {إذا متنا} ، وتخريج حذف الاستفهام "282"، وانظر الصفحة 50 من الجزء الأول والصفحة 205 من هذا الجزء. لمعنى على عدم إرادة الاستفهام "282". قوله تعالى: {لما جاءهم} ، ومجيء اللام بمعنى عند "282". قوله تعالى: {والنخل باسقات} ، وقرئ: "باصقات": إبدال الصاد من السين "283. وإبدال الصاد والزاي منها في خبر عن الأصمعي "283".
قوله تعالى: "وجاءت سكرة الحق بالموت"، وتقدير الباء هنا على وجهين "283". قوله تعالى: {ألقيا في جهنم} ، وإثبات النون في هذه القراءة يشهد بأنها محذوفة في القراءة الأخرى "284". قوله تعالى: {يوم يقال لجهنم} : ليس ترك ذكر الفاعل للجهل به دائما "284"، أفعال يدل إسنادها على شدة عنايتهم بالمفعول "284". قوله تعالى: {فنقبوا في البلاد} ، والأمر هنا للحاضرين ومن بعدهم "285". قوله تعالى: {أو ألقي السمع} ، وموازنة بين القراءتين يخلص منها أن هذه أندى معنى إلى النفس "285". قوله تعالى: {وما مسنا من لغوب} "285"، وانظر الصفحة 201 من هذا الجزء. سورة الذاريات: 286-289 قوله تعالى: {الحبك} : بقية القراءات وتخريج كل قراءة "286". قوله تعالى: {إيان يوم القيامة} : اشتقاق "أيان" من أي، لا من أين لأمرين "288"، صلاح أي للأزمنة صلاحها لغيرها "288". قوله تعالى: {ذو القوة المتين} ، وجر "المتين" على الوصفية أو الجوار "289". تأويل وصف المؤنث بالمذكر هنا "298". سورة الطور: 290-292 قوله تعالى: "وزوجناهم بعيس عين" وتفسير الآية "290". قوله تعالى: {وما آلتناهم} ، وقرئ: "وما لتناهم"، ومعنى ألت في لغتيه وتصريفه "290". قوله تعالى: {أم هم قوم طاغون} ، وقرئ: "بل هم قوم طاغون": أم هنا منقطعة بمعنى بل وما بعدها متيقن. "291". حكمة توالي أم في السورة وإن كان ما بعدها مشكوكا فيه "291". قوله تعالى: {بحديث مثله} ، وضمير "مثله" للرسول "292". قوله تعالى: {وأدبار النجوم} ، وتفسير الآية "292".
سورة النجم: 293-296 قوله تعالى: {جنة المأوى} وكلام عن رد هذه القراءة "293". قوله تعالى: {اللات} ، وقصة عبادة "اللات" "294". قوله تعالى: {الذي وفى} ، وتسمية المسبب باسم السبب "295". قوله تعالى: {ليس لها مما يدعون من دون الله كاشفة وهي على الظالمين ساءت الغاشية} ، ودلالة هذه القراءة على أن في قراءة الجماعة حذف مضاف بعد مضاف "295"، من أمثلة المضافات المحذوفة "296". سورة القمر: 297-301 قوله تعالى: "اقتربت الساعة وقد انشق القمر"، وقد جواب وقوع أمر كان متوقعا "297". قوله تعالى: {وكل أمر مستقر} ووجه رفع "كل" "297". قوله تعالى: {إلى شيء نكر} والمعنى على الوصف بجملة الماضي "298". قوله تعالى: {لمن كان كفر} ، وتفسير القراءتين "298". قوله تعالى: {أيشر منا واحدا نتبعه} وإعراب الآية "298". قوله تعالى: {الكذاب الأشر} ، وقرئ: "الأشر"، و"الأشر" هي الأصل المرفوض لشر "299". "الأشر" مما جاء على فعل وفعل "299". قوله تعالى: {كهشيم المحتظر} ، ومصدرية "المحتظر" "300". قوله تعالى: {إنا كل شيء خلقناه} ، ووجه اختيار رفع "كل" على خلاف رأي الجماعة "300"، محمد بن يزيد يختار النصب يحتج له فيرد ابن جني عليه "300". قوله تعالى: {في جناب ونهر} ، وجمع فعل على فعل "300"، معاملة المقدر معاملة المستعمل أحيانا "301". سورة الرحمن: 302-306 قوله تعالى: {والسماء رفعها} ووجه كون رفع "السماء" أظهر "302"، قراءة النصب رد على أبي الحسن في منع بعض الأساليب المشابهة "302".
قوله تعالى: {ولا تخسروا} ، وقرئ: "ولا تخسروا"، وتوجيه القراءتين "303". قوله تعالى: {سنفرغ} ، بقية القراءات وتوجيهها "304". قوله تعالى: {ونحس} ، وتفسير الكلمة "304". قوله تعالى: {من استبرق} ، وتخريج القراءة على التسمية بالفعل مع استتار الضمير فيه "304". قوله تعالى: "ولا جأن" "305" ، وانظر الصفحة 46 من الجزء الأول. قوله تعالى: "رفارف خضر وعباقري حسان"، وصرف "عباقري أشبه بكلام العرب "305" شذوذ منعه في القياس لا يجعل استعماله منكرا "306". سورة الواقعة: 307-310 قوله تعالى: {خافضة رافعة} : تعدد الحال واعتبارها زيادة في الخبر "307"، "إذا" قد تفارق الظرفية إلى الابتداء "307". قوله تعالى: {ولا ننزفون} ، وكلام عن أنزف ونزف "308". قوله تعالى: {وحورا عينا} ، والنصب بفعل مضمر "309". قوله تعالى: {إذا متنا وكنا ترابا وعظاما إنا} ، ومخرج الخبر على الاستهزاء. "309". قوله تعالى: "فلأقسم"، والكلام حالي الزمن وعلى مبتدأ محذوف "309". زيادة "لا" في {فلا أقسم بمواقع النجوم} "309". قوله تعالى: {وتجعلون شكركم أنكم تكذبون} والكلام على حذف مضاف "310". قوله تعالى: {فروح} ، ورجوع الروح إلى معنى الروح "310". سورة الحديد: 311-314 قوله تعالى: {بين أيديهم وبإيمانهم} ، ووجه عطف "بإيمانهم" على "بين أيديهم" "311". قوله تعالى: {وغركم بالله الغرور} ، والمعنى على مضاف محذوف "311". قوله تعالى: {ألما يأن للذين} : رد لما في الأصل إلى لم وبيان الفرق بينهما في الاستعمال "312". كيف صارت لما ظرفا وهي في الأصل حرف؟ "312". قوله تعالى: {وآتيناه الأنجيل} ، ووزن أفعيل شاذ "313". قوله تعالى: "ليلا يعلم أهل الكتاب} ، وقرئ: "ليلا"، وكسر اللام أقرب ووجهه "313". فتح لام الجر مع الظاهر مروي "314". من إبدال أحد المثلين "314".
سورة المجادلة: 315 قوله تعالى: {ما تكون من نجوى ثلاثة} ، وتذكير الفعل هو الوجه "315". قوله تعالى: {تفاسحوا} ووجه كون "تفاسحوا" لائقا بالغرض "315". قوله تعالى: {اتخذوا إيمانهم} ، والكلام على حذف مضاف "315". سورة الحشر: 316-318 قوله تعالى: {كي لا تكون دولة} : كلام عن الدولة والدولة وإعراب الآية "316". قوله تعالى: {جدر} ، و {جدر} مخفف "جدر" "316". جدار مفرد واقع مكان الجمع، أو جمع جدار أيضا "316" فعال أخت فعيل، ولذا كسرت مثلها على فعال "317". قوله تعالى: {القدوس} ، وقلة فعول في الصفات "317"، أمثلة منه في الأسماء "318". قوله تعالى: {ولا تجعل في قلوبنا غمرا} ، ومعنى الآية "318". سورة الممتحنة: 319-320 قوله تعالى: {براء} ، وتكسير برئ على أربعة أوزان "319". قوله تعالى: {فعقبتم} ، وبقية القراءات وتوجيهها "319". سورة الصف: 321 قوله تعالى: {وهي يدعي إلى الإسلام} ، و"يدعى" في معنى ينتسب، ولذا عدى بإلى "321". سورة الجمعة: 321-322 قوله تعالى: {فتمنوا الموت} "321"، وانظر الصفحة 54 من الجزء الأول. قوله تعالى: {فامضوا إلى ذكر الله} ، وهذه القراءة تفسر الأخرى "322". سورة المنافقين: 322-323 قوله تعالى: {اتخذوا إيمانهم جنة} ، والكلام على حذف المضاف "322". قوله تعالى: "آستغفرت لهم"، وقرئ: "استغفرت"، ووجه كون القراءتين خلاف الوجه "322".
سورة التغابن: 323 قوله تعالى: {يهدأ قلبه} ، ومعنى الآية "323". سورة الطلاق: 323-324 قوله تعالى: {فطلقوهن في قبل عدتهن} ، وتصديق هذه القراءة لمعنى قراءة الجماعة "323". قوله تعالى: {إن الله بالغ أمره} ، ومعنى الآية في هذه القراءة "324". سورة التحريم: 324 قوله تعالى: {وقودها} ، والكلام على حذف مضاف "324". قوله تعالى: {وبإيمانهم} "324"، وانظر الصفحة 311 من هذا الجزء. قوله تعالى: {وكتبه وكانت} ، وقرئ: "وكتابه"، والكتب أجمع من الكتاب، ووضع المضاف موضع الجنس "324". سورة الملك: 325 قوله تعالى: {وقيل هذا الذي كنتم به تدعون} ، تفسير الآية وبيان معنى "تدعون" في القراءة الأخرى "325". سورة القلم: 325-327 قوله تعالى: {إيمان علينا بالغة} ، وإعراب الآية "325". قوله تعالى: {يوم تكشف عن} ، وقرئ: "تكشف"، إضمار فاعل "تكشف" لدلالة الحال "326" المعنى مع "تكشف" على نحو من "تكشف" "326". قوله تعالى: {لولا أن تداركه} ، وكلام عن حكاية الحال الماضية "326". سورة الحاقة: 328-330 قوله تعالى: {وحملت الأرض} ، وبناء الفعل لمفعوله الثاني "328" قوله تعالى: {الخاطيون} ، وتخريج التخفيف في الكلمة من وجهين "329". قوله تعالى: {ولو يقول علينا بعض الأقاويل} ، وفي هذه القراءة تعريض بالقراءة الأخرى "329".
سورة المعارج: 330 قوله تعالى: "سال سيل"، وكلام عن المصدر بمعنى اسم الفاعل، وعن تكسيره بسبب ذلك "330". سورة نوح: 330 لا شيء فيها سورة الجن: 331-334 قوله تعالى: {أحي} ، وهمزة الواو إذا ضمت ضما لازما "331". إبدال الواو ألفا لانفتاح ما قبلها وإن كانت ساكنة، وتخريج: {ارجعن مأزورات} "331". قوله تعالى: {جدا ربنا} ، وقرئ: "جد ربنا"، وتخريج القراءتين "332". قوله تعالى: {أن لن تقول} ، وإعراب "كذبا" على هذه القراءة والقراءة الأخرى "333". قوله تعالى: {وأن لو استقاموا} "313"، وانظر الصفحة 54 من الجزء الأول. قوله تعالى: {لبدا} ، وقرئ: "لبدا"، وأوصاف على فعل وفعل "334". سورة المزمل: 335-337 قوله تعالى: {المزمل} و {المدثر} ، والكلام على حذف المفعول "335". قوله تعالى: {قم الليل} ، والتخلص من التقاء الساكنين يمكن بكل حركة "335". قوله تعالى: {وأقوم قيلا"، و"أصوب"، واعتبار المعاني في التعبيير "336". سورة المدثر: 337-340 قوله تعالى: {ولا تمنن تستكثر} ، وقرئ: "تستكثر"، وتخريج الجزم من وجهين والنصب بإضمار أن "337". قوله تعالى: {تسعة عشر} ، بقية القراءات وتخريج كل منها "338". قوله تعالى: {صحفا منشرة} ، وسكون الحاء هنا لغة تميمية "340" و"منشرة" على تشبيه شيء بشيء "340".
سورة القيامة: 341-344 قوله تعالى: {لأقسم} ، وقرئ: "لا أقسم"، والقسم بالأولى لا الثانية "341" الكلام على حذف مبتدأ في الأولى "341". قوله تعالى: {المفر} ، وقرئ: "المفر"، وتوجيه القراءتين وقراءة "المفر" "341". قوله تعالى: {وأيقن أنه الفرار} ، وتأويل قول ابن عباس عن هذه القراءة: ذهب الظن "342". قوله تعالى: {أن يحيي الموتى} ، وإسكان الياء نصبا من أحسن الضرورات ولا مانع منه في النثر "343". كلام عن قولهم: "حيرى دهر" "343". سورة الإنسان: 344 قوله تعالى: {واستبرق} "344"، وانظر الصفحة 304 من هذا الجزء. قوله تعالى: {والظالمون أعد} ، ووجه رجحان نصب "الظالمون" "344". سورة المرسلات: 345-347 قوله تعالى: {فالملقيات ذكرا} ، ومعنى "الملقيات"، و"الملقيات" "345". قوله تعالى: {وقتت} ، وقرئ: "ووقتت"، ومعنى الفعلين "345". قوله تعالى: {ثم نتبعهم} ، وإسكان العين إما للتخفيف وإما للجزم عطفا على "نهلك" "346". قوله تعالى: {كالقصر} ، وروى: "كالقصر"، وتفسير الكلمة في لغتيها "436". قوله تعالى: {جمالات صفر} ، وتفسير الآية "347". سورة عم يتساءلون: 347-349 قوله تعالى: {عما يتسألون} ، وضعف إثبات ألف ما الاستفهامية إذا دخل عليها الجار "347". قوله تعالى: {وأنزلنا بالعصرات} ، وتلاقي القراءتين "348". قوله تعالى: {وكذبوا بآياتنا كذابا} مصادر هذا الفعل وأوصاف منه "348". "كذبذب" من الأمثلة التي فاتت سيبويه "348". قوله تعالى: {عطاء حسابا} ، واشتقاق فعال من أفعل "349" من أمثلة الاشتقاق من الحروف "349".
سورة النازعات: 350-351 قوله تعالى: "في الحفرة"، وتخريج "الحفرة" من وجهين "350". قوله تعالى: {والجبال أرساها} "350"، وانظر الصفحة 334 من هذا الجزء. قوله تعالى: {والأرض مع ذلك دحاها} ، ووجه تلاقي القراءتين "351". قوله تعالى: "وبرزت الجحيم لمن ترى"، وتخريج الخطاب هنا من وجهين "351". إرادة الجنس ببعضه "351". قوله تعالى: {إيان} "351"، وانظر الصفحة 268 من الجزء الأول، والصفحة 288 من هذا الجزء. سورة عبس: 352-353 قوله تعالى: "آن جاءه الأعمى" ، وتأويل "آن" و"أن" في الآية "352". قوله تعالى: {فأنت له تصدى} ، ومعنى الآية "352". قوله تعالى: {شانشره} "353"، وانظر الصفحة 340 من هذا الجزء. قوله تعالى: {شأن يغنيه} ، ووجه قوة قراءة الجماعة وإن كانت هذه حسنة "353". سورة كورت: 353 لا شيء فيها سورة الانفطار: 353-354 قوله تعالى: "يأيها الإنسان ما أغرك بربك الكريم"، والكلام على حذف مضافين "353". سورة المطففين: 354 لا شيء فيها سورة انشقت: 354 كذلك سورة البروج: 354 كذلك
سورة الطارق: 354-355 قوله تعالى: {فمهل الكافرين مهلهم رويدا} ، والتفريق بين القراءتين "354" من دلائل كلفة التكرير "355". سورة الغاشية: 356-358 قوله تعالى: {عاملة ناصبة تصلى} ، والنصب على الذم "356". قوله تعالى: {إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت ... } ، وحذف المفعول لدلالة المعنى عليه "356". قوله تعالى: {وإلى الأرض كيف سطحت} ، ووجه التضعيف هنا "356". قوله تعالى: {ألا من تولى} ، وإعراب الآية "357". قوله تعالى: {إن إلينا إيابهم} ، و"إياب" فعال من أوب، لكن قلب الواو ياء استحسانا "357". من قلب الواو ياء "358". تخريجات أخر له "358". سورة الفجر: 359-361 قوله تعالى: {بعاد أرم ذات العماد} ، وبقية القراءات وتوجيه كل قراءة "359". قوله تعالى: "فادخلي في عبدي"، وإرادة الجمع بالواحد "360". وانظر الصفحة 84 من هذا الجزء. سورة البلد: 361-363 قوله تعالى: {لأقسم بهذا البلد} "361"، وانظر الصفحة 341 من هذا الجزء. قوله تعالى: {ما لا لبدا} "361"، وانظر الصفحة 334 من هذا الجزء. قوله تعالى: {في يوم ذا مسغبة} ، وتخريج "ذا" من وجهين "362". الوصف على موضع الجار والمجرور "362". سورة والشمس: 363 قوله تعالى: {بطغواها} ، ومصادر على فعلى "363".
سورة التكاثر: 371 قوله تعالى: {لترون الجحيم ثم لترونها} ، إجراء غير اللازم مجرى اللازم "371". الساكنان هنا فيما هو كالكلمة "371" الفرق بين حركتي الساكنين اتصالا وانفصالا "371" سورة العصر: 372 لا شيء فيها سورة الهمزة: 372 مثله سورة الفيل: 373-374 قوله تعالى: {ألم تر كيف} ، وكلام عن استهلاك الحرف والحركة "373". قوله تعالى: {فتركهم كعصف مأكول} ، وإقامة المسبب مكان السبب "374". قوله تعالى: {ترون} "374"، وانظر الصفحة 371 من هذا الجزء. سورة قريش: 374 لا شيء فيها سورة أرأيت: 374 قوله تعالى: {الذي يدع اليتيم} ، والتقاء القراءتين "374". سورة الكوثر: 374 لا شيء فيها سورة الكافرون: 374 كذلك سورة النصر: 374 كذلك
سورة الليل: 364 قوله تعالى: "والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى"، وهذه القراءة شاهد لقراءة "وما خلق الذكر" "364". سورة الضحى: 364-365 قوله تعالى: {ما ودعك} ، واستعمال ودع قليل، استغنى عنها بترك "364". تخريج بيت الفرزدق: وعض زمان الخ "365". سورة ألم نشرح: 366-367 قوله تعالى: {ألم نشرح لك صدرك} ، وفتح "نشرح" للتوكيد بالنون وحذفها "366". سورة التين: 367 لا شيء فيها سورة اقرأ: 367 مثله سورة القدر: 368 قوله تعالى: {من كل امرئ سلام} ، وتفسير الآية على هذه القراءة "368". سورة لم يكن: 369 قوله تعالى: "أولئك هم خيار البرية"، وتخريج خيار من أربعة أوجه "369". سورة الزلزلة: 369 لا شيء فيها سورة العاديات: 370-371 قوله تعالى: {فأثرن به} ، ورد "أثر" إلى أصله اللغوي: 370. قوله تعالى: {فوسطن به} وكلام عن الإضمار للدليل "370". سورة القارعة: 371 لا شيء فيها
سورة تبت: 375 قوله تعالى: "ومريئته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد"، ومعنى الآيتين وإعرابهما "375". سورة الإخلاص: 375 لا شيء فيها. سورة الفلق والناس: 375 قوله تعالى: {ملك الناس} ، والملك أليق بالربوبية من الملك "375".
الفهارس العامة
الفهارس العامة مدخل ... الفهارس العامة: 1 فهرس الآيات. يردها بعض العلماء. 2 فهرس القراءات التي يردها بعض العلماء ويحتج لها ابن جني. 3 فهرس القراءات التي يتعقب فيها ابن جني بعض العلماء. 4 فهرس الأحاديث. 5 فهرس الأمثال. 6 فهرس الشعر والرجز. 7 فهرس أنصاف الأبيات. 8 فهرس لهجات القبائل. 9 فهرس الأعلام. 10 فهرس القبائل والعشائر والأمم. 11 فهرس البلاد والأماكن ونحوها. 12 فهرس مراجع التحقيق. ويلي الفهارس العامة تصحيح أخطاء الطبع.
فهرس الآيات القرآنية
1- فهرس الآيات القرآنية السور الآيات أرقامها موضعها في الكتاب فاتحة الكتاب إياك نعبد وإياك نستعين 5 1: 146 صراط الذين أنعمت عليهم 7 1: 146 البقرة الله يستهزئ بهم 15 1: 259 البقرة في طغيانهم يعمهون 15 1: 132 البقرة اشتروا الضلالة 16 1: 247، 292، 2: 97، 333 البقرة ذهب الله بنورهم 17 2: 214 البقرة مثلا ما بعوضة 26 2: 255 البقرة اسكن أنت وزوجك الجنة 35 1: 315 البقرة فمن تبع هداي فلا خوف عليهم 38 2: 46 البقرة واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا 48، 123 2: 163 البقرة ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت 65 1: 112، 2: 160 البقرة لا ذلول تثير الأرض 71 2: 163 البقرة قالوا الآن جئت بالحق 71 1: 247 البقرة فادارأتم فيها 72 2: 143 البقرة وما الله بغافل عما تعملون 74 2: 28 البقرة ومنهم أُمِّيُّون 78 1: 358 البقرة وقولوا للناس حسنا 83 2: 363 البقرة وهو الحق مصدقا 91 2: 276 البقرة فتمنوا الموت 94 1: 292 البقرة من كان عدوا لله وملائكته 98 2: 53
السور الآيات أرقامها موضعها في الكتاب البقرة كل له قانتون 116 2: 146 البقرة صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة 138 2: 127 البقرة يريهم الله أعمالهم حسرات 167 2: 356 البقرة فما أصبرهم على النار 175 2: 353 البقرة أُحِلَّ لكم ليلة الصيام الرفث 187 1: 364، 2: 15 البقرة ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة 195 2: 114 البقرة فمن كان منكم مريضا أو به أذى 196 2: 169 البقرة لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم 225 2: 209 البقرة والمطلقات يتربصن 228 2: 20 البقرة وللمطلقات متاع بالمعروف 241 2: 326 البقرة فرجالا أو ركبانا 239 2: 22 البقرة ثم ادعهن يأتينك سعيا 260 1: 255، 2: 132 البقرة لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت 286 2: 134، 196 آل عمران الم الله لا إله إلا هو 1، 2 1: 240 آل عمران ومكروا ومكر الله 54 1: 356 آل عمران هأنتم هؤلاء حاججتم 66 1: 181 آل عمران ليس لك من الأمر شيء 128 1: 168 آل عمران فما وهنوا لما أصابهم 146 1: 167 آل عمران إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِه 152 2: 304 آل عمران إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى 156 2: 177 آل عمران الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم 173 1: 189 آل عمران لتبلون في أموالكم 186 2: 42 النساء وخلق الإنسان ضعيفا 28 1: 66، 104، 135، 2: 229 النساء ولا جنبا إلا عابري سبيل 43 2: 85
السور الآيات رقمها موضعها في الكتاب النساء يحرفون الكلم عن مواضعه 46 1: 224 النساء إن الله يأمركم 58 1: 257 النساء ولهديناهم صراطا مستقيما 68 1: 43 النساء أفلا يتدبرون القرآن 82 2: 100 النساء أو جاءوكم حصرت صدروهم 90 1: 250 النساء وكان الله غفورا رحيما 96 1: 114 النساء لتحكم بين الناس بما أراك الله 105 1: 128، 176، 2: 222 النساء إن يدعون من دونه إلا إناثا 117 1: 352 النساء يعدهم ويمنيهم 120 1: 155 النساء ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب 123 1: 94، 118 النساء وكان الله سميعا بصيرا 134 1: 114 النساء إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح 163 2: 61 النساء يأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم 171 2: 140 المائدة إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم 6 1: 135 المائدة وامسحوا برءوسكم وأرجلكم 6 1: 252 المائدة ولا تزال تطلع على خائنة منهم 13 1: 287 المائدة بل يداه مبسوطتان 64 2: 279 المائدة كانا يأكلان الطعام 75 2: 159 المائدة ومن عاد فينتقم الله منه 95 2: 357 المائدة أُحِلَّ لكم صيد البحر 96 1: 343 المائدة إذ أّيَّدُتك بروح القدس 110 1: 95 المائدة أأنت قلت للناس 116 2: 179 المائدة فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم 117 1: 125 الأنعام وهو الله في السموات 3 1: 99
السور الآيات رقمها موضعها في الكتاب الأنعام فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون 5 2: 325 الأنعام ويوم نحشرهم جميعا 22 2: 54 الأنعام يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا 27 1: 252 الأنعام ولو ردوا لعادوا 28 1: 193 الأنعام ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق 62 2: 107 الأنعام والملائكة باسطوا أيديهم 93 1: 108 الأنعام لقد تقطع بينكم 94 2: 190 الأنعام وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون 109 1: 181 الأنعام إن ربك هو أعلم من يضل 117 2: 219 الأنعام وهو وليهم بما كانوا يعملون 127 1: 99 الأنعام ما أشركنا ولا آباؤنا 148 2: 131 الأنعام لا ينفع نفسا إيمانها 158 2: 55 الأنعام من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها 160 1: 81، 2: 134 الأنعام ومحياي ومماتي 162 1: 124، 342، 2: 239 الأعراف قال اخرج منها مذءوما 18 2: 57 الأعراف قل إنما حرم ربي الفواحش 33 2: 195 الأعراف وما كان جواب قومه إلا أن قالوا 82 2: 115، 314 الأعراف فإذا هي تلقف ما يأفكون 117 1: 38 الأعراف ويذرك وآلهتك 127 2: 123 الأعراف رب أرني أنظر إليك 143 1: 204 الأعراف واختار موسى قومه سبعين رجلا 155 1: 272، 2: 62،105 الأعراف سنستدرجهم من حيث لا يعلمون 182 1: 356 الأعراف لا يجليها لوقتها إلا هو 187 2: 282، 323 الأعراف سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون 193 2: 244 الأعراف إن وليي الله 196 1: 362
السور الآيات رقهما موضعها في الكتاب الأعراف خذ العفو وأمر بالعرف 199 1: 128 الأنفال إني ممدكم بألف من الملائكة مردفين 9 1: 60، 2: 170 الأنفال وما رميت إذ رميت 17 1: 176 الأنفال إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح 19 1: 360 الأنفال يحول بين المرء وقلبه 24 1: 356 الأنفال إذ يريكهم الله في منامك قليلا 43 1: 155 التوبة واعلموا أنكم غير معجزي الله 2 2: 80 التوبة أن الله بريء من المشركين ورسوله 3 2: 169 التوبة واقعدوا لهم كل مرصد 5 1: 272، 2: 303 التوبة وجاء المعذرون من الأعراب 90 1: 60، 273، 2: 138 التوبة وأعينهم تفيض من الدمع حزنا 92 1: 188 يونس حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة 22 1: 145، 2: 308 يونس حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت 24 1: 61 يونس مكانكم أنتم وشركاؤكم 28 1: 186 يونس أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى 35 1: 65، 245 يونس ومنهم من يستمعون إليك 42 1: 191، 192. 2: 145، 179، 228 يونس أفأنت تسمع الصم 42 1: 168 يونس فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا 58 1: 51، 106 يونس أن تَبَوَّءا لقومكما بمصر بيوتا 87 1: 67 يونس فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا 90 1: 226 يونس ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا 99 1: 252 يونس كذلك حقا علينا ننجي المؤمنين 103 2: 111 هود وما آمن معه إلا قليل 40 1: 168
السور الآيات رقمها موضعها في الكتاب هود يا ويلتا أألد وأنا عجوز 72 2: 213 هود هؤلاء بناتي هن أطهر لكم 78 2: 69 هود خالدين فيها ما دامت السموات والأرض 107 2: 38 يوسف إذ قال يوسف لأبيه يا أبت 4 1: 277، 323 يوسف يلتقطه بعض السيارة 10 1: 237، 2: 186 يوسف وجاءوا على قميصه بدم كذب 18 2: 333 يوسف يا بشرى هذا غلام 19 2: 49 يوسف وغلَّقت الأبواب 23 1: 301 يوسف وقالت اخرج عليهن 31 1: 71 يوسف هذه سبيلي 108 1: 244 الرعد إنما أنت منذر ولكل قوم هاد 7 1: 168 الرعد وكل شيء عنده بمقدار 8 1: 223 الرعد والملائكة يدخلون عليهم من كل باب 23 1: 250، 2: 127، 265 إبراهيم يتجرعه ولا يكاد يسيغه 17 2: 199 إبراهيم ما أنا بمصرخكم 22 2: 49 إبراهيم كشجرة خبيثة اجتثت 26 1: 346 إبراهيم وضربنا لكم الأمثال 45 1: 164 إبراهيم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال 46 2: 314 الحجر إنا نحن نزلنا الذكر 9 1: 24 الحجر وأرسلنا الرياح لواقح 22 1: 49، 2: 242 النحل الذين تتوفاهم الملائكة 28 1: 125 النحل وما بكم من نعمة فمن الله 53 2: 90 النحل فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله 98 1: 135، 168 النحل إلا من أُكْرِهَ وقلبه مطمئن 106 2: 323 النحل وإن ربك ليحكم بينهم 124 1: 305
السور الآيات رقمها موضعها في الكتاب الإسراء إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم 9 2: 37 الإسراء وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه 13 1: 202 الإسراء وإن من شيء إلا يسبح بحمده 44 1: 270 الإسراء وآتينا ثمود الناقة مبصرة 59 2: 63 الإسراء أرأيتك هذا الذي كرمت علي 61 1: 121 الإسراء يوم ندعو كل أناس بإمامهم 71 2: 159 الإسراء ومن كان في هذه أعمى 72 2: 57 الإسراء فأبى أكثر الناس إلا كفورا 89 2: 351 الكهف لنعلم أي الحزبين أحصى 12 1: 229 الكهف لو اطلعت عليهم 17 1: 55 الكهف ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا 28 1: 140 الكهف وقل الحق من ربكم 29 1: 55، 283، 2: 336 الكهف إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات 30 1: 236 الكهف لكنا هو الله ربي 38 1: 70، 224 الكهف فأصبح هشيما تذروه الرياح 45 1: 156 الكهف وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا 47 2: 55 الكهف وكان الإنسان أكثر شيء جدلا 54 1: 321 الكهف وما أنسانيه إلا الشيطان 63 1: 128 الكهف لقد جئت شيئا إمرا 71 2: 16 مريم كهيعص ذكر رحمة ربك 1، 2 1: 241 مريم فأتت به قومها تحمله 27 1: 254 مريم ثم لننزعن من كل شيعة أيهم 69 2: 85 أشد على الرحمن عتيا مريم تكاد السموات يتفطرن منه 90 2: 140 مريم وكلهم آتيه يوم القيامة فردا 95 2: 146