المحاضرات في اللغة والأدب

الحسن اليوسي

مقدمة المؤلف

مقدمة المؤلف بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أنزل من سماء رحمته غيثاً نافعاً، فأنبت به في قلوب عباده زهراً ناضراً وثمراً يانعاً. زهر من العلم والعرفان مؤتلق ... في الطرس والنفس يستهدي بألوان وثمر يجتنيه الأذكياء بتش ... مير ولا يجتنيه الفدم والواني لله در كرام فاو فائزهم ... قدْماً بحلب درور منه ملْبان وبابتناء مبان منه سامية ... لا يبتني مثلها في دهره الباني هذا هو المجد في الدارين والشرف ال ... محض الذي ما به في فضل ثان " فاعكف عليه " مع الآناء معتنياً ... ولا يكن لك عن تطلابه ثان واعلم بأنك لن تحظى بصهْوته ... حتى تجوز المدى في كل ميدان ما لم تسنح عليه كلما شجر ... يرجى الجني منه أرضي وعَبْدان وتبذل النفس بعد المال مطرحاً ... لكل ترفيه أرواح وأبدان وتغترب برهة في كل آلفة ... من ذات قربى وأوطان وإخوان والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد ينبوع الأحكام والحكم، ومجموع شيم الفضائل وفضائل الشيم، وعلى آله ذوي المجد والكرم، وصحبه بحور العلوم ونجوم الظلم. أما بعد، فإن الدهر أبو العجائب، وينبوع الغرائب، وفي المثل: الدهر حبلى لا يدري ما تلد، وقال الشاعر: والليالي كما علمت حبالى ... مقْرِبات يلدن كل عجيبه وقال طرفة: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود وإن للعاقل على مرور الجديدين علماً جديداً حيث انتهى فهمه كما له عيش حيث تهدي ساقه قدمه وكنت قلت في نحو ذلك: أراني حيثما أخطُ ... أجد ما لم أجد قطُّ وإن الدهر حبلى كُلّ ... ما حين له سقط لقد سايرته طفلاً ... إلى أن مسني وخط فلم ينفك يشتد ... على المرء ويشتط ولم يأل إذا استعلى ... يوم الهون أو يسطو له في كل إذن من ... بني أبنائه قرط وفي كل قذال وس ... مة بالنار أو شرط وقد يحنو ويستأني ... وقد يحبو لمن يعطو سماء ديمة تأتي ... بزهر زهرها رُقط فحمر ومصفر ... وموفور ومُنْقَطُّ ومجدود ومحروم ... ومستعمل ومنحط ومنقاد ومعوج ... وكز الخلق أو سبط قضاء مبرم ممن ... إليه الحل والربط إلهٌ أمره الأمر ... ومنه الرفع والحط ومنه اليسر والعسر ... ومنه القبض والبسط له في كلِّ ما يومٍ ... شؤون منه تختط وذو الفهم له علم ... جديد حيثما يخطو ففكر واعتبر تعلم ... علوماً دونها الضبط وتدرك غير ما في الصح ... ف يوماً خلد الخط وسلم وأرض بالمقدو ... ر لا يذهب بك السخط ولا تبرم إذا المولى ... يشدّ الحبل أو يمطو فما ترجو من الرضوا ... ن أنْ تَرْضَى له شرط وإني قد اتفقت لي سفرة بان بها عني الأهل شغلاً وتأنيساً، وزايلني العلم تصنيفاً وتدريساً، فأخذت أرسم في هذا المجموع بعض ما حضرني في الوِطاب، مما أحال فيه أو حان له إرطاب وسميته " المحاضرات " ليوافق اسمه مسماه، ويتضح عند ذكره معماه وفي المثل ": " خير العلم ما حوضر به " وإنما أذكر فيه فوائد وطرفاً، وقصائد ونتفاً، وذلك مما اتفق لي في أيام الدهر من ملح، أو لغيري مما ينتقى ويستملح، ولا أذكر نادرة فيها معنى شريف إلاّ شرحته، ولا لطيفاً إلا وشحته، وذلك هو لباب الكتاب، وفائدة الخطاب، والله الملهم للصواب. وقد أذكر بعض ما صورته هزل يستهجن، وفيه سر يستحسن، وكما أن المقصود من الأشجار ثمارها، فالمطلوب من الأخبار أسرارها، وإنما حملني على الأخذ فيه أمور: منها التفادي من البطالة، التي هي مدرجة الجهالة والضلالة، ومنها إفادة جاهل أو تنبيه غافل، ومنها تخليد المحفوظ لئلا ينسى. وتفصيله نوعاً وجنسا، ومنها استمطار علم جديد، عند الاشتغال بالتقييد، فإن العلم كالماء نبَّاع، وبعضه تباع، وما هو في قلب ذكي الفؤاد، إلاّ كما قال امرؤ القيس عند وصف الجواد: يجم على الساقين بعد كلاله ... جموم عيون الحسي بعد المخيض

فوائد تسمية المؤلف

معنا تعليل النفس، ببعض الأنس، فإن النفس ترتاح للأحماض وتستشفي بروحه من الإمضاض ولا سيما مثلي ممن ترامت به الأقطار وتباعدت عنه الأوطان والأوطار وقلت في ذلك: سلا هل سلا عن أهله قلب معْنيِّ ... بريب الهوى والبين عن جيرة الحيِّ وهل ذلك الوجد الذي قد حشا الحشا ... مقيم على أديانه غير مكفيِّ وهل قلبه يوم النوى متقلب ... تقلب مفؤود اللظى ساعة الشيِّ وهل ينوي الأحباب مشفٍ على التوى ... وليس بوصل من حبيب بمشفيِّ وهل أعشبت تلك الشعاب وأمرعت ... فجاج مراعيها بعهد ووسميِّ وهل أُقْحُوانُ الجزع فاح ونده ... بعرف تهاداه الشمائل مسْكيِّ وهل تالك الأزهار تهتز نضرة ... بكل جميل في الخميلة مَوْليِّ وكل مُجودٍ في النجود تناوحت ... عليه الرياح من جنوبي وشرقيِّ إذا ما السحاب الغر عاطينها الحيا ... تمايلن نشوى من مدام شباميِّ وإن صافحتها بعد وهنٍ يد الصبا ... تنمت بأذكى من عبير وألويّ ِ فما شئت فيها من يواقيت تجتلي ... ومن كوكب يعشي النوال درّيّ ومن بسط تزري ابتهاجاً بمفرش ... أعدت بنو ساسان للبسط بَوْشيّ وهل لسليمى من ثواء بدارها ... سقى الله تلك الدار أطيب ما رِيِّ وحيا محياها الوسيم وإن لوت ... غريماً تقاضى وصلها طول ما لي وحيا زماناً للوصل بيننا ... تباشير كالصبح المنير على رَيِّ زمان ديار الحي دانٍ مزارها ... ونحن على عهد من الودّ مرعيِّ نعمنا بإيناس البروق من الحمى ... أنيساً وإن لم نحظ منه بإنسيِّ ونسمة أرواح الصبا وهبوبها ... علينا نموماً من صباها بمطويِّ وتنشاق آبالأجارع تعتلي ... بنفحته للمستهامين عطريِّ وكنّا على أنّا كأنّا بوصلها ... نغادي بكأس مطمئنين خمري ونرتع في روض المنى وننال ما ... نشاء ولا نرتاع من بين مَهْوِيِّ وعشنا زماناً لا نعاني صبابة ... ولا نتباكى من سليمى ولا ميِّ ولا نتشكّى من صدود ولا صدى ... ولا وجد مفؤود الجوانح مَبْريِّ ليالي كان الشمل منضبط الكلى ... وحبل التوالي مُحصَدٌ غيرُ مَفريِّ فلم تلبث الأقدار أن مددت بنا ... عناناً إلى شط النوى غير مَثْنيِّ فحالت موّامٍ دونها ذات منزع ... ودَيْنُ التداني قد غدا غير مقضيِّ وكان الذي خفنا يكون من النوى ... وصرنا لأمر مُذْ أحايين مَخْشيِّ على أن فضل الله ما انفك هامراً ... علينا ولطف دائم غير مَزْوِيّ فلا تغترر بالدهر يلقاك بشره ... فإن وراء البشر طعن الرُّدَيْنيِّ ولا تأمنن من هوله إن ريحه ... تهب إذا هبَّت عصوفاً بلُجِّيِّ ولا تغتبط من حظه بمنول ... ولو تاج ملْكٍ فوق أشمخ كرسيِّ فما حالة منه تدوم على امرئ ... ولو خال جهلاً أنه غير مَدْهيِّ وما هو إلاّ مثل دولابَ زارع ... فعُلويّه يعتاض حتماً بسُفْليّ فكم أنْزلتْ نَسْرَ السماء صروفُه ... وحلّت ببنت الماء دارة علْويّ وكم ضعضعت ملكاً وأفنت ممالكاً ... وكم عاد عاني ريبها غير مَفديّ وكم زَيّلت بين المحبين فاغتدى ... دم الصب من فتك الهوى غير موّديّ قضاء من المولى له كل ساعة ... تَصرّفُ مختار وإنجازُ مَقضيّ فأعْلقْ به أشطانَ قلبك واعتمد ... عليه تنل رشداً وتنج من الغيّ وقَف أبداً في بابه متأدباً ... منيباً بسعي عِند مولاكِ مرضيّ قنوعاً رَضُوَاً بالقضاء مسلماً ... بقلب على التوحيد والصدق محني فذاك الذي يرقى به لمنازل ... بها كل صديق حوى الفضل رِبّيّ وإن كنت لم تسعدك في ذلك القُوى ... فزاحم بمسْطاع مع الحب والزِّيِّ فإن جليس القوم ما إن يناله ... شقاء ومن عن حبهم غير مرميِّ ومن قد حكاهم فهو متهم وكل ذا ... أتى في حديث عن ذوي الصدق مرويِّ وكل امرئ يوماً سيجزى بما أتى ... من الخير بل يجزى على كل مَنْويِّ لله الأمر من قبل ومن بعد فوائد تسمية المؤلف

قد جرت عادة من ألف بل من كتب رسالة أن يتسمى في كتابه ليعرف وفي معروفيته فوائد منها في كلامه أن يعرف مذهبه أو مطلبه أو يتمكن جوابه أو يشهد له وعليه. ومن أهمها أن يعلم هل يوثق بنقله ويقتدي به في أصله، فإن كلام الحجة حجة، وإنما يعرف كونه حجة ومرتبته من العلم بشهادة أهل العلم، وذلك في ثلاثة أشياء: أحدها التصريح بذلك مشافهة أو في ترجمته ولذلك صنفت طبقات أهل العلم وأعتني بتراجمهم. ثانيها عده مع العلماء عند ذكرهم في مذهب أو وفاق أو خلاف أو حكاية كلامه فيما يحكى من كلام العلماء أو مذهبه أو نحو ذلك وهو كالتصريح. ثالثها الأخذ عنه أو إقراء تصانيفه أو شرحها أو تقليده أو نحو ذلك. وإنما يحصل له ذلك من ثلاثة أشياء: أحدها سماع كلامه مشافهة. ثانيها مطالعة تصانيفه والوقوف على تحريره وتحصيله أو سماع فتاويه وآرائه وكلامه بنقل الغير له كما مر وهلم جرّا. وبعد حصول مطلق المرتبة من العلم تحصل خصوصيات المراتب بشهادة من هو أهل لذلك بها بمشافهة أو في ترجمة أو اقتداء الأكابر به، أو ترجيحه على غيره أو نحو ذلك. ومنها في خارج أن تعرف مرتبته كما مرّ أو يتعرض لدعاء داع أو ثناء مثن بخير ومحبة وود وغير ذلك. فرأيت أن أتسمى في هذا المجموع وأضيف إلى ذلك ما اتفق لي من كنية وما أدركت من نسب بعد أن تعلم أن الاسم العلم ثلاثة: اسم وكنية ولقب. أما الاسم فهو من حيث هو ما أريد به من تعيين المسمى لا يعطى مدحاً ولا ذماً لصلاحية كل اسم لكل مسمى عند المحققين، ولكن إذا كان منقولاً فكثيراً ما يلاحظ فيه زيادة على تعيين المسمى مدلوله الأول الحقيقي أو المجازي فيشعر بمقتضاه إشعاراً. ومن هذا وقع التفاؤل والتطير بالأسماء، وكان صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن ويقول: " إذَا أبْرَدْتُمْ إليَّ بَرِيداً فَأبْرِدُوهُ حَسَنَ الْوَجْهِ حَسَنَ الاسْمِ ". وكان صلى الله عليه وسلم يغير من الأسماء ما لا يرضى، فسأل عن اسم ماء فقيل له: بيسان وماؤه ملح فقال: بل هو نعمان وماؤه عذب، فكان كذلك، وجاءه رجل فقال ما اسمك؟ قال: غاوي بن عبد العزي، فقال صلى الله عليه وسلم: بل أنت راشد بن عبد ربه، وجاءه آخر فقال ما اسمك؟ فقال: حزن، فقال: بل أنت سهل، فقال الرجل: ما كنت لأغير اسماً سماني به أبي، وكان الإمام سعيد المسيب - رضي الله عنه - والرجل من أجداده يقول: فما زالت الحزونة فينا. فانظر كيف حكم مدلول اللفظ الأول. وقال صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية حين أقبل سهيل من ناحية قريش: " سَهُلَ عَلَيْكُمْ أَمْرُكُم " ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: " أسْلَمُ سَالَمَهَا اللهُ، وَغفَارٌ غَفَرَ اللهُ لَهَا، وعُصَيَّةُ عَصَتِ اللهَ وَرَسُولَهُ " وقال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه وقد سأل عن اسم رجل استعمله أو أراد أن يستعمله فقيل له: هو خبيئة كناز: هو يخبأ، وأبوه يكنز، لا حاجة لنا به. وبدل صلى الله عليه وسلم برة بنت أبي سلمة بدرة فراراً من التزكية التي يعطيها اللفظ، وقال مولانا علي كرم الله وجهه: أنا الذي سمتني أمي حَيْدره وقال الحريري في " المقامات " على لسان الغلام: " أما أمي فاسمها برة، وهي كاسمها برهة " وقالت اليهود يوم خيبر لمولانا علي رضي الله عنه، وقد تقدم بالراية فتسمى لهم: علوتم ورب الكعبة، وقالت العرب في أمثالها: إنما سميت هانئاً لتَهْنأ. وقال الأخطل في كعب بن جعيل: وسميت كعباً بشر العظام ... وكان أبوك يسمى الجعل وإن مكانك من وائل ... مكان القرد من أست الجمل قال: " هما هذان ". وكان بعض الرؤساء القيسية أحضر جفاناً من طعام، وكان بالحضرة بعض مَلاسينِ بكر بن وائل فأراد القيسي أن يعبث به فقال له: ما رأى بكر بن وائل قط مثل هذه الجفان؟ فقال ما رآها ولا رآها أيضاً قط عيلان يعني جده هو، ولو رآها ما قيل له عيلان بل شبعان. وقالت هند بنت النعمان بن بشير تهجو زوجها الفيض بن أبي عقيل: سميت فيضاً وما شيء تفيض به ... إلاّ سُلاحك بين الباب والدار وقال الآخر: وللحرب سمينا فكنا محارباً ... إذا ما الْقَنا أمسى من الطعن أحمرا

ومما ينخرط في هذا السلك أن بعض الملوك عزل وزيراً له اسمه الياقوت فحلف الملك ليستوزن أول من يلقى فخرج فلقي رجلاً أعرابياً فاستوزره فإذا هو من أعقل الناس وأنجبهم فلما رأى الوزير الأول ذلك كتب إلى الملك: أحكم النسج كل من حاك لكن ... نسج داود ليس كالعنكبوت ألقني في لظى فإن غيرتني ... فتيقن أن لست بالياقوت يشير إلى أن الياقوت المعروف لا يفسد بالنار. فأجاب الآخر: نسج داود ما حمى صاحب الغا ... ر وكان الفخار للعنكبوت وفراخ السَّمَنْد في لهب النا ... ر أزالت فضيلة الياقوت أشار إلى السمندل وهو دويبة في ناحية الهند تتخذ من جلودها المناديل وتلقى في النار فلا تزداد إلاّ نضارة وحسناً ولا تحترق، والله على كل شيء قدير، إلى غير هذا مما لا ينحصر ولو تتبعناه لطال. وأما الكنية واللقب فيعتبران بوجهين: الأول نفس إطلاق الكنية واللقب وهما في هذا مختلفان، فإن الكنية الكثير فيها إذا لم تكن اسماً أن يراد بها التعظيم وينبغي أن يعلم أن الناس باعتبارها ثلاثة أصناف: صنف لا يكنى لحقارته، وهو معلوم من أن الحقارة أمر إضافي، فرب حقير يكون له من يراه بعين التعظيم فيكنيه، والمقصود أن التحقير من حيث هو حقير لا يكنى إلاّ هزءاً أو تلميحاً، وصنف لا ينبغي أن يكنى لاستغنائه عنها وترفعه عن مقتضاها، ومن ثم لا يكنى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأنهم أرفع من ذلك حتى إنهم أشرفت رفعتهم على أسمائهم فشرفت، فإذا ذكروا بها كانت أرفع من الكنى في حق غيرهم، وللملوك وسائر أكابر الناس نصيب من هذا المعنى، وصنف متوسط بين هذين، وهو الذي يكنى تعظيماً، ثم إن كان التعظيم مطلوباً ككنية أهل العلم والدين ومن يحسن شرعاً تعظيمه فحسن، وكذا اكتناء المرء بنفسه إن كان تحدثاً بالنعمة أو تبركاً بالكنية باعتبار من صدرت عنه أو نحو ذلك من المقاصد الجميلة فحسن، وإلاّ فمن الشهوات النفسانية، فما كان تكبراً أو تعظيماً لمن لا يجوز تعظيمه بغير ضرورة ونحو ذلك فحرام، وإلاّ فمباح، وليس من هذا الباب ما يقصده به مجرد الإخبار فقط كقولك جاء أبي أو أبو فلان هذا أي والده، ولا يقصد به معناه على وجه التفاؤل مثلاً نحو أبي الخير وأم السعد. وأما اللقب فيقصد به كل من المدح والذم وغير ذلك، والحكم كالذي قبله. الوجه الثاني النظر إلى مدلولهما الأصلي، وهما في ذلك كما مرّ في الاسم بل ذلك هنا أولى، لأن الأصل فيه أوضح، ولبعضهم في ذلك: أتيت أبا المحاسن كي أراهُ ... بشوق كاد يجذبني إليه فلما أن أتيت رأيت فسرداً ... ولم أرَ من بنيهِ ابناً لديه يريد أن لفظه ينبئ عن كون المحاسن لازمة له لزوم الأولاد لأبيهم، ثم إنها لم يجدها عنده، وكذا يقال في أبي المكارم وأبي الفضل وأبي البخت وجمال الدين وشمس الأئمة، والأصل في جميع هذا أن المستحسن في العقول وإن لم يكن لازماً خلافاً لمن زعم ذلك أن يطابق الاسم أي مدلوله الأصلي حتى يصير الاسم كأنه وصف مشتق لموصوف بمعناه، فإن لم يكن كذلك فإن التسمية خطأ، وكأن الاسم لا مسمى له، ومن هذا جاءت العادة بتخير الاسم عند التسمية وكذا عند الملاقاة كقصة البريد السابقة، أما التخير عند التسمية فلفائدتين: إحداهما التلذذ بسماعه وتجمل المسمى بذلك، الثانية التفاؤل بأن يصدق معناه، وذلك على حساب ما يريده، وللناس أغراض تختلف، وقد قيل لبعض العرب: لم تسمون عبيدكم نافعاً ومرزوقاً وأولادكم حرباً ومرة فقال: إنا نسمي أولادنا لأعدائنا ونسمي عبيدنا لأنفسنا أي فلا فرق بين فائدة النفع وفائدة الدفع وحلاوتهما، بل الدفع أهم. وكان وادي السباع في بلاد العرب وفيه قال قائلهم: مررت على وادي السباع ولا أرى ... كوادي السباع حين تبصر واديا أشد به ركباً أتوهُ تَئيّةً ... وأخوف إلاّ وما وقى الله ساريا قيل: سبب تسميته أن امرأة من العرب كانت نزلته ولها عدة أولاد فوجدها رجل يوماً وحدها فهم بها فقامت تصيح بأولادها وتقول: يل ليث، يا نمر، يا أسد، يا كذا، وهي أسماؤهم، فأقبلوا إليها يشتدون، فانطلق الرجل وهو يقول: هذا وادي السباع.

تتمة

أما التخير عند الملاقاة والمعاملة فلفائدتين أيضاً: إحداهما التلذذ والتفاؤل، الثانية رجاء أن يكون قد طابق فوجد معناه ويكون حسن الاسم دالاً على حسن المسمى كما تقرر في الفراسة الحكمية من أن حسن الخلق دليل على حسن الخلق، وفي الحديث: " اطْلُبُوا الخَيْرَ عنْدَ حِسَانِ الوُجُوهِ " على وجه، ولم يبعث الله تعالى نبياً إلاّ حسن الوجه حسن الاسم، وفي كلام العامّة: الاسم يدل على المسمى. ومن التفاؤل الصادق والرجاء الواقع ما وقع لعبد المطلب في تسمية نبينا صلى الله عليه وسلم حيث سماه باسمه الشريف، وكان هذا الاسم غير معتاد عندهم، فقيل له: لمَ سميته بهذا وليس من أسماء آبائك، فقال: رجاء أن محمد في السماء والأرض، فكان ذلك، ويحتمل أن يكون كان عنده من ذلك علم ممن لقي من أهل ذلك العلم كسيف بن ذي يزن ونحوه. وقد يكون سبب تخير الاسم مشايعة من تسمى به تبركاً به أو إحياء لذكره أو رجاء الشبه به أو نحو ذلك، وفي الحديث: " وُلدَ ليَ اللَيْلَةَ وَلَدٌ فَسَمّيْتَهُ باسْمِ أبي إبْرَاهيمَ " وقيل: لما نزل قوله تعالى:) يا أُخْتَ هَارُونَ (قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف تكون أخت هارون وبينهما دهر طويل، فقال صلى الله عليه وسلم: " إنّهُمْ كَانُوا يُسَمّونَ بأسْمَاءِ أنْبيَائهمْ " أي هو هارون آخر سمي باسم هارون بن عمران عليه السلام. واعلم أن التلذذ المذكور في هذا القسم خلاف المذكور فيما مرّ، فإنّ ذلك تلذذ بالاسم بسبب حضور معناه الأصلي كسعد وسعيد ووردة وياسمين، وهذا تلذذ بالاسم لحضور من كان تسمى به من غير التفات إلى مدلول اللفظ الأصلي، فكل من سمع اسماً كان وقع على مسمى آخر فقد يستشعر ذلك المسمى الآخر في الاسم فيوجب له ذلك الاستشعار أموراً، إما تعظيماً ومنه بدل أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه اسم ولد كان اسمه محمد فسمع رجلاً يوماً يشتمه ويقول: فعل الله بك يا محمد وفعل، فقال: لا أرى اسم النبي صلى الله عليه وسلم يُسَبّ بكَ، وكان بعض الرؤساء كلم خديماً له اسمه محمد في أمر وخاطبه باسم آخر وهم أنه غضبان عليه، فدخل على الخديم من ذلك جزع عظيم حتى يبين له بعد ذلك أنه إنما كان على جنابة فلم يستطع أن ينطق بهذا الاسم الشريف وهو جنب، رحمه الله تعالى وجزاه خيراً، وإما تلذذاً أو استئناساً أو اشتياقاً أو نحو ذلك لكونه أليفاً أو محبوباً. وكان المجنون لما اشتد به حاله قام أهله فقالوا: نذهب به إلى الحجّ وزيارة البيت ففعلوا، فلما أقبلوا على مكة قالوا له: يا قيس، هذا بلد الله وهذا بيته فادع الله تعالى أن يعافيك من حب ليلى فأنشأ يقول: ذكرتك والحجيج له ضجيج ... بمكة والقلوب لها وجيبُ فقلت ونحن في بلد حرام ... به لله أخلصت القلوب: أتوب إليك يا رحمان مما ... جنيت فقد تكاثرت الذنوب فأما من هوى ليلى وحبّي ... زيارتها فإني لا أتوب فكيف وعندها قلبي رهيناً ... أتوب إليك منها أو أُنيب فأيسوا منه ثم سكن شيئاً ما فلما بلغوا ناحية منىً سمع إنساناً يقول: يا ليلى، ينادي امرأة، فطار المجنون واستقبل البَرّيّة وهو يقول: وداع دعا إذ نحن بالخيف من منىً ... فهيج أحزان الفؤادِ وما يدري دعا باسم ليلى غيرها فكأنما ... أطار بليلى طائراً كان في صدري وقال الآخر: ومَن كبدي يهفو إذا ذكر اسمه ... كهفو جناح ينفض الطل طائره وبلغ بأولياء الله تعالى نحو هذا المعنى، وهم أحق به، يحكى عن بعضهم أنه لقي واحداً منهم في البرية فقال له: من أين أتيت؟ فقال: هو، فقال: أين تريد؟ فقال: هو، فقال: ما تعني بقولك هو؟ فقال: هو، فقال الله تعني؟ فصاح وسقط ميتاً. وإما نفرة وكراهية لكونه بغيضاً مقيتاً، وإما غير ذلك. تتمة

اسم المؤلف ونسبه

واعلم أن الاسم الذي يوضع على الإنسان علماً عند الولادة أو عند تبديل اسمه باسم آخر إما أن يكون بصورة الكنية كأبي بكر وأبي القاسم لمن سمي به فيكون اسمه كنيته، وإما أن يكون بغيرها كزيد وعمرو وهو الأغلب، وحينئذ إما أن تقرن به الكنية من أول وهلة فيقال مثلاً: سميت ابني محمداً وكنيته أبا عبد الله ولقبته جمال الدين، وهذا كله لا إشكال في عَلَميّته، وقد لا يكنى ولا يلقب أولاً، فإذا كني بعد ذلك أو لقب كان ذلك عارضاً لا كالاسم اللازم أبداً من وجهين: أحدهما أنه لم يكن شيء منهما ثم كان، الثاني انهما يكونان ثم لا يكونان فإنه قد يكنى ثم لا يكنى، وقد يكنيه هذا ولا يكنيه الآخر، وكذا اللقب، فصار كل منهما بمنزلة الوصف يعرض الاتصاف به فقد يقال: كيف يحسبان مع هذا في الأعلام؟ والجواب انهما متى أطلقا على المسمى عيناه عند من عرفهما من غير معنى زائد على الذات، وهذا حاصل العلمية، أما طروعهما فلا يضير، فغن الاسم أيضاً كثيراً ما يطرأ، والمعتبر ما بعد الطروء كما هو الأمر في التسمية الأولى، وأما كونهما يتركان أحياناً فللاستغناء عنها بالاسم كما يكون في الشيء يسمى بأسماء مترادفة، فإذا عبر عنه بواحد منها كفى، وفيه يحث، وهو أن الأسماء المترادفة فوضى على مدلولها، ولا كذلك ما نحن فيه، فغن كلاً من الكنية واللقب إنما يجلب لغرض من تعظيم أو تحقير أو غير ذلك مما مرّ، فيكون الوصف محط التسمية، وحينئذ هو كلي، فيكون الاسم اسم جنس أو علم جنس وذلك خلاف ما يقال من أنه علم شخص، وهذا بحث قويّ لم نبسطه لأنا لسنا بصدده، ويجاب بمنع ذلك وأن محط التسمية الذات مع ملاحظة الغرض وكونه يؤتى به عند وجود الملاحظة ويترك عند عدمها، وأن ذلك غير معهود في الاسم لا امتناع فيه فافهم. فأقول: اسم المؤلف ونسبه أنا الحسن بن المسعود بن محمد بن علي بن يوسف بن أحمد بن إبراهيم ابن محمد بن أحمد بن علي بن عمرو بن يحيى بن يوسف، وهو أبو القبيلة ابن داوود بن يدراسن بن يننتو، فهذا ما يعد من النسب إلى أن دخل بلد فركلة في قرية منه تسمى حارة أقلال وهي معروفة الآن. والكنية أبو علي وأبو المواهب وأبو السعود وأبو محمد. أما ذكري للاسم فلما مر من فوائد التسمي، وأحمد الله تعالى وأشكره إذ جعله حسناً، وأسأله سبحانه أن يجعل كذلك فعلي وخلقي وحظي في الدارين منه حسناً، كما أحمده تعالى إذ حسن اسم والدي أيضاً - فجعله مسعوداً، واسأله تعالى أن يجعلني كذلك في الدارين ويجعله مسعوداً. ومما اتفق لي في اسمي هذا واسم والدي أني كنت ذات مرة سافرت إلى زيارة الأستاذ الإمام ابن ناصر رحمه الله، فمررت ببلادنا، وكان أخونا في الله البارع الفاضل الخير أبو سالم عبد الله بن محمد العياشي يشتهي أن أمر به في زاويته فلم يتفق لي ذلك فكتبت إليه اعتذاراً: أبا سالمٍ ما أنت إلاّ كسالمٍ ... لدينا ولم يقضِ اللقاء فسالم وزود غريباً طالما قذفت به ... ضروب النوى من كل أفيح قاتم مراماً لشرب الكأس وهي منوطة ... بكف الثريا أو بكف النعائم بود وإن الود من أطيب القرى ... ودعوة صدق عند عقد العزائم وسلم على من ثم من جملة الملا ... تحية ذي ود إلى الكل دائم وقولي: " كسالم " تلميح إلى قول الشاعر: يديرونني عن سالم وأديرهم ... وجلدة بين العين والأنف سالم وكتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج: " أنت عندي كسالم " فلم يفهم مراده حتى أنشد البيت المذكور، ومراد الشاعر أن سالماً المذكور الذي يدافع الناس عنه ويحامي عنه في محبته له وعزته عليه بمنزلة الجلدة التي بين الأنف والعين لأن تلك الجلدة هي سالم فهو تشبيه. ثم لما قفلنا من زيارتنا كتب إلي كتاباً يهنيني بالزيارة ويهني من معي بصحبتي، وفي آخره: من فاته الحسن البصري يصحبه ... فليصحب الحسن اليوسي يكفيه

تتمة أخرى في أحكام التسمية

ومن غريب الاتفاق مع ذلك أن كنت في تلك المدة، قبل هذا الكتاب أو بعده بقريب حدثني بعض الإخوان أنه رأى فيما يرى النائم جماعة من الصالحين والكاتب معهم، وفيهم الشيخ محمد بن مبارك التستاوي وغيره من أمثاله فتكلم بعضهم وأظنه قال: ابن المبارك المذكور إلى أن قال: إن كان الحسن البصري في زمانه فهذا الحسن البصري في زمان يشير إلى الكاتب، وإنما ذكرت هذا رجاء وطماعية في اللحاق بالصالحين أو بمحبيهم أو بمحبي محبيهم وتبركاً بذكرهم، وإلاّ فليس بعشك فادرجي: لما انتسبت إلى علاك تشرفت ... ذاتي فصرت أنا وإلاّ من أنا وكتب إلي العلامة أبو عبد الله محمد بن سعيد السوسي بأبيات يذكر فيها أنه على عقد المحبة وفي آخرها: لقد تحببت لي فضلاً خصصت به ... بين الورى حبذا حب ابن مسعود فعلمت أنه يروي عن ابن مسعود الحبر الصحابي، رضي الله عنه وألحقنا وآباءنا بزمرته إنه ذو الجود والإحسان، فقلت: إن هذا كله من نعم الله التي يسر بها الإنسان، وهو موافقة اسمه أو اسم أبيه لأسماء الخيار. ومن غريب الاتفاق أني كنت أكتب ما تقدم من النسب فجاء أعرابي بقصيدة من الملحون يمدحني بها، وفي أثنائها يقول ما معناه: إن اسمه، أي الممدوح، على اسم الحسن بن علي رضي الله عنهما، فقلت في نفسي: سبحان الله في هذا كان عملي. تتمة أخرى في أحكام التسمية أعلم أنه وإن كان المطلوب تخير الاسم كما مرّ لا بد من التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط، فكما أنه لا ينبغي له أن يتسفل إلى الأسامي الدنية كذلك ليس له أن يتعلى إلى الأسامي العلية التي لا تنبغي له كأسماء الله تعالى، وللفقهاء كلام في أسماء الملائكة، فعن إمامنا مالك رضي الله عنه أنه يكره أن يتسمّى الرجل بجبريل وعلل ذلك بأنه سبب لأن يقول قائل: جاءني البارحة جبريل، وكلمني جبريل وهو بشيع موهم، وروي عنه أيضاً: لا ينبغي بياسين، وتقدم إلى الحارث بن مسكين القاضي خصمان، فنادى أحدهما صاحبه باسمه إسرافيل، فقال القاضي لمَ تسميت بهذا الاسم؟ وقد قال صلى الله عليه وسلم: " لا تُسَمُّوا بأسْمَاءِ المَلائكَة " فقال له الرجل: " ولمَ تسمى مالك بن أنس بمالك؟ وقد قال تعالى:) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِي عَلَيْنَا رَبُّكَ (ثم قال: لقد تسمى الناس بأسماء الشياطين فما عيب عليهم، يعني القاضي فإن اسمه الحارث، وهو اسم الشيطان إبليس، قال ابن عرفة: ويرحم الله الحارث في سكوته والصواب معه، لأنه مَحمل النهي في الاسم الخاص بالوضع أو الغلبة كإسرافيل وجبريل وإبليس والشيطان، وأما مالك والحارث فليسا منه لصحة كونهما من نقل النكرات للأشخاص المعينة أعلاماً من اسم فاعل مالك وحارث كقاسم انتهى، وأما أسماء الأنبياء عليهم السلام فيجوز التسمي بها وفي الحديث: " تَسَمَّوا بِاسْمي وَلا تَكَنَّوا بِكُنْيَتِي " وقيل: إن هذا النهي منسوخ، فيجوز التسمي أيضاً والتكني بكنيته صلى الله عليه وسلم. ودخل القاضي أبو القاسم بن زيتون على أمير بلده المنتصر بالله فقال له: لم تسميت بأبي القاسم؟ وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " تَسَمَّوا بِاسْمي وَلا تَكَنَّوا بِكُنْيَتِي " فقال القاضي: إنما تسميت بكنيته صلى الله عليه وسلم ولم أتكنَّ بها، وفي المسألة كلام باعتبار علة النهي وكون ذلك مع وجوده صلى الله عليه وسلم مشهور لا حاجة إلى بسطه، ومن المنهي عنه في الحديث أن يسمي الرجل غلامه رباحاً أو أفلح أو يساراً، إذ قال: أثَمَّ هُوَ؟ فيقال: لا. ولا بأس بتكنية الصبي كما مرّ وأصله: " يَا أبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ ". تنبيه: في الحديث: " إنَّ أخْنَعَ الأسْمَاءِ رَجُلٌ تَسَمّى عِنْدَ اللهِ بِمَالكِ الأمْلاكِ، ووقع فيه عضد الدولة حيث قال: ما يطيب العيش إلاّ بالسمر ... وغناء من جوار في سحر غانيات سالبات للنهى ... ساقيات الراح من فاق البشر عضد الدولة وابن ركنها ... ملك الأملاك غلاب القدر فهذا من التغالي المنكر، وإنما ذلك لأن ملك الأملاك هو الله تعالى، وإطلاقه على غيره وإن كان يتأوّل بمن دونه أي ملك أملاك البشر، لكنه في غاية من الإيهام والبشاعة فلا ينبغي. وقد تردد العلماء في أنه هل يلتحق به قاضي القضاة ونحوه.

ومن البشيع الواقع في زماننا في الوصاف أنْ بَنَى السلطانُ رشيد ابن الشريف جسرَ سبو، فصنع له بعضهم أبياتاً كتبت فيه برسم الإعلام أولها: صاغ الخليفة ذا المجاز ... ملك الحقيقة لا المجاز فحمله اقتناص هذه السجعة والتغالي في المدح والاهتبال بالاسترضاء على أن جعل ممدوحه ملكاً حقيقياً لا مجازياً، وإنما ذلك هو الله تعالى، وكل ملك دونه مجاز، الممدوح وغيره. ونسبة الألوهية إلى غيره تعالى كفر صراح، وهذا مقتضى اللفظ، وقائله يتأوله بحقيقة دون حقيقة لأنه موحد، ولكنه في غاية الإبهام وغاية البشاعة والقبح، وقد أنكر الإشبيلي وغيره ممن ألف في لحن العامة ما هو أخف من هذا بكثير. وأما اليوسي فأصله اليوسفي كما مرّ من أن يوسف هو أبو القبيلة ويسقطون الفاء في لغتهم. وأما ذكري لما مرّ من النسب فلفوائد منها أن يعرفه من يقف عليه ذوي القرابة للتوصل إلى صلة الرحم والموارثة والمعاقلة وغير ذلك من الأحكام وهذا مما لا بد منه، وقد قال سيدنا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: تعلموا من الأنساب ما تصلون به أرحامكم، وقد حمل الأمر في كلامه على الوجوب وذلك أصله. الثانية أن يعلم انقطاع النسب عند انتهائه إلى القرى فيظهر معنى قول مولانا عمر أيضاً رضي الله عنه فيما يؤثر عنه أنه قال: تعلموا أنسابكم ولا تكونوا كالقبط ينتسبون إلى القرى، وليس هذا مخصوصاً بالقبط بل المدن كلها تتلف الأنساب كما قال العراقي رحمه الله: وضاعت الأنساب بالبلدان ... فنسب الأكثر للأوطان وسبب ذلك أن الإنسان إنما احتاج إلى التمدن للقيام بالمتاجر والحرف وسائر الأسباب التي ينتظم بها أمر المعاش والتعاون على المنافع الدينية والدنيوية، ولا يتأتى ذلك عادة إلاّ بكثرة الناس لتحصل عمارة الأسواق، ويحصل من كل حرفة وصناعة وسبب وعمل عارف أو أكثر يقوم بها، ولا يكون ذلك عادة من عشيرة واحة بل ولا من قبيلة وعمارة بل من أخلاط شتى وأفواج جمة، وذلك لسببين: أحدهما أن هذا هو مظنة الكثرة الكافية فيما ذكر، الثاني أن عادة الله تعالى لم تجرِ باختصاص رهط أو حي واحد من الناس بالتفرد بالمعارف والاستقلال بالمصالح الدينية والدنيوية من دون سائر أصناف الخلق حتى ينتظم بهم الأمر وحدهم وتحصل لهم المزية بذلك والذكر فيه دون " من " سواهم، بل بث الله تعالى بلطيف حكمته الخصائص والمزايا في الناس، فيوجد في هذا الرهط عالم، وفي آخر شاعر، وفي آخر صانع أو تاجر وهكذا ليتم التعاون ويحظى الخلق كلهم من مائدة الله تعالى في باب الخصوصيات بنصيب.. ولما كانت المدينة تجمع أخلاط الناس صار ساكنها في الغالب غريباً عن نسبه، فقد لا يكون بينه وبين جار بيته نسب ولا معرفة، فإذا نشأ نسله انتسبوا غالياً إلى البلد لا إلى قومهم من وجهين: أحدهما أنه كثيراً ما ينقطع ما بينهم وبين قومهم فلا يعرفونهم، الثاني أن الإنسان يعجب ببلده ويتبجح به لثلاثة أوجه أحدها أنه لا يعرف غالباً غيره، الثاني أن الله تعالى حبب إلى الناس منازلهم ليلازموها فتنتظم عمارة الأرض على ما قدر الله تعالى كما قال صلى الله عليه وسلم: " اللَّهم حَبِّبْ إلَيْنَا المَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أوْ أشَدَّ ". الثالث الإلف الطبيعي، فإن كل واحد يألف تربته كإلفه لأمه وأبيه، ولذا لا يزال يحن إلى مسقط رأسه ومحط لهوه وأنسه، وقالوا: الكريم يحن إلى وطنه، كما يحن النجيب إلى عَطَنِهِ. وقال الأعرابي: أحب بلاد الله ما بين منعج ... إليَّ وسلمى أن يصوب سحابها بلادٌ بها حل الشباب تمائمي ... وأول أرض مس جلدي ترابها وقال الآخر: بلدي ألفت به الشبيبة والصبا ... ولبست ثوب العيش وهو جديد فإذا تمثل في الضمير رأيته ... وعليه أثواب الشّباب وقال الآخر: وحبب أوطان الرجال إليهم ... مآرب قضاها الشباب هنالكا إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم ... عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا

وهذا المعنى كثير شهير. ومن الأسباب في ذلك أنها أول بقعة ذاق فيها النعمة وأول جهة ألف منها الرفق وآنس الإحسان، وفي الحديث: " جُبِلَتِ القُلُوبُ عَلَى حُبّ مَنْ أحْسَنَ إلَيْهَا " ولك في الحديث وجهان: أحدهما لطيف، وهو أن القلوب الطاهرة عن الهوى، الصافية من رعونات النفس، الزاهرة بأنوار المعرفة جبلت على حب الله تعالى لأنه هو المحسن إليها لا غير. والثاني ظاهري وهو أن القلوب من حيث هي جبلت على الميل إلى المحسن من حيث هو، ولا شك أن كل محسن دون الله تعالى لا أثر له، وإنما هو جهة يرد منها إحسان الله تعالى، ومع ذلك يحب، فكذا تربة الإنسان أول جهة ورد منها عليه الإحسان الإلهي، فيحبها قبل غيرها من الترب حباً متمكناً كما قيل: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلباً خالياً فتمكنا وقال الآخر: كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبداً لأول منزل ومن أسباب المحبة والحنين حب من كان فيها من ذوي القرابة والأحباب وتذكارهم عند تذكارها، وقد قيل: إن قوله صلى الله عليه وسلم في أحد: " جَبَلٌ يُحِبُّنَا ونُحِبُّهُ " إن المراد من كان فيه من الأصحاب كحمزة ومن معه رضي الله عنهم، وقال المجنون: أمرّ على الديار ديار ليلى ... أُقَبِّلُ ذا الجدار وذا الجدارا وما حب الديار شغفن قلبي ... ولكن حب من سكن الديارا وقال الآخر يخاطب وطنه: تقسم فيك الترب أهلي وجيرتي ... ففي الظهر أحيائي وفي البطن أمواتي وهذا سبب ذكر الديار والمنزل والأوطان ولا ينحصر ما قيل في ذلك، وسنلم بشيء منه إن شاء الله في هذا الكتاب؛ ثم إذا انتسب إلى البلد ذهب قوه، وتنوسيت أسلافه، فصار النسب مجهولاً لا باعث على حفظه ولا حامل على تعرفه وهذا بخلاف أهل البادية فإنهم يحفظون أنسابهم إذ لا ملجأ لهم في الانتساب غير قومهم فيبقى الأب الأول محفوظاً وبحفظه وذكره ما بينه وبينهم من سلسلة النسب، وإنما كان ذلك فيهم لوجهين: أحدهما أنه لا قرار لهم في باديتهم فينتسبوا إليه، بل منازلها عندهم سواء. الثاني أنهم خالصون غالباً من كثير الشوب، فكل واحد غالباً ينازل قومه، إذ لا حاجة بهم إلى التمدن في باديتهم اكتفاء بالحاضرة، فكل حي فيها يعيشون وحدهم، ومتى خالطهم غيرهم لم يزل معروفاً بكونه ملصقاً، وقد يكون من القرى ما يكون كذلك، لانقطاعه عن الاختلاط وعدم التمدن فيمكنهم حفظ أنسابهم أيضاً. ومن هذا حفظت قلايش أنسابها مع كونها في قرية، وكذا الخزرج في طيبة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وكذا نحوها، وقد يكون في المدائن من يحفظ نسبه أيضاً، ولا سيما من له نسب مخصوص كالعلوية، أو من يكون في محلة منعزلة في المصر فيكون كالقرية السابقة. الثالثة أن يعلم أن حفظ الأنساب ليس خصوصية للعرب وإن كان لهم مزيد اهتمام بها ومزيد ارتفاع الهمة، وكنت أنا قبل أن أخالط قومي أظن ذلك وأقول: إن العجم إنما هم كالمعزى ليس بين الأم وبين ولدها عهد إلاّ أن يرعى فيذهب حيث شاء، وأما الأب فلا سؤال عنه، فلما باحثت قومي في هذا ألفيت الأمر على خلاف ما كنت أظن، ووجدتهم يحفظون أنسابهم كما مر، وإذا فيهم نسابون يحققون الفصائل والشعوب على نحو ما كانت العرب تفعل في أنسابها، والوهن وإن كان يمكن أن يداخل شيئا من ذلك فليس بعجب، فإن غيرهم أيضاً ما كان يسلم من ذلك، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " كَذَبَ النَّسّابُونَ ". قَالَ تعالى:) وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلكَ كَثيراً (وكون هؤلاء أيضاً يكتفون بالقرى ويضيعون أَنسابهم فذلك غير مختص بهم، فقد وقع أيضاً للعرب حين دخلت قرى الشام والعراق ومصر والمغرب وغيرها، فلا تزال تلقى حلبياً أو حمصياً أو كوفياً أو بصرياً أو قرطبياً أو باجياً، وهو تميمي أو قيسيّ أو أزديّ أو غيره، وكثير منهم لا يرفع نسبه، وإنما قال سيدنا عمر رضي الله عنه ما قال قبل أن يقع هذا الواقع أو قاله خوفاً منه ثم وقع كما ظن. ويتعلق بأمر النسب أبحاث: الأول: اعلم أن نسب الإنسان الأصلي هو الطين، قال تعالى:) وَبَدَأ خَلْقَ الإنْسَانِ منْ طينٍ (وقال صلى الله عليه وسلم: " أنْتُمْ بَنُو آدَمَ، وآدَمُ منْ تُرَابٍ ". ويقال لآدم عليه السلام: عرق الثرى وأعراق الثرى، قال امرؤ القيس:

إلى عرق الثرى وشجت عروقي ... وهذا الموت يسلبني شبابي وهذا هو الأصل لجملته، ثم لكل فرد منه بعد آدم أصل آخر وهو النطفة، قال تعالى:) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ منْ سُلالَةٍ منْ مَاءٍ مَهِينٍ (فإذا استوى الإنسان كله في أنه من طين وأنه في الجملة من ماء مهين لم يمكن أن يكون له فضل في نفسه باعتبار أصله، ولا أن يكون لبعضه فضل على بعض بذلك، لاستواء الجميع، ولهذا نبه صلى الله عليه وسلم على هذا فقال: " إنَّ اللهَ أذْهَبَ عَنْكُمْ غُبِّيَةَ الجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالآبَاءِ، أنْتُمْ بَنُو آدَمَ وآدَمُ منْ تُرَابٍ ". ونبه الله تعالى الإنسان على أصله في آيات كثيرة ليتنبه فيعرف نفسه ويعرف اقتدار مولاه، وقال مولانا علي كرم الله وجهه: " ما لابن آدم والفخر، وأوله نطفة، وآخره جيفة ". وقد يقال: أوله نطفة مذ، وآخره جيفة قذرة، وهو فيما بين ذلك يحمل العذرة، وعقد الشاعر الكلام الأول فقال: ما بال من أوله نطفة ... وجيفة آخره يفخر وقال آخر: عجبت من معجب بصورته ... وأوله نطفة مذره وفي غد بعد حسن صورته ... يصير في الترب جيفة قذره وهو على عجبه ونخوته ... ما بين رجليه تخرج العذرة " نعم يشرف الإنسان بخصوصية تزاد على جسمه الطيني كالعقل والعلم والدين مثلاً فيثبت له الفضل ويثبت لبعضه على بعض، ولما عمي إبليس اللعين على الخصوصية، ولم يرَ إلاّ الطينية السابقة لم يرضَ بآدم ولا بالسجود له، ولم يسلم الأمر لمولاه، فأبى وصرح بأنه خير منه، وعلل ذلك بالمنشأ المذكور، فأخطأ من جهات: منها أنه إما يكون لا شعور له بالخصوصيات أصلاً، وإنما منظره ذوات الأجرام، وهذا جهل عظيم، وإما أن يشعر بها ولا يعرف أنها بها يقع التفاضل، وهذا أيضاً جهل، وإما أن يعرف ذلك ولكن لا يسلم وجودها في آدم فيكون قد بادر إلى إنكار الشيء قبل تحقق انتفائه، بل قبل التأمل، وهو أيضاً جهل وطيش وغفلة عن الإمكانات العقلية وتصرف الفاعل المختار تعالى، وإما أن يكون ذلك محتملاً عنده، فعمل على الانتفاء لا على الثبوت، وهو أيضاً جهل وزلل في الرأي وتضييع للاحتياط، وإهمال لدلالة القرائن المفيدة للعلم، فإنه لو تأمل أدنى تأمل لاستفاد الحق من ترشيحه للخلافة، فإنه لا يخفى عليه قول الله تعالى:) إنّي جَاعِلٌ في الأرْضِ خَليفَةً (، ومن سجود الجمهور، ويد الله مع الجماعة، وإما أن يكون قد علم ذلك ولكن غلبه ما يجد من الحسد والكبر، فاشتغل بالمكابرة والمغالطة، وهذا أيضاً جهل، فإن العلم إذا لم ينفع كالعدم، ومن لا يجري على علمه في حكم الجاهل، هذا مع غاية النقصان بعد التزكية، وعدم ملك زمام النفس، نسأل الله تعالى العصمة، قال الله تعالى:) قَدْ أفلَحَ مَنْ زَكّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسّاها (. ومنها أنه لم يخلص إلى صحيح العلم وصريح التوحيد فيعلم حق يقين، أو عين يقين، أو علم يقين أن للفاعل سبحانه أن يتصرف في مملكته كيف شاء، فيرفع من شاء، ويضع من شاء ويقدم من شاء ويؤخّر من شاء، ولا سَبب غير العناية الأزلية، وكل شيء بقضاء وقدر) لا يُسْألُ عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْألُون (. ومنها أن ما اعتمده من فضل جرم النار على جرم الطين لا يسلم له، فإن فضل النار إن كان بمجرد حسنها الصوري فهذه المزية لا تكفي، فإن الأشياء خلقت للانتفاع بها، فما ينبغي أن يكون تفاوتها إلاّ بالمنافع أكثرية وأهمية، والحسن الصوري من المناظر النظرية، وغيره أهم منه، ففي النار منافع كالإحراق والإيقاد والإنضاج والتسخين والتحليل والتعقيد والتعذيب لمن أريد والتذكر ونحو ذلك، وفيها مفاسد كثيرة ومضار هائلة كالإحراق والإتلاف للنفوس والأموال والزرع والتنشيف والتيبيس والإيلام والعذاب الأكبر، وحسبك منها أنها ضرة الجنة وضدها حتى حصل بينهما من التقابل شبه ما بين النفع والضر، والعذاب وإن اشتمل على غير النار لكن النار أعظمه، ولذا صحَّ إطلاقها عليه.

وأما التراب فهو مهاد الإنسان وفراشه حيّاً، وكِفاتُهُ مَيتاً، ثم هو منبع الماء الذي به الحياة، ومنبت الزرع وجميع الأقوات للإنسان وغيره من الحيوانات، ومنبت العقاقير التي بها الاستشفاء، والمعادن التي بها قوام العيش، والتي بها التعامل، فمنافعه لا تحصى، وليس فيه من المفاسد والمضار إلاّ ما هو تافه يضمحل في جنب المصالح والمنافع، فهذا هو الشرف والفضل، وقد ظهر ما في كل منهما في فرعه، فانظر إلى فرع التراب الذي هو الرحمة والمنفعة وهو الإنسان كيف ظهر فيه العلم والدين والرحمة، قال تعالى في نبيه صلى الله عليه وسلم:) وكَانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحيماً (، وانظر إلى فرع النار التي هي النقمة والمضرة وهو إبليس كيف ظهر فيه الإفساد والإغواء والاستفزاز، والأمر بيد الله على أن الإنسان مخلوق من الاسطقسات الأربعة: التراب والماء والنار والهواء، قال تعالى:) ... منْ تُرَابٍ ... (وقال أيضاً:) ... مِنْ طينٍ ... (كما مرَّ، وهو التراب والماء، وقال تعالى أيضاً:) ... منْ صَلْصَالٍ ... (وهو الطين اليابس لما فيه من نارية، وقال أيضاً:) ... منْ حَمَإٍ مَسْنُون ... (وهو المتغير الرائحة بما تخلله من الهواء فقد استولى الإنسان في تركيبه ما في النار، وزاد ما في غيره، فافتخار صاحب النار على صاحب النار والماء والتراب والريح حمق عظيم. وهذا المحل يسع من الكلام أكثر من هذا بكثير ولكنه ليس من غرضنا فلنرجع إلى ما نحن فيه فنقول: إن ابن آدم متى افتخر قيل له: إن كان افتخارك بأصلك فلا فخر لك بل كما يقال: ضعيف عاد بقرملة. ثم لا فخر لك به على غيرك لأنكما سيّان، وإن كان بمزية فهاتها، فمن ثبت له أو لأبيه ثبت فخره بنفسه أو بنسبه وإلاّ فلا. الثاني - اعلم أن ما أشرنا إليه من المزايا التي يتشرف بها الإنسان حتى يشرف بشرفه من انتسب إليه كثيرة، منها دينية كالنبوءة وهي أجلها، وكالعلم والصلاح ومكارم الأخلاق وغير ذلك، ودنيوية كالملك، وهو أعظمها، وكالنجدة والكرم والقوة وكثرة العدد وكثرة المال والجمال ونحو ذلك وكثير منها يصلح أن يكون دينياً ودنيوياً كالقوة والعز والكرم وسائر مكارم الأخلاق، وبعضها ديني ودنيوي معاً كالنبوءة والخلافة والعلم، وبعض ذلك حسي، وبعضه معنوي، وبعضه وجودي، وبعضه، وشرح ذلك يطول فلنقتصر القول مع تمثيل وتمهيد: أما التمثيل فهو أنه لو اعتبر رجلان متساويان في الخلق والخلق والنسب وسائر الأحوال فلا مزيّة لأحدهما على الآخر، وفي مثلهما قال علقمة بن علاثة للمتنافرين: صرتما كركبتي البعير الآدم، ولو اختص أحدهما بالفقه فهذه مزية وجودية يفضل بها الآخر، ولو اختص أحدهما بكونه ظلوماً فهذه مزية مذمومة عند أهل الشرع، وقد سلم منها الآخر، فله الفضل بمزية هي عدمية، وعند الجاهلية بعكس هذا، ولذا تأتى لشاعرهم أن يهجو بقوله: قُبَيَّلَةً لا يخفرون بذمة ... ولا يظلمون الناس حَبّة خردل فقد فهمت المزية في الجملة. وأما التمهيد فاعلم أن الأجرام الترابية وما توالد منها متشابهة في الأصل، وكانت المزية للناميات الثلاثة، وهي المعدن والنبات والحيوان، أما المعدن فله الفضل على سائر الأجرام الترابية بالنمو والنفاسة والانتفاع، وأما النبات فله الفضل على ما قبله بالنمو والإثمار والانتفاع الخاص وجود النفس النباتية، حتى أن المعدن جزؤه ككله، فينتفع بما يقطع منه، فهو في ذلك كغير النامي بخلاف الشجرة لو اقتطعت منها قطعة لم ينتفع بها الانتفاع المراد منها كالإثمار، فأشبهت الحيوان، وربما تموت بقطع رأسها كالنخلة، كما يموت الحيوان. وقد ادعى بعض المتكلمين أن للنبات حياة، وزعموا أن النخلة يتعشق بعضها ببعض فيميل إليه، وأما ميل عروقها إلى الماء فمشاهد، وزعموا أنه إلى هذا المعنى الإشارة بالحديث: " أكْرِمُوا عَمَّتَكُمْ النَّخْلَةَ " وهو حديث غريب، والذي في الصحيح أنها مثل المسلم، واختلف المحدثون في وجه الشبه على أقوال معروفة. وأما الحيوان فله الفضل بما ذكر مع زيادة الحياة والإحساس والإلهام، ويختص الإنسان عن جملته بزيادة العقل الذي هو محط إدراك الكليات والرأي والتصرف، فللإنسان الفضل على الجميع.

والإنسان لفظ واقع على آدم وعلى ذريته أبداً اسماً للقدر المشترك فيه، وهو الحيوان الناطق أي المتفكر بالقوة، والآدمي كله مشترك في هذه الفضيلة، ولذا سخر له غيره، وابتلي هو بالتكليف بمعرفة الخالق تعالى وبعبادته، وهذه مزية أخرى لجميعه، ولقد خصه الله تعالى في أرزاقه وفي خَلْقه وفي خُلُقه وفي لباسه وركوبه وغير ذلك بكثير، قال تعالى:) وَلَقَدْ كَرَّمَنَا بَني آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ في البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ منَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثيِرٍ ممَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (وإنما قال تعالى: " ... عَلَى كَثيرٍ ... " لبقاء الملائكة على ما في ذلك من النزاع المشهور بين الجمهور. لطيفة: كان بعض المخارفين يقول: نحن معشر المحرومين لسنا من ولد آدم لأن الله تعالى قد قال فيهم ما تقدم يعني الآية، وليس عندنا شيء من ذلك ويقول: كان لآدم عبد فنحن جميعاً من ولده، وليس بيننا وبين آدم نسب أصلاً قلت: وهذا دخل في أحاديث الخرافات والمضحكات الباطلة، والإنسان كله ابن آدم كما قال صلى الله عليه وسلم: " أنْتُمْ بَنُو آدَمَ ... " والآية صحيحة على الجملة وصحيحة أيضاً على التفصيل لأن كل آدمي ولو بلغ في حرمان الرزق والفقر المدقع ما عسى أن يبلغ هو أفضل من سائر الحيوان ومن الجن بعقله وصورته الحسنة وانتصاب قامته وأكله بيديه معاً وسائر تصرفاته وتناوله من الطيبات التي لا تصل إليها الحيوانات ومتمكن من الركوب في البر والبحر إلى غير ذلك، فهو مكرَّمٌ أي تكريم، ومفضل أي تفضيل. ثم إن أفراد الإنسان متفاوتون فيما ذكر من مزية العقل كثرة وقلة تفاوتاً عظيماً، وأعلاهم في ذلك الأنبياء ثم الصديقون ثم سائر الزاهدين في العرض الفاني، وأما أقلهم عقلاً فلا ينضبط وإن وقع التعبير عنه في كثير من كلام الأنبياء والحكماء، فقد انتهى بعض الأفراد إلى مزاحمة البهائم وما يقع من التعبير عنه يرجع إلى الإضافة. ثم إن الله تعالى خص آدم وبنيه بمزايا أخرى دينية ودنيوية يمتاز بها البعض عن البعض لا مشتركة كالأولى، أعلاها في الدينية النبوة ثم الخلافة عنها في الظاهر أو الباطن أو فيهما أو في السياسة، وفي الدنيوية الملك ثم النيابة عنه، ومنها القوة وكثرة المال وكثرة الإنفاق واصطناع الصنائع وابتناء المآثر وكثرة العدد والفصاحة والصباحة ونحو ذلك من كل وصف محمود في الدين أو في الدنيا، فمن حصل له شيء من ذلك حصل له شرف على قدره، وثبت لولده عدّ ذلك في مفاخر أبيهم، وهو المراد بالحسب في لسان العرب، فكل واحد عندهم حسبه هو ما يعد من مفاخر آبائه، فهو من الحساب، ومن ليس له ما يعد فلا حسب له، فالخصلة الحميدة تكون مفخرة لمن اتصف بها ولمن انتسب إلى من اتصف بها فيشرف نسبه بذلك. إذا علم هذا فنقول: إن آدم أبا البشر على نبينا وعليه السلام قد حصل له الشرف بالنبوءة وسائر الخصال الحميدة وبسجود الملائكة له وولادته للأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، وهذا كله من المزايا فجميع بنيه شرفهم ومشروفهم ورشيدهم وغويهم يحصل لهم بالانتساب إليه شرف من هذا الوجه يفضلون به غيرهم ممن ينتسب إلى جني أو بهيمة، فلا تظن أن دابة لكونها لم تعص الله تعالى تكون أشرف من إنسان كافر أو فاسق إلاّ من هذا الوجه، وأما في النسب والحسب والصورة وغيرها فهو أشرف منها، ولذا يوارى إن مات ولا توارى هي، غير أن الافتخار بنسبة آدم قد تنوسي لطول العهد كما تنوسيت رحمه. ومن أطرف ما وقع لسيدنا معاوية رضي الله عنه أن جاءه إنسان فقال له: أسألك بالرحم التي بيني وبينك إلاّ ما رفدتني فقال: أنت من عبد مناف؟ قال: لا. قال: أنت من قريش؟ قال: لا قال: أنت من العرب؟ قال: لا. قال: أي رحم بيني وبينك؟ قال: رحم آدم فقال: رَحِمٌ مَجْفوَةٌ لأكونن أول من وصلها، فأعطاه.

ثم يتمايزون بعد ذلك، فمن كان من ولد نوح عليه السلام فهو أفضل نسباً من بقية ولد آدم لأن أولئك يعدون آدم وهؤلاء يعدون آدم ونوحاً، فإن كل ما يعده الأعلى يعده الأسفل ويزيد، فإن الأخص فيه ما في الأعم وزيادة، وهذا كما يقال في الحكمة في الأجناس المتوسطة والسافلة والأنواع الحقيقية والفصول: إن كل ما يتقدم به الأعلى يتقدم به الأسفل ويزيد، فالله تعالى قد قال:) إنّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إبْرَاهيِمَ وآلَ عِمْرَانَ عَلى العَالَمِينَ (فمن انتسب إلى آدم ونوح فقد انتسب إلى مصطفين، ثم من كان من ولد إبراهيم بعد ذلك فهو أفضل من بقية ولد نوح لأنه يعد آدم ونوحاً وإبراهيم عليهم السلام، وإلى هذا أشار صلى الله عليه وسلم بقوله حين قيل له: من أكرم الناس؟ " الكَرِيمُ ابْنُ الكَرِيمِ ابْنِ الكَرِيمِ ابْنِ الكَرِيمِ: يوسف بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ، نَبِيٌّ ابْنُ نَبِيّ ابْن نَبِيّ ابْن نَبِيّ " وكلامه صلى الله عليه وسلم موافق لقوله تعالى: " إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقَاكُمْ ". فإن الأنبياء هم أتقى الناس لأنهم أعلم، وإنما يَخْشَى اللهُ مِنْ عِبَاِدِه العُلَمَاءُ، فهم أكرمُ الناس، فمن انتسب إليهم كرم بنسبه إليهم وإن لم يكن نبياً، فكيف إذا كان هو أيضاً نبياً؟ فله الشرف الطارف والتليد، كيوسف عليه السلام، فصدق نبينا صلى الله عليه وسلم. ثم أولاد إبراهيم عليه السلام يتفاوتون في الشرف أيضاً بقدر أنسابهم فمن ازداد بنبي أو نبيين أو أكثر ازداد درجة في الشرف، فأما أولاد إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام فلهم الشرف في الجملة غير أن الأسباط أولاد يعقوب بن إسحاق لهم الشرف الشامخ، والمجد الباذخ، فإنهم فازوا بثلاثة أنبياء على نسق، ثم جل الأنبياء بعد ذلك فيهم، وقد قال الله تعالى لبني إسرائيل:) اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إذْ جَعَلَ فِيكُمْ أنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤتِ أحَداً مِنَ العَالَمِينَ (وقال تعالى:) يَا بَني إسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتي الَتي أنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وأنّي فَضَّلْتُكُمْ عَلى العَالَمِينَ (إلى غير ذلك، وأولاد العيص بن إسحاق لهم شرف دونهم، ولم يكن فيهم نبي فيما يقال غير أيوب عليه السلام، وأما أولاد إسماعيل بن إبراهيم فلهم الشرف بإبراهيم وإسماعيل أولاً، ثم استكملوا الشرف آخراً بسيد الوجود وسر الكائنات سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه صلى الله عليه وسلم إليه يساق حديث الشرف العِد وباسمه يرسم عنوان صحيفة المجد، فيه شرف من قبله كما به شرف من بعده، وقد كان آدم يكنى به تشريفاً له بأشرف أولاده فيقال: أبو محمد، وكما يشرف الولد بشرف الوالد قد يشرف الوالد بشرف الولد، ولله در ابن الرومي في قوله: وكم أب قد علا بابن ذرى حسب ... كما علت برسول الله عدنان وسنزيد هذا بسطاً إن شاء الله تعالى، فمن اتصل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعده وهم الفاطميون أشرف الناس نسباً لأن غيره كبني إسرائيل وإن عد بكثرة الأنبياء فهو يعد بأشرف الأنبياء، والمنتسب إلى الأشرف يجب أن يكون أشرف، وهذا باعتبار النسب فقط، أما من حصلت له النبوة من بني إسرائيل فهو أشرف بذاته ممن ليس بنبي، إذ لا يعدل النبوءة إلاّ نبوءة أخرى. كما أن من كفر منهم فقد اختل نسبه، واضمحل حسبه، بالإضافة إلى من لم يكفر منهم، أما لو قيس هذا الكافر إلى كافر آخر قبطي أو نوبي أو نحوهما فالواجب أن يكون هذا أشرف نسباً، ولو قيس إلى مؤمن من هؤلاء لتعارض الوجهان، ولكن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، وفي السيرة: قال المسلمون: هذا أبو سفيان وسهيل، وكان أبو سفيان لمّا يُسلِم، وقدموه لشرفه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " هَذَا سُهَيْلٌ وأَبُو سُفْيَانَ، الإسْلامُ يَعْلُو وَلا يُعلى عَلَيْهِ " فانتبه لهذا الفصل فإني رمزته ولم أبسطه لأن بعضه موحش لمن لا فهم له.

وإذا علم تفضيل النسب والحسب في باب النبوءة فهم في غيرها كذلك كالعلم والصلاح والهداية والزهد والورع والملك والنجدة والجود وغير ذلك من كل ما يحتسب به ويصير به من عرف به عيناً من أعيان عشيرته أو قبيلته أو عمارته أو بلده أو جيله ويشرف به من انتسب إليه، ولم يخل الله تعالى قوماً من سيد " كما لم يخل هجمة من فحل، وبسادة الناس " تنتظم أمورهم، فهم خلفاء الله في عباده بالحكم التصريفي، ولذلك إذا فقدوا أو فقدت الأهلية منهم اختل الأمر كما قال الشاعر: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سِراة إذا جهالهم سادوا الثالث: الإنسان قد يفتخر بنسبه على ما مرّ، وقد يفتخر بنفسه أي بالخصال التي اتصف بها والدرجات التي نالها من الدين والدنيا، والأول هو الفخر " العظامي لأنه افتخار بالعظام والرفات، والثاني هو الفخر " العصامي. وهو مأخوذ من عصام صاحب النعمان، وكان يقول: نفس عصام سودت عصاما وعلمته الكرّ والإقداما فكل ما جاءه السؤدد من تلقاء نفسه فهو مثل عصام هذا، ففخره عصامي. والناس لم يزالوا مختلفين في هذا المنحى فقوم يعتنون في افتخارهم أو ثنائهم بذكر الآباء كقوله: أنا ابن مزيقيا عمرو وجدي ... أبوه منذر ماء السماء وقول النابغة: وهو قائلها في مدح عمرو بن الحارث الأصغر بن الحارث الأعرج بن الحارث الأكبر بن أبي شمر الغساني، والبيتان فسرهما ابن السكيت فقال: " يقول: لئن كان عمرو ابن هذين الرجلين المقبورين في هذين الموضعين ليمضي أمره وليمسن من حاربه بشر، وليلتمسه حيثما كان ". لئن كان للقبرين قبر بجلق ... وقبر بصيداء الذي عنده حارب وللحارث الجفني سيد قومه ... ليبتغين بالجيش دار المحارب وقول حسان رضي الله عنه: أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضل وقول العرجي العثماني: أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسِدادِ ثغر كأني لم أكن فيهم وسيطاً ... ولم تك نسبتي في آل عمرو وقال الفرزدق: أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمعتنا يا جرير المجامعُ وقال النابغة لحسان رضي الله عنه حين أنشد: لنا الجفنات الغُرّ يلمعنَ بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدّةٍ دمما ولدنا بني العنقاء وابن محرق ... فأكرم بنا خالاً وأكرم بنا ابْنَما إنك شاعر لولا أنك قلت: الجفنات فقللت العدد، ولو قلت: الجفان كان أبلغ، وقلت: يلمعن بالضحى ولو قلت: يشرقن بالدجى كان أبلغ، وقلت: يقطرن من نجدة ولو قلت: يجرين كان أبلغ، ثم افتخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك، فهذا مذهب العرب وهو الافتخار بالآباء، ولذا نبه عليه النبي صلى الله عليه وسلم وكرهه كما مرّ. وقوم يفتخرون بأنفسهم، وهذا الوجه كثير أيضاً جداً، لأنه طبع الآدمي لا يكاد يسلم منه ولا يحصى ما فيه من كلام الناس نظماً ونثراً ولا حاجة إلى التطويل. ومن أفصح ما ورد في هذا النحو قول السموأل في لاميته المشهورة منها: إذا المرء لم يدنَس من اللؤم عرضُه ... فكل رداء يرتديهِ جميلُ وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها ... فليس إلى حسن الثناء سبيل تعيرنا أنا قليل عديدنا ... فقلت لها: إن الكرام قليل وما ضر من كانت بقاياه مثلنا ... شباب تسامى للعلا وكهول تسيل على حد الظبّات نفوسنا ... وليست على غير السيوف تسيل وإنا لقوم ما نرى القتل سُبّة ... إذا ما رأته عامر وسَلول إلى أن قال: وننكر إن شئنا على الناس قولهم ... ولا ينكرون القول حين نقول سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم ... وليس سواء عالم وجهول فإن بيني الديّان قُطْبٌ لقومهم ... تدور رحاهم حولهم وتجول ومثل هذا النمط من الكلام فيه افتخار بالنفس وبالآباء أيضاً لأن المقصود أنهم على هذا الوصف كابراً عن كابر وقول الفرزدق: أنا الذائد الحامي الذّمار وإنما ... يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي وغير ذلك. ثم كثير من الناس لا يلتفتون إلى النسب ولا يقيمون للمفتخر به وزناً كما قال الحريري: لعمرك ما الإنسان إلاّ ابن يومه ... على ما بدا من حاله لا ابن أمسه

وما الفخر بالعظم الرّميم وإنما ... فخار الذي يبغي الفخار بنفسه وقال الآخر: كن ابن من شئت واتخذ أدباً ... يغنيك محمدة عن النسب إن الفتى من يقول: هأنذا ... ليس الفتى من يقول: كان أبي إلى غير ذلك مما لا ينحصر. والحق أن كرم النسب فضيلة قال تعالى:) وكان أبُوهُما صَالِحاً (وقال صلى الله عليه وسلم في بنت حاتم: " إنَّ أبَاهَا كَانَ يُحِب مَكَارِمَ الأخْلاق ". ووصفُ الإنسان وسعيُه هو الشأنُ، والنسبُ زيادة، فإلغاء النسب رأساً جور، والاقتصار عليه عجز، والصواب ما قال عامر بن الطفيل: وإني وإن كنت ابن سيد عامر ... وفي السر منها والصريح المهذب فما سودتني عامر من وراثة ... أبى الله أن أسمو بأم ولا أب ولكنني أحمي حماها وأتّقي ... أذاها وأرمي من رماها بمنكبي فقوله: " وإن كنت ابن سيد عامر " تعريض بالنسب وإعلام بمكانته منه، وقوله: " أبى الله أن أسمو بأم ولا أب أي فقط دون شيء يكون مني ليوافق ما قبله فمراده أني لا أكتفي بالنسب وأخلو عن استحصال الحمد وابتناء المجد. ومثله: لسنا وإن أحسابُنا كرمت ... يوماً على الأحساب نتكل نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا وقال الآخر: أنا الفارس الحامي حقيقة وائل ... كما كان يحمي عن حقائقها أبي وقال زهير: وما يكُ من خير أتوه فإنما ... توارثه آباء آبائهم قبل وهل يُنبتُ الخطِّيُّ إلاّ وشيجه ... وتغرس إلاّ في منابتها النخل وقال الملك الراضي من ملوك بني العباس: لا تعذلي كرمي على الإسراف ... ربح المحامد متجر الأشراف أجري كآبائي الخلائف سابقاً ... وأشيد ما قد أسَّسَتْ أسلافي إني من القوم الذين أكفّهم ... معتادة الإخلاف والإتلاف فهذا وأبيك الفخر العلي البنيان، المتأسس الأركان. واعلم أن الناس في هذا الباب ثلاثة: رجل كان أصيلاً ثم قام هو أيضاً يشيد بنيانه ويحوط بستانه، كالذي قبله، فهذا أكرم الناس وأولاهم بكل مفخر، وفيه كان قوله صلى الله عليه وسلم: " الكَرِيمُ ابْنُ الكَرِيمِ " كما مرّ، والذروة العليا في هذا الصنف هو نبينا صلى الله عليه وسلم، فإنه كان أصيلاً بحسب النبوءة من عهد إبراهيم وإسماعيل، ثم لم تزل أسلافه في شرف وسؤدد، ومجد مخلد، معروفاً ذلك لهم عند الناس، وأنهم أهل الحرم، وجيران الله، وسَدَنَةُ بيته، مع إكرام الضيف، وإعمال السيف، وغير ذلك من المفاخر العظام، والمآثر الجسام، وقد اختصهم الله بين العرب بالاحترام والتوقير، وجعل لهم رحلة الشتاء والصيف آمنين لا يعرض لهم لص ولا مغير، فأطعمهم من جوع وآمنهم من خوف كما أخبر به تعالى في كتابه، وذكر ذلك بعض بني أسد فقال: زعمتهم أن اخوتكم قريش ... لهم إلف وليس لكم إلافُ أولئك آمنوا جوعاً وخوفاً ... وقد جاعت بنو أسد وخافوا أي أخطأتم في هذا الزعم، لأنكم لستم مثلهم، وقولهم: إلاف مصدر على فعال، يقال آلفته مؤالفة وإلافاً وتآلفاً، وليس من آلفته الشيء إيلافاً كالذي في القرآن. ثم لما جاء المصطفى صلى الله عليه وسلم رد بدر شرفهم فجراً، وجدول كرمتهم بحراً، بل جعلهم قرار كل مجد، ومركز كل حمد، وقد أكمل به الله تعالى الدين، فكذلك أكمل به سائر المحامد والمحاسن، قال صلى الله عليه وسلم: " بُعِثْتُ لأتَمِّمَ مَكَارِمَ الأخْلاقِ " وهو صلى الله عليه وسلم لبنة التمام، فشرفت به قريش خصوصاً والملة كلها عموماً صلى الله عليه وسلم، ومجد وعظم، وقد بين صلى الله عليه وسلم هذا كله مع الإشارة إلى التدريج السابق بقوله: " إنَّ اللهَ اصْطَفَى مِنْ ولدِ إبْرَاهِيمَ إسْمَاعِيلَ، واصْطَفَى مِنْ ولدِ إسْمَاعِيلَ بَني كِنَانَةَ، واصْطَفَى مِنْ بَنِي كنَانَةَ قُرَيْشاً، واصْطَفَى منْ قُرَيْشٍ بَني هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي منْ بَني هَاشِمٍ ". ورجل لا أصل له ينتمي إليه، ولا حسب يُعَرِّجُ عليه، ولكن انتهض في اقتناء المآثر، واقتناص المفاخر، حتى اشتهر بمحاسن الخلال، وصار في عداد أهل الكمال، وأنشد لسان حاله فقال: وبنفسي شرفت لا جدودي فهذا أحرى أن يشرف بوصفه وحاله، وأن يشرف به من بعده، وأن يكون هو أساس بيته، وعرق شجرته.

وكان بعض الملوك استدعى رجل ليستوزره، فقال له الرجل: أيها الملك إنه ليس لي في هذا سلف، فقال له الملك: إني أريد أن أجعلك سلفاً لغيرك، وأصاب هذا الملك، فإنه لو توقف كل بيت على بيت قبله لكان من التسلسل الباطل، فالله تعالى يخرج الحي من الميت ويحيي الأرض بعد موتها، ذلك تقدير العزيز العليم، فلم يزل الشرف يتجدد ويحدث بالعلم والولاية والجود وسائر الأوصاف. وقد ارتفع الوضعاء بالشعر كما اتضع الرفعاء به، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: " إنَّ منَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةٌ " وفي رواية: " لَحُكْماً ". فمن الأول: المُحَلَّقُ وهو عبد العزيز بن حنتم الكلابي، وكان رجلاً خاملاً مُقَّلاً من المال، فلما مر به الأعشى ذاهباً إلى سوق عُكاظ قالت له أمه: إن أبا بصير رجل مجدود في شعره، وأنت رجل خامل مقل، ولك بنات، فلو سبقت إليه وأكرمته رجونا أن يكون لك منه خير، فبادر إليه وأنزله ونحر له وسقاه الخمر، فلما أخذت منه الخمر اشتكى له حاله وحال بناته، فقال له ستكفي أمرهن، فلما أصبح قصد إلى السوق فأنشد قصيدته التي أولها: أرقت وما هذا السهاد المؤرق ... وما بي من سقم وما بي معشق إلى أن انتهى فيها إلى قوله في المُحلَّق: نفى الذمَّ عن آل المُحلَّق جفنةٌ ... كجابية السيح العراقي تفهق ترى القوم فيها شارعين وبينهم ... مع القوم ولدان مع الناس دردق لعمري لقد لاحت عيون كثيرة ... إلى ضوء نار في يفاع تحرق تشب لمقرورين يصطليانها ... وبات على النار الندى والمحلَّق وضيعَيْ لبان ثدي أم تحالفا ... بأسحم داج عَوْضُ لا نتفرق ترى الجود يجري سائراً فوق جمره ... كما زان متن الهندواني رونق فما أتم القصيدة إلاّ والناس يسعون إلى المحَلَّق يهنونه، والأشراف يتسابقون إلى بناته، فما باتت واحدة منهن إلاّ في عصمة رجل أفضل من أبيها بكثير. ومن ذلك بنو أنف الناقة، كانوا يتأذون بهذا الاسم ويكرهون ذكره، حتى تعرض بعضهم للحطيئة فأكرمه فمدحهم، وقلب الاسم مدحاً، وفي ذلك يقول: سيري أمامُ فإن الأكثرين حصاً ... والأكرمين إذا ما ينسبونَ أبا قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم ... شاءوا العناج وشدوا فوقه الكَرَبا أولئك الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا فصاروا يفتخرون به ويتبجحون بذكره، فهذا كله شرف متجدد بسبب من الأسباب، وقد يزداد الشريف شرفاً بذلك كما وقع لهرم بن سنان المري فإنه كان من سادات قومه، ولكن أخوه خارجة بن سنان أسود منه وأشهر، فلما وقع لزهير من المدائح ما وقع في هرم ازداد شرفاً وشهرة حتى فاق أخاه في ذلك، بل لا يكاد اليوم أخوه يذكر، إلى غير هذا مما يكثر. ومن الثاني بنو نمير، كانوا من جمرات العرب المستغنين بقوتهم وعددهم عن طلب حلف، وكانوا يفتخرون بهذا الاسم ويمدون به أصواتهم إذا سئلوا، إلى أن هجا جرير عبيد بن حصين الراعي منهم بقصيدته التي يقول فيها مخاطباً له: فغضَّ الطرف إنك من نمير ... فلا كعباً بلغت ولا كلابا ولو وضعت شيوخ بني نمير ... على الميزان ما عدلت ذبابا فسقطوا ولم يرفعوا بعد ذلك رأساً، حتى كانوا لا يتسمون بهذا الاسم، فإذا قيل للواحد منهم من أنت؟ قال: عامريّ. ومن أظرف ما وقع في ذلك أن امرأة مرت بقوم منهم فجعلوا ينظرون إليها ويتواصفونها، فالتفتت إليهم وقالت: قبحكم الله بني نمير، ما امتثلتم أمر الله إذ يقول:) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا منْ أبْصَارِهِمْ (ولا قول جرير إذ يقول: فغضَّ الطرف إنك من نمير ومن ذلك بنو العجلان، كانوا يتفاخرون بهذا الاسم لأن جدهم إنما قيل له العجلان لتعجيله القرى للضيفان حتى هجاهم النجاشي فقلب الاسم ذماً، وفي ذلك يقول: قُبَيِّلَة لا يخفرون بذمة ... ولا يظلمون الناس حَبّة خردل ولا يردون الماء إلاّ عشية ... إذا صدر الوُرَّاد عن كلِّ منهل تعاف الكلاب الضاريات لحومهم ... وتأكل من كعب بن عوف ونهشل وما سمي العجلانَ إلاّ لقولهم ... خذ القَعْبَ واحلب أيها العبد واعجل

فتنكروا من هذا الاسم، وجعل الواحد منهم إذا سئل يقول: كعبي مخافة أن يسخر منه ولهم معه في ذلك قصة مشهورة بين يد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ثم قد يفيض شرف الإنسان حتى يستطيل على من قبله من سلفه فتَحْيا رسومهم بعدما كانت دائرة، وتعمر ربوعهم بعدما كانت غامرة، والذروة العليا أيضاً فيمن عاد شرفه على من قبله هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما مرّ شرحه. وقد أشار إليه ابن الرومي بقوله: قالوا: أبو الصقر من شيبان قلت لهم ... كلاّ لعمري ولكن منه شيبان تسمو الرجال بآباءٍ وآونَةٍ ... تسمو الرجال بأبناءٍ وتَزْدان وكم أبٍ قد علا بابن ذُرى حسب ... كما علت برسول الله عدنان وادعى هذا الوصف أبو الطيب فقال: ما بقومي شرفت بل شرفوا بي ... وبنفسي افتخرت لا بحدودي أما شرفه هو في بابه فلا ينكر، وأما شرف قومه به فالشعر أعذبه أكذبه، وإلاّ فالحكم على الشيء فرع تصوره، نعم، كان من عادة العرب أنه إذا نبغ شاعر في قوم اعتزوا به، واحتموا عن الشعراء، فلو تحقق لأبي الطيب قوم لكانوا كذلك. ورجل له أصل وقديم شرفٍ ثم لم يبنه ولم يجدده، وهو إما أن تخفى عوامله فلم يبن ولم يهدم، مع أنه بالحقيقة من لم يكن في زيادة فهو في نقصان، والمراد أن يرجع إلى غمار الناس فلا يحدد المآثر، ولا يخرج إلى المعايب، فهذا لا فضيلة له إلاّ مجرد النسب والفخر العظاميّ كما مر، وإما أن يهدمه بملابسة ضد ما كان أولاً، فهذا بمنزلة من هدم الدار ثم حفر البقعة أيضاً فأفسدها، فهذا مذموم بما جنى على نفسه وبما جنى على حسبه ونسبه والذروة العليا في هذا الصنف اليهود والنصارى ونحوهم، فقد هدموا أنسابهم وأحسابهم بشر الخصال، وهو الكفر، نسأل الله العافية. ومن هذا النمط من يخلف آباءه الصالحين بالفسق وكثرة الرغبة في الدنيا والكبر والدعوى وغير ذلك من القبائح كما هو شأن كثير من أولاد الصالحين في زماننا نسأل الله العافية، وفي هذا الصنف قيل: لئن فخرت بآباء لهم شرف ... لقد فخرت ولكن بئس ما ولدوا وقال لبيد: ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خَلْفٍ كجلد الأجرب وقال الآخر: ذهب الرجال المقتدى بفعالهم ... والمنكرون لكل أمر منكر وبقيت في خَلْفٍ يزيِّن بعضُهم ... بعضاً ليست مُعْوِرٌ عن مُعْوِرِ الرابع - قد يقال فيما ذكرناه من النسب: إنه من النسب الطويل وهو عيب ويذم بضده وهو النسب القصير قال الشاعر: أنتم بنو القصير، وطولكم ... باد على الكبراء والأشراف والنسب القصير هو أن يقول: أنا فلان ابن فلان، فيعرف لكون أبيه أو جده الأدنى من الأعيان، والطويل هو ألاّ يعرف إلى رأس القبيلة. والجواب أولاً أننا لم نذكر النسب افتخاراً حتى يعرض على هذا المقياس، وإنما ذكرناه لاحتياج إليه في المصالح الدينية والدنيوية عند أهله وثانياً أن كون الإنسان من الأعيان أمر إضافي كما مرّ أنه قد يكون من أعيان عشيرته أو قومه وهو الأغلب، وقد يكون من أعيان عمارته أو إقليمه أو جيله، وهو عزيز الوجود، ولا شك أن شرف الإنسان واشتهاره باعتبار عشيرته أو قومه إنما يعرف فيهم ولا يضيره ألاّ يعرفه غيرهم، لأن سادات العرب لا يعرفهم العجم، ولا العكس، وكذا فيما بين العرب غالباً، وقال الشاعر: طويل النجاد رفيع العما ... د ساد عشيرته أمردا وقال الآخر: ليس العبيّ بسيد في قومه ... لكنّ سيد قومه المتغابي ولم يخرج عن هذه الإضافة الملوك كما قال النابغة: وللحارث الجفنيّ سيد قومه ... ليبتغين بالجيش دار المحارب وقالت هند بنت عتبة رضي الله عنها لمن قال لها في ابنها معاوية رضي الله عنه: أرجو أن يسود قومه: ثكلته إن كان لا يسود إلاّ قومه، وذلك أنها سمعت قبل ذلك من الكهان أنها تلد ملكاً اسمه معاوية في قصة مشهورة. إذا تقرر هذا فالمنتسب معروف النسب قصيره، بحمد الله في قومه، وهو من صميمهم، وإنما رفعه ليعرف على ما تشعب عنه من الفصائل والبطون، وليعرف انقطاعه عند دخول القرى وغير ذلك من الفوائد التي مرت. وأما ذكري لما مرّ من الكنى فلجريانها على ألسنة فضلاء مع التفاؤل ورجاء تحقق ما له معنى منها.

رؤيا والد المؤلف ودعوة أستاذه

أما أبو علي، وهو كنية الحسن المشهورة، فكناني بها شيخ الإسلام الإمام الهمام أستاذنا وقدوتنا أبو عبد الله سيدي محمد بن ناصر الدرعي رضي الله عنه وعنا به. وكنت وردت عليه في أعوام الستين والألف بقصد أخذ العلم، فامتدحته بقصيدة قدمتها بين يدي نجواني، فانبسط إليّ بحمد الله، وافتتحنا بكتاب التسهيل فلما قرأنا الخطبة دخل مسروراً فكتب إليّ: أبا علي جزيت الخير والنعما ... ونلت كل المنى من ربنا قسما يا مرحباً بك كل الرحب لا برحت ... قرائح الفكر منك تجني حكما ولم أزل بحمد الله أتعرف بركة دعائه وإقبال قلبه إلى الآن، نسأل الله تعالى أن لا يزايلنا فضله ورحمته حتى نلقاه آمين. وقال ابن عمنا الفاضل البارع أبو سعيد عثمان بن علي اليوسي رحمه الله من أبيات: نمسي عشية قيل مرّ أبو علي ... مثل الرياح إذا تمرّ بأَثْأَبِ ولم يزل الشيخ رضي الله عنه يأمرني بذلك إلى أن توفاه الله في رسائله ومخاطبته وعند ذكري. وأما البواقي فكناني بها فضلاء من الإخوان في رسائلهم: ونحوت في ذلك منحى السيد خير النساج وكان اسمه محمد بن إسماعيل، فلما وقعت عليه المحنة وألقي عليه شُبه خير مملوك لرجل نساج فقبض عليه وأدخله ينسج ويخاطبه بهذا الاسم، فلما كشفت عنه المحنة وخرج ترك هذا لاسم على نفسه، فقيل له: ألا ترجع إلى اسمك؟ فقال: ما كنت لأغير أو لأترك اسماً سماني به رجل مسلم. واعلم أن لهذا السيد في التزام هذا الاسم المذكور أوجهاً منها: أنه تسليم لأنه شاهد فعل الله تعالى، فلما ألقى الله تعالى عليه الاسم لم يبق له اختيار في التعرض له. ومنها: أنه يستشعر من مولاه تعالى أنه أدبه بجعله عبداً مملوكاً وتسميته باسمه، وضربة المحبوب تستلذ. ومنها: أنه يتذكر العبودية وذلتها، وهذه الطائفة قد صارت الذلة شرابهم ونعيمهم. ومنها: أنه يذكر به العقوبة فيذكر الهفوة ليتحرر منها. ومنها: أنه يبقى عليه الاسم ليبقى عليه ذكر الهفوة والعقوبة هضماً لنفسه وإرغاماً لها. ومنها: التفاؤل بهذا اللفظ فإنه على أصله، وهو ضد الشر، وعلى أنه مخفف من التشديد فهو ذو الخير، وكيف أترك أنا كنية كناني به رجل من أفاضل المسلمين ولا سيما إن تضمنت معنى حسناً. لله الأمر من قبل ومن بعد رؤيا والد المؤلف ودعوة أستاذه ولما كان القصد في هذا الموضوع إلى ذكر المحاضرات بنوادر الفوائد مما اتفق لي خصوصاً أو لغيري عموماً وجب أن ينخرط في سلك ذلك ما وقع في شأني حال الولادة لأنه أول الرحلة إلى هذه الدار مع ما انضاف إليه مما يكون له مصداقاً أو يرجى خيره ويذكر على وجه التبرك والتفاؤل أو التحدث بالنعم، وفيه مسرة المحب ومساءة البغيض فأقول: إني أرجو أن أكون إن شاء الله تعالى رؤيا والدي ودعوة أستاذي؛ أما رؤيا الوالد فاعلم أن أبي مع كونه رجلاً أمياً كان رجلاً متديناً مخالطاً لأهل الخير محباً للصالحين زَوّاراً لهم، وكان أُعْطِيَ الرؤيا الصادقة وأعطي عبارتَها، فيرى الرؤيا ويعبرها لنفسه، فتجيء كَفَلَقِ الصبح، وكان مما رأى وتواتر الحديث به عنه في العشيرة رحمه الله أن قال: رأيت عينيْ ماء إحداهما لي، والآخر لعلي بن عثمان، وهو والد ابن عمنا الأديب البارع أبي سعيد عثمان بن علي رحمه الله، غير أن عين علي كنا نسقي بها في بلدنا وعيني خرجت إلى ناحية أخرى. وزعموا أنه قال: وكانت العين التي هي لي أقوى ماء وأكثر فيضاً ثم فسر ذلك بمولودين ينتفع بهما.

فولد أبو سعيد المذكور فانتفع ونفع حتى مات رحمه الله، وظهر أنه العين المذكورة لأبيه، وولدت أنا أيضاً، وقد كان لي أخوان أسن مني فماتا أميين رحمهما الله، فأرجو أن أكون تلك العين، وقد اتفق خروجي عن البلد كما قال رحمه الله، وكنت بعد ذلك حين ارتحلت في طلب العلم إلى ناحية السوس الأقصى غيبت عن الوالد رحمه الله أعواماً لا يدري أين أنا؟ فلما قفلت حدثني رحمه الله فقال: لما ضقنا من غيبتك رأيت كأن الناس يتجارون خلف فرس أشقر ليقبضوه، فجئت إليه أنا فأمسكته بلجامه، فلما استيقظت قلت للناس: إن الحسن ابني سيأتي وأجتمع به فكان ذلك، والفرس الأشهب عند المعبرين اشتهار بشرف وذكر، وقد حصل لي ذلك بحمد الله، نسأل الله سبحانه أن يكمل ذلك لنا وله ولسائر الأحباب بالفوز يوم الحشر والرضوان الأكبر، بجاه نبيّه المصطفى المبعوث إلى الأسود والأحمر، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه المجلين في كل مفخر. وأما دعوة أستاذي، وهو شيخ الإسلام، وعلم الأعلام، أبو عبد الله سيدي محمد بن ناصر، رحمه الله تعالى ورضي عنه، فهي تلك بعينها، وكان من حديثي معه في ذلك أنه لما تهيأ للتشريق في حجته الثانية أرسل إلي في حاجة أقضيها له مما يتعلق بسفره ذلك، وأنا إذ ذاك بالزاوية البكرية، فقضيت ذلك بحمد الله وسافرت به إليه حتى بلغته، فلقيني بترحيب، ورأيت منه بحمد الله إقبالاً خارجاً عن المعتاد حتى إنه متى ذكرت ذلك إلى اليوم يغشاني خجل وإشفاق على نفسي، وأقمت معه حتى شيعته لوجهته إلى أن جاوزنا سجلماسة بمرحلة، فرجعت إلى داري، ولما كنت ببعض الطريق ألهمت الدعاء له فاتخذت الدعاء له بعد أوراد الصبح وردا، فلما قفل من الحج ذهبنا إليه لنسلم عليه، فخلوت به يوماً وجعلت أطلب منه وأطلب، فقال لي رحمه الله: أما الدعاء فإني في سفرتي هذه ما دخلت مقاماً ولا مزارة، ولا توجهت إلى الدعاء لأحد إلاّ جاء بك الله تعالى في لساني أولاً، ثم لا أدعو لك إلاّ بهذا الدعاء: اللهم اجعله عيناً يستقي منها أهل المشرق وأهل المغرب، قال: حتى كنت أتعجب في نفسي وأقول: سبحان الله! بماذا استحق هذا الرجل هذا؟ ولمل صنفت القصيدة الدالية في مدحه وتهنئته بالحج أدخلها إليه ولده الفقيه الناسك الفاضل أبو محمد عبد الله بن محمد فخرج إلي وقال: يقول لك الشيخ: جعلك الله عيناً يستقي منها أهل المشرق وأهل المغرب، وشمساً يستضيء بها أهل المشرق وأهل المغرب، وهذا اللفظ يحتمل الدعاء والخير، نسأل الله تعالى أن يحقق لنا نحن وللمسلمين ذلك آمين. ومن هذا ما كلمه جماعة من فقراء العرب وأنا حاضر معهم فقال لهم يشير إليّ هذا شمسكم، هذا ضوءكم، وهذا كله أصرح مما حكى تاج الدين بن عطاء الله عن شيخه القطب العارف أبي العباس المرسي رضي الله عنهما قال: جاء الشيخ مرة من سفر، فلقيناه فدعا لي وقال: فعل الله لك وفعل، وبهاك بين خلقه قال: ففهمت يعني من قوله وبهاك بين خلقه أني مراد بالظهور إلى الخلق. وأعلم أن مواطأة دعوة الشيخ رضي الله عنه لرؤيا الوالد، مع كونه لم يحضر لذلك ولم ينقل إليه، من عجيب الاتفاق. قد ذكرت هنا ما وقع في الحديث عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا له: يا رسول الله عليه أخبرنا عنك فقال لهم: " أنا دعوة أبي إبراهيم عليه السلام، ورؤيا أمي ". تنبه أيها الناظر، فإياك أن يختلج بفهمك، أو يخطر بوهمك، أني أنزع بهذه الحكاية قصداً إلى المحاكاة، معاذ الله، فإن درجات الأنبياء لا تنبغي لغيرهم، ولا يصل أحد إلى مزاحمتها، فكيف بسيد الأنبياء؟ صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين وعلى آله وعلى آل كل ثم إياك أيضاً أن تتوهم أن لا نسبة ولا نسب ولا شبهة ولا شبه فتقع في الغلو من الطرف الآخر، وقد قال صلى الله عليه وسلم " خَيْرُ الأمُورِ أوْسَطُهَا " ولا بد لهذا من تقرير فنقول:

تقلبات الدهر

إن الله جل اسمه، وهو الذي لا مثل له ولا نظير، ولا شبه ولا وزير، قد شرع لعباده التعلق بأسمائه الحسنى، ثم شرع لهم أيضاً التخلق بها في الجملة حتى إذا علمنا مثلاً أن الله تعالى حليم انتهض العبد في التحلي بالحلم فيكون حليماً، كذا إذا علمنا أنه تعالى عليم أو وهاب أو صبور أو شكور انتهض العبد في الاتصاف بالعلم وبالجود وهكذا حتى يكون عليماً وهاباً ومعلوم أن حلم العبد ليس كحلم الله وهكذا، ولكن له به نسبة هي توجب قرب العبد من الله تعالى في المعنى ومن هذا حديث " خَلَقَ اللهُ آدَمَ عَلىّ صُورَتِهِ " أي خلقه حيّاً عالماً قديراً، وليس كالجمادات والحيوانات العجماوات، وبهذا تأهل لأن يكون عبد الحضرة دونها. ثم إن العباد المختارين يرضون لرضى الله، ويغضبون لغضبه، ويشتدون لأجله، ويلينون لأجله، وهكذا في سائر الأحوال والأفعال، قال تعالى في أصحابه صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم:) أشدّاءُ عّلى الكُفّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ (وقال أيضاً:) أذِلّةٍ عَلى المُؤمِنِينَ أعِزَّةٍ عَلىَ الكَافِرِينَ (وهو مسايرة ومشايعة في الأفعال والأحوال، وذلك شأن عبيد الملك، وإذا كان هذا في حق الله تعالى ففي حق الأنبياء أقرب وأيسر، فلا إشكال في صحة تعاطي أوصافهم وأخلاقهم وأفعالهم وسائر أحوالهم وإن لم تكن في ذلك مشابهة ولا مزاحمة للنبوءة، بل اتباع واقتباس وشبه توجب لصاحبها أيضاً القرب منهم، ولهذا قيل في الوارث: إنه من كان على قدم النبي صلى الله عليه وسلم أي متحققاً في الاقتداء به قولاً وفعلاً وحالاً، وقال صلى الله عليه وسلم: " الرُّؤْيّا الصالِحَةُ مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ جُزْءٌ مِنْ سِتَةٍ وترجمة ابن الجوزي أرْبَعِينَ جُزْءاً مِنَ النُّبُوءةِ " فقد علم من لفظ الحديث أن الرؤيا الواقعة من غير النبي لعموم لفظ الصالح قد أخذت بنسبة من النبوءة، فهي منها غير أنه لقلة النسبة لا تقع بها مزاحمة، وقال الشيخ أبو يزيد رضي الله عنه: مثل ما أعطي الأنبياء مثل زق مملوء ماء أو عسلاً، ومثال ما أعطي الأولياء كلهم مثال قطرات تقطر من ذلك الزق، فانظر في هذا المثال فإن القطرات هي من ماهية ما في الزق قطعاً، ولكنها لقلتها جدّاً لا تقع بها مزاحمة، ولم يزل أهل الدين من العلماء العاملين والمجاهدين السالكين والواصلين العارفين يأخذون أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم من أحوال الأنبياء عموماً وحال نبينا صلى الله عليه وسلم خصوصاً، وهذا هو الشأن كله. وقد يقع لهم مما هو في معنى الاقتباس والإشارة والتمثيل ما يزيد على هذا كما قال الشيخ أبو مدين رضي الله عنه لأبي عمران موسى ابن يدراسن الحلاّج حين توجه إليه: " فإن أمن العرب " فأنت موسى وأنا شعيب، وإن موسى لما بلغ شعيباً أمن. ومن هذا ما وقع له رضي الله عنه في القرآن وقد دخل عليه رجل من أهل الإنكار والمصحف بين يديه فقال للرجل: ارفع المصحف وافتحه وانظر إلى أول ورقة منه فإذا فيها:) الّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَانُوا هُمُ الخَاسِرِينَ (. ومن هذا النمط كان رضي الله عنه يقول: لا يكون المريد مريداً حتى يجد في القرآن كل ما يريد. وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه في شأن ابن عطاء الله الفقيه جد الشيخ تاج الدين: إن النبي صلى الله عليه وسلم يوم ثقيف جاءه ملك الجبال فقال له: ما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً، قال فكذلك صبرنا لجد هذا الفقيه لأجل هذا الفقيه يعني تاج الدين إلى غير هذا مما يكثر. فما وقع من الحكاية بعد أن يكون قصد به اقتباس وضرب من المناسبة يكون كل شيء مما مرّ، وإلاّ فهو استطراد للعلم وتذكير بفائدة، وقد يقال على أنه مما مرّ، فأين منزلتك أي هذا المتشبع بما لم يعط من درجات الشيخين المذكورين ونحوهما حتى يصح منك ما صح منهم؟ فنقول: إذا انفصلنا من جانب النبوءة بخير فقد خرجنا عن مضيق الممتنع إلى فضاء لجائز، وهو رحب، ومن تشبّه بقوم فهو منهم كما قيل: لم أكن للوصال أهلاً ولكن ... أنتمُ بالوصال أطعمتموني لله الأمر من قبل ومن بعد تقلبات الدهر

مقام الشكر

كان الشيخ الصالح أبو محمد الحسين بن أبي بكر رحمه الله ينشدنا كثيراً تحريضاً على جميل الصبر، وتعريفاً بتقلبات الدهر، ونحن إذ ذاك صبيان قول الشاعر: ثمانية تجري على الناس كلهم ... ولا بد للإنسان يلقى الثمانيه سرور وحزن واجتماع وفرقة ... ويسر وعسر ثم سُقْمٌ وعافيه ونحو قول أبي الطيب: على ذا مضى الناس اجتماع وفرقة ... وميْتٌ ومولود وقالٍ ووامق فهذه أحوال تعرض لابن آدم على التوارد، لا يسلم منها في الجملة، ولا تنحصر لبقاء العز والذل والقوة والضعف والحركة والسكون، وغير ذلك مما لا يحصى، وكثير منها يصلح رده إلى ما ذكر بضرب من التأويل، ولو اشتغلنا بتفصيل ذلك وشرحه لغة واصطلاحاً لطال واحتاج إلى ديوان وحده أو أكثر، فلنقتصر على الإجمال مع الإلمام. فالأول وهو السرور والحزن فنقول: هما مترتبان على المحاب والمكاره، ومن المحبوب فوات المكروه ومن المكروه فوات المحبوب، والإنسان لا يخلو من أن يظفر بمحبوب فيسر به أو يفوت فيحزن، وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان صلى الله عليه وسلم يوماً في البيت يعمل عملاً فنظرت إلى وجهه صلى الله عليه وسلم، وهو يتهلل أو كما قالت، فقلت يا رسول الله أنت والله أحق بقول أبي كبير، تعني الهذلي: ومُبَرَّأٍ من كلِّ غُبَّر حيضة ... وفساد مرضعة وداءٍ مُغْيِلِ وإذا نظرت إلى أسِرَّة وجهه ... برقت كبرق العارض المتهلل قالت: طرح ما في يدي وأخذني وقبل ما بين عيني وقال صلى الله عليه وسلم: يا عامر ما سررت بشيء كسروري بك. وقد ذكر القصة في الإحياء، وقال صلى الله عليه وسلم يوم فتح خيبر، وقد قدم عليه جعفر ابن أبي طالب رضي الله عنه فعانقه: لا أدري بمَ أُسَرّ أبفتح خيبر، أم بقدوم جعفر؟ وقال صلى الله عليه وسلم يوم مات ابنه إبراهيم: " العَيْنُ تَدْمَع، وَالْقَلْبُ يَحْزَن، وَلا نَقُول إلاّ مَا يُرْضي رَبَّنَا، وإنّا بِفِرَاقِكَ يَا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزونُونَ ". ثم الإنسان في أيام دهره لا يكاد يخلو من سوء، فإن الدنيا دار بلاء ومحنة، ولا سيما في حق المؤمن الذي هي في حقه سجن، فقد قال الله تعالى:) وَلْنَبْلُوَنَّكُمْ حتّى نَعْلَمَ المُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ (. وقال الله تعالى:) الم، أحَسِبَ النّاسُ أنْ يُتْرَكُوا أنْ يَقُولوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَلْيَعْلَمَنَّ اللهُ الّذِينَ صَدَقُوا وَلْيَعْلَمَنّ الكَاذِبِينَ (وقال تعالى:) وَلْنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ وَالجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَمَرَاتِ (وقال تعالى:) لَتُبْلَونَّ في أمْوَالِكُمْ وَأنْفُسِكُمْ وَلْتَسْمعُنَّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَذِينَ أَشْركُوا أذى كَثِيراً (إلى غير ذلك. وقال صلى الله عليه وسلم: " أشَدَّكُمْ بَلاءً الأنْبِيَاءُ ثُمَّ الأمْثَلُ فَالأمْثَلُ ". وقال الشيخ أبو القاسم الجنيد رضي الله عنه: أصلت لنفسي أصلاً فلا أبالي بعده، وهو أني قدرت أن هذا العالم كله شر، ولا يلقاني منه إلاّ الشر، فإن لقيني الخير فنعمة مستفادة، وإلاّ فالأصل هو الأول. ومن غريب ما اتفق في هذا المعنى أن بعض الملوك نظر في كتاب الحكمة فإذا فيه: إن الدهر لا يخلو من المصائب، وإنه لا يصفو فيه يوم من كدر فقال: لأكذبن هذا. وأعد ليلة لسروره. وأحضر فيها كل ما يحتاج، وكانت عنده جارية حظية هي مجمع لذته، ومنتهى أنسه، فأحضرها لذلك، وأمر أن تصرف عنه الصوارف وتقطع عنه الأشغال ليتفرغ لمتعته وأنسه، ويقضي الأرب كله من هوى نفسه، فحين أمسى كان أول ما قرب للجارية العنب، فأخذت حبة وجعلتها في فيها فغصت بها، وكان ذلك آخر العهد بها. فلم يرَ الملك أمرّ من تلك الليلة، ولا مصيبة ولا هما ولا حزناً أفظع مما فيها فسبحان القاهر فوق عباده، الغالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. مقام الشكر ومقام الصبر عند الصوفية العارفين

الشجرة الخضراء

هذا ومتى تأمل العبد أحواله، واستقرأ عوارضه، وجد لطف الله تعالى أغلب، ونعمته عليه أوسع، قال تعالى:) الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ (وقال تعالى:) وَإنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصوهَا (، وفي الخبر: " يَقُولُ الله تَعَالَى: إنَّ رَحْمَتي سَبَقَتْ غَضَبي ". ولا يشك العاقل أن أيام البلاء أقل من أيام العافية، وأوقات العسر أقل من أوقات اليسر وهكذا. وقد قال الله تعالى في قصة آل فرعون:) فَإذَا جَاءتْهُمُ الحَسَنَة قَالُوا لَنَا هَذِهِ (الآية. ثم لا يخلو وقت من لطف، ولذا قال أئمة التصوف رضوان الله عليهم: العارف من عرف شدائد الزمان في الألطاف الجارية. ثم المؤمن كما في الحديث كله بخير، إن أصابه الخير شكر الله تعالى فكان له خيراً، وإن أصابه شر صبر فكان خيراً له. وقال بعض العارفين: الناس كلهم في مقام الشكر، وهم يحسبون أنهم في مقام الصبر. وبيان هذا من أوجه: الأول - أن موجب الشكر وهو النعمة أغلب، والحكم للأغلب. الثاني - أنه ما من شر وبلاء يصيب العبد إلاّ وفي مقدور الله تعالى من البلاء ما هو أفظع منه قد صرفه الله تعالى، فيجب الشكر على الاقتدار على ما وقع. الثالث - ما يفيده البلاء من رياضة النفس وتشجيعها للنوائب وإخماد سَوْرَتِها والنجاة من طغيانها وما يجر إليه من البلاء ديناً ودنيا، وتربية العقل بتعريفه تقلبات الدهر وفتح البصيرة في الأمور وهذه الأوجه عامة في المؤمن وغيره. الرابع - ما يحصل بالبلاء في الدنيا من مزيد المعرفة بالله تعالى وقهره وقوته وبطشه وفي الآخرة من الأجر العظيم. الخامس - ما يحصل للنفس من الخشوع لخالقها والانفكاك عن المعصية. السادس - سلامة ثوابه من شوب الرياء وما يفسده إذ لاحظ للنفس فيه فهو خير قد دخل عليها بلا تعمل، فالشكر عليه أحق، إلى غير ذلك من الفوائد التي يطول تعدادها، فمن علم ذلك كان البلاء عنده محل الشكر فصار في مقام الشكر على كل حال. لله الأمر من قبل ومن بعد الشجرة الخضراء في المدينة الحالية: سجلماسة كان بسجلماسة أيام ارتحلنا إليها للقراءة زمان الصبا شجرة يقال لها الشجرة الخضراء مشهورة في تلك البلاد وفي سائر بلاد القبلة، وهي قدر الزيتونة أو السدرة الكبيرة، وورقها يقرب من ورق السدر، وسبب شهرتها أنها غريبة الشكل دائمة الخضرة وغريبة في محلها لأنها في البلد وليست من شجر البلد، وهي منفردة ليس معها شجر أصلاً، وكانت نابتة خارج سور المدينة الخالية بينه وبين النهر قبالة الرصيف الذي يعبر عليه لناحية الزلاميط، ويقال: إن ذلك باب من أبواب تلك المدينة، والله أعلم. ثم إن الأستاذ الفاضل أبا يزيد عبد الرحمن بن يوسف الشريف بعث إليها جماعة من الطلبة فقطعوها، وكان ذلك يوم الخميس، وكنت جئت من ناحية المراكنة ذلك اليوم قصداً إلى سوق الخميس، فلما بلغت إلى الشجرة وجدت الطلبة حين بلغوا إليها بقصد قطعها فقعدت حولها أنظر، فلما انفصل أهل السافلة من السوق وكانت طريقتهم كان كل من يمر فيراها تقطع يصيح ويتأسف ويقول: ما فعلت لكم المسكينة؟ وكان أهل سجلماسة لما استغربوا أمرها يزورونها، ولا سيما النساء، فيكثرون عليها من تعليق الخيوط ويطرحون الفلوس أسفلها، وربما تغالت النساء في تعظيمها والتنويه بشأنها حتى يسمينها باسم امرأة صالحة كالسيدة فاطمة ونحو ذلك، فلهذا أمر الأستاذ المذكور بقطعها وكأنه يرى أنها صارت ذات أنواط كما قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه، فذكرناها نحن للتنبيه على ذلك، فإن عوام الناس أكثروا عليها منذ عقلنا حتى كانوا ينسبون إليها من ترهات الأراجف نحو قولهم: قالت الشجرة الخضراء: هذا زمان السكوت، من قال يموت، فليعلم الناظر أنها إنما هي شجرة لا تضر ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، ومثلها أحق أن يقطع. ومن هذا نسيت شجرة بيعة الرضوان حتى لم يثبت عليها الصحابة الذين كانوا تحتها فضلاً عن غيرهم، وذلك مخافة أن تعبد.

محتالون يظهرون الصلاح ويخدعون الناس

وسمعت الفاضل الناسك البكري بن أحمد بن أبي القاسم بن مولود الجاوزي رحمه الله يحدث عن أسلافه أن شيخ المشايخ أبا القاسم الغازي رضي الله عنه ونفعنا به كان يقول لهم: إنه نزلت عليه القطبانية تحت شجرة ببلد أجاوز، فيقولون له: يا سيدنا لِمَ لمْ ترنا تلك الشجرة، فيقول خفت أن تتركوا السبع وتعبدوا النغورة أي مغارته أي يتركونه فلا ينتفعون به ويشتغلون بالشجرة. وكانت بقرب تاغية مقام الشيخ أبي يعزي شجرة من أحجار يقال له: البقرة، وكل ذلك حقيق بالإزالة، غير أن العالِم سيفُه لسانُه، وما وراء ذلك إنما هو لأهل الأمر، ومن له قدرة على الأمر. نعم، التبرك بآثار الصالحين مع صحة العقيدة لا بأس به، وله أصل في فعل الصحابة رضوان الله عليهم، فقد كان ابن عمر رضي الله عنهما يدير راحلته حيث رأى النبي صلى الله عليه وسلم أدارها ويتحرى الأماكن التي صلى فيها صلى الله عليه وسلم، وذلك مذكور في الصحيح وفيه قيل: خليلي هذا ربع عزة فاعقلا ... قلوصيكما ثم ابكيا حيث حلت ولا تيأسا أن يمحو الله عنكما ... ذنوباً إذا صليتما حيث صلت ورأيت في بلاد المصامدة وخصوصاً بلاد رجراجة من هذا كثيراً بقي عندهم موروثاً خلفاً عن سلف عندما يدورون على صلحائهم زائرين، ولما حضرت معهم في الدور في هذه السفرة التي بدأت فيها هذه الأوراق، وذلك سنة خمس وتسعين وألف لم أوافقهم في فعل كثير مما يفعلون من ذلك مخافة أن يتخذني العوام حجة فيتغالون في ذلك، ومع ذلك لم أخل نفسي من التبرك بأمور قريبة لا بأس فيها. وفي بلاد المغرب مواضع اشتهرت بآثار الصالحين ووقع التغالي فيها، منها شالة في رباط سلا، فلا يعرف لها إلاّ أنها مزارة يزورها الناس ويتبركون بمن فيها، ولم يظهر فيها بهذا العهد إلاّ يحيى بن يونس، وهو مشهور عند الناس، ولا تعرف له ترجمة، وملوك بني عبد الحق، وهم معروفون، ولا بأس بهم، وكل ما يذكر فيها مما سوى ذلك ويوجد في بعض الأوراق المجعولة من الأخبار فلا يعرف له أصل ولا يعول عليه. ومنها ميسرة في بلاد ملوية حيث مدفن الشيخ أبي الطيب بن يحيى الميسوري، ويقال لها تامغروات قد اشتهرت عند الناس، وتوجد فيها أخبار وأحاديث في الأوراق وألسنة الناس، وسألت عن ذلك بعض أولاد الشيخ المذكور وهو الفاضل أبو عبد الله محمد بن أبي طاهر عند نزولنا عليه فقال: ما ثبت عندنا في هذا الموضع إلا أنه كان رابطة لأسلافنا يتعبدون فيه، فقلت له: نعم الوصف هذا، فإن متعبد الصالحين حقيق أن يتبرك به، فهذا أيضاً غاية ما يثبت في الموضع وما وراء ذلك لا يلتفت إليه. ومنها رباط شاكر وهو مشهور، وكان مجمعاً للصالحين من قديم، ولا سيما في رمضان، يفدون إليه من كل أوب، حتى حكى صاحب التشوف عن منية الدكالية رضي الله عنها أنها حضرت ذات مرة في رباط شاكر فقالت لبعض من معها: إنه حضر هذا العام في هذا الرباط ألف امرأة من الأولياء، فانظر إلى عدد النساء فكيف بالرجال! فلا شك أن هذا الموضع موضع بركة ومجمع خير، ولكن لم نقف من أمره إلا على ما وقع في التشوف من أن شاكراً ذكر أنه من أصحاب عقبة بن نافع الفهري وأنه هنالك، وأن يعلى بين مصلين الرجراجي بناه، وكان يقاتل كفار برغواطة، وغزاهم مرات، وأن طبله هو الباقي هنالك إلى الآن، والله أعلم. ولم يظهر فيه في العهد من مشاهد الصالحين إلا أبو زكرياء المليجي، والله أعلم. لله الأمر من قبل ومن بعد محتالون يظهرون الصلاح ويخدعون الناس مما وقع بسجلماسة قريباً من هذه القصة أنه شاع في البلد ذات ليلة أنه قد ظهر رجل في المدينة الخالية، فأصبح الناس يهرولون إليه أفواجاً، وخرجنا مع الناس فقائل يقول: ولي من أولياء الله، وآخر يقول: صاحب الوقت، فلما بلغنا المدينة وجدنا الخلق قد اجتمعوا من كل ناحية على ذلك الرجل حتى أن أمير البلد وهو محمد بن الشريف خرج في موكب حتى رآه فلما كثر الناس اشتد الزحام عليه وتعذرت رؤيته، دخل في قبة هناك في المقابر فاخرج كفه من طاق في القبة فجعل الناس يقبلون الكف وينصرفون، وكان كل من قبل الكف اكتفى ورأى أنه قضى الحاجة فقبلناه وانصرفنا، ثم بعد أيام سمعنا أنه ذهب إلى ناحية الغرفة، وأنه سقط في بئر هنالك ومات، فظهر أنه رجل مصاب، وكأنه يشتغل باستخدام الجان ونحو ذلك فهلك.

أشعار في الكرم وخدمة الضيف

وإنما ذكرنا هذا ليعلم وينتبه لمن هذا حاله، فكم تظاهر بالخير من لا خير فيه من مجنون أو معتوه أو موسوس أو ملبس، فيقع به الاغترار، للجهلة الأغمار. ما أنت سار غرّه قمر ... ورائدٍ أعجبه خضرة الدمَنِ وقد يشايعه من هو على شاكلته من الحمقى ومن الفجار، وشبه الشيء منجذب إليه. إن الطيور على أجناسها تقع فيغتر الأغبياء بذلك إلا من عصمه الله. وقد صعدت في أعوام الستين وألف إلى جبل من جبال هسكورة فإذا برجل نزل عليهم من ناحية الغرب، واشتهر بالفقر، وبنى خباء له وأقبل الناس عليه بالهدايا والضيافات، وكان من أهل البلد فتى يختلف إليه ويبيت عنده، فاستراب من أمره بعض الطلبة، فتلطف مساء ليلة حتى ولج الخباء، فكمن في زاوية منه فلما عسعس الليل قام المرابط إلى الفتى فاشتغل معه بالفاحشة، نسأل الله العافية، ثم علم أن قد علموا به فهرب، وبلغ الخبر إلى اخوة الفتى فتبعوه، ولم أدر ما كان من أمره، ومثله كثير. ومن أغرب ما وقع من هذا أيضاً بسجلماسة ما حدث به أخونا في الله الولي الصالح أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن علي بن طاهر الشريف المعروف بابن علي رضي الله عنه قال: ما لعب بإخواننا يعني أشراف سجلماسة إلاّ رجل جاءهم في البلد واتَّسم باسم الصلاح، ووقع الإقبال عليه، فكان يأتيه الرجل فيعده بأن يبلغه إلى مكة ويحج به طرفة عين، واستمر على ذلك مدة، ثم قام نفر من الأشراف اتفقوا على اختباره، فكمنوا قريباً منه، وتقدم إليه أحدهم وعنده نحو خمسين مثقالاً فقال له: يا سيدي إن هذه الصلاة تثقل علي، فعسى أن ترفعها عني، وأفرغ تلك الدراهم بين يديه، وكأنه هش لذلك، فبادره الآخرون قبل أن يستوفي كلامه وأوجعوه ضرباً وطردوه. ثم بعد مدة سافر بعضهم إلى الغرب فمر بعين ماء هنالك، فإذا الرجل عندها يستقي قربة له منها، وإذا هو يهودي من يهود معروفين هنالك، نسأل الله العافية. فالحذر مطلوب، ولا سيما فيما نحن فيه من آخر الزمان الذي استولى فيه الفساد على الصلاح، والهوى على الحق، والبدعة على السنّة، إلاّ من خصه الله وقليل ما هم، وفيه قيل: هذا الزمان الذي كنّا نحاذره ... قول كعب وفي قول ابن مسعود إن دام هذا ولم يحدث له غير ... يبك ميت ولم يفرح بمولود بل نقول: ليته يدوم، فإنه لا يأتي بأمان إلاّ والذي بعده شر منه كما في الحديث الكريم. نعم لا بد للناس من تنفيس، فنسأل الله تعالى أن يرزقنا تنفيساً نقضي فيه ما بقي من أعمارنا في خير، ونستعتب مما مضى، إنه الكريم المنان. هذا، ولا بد مع الحذر من حسن الظن بعباد الله، ولا سيما من ظهر عليه الخير والتغافل عن عيوب الناس. وفي الخبر: خصلتان ليس فوقهما شيء من الخير: حسن الظن بالله وحسن الظن بالناس، وخصلتان ليس فوقهما شيء من الشر: سوء الظن بالله وسوء الظن بالناس، ومن تتبع عيوب الناس تتبع الله عيوبه حتى يفضحه في قعر بيته. فالاعتراض بلا موجب جناية، واتباع كل ناعق غواية. وفي كلام مولانا علي كرم الله وجهه: الناس ثلاثة: عالم ربّاني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهَمَجٌ رَعاعٌ، أتباع كل ناعق. فمن ثبتت استقامته، وصح علمه وورعه وجب اتباعه، ومن اتسم بالخير وجب احترامه على قدره، والتسليم له في حاله، ومن ألقى جلباب الحياء عن وجهه وجب لومه، وإذا ظهرت البدعة وسكت العالم فعليه لعنة الله، ولا بد من مراعاة السلامة. وهذا باب واسع لا يكفيه إلاّ ديوان وحده، وإنما ذكرنا هذه الإشارة استطراداً. لله الأمر من قبل ومن بعد أشعار في الكرم وخدمة الضيف من الشعر المستملح في باب التكرم قول المقنَّع الكِندي أنشده القالي في النوادر: يعاتبني في الدَّين قومي وإنما ... ديونيَ في أشياء تكسبهم حمدا أسدُّ به ما قد أخلّوا وضيعوا ... ثغورَ حقوقٍ ما أطاقوا لها سدا وفي جفنة ما يغلق الباب دونها ... مكللة لجماً مدفقة ثردا وفي فرس نهد عتيق جعلته ... حجاباً لبيتي ثم أخدمته عبدا وإن الذي بيني وبين أبي ... وبين بني عمّي لمختلف جدا فإن يأكلوا لحمي وفرْتُ لحومهم ... وإن يهدموا مجدي بنيت لهم مجدا وإن ضيعوا غيبي حفظت غيوبهم ... وإن هم هوُوا غيي هويت لهم رُشدا

أصناف الناس

ولا أحمل الحقد القديم عليهم ... وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا لهم جل مالي إن تتابع لي غنى ... وإن قل مالي لم أكلفهم رفدا وإني لعبد الضيف ما دام نازلاً ... وما شيمة لي غيرها تشبه العبداد ونحوه قول عروة بن الورد: أيا بنت عبد الله وابنة مالك ... ويا بنت ذي البردين والفرس الورد إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له ... أكيلا فإني لست آكله وحدي أخاً طارقاً أو جار بيت فإنني ... أخاف مذمات الأحاديث من بعدي وكيف يسيغ المرء زاداً وجارُهُ ... خفيف المِعى بادي الخصاصة والجهد وللمَوْتُ خير من زيارة باخل ... يلاحظ أطراف الأكيل على عمد وإني لعبد الضيف ما دام ثاوياً ... وما فيَّ إلاّ تلك من شيمة العبد وقول الآخر: لعمر أبيك الخير إني لخادم ... لضيفي، وإني إن ركبت لفارس لله الأمر من قبل ومن بعد أصناف الناس قال معاوية رضي الله عنه يوماً لصعصعة بن صوحان وكان من البلغاء: صف لي الناس. فقال: خلق الناس أخيافاً، فطائفة للعبادة، وطائفة للتجارة، وطائفة خطباء، وطائفة للبأس والنجدة، ورجرجة فيما بين ذلك، يكدرون الماء، ويُغلُون السِّعر ويضيقون الطريق. وقال الآخر في نحو هذا: الناس هم ثلاثة ... فواحد ذو درقه وذو علوم دارس ... كتبه وَوَرَقَه ومنفق في واجب ... ذهبَه وَوَرِقه ومن سواهم همج ... لا وَدَكٌ لا مرقه وفي كلام مولانا علي كرم الله وجهه لكميل بن زياد: الناس ثلاثة: عالم ربّاني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع، أتباع كا ناعق. " وقال الآخر: ما الناس إلاّ العارفون بربهم ... وسواهم متطفل في الناس " وهذا المعنى له تفصيل وتحقيق، والاشتغال به يطيل، ويكفي اللبيب فيه ما مرّ عند ذكر الحسب وتفصيل المزايا في الناس. لله الأمر من قبل ومن بعد أصناف بقاع الأرض كان شيخنا الأستاذ المشارك الفاضل الناسك أبو بكر بن الحسن التطافي ينشدنا كثيراً في التنويه بالعلم قول القائل: وما عرَّف الأرجاء إلاّ رجالها ... وإلاّ فلا فضلٌ لتُرْب على تُرْبِ والمعنى أن القطر من الأرض وكذا المدينة والقرية تعرف وتشرف بنسبة المعروف إليها كأبي عثمان المغربي وابن عامر الشامي والحسن البصري وأبي الحسن الحرالي وغيرهم. واعلم أن بقاع الأرض كأفراد الإنسان، هي كلها مشتركة في كونها أرضاً وتربة، ثم تتفاوت في المزايا الاختصاصية، إما من ذاتها بأن يجعلها الله منبتاً للعشب، وهي أفضل من السبخة أو مزرعة، وهي أفضل من الكنود أو سهلة، وهي أفضل من الحزن، وقد ينعكس الأمر، أو معدناً، وتتفاوت بحسب الجواهر المودعة فيها، أو منبعاً للماء، وتتفاوت بحسب المياه، إلى غير ذلك من مختلفات الفواكه والأشجار والأزهار وسائر المنافع، وأما من عارض، كأن يختصها الله تعالى بكونها محلاً لخير إما نبوءة بيته بمكة، فهي أشرف البقاع ما خلا المدينة من ثلاثة أوجه: الأول كونها محلاً لبيته، وقبلة لعباده، والثاني كونها عمارة خليله إبراهيم عليه السلام، الثالث كونها مولد ومبعث أشرف الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام، إلى وجوه أخرى ككونها وسط الأرض أو أرفع الأرض أو من تحتها دحيت الأرض، وكونها حراماً وغير ذلك ولبيت المقدس قسط من هذا الفضل لأنها مأوى الأنبياء، وكانت قبله، واختصت المدينة طيبة بكونها مهاجر أشرف الخلق ومدفنه مع أكابر أصحابه رضي الله عنهم فصارت خير البقاع حتى مكة عند علمائنا أما التربة التي تضمنت شخصه الكريم صلى الله عليه وسلم فلا مثل لها في الأرض ولا في السماء قطعاً.

وأما نبوءة فتشرف كل بلدة ولد فيها نبي أو بعث أو أقام أو دفن، وتشتهر بذلك وتتعرف كما قال صلى الله عليه وسلم يوم الطائف للغلام وقد قال له: إنه من نينَوى. " قَرْيَةُ أخي يُونُسَ عَلَيْهِ السّلامُ " وإما علم فكل قرية أيضاً أو بلدة كان فيها عالم أو كان منها فهي تشرف بذلك وتتعرف كما في البيت المذكور، وإما زهدٌ أو عبادة أو نحو ذلك أو ملك أو جود أو نجدة أو جمال أو خلق حسن أو غير ذلك حتى رخاء العيش وصحة الهواء، فكل ذلك ونحوه يكون به الشرف والاشتهار كما يكون الاشتهار في النقصان والمذمة بأضداد ذلك. واعلم أن المولى تبارك وتعالى من لطيف حكمته وسابغ منته كما لم يُخْلِ عبْداً من عباده من فضل عاجل أو آجل، ظاهر أو باطن، كثير أو قليل، كذلك لم يُخِل بقعة من بقاع الأرض من فضل، ولم يُعْرِ بلدة من مزية يتعلل بها عُمّارُها حتى لا يتركوها، وقد جعل الله تعالى الأهواء مختلفة، والطباع متفاوتة، وحبب لكل أحد ما اختصه به، ذلك تقدير العزيز العليم الحكيم، فتجد هذا يمدح أرضه بكثرة المياه للاتساع في الشرب والطهارة والنقاوة ونحو ذلك، وهذا يمدح أرضه بالبعد عن كثرة المياه لجودة منابتها، وصحة هوائها، وذهاب الوخم عنها، وهذا يمدح أرضه بالسهولة لوجود المزارع فيها وكثرة ريفها واتساع خيرها، وهذا يمدح أرضه بكونها جبالاً لتمنعها وعزة أهلها، وحسن مائها وهوائها وقناعتها وغير ذلك. وللشعراء قديماً وحديثاً في هذا ما يحسن ترداده، ويطول إيراده، فمن ذلك لأبي بكر بن حجة الحموي يتشوق إلى بلده قوله: بوادي حماةِ الشامِ عن أيمن الشط ... وحقك تطوى شُقّة الهمّ بالبسط بلاد إذا ما ذقت كوثر مائِها ... أهيم كأني قد ثمِلْتُ بإسفِنْطِ فمن يجتهد في أن في الأرض بقعة ... تماثلها قل: أنت مجتهد مخط وصوّبْ حديثَيْ مائِها وهوائِها ... فإن أحاديث الصحيحين ما تُخطي وللآخر في تلسمان مثل هذا: بلد الجدار ما أمرّ نواها ... كلِفَ الفؤاد بحبها وهواها يا عاذلي في حبها كن عاذري ... يكفيك منها ماؤها وهواها ولابن حمديس الصقلي في بلده: ذكرت صقيلية والأسى ... يهيج للنّفسِ تذكارها فإن كنتَ أخرجت من جنة ... فإني أحدِّثَ أخبارها ولولا ملوحة ماء البكا ... حسبت دموعي أنهارها وللأعرابي: أقول لصاحبي والعيس تخدي ... بنا بين المُنيفةِ فالضمار تمتع من شميم عرّار نجد ... فما بعد العشيّة من عَرّار ألا يا حبَّذا نفحات نجد ... وَرَيّا روضه بعد القِطار وأهلك إذ يحلّ الحي نجداً ... وأنت على زمانك غير زار شهور ينقضين وما شعرنا ... بأنصاف لهنّ ولا سِرار وللآخر في تونس: لَتونِسُ تونسُ من جاءها ... وتودعه لوعة حيث سار فيغدو ولو حلَّ أرض العراق ... يحن إليها حنين الحُوار ويأمل عوداً ويشتاقه اش ... تياق الفرزدق عَوْد النَّوار وللآخر في مدينة فاس: يا فاس حيا الله أرضك من ثرى ... وسقاك من صوب الغمام المسبل يا جنة الدنيا التي أربت على ... عَدْن بمنظرها البهيّ الأجمل غُرَفٌ على غُرَفٍ ويجري تحتها ... ماء ألذ من الرحيق السلسل وكثيراً ما يقع الحنين إلى المنازل والبلدان، من أجل من فيها من الإخوان والأخدان، كما قال القائل: أحب الحِمى من أجل من سكن الحِمى ... ومن أجل من فيها تحب المنازل وقال المجنون: وما حب الديار شغفن قلبي ... ولكن حب من سكن الديارا وهي خصوصية في البقعة عارضة من سكانها كالذي في البيت، فإن الميل إليها يقتضي فضلها على غيرها بالنسبة إليه، ومن هذا المعنى أكثر العرَب ذكر الحِمى كقوله: فإن كان لم يغرّض، فإني وناقتي ... بحجر إلى أهل الحِمى غَرِضان تحنّ فتبدي ما بها من صبابة ... وأخفي الذي لولا الأسى لقضاني الغرض المشتاق، وكقول الآخر: وإن الكئيب الفرد من جانب الحِمى ... إليَّ وإن لم آتهِ لحبيب وكقول الآخر: وكنت أذود العين أن ترد البكا ... فقد وردت ما كنت أذودها خليليّ ما بالعيش عتب لَو أنّنا ... وحدنا لأيام الحِمى من يعيدها وكقول الآخر:

الأريحية

ألا أيها الركب المجِدّون هل لكم ... بساكن أجزاع الحمى بعدنا خُبْر؟ فقالوا: قطعنا ذاك ليلاً وإن يكن ... به بعض من تهوى فما شعر السَّفْر وكقول الآخر: بكت عيني اليسرى فلما زجرتها ... عن الغيّ بعد الشيب أسبلتا معا فليست عشيات الحمى برواجع ... إليك ولكن خِلّ عينيك تدمعا إلى غير ذلك. ويكثرون أيضاً ذكر كقوله: شيب أيام الفراق مفارقي ... وأنشزن نفسي فوق حيث تكون وقد لانَ أيام اللوى ثمَّ لم يكد ... من العيش شيء بعدهنّ يلين وكقول جرير: لولا مراقبة العيون أرَيْنَنا ... مُقل المها وسوالف الآرام هل يَنْهَيَنَك أن قتلنَ مرقشاً ... أو ما فعلن بعروة بن حزام ذُمَّ المنازل بعدَ منزلةِ اللّوى ... والعيشَ بعد أولئك الأيامِ إلى غير ذلك. وأما نجد وهو ما ارتفع من الأرض من بلادهم وأكثر من ذلك كلّه كقوله: سقى الله نجداً والسلام على نجد ... ويا حبذا نجد على النأي والبعد وقول الآخر: أشاقتك البوارق والجنوب ... ومن علوي الرياح لها هبوب أتتك بنفحة من شيح نجد ... تصوب والعرار بها مشوب وشمت البارقات فقلت: جيدَتْ جبال البتر أو مطر القليب ومن بستان إبراهيم غنّت ... حمائم بينها فنن رطيب فقلت لها: وقيتِ سهامَ رامٍ ... ورُقْط الريش مطعمها الجنوب كما هيجت ذا حُزْنٍ غريباً ... على أشجانهِ فبكى الغريب وما وجد أعرابية قذفت بها ... ..................الأبيات وتقدم شيء من ذلك، وهو كثير، وذلك في الغالب لحسنه في نفسه هواء وماء ومنابت ومسارح، والناس كلهم مجمعون على ذكر ديار الأحباب ومعاهد الشباب، ولا خصوصية للعرب، وإن كان لهم مزيد رقة. لله الأمر من قبل ومن بعد الأريحية أنشد في النوادر لمحرز العكلي: يظلّ فؤادي شاخصاً من مكانه ... لذكر الغواني مستهاماً متيّما إذا قلت مات الشوق مني تنسمت ... به أرْيحيّاتُ الهوى فتنسما وفي البيت فائدة، وهي أن لفظ الأريَحِيّة هو بسكون الراء وفتح الياء، ووقع في شعر المولدين أيضاً ما يوافق ذلك. مما علق بحفظي من أشعار المعاني عند العرب قول الشاعر: فجنبت الجيوش أبا زينب ... وجاد على مسارحك السحاب يحتمل أن يكون دعاء له بالعافية والخصب، ويحتمل أن يكون دعاء عليه بالإفلاس حتى لا تقصده الجيوش، ثم بالخصب مع ذلك لأنه أوجع لقلبه، حيث يرى الرِّعيْ ولا راعية كما قال الراجز: أمرعت الأرض لوَانَّ مالا لو أن نوقاً لك أو جمالا أو ثلة من غنم أمّا لا أي إن كنت لا تجد غيرها، وقال الآخر: ستبكي المخاض الجرب أن مات هيثم ... وكلّ البواكي غيرهنّ جمود أي إنه كان يستحييها بخلاً، ولا ينحرها للضيفان، فهي تبكي عليه، ولا يبكي عليه أحد من الناس إذ لا خير فيه، وهذا هجو، وقد استعمل الجمود في مجرد عدم البكاء، وكأنه لاحظ فيه المبالغة، فإن الناس لعدم اكتراثهم بالهالك أصبحوا في حقه لا يتصور منهم البكاء ولا انحدار دمع كمثل الأحجار ونحوها، ويستعمل الجمود حيث يراد البكاء ولا تسمح العين بالدموع كقوله: ألا إن عيناً لم تجد يوم واسط ... عليك بجاري دمعها لجمود ولذا عيب قول القائل: سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا ... وتسكب عيناي الدموع لتجمدا ومتى اعتبرنا بالمعنى الأول فلا عيب، وقول الآخر هو توبة بن مضرس بن عبد الله التميمي يلقب الخنوت بوزن السنور: قتيلان لا تبكي المخاض عليهما ... إذا شبعت من قرمل وأفان وهذا مدح ضد الأول أي إنهما كانا يهلكانها بالنحر، فإذا ماتا استراحت وشبعت فلم تبك عليهما، والقرمل واحده قرملة، وهي شجرة ضعيفة تنفضح إذا وطئت، ومنه قولهم في المثل إذا التجأ الضعيف إلى مثله: ضعيف عاذ بقرملة، والأفاني واحده فانية، وهي شجرة أخرى، وقول الآخر، وهو حميد بن ثور: ولقد نظرت إلى أغز مشهر ... بِكْرٍ توَسَّن بالخميلة عُونا متسنم سنماتها مُتبَجّسٍ ... بالهدر يملأ أنفساً وعيونا لقح العجاف له لسابع سبعةٍ ... وشَرِبْنَ بعدَ تَحَلُّؤٍ فروينا

فضل العلم

يصف السحاب وفعله وانتفاع الأرض به على طريق التّمثيل، فقوله: أغر أي سحاب فيه برق " أو " أبيض، وقوله: بكر أي لم يمطر قبل ذلك، وقوله: توسن بالخميلة عوناً أي طرقها ليلاً وقت الوسن أي النعاس، والخميلة رملة لينة ذات شجر، والعون جمع عوان، وهي في النساء التي كان لها زوج، وهنا هي الأرض التي أصابها المطر قبل، على التشبيه، وقوله: متسنم سنماتها أي طالع على الأكام والتلال، وأصله في الجمل يتسنم الناقة أي يعلو عليها، وهي سَنمة أي عظيمة السنام، مرتفعته، قوله: متبجس أي متكبر، بالهدر أي رعده يملأ أنفساً وعيوناً عجباً به أو رعباً منه، قوله: لقح العجاف أي الأرضون المجدبة حملت به الماء فأنبتت العشب، وذلك بعد تحلُّؤٍ أي امتناع من السقي لعدم المطر، فهذا كله تمثيل، وقول الآخر: حلوا عن الناقة الحمراء أرحلكم ... والبازل الأصهب المعقول فاصطنعوا إن الذئاب قد اخضرت براثنها ... والناس كلهم بكر إذا شبعوا أراد بالناقة الحمراء الدهناء، وبالجمل الأصهب الصمان، كأنه يقول: ارتحلوا عن السهل وألجئوا إلى الجبال مخافة الغارات، والقائل كان أسيراً فكتب إلى قومه ينذرهم، وكانت بكر لهم عدواً فهو يقول: الناس كلهم إذا شبعوا أعداء لكم كبكر حذروهم، وهذا المعنى مذكور في قصة أخرى: يحكى أن رجلاً من بني العنبر كان أسيراً في بكر بن وائل، فسألهم رسولاً إلى قومه فقالوا له: لا ترسل إلاّ بحضرتنا، وكانوا أزمعوا غزو قومه، فتخوفوا أن ينذرهم، وذلك هو ما أراد هو أيضاً، فأتوه بعبد أسود فقال له: أبلغ قومي التحية وقل لهم: ليكرموا فلان، يعني أسيراً من بكر كان عندهم، فإن قومه لي مكرمون، وقل لهم إن العرفج قد أدبي، وقد شكت النساء. وأمرهم أن يعروا ناقتي الحمراء، فقد أطالوا ركوبها، وأن يركبوا جملي الأصهب بآية ما أكلت معهم حيساً، واسألوا الحارث عن خبري، فلما أبلغهم العبد الرسالة قالوا: جُنّ الأعورُ، والله ما نعرف له ناقة حمراء ولا جملاً أصهب، ثم سرّحوا العبد ودعوا الحارث فحدثوه بالحديث فقال: قد أنذركم، أما قوله: العرفج قد أدبى فكناية عن الرجال وأنهم استلأموا أي لبسوا الدروع للغزو، وقوله: شكت النساء أي اتخذن الشكاء للسفر، وهي جمع شكوة، معروفة، والحيس أراد به الأخلاط من الناس المجتمعون للغزو، لأن الحَيْسَ يجمع الأقِطَ والسمن والتمر. لله الأمر من قبل ومن بعد فضل العلم كنت في أعوام الستين وألف مرتحلاً في طلب العلم، فدخلت قرية في أرض دكالة، فرأيت فيها رجلاً مسناً قد لازم المسجد منقطعاً عن الناس، فجلست إليه مستحسناً لحاله، وفي الحديث " إذَا رَأيْتُمُ الرَّجُلَ قَدْ أُعْطِيَ زُهْداً في الدُّنْيَا وَقِلَّةَ مَنْطِقٍ فَادْنُوا مِنْهُ، فَإنَّهُ يُلَقَّنُ الحِكْمَةَ ". فلما دنوت منه إذا هو يعظم العلم وأهله تعظيماً بالغاً، فازددت به عجباً، فكنت أجلس بين يديه ويحدثني ويصبرني على الغربة، ويحضني على العلم رحمة الله عليه، وأنشدني في شأن الغربة ملحوناً: أنا الغريب المتوح ... صابر على كلّ هانا إلى نتجرح ما نقل اح ... في قلب من قطعت أنا وفي نحو هذا يقول الشاعر: إذا كنت في قوم عِداً لست منهم ... فكل ما علفت من خبيث وطيب وإن حدثتك النّفس أنك قادر ... على ما حوت أيدي الرجال فكذب وقال الآخر: لا يعدم المرء كِنّاً يستقر به ... وَبُلغةً بين أهليهِ وأحبابه ومن نأى عنهم قلت مهابته ... كالليث يحقر لما غاب عن غابه وقال الحريري: إن الغريب الطويل الذيل ممتهن ... فكيف حال غريب ما له قوت وأنشدني في مدح العلم ملحوناً: العلم شمعا منيرا ... يتناوله الأكياس ما فوق منو ذخيراً ... يزول عن القلب الإحساس وفضل العلم وشرفه أمهر أشهر من أن يذكر، وأوضح من أن ينكر، ويكفي في ذلك النظر.

الانزعاج عن الوطن

ومن غريب ما حكي أنه اتفق للفقيه الخليل الإمام ابن عرفة رضي الله عنه وكان قد مرض فأصابه غشي قال: فجاءتني طائفتان: إحداهما عن يميني وجعلوا يرجحون الإسلام، والأخرى عن يساري وجعلوا يرجحون الكفر، عياذاً بالله تعالى. قال: فأخذ هؤلاء يلقون شبه الكفار ويلهمني الله تعالى الجواب عنها بما كنت عرفت من قواعد العقائد، فعلمت أن العلم ينفع صاحبه في الدنيا والآخرة. لله الأمر من قبل ومن بعد الانزعاج عن الوطن خرجت في أعوام التسعين وألف من حضرة مراكش حرسها الله، وكنت إذ ذاك منزعجاً عن الوطن، مباياٌ للقطين والسكن، فلقيت أعرابياً من هوارة، وهم حي من شبانة، فإذا هو قد انزعج عن وطنه في السوس الأقصى، فحدثني عن أحمد بن عبد الله بن مبارك الوقاوي أنه كان هبت له ريح فحسده قومه وقالوا عنه وهو في غربته حتى خرج عن وطنه إلى وداي السوس، قال: فجئته ذات مرة وهو في غربته، فقال لي: أين العرب وأين القوالون؟ قال: فقلت: هم بحالهم، لم يزالوا يقولون، قال ثم أنشد هو ملحوناً: إلى برك لي الزمان أركبت عليه ... ولى راد المولى نلقاه عراضا برك لي مركوب فإني ضاري به ... ما نحسبش أيامي علي مغتاضا نصبر لأحكام المولى حتى تتقاضا في قوله: مغتاضاً من الغيظ، وأبدل من الظاء " هنا " ضاداً، وكان هذا من عجيب الاتفاق، فإن هذا القول مناسب لأحوالنا معشر الثلاثة، أعني القائل والراوي والسامع، وقوله: " نصبر لأحكام المولى حتى تتقاضا " هذا هو أدب العبد، وهو الصبر لأحكام الله تعالى والسكون تحت مجاري الأقدار، قال تعالى:) وَاصْبِرْ لحُكْمِ رَبّكَ ... (، ونحوه من نصوص الكتاب والسنّة وأقوال أئمة الدين لا يحصى. لله الأمر من قبل ومن بعد الحكم التكليفي والحكم التصريفي واعلم أن الحكم حكمان حكم تكليفي وحكم تصريفي، وكلاهما يجب الإذعان له والتسليم. أما التكليفي فهو الوجوب والندب والتحريم والكراهة والإباحة التي وردت بها الشريعة المطهرة. وأما التصريفي فهو ما قدر على العبد من غير ذلك مما يرد عليه كالغنى والفقر والعز والذل والصحة والمرض والسرور والحزن وغير ذلك. ومورد الأول كلام الله تعالى أمراً ونهياً، ومورد الثاني قدرته تعالى إيجاداً وإعداماً على وفق مشيئته وعلمه؛ وكما لا بد من قبول الأول وامتثاله فعلاً وتركاً وتلقيه بالصبر على ما فيه من المشقة على النفس، وقد تضمحل أيضاً دواعي النفس فيرتقي العبد إلى الرضى والاستلذاذ، كذلك لا بد في الثاني من تلقي محبوبه بالشكر ومكروهه بالصبر؛ وقد تضمحل أيضاً دواعي النفس فيرتقي العبد إلى الرضى. ثم إن كل شيء قدر على العبد فلا محالة يقدر له وقت يقع فيه لا يتقدمه ولا يتأخر عنه، فمتى حان وقت شيء فهو بارز لا محالة خيراً كان أو شراً لا يمكن أن لا يبرز ولا أن يبرز غيره في موضعه، فالبصير يستكن حتى ينقضي بانقضاء وقته فيجمع بين راحة قلبه والأدب مع ربه، والجاهل يقلق منه أو يروم ظهور غيره دونه فيصير أحمق الحمقاء، ولا يحصل إلا على الشقاء. وقال صاحب " الحكم العطائية ": " ما ترك من الجهل شيئاً من أراد أن يظهر في الوقت غير ما أظهر الله فيه " وقالوا: الوقت سيف، وأنشدوا: وكالسيف إن لاينته لان مسه ... وحَدَّاه إن خاشنته خَشِنان ولله الأمر من قبل وبعد النفس والشيطان وأنشدني أبو البقاسم بن بوعتل الشباني ثم الزراري لبعض الأعراب ملحوناً: يا رأسي عيبك بان ... والى عيبو ما يصيب ايدسو قالوا علة ابن آدم شيطان ... وإنا نقول علة ابن آدم نفسو قبل لا يزيغ إبليس ... اش يكون ابليسو فانظر إلى هذا الأعرابي كيف غاص على معنى كبير وهو أن نفس الإنسان سبب هلاكه بإذن الله تعالى إلاّ من عصمه الله، وكيف وقع على حجة برهانية وقياس منظوم في النفس، وتقريره أن يقول: لو كان كل زائغ إنما يزيغ بشيطان لكان إبليس حين زاغ بإبليس آخر، والتالي باطل للزوم التسلسل فالمقدم مثله.

ونحو هذا في الاستدلال ما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم حيث أبطل العدوى بمعنى أنه لا تأثير فيها لغير الله تعالى فقال له الأعرابي: ما بالنا نرى الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء، فيدخلها جمل أجرب فتجرب كلها، فقال له صلى الله عليه وسلم: " فَمَنْ أعْدَى الأوَّلَ "؟ أي لو كان جمل إنما يأتيه هذا البلاء من آخر قبله لزم التسلسل، وهو باطل، فلا بد أن ينتهي الأمر إلى بعير يصيبه البلاء من عند الله بلا سبب هذه العدوى فيعلم عند ذلك أن الله تعالى هو الفاعل المختار، يفعل الشيء عند الشيء، وهو قادر أن يفعله بلا شيء ولا عند شيء، سبحانه عما يشركون. واعلم أن ما ذكره هذا الأعرابي في ملحونه من أن علة الإنسان نفسه صحيح، وعزله الشيطان عن ذلك غير صحيح إن أراد أنه لا مدخل له، وإن أراد أنه غير مستقل بالإضرار لمشاركة النفس له أو أن ضرر النفس هو الأعظم لأنها المباشرة والشيطان متسبب فصحيح، وتقرير هذه الجملة باختصار: إن كلاً من النفس والشيطان مضر بالعبد فهما متظاهران على العبد كما قال " بعضهم " وقد ضم إليهما الدنيا والهوى: إني بليت بأربع يرمينني ... بالنبل عن قوس لها توتير إبليس والدنيا ونفسي والهوى ... يا رب أنت على الخلاص قدير وسبب ذلك أن الآدمي لما أبدعه الله تعالى بقدرته مؤتلفاً من الأخلاط ذا مزاج جعله سبحانه بباهر حكمته وسابق مشيئته مفتقراً عادة في بقاء وجوده الشخصي إلى القوام وهو الغذاء بالطعام والشراب وفي بقاء وجوده النوعي إلى التوالد بواسطة " النكاح، فطبع فيه عند ذلك شهوة الأكل وشهوة النكاح " و " لو " لم يكن ذلك طبعاً لافتقر إلى داع آخر فيتسلسل، أو يبقى فاتراً عن ذلك فيهلك شخصاً أو نوعاً، فسبحان المدبر الحكيم. ثم لما كانت الشهوتان أعني الأكل والنكاح لا تحصلان إلا من مادة وهي المال وبه يحصل المأكول، والنساء وبهن يحصل النكاح المؤدي إلى التناسل المذكور، والنساء لا يحصلن إلاّ بالمال أيضاً، طبع الله فيه حب المال وحب النساء وكل ما يستعان به في ذلك الباب من صحة وقدرة وجاه، وذلك هو مجموع الدنيا، فكانت الدنيا محبوبة طبعاً للحكمة المذكورة، وكان ميل النفس إلى سيئ من هذه المحبوبات بمقتضى الشهوتين المذكورتين، وهو المعبر عنه الهوى طبعاً في الإنسان، وكل ذلك في أصله رحمة من الله تعالى للإنسان كما ترى، إذ لولا ذلك لم يستمر له وجود. ثم جعل الله تعالى العبد متأثراً بالعوارض في بدنه وفي ماله وفي حريمه ونحو ذلك فافتقر إلى احتماء عن ذلك ودفاع فطبع فيه الغضب وهو أيضاً رحمة منه تعالى، إذ لولا هو لم ينتهض للدفع عن نفسه ولا حريمه ولا ماله ولا جاره ولا غير ذلك ولا لتغيير منكر ولا نحو ذلك. ثم إن النفس لما كان فيها ذلك طبعاً استعدت لأن تتقاضاه من كل وجه " طلباً " لحصول المرام على التمام فتأكل مثلاً وتبالغ ولا تقتصر على القدر المحتاج، ولا تتنزه عن الزائد المضر، وتشرب كذلك وتنكح، ثم لا تبالي من أي وجه حصل ذلك أمن مأذون فيه أم محرم، لأن سعيها طبعي لا شرعي، وكذا في غضبها ودفاعها، فمتى تركت وذلك أضرت بالعبد عاجلاً بحصول الأمراض وإتلاف الأموال في الشهوات وانتهاك الأعراض والمروءات وكثرة اللجاج والعدوان والهلاك والبوار، وآجلاً بالتعريض لطول الحساب، وأليم العقاب، عند وجوب التكليف، وهذه هي المضرة المنسوبة للنفس، فخلق الله تعالى العقل ليكون محتسباً عليها حتى تكون فيما ذكر من الشهوة والغضب تابعة لإشارة العقل أخذاً وتركاً، وأودع الله تعالى في العقل إدراك المصالح والمفاسد والمنافع والمضار حتى يعلم ما يشير به أمراً ونهياً ليجري الأمر على السداد، فلا يقع قصور عن المراد، ولا التعدي إلى ما يوجب الفساد. ثم لما كان العقل أيضاً معرضاً للخطأ وللقصور عن كثير من المصالح وللجهل بكثير من المدارك ولا سيما المغيبات لأن النقصان شأن المخلوق افتقر هو أيضاً إلى مؤيد إما إلهام من الله تعالى وإما عقل آخر أكمل كما في حال التربية وتلقين الحكمة، وإمّا وحي سماوي وهو أكمل، فأنزلت الأحكام إليها عند أهل الحق لا إلى العقل فصار العقل مؤيداً للشرع ومتأيداً به.

الخاطر النفساني والخاطر الشيطاني

ثم إن إبليس اللعين عندما وقع له من الخزي والطرد مع صفي الله آدم عليه السلام ما وقع صار عدواً له حسوداً حقوداً وكذا لذريته إلى يوم القيامة، قال تعالى:) يَا آدَمُ إنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ (وقال تعالى: ") إنَّ الشَيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ (وقال تعالى:) إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (" وقال تعالى:) إنَّ الشَيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (إلى غير ذلك. فكان دأبه السعي في مضرة الآدمي كما يسعى كل عدو في مضرة عدوه، ولم يجد إلى مضرته سبيلاً أيسر ولا سبباً أنجح من أن يأتيه من قبل النفس وطريق الطبع فيزين له ما طبع من الشهوات، ويسوّل له كل قبيح، قال تعالى:) الشَيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأمُرُكُمْ بِالفَحْشاءِ (فحصل اتفاق بين النفس والشيطان على مضرة الآدمي، غير أن المقصد مختلف، فإن النفس لم تكن منها المضرة عن قصد وعداوة، كيف ولا أحب إلى كل أحد من نفسه؟ بل جهلاً وغلطاً، وذلك أنها أدركت ما في طبعها من الشهوات الحاضرة فاستحسنته، وظنت أن ذلك هو كمال صاحبها إذا ناله، فجاء الشيطان فأغراها مما استحسنت، وزين لها ما ظنت، فاعتقدته نصيحاً، واتخذته خليلاً، تلبي دعوته، وتجيب رغبته، فأتيَ الإنسان منها، وتمكن منه عدوُّه من طريقها، فصارت من هذه الوجه عدوة بل أكبر الأعداء. وأما الشيطان لعنه الله فهو يفعل ما يفعل عن عداوة وقصد إضرار، فإنه لما خاب من رحمة الله وطرد عن بابه، نسأل الله العافية، أراد أن يسعى في خيبة الآدمي وبعده عن الله وحرمانه من نعيم الجنة باتباع الدنيا وغرورها والإكباب على شهواتها. واعلم أن الشيطان لشدة عداوته للإنسان ليس له غرض في اتباع الإنسان للشهوات وتمتعه باللذات، بل لو أمكنه أن يسعى في حرمانه دائماً فلا ينال لذة عاجلة ولا آجلة، ولا يحصل على منفعة في الدنيا ولا في الآخرة لكان ذلك هو منيته ورغبته، وهو مقتضى العداوة وثمرة الحسد، إلاّ أنه لما لم يمكنه ذلك لفرضان رحمة الله على عباده وسبوغ نعمه عليهم رأى أن يرتكب به أعظم الضررين فيستزلّه عن أعظم الحظين بل الحظ الذي هو الحظ، وهو الأخروي، ويستهويه إلى الحظ الدنيوي، ورأى أنه إذا خاب عن النفيس الباقي واستبدله بالخسيس الفاني فقد خاب، والأمر كذلك. فإن ما في الدنيا لو كان نفيساً وهو بصدد الانقطاع لم يلتفت إليه، فكيف وهو مع ذلك خسيس " مشوب " متكدر. بل لو كان نعيم الآخرة النفيس ينقطع لوجب أن يلتفت إليه، إذ النفس إنما تجد النعمة ما دامت متناولة لها، فإذا انقطعت عنها تكدرت كالصبي الراضع متى صرف الثدي عن فيه صاح. وما مثال النفس في ذلك إلاّ مثال المرأة في قوله صلى الله عليه وسلم: " إنّهُنَّ يَكْفُرْنَ العَشِيرَ، وَإنَّكَ لَوْ أحْسَنْتَ إلى إحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ كُلَّهُ ثُمَّ رَأتْ مِنْكَ شَيْئاً قَالَتْ مَا رَأيْتُ مِنْكَ خَيْراً قَطُّ ". فقد تحصل من هذا أن النفس مضرة بالإنسان من وجهين: أحدهما " أنها " تميل طبعاً إلى الشهوات وتخلد إلى الرعونات، الثاني أنها مسلك الشيطان إلى الإنسان كما مرّ، وإن الشيطان مضر للإنسان أبداً بوسوسته وتزيينه للنفس. وهذه كلها أسباب جعلية اقتضتها الحكمة، والنافع والضار بالحقيقة هو الله تعالى، وتبين أن النفس تابعة للشيطان في مضرة الإنسان سفهاً منها وغلطاً، لا عداوة، ولسان حالها ينشد قول القائل: وخلتهم سهاماً صائبات ... فكانوها ولكن في فؤادي الخاطر النفساني والخاطر الشيطاني ومن أجل ما ذكرنا بين النفس والشيطان من اختلاف الوجه، وتباين المقصد فرق أئمة التصوف رضوان الله عليهم بين الخاطر النفساني والخاطر الشيطاني بعد اشتراكهما في الحض على السوء في الجملة، وهو أن الخاطر إذا تقاضى معصية مثلاً بعينها فإن أصر على ذلك فهو نفساني، وإن جعل يتحول من معصية إلى أخرى فهو شيطاني، ووجه ذلك أن النفس إنما تطلب المعصية بمقتضى طبعها فيها من حيث أنها شهوة لا غير، فلا تريد أن تنفك عنها حتى تنالها بعينها. وأما الشيطان فليس طلبه من الإنسان أن ينال شهوة ومتعة من حيث التنعم بها فإنه عدو، بل من حيث إنها معصية موجبة للعقاب، فمتى دعاه إلى واحدة وتعسرت أو تلكأ عليه فيها دعاه إلى أخرى لقيامها مقامها في المقصود، وهو حصول الإثم واستحقاق النار، نعوذ بالله تعالى من شره.

الحقيقة والشريعة

لله الأمر من قبل ومن بعد الحقيقة والشريعة خطر لي ذات ليلة بيت للملك الضليل امرئ القيس بن حجر فوجدته قد احتوى على مقتضى الشريعة الظاهرة والباطنة، وتضمن كل ما تحصل عن دواوين أئمة الدين وأقاويل الصوفية، فقضيت العجب من ذلك، وعلمت أن الله تعالى من باهر قدرته وعجيب حكمته يبرز الحكمة على لسان من شاء وإن لم يكن من أهلها، كما قال بعض السلف حين سمع بعض الولاة نطق بحكمة: خذوها من قلب خَرِبٍ، وتبينت إشارة قوله صلى الله عليه وسلم: " الحِكْمَةُ ضَالّةُ المُؤْمِنِ " أي فحقه أن يتلقفها ممن وجدها عنده، وإن لم يكن مرضياً كما يأخذ ضالته من الدنيا كذلك، وتبينت صدق قوله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً "، وقول الحكماء الأولين: أنزلت الحكمة على ثلاثة أعضاء في الجسد: على قلوب اليونان، وأيدي أهل الصين، وألسنة العرب، والبيت المذكور هو قوله: الله أنجح ما طلبت به ... والبر خير حقيبة الرحل فالشطر الأول قد احتوى على الحقيقة كلها، وهي باطن الشريعة، فإن معناه أن ما طلبته بالله فأنت منجح فيه. وهو كما قال في " الحكم العطائية ": " ما تعسر مطلب أنت طالبه بنفسك " ومعلوم أنك لست تروم ذلك إلاّ وأنت تعرف الله تعالى وأنه حق لا شريك له، وأنه هو الفاعل المدبر النافع الضار، ثم تنفي عن نفسك وعن حولها وقوتها وتدبيرها واختيارها وتبغي بربك. وهذا هو سر العبودية، وهو الكنز الذي يحوم حوله المريدون، ويعنو إليه السالكون، وهو المشار إليه في قوله صلى الله عليه وسلم: " لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلاَّ بِاللهِ كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الجَنّةِ "، وهذا هو كلية الأمر، ولا حاجة إلى التطويل. والشطر الثاني قد تضمن الشريعة كلها، وهي ان البر خير ما تحمَّله العبد وادخره، أي والفجور شر ما تحمَّله، ويدخل في البرِّ برُّ العبد مع ربه بطاعته له قولاً وفعلاً واعتقاداً، وكذا مع من أوجب الله تعالى طاعته من نبي وأمير ومالك ووالد ونحوهم، وبره مع الناس بالإحسان فعلاً وقولاً وخلقاً، وهو مجموع ما يطلب شرعاً ولا حاجة إلى التطويل. لله الأمر من قبل ومن بعد أبيات الحكمة والتمثيل واعلم أن البيت قد اشتمل على مثلثين مستقلين كما رأيت، فرأيت أن أستطرد هنا من أبيات الحكمة والتمثيل نبذة صالحة يقع بها الإمتاع، ويحصل الانتفاع، فمن ذلك قول لبيد: ألا كلُّ شَيءٍ ما خَلا اللهَ بَاطِلُ ... وكُلُّ نَعِيمٍ لا مَحالَةَ زَائِلُ واعلم أن هذا البيت مع كونه في غاية الحكمة وكونه قد شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك كما ورد في الحديث: " أصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشّاعِرُ قَوْلَ لَبِيدٍ: ألا كلُّ شَيءٍ ما خَلا.... البيت "، يسأل عنه فيقال مثلاً في المصراع الأول: إن معرفة الله تعالى وشرعه ودينه وأنبياءه ونحو ذلك داخل فيما جعله باطلاً وليس بباطل، وفي الثاني: إن نعيم الآخرة غير زائل فيلزم انتقاض الكليتين. والجواب عن الأول من وجهين: أحدهما أن المراد ما سوى الله تعالى وما انضاف إليه، كما وقع في الحديث: " الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُون مَا فِيهَا إلاَّ ذِكْرُ اللهِ وَمَا وَالاهُ وَعَالِمٌ أوْ مُتَعَلِّمٌ " وهذا واضح، فإن صفات الله تعالى لا تدخل في الباطل لانضيافها إلى الذات وشمول الاسم لها، فكذلك كل مُنضاف. الثاني أن هذا كلام في الحقائق، ولا شك أن الله تعالى هو قديم واجب الوجود، فهو حق ثابت، والعالم كله محدث، فهو باطل لا ثبوت له من ذاته لكن بإثبات الله تعالى، وهذا الوجه أيضاً واضح لا شبهة فيه، والموجودات كلها متى اعتبرت إضافتها وتعلقها بالله تعالى كانت حقاً به، وهي باطلة بحسب ذاتها ومنها ما هو حق باعتبارين أعني بهذا التعلق وبإثبات الله له شرعاً كما في الوجه الأول، وهو مع ذلك باعتبار ذاته، ولا تنافي في شيء من ذلك، فافهم. والجواب عن الثاني ثلاثة أوجه: الأول أن المراد نعيم الدنيا، لأنه هو المعروف الشاهد، لا سيما في حق هذا القائل، فإنه كان حين قوله ذلك جاهلياً، لا ذكر للآخرة عنده، فإن قيل: من لك بأنه إذ ذاك جاهليّ؟ ولعله قال هذا بعد الإسلام، قلت: قد استفاض في شأنه أنه لم يقل بعد الإسلام إلاّ بيتاً واحداً، وهو قوله:

الحمد لله إذ لم يأتني أجلي ... حتى لبست من الإسلام سربالا على أنه لو كان بعد الإسلام لكان إرادة الدنيوي في غاية الوضوح، إذ المراد تهوين أمر الدنيا والتنفير عنها والتزهيد فيها كما وقع ذلك في كلام كثير من أهل الإسلام. الثاني أن يكون أيضاً كلاماً في الحقائق، فإن النعيم كله ممكن حادث، فهو بصدد الزوال والفناء فعلاً أو قوة، وما بقي منه إنما بقي بإبقاء الله تعالى لا بذاته. الثالث أن يراد أن كل نعيم ناله العبد وتنعم به فهو زائل عنه قطعاً بالشخص، وإنما تتجدد أمثاله، وهذا قدر مشترك بين الدنيوي والأخروي، قال النبي صلى الله عليه وسلم في متاع الدنيا: " وَإنَّمَا لَكَ مِنْ مَالِكَ مَا أكَلْتَ فَأفْنَيْتَ، أوْ لَبِسْتَ فَأبْلَيْتَ، أوْ تَصَدَّقْتَ فَأمْضَيْتَ ". وقال تعالى في نعيم الآخرة:) كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ (. وقول الحطيئة: من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العُرْفُ بين الله والناس وقول طرفة بن العبد: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود وكان صلى الله عليه وسلم ينشده أحياناً استحساناً فيقول: ويأتيك من لم تزوده بالأخبار، ويقول: " هُمَا سَوَاءٌ " أي التركيبان، يعني في المعنى، فيقول أبو بكر رضي الله عنه: أشهد أنك رسول الله، قال تعالى:) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ (وقول النابغة: ولست بمستبقٍ أخاً لا تَلُمُّهُ ... على شعثٍ، أي الرجالِ المهذب؟ وقول امرئ القيس: وإنك لم يفخر عليكَ كفاخر ... ضعيف ولم يغلبْك مثل مغلَّبِ " وأخذه أبو تمام فقال: وضعيفة فإذا أصابت قدرة ... قتلت، كذلك قدرة الضعفاء البيت من قصيدته التي مطلعها: قدك اتئب أربيت في الغلواء ... كم تعذلون وأنتم سجرائي والبيت شحره التبريزي بقوله: يقول: " الخمر على شدتها ضعيفة ليس لها بطش، فإذا أكثرت منها قتلت ". وقوله: " كذلك قدرة الضعفاء يعني أن الضعيف يعمل الشيء بفرق فهو لا يبقي مخافة أن يعطف عليه فلا يكون له فضل في المقاومة ". وقول زهير: ومن يجعل المعروف من دون عرضه ... يَفِرْهُ ومن لا يتق الشتم يشتم وأخوات هذا البيت في ميميته مثله، وهي مشهورة لا نطيل بها. غيره: لذي الحلم قبْلَ ما تُقرَعُ العصا ... وما عُلَّمَ الإنْسانُ إلاّ ليعلما وقوله: قليلُ المال تصلحهُ فيبقى ... ولا يبقى الكثير مع الفساد غيره: العبد يقرع بالعصا ... والحرّ تكفيه الملامه وقول عبد الله بن معاوية: فعين الرضا عن كل عيب كليلةٌ ... ولكن عين السخط تبدي المساويا وقول القُطامي: قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل وقوله: والناس من يلق خيراً قائلون له ... ما يشتهي، ولأمِّ المخطئ الهَبَلُ وسبقه إلى الأول عدي بن زيد في قوله: قد يدرك المبطئ من حظه ... والخير قد يسبق جهد الحريص وقول عمرو بن براقة: فما هداك إلى أرضٍ كعالمها ... ولا أعانك في عزم كعزام وقول عبد الله بن همام: وساع مع السلطان ليس بحارس ... ومحترس من مثله وهو حارس وقول عبيد بن الأبرص: الخير يبقى وإن طال الزمان به ... والشر أخبث ما أوعيت في زاد وقول حسان بن ثابت رضي الله عنه: ربّ حلم أضاعه عدم الما ... ل وجهل غطى عليه النعيم وزعموا أن حسان بينما هو في أُطُمِه، وذلك في الجاهلية، إذ قام في جوف الليل فصاح: يا للخزرج فجاءوا وقد فزعوا، فقالوا: ما لك يا ابن الفريعة فقال: بيت قلته فخفت أن أموت قبل أن أصبح فيذهب ضيعة، خذوه عني، فقالوا: وما قلت؟ فأنشد البيت المذكور. وقول أبي ذؤيب: والنفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع وقول زهير: وهل ينبت الخطِّيُّ إلاّ وشيجه ... وتغرس إلاّ في منابتها النخل غيره: أرى كل عود نابتاً في أرومةٍ ... أبى منبت العيدان أن يتغيّرا وقول بشار: تأتي المقيمَ وما سعى حاجاتُه ... عددَ الحصا ويخيب سعي الطالب غيره:

متى ما تقد بالباطل الحقّ يَأبَهُ ... وإن قدت بالحقِّ الرواسي تنقد وقول عبيد: من يسأل الناس يحرموه ... وسائل اللهِ لا يخيب غيره: يفرّ جبان القوم عن أُمِّ نفسهِ ... ويحمي شجاع القومِ من لا يناسبه " ويرزق معروف الجواد عدُّوه ... ويُحرَمُ معروفَ البخيلِ أقاربُه " فهذا كله ونحوه مشتمل على مثلين كبيت امرئ القيس، وقد يكون مثلاً واحداً لقول طرفة: رأيت القوافي يتَّلِجْنَ موالجاً ... تضايق عنها أن توالجها الإبر " وهو معنى قول الأخطل: والقول ينفذُ ما لا تنفذ الإبر ". وقول علقمة: إذا شاب رأس المرء أو قل ماله ... فليس له في ودهن نصيب وهو لامرئ القيس في قوله: أراهن لا يحببن من قل ماله ... ولا من رأين الشيب فيه وقوسا ومنه قول الأعشى: وأرى الغواني لا يواصلن امرءاً ... فقد الشباب وقد يصلن الأمردا وقول أبي تمام: أشهى الرجال من النّساء مواقعاً ... من كان أشبههم بهنّ خدودا وقول علقمة بن عبدة: وكل قوم وإن عزوا وإن كثروا ... عديدهم بأثافي الدهر مرجوم وكل حصن وإن طالت سلامته ... على دعائمه لا بدّ مهدوم وقول الآخر: " وما رزق الإنسان مثل منية ... أراحت من الدنيا ولم تُخزِ في القبر " وقول ابن حازم: لا تكذبن فما الدنيا بأجمعها ... من الشباب بيوم واحد بدل ومثله قول منصور النمري: ما كنت أوفي شبابي حق غرته ... حتى مضى فإذا الدنيا له تبع وقول امرئ القيس: إذا المرء لم يخزن عليه لسانه ... فليس شيء سواهُ بخزّان ونحوه: إذا ضاق صدر المرء عن كتم سره ... فصدر الذي يُستودعُ السر أضيق وقوله: إذا جاوز الاثنين سرّ فإنّه ... يبثُّ وإفشاء الحديث قمين وقد قيل: الاثنان هنا الشفتان، وقول طرفة: وإن لسان المرء ما لم يكن له ... حَصَاةٌ على عوراته لدليل الحصاة: العقل وهو إشارة إلى قول الحكماء: لسان العاقل من وراء عقله، ولسان الأحمق على العكس، وقول الخنساء رحمها الله: ولولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي وقول الآخر: إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد ... إليه بوجه آخر الدهر تُقْبِل وغيره: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهند غيره: إذا لم تعرض عن الجهل والحنا ... أصبت حليماً أو اصابك جاهل غيره: كل امرئ راجع يوماً لشيمته ... وإن تخلق أخلاقاً إلى حين ونحوه: ومن يبتدع ما ليس من سُوس نفسه ... يدعْه ويغلبْه على النفس خِيمُها السوس والخيم: الطبيعة. ونحوه: إنّ التخلّق يأتي دونه الخُلُقُ وقد يكون المثل جزءاً لبيت كهذا، ونحوه للنابغة: حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مطلب وقوله: لمبلغك الواشي أغش وأكذب وقول دريد: متبذلاً تبدو محاسنه ... يضع الهِناءَ مواضع النقبِ وقول الصَّلَتان العَبْدي: نروح ونغدو لحاجاتنا ... وحاجات من عاش لا تنقضي وقول الآخر: تدس إلى العطار سلعة بيتها ... وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر وقول زهير: لهم في الذاهبين أروم صدق ... وكان لكل ذي حسب أروم وقوله: كذلك خيمهم ولكل قوم ... إذا مستهم الضراء خِيم وقول الآخر: تسائل عن حصين كلّ ركب ... وعند جُهَيْنَةَ الخبرَ اليقين وهذه الأنواع لا يأتي عليها الحصر، وإنما أردنا بعضاً من مختار ذلك ومشهوره، وما تركناه أكثر، وقد يشتمل البيت على ثلاثة أمثال أو أربعة، وهو قليل بالنسبة إلى غيره، فمن غير ذلك قول زهير: وفي الحلم إذعان وفي العفو دُربة ... وفي الصدق منجاة من الشر فاصدق غيره: العلم يجلو العمى، والجهل مهلكة ... واللاعب الرفل الأذيال مكذوب وقول صالح: كل آت لا بد آت وذو الجه ... ل معنى والهم والغم فضل وقولي من قصيدة: فلا تهتبل للحادثات ولا تثق ... بما وهبت يوماً فموهوبها معرى

روايات المؤلف عن محمد الحاج الدلائي

مقربها مقصى ومرفوعها لقىً ... ومنهلها مظما ومكسوها معرى وقولي فيها: وإن أبصروا بالمملق اهتزأوا به ... ومدوا إليه طرفهم نظراً شزرا وقالوا بغيض إن نأى ومتى دنا ... يقولون ثقيل مبرم " أدبر الفقرا " فإن غاب لم يفقد، وإن علّ لم يعد ... وإن مات لم يشهد، وإن ضاف لم يقرا وهذا الباب لا ينحصر، وقد أودعنا منه " كتاب الأمثال والحكم " قدراً صالحاً، ولنقتصر على هذا القدر هنا خوفاً من الملل. لله الأمر من قبل ومن بعد روايات المؤلف عن محمد الحاج الدلائي حدثني الرئيس الأجلّ أبو عبد الله محمد الحاج بن محمد بن أبي بكر الدلائي رحمه الله قال: لما نزلنا في طلعتنا إلى الحجاز بمصر المحروسة خرج للقائنا الفقيه النبيه أبو العباس أحمد بن محمد المقري قال: وكنت أعرفه عند والدي لم يشب، فوجدته قد شاب، فقلت له: شبت يا سيدي فاستضحك ثم قال: شيبتني غرندل ويحار ... وبحار فيها اللبيب يحار قال: وحدث أنهم كانوا ركبوا بحر سويس فهال بهم مدة من نحو ستة أشهر، وهم يدورون دوراناً، وأنه ألف في تلك المدة موضوعاً في علم الهيئة وسارت به البركان، فلما خرج من البحر وتصفحه وجد فيه الخطأ الفاحش، وقد فات تداركه، وذلك مما وقع له من الهول. قال: وإذا هو قد خرج معه برجل ضرير البصر فقال: هذا الضرير من أعاجيب الزمان في بديهة الشعرِ، فألقِ عليه أي بيت شئت يأت عليه ارتجالاً بما شئت من الشعر، ثم عهْدُه به أن يقوله فلا يبقى شيء منه في حفظه، فأتيتكم به لتشاهدوا من عجائب هذه البلاد ونوادرها وتذهبوا بخبر ذلك إلى بلادكم قال: فاقترحوا مني بيتاً يقول عليه، فحضر في لساني بيت ابن الفارض: سائقَ الأظعان يطوي البِيدَ ... مسرعاً عرِّج على كثبان طيْ قال: فذكرته فاندفع على هذا الروي مع صعوبته حتى أتى بنحو مائة بيت ارتجالاً. قلت وهذا غريب، فإن هذا القدر كله يعز وقوعه من العرب المطبوعين فكيف بالمولدين؟ فكيف بآخر الزمان الذي غلبت فيه العجمة على الألسن؟ ولكن رب الأولين والآخرين واحد، تبارك الله أحسن الخالقين! وحدثني أن الفقيه أبا العباس المذكور كان أيام مقامه بمصر قد اتخذ رجلاً عنده بنفقته وكسوته وما يحتاج على أن يكون كلما أصبح ذهب يقتري البلد أسواقاً ومساجد ورحاباً وأزقة، وكل ما رأى من أمر واقع أو سمع يُريحُه عليه بالليل فيقصه عليه. قلت: وهذا اعتناء الأخبار والنوادر والتواريخ. وقد كان نحو هذا لشيخ مشايخنا أبي عبد الله محمد العربي ابن أبي المحاسن يوسف الفاسي، فكان من دأبه أنه متى لقي إنساناً يسأله من أي بلد هو؟ فإذا أخبره قال: من عندكم من أهل العلم؟ من عندكم من أهل الصلاح؟ ومن الأعيان؟ فإذا أخبره بشيء من ذلك كله سجله، وهذا الاعتناء بالأخبار والوقائع والمساند ضعيف جداً في المغاربة، فغلب عليهم في باب العلم الاعتناء بالدراية دون الرواية، وفيما سوى ذلك لا همة لهم. وكان أبو عبد الله المذكور يذكر في كتابه " مرآة المحاسن " أنه كم في المغرب من فاضل ضاع من قلة اعتنائهم، وهو كذلك. وقد سألت شيخنا الأستاذ أبا عبد الله ابن ناصر رحمه الله ورضي عنه يوماً عن السند في بعض ما كنت آخذه عنه فقال لي: إنا لم تكن لنا رواية في هذا، وما كنا نعتني بذلك. قال: وقد قضيت العجب من المشارقة واعتنائهم أمثال هذا حتى إني لما دخلت مصر كان كل من يأخذ عني عهد الشاذلية يكتب الورد والرواية والزمان والمكان الذي وقع فيه ذلك. منافسة علماء مصر لأحمد المقري

رجعنا إلى الحديث الأول قال: ووجدت الفقيه أبا العباس المذكور قد وقع بينه وبين طلبة العلم من أهل مصر شحناء عظيمة، وحدث أن سببها اتفاق غريب، وهو أنه حضر ذات يوم سوق الكتب وهو إذ ذاك لم يعرف، فوقع في يده سِفْرٌ من تفسير غريب، ففتح على " تفسير " سورة النور. فإذا هو قد تعرض لمسألة فقهية غريبة، وذكر فيها اختلافاً وتفصيلاً وتحقيقاً، فحفظ ذلك كله على الفور، وكان رجلاً حافظاً، ثم اتفق عن قريب أن اجتمع علماء البلد في دعوة وحضر معهم، فلما استقر بهم المجلس إذا سائل في يده بطاقة يسأل عن تلك المسألة نفسها، فدفعت للأول من أكابر أهل المجلس، فنظر فكأنه لم يحضره فيها ما يقول، فدفعها لمن يليه، ثم دفعها الآخر للآخر وهكذا حتى بلغت أبا العباس المذكور، فلما تناولها استدعى الدواة فكتب عليها الجواب بنحو ما حفظ، فجعلوا ينظرون إليه متعجبين، فلما فرغ تعاطوها فقالوا: من ذكر هذا؟ فقال لهم: ذكره فلان في تفسير سورة النور، فالتمسوا التفسير فإذا الأمر كما ذكر، فدخلهم من ذلك ما هو شأن النفوس. قلت: وليس هذا ببدع، فما زال هذا الجنس يتحاملون على من توسموا فيه شفوفاً عنيهم، أو مزاحمة في رتبة أو حظ إلاّ من عصمه الله، وقليل مثلهم. كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسداً وبغضاً أنه لدَميمُ. وقد أفتى بعض الفقهاء أنه لا تقبل شهادة بعضهم على بعض لهذا المعنى، ولا شك أنه " ليس " على العموم، ولكنه شائع معلوم. فمن ذلك ما وقع للإمام سيبويه مع أهل الكوفة، وقصته مشهورة. وما وقع لسيف الدين الآمدي مع أهل مصر، فإنه لما برز عليهم في العلوم أنكروه ونسبوه إلى الأهواء، وكتبوا عليه رسماً بذلك، فكانوا يدفعونه بعضهم لبعض ليوقعوا فيه الشهادة على ذلك، فكانوا يشهدون حتى انتهى إلى بعض من وفقه الله وعصمه فوقع تحت الشهادات. حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالقوم أعداء له وخصوم وقد تناهى به ذلك حتى خرج من مصر. وما وقع للفقيه محمد بن تومرت المعروف بالمهدي إمام الموحدين، فإنه دخل مدينة مراكش مَقْفَلَهُ من المشرق، فحرَّك العلوم العقلية، وكانوا أهل بادية لا يعرفون ذلك، فقالوا: هذا أدخل علينا علوم الفلاسفة، ووَشوا به إلى اللمتوني حتى كان من أمره ما كان. و" مثله " ما وقع للإمام أبي الفضل بن النحوي حين دخل سجلماسة فجعل يدرس أصول الدين وأصول الفقه، فمر به عبد الله بن بسام أحد رؤساء البلد فقال: ما العلم الذي يدرسه هذا؟ فأخبروه، وكانوا قد اقتصروا على علم الرأي فقال: هذا يريد أن يدخل علينا علوماً لا نعرفها، وأمر بإخراجه، فقام أبو الفضل ثم قال " له ": أمَتَّ العلمَ أماتك الله ههنا، قالوا: وكانت عادة أهل البلد أن يعقدوا الأنكحة في المسجد، فاستحضروا ابن بسام لعقد نكاح صبيحةَ اليوم الثاني من ذلك اليوم، فخرج سَحَراً وقعد في المكان المذكور، فمرت عليه جماعة من ملوانة إحدى قبائل صنهاجة فقتلوه برماحهم، وارتحل أبو الفضل إلى مدينة فاس فتسلط عليه القاضي ابن دبوس ولقي منه ما لقي من ابن بسام، فدعا عليه أيضاً فهلك، ولما رجع إلى وطنه القلعة واشتغل بالتقشف تسلط عليه ابن عصمة أيضاً فقيه البلد بالإذاية. وهذا النوع أعني الفقهاء ولا سيما أرباب المناصب منهم كالقضاة لم يزالوا متسلطين على أهل الدين كما وقع لهذا، وكما وقع للقاضي ابن الأسود مع الإمام العارف أبي العباس بن العريف ولابن " أبي " البراء مع القطب الجامع أبي الحسن الشاذلي وكلهم قد أخذهم الله بذنوبهم في الدنيا قبل الآخرة، نسأل الله تعالى العصمة من اتباع الهوى، ونعوذ بالله أن نظلم أو نظلم، إنه الحفيظ الرحيم.

قضاء الحاجات عند الصلحاء

وحدثني الحاج المذكور أيضاً قال: دخلنا مكة شرفها الله فدخلت ذات يوم المسجد الحرام فإذا هو غاص بأهله والناس مزدحمون فقلت: ما هذا؟ فقالوا: جنازة ولد توفي للشيخ يوسف الوفائي وكان حاضراً في تلك الحجة، قال: وكنت أعرفه، فجئت إليه لأعزيه في مصيبته، فاستأذنت عليه فأذن لي، فدخلت عليه وهو مع أصحابه فإذا هو يتحدث وهو في غاية ما يكون من البسط والسرور، قال: فجلست أمامه وقلت: أعظم الله أجرك فأنكر علي غاية الإنكار وقال: أمثلك يقول هذا؟ وقد طالما كنت أتمنى أن يجعل الله " جسدي في هذه البقاع المشرفة، واليوم قد جعل الله " بعضي فيها، فله الحمد وله الشكر، أو كلاماً هذا معناه رحمة لله ورضي عنه، " و " إنما أذكر مثل هذه القصة للاعتبار والائتساء. وحدثنا أيضاً قال: بتنا عند الفقيه الشيخ علي الأجهوري برسم زيارة، فبات ليله على النظر في كتب العلم، وهو يشرب الدخان، فكان له صاحب بعمر له الدواة حتى إذ فرغت عمر أخرى، ويرى حلَيَته. قال: وكان الشيخ إبراهيم اللقاني معاصره وبلديه يفتي بحرْمته. لله الأمر من قبل ومن بعد قضاء الحاجات عند الصلحاء وكان يحدثناعن أسلافه أن ثلاثة من صلحاء الغرب قد جرب عندهم قضاء الحاجات: الشيخ عبد السلام بن مشيش، والشيخ أبو يعزى " يلنور " والشيخ أبو سلهام، غير أنهم اختلفوا، فالأول في أمور الآخرة، والثالث في أمور الدنيا، وأبو يعزي في الكل، نفعنا الله بهم وبأمثالهم. وقد ذكر غيره كالشيخ زروق أن هؤلاء الثلاثة أبا يعزى وأبا العباس السبتي وأبا مدين قد وقع الانتفاع بهم بعد الموت، وهذا بحسب ما اشتهر وانتشر، وإلاّ فالانتفاع واقع بأولياء الله كثيراً في كل أرض. وقد شاهدت المولى أدريس بن إدريس رضي الله عنه أيام مقامي بمدينة فاس تِرْياقاً في كل ما أنزل به من حاجة. وحدثونا في درعة عن الشيخ سيدي أحمد بن إبراهيم أنه كان يقول لهم: إن سيدي أبا القاسم الشيخ وهو معروف هنالك يقضى عنده ما يقضى عند الشيخ أبي يعزى. وحدثني بمدينة مراكش الفاضل أبو العباس أحمد بن أبي بكر الهشتوكي قال: رأيت ذات ليلة فيها يرى النائم أني دخلت مقام الشيخ أبي عبد الله محمد بن سليمان الجزولي، فإذا هو جالس وهو يقول، من كانت له إلى الله حاجة فليأتنا، قال فلما أصبحت وكان أمير الوقت قد بعث إلى أهل المدينة أن يعطوا الرماة، وشق عليهم ذلك كثيراً، وكان قوم قد ذهبوا إليه وعزموا أن يسعوا في إذايتي، فجئت أليه فقلت: إنك قلت كذا، وها أنا ذا قد جئت في هاتين الحاجتين، قال: فقضى الله الحاجتين معاً. وحدثني أيضاً الأخ الصالح أبو عبد الله محمد بن أحمد الهشتوكي قال: بلغني عن الفقيه سيدي عبد الواحد الشريف أنه حدث أصحابه فقال لهم: كنا خرجنا ونحن نفر ثلاثة لزيارة الشيخ عبد الخالق بن ياسين الدغوغي، فلما كنا ببعض الطريق قلنا: تعالوا فليذكر كل واحد منكم حاجته التي يريدها، قال: فأما أنا فقلت لهم: إني أريد كرسي جامع المواسين، وأما الثاني فقال: أريد أن أتولى الحكومة في البلد، وأما الثالث فقال: أريد محبة الله تعالى، قال: فزرنا، فأما أنا وصاحبي فقد تولينا ما طلبنا، وأما الآخر فبخروجه من مقام الشيخ تحرك وفغر فاه واستقبل البرية، فكان ذاك آخر العهد به، وقد قضى الله الحاجات كلها. وكانت أهلي أيام كنا بالزاوية البكرية قد تراخت عنها الولادة، فدخلها من ذلك غم عظيم، فأصبحت ذات يوم فأخبرت أنها رأت أنها ذهبت إلى مقام سيدي أبي علي الغجاتي، " فقالت فوجدته جالساً وأنا في غاية العطش " فإذا حوله عين يرشح منها ماء قليلٌ. لا يغني، فقلت: يا سيدي ما هذا؟ جئت إليك عطشى رجاء أن أشرب، أفأرجع كما جئت؟ قال: لا، إن الماء ثمَّ، انبشي يخرج، فقالت: فنبشت بيدي فخرج الماء وشربت حتى رويت، وطلبت مني أن نزوره وأن نطعم عنده طعاماً ففعلنا، فولد ولدنا محمد الكبير أصلحه الله وأمتع به. ولما نزلنا بالزاوية المرةَ الثانيةَ مَقْفَلَنَا من حضرة مراكش كانت لنا بُنَيّةٌ عجزت عن النهوض وهي في سن من يمشي، فظنناها مقعدةً فذهب بها الخدم إليه وزوروها فقامت بالفور على رجلها تمشي، وأمثال هذه الأمور لو تتبعنا منها ما رأينا وما سمعنا لملأنا بها الدواوين.

الحرة تكفي وتغني

نعم رأيت لبعضهم أن الولي إذا مات أنقطع تصرفه من الكون، وما يحصل لزائره مثلا إنما يحصل له على يد قطب الوقت بحسب درجة ذلك الولي، والله تعالى أعلم. لله الأمر من قبل ومن بعد الحرة تكفي وتغني وكان أيضاً رحمه الله كثيراً ما ينشدنا " لبعضهم ": إذا لم يكن في منزل المرء حرة ... تدبر أمراً نابه فهو ضائع وقوله في البيت حرة يحتمل أن يريد بها ضد الأمة لأن الحرائر مظنة العقل والتجربة والغناء والكفاية، والظاهر أن المراد أخص " من ذلك " وهي الكاملة الحرية، كما يقال لكامل الرجولية: فلان رجل، وذلك أن ليس كل حرة تكفي وتغني، بل رب أمة لبيبة أقوم من حرة، فالمرأة الصالحة الكيِّسة الصيِّنة هي التي تراد. وفي الحديث: " تُنْكَحُ المَرْأةُ لِديِنَها وَجَمَالِهَا وَمَالِهَا، فّاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ " " تَرِبَتْ يَمِينُكّ ". وفي الحديث أيضاً: " الدُّنْيَا كُلُّهَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا المَرْأةُ الصَّالِحَةُ ". وفي الحديث: " إنَّ المَرْأةَ الصَّالِحَةَ بَيْنَ النساءِ كَالْغُرَابِ الأعْصَمِ بَيْنَ الغِرْبَانِ " وذلك لعزة من تستكمل المعتبر من الأوصاف، أو لعزة الدين فيهن، فإنهن ناقصات عقل ودين. وروي عن نبي الله داود أنه قال لابنه سليمان عليهما السلام: يا بني، إن المرأة الصالحة كمثل التاج على رأس الملك، وإن المرأة السوء كالحِمل الثقيل على الشيخ الكبير. وعن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: النساء ثلاث: امرأة عاقلة مسلمة عفيفة هينة لينة ودود ولود، تعين أهلها على الدهر، ولا تعين الدهر على أهلها، وقليلاً ما تجدها، وأخرى وعاء للولد لا تزيد على ذلك، وأخرى غُلّ قمل يجعله الله في عنق من يشاء، ثم إذ شاء أن ينزعه نزعه. وقوله غل قمل تمثيل، وأصله أن الأسير مثلاً يجعل عليه الغل فيبقى حتى إذا طال قَمِلَ أي دخله القمل فيأكله القمل في عنقه ولا يمكنه أن يزيل القمل منه ولا أن يزحزح الغُلّ من محله ما لم " من " أصله، فيلقى من ذلك عذاباً لازماً، وكذلك المرأة إذا كانت سيئة الأخلاق أو ذميمة الخلقة أو جمعتها فالرجل يتأذى منها أذىً عظيماً لازماً، ما لم يطلقها، فالمرأة إذا كانت جميلة حسنة الشباب مليحة ألفها الطبع وشربتها النفس، فكان سيئها حسناً، وذنبها مغفوراً كما قال أبو فراس: يُعد عليَ الواشياتُ ذنوبَه ... ومن أين للوجه المليح ذنوب ولا بد مع ذلك من كفاية بيتها، فإذا جمعت الحسن والدين والكفاية فهي الحرة المعدودة، والضالة المنشودة، وفي أمر النساء كلام يكثر، لا يفي به إلاّ تصنيف مستقل، وهذا يكفي في هذا المحل. " وكان يقول كثيراً: لا تواكل من لا يواكل، ولا تجالس من لا يجانس ". وكان يقول في حديثه بما سمع ممن لقي: إن الولي الصالح سيدي عبد العزيز بن عبد الحق الحرار المعروف بالتباع كان يقول لأصحابه، وهم سيدي سعيد بن عبد المنعم المناني الحاحي، " وسيدي علي بن إبراهيم البوزيدي " وسيدي رحال المعروف بالكوش: سعيد فقيهكم، وعابدكم، ورحال مجذوبكم، والغزواني سلطانكم، نفعنا الله بجميعهم آمين. وسمعته يحدث عن والده سيدي محمد بن أبي بكر أن شيخه سيدي محمد ابن أبي القاسم المعروف بالشرقي التادلاوي كان وقع بينه وبين ولده سيدي الغزواني كلام وعتاب إلى أن قال الولد: أنت ترزقني؟ فقال الشيخ نعم أنا أرزقك، فأعظم الناس هذا الكلام، قال: فقال الوالد: لا شيء في هذا، فإن الشيخ هو القطب في الوقت، والقطب تجري الأرزاق على يده، فصح بهذه الإضافة أن يكون رازقاً. لله الأمر من قبل ومن بعد شيخ الدلاء عند عبد الله بن حسون في سلا

محمد الشرقي شيخ تادلا

وحدث عنه أيضاً قال: قدمت على الوالي الصالح سيدي عبد الله بن حسون دفين سلا، فقعدت إلى جنبه وقد مد رجليه، والأعراب يتساقطون عليه يقبلون يديه ورجليه، قال: فخطر ببالي أنه كيف أطلق هذا الرجل نفسه للناس هكذا؟ فلم يتم الخاطر إلاّ وقد قال: أيها الناس، رجل قيل له من مس لحمك لم تمسه النار، أو لم تأكله النار، أو نحو هذا فيبخل بلحمه على المسلمين؟ قال: فلما سمع كلامه وعلمت أنه خاطري تكلم تبت إلى الله تعالى في نفسي، فجعلت إذا مد إليه أحد كاغدا وكان يكتب الحروز، تلقفته من يده، وناولته الشيخ وقبلت يده، " فإذا كتبته أخذته منه وقبلت يده "، فيحصل لي في كل حرز تقبيلتان، قال: ورأيت عنده أموراً أشكلت علي: منها أنه يؤتى بالثياب هدية وصدقة فيأمر بها فترمى في بيت وتبقى كذلك يأكلها السوس. ومنها أنه كل يوم يصبح عليه أهل الآلات فيضربون عليه. قلت: أما الثياب فالذي يظهر في أمرها أنه إما غيبة حصلت للشيخ عنها، وليس ذلك بمستنكر في أمثاله من المستهترين في ذكره، وإما خارج مخرج القلنسوة التي رمى بها الإمام الشبلي في النار، ومائة الدينار التي رمى بها في دجلة. وتأويل ذلك معروف عند أهل الطريق لا نطيل به. " وأما أمر الآلات فإما أنه كان يستنكر من تلك الأصوات أسراراً ومعاني "، ونظيره ما حكى الإمام أبو بكر بن العربي في سراج المريدين عن الشيخ أبي الفضل الجوهري أنه بات بجواره ذات ليلة أصحاب الآلات فشغلوه عن ورده بما هم عليه من لهوهم وباطلهم، فلما أصبح وجلس في مجلسه قال: إنه بات بجوارنا البارحة قوم ملئوا مسامعنا علماً وحكمة، قال أولهم: لي لي لي، فقال الآخر لي ولك لي ولك، فقال الآخر كذا، ومثل ذلك بمتناظرين، وجعل يقرر ذلك حتى قضى المجلس كله بأنواع من الحكم واللطائف والأسرار، وهذا من أعجب ما يتحف الله به أولياءه، فقد غيّبَهُ الله عن صورتها الباطلة وأشهده سره الباطن فيها. وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد وإما أن ذلك يوافق حالة له جمالية تحصر في الوقت، ومن هذا المنبع يقع الطرب وما يشهد من حالات أهل الوجد. وإما أنه يكون قطباً فتناسبه النوبة الملوكية. وقل لملوك الأرض تجهد جهدها ... فذا المُلْكُ ملْكٌ لا يباع ولا يهدى لله الأمر من قبل ومن بعد محمد الشرقي شيخ تادلا ونحو هذا ما يحكى عن سيدي محمد الشرقي التادلاوي وأنه لما وقع له الظهور بعث إليه السلطان أحمد المنصور نفراً من خواصه يختبرون أمره، فأضمر كل واحد منهم حاجة، فأحدهم قال: تركت جارية لي مريضة وأريد أن يخبرني بأمرها، وقال الآخر: أشتهي خبزاً خالصاً ودلاعة وذلك في غير مكان وغير إبان، فلما انتهوا إليه خرج إليهم في لباس رفيع فقال بعضهم: هذا لباس الملوك فكيف يكون هذا ولياً؟ فلما استقر المجلس بهم قال للمتكلم: أنا قطب وقتي، وهذا هو اللباس اللائق بي أو نحو هذا، وأخبر الآخر عن جاريته وأنها عوفيت، وكان رجل قد خبأ له دلاعة من الصيف، فأتاه بها ذلك اليوم، واستحضر خبزاً على الوصف فقال للمشتهي: تطلبت ما لا يكون فها هو ذا قد جاء الله به. وحدث أيضاً أن بعض الناس ممن كان مملقاً دوام حياته ذهب إلى سيدي محمد الشرقي المذكور فاشتكى إليه الفقر فقال له: اذهب فقد رفع الله عنك الفقر، قال: فذكر ذلك للوالد رحمه الله يعني سيدي محمد ابن أبي بكر. فقال: كلام الشيخ لا مطعن فيه، ولكن يا عجباً أين يذهب الفقر عن فلان؟ فهذا لا بد له من مخرج، قال فلم يلبث ذلك الرجل أن مات عاجلاً، فكان ذلك هو ارتفاع الفقر عنه واستراحته منه. قلت: ومن معنى هذه ما حدثوا عن بعض الصلحاء مراكش القرباء العهد أنه جاءه إنسان فقال له: يا سيدي إن الصلاة تثقل علي، فعسى أن ترفعها عني فقال له " على الفور " " قم " قد رفعها الله عنك، فلم يقم إلاّ مجنوناً خارجاً عن التكليف، والله على كل شيء قدير. وقد شهدت أنا بعض الناس ممن كان ذا رياسة ودنيا فنكب وذهب ماله كتب معي كتاباً إلى أستاذنا الإمام ابن ناصر رضي الله عنه يشكو عليه بما نابه وما تخوف من العيلة والضيعة، فأجابه الأستاذ بكتاب وفيه: فلا تخشى الفقر، فاتفق أن مات ذلك الرجل عن قريب، فكان ذلك راحته مما خاف. لله الأمر من قبل ومن بعد القاف المعقودة

الكسكسون والتداوي بالشيء المعتاد

حدثني الأديب الفاضل أبو عبد الله محمد بن المرابط الدلائي قال: كنت مع والدي رحمه الله، وأظنه قال في درب الحجاز نزولاً، فإذا بعجوز أعرابية مرت بنا وقد رفعت عقيرتها وهي تقول: حج الحجيج وناقتي معكولة ... يا رب يا مولاي حل عكالها بقاف معقودة على ما هو لغة العرب اليوم، قال: فقام أبي يهرول وراءها عجباً بما سمع من كلام العرب في غير زمانه. والظاهر أنها أرادت بالناقة نفسها، وأنها لم تنشرح لهذا الأمر، أو أرادت تمثيل حالها في عدم التحرك بحال الناقة المعقولة أو حال من ناقة معقولة. ومثل هذه اللغة ما حدثني الفاضل أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم الجزائري قال: حج بعض الأشراف فلما وقف على الروضة المشرفة على ساكنها الصلاة والسلام قال: إن كيل زرتم بما رجعتم به ... يا أكرم الرسل ما نكولُ؟ بالقاف المعقودة، فسمع من الروضة بتلك اللغة: كولوا رجعنا بكلّ خير ... واجتمع الفرع والأصول لله الأمر من قبل ومن بعد الكسكسون والتداوي بالشيء المعتاد وجدت في بعض التقاييد لبعضهم ما معناه: لو رأى أرسطو قدر البرنس في اللباس، والكسكسون في الطعام، والحلق بالموسى، لاعترف للبربر بحكمة التدبير الدنيوي وأن لهم قصب السبق في ذلك، انتهى. وقد كتب الكسكسون بالنون على ما وجدته مكتوباً خلاف ما ينطق به الناس، وبالنون، حدثنا الرئيس الأجلّ أبو عبد الله محمد الحاج المتقدم الذكر قال: ذهب رجلان فاضلان من بلاد المغرب، وأظنه قال: أخوان، فدخلا بلاد الشام، فمرض أحدهما وطال به المرض حتى يئسوا منه، فرأى الآخر النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: أطعموه الكسكسون بهذه العبارة، قال: فاستصنعوه له فأكله فبرئ، وهذا إما خصوصية لهذا الطعام، أو بذكره صلى الله عليه وسلم، فيثبت له الشرف، ويستدرك بذلك ما قلته من كونه لم يأكله صلى الله عليه وسلم في حياته، وإما من باب ما تقرر من أن دواء الجسم عادته. قد دخلنا مدينة فاس - حرسها الله - عام تسع وسبعين وألف فأصابني إسهال مفرط، وطال " بي " وكان الطبيب بعثني بأمري، فلم يترك دواء يستحسنه إلاّ صنعه لي، فلما لم يفد ذلك أرسل في غيبة مني إلى عمالي يقول لهم: انظروا إن كان " ثم " من الطعام ما يعتاده في بلده فأطعموه، فذكروا الأقط واصطنعوا عليه طعاماً فأكلته فعافاني الله تعالى. وقد أصابني مرة أخرى ذلك فدخلت على السلطان رشيد ابن الشريف، وكان يكرمني ويجلني، فرأى تغيراً في وجهي، فسألني فأخبرته فقال: وماذا صنعت من علاج؟ فقلت له: إن الطبيب يصنع لي شراب الريحان، فتضاحك ثم قال: سبحان الله! ما لنا ولشرب الريحان؟ وأين عهدناه؟ خذ سويق الشعير واخلطه بالماء فذلك دواؤه، ثم ضحك فقال: هذه مثل قصة العمراني الشريف، بات في ملوية عند بني فلان فجعل يقول: أعندكم شيء من شراب رمانتين؟ وهذا أعني التداوي بالشيء المعتاد، ولو في الأعراق أمر شهير واضح، وقد ذكره ابن الحاج رضي الله عنه في " المدخل " وذكر قصة الملك النصراني الذي مرض فأعيا الأطباء علاجه حتى جاء بعض أهل الخبرة فسأل أمه وقال: إن أردت أن يعافى ابنك فاصدقيني عنه، فقالت: نعم، كان أبوه عقيماً، فلما خفت ذهاب ملكهم مكنت أعرابياً كان عندنا من نفسي، فهو أبو الملك، فقال الرجل على الفور: علي بحوار فجيء به وذبح وشوي قدامه وهو يشم رائحته، فكان ذلك بإذن الله تعالى سبب برئه. وهذا من العجب، فإن هذا الملك الظاهر أنه ما أكل قط لحم الجمل، وإنما العروق نزعته فكيف بمن اعتاد أكل الطعام وربا عليه جسمه.

الدنيا وما فيها عرض زائل

ومن أظرف ما وقع في هذا ما حدثني به الطبيب المذكور، وهو الفاضل أبو عبد الله محمد الدراق الفاسي، قال: " كنت " دخلت طنجة بقصد ملاقاة الأطباء ورؤية الشخص الذي صوّروه تعلّم التشريح معاينةً، قال: فكان بعض أطباء الروم هنالك يعجب من أكلنا الكسكسون المذكور ويضحك منا ويقول: إنما تأكلون العجين في بطونكم، قال: فبينما نحن كذلك إذ دخلت عليه يوماً فوجدته عند رأس مريض محموم شديد الحمى وهو يسقيه الخمر، قال: فقلت له: ما هذا الذي تصنع أنت؟ وأي مناسبة بين الخمر والحمى والكل في غاية الحرارة؟ فقال: إنها لن تضره لاعتياده لها، فإنه كان يرضعها من ثدي أمه، وهو طفل صغير، قال فقلت له: سبحان الله! ونحن هكذا كنّا نرضع ما تنكر من الكسكسون من ثدي أمهاتنا ونحن صغار، فأي شيء يضرنا؟ فقال: صدقت، ولم يجد ما يقول. ومن هذا المعنى اختلفت طباع الناس في الطعام باختلاف الإلف والعادة، فكلّ يستمرئ ما يألفه من الطعام ويشتهيه ويعاف الآخر، قال صلى الله عليه وسلم في الضب: " إنّهُ لَيْسَ بِأرْضِ قَوْمِي فَتَجِدُني أعَافُهُ. فعلل ذلك بكونه ليس في أرضه. ودخلت في أعوام الستين وألف مدينة مراكش عند رحلتي في طلب العلم وأن إذ ذاك صغير السن، فخرجت يوماً إلى الرحبة أنظر " إلى " المداحين، فوقفت على رجل مسن عليه حلقة عظيمة، وإذا هو مشتغل بحكاية الأمور المضحكة " للناس ". فكان أول ما قرع سمعي منه أن قال: اجتمع الفاسي والمراكشي والعربي والبربري والدراوي فقالوا: تعالوا فليذكر كل منا ما يشتهي من الطعام، ثم ذكر ما تمناه كل واحد بلغة بلده، وما يناسب بلده، ولا أدري أكان ذلك في الوجود أم شيء قدره، وهو كذلك " يكون "، وحاصله أن الفاسي تمنى مرق الحمام، ولا يبغي الزحام، والمراكشي تمنى الخالص واللحم الغنمي، والعربي تمنى البركوكش بالحليب والزبد، والبربري تمنى عصيدة انلي وهو صنف من الذرة بالزيت، والدراوي تمنى تمر الفقوس في تجمدرت وهو موضع بدرعة يكون فيه تمر فاخر، مع حريرة أمه زهراء، وحاصله تمر جيد وحريرة. ولو عرضت هذه الحريرة على العربي لم يشر بها إلاّ من فاقة، إذ لا يعتادها مع الاختيار، ولو عرضت العصيدة على الفاسي لارتعدت فرائصه من رؤيتها، وهكذا. وأغرب شيء وقع في أمر الاعتياد ما حكي في جارية الملك الهندي مع الاسكندر " فإن الاسكندر " لما دوَّخ الملوك واستولى على الأقاليم احتال بعض ملوك الهند في هلاكه، وكانت عنده جارية بديعة الحسن كاملة الأوصاف، فجعل يغذيها بالسموم، ويتلطف لها حتى اعتادت ذلك، ثم تناهت إلى أن تطبعت بذلك وصارت مسمومة، فأهداها للإسكندر، وقصد بذلك أن يمسها فيهلك، وهذا غريب. وقد ذكر الأطباء هذه الحكاية فاستغربوا شأنها، وقد ذكرنا في اختلاف البلدان مع اختلاف طبائع الناس بها فيما مر ما يقرب من هذا المعنى ويرشحه. لله الأمر من قبل ومن بعد الدنيا وما فيها عرض زائل من كلامهم: ما أدري أو ودع، وهو " مذكور " في قِصَرِ الزيارة، ونحوه قولهم: ما سلم حتى ودع، وقال فيه الشاعر: بابي من زارني مكتتما ... خائفاً من كلّ حسٍّ جزعا حَذِراً نَمَّ عليه نُورُه ... كيف يُخفي الليل بدراً طلعا رصد الخلوة حتى أمكنت ... ورعى السامر حتى هجعا كابد الأهوال في زورته ... ثم ما سلم حتى ودعا وقال العباس بن الأحنف: سألونا عن حالنا كيف أنتم؟ ... فقرنَّا وداعهم بالسؤال ما أناخوا حتى ارتحلنا فما نفْ ... رِقُ بين النزول والتّرحال وقال محمد بن أمية الكاتب: يا فراقاً أتى بعقب فراق ... واتفاقاً جرى بغير اتفاق حين حطت ركابهم لتلاق ... زفت العيس منهم لانطلاق إن نفسي بالشام إذ أنت فيها ... ليس نفسي التي بالعراق أشتهي أن ترى فؤادي فتدري ... كيف وجدي بكم وكيف احتراقي وقال الحسين بن الضحاك: بأبي زور تلفت له ... فتنفست عليه الصُّعَدا بينما أضْحَكُ مسروراً به ... إذ تقطعت عليه كمدا وكنت خرجت ذات مرة لزيارة أقاربي فلقيت أختاً لي، فبنفس ما سلمت عليّ جعلت تبكي، فقلت لها: ما يبكيك؟ أليس هذا وقت سرور وفرح؟ فقالت: ذكرت يوم فراقك، فقلت في ذلك:

ومحزونة بالبين طال بها الجوى ... علينا وشوق بالجوانح لداغ تبيت وجفناها يباريهما الحيا ... وما تحت جنبيها من الفرش لداغ إلى أن تسخى الدهر بالوصل بيننا ... ولاح ضياء للمسرات بزاغ فلما انقضى التسليم ما بيننا بكت ... وفاض لها دمع من العين نشاغ فقلت: ألم يإنِ السرور ولم يدر ... شراب للقيان الأحباء سواغ فقلت: تذكرت الفراق غداً فذا ... لقلبي عن تلك المسرات صداغ فيا لك من حزن يباري مسرة ... بسهمين كل في المناضل بلاغ ويا لك من نعمى ببؤسي مشوبة ... كما شاب بالدم المور نساغ بل الشر في الدنيا على المرء صائل ... لجوج عليه الدهر والخير رواغ على أن لطف الله للعسر دامغ ... كما الحق منه للأباطيل دماغ واعلم أن أمور الدنيا مشوبة خيرها بشرها، وحلوها بمرها، ثم هي متبدلة " متغيرة " لا تكاد تثبت في حد، ولا تقف على مركز، وحكمة ذلك شيئان: أحدهما أن الدنيا لما جعلت مقدمة للآخرة يقع فيها الاستعداد لدخول الجنة والنجاة من النار جعلت مظهراً لما هنالك من نعيم وعذاب، ودالة عليه، ومذكرة له، وقاضية بالترغيب والتنفيير، فلم تجعل خيراً محضاً، وإلاّ نسي العذاب، ولا شراً محضاً، وإلاّ نسي النعيم، وأيضاً جعلت دالة على أوصاف الرب المنشئ لها، سبحانه، من جمال وجلال لتحصل المعرفة لعباده، وهذا كله كلام واسع الذيل لو بسطناه، والإشارة تكفي. الثاني أنها حادثة حادث ما فيها، وشأن الحادث أن يتبدل من عدم إلى وجود، ومن وجود إلى عدم، ذاتاً وصفة وحالاً، ومكاناً وزماناً، فلزم من ذلك التحول من عز إلى ذل، ومن غنى إلى فقر، ومن ارتفاع إلى اتضاع ومن سرور إلى حزن، ومن صحة إلى سقم، وبالعكس في الجميع إلى غير ذلك. وفي الحديث: كانت العضباء، وهي ناقة للنبي صلى الله عليه وسلم، معروفة لا تسبق، فجاء أعرابي على قعودٍ فسبقها، فقالوا، سبقت العضباء، وشق ذلك على المسلمين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنّ اللهَ لَنْ يَرْفَعَ شَيْئاً مِنَ الدّنْيَا إلاّ وَضَعَهُ ". وقد جاء رجل إلى بعض الوزراء فقال له: إني رأيتك فيما يرى النائم طالعاً على رأس نخلة أو شجرة. ورأيت فلاناً يعني وزيراً آخر كان يساميه في المرتبة أنه شرع في الطلوع ولم يصل بعد إلى أعلاها، وأراد بذلك أن يبشر الوزير ليستجديه فقال له الوزير، وكان ذا فطنة: يا أخي أذهب إلى فلان ليعطيك، فإنه في الزيادة، وأما أنا فقد انتهيت، وليس بعده إلاّ الانحطاط. وقد أذكرتني " هذه الحكاية " حكاية أبي عبد الله وزير المهدي، وكان متمكناً في منزلته عنده، ثم إن الخليفة زاره في داره ذات مرة، وكانت زيارة الخليفة لخواصه في عرفهم ليس فوقها درجة تطلب، فلما همّ بالانصراف أخذ الوزير يدفع له من نفائس الذخائر ما يليق بتجهيزه، ثم جعل يبكي، فقال الخليفة: ما يبكيك؟ لقد علمت أن فيك بخلاً تسميه حزماً، فإن كان لك ما أعطيت أعفيناك منه، فقال أبو عبد الله: والله ما بكيت للمال، وللهدايا كلها أحقر شيء في حقك، ولكن علمت أن زيارتك لي درجة ليس فوقها درجة ترام، فأخاف الآن من السقوط، فلما رأى ذلك أشفق وأعطاه من العهود والمواثيق أن لا يغدر به، ولا يسمع فيه قول قائل ما اطمأن به، فلم يلبث إلاّ أياماً يسيرة حتى سعوا فيه، فنكب، وقصته مأثورة والعامة يقولون: ثلاثة ليس لها أمان ... البحر والسلطان والزمان وفي هذا المعنى الذي نحن فيه قيل: توقى البدور النقص وهي آهلة ... ويدركها النقصان وهي كوامل وإذا كانت الدنيا وما فيها عرضاً زائلاً لا ثبات له فلا ينبغي لعاقل أن يتبجح بخيرها ولا أن يجزع من شرها، بل إذا كان حلوها تتوقع بعد المرارة ومرها ترجى بعده الحلاوة فقد صار حلوها مراً " ومرها حلواً " وإذا كان المفروح به لا يبقى فهو بصدد أن يكون محزوناً عليه قل أو كثر، فكثرة الفرح بها إذن مقدمة كثرة الحزن، فلا ينبغي أن يلتفت إليه. وقال الشاعر: على قدر ما أولعت بالشيء حزنه ... ويصعب نزع السهم مهما تمكنا وقال الآخر: ومن سره أن لا يرى ما يسوءه ... فلا يتخذ شيئاً يخاف له فقدا فإن صلاح المرء يرجع كله ... فساداً إذ الإنسان جاز به الحدا

المقامة الحافظة

وفي " الحكم العطائية ": ليقلَّ ما تفرح به يقل ما تحزن عليه وذكر شارحها ابن عباد رضي الله عنه أنه حمل لبعض الملوك قدح من فيروزج مرصع بالجواهر لم يُرَ له نظير، ففرح الملك به فرحاً شديداً، فقال لبعض الحكماء عنده: كيف ترى هذا؟ فقال: أراه مصيبة وفقراً، قال: وكيف ذلك؟ قال: إن انكسر مصيبة " لا جبر لها " وإن سرق صرت فقيراً إليه ولم تجد مثله، وقد كنت قبل أن يحمل إليك في أمن من المصيبة والفقر، فاتفق أن انكسر القدح يوماً فعظمت مصيبة الملك فيه وقال: صدق الحكيم، ليته لم يحمل إلينا، وقال الشاعر: ومن يحمد الدنيا لشيء يسره ... فسوف لعمري عن قريب يلومها إذا أدبرت كانت على المرء حسرة ... وإن أقبلت كانت كثيراً همومها وفي " الحكم " أيضاً: إن أردت أن لا تعزل فلا تتولَّ ولاية لا تدوم لك. وهذا صادق في الولاية نفسها، ولذا قال صلى الله عليه وسلم فيها: " نِعْمَتِ المُرْضِعَةُ وَبِئْسَتِ الفَاطِمَةُ " وفي غيرها من كل ما يتناول الإنسان من الدنيا زائداً على قدر الضرورة أو يصحبه من أهلها، فكل ذلك لا يخلو من علاقة بالنفس، ثم هو لا يدوم إما أن تفارقه او يفارقك، فمآله إلى الحسرة والأسف. وكنت في سفرتي إلى السوس الأقصى لقيني فقير من شبانه فصحبني أياماً قلائل وأنس بي، فلما بلغنا المحل ودعته فرأيته يبكي على فراقي، وسمعته يقول: لا تعرف أحداً، ويكرر هذا الكلام، أي إذا كنت أيها العاقل تعلم أن الذي دخل في قلبك سوف تفارقه فيتألم قلبك عليه فلا تسع في دخول أحد فيه بمعرفتك له، ولا تعرف أحداً، واترك قلبك خالياً مستريحاً. رأى الأمر يُفضي إلى آخرٍ ... فصير آخره أوَّلاً وهذا كله واد واحد والكلام فيه يتسع. نعم إن أمكنك أن تدخل في قلبك من لا يخشى عليه الزوال والهلاك والفناء فافعل، وليس ذلك إلاّ الحق تعالى، فمن أحبه فهو جدير أن يدوم محبوبه، ومن أنس به فهو جدير أن يدوم أنسه، ومن استعز به دام عزه، ومن استغنى به دام غناه، كما قيل: ليكن بربّك عز نفْ ... سك يستقرّ ويثبت وإن اعتززت بمن يمو ... ت فإن عزّك ميت لله الأمر من قبل ومن بعد المقامة الحافظة دخلت مدينة فاس - حرسها الله تعالى - سنة تسع وسبعين وألف، إذ خربت الزاوية البكرية، فأقبلت طلبة العلم للأخذ عني، وتخلفت جماعة من المشاهير، وهم أو جهلهم محتاجون إلى المجلس، وكأنهم غلبهم ما هو المألوف من الطبع الآدمي في أمثالهم، وكنت آنست ذلك فيهم، فاتفق أن خرجنا لزيارة صلحاء الساحل، فلما انتهينا إلى مقام الشيخ أبي سلهام جلسنا على شاطئ البحر: في عشيّ كأنّما اختلسته ... من نعيم الفردوس نفحة لطف قد قطفنا به جَنَى جَنَّتي أن ... س وعلم أشهى اجتذاب وقطف وارتضعنا ألذ من كأس وصل ... بعد هجر من ذي وداد وعطف ولقد كان في الحشا جذوةُ الوجد فكان منهُ لذلك مطف فحصل للنفس ارتياح وانبساط، وتجدد لها عزم ونشاط، فكتبت ارتجالاً ما صورته: حافظته لما انقدح في الفكرة من الشعر، أذكره بحسب ما اتفق غثاً وسميناً، " ورخيصاً وثميناً " وجداً وهزلاً، وصدقاً وإزْلاً حتى إذا آن لمضروبه الترويج، وبلغت بناته أوان التزويج، دفع الخالص الإبريز، وأحظيت الحسان بالتبريز، وكان الردي أولى أن يكسر أو يعطل، والدميمة منه أحق أن تُوأدَ أو تعضل، هذا وليت شعري، ماذا أكتب اليوم؟ وقد ضاع أكثر شعري: ليالي كان القلب في موكب الهوى ... على متن يعبُوب من اللهو سابق وكان الشباب الغضّ فيْنَانَ مُورقاً ... فكانت رياض الغَيّ أزهى الحدائق وللنَفسُ إذ ذاك أقدر على القيل والقال، وأعرف بالسحر الحلال، فكنت إذ ذاك أقول الفذ والنتفة والقصيدة عن نشاط إلى القول وارتياح ثم ادع ذلك يذهب مدرج الرياح، ولم أستفق لتقييد، إلاّ وقد كدت أراهق التفنيد ويقصر من وسواس النفس باطله، ويعرى أفراس الصبا ورواحله: والقلب يرجو أن ترق شفاره ... وتطول في سبل الهدى أسفاره ويبين عن شرك الغرور نواره ... وتلوح في رتب العلى أنواره فيقل في سوق الصبا أوطاره ... ويشط عن وطن الهوى أقطاره

الحسد والحساد

ولعمري إن النفس عند هذا أحق أن يجدّ في طلب الجد جدُّها، ويقف عند الأهم حدّها، فتبعد عن قول الشعر بمراحل، وعن سبل اللهو التي هي له أفراس ورواحل، ولكن للنفس فرطات، ولا بد لها أحياناً من سقطات، فمن ذلك قولي: ما أنصفت فاس ولا أعلامها ... علمي ولا عرفوا جلالة منصبي لو أنصفوا لصبوا إليّ كما صبا ... راعي سنين إلى الغمام الصّيبِ ثم اثبت في هذه الحافظة ما وقع لي من الشعر في ذلك العهد، وهو مجموع في الديوان فلا حاجة إلى الإطالة به هنا، وإنما الغرض من ذكر هذين البيتين الواقعين على السبب الذي ذكرناه قبل، وأظن أن البحتري وقع له شبه هذا الشعر في ذم بغداد، ولكني لم أقف عليه بعد، ولم يطرق سمعي حين قلت ذلك وإنما رأيت بعد ذلك أبا العلاء المعري أشار إلى ذلك منتقداً عليه حيث قال: ذمَّ الوليدُ ولم أذْمُم جوارَكمُ ... وقال ما أنصفت بغداد حُوشيتا فإن لقيت الوليد والنوى قذف ... يوم القيامة لم أُعدُمْه تبكيتا فلما رأيت هذا نبهت بهذا الكلام لئلاّ أنسب إلى الأخذ، فإن وقع شيء فمن توافق الخواطر، وفي البيت الثاني تلميح إلى قول الأعرابي في حسن الحديث: وحديثاً كالقطر يسمعه ... راعي سنين تتابعت جدبا فأصبح يرجو أن يكون حياً ... ويقول من فرح هَيّا رَبّا وإنما استسهلت، وأستغفر الله، التمدح والافتخار لأن ذلك مباح في الشعر، مسلوك في سائر الأعصار والأمصار. لله الأمر من قبل ومن بعد الحسَد والحساد وما ذكر من عدم الإنصاف سببه الكبر والحسد، وهما الداء العضال الذي هلك به إبليس، نسأل الله العافية، وذلك معجون في طينة الآدمي ومبتلى به إلاّ من طهره الله من أصفيائه، وقليل ما هم. ولم يزل ذو الفضل محسوداً، وكلما كثر الفضل كثر الحساد، فوجود الحساد دليل على وجود الفضل، وعدمهم على عدمه، فإذا قيل للشخص: كثر الله حسادك كان دعاء له، وإذا قيل: قلل الله حسادك كان دعاء عليه. وقد أكثر الشعراء من هذا المعنى قال الكميت الأسدي: إن يحسدونني فإني غير لائمهم ... قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا فدام لي ولهم ما بي وما بهم ... ومات أكثرنا غيظاً بما يجد أنا الذي يجدوني في صدورهم ... لا أرتقي صدراً منها ولا أرِدُ وأنشد أبو علي الحاتمي في " حلية المحاضرة " بدل البيت الأخير: لا يبعد الله حسادي فإنهم ... أشر عندي من اللائي لهن الودد والظاهر أن قوله: " أشر " تصحيف من الكاتب، وإنما هو: " أحب ". وقال عروة بن أذينة: لا يبعد الله حسادي وزادهم ... حتى يموتوا بداء غير مكنون إني رأيتهم في كل منزلةٍ ... أجل فقداً من اللائي أحبوني وقال نصر بن سيار: إني نشأت وحسّادي ذوو عدد ... يا ذا المعارج لا تنقص لهم عدداً إن يحسدوني على ما بي وما بهم ... فمثل ما بي لعمري جر لي الحسدا وقال معن بن زائدة: إني حسدت فزاد الله في حسَدي ... لا عاش من عاش يوماً غير محسود ما يحسد المرء إلاّ من فضائله ... بالعلم والظرف أو بالبأس والجود وقال أبو نواس: دعيني أكثر حاسديك برحلة ... إلى بلد فيه الخصيب أمير وقال الأول: لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ... قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا محَسَّدون على ما كان من كرَم ... لا ينقص الله عنهم ماله حُسدوا وقال أبو تمام: وإذا أراد الله نشر فضيلةٍ ... طويت أتاح لها لسان حسود لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرفِ العود واعلم أن هذا الشعر ونحوه يخيل استحسان الحاسد واستحباب وجوده بل كثرته، ولم يزل الناس يكرهونه ويتخوفون منه، ويستعيذون من شره، وقال تعالى) وَمِنْ شَرِّ حَاسدٍ إذَا حَسَدَ (فقد يقف القاصر على هذا فيحار، ولا يدري ما يختار، وفصل القضية في ذلك أن وجود الحاسد، كما مر، دليل على وجود الفضل، وذلك لما عرف أن الحسد هو حب زوال ما ظهر على الغير من خير، إما ديني أو دنيوي، حسي أو معنوي، عاجل أو آجل، حقي أو ادعائي فلزم من وجود الحسد وجود الخير.

كلمة الإخلاص

ثم إن الحاسد إذا أحب زوال الخير فهو لا محالة يسعى في زواله، أو في إلحاق مضرة تذهب " بها " طلاوة ذلك الخير، ما لم يحجزه حاجز، وهذه مضرة تتوقع من الحاسد، فالحاسد خبيث شرير مضر. إذا علم هذا فمن استحب وجود الحاسد فلم يحبه لذاته، بل أحب ما يقارنه من الخير، لا من حيث إنه محسود عليه به من حيث كونه خيراً، وإلاّ فيود الإنسان أن لو أعطي الخير وأعفي من الحساد، فإن ذلك أهنأ لعيشه، وأروح لقلبه، وأبعد له عن الأذاية والهول، ولم تَجْرِ حكمة الله تعالى غالباً بذلك، إذ نعم الدنيا مشوبة بالنقم، وصفوها مشوب بكدر، فأمام كل عين قذى، وعلى كل خير أذى، فلما لم يكن بد من وجود الحاسد غالبا، كان وجوده مبشراً بالخير معلماً بالنعمة، فيفرح بوجوده لذلك لا لذاته. ومثاله في ذلك الذباب الواقع على الطعام، والفأر الناقب على المخزن فإنهما دليلان على الخير من حيث ذلك، حتى إنه يكنى عن البيت الخالي عن الخير بأنه لا تطور فيه فارة، فمن أحب وجود الذباب ووجود الفار فلم يحبهما لذاتهما، فإنهما مؤذيان مكروهان، بل لما يقارنهما من الخير، ولو وجد الإنسان الخير مع السلامة عنهما كان هو الغنم البارد البارد، ولم تجر بذلك الحكمة. وبلغني أن ناساً من الجند قدموا من بلاد السودان أيام السلطان أحمد المنصور، وقاسوا في تلك الفيافي ما هو المعهود فيها من العناء وشظف العيش، فلما لحقوا بقرية من قرى السوس الأقصى خرج منها نفر من اليهود، فحين بصر بهم الجندي قال: مرحباً بوجوه الخير، فاليهود بغضاء عند كل مسلم، ومع ذلك استبشر بهم الجندي التفاتاً منه إلى النعمة التي تقارنهم، إذ لا يزايلون غالباً الحاضرة، ومحل الخصب والرفاهية، وهكذا الحاسد. وقد يكون في وجود الحاسد نعمة ولذة أخرى للمحسود إذا وقي شره، فإنه ينعم هو والحاسد يحترق على عينيه، وهو يزداد ظهوراً وشفوفاً، فيلتذ باحتراقه وإقصاره عنه وشفوفه عليه، ومن كره الحاسد فإنما كرهه لذاته، إذ هو منغص بما يبدو من أقواله وأفعاله، ولما يتوقع من شره وضرره، ولا شك أنه محذور، ولذا أمر بالتعوذ منه بالله تعالى، ولا دواء له هي مع الصبر أعلى ما يرى ويسمع، وبذلك ينعكس على الحاسد البلاء فيموت غماً، قال تعالى:) قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ (وقال الشاعر: اصبر على مضض الحسو ... د فإن صبرك قاتله فالنار تأكل نفسها ... إن لم تجد ما تأكله فائدة: من ابتلي بالحسد لشخص فعلاجه بإذن الله أن يكلف نفسه السعي في زيادة الخير على المحسود ولو بالدعاء له بذلك، فإنه إذ لازم ذلك ولو تكلفا سيثيبه الله تعالى من فضله انسلال السخيمة من قبله وسلامة الصدر، فإن بقي شيء فليغمه في صدره مع كراهته ولا يظهره ولا يسع في مقتضاه بقول ولا فعل فذلك لغاية ما يطلب منه والله الموفق. لله الأمر من قبل ومن بعد كلمة الإخلاص وتغالي فقهاء سجلماسة في فهمها وتفهيمها للعوام كنت في أعوام السبعين وألف قصدت إلى زيارة شيخنا البركة، وقدوتنا في السكون والحركة، أبي عبد الله محمد بن ناصر - سقى الله ثراه - فمررت ببلد سجلماسة فوجدت فتنة ثارت بين الطلبة فيها في معنى كلمة الإخلاص، فكان بعض الطلبة قرر فيها ما وقع في كلام الشيخ السنوسي من أن المنفي هو المثل المقدر، فأنكر عليه بعض من لهم الرياسة في النوازل الفقهية، وفصل الأحكام الشرعية، وليس لهم نفاذ في العلوم النظرية، وأخذوا بنحو ما أخذوا به الشيخ الهبطي في مشاجرته المشهورة مع أهل عصره، حتى امتحنوه بالسياط، فجعلت أقرر لأولئك المنكرين الكلمة بوجه يقرب بين المأخذين، ويصلح بين الخصمين، فلم يفهموا ذلك، وصمموا على ما طرق أسماعهم من أن الهبطي أخطأ في هذه المسألة وضل ضلالاً مبيناً، ثم وقعت هذه الفتنة " أيضاً " بمدينة مراكش عن قريب " من هذه " بين طلبتها حتى ضلل بعضهم بعضاً، فمن " أجل " ذلك ألفت كتاب " مناهج الخلاص، من كلمة الإخلاص "، كما نبهت على ذلك في خطبته، فجاء بحمد الله كافياً في الغرض، شافياً للمرض.

ثم رجعت في زورة أخرى بعد هذه فمررت أيضاً بسجلماسة فوجدت فتنة أبشع من هذه وأشنع وقعت لهؤلاء مع عوام المسلمين " ثم مع المسلمين " كافة، عامة وخاصة، وذلك أنهم نظروا في كلام من حرض من الأئمة على النظر في علم التوحيد، وحذر من الجهل فيه ومن التقليد، فجعلوا يسألون " الناس " عما يعتقدون، ويكلفونهم الجواب والإبانة عن الصواب، فربما عثروا على قاصر العبارة عما في قلبه، أو متلجلج اللسان لدهش ناله، أو جاهل بشيء مما يقدح في العقيدة أو يظنونه قادحاً وإن لم يقدح، فيشنعون عليه الجهل والكفر، ثم أشاعوا أن الفساد قد ظهر في عقائد الناس، وجعلوا يقررون العقائد للعوام، فشاع عند الناس أن من لم يشتغل بالتوحيد على النمط الذي يقررون فهو كافر، وشاع عندهم أن من لم يعرف معنى لا إله إلاّ الله أي النفي والإثبات على التقرير الذي يقرره العلماء فهو كافر، فدخل من ذلك على عوام المسلمين أمر عظيم، وهول كبير، فلما دخلت البلد جاءني الناس أفواجاً يشتكون من هذا " الأمر " وأن ليس كل أحد يبلغ إلى فهم تقارير العلماء فأقول لهم: إن الله تعالى إنما تعبدكم باعتقاد الحق في أنفسكم، أفلا تشهدون أن الله تعالى حق موجود؟ فيقولون: بلى، أفلا تعلمون أنه واحد في ملكه لا شريك له ولا إله معه وكل معبود سواه باطل فيقولون: بلى، هذا كله يقين عندنا لا نشك فيه ولا نرتاب، فأقول لهم هذا هو معنى كلمة الإخلاص المطلوب منكم اعتقاده، سواء عرفتموه من لفظها أو لا، فإن الكلمة عربية، والأعجمي لا حظ له في دلالتها، وإنما حسبه أن يترجم له مضمونها فيعتقده، وكذا العقائد كلها المطلوب منكم اعتقادها بالمعنى، ولا يشترط فهم ألفاظها التي يعبر " بها " عنها في كتب العلماء، ولا إدراك حدودها ورسومها التي تعرف بها. فإن فهم هذه العبارات والإحاطة بهذه الحقائق والتقريرات علم آخر لم يكلف به العوام، فإذا أجبتهم بذلك انطلقوا مسرورين حامدين شاكرين، ثم جاءني رئيس هذه الفتنة وسألني عن مسائل في هذا المنحى فأجبته، ثم تقدمت إليه بالنصيحة وقلت له: أكثر النحل وجل الطوائف الضالة إنما خرجت في هذا العلم، فإن أردت نفع الناس فقرر لهم العقائد بالقدر الذي يبلغون، وحدث الناس بما يفهمون، كما في الحديث الكريم ودع عنك هذه الامتحانات والتدقيقات والتشنيعات التي لم تجْرِ بها سنة أهل الدين في عصر من الأعصار، فإذا هو قد أشرب ذلك وتمكن فيه التظاهر به، وإذا تمييزه قد نقص عما كنت أعرف منه قبل ذلك، نسأل الله العافية. فتمادى على ذلك وأصفقت عليه العوام حتى سمعوا مقالته فيهم، وجعل يتغالى في تقرير العقائد وبيان وجوه المخالفة ونحوها على التفصيل بما لا حاجة إليه حتى يقع في ذكر ما هو سوء الأدب في حقه تعالى، وما لا يستطيع كل من في قلبه رائحة من عظمة الله تعالى أن يفوه به، ويحضر مجلسه أوباش الأعراب من جراوة ونحوها، فإذا رجعوا إلى قومهم ذهبوا بتلك المقالات وجعلوا يلقون على أمثالهم من الرعاع الأسئلة من هذا المنحى فيقولون لهم: أين بات الله؟ وأين يُصبح؟ وأين يظل؟ وأين هو؟ " وكيف هو "؟ إلى ما هو أبشع من ذلك مما لا أذكره، وقد نبهت على طرف من هذا المعنى في كتابي المذكور، ثم أشاعوا أن عوام المسلمين لا تؤكل ذبائحهم ولا يناكحون مخافة أن يكونوا لم يعرفوا التوحيد، فحدثني الفقيه المشارك الصالح أبو عبد الله مبارك بن محمد العنبري الغرفي - رحمه الله - أن أعرابياً من هؤلاء الشيعة جاء مع قوم من بلد توات فكانوا إذا طبخوا زادهم وفيه الخليع يمتنع من الأكل معهم ويقول: إن الجزار الذي ذبح هذه البهيمة لا ندري أيعرف التوحيد أم لا؟ ولما دخل البلد جيء بطعام عليه لحم وجماعة من الأشراف حضور فدعوه للأكل فأمتنع وقال: إن العبد الذي ذبح تلك الذبيحة لا ندري أيعرف التوحيد أو لا؟ فقالوا له: ما ذبحها عبد، وإنما ذبحها المولى فلان الشريف منهم فامتنع أيضاً وبات طاوياً، ثم لم يقفوا في هذا بل انتهكوا حرمة عوام المسلمين ابتلاهم الله بانتهاك حرمة خاصتهم أيضاً، فتناولوا فقهاء وقتهم ووقعوا في أهل العلم والدين ومن هم على سنن المهتدين، وضللوهم إذا لم يضللوا العامة، فوقع لهم قريب مما وقع للكميلية من الروافض فإنهم كفروا الصحابة حيث لم يقدموا علياً - كرم الله وجهه - ثم كفروا علياً حيث لم ينازعهم في حقه، وكان أهل البلد اتبعوني وأنا في

الطريق سؤالاً فيما هو من حكم الذبائح ونحوها في بطاقة فأجبتهم بما علم من دين الإسلام أن كل من تشهد شهادة الحق فإنه تؤكل ذبيحته، وتحل مناكحته، ويدفن في مقابر المسلمين ما لم يظهر منه ما يخالف ظاهره ونحو هذا الكلام، فلما بلغ إلى أولئك قالوا: سبحان الله! كنا نعرف فلاناً من العلماء، ثم هو يقتصر على مثل هذا الكلام ويكتفي " به " فلم يقع كلامي منهم موقعاً حيث اقتصرت على الحاجة وما هو الحق ولم أتعد إلى ما يشتغلون به من الفضول والضلال، وكانوا قبل هذه الفتنة تلمذوا لشيخنا الإمام ابن ناصر - رضي الله عنه - وأخذوا عهده، فلما لم يشتغل بما اشتغلوا به أنكروا عليه حتى وقعوا فيما يؤتى به إليه من الهدايا والصدقات، وفيما يذكره للفقراء من كلام الإمام الثعالبي، فإنه كان يحكي بسنده إلى الثعالبي أنه قال: من رأى من رآني إلى سبعة ضمنت له الجنة بشرط أن يقول كل لمن رأى أشهد أني رأيتك فيشهد له. فكان الشيخ رضي الله عنه يذكر ذلك على طريق الترجية، ولئلاّ يفوت المسلمين ذلك الخير إن حققه الله تعالى، فقالوا: هذا يوقع الناس في الأمن وفي الإعراض عن تعلم التوحيد مع أنه لا وثوق به فإن أمور المنامات لا تنضبط ولا يعول عليها، ثم برئوا من صحبته وكتبوا في ذلك كراسة، فقيض الله لها الشاب اللبيب الفاضل أبا العباس أحمد بن محمد بن السيد الشريف الحسني - رحمه الله ورحم سلفه - فتكلم عليها بما نقض أباطيلها عروة عروة، فلما انتهى إلى براءتهم من الشيخ كتب عليها ما معناه: إن هذه السلسلة المباركة الفاضلة يعني سلسلة الشيخ رضي الله عنه هي أمنع جناباً وأطهر ساحة من أن يبقى فيها أمثالكم، فطهرها الله منكم، وقد اشتعلت فتنتهم حتى كادت تخرج إلى الآفاق كلها، ثم أطفأها الله تعالى بفضله فجاء الطاعون عام تسعين وألف فأجتث شجرتهم من فوق الأرض فلم يبقى لها قرار.

العدوى والطيرة

فائدة: أما السلسلة التي أشرنا إليها عن الإمام الثعالبي فإن شيخنا الإمام ابن ناصر - رضي الله عنه - يحدث بها عن شيخه الفقيه الصالح سيدي علي ابن يوسف الدرعي عن شيخه سيدي عبد الرحمن بن محمد من بني مهرة عن سيدي محمد بن محمد بن ناصر من أهل الرقيبة عن سيدي عبد الكبير وهو جد سيدي عبد الرحمن المذكور عن القطب الكبير سيدي عبد الرحمن الثعالبي أنه قال رضي الله عنه: من رآني إلى سبعة ضمنت له الجنة، وفي سلسلة كل واحد يقول لصاحبه: أشهد أني رأيتك، وأني رأيت والحمد لله الإمام ابن ناصر وأشهدته على ذلك، حققه الله لنا وللإخوان آمين. واعلم أن مثل هذا يذكر على طريق الرجاء كما أشرنا إليه، وهو أمر جائز لا يمنعه عقل ولا شرع، وذلك أن فضل الله عظيم لا يحد بمقياس وأولياء الله تعالى أبواب يخرج منها هذا الفضل، ولهم مكانة عند ربهم الكريم المتفضل، فأي شيء يستبعد في أن يعطي بعضهم الشفاعة في قرنه أو أكثر، أو أن من مسه لم تمسه النار كما في قصة ابن حسون، أو أن من رآه دخل الجنة، أو أن من رأى من رآه، إلى سبعة أو أكثر، هذا كله قريب. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في خبره عن أويس القرني - رضي الله عنه - أنه يشفع في مثل أو عدد ربيعة ومضر. وحدثني الثقة أن نفراً من أصحاب ابن مبارك التستاوتي دخلوا على سيدي محمد الشرقي فقال لهم: أيها الفقراء، ما الذي قال ابن مبارك؟ فقالوا له: قد قال: أهل زماني محسوبون عليّ أو في ذمتي أو نحو ذلك، فقال سيدي محمد الشرقي: اشهدوا علينا إنا من أهل زمان ابن مبارك، فانظر إلى هذا الإنصاف وهذا التسليم، فكذا يجب التسليم لمن وقع منه شيء من هذا من أهل الصلاح والدين، ويظن به الخير ويحصل الرجاء ولا يوجب ذلك أمناً من مكر الله والاستغناء عما يجب تعلمه أو العمل به، بل التكليف باق بحاله، والخوف والرجاء بحالهما. وقد شاع عند هذه الطائفة الغازية أن الشيخ قد أخذ من الله تعالى عهداً أن لا يسوق إليه إلا المقبول، ولم يوجب لهم ذلك أماناً ولا غروراً إلا أن يشذ جاهل فلا التفات إليه. وأما الهدية من الأخ في الله فهي مباحة في الجملة، بل هي محسوبة في الفقه من وجوه الحلال، فإن عرض عارض في المعطى أو في وجه الإعطاء فالآخذ أعرف بما يأتي وما يذر. ثم أحوال الصوفية في قبول الفتوح مختلفة تبعاً لما اقتضته الواردات، والتحفظ عن الآفات. وهي في كل من الأخذ والترك كما قال الأستاذ السري للإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنهما: احذر آفة الرد كما تحذر آفة الأخذ، وكل من عرف بصحة العلم والعمل ومتانة الديانة كشيخنا المذكور فأمره موكول إلى دينه، ولا سبيل إلى الانتقاد عليه، والله الموفق. لله الأمر من قبل وبعد العدوى والطيرة كنت ذات مرة اشتريت رمكة من رجل صحراوي أسود شديد السواد، فظهر فيها عيب وتعذر إثبات قدمه لترد، فأدى الأمر إلى موتها منه وتلف الثمن، فأقبل رجل من قومي والمشترى منه عندي ونحن نتكلم في المسألة، فلما بصر بالمشترى منه قال: سبحان الله؟ كنت أعجب من أين جاء هذا الخسران؟ فإذا أنت تعامل الغِرْبان، ألم تعلم أنا لا نعامل مثل هذا حتى إنا لا نزجر الكلب الأسود عنا إذا مرّ بنا لئلا يقع خطاب منا أليه فكيف بغيره؟ وجعل يتأسف من خسران الثمن ومن معاملة ذلك الشخص، وجعلت أنا أضحك من عظمة الدنيا في عينيه ومن تحكيمه الأمور العادية، وكان قومنا - كما قال - يفرون من السواد فلا يلبسون ثوباً أسود ولا يركبون فرساً أدهم وهكذا.

واعلم أن هذه الأمور العادية يضل فيها العامة والقاصرون من الخاصة، أما العامة فإنهم إذا رأوا شيئاً عند شيء نسبوه إلى ذلك الشيء وغفلوا عن الله تعالى ولم يعلموا أن الله تعالى هو الفاعل وحده ولا تأثير لشيء من الكائنات بحال، فوقعوا في الشرك وفاتهم التوحيد، وأما القاصرون من الخاصة المعتقدين لانفراد المولى تعالى بالفعل وأن لا شريك له فإنهم يجرون على هذا المعنى وينكرون حكمة الله تعالى في أرضه وسمائه، فإذا قيل لهم: إن هذا الشيء يكون عند وجود هذا السبب قالوا: هذا لا معوَّل عليه، فإن السبب لا تأثير له، ووجوده وعدمه سواء. وهذا أيضاً جهل عظيم، فإن الله تعالى كما أنه قادر مريد لا شريك له كذلك هو حكيم يفعل أشياء عند أشياء ويرتب أسباباً ومسببات حكمةً منه تعالى ورفقاً بعباده في تأنيس نفوسهم بالأسباب المشهودة، فإن افيمان بالغيب وانتظاره عسير عليها وابتلاء لهم ليتيميز من انخرقت له الحجب فأبصر الحق، ومن حجب بها فتاه في أودية الضلال. نسأل الله تعالى العافية. ألا ترى إلى ما جعل تعالى لعامة الخلق من الشبع عند الأكل والري عند الشرب، والتدفي عند اللبس، والراحة عند الركوب، واللذة المخصوصة عند الوقاع، وهكذا مما لا يحصى، وكل ذلك يجوز من الله تعالى أن يخلقه بلا شيء. فهل ينكر أحد من العقلاء هذه الحكمة فيقول مثلاً: إن الطعام لكونه لا تأثير له وجوده وعدمه سواء، ويستجهل من يأكل ليشبع، وكذا ما جعله الله تعالى من المنفعة في الأدوية والعقاقير وما لها من الخواص، وألهم ذلك الأطباء وأهل التجاريب، فهل ينكر أحد ذلك؟ وكذا ما نحن فيه من كل أمر جرت العادة بوجود شيء عنده فلا ينكر بل يعتقد حكمة من الله تعالى مع صحة التوحيد، وهو أن لا ينسب إليه أثراً أكثر من أن وجوده سبب لبروز القضاء الأزلي عنده لا به، فمن نسب إلى شيء دون الله تعالى تأثيراً في وجود شيء أو عدمه فهو مشرك، ومن أنكر الحكمة المودعة في قوالب الكائنات فهو جاهل أعمى البصيرة، ولو لم يكن إلاّ جموده عن إدراك ما جرت به العادات وأفضحت به التجريبات لكان أمراً سهلاً، ولكنه إنكار لحكمة المولى سبحانه وبديع تصرفه في الكائنات الدال على إحاطة العلم والمشيئة بالمصالح والمنافع والمضار وعظمة الملك، فهو ينظر بإحدى العينين دون الأخرى، فمتى حكم التجريب مثلاً بأن يوماً من الأيام لا يسعد بحاجة من سافر فيه أو تزوج أو أخذ في سبب من الأسباب أو أنه يسعد فلا نبادر إذا سمعنا ذلك بإنكاره، ونقول قد أشرك مع الله تعالى، بل لا بأس بالاعتراف بذلك واعتباره عادة مع سلامة العقيدة من نسبة التأثير لليوم أو غيره من سائر الكائنات، والناس في نحو هذا ثلاثة: شخص يعتبره أخذاً وتركاً مع الغفلة عن الله تعالى، إما مع نسبة التأثير إلى السبب وهم المشركون، وإما بلا نسبة ولكن استغراقاً في الركوب إلى الأسباب والالتفات إلى الأغيار، وهو من الغافلين، وشخص لا يعتبره أصلاً استغراقاً في التوحيد والتوكل على الله تعالى والفناء عن الأسباب لا إنكاراً للحكمة، وهذا لا بأس به، وإذا صح توكله وتجرده عن الأسباب فذلك سبب لنجاته بفضل الله تعالى من مقتضيات العادة حتى إنه لو ألقم الحية رجله لم تضره، فإنه لما خرق العادة على نفسه بحسمها عن المألوفات وتجريدها عن الرعونات خرق الله تعالى له العادة بإعفائه عن جري العادات وما تقتضيه بإذن الله الأسباب الحادثات، وشخص يعتبر ذلك تأدباً مع الله تعالى في مراعاة الحكمة الجارية مع صحة العقيدة وصحة التوكل على الله تعالى عند الأسباب لا على الأسباب وهذا هو الكامل. وكان صلى الله عليه وسلم يعالج ويستعمل الرُّقي وقد يكون من ذلك ما هو خفي يكون اعتباره تعمقاً في الأسباب فيترك، وجعل بعض الأئمة من هذا نهيه صلى الله عليه وسلم الأمة عن الكي مع الاعتراف له بأنه سبب من الأسباب. إذا علم هذا كله فكل ما ورد من نصوص الشريعة وأقوال أهل الدين وفعلهم يتنزل على هذا، وبما قررنا يعرف عذر من اعتبر شيئاً من ذلك وعذر من لم يعتبر.

وفي الحديث: " لا عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ " فالحق عندنا في تأويله " أنه " إثبات لانفراد المولى جل وعز بكل التأثير، وأن لا تأثير لشيء مما يتوهم العرب أنه مؤثر، لا في باب العَدْوى ولا في باب الطِّيَرَة. لا انه نفي لما جرت العادة بوجوده عند ذلك بإذن الله تعالى، وهذا هو الجمع بين التوحيد والحكمة، وهو جمع بين الحقيقة والشريعة في المعنى، وقوله صلى الله عليه وسلم: " وَفِرَّ مِنَ المَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الأسَدِ " وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " لاَ يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلى مُصِحٍّ " أي ذو الإبل المريضة على ذي الإبل الصحيحة يحتمل معنيين: أحدهما " أنه " سدّ للذريعة بمعنى أنه ترك ذلك مخافة أن يقع شيء " بإذن الله " فيظن من وقع له أو غيره أنه ناشئ عن ذلك السبب فيقع في الشرك، الثاني أنه إثبات لما جرت به العادة من حكمة الله تعالى كما قررنا، فيعتبر ذلك شرعاً ولو لم يكن إلاّ تنزهاً عن تغيير القلوب وآية الناس. وفي الحديث أيضاً: " اطْلُبُوا الخَيْرَ عِنْدَ حِسَانِ الوُجُوهِ " وهو يحتمل أموراً: الأول: " اطلبوا الخير " عند الناس الحسان الوجوه فإن الخير مقرون بهم، وهذا من نمط ما نحن فيه. الثاني: اطلبوا الخير منهم فإنه يصدر عنهم الخير بإذن الله تعالى، إذ حسن الخَلْق عنوان حُسْنِ الخُلْق كما تقرر في الفِراسَة الحكمية وهو قريب مما قبله. الثالث: اطلبوا الخير عندهم ومنهم، فإن النفس تنبسط إليهم وتتمتع برؤيتهم، وفي الحكمة: اعتمد بحوائجك إلى الصباح الوجوه، فإن حسن الصورة أول نعمة تلقاك من الرجل. الرابع: اطلبوا الخير أي الرزق عند الوجوه المُستحسنة " شرعاً " كالبيع والتجارة والقراض والهبة والصدقة وسائر الوجوه الحِلّيّة دون السرقة والغصْب والخيانة ونحو ذلك. وكان صلى الله عليه وسلم يقول: " إذَا أبْرَدْتُمْ إلَيَّ بَرِيداً فَأبْرِدُوهُ حَسَنَ الوَجْهِ حَسَنَ الاسْمِ " وهو أيضاً يحتمل أنه لمجرد النظر أو لزائد على ذلك، ولهذا بعث الله الأنبياء ولا سيما نبينا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم في أحسن صورة. وفي ترجمة الإمام الشافعي رضي الله عنه: كان يتجنب أهل العاهات والناقصين خلقة، وكان يقول: احذروا الأعور " والأحول " " والأعرج " والأحدب، والأشقر، والكوسج، وكل من به عاهة في بدنه فإن فيه التوّى ومعاشرته عسيرة. ومن غريب ما وقع له في ذلك أمران: الأول أنه حكى أنه بعث رجلاً من أصحابه ذات مرة ليشتري له نوعاً من العنب معروفاً، قال الرجل: فذهبت فلم أجده إلاّ عند رجل من هذا الجنس، إما أشقر أو أزرق قال: فأتيته به، فلما طرحت الطبق بين يدي الإمام قال: أين وجدت هذا؟ قلت: عند فلان، وكان يعرفه، فقال: أردد إليه عنبه، قال: فقلت: يا أبا عبد الله، إن لم ترد أن تأكله أكله غيرك، فقال: ما أحب أن تتم المعاملة بيننا وبينه، فانظر في هذا، ولا تظن أن الإمام به حب الثمن يسترده ولا يتصدق بالعنب، كلاّ، فإن جوده قد طبق الآفاق، وهو الذي وضع بين يديه عشرة آلاف خارج مكة، فكل من سلم عليه يعطيه حتى لم يقم إلاّ وقد فرغت، وإنما الحامل له على ما قال ألاّ تتم المعاملة بينه وبينه، والظاهر من القصة أن الرجل المبعوث قد اشترى العنب شراء بَتّاً، وهو العادة في مثل ذلك، ففسخ العقدة إن لم يكن فضلاً من البائع إنما هو أن يدعي أنه من مثل ذلك الشخص عَيب، وهذا نهاية هذا الأمر، وليس بعجب، فقد حكي عن بعض القضاة من السلف أنه رد فرساً على بائعه بشية قد عيبت فيه.

الثاني أنه حكي عنه أنه كان في بعض أسفاره مر برجل من هذا الجنس، فقام الرجل إليه ورحب به ترحيباً بالغاً، واستدعاه للنزول والتضييف بغاية الاستحثاث، فنزل رضي الله عنه فبالغ الرجل في ضيافته وإكرامه مع غاية التاديب معه وتبجيله والبر به، فلما رأى الإمام ذلك قال في نفسه: سبحان الله! " مثل هذا " الخير لا يصدر عن مثل هذا الشخص بما تقرر الحكمة في أمثاله، وهذا الإنسان ينقض علينا القاعدة، فاغتمّ لذلك وبات مغموماً متحيراً فلما أصبح وتهيأ للرحيل لم يشعر إلاّ وقد ناوله الرجل سجِلاًّ فيه مكتوب كل ما أكل وكل ما انتفع به عنده، مقوماً بقيمة مضاعفة وقال له: ادفع لي ما أكلت، وإذا هو رجل صاحب مكر واحتيال على الناس بالضيافة ليتجر فيهم، فعند ذلك سُرِّيَ عن الإمام رضي الله عنه وعلم أن القاعدة لم تنخرم، فوزن له ذلك عن طيب نفس وسرور بصحة القاعدة، انظر الأمثال الحديثة. ودخل الشعبي سوق الرقيق فقالوا له: هل من حاجة؟ فقال: حاجتي صورة حسنة أتنعم بها، يلتذ بها قلبي، وتعينني على عبادة ربي، وكأنه يتذكر ما عنده والتشويق إليه. وأدام " النظام " النظر إلى جارية حسنة فقال مولاها: لم؟ فقال: ما لي لا أتأمل منها ما أحل الله، وفيه دليل على حكمة الله واشتياق إلى ما وعد الله. وقال الراجز: ثلاثة تجلو عن القلب الحزن ... الماء والخضرة والوجه الحسن وقال إسحاق الموصلي: لا أشرب الراح إلاّ من يدي رشأٍ ... تقبيل راحته أشهى من الراح ولا بد من التنبيه في هذا الباب لأمور: منها أن هذه الأسباب الحكميّة قسمان: قسم ظاهر، وهو ما يرجع إلى قوام الإنسان في معاشه غذاء ودواء، مباشرة أو بواسطة قريبة أو بعيدة كما في التمثيل ببعضه، وقسم خفي، وهو ما لم يصل إلى تلك المنزلة بذاته، وإن كان له بها مساس، فالأول لا ينكر على من يتعاطاه لوضوحه، والثاني هو الذي يقع فيه الإنكار كما مرّ كل ذلك. ومنها أن الأمر العاديّ كما أنه لا تأثير فيه إلاّ لله تعالى كذلك لا ارتباط فيه عقلاً، وإنما هو أمر يجعله الله تعالى وتستمر عادته تعالى به اختياراً منه، ومتى أراد أن يخرقه خرقه، كما شوهد ذلك في منجزات الأنبياء، وكرامات الأولياء، وسحرة السحرة، فكل ذلك خرق من الله تعالى لحكمة كما أجراه أولاً لحكمة: وقد أخرج أهل الحيرة السم القاتل للسيد خالد بن الوليد رضي الله عنه طمعاً منهم في أن يقتلوه، فلما علم به أخذه فسمى الله تعالى وأكله، ولم يضره شيئاً ولا يحصى كم من عابد بقي حياً بلا طعام ولا شراب. ولما حاصر المعتصم عمورية نهاه المنجمون أن يتقدم لقتالهم في ذلك اليوم، فلما بلغ ذلك بعض أهل الدين في عسكره دخل عليه فقال له: دع النجومَ لطرقيَّ يعيش بها ... وقم لوقتك وانهض أيها الملك إن النبي وأصحابَ النبي نهوا ... عن النجوم وقد أبصرت ما ملكوا فنهض إليهم لوقته ففتح عليه. وأصل هذا ما في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه إثر سماء وقعت: " أتَدْرُونَ مَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: اللهُ وَرَسُولَهُ أعْلَمُ، قَالَ: يَقُولُ اللهُ تَعَالى: أصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بي وَكَافِرٌ، فَأمّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَذَاكَ مُؤْمِنٌ بي وَكَافِرٌ بِالْكَوَاكِبِ. وَأمّا مَنْ قالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا فَذَاكَ كَافِرٌ بي مُؤْمِنٌ بِالْكَوَاكِبِ " وهذا هو الذي قررناه قَبْلُ من تحقيق التوحيد وليس فيه إنكار العادة الجارية. والنوء عند العرب أن يطلع نجم، وقيل: أن يغرب، وهو الأصح " فيقع وهكذا " وقد أجرى الله تعالى عند طلوع النجوم وعند غروبها وعند اقتران بعضها ببعض أموراً كثيرة في المملكة اختباراً منه تعالى، ونبه إليها من شاء من عباده فحصل لهم علم الأنواء، وعلم الاقترانات وسائر علم التنجيم، وهي كلها عادات جارية بإذن الله تعالى، والمتنبهون إليها لمعتبرون لها منهم من آمن ومنهم من كفر، والمقياسُ الحديثُ السابقُ على ما مرّ من تفصيل أحوال الناس.

تأملات المؤلف في النعيم والعذاب

ومنها أنه قد يعد من هذا الباب ما ليس منه مما يرجع إلى مجرد تخيلات ووساويس، ولم يظهر فيه حكمة منوطة ولا عادة صحيحة جارية، وأكثره يكون بتسلط شياطين يعبثون بمن يتوهم ذلك، فلا يلتفت إلى هذا النوع بوجه من الوجوه، ولا سيما إن أبطل سنة وعارض حكماً شرعياً كالذي يقول: إني جربت أني متى أعرت أو سلفت أو تصدقت أو أضفت ضيفاً تصيبني مضرة، فهذه شيطانية. وقد حكي عن بعض الناس أنهم ما يذبحون الضحية، وأنهم متى ذبحوها أصابتهم مصيبة، فلما اعتادوا ذلك تركوها، فتمادوا على هذا الضلال حتى انتهى الأمر إلى رجل منهم موفق فقال: والله لا أترك السنة ولأضحيَنّ، فلما ضحى يبِسَتْ يده اليمنى فقالوا: هذا الذي حذرناك، فقال: لا أبالي، فلما أتت الضحية من قابل ضحّى أيضاً فيبست يده الأخرى، فلما ضحى الثالثة يبست رجله، ولما ضحى الرابعة يبست رجله الأخرى، ولما ضحى الخامسة انطلق ولم يبق به بأس " وانقطعت تلك العادة الباطلة " وتبين أنه شيطان يعبث بهم ويفسد عليهم دينهم. لله الأمر من قبل ومن بعد. تأملات المؤلف في النعيم والعذاب كنت في هذه السفرة التي كتبت فيها هذه الأوراق سافرت زمن البرد، فلما انفصلت منم البلد قلت: أيا رب البرايا يا رحيم ... ويا مولى العطايا يا حفيظ أجرنا من عذابك وامتحان ... تجيش النفس منه أو تفيظ ومن وعثاء في سفر وسوء ... ومن صُرَدٍ وسائر ما يغيظ يقال فاظت نفسه إذا مات، والوعثاء بعين مهملة وثاء مثلثة المشقة، فلما أمسينا وضعت بين أيدينا فاكهة الشتاء فنعمنا بها، فلما رأيت ذلك قلت: سبحان الله من جعل رحمته في عذابه أي النار، وجعل عذابه في رحمته أي المطر، ثم نظمت هذا المعنى فقلت: سبحان من يقدر أن يرحما ... بما به يعذب المجرما وأن يعذب بما يرحم ... العبد به يوماً إذا أنعما فظهر اقتداره واعتلى ... في كلّ أمر شأنه واستمى وظهرت حكمته في الذي ... ركب في الدنيا وما أحكما فمُرُّها لم يخل من حلوها ... وحلوها قد أشرك العلقما في أبيات أخرى أنسيتها الآن، وتقرير هذا المعنى من وجهين: أحدهما أن هذه الأمور التي يباشرها الإنسان ذات وجهين: نافع وضار، ألا ترى أن النار مثلاً تدفئ من البرد وتحرق، والمطر مثلاً ينبت الزرع والنوار، ويخلف المياه الغزار، ولكن يخرب الديار، ويقطع المسافر عن التسيار، وهكذا، والحكمة في ذلك التركيب المشار إليه في الدنيا لما مرّ من الدلالة على ما في الآخرة من النعيم والعذاب والترغيب والترهيب وغير ذلك مما يطول تتبعه. ثانيهما أن كل ما هو نافع فالله تعالى قادر أن يجعله ضاراً وبالعكس، وذلك لما تقرر في العقيدة من أن ما يوجد في هذه الحوادث من الفوائد والخواص ليس ناشئاً عنها لا باختيار ولا علة ولا طبع، بل عن الفاعل المختار تعالى بقدرته ومشيئته، وليس ثم ارتباط عقلي، فيجوز وجود ذلك وعدمه، فلله تعالى أن يجعل النار مثلاً محرقة مرة، ثم يجعلها غير محرقة، وأن يجعل الخبز مثلاً مقتاتاً ثم يجعله غير مقتات كالحجر، وهكذا، ولكن أجرى الله تعالى عادته بما وقع لما مر من الحكمة وكثيراً ما يخرق ذلك وقد مر كل ذلك. لله الأمر من قبل ومن بعد انهزام الدلائيين في معركة بطن الرمان

دوام الملك بالعدل واضمحلاله بالجور

كان الرئيس أبو عبد الله محمد الحاج بن محمد بن أبي بكر قد ملك المغرب سنين عديدة، واتسع هو وأولاده واخوته وبنو عمه في الدنيا، فلما قام الشريف السلطان رشيد بن الشريف ولقي جيوشهم ببطن الرمان فهزمهم وذلك أوائل المحرم فاتح سنة تسع وسبعين وألف فدخلنا عليه وكان لم يحضر في المعركة لعجزه من كبر سنّه فإذا بالفَلّ يدخلون فدخل عليه أولاده واخوته وأظهروا جزعاً شديداً وضيقاً عظيماً، فلما رأى منهم ذلك قال لهم: ما هذا؟ إن قال لكم حسبكم فحسبكم، يريد الله تعالى، وهذا كلام عجيب، وإليه يساق الحديث، والمعنى: إن قال الله تعالى لكم حسبكم من الدنيا فكفوا راضين مسلمين، والإشارة بهذه إلى أن الله تعالى وضع في الدنيا مائدة لعباده وجعلها دُوَلاً كما قال تعالى: " وَتِلْكَ الأيّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النّاسِ " فكل من جلس على هذه المائدة وتناول منها ما قسم له فلا بد أن يقام عنها بالموت أو العزل ليجلس غيره، ولا تدوم لأحد، بل لا يقام عنها من أقيم غالباً إلاّ بمرارة وعنف، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: " في الولاية "؛ نِعْمَتِ المُرْضِعَةُ وَبِئْسَتِ الفَاطِمَةُ ". ثم من الناس من لم يشعر بهذا المعنى ولم يتنبه له، فهو يسعى إليها عجباً بأوائل زبرجها وانخداعاً بظاهر زينتها، كما قيل: الحرب أول ما تكون فتية ... تسعى بزينتها لكل جهول حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها ... عادت عجوزاً غير ذات حليل شمطا تنكّر لونها وتغيرت ... مكروهة للشمّ والتقبيل ومن الناس من علم ذلك وتنبه له، ثم من هؤلاء من نفعه الله بعمله فأوجب له أحوالاً محموده إما قبل ولوجها بالزهد فيها والفرار عنها علماً بغايتها ديناً وتقوى أو حزماً في الدنيا، وأما بعد الولوج بالتعفف والعدل والإحسان والرفق ومجانبة البغي والجور إما ديناً وحذاراً من المطالبة في الآخرة، وإما حزماً دنيوياً وحذار من اختلالها واضمحلالها. لله الأمر من قبل ومن بعد. دوام الملك بالعدل واضمحلاله بالجور وقد حكي عن فرعون - لعنه الله - أنه دخل عليه بعض أشياعه بمال عظيم فوضعه بين يديه فقال له: من أين هذا؟ فأخبره أن بعض القرى من أعمالهم كان لهم ماء فتبطل، وأنه قد أذن لهم في إحيائه وإجرائه على هذا المال، فقال له فرعون: الماء ماؤهم وقد أجروه، ففيم يدفعون المال؟ هذا ظلم وجور، والملك لا يستقر على الجور، فاردد إلى الناس أموالهم. قال بعض أئمتنا: فانظروا، يا معشر المسلمين، هذا كافر لا يلتفت إلى الدار الآخرة، ثم حافظ بالعدل على دنياه فقط، فكيف بمن يدعي الدين ثم لا يلتفت إلى العدل ولا يحافظ على الدين ولا دنيا. قلت: وقد قال الحكماء: إن الملك يستقر ويستقيم مع الكفر ولا يستقيم مع الجور، والعلة فيه أن الملوك هم خلفاء الله تعالى على عباده مؤمنهم وكافرهم، غير أن المؤمن خليفة في الطرفين، والكافر في الدنيا فقط، والملك هو نظام العالم، والعدل " هو " روحه، فمتى ذهب العدل اختل النظام ووقع الفساد في العالم، ولذلك قال أرسطوطاليس في " ضوابطه ": العالم بستان سياجه أي حائطه الدولة، الدولة سلطان تحيا به السنة، السنة سياسة يسوسها الملك، الملك راع يعضده الجيش الجيش أعوان يكفلهم المال، المال رزق تجمعه الرعية، الرعية عبيد تعبدهم العدل، العدل مألوف وهو حياة العالم. ومن كلام الفرس: لا ملك إلاّ برجال، ولا رجال إلاّ بمال، ولا مال إلاّ بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل. وقال الإمام علي - كرم الله وجهه -: الدين أس، والملك حارس، وما لا أس له مهدوم. وفي الحديث: " صِنْفَاِن مِنْ أُمَّتي إذّا صَلُحَا صَلُحَ النَاسُ: الأمَرَاءُ وَالْعُلَمَاءُ ". وقال أبو بكر - رضي الله عنه -: لا يصلح هذا الأمر إلاّ شدة في غير عنف، ولين في غير ضعف. وقال عمر - رضي الله عنه -:لا يقيم هذا الأمر إلاّ رجل يخاف الله في الناس، ولا يخاف الناس في الله. وقال عمرو بن العاص - رضي الله عنه -: إمام عادل خير من مطر وابل، وأسد حَطوم، خير من إمام ظلوم، وإمام ظلوم، خير من فتنة تدوم. وفي أمثالهم: إذا رغب السلطان عن العدل، رغبت الرعية عن الطاعة.

وسواس المهدوية

ولم يزل الحازمون من أهل الدين يهربون منها، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: " إنّا لاَ نُوَلِّي أمْرَنَا هَذَا مَن سَألَهُ أوْ مَنْ أرَادَهُ " إما رعياً للغالب من أنه لا يطلبه إلاّ شهوانيّ أو مضيِّع للحزم، وإما استناناً ليتبع عند غلبة الشهوة وضعف الديانة كأزمنتنا هذه. وقال أبو عمر بن عبد البر: تكلم يوماً معاوية - رضي الله عنه - فقال: أما أبو بكر فهرب عنها وهربت عنه، وأما عمر فأقبلت إليه فهرب عنها، وأما عثمان فأصاب منها وأصابت منه، وأما أنا فداستني ودُستها، قال أبو عمر: أما علي فأصابت منه ولم يصب منها، قلت إن أبا بكر هرب عنها من أول مرة، وقد قال يوم السقيفة ووضع يديه على عمر وأبي عبيدة: ادفعوا أحد هذين الرجلين، قال عمر: فلم أكره مما قال غيرها، فهما هاربان منها. وقال عمر - رضي الله عنه - بعد ذلك في قصته مع أويس القرني من يأخذها بما فيها؟ يا ليت عمر لم تلده أمه، وقال في آخر رمق: يا ليتني تخلصت منها كفافاً لا لي ولا عليّ، هذا مع استقامته وعدله الشهير، حتى صار يضرب به المثل في متابعة الحق، وقد شهد له صلى الله عليه وسلم بذلك الحديث المشهور، وقال له أيضاً: " مّا سَلَكْتَ فَجّاً إلاّ سَلَكَ الشَيْطَانُ فَجّاً غَيْرَ فَجّكَ " فكيف يكون حال من لم يبلغ أدنى من هذه المرتبة ولا قارب، وهو يتبجح بالولاية، ويستبشر بنيل الدرجة بها عند الله تعالى. وقال علي - كرم الله وجهه - يا بيضاء ويا صفراء غري غيري ولا تغريني. وكل من تعرض لها من السلف فإما أنتهاصاً لنصح المسلمين من نفسه بإقامة الحق لئلاّ يضيع، وإما نزعة بشرية حركها سبب من الأسباب، أما على الثاني فلا يقتدي به، وأما على الأول فيقتدي من بلغ مقامه في التمكين والقوة والنزاهة، وفي مثل زمانه الصالح الذي لم يزل فيه الدين طرياً، والحق جلياً، والأعوان عليه قائمين، وهيهات ذلك في آخر الزمان الذي غلب فيه حب الدنيا واستولى سلطان الهوى على الناس، فلا ترى إلاّ حرصاً على الجمع والمنع، ولا ترى إلاّ نفاقاً ومداهنة وملقاً، فالمرء لا يعدل بالسلامة شيئاً، ومن له بوجودها إن لم يكن له من المولى تعالى لطفاً ظاهر. أنذر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بهذا الزمان، وحض فيه على تجنب أمور العامة، وإيثار السلامة، فقال صلى الله عليه وسلم: " إذا رَأيْتَ شُحّاً مُطَاعاً، وَهَوىً مُتَّبَعاً، وَإعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأيٍ بِرَأيِهِ، فَعَلَيْكَ بِخُوَيِّصَةِ نَفْسِكَ ". ولله الأمر من قبل ومن بعد وسواس المهدوية فمن انتهض اليوم للانتصاب رَوْماً لإقامة الحق وإنصاف المظلوم من الظالم فهو مغرور، ولعل ذلك لا يتأتى له كما ينبغي في بيته " فضلاً عن قريته " فضلاً عن البلد، فضلاً عن الإقليم، وقد يسمع فضائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بمصالح المسلمين ودرجة الإمام العادل، وذلك كله حق، ولكن أين يتأتى؟ فيتحرك المسكين لانتقاص الأجر والظفر بعلي الدرجات فلا يفطن إلاّ وقد وقع به العشاء على سرحان، وربما حان فيمن حان، وقد يكون ذلك، وهو الأغلب، دسيسة دنيوية، ونزعة شيطانية، وقد يقع في " بعض " هذه المهاوي بعض أبناء الطريق يحسدهم الشيطان على باب الله والتفرغ للحضور بين يديه وتجنب المعاصي التي هي أقرب شيء إلى الغفران برحمة الله، فلا يزال بهم حتى يضمهم إليه ويجاوز بهم مزالق من كانوا يتبعونه إلى هاوية من يتبعهم كما قال الشاعر: وكنت امرءاً من جند إبليس فانتهى ... بيَ الأمر حتى صار إبليس من جندي نسأل الله العافية، فيجد الواحد قوة إيمانية في قلبه أو حالة جمالية واردة، فيوهمه ذلك أنه قوي على أن يصدع بالحق، وربما أوهمه ذلك أنه هو الحقيق بذلك دون غيره، أو أنه هو المهدي المنتظر، فيتحرك على طمع أن ينقاد له الأمر وينقاد له أبناء الزمان، ويحفر فيُكدي، ولا يعيد ولا يبدي، ثم يصير أشقر إن تقدم نُحِر، وإن تأخر عُقِر، فلا يسعه على زعمه إلاّ فتح أبواب التأويلات والترخصات، وإسعاف الناس بعد أن قام ليتبعوه، ومن شأنك بهدم الدين عوض ما قام ليبنيه، ويخفض الحق مكان ما انتهض ليعليه، فإياك وإياك. إذا أرخى الخمول عليك ذيلاً ... فنم في ظله ليلاً طويلا

مهدوية أحمد بن أبي محلى

وقد رأينا في وقتنا هذا من استولت عليه هذه الوساويس حتى وقع في شبه صاحب المانلخويا بحيث لو اطلع الناس على ما هو فيه رموه في المارستان، ولكن ستر الله تعالى يغطي على عبيده. مهدوية أحمد بن أبي محلى وممن ابتلي بهذا قريباً أحمد بن عبد الله بن أبي محلى، وكان صاحب ابن مبارك التستاوتي في الطريق حتى حصل له نصيب من الذوق، وألف فيها كتباً تدل على ذلك، ثم نزعت به هذه النزعة، فحدثونا أنه في أول أمره كان معاشراً لابن أبي بكر الدلائي المتقدم الذكر، وكان البلد إذ ذاك قد كثرت فيه المناكر وشاعت، فقال لابن أبي بكر ذات ليلة: هل لك أن تخرج غداً إلى الناس فتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فلم يساعفه لما رأى من تعذر ذلك لفساد الوقت وتفاقم الشر، فلما أصبحا خرجا، فأما ابن أبي بكر فانطلق إلى ناحية النهر فغسل ثيابه وأزال شَعَثَهُ بالحلق، وأقام صلاته وأوراده في أوقاتها، وأما ابن أبي محلى فتقدم لما هم به من الحسبة فوقع في شر وخصام أدّاه إلى فوات الصلاة عن الوقت ولم يحصل على طائل، فلما اجتمعا بالليل قال له ابن أبي بكر: أما أنا فقد قضيت مآربي، وحفظت ديني، وانقلبت في سلامة وصفاء، ومن أتى منكراً فالله " هو " حسيبُهُ أو نحو هذا، وأما أنت فانظر ما الذي وقعت فيه. ثم لم ينته إلى أن ذهب إلى بلاد القبلة ودعا لنفسه وادعى أنه المهدي المنتظر، وأنه بصدد الجهاد، فاستخف قلوب العوام واتبعوه، فدخل بلد سجلماسة وهزم عنه والي الملوك السعدية واستولى عليه، ثم أخرجهم من درعة، ثم تبعهم إلى حضرة مراكش، وفيها زيدان بن أحمد المنصور فهزمه. وأخرجه منها، وذهب فاستغاث بأهل السوس الأقصى فخرجوا إلى ابن أبي محلى فقتلوه وهزموا عسكره شذر مذر فكان آخر العهد به، ورجع زيدان إلى ملكه. وحدثونا أنه كان ذات يوم عند أستاذه ابن مبارك قبل ذلك فورد عليه وارد حال فتحرك وجعل يقول: أنا سلطان، أنا سلطان، فقال له الأستاذ: يا أحمد " هب أنك تكون سلطاناً ") إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً (. وفي يوم آخر وقع للفقراء سماع فتحرك وجعل يقول: أنا سلطان، فتحرك فقير أخر في ناحية وجعل يقول: ثلاث سنين غير ربع، وهذه هي مدة ملكه، " وقد رمزوا له ذلك " فقالوا: قام طيشاً، ومات كبشاً، أي قام في تسعة عشر بعد ألف، ومات في اثنين وعشرين بعدها. وزعموا أن إخوانه من الفقراء ذهبوا إليه حين دخل مراكش برسم زيارته وتهنئته، فلما كانوا بين يديه أخذوا يهنئونه ويفرحون له بما حاز من الملك، وفيهم رجل ساكت لا يتكلم، فقال: ما شأنك لا تتكلم؟ وألح عليه في الكلام، فقال له الرجل: أنت اليوم سلطان، فإن أمنتني على أن أقول الحق قلته، فقال له: أنت آمن فقل، فقال: إن الكرة التي يلعب بها يتبعها المائتان وأكثر من خلفها، وينكسر الناس وينجرحون، وقد يموتون، ويكثر الصياح والهول فإذا فتشت لم تجد " بداخلها " إلاّ شراويط أي خرقاً بالية ملفوفة فلما سمع ابن أبي محلى هذا المثال وفهمه بكى وقال: رمنا أن نحيي الدين فأتلفناه. واعلم أن هذه الدعوى أعني دعوى الفاطمية بلوى قديمة كما أشار إلى ذلك بعض الأئمة، وكان الشيعة ادعوا ذلك لزيد بن علي، فلما قام على هشام ظفر به يوسف بن عمر فصلبه، فقال بعض شعراء بني مروان يخاطب الشيعة: صلبنا لكم زيداً على جذع نخلة ... ولم نر مهدياً على الجذع يصلب لله الأمر من قبل ومن بعد المهدي بن تومرت وأتباعه

وأول من تظاهر بهذا جداً ببلاد المغرب " فيما علمنا " يهدي الموحدين، وهو أبو عبد الله محمد بن تومرت السوسي، وكان رجلاً فقيهاً، له رحلة إلى المشرق ولقي فيها المشايخ كالإمام الغزالي رضي الله عنه، فلما قفل إلى المغرب لقي في طريقه عبد المؤمن بن علي قد ارتحل في طلب العلم وهو شاب صغير، وكان عنده فيما يقال علم من علم الحدثان فلما بصر به توسم فيه أنه صاحب الأمر فقال له: اذهب معي وأنا أعلمك ما تشاء من العلوم، فصحبه عبد المؤمن في دخوله إلى المغرب، فلما وصلوا إلى حضرة مراكش - حرسها الله - وجدوا فيها آخر المرابطين، ووجدوا أموراً مختلفة كما هو المعهود في أذناب الدول، فدخل ابن تومرت وأظهر شيئاً مما حمل من العلوم العقلية، فأنكر أهل البلد ذلك، وكانوا إذ ذاك أهل بادية، فوشوا به إلى صاحب الوقت، فاستدعى وناظر حتى ظهر عليهم، فخلى السلطان سبيله، وبقي في البلد، ثم جعل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وشاع ذلك، فأنهوا أمره ثانية إلى السلطان وأغروه به، فأمر بإخراجه فخرج إلى تلك الجبال وجعل يدعو إلى الدين، وأقبل عليه الناس، ثم تظاهر بأنه هو المهدي، فلما اجتمع إليه الناس حضهم على إعلاء الدين، وجهاد المفسدين، فتقدم بهم إلى مراكش، وجرت بينهم وبين المرابطين حروب شديدة مات في خلالها بعد أن أوصى بعبد المؤمن وهيأ الأمر له، فولي عبد المؤمن واستوسق الأمر له، ولولده من بعده، وهم أتباع المهدي مع كل من يشايعهم في أنه هو المهدي من الطائفة التومرتية، وقد أنكر الفقهاء عليهم ذلك وضللوهم، ولا شك في ضلالهم في ذلك عند كل من يعترف بوجود المهدي في آخر الزمان. وقد ألف بعد ذلك الجلال السيوطي كتابه: " العرف الوردي، في أخبار المهدي " و " الكشف في مجاوزة هذه الأمة الألف " وبسط القول في ذلك بما فيه غنية من أن المهدي متأخر حتى يكون في آخر الزمان لوقت خروج الدجال ونزول عيسى ابن مريم عليه السلام، وأنه ليس هو ابن تومرت ولا أمثاله من كل من يدعي ذلك إلى زماننا.

الرياسة والشهرة

وكنت لا أحسب أن للطائفة التومرتية في دعواهم أزيد من مجرد الدعوى وتقليد شيخهم " المذكور " فكان من غريب الاتفاق أني منذ نظرت في كتب التصوف وقع في يدي كتابان في هذا العلم ينسبان لأبي زيد عبد الرحمن اللجائي، أحدهما " قطب العارفين "، والآخر " شمائل الخصوص "، فكنت أستحسنهما مع العلم من نفسهما أن مؤلفهما ليس من فحول العلماء، ولكن ما فيهما حسن المسلك، سهل المدرك، فكنت أتمنى زيارة المؤلف لاعتقادي أنه من أهل الطريق، وكنت إذا ارتحلت لزيارة الشيخ عبد السلام بن مشيش - رضي الله عنه - أسأل عنه فأجده بعيداً عني حتى إذا كان الحصار على مدينة فاس - حرسها الله - حين قتلوا القائد زيدان خرجت منها وأخذت على جبل بني زروال، فإذا بجبل لجاية قريباً مني، فأجمعت زيارته وتركت الركب وانخزلت إليه في نفر من أصحابي، فصعدنا الجبل إليه، وإذا هم يسمونه سيدي عبد الرحمن التراري فلما وصلنا إلى مقامه خرج إلينا أولاده " فأنزلونا " وأكرموا مثوانا، فلما اطمأن بنا المنزل وزرنا قالوا: هل لك في أن نخرج إليك كتب الشيخ لتراها، فقلت: نعم، فأخرجوا الكتابين المذكورين، فلما رأيتهما سررت بهما واستدللت بذلك على أنه هو ذاك، وأنه هو المؤلف لهما، وأخرجوا كتاباً ثالثاً مجلداً ضخماً ففتحته فإذا هو يسميه " المقصد الأسنى، في المهدي الأقنى "، فلما رأيت ذلك ظننت أنه يتكلم في المهدي المنتظر على نحو ما تكلم عليه الأئمة وإذا هو يخرج أحاديث لعبد الرزاق ويذكر حساباً يتضمن ظهوره إثر المائة الخامسة، وإذا هو يصفه ويذكر أحواله، وإذا كلامه في ابن تومرت المذكور، وإذا هو من الطائفة التومرتية، وذكر في أثناء الكتاب المذكور أنه امتحن على يد قضاة الوقت في ذلك حتى دعي إلى فاس ثم إلى مراكش، وأنه أنقذه الله من المحنة ورجع إلى بلده سالماً، فلما رأيت ذلك استضحكت في نفسي وقلت كما قال أبو علي الفاسي حين وجد الياء منقوطة: ضاعت خطواتنا، واستعجلت القيام، والخروج عن ذلك المقام، ولم أنتظر ما يضعون من طعام، وتخلصت بالاعتذار، بأصحابي الذين خلفت بعدي في الدار، ولما فصلنا عنهم تأملت فقلت: حصل العلم بأن هذا الرجل من تلك الطائفة، والعلم بأن تلك الطائفة قد كان فيها من يحتج لدعواهم الباطلة من أهل العلم، وهاتان فائدتان غريبتان، فلم تضع الخطوات مع أن الخطب سهل، والمجتهد مصيب مأجور، أو مخطئ معذور. لله الأمر من قبل ومن بعد الرياسة والشهرة وإذ قد ألممنا بذكر الرياسة والشهرة وضديهما، وذلك مما يبتلى به العام والخاص مع إشكاله والتباسه إلاّ على البصير، فلنشر إلى شرح ذلك باختصار حتى يكون الإنسان منه على محجة واضحة في رشده وغيه، واستقامته وانحرافه في سعيه. فاعلم أن في كل من الرياسة والشهرة وعدم ذلك شهوة للنفس ونفرة، ومصلحة في الدين والدنيا أو مفسدة، فمن أُلهِم المصلحة في الرياسة أو في الشهرة وسلم من المفسدة ومن الشهوة وأصاب الإمكان فقد حصل على الشرف في الدارين، وفي مثله يقال: المؤمنون أو المتقون بخير فكيف بإمامهم! وإن لم يتوفر له ذلك فإن أنفقت له المصلحة والإمكان أصبح كالسراج يضيء للناس وهو يحترق وفيه يقال: إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وإن اتفقت له المفسدة والإمكان أصبح من الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وفي أمره ورد: " أنَّ هَذَا الأمْرَ يَكُونُ نُبُوءَةً ثُمَّ خِلافَةً ثُمَّ مُلْكاً ثُمَّ عُتُوّاً وَفَسَاداً في الأرْضِ "، وهو الموجود اليوم، وكثير من الحمقى في زماننا يشتكون الجور ويطلبون العدل، ولم يدروا أن الجور قد مضى مع الملوك بعدما مضى العدل مع الخلفاء، ولم يبق إلاّ الفساد، فيا ليت الناس وقف لهم الأمر في الجور فيعيشوا، وإن لم ينفق له الإمكان فهو الفضيحة إن أبدى صفحة عنقه، والغم والوسواس إن شرق بريقه. أما إن لم يلهم المصلحة وإنما جمحت به الشهوة أو قصد المفسدة فلا سؤال عليه.

أما شهوة الناس في الرياسة مثلاً فواضحة لما مر غير مرة من تعشقها لصفات الألوهية، ولذا يقال: دعوى فرعون الألوهية في ضمير كل أحد مع تعشق ما يتوهم من ثمرات ذلك من التنعم والترفه والاحتواء على الدنيا وأهلها، ونفرتها عن ذلك بتوقع ما فيه عادة من المتاعب والمعاطب وإيثار راحة القلب والبدن، وتشتعل الشهوة وتتقوى بعلو الهمة في الدنيا وقوة الحرص وشهامة النفس وتضعف بضعف ذلك، ومصلحة ذلك في الدنيا إطفاء الفتن، وإخماد الإحن، وقمع البغاة، وإغاثة ملهوف، وإنصاف مظلوم، وتهدين السبل، كما قال عبد الله بن مبارك رضي الله عنه: لولا الخلافة لم تأمن لنا سبل ... وكان أضعفُنا نَهْباً لأقوانا وجباية الأموال وتحصيناً وقسم الأرزاق على أهلها إلى غير ذلك، وفي الدين إقامة الصلاة والزكاة والجهاد ونشر العلم وكفاية أهله ونحو ذلك. وفي مطلق الشهرة في الدنيا السعي في مصالح الناس والمسادة بينهم وغير ذلك، وفي الدين نصح المستنصحين، وتعليم المتعلمين، وهداية الضالين، وتربية المريدين، وغير ذلك، وفي حديث الهداية يقول صلى الله عليه وسلم لعلي - كرم الله وجهه -: " لأنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِداً خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ ". والمفسدة في ذلك في الجملة ظلم العباد، والسعي في الأرض بالفساد، وتضييع الحقوق، وإظهار العقوق، وإضلال الناس، والتحريف والإلباس، وشهوة النفس في الخمول والضعة إيثار الراحة والسلامة كما مر في مقابله: وقائلة ما لي أراك مجانباً ... أموراً وفيها للتجارة مربح؟ فقلت لها: ما لي بربحك حاجة ... فنحن أناس بالسلامة نفرح ونفرتها عنها لعدم الحظ السابق، والمصلحة في ذلك بانتفاء المفسدة التي في المقابل، وذلك كله واضح، فقد تبين ما هو حظ النفس فس البابين، فقد تدعو إلى جانبٍ موهِمةً أنها تريد استحصال مصلحته والتخلص من المفسدة في مقابله، وهي إنما تريد حظها الطبيعي منه، والشيطان يحثها إلى ذلك طلباً لحصول المفسدة التي فيه وفوات المصلحة التي في المقابل، وعلى البصير الحازم أن يزُمَّ نفسه بزمام التقوى، ويزينها بميزان العدل، وينتقدها بسراج الهدى، ويصفيها من بهرج الهوى. فإذا دعته مثلاً إلى طلب الرياسة والقيام بالأمر موهمة أنها تريد جمع الكلمة ولإقامة الشريعة وبسط العدل وكف الظلم ونحو ذلك فلا ثق بها في هذه الدعوى حتى يمتحنها فإنها تدعي أنها لم ترد متعة الدنيا وإنما طلبت استحصال الأجر والدرجة عند الله تعالى فيكفيك في امتحانها شيئان: أحدهما أن تعاقدها فيما تدعو إليه بأن تقوم فيه أشعث أغبر لا تنال مما يناله من دخل ذلك من أهل الدنيا عادة من مطعوم ولا ملبوس ولا مركوب ولا منكوح ولا مسكون ولا عظمة، وأنك تكون كواحد من الناس لا تتميز عنهم إلاّ بما تحملت من المشاق والمتاعب والهموم في مصالحهم كما كان حال الخلفاء - رضي الله عنهم - حتى إنك لو كنت في رفاهية قبل ذلك تركتها شغلاً عنها كما كان فعل عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - فقد حكي أنه قبل الخلافة اشتريت له حلة بنحو أربعين أو سبعين ألفاً فجسَّها فقال: ما أحسنها لولا خشونة فيها! ولما ولي الأمر اشتريت له حلة بنحو أربعة دوانق فجسها فقال: ما أحسنها لولا لينها! فقيل له ما هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال: إن نفسي ذوّاقة تواقة كلما ذاقت مكانة تشوقت إلى غيرها، فلما حصلت الخلافة تاقت إلى ما عند الله تعالى، وسمع البكاء يداره حين ولي، فدخل مسلمة بن عبد الملك إلى أخته فاطمة زوجة أمير المؤمنين فسألها عن ذلك فأخبرته أن أمير المؤمنين دخل عليهن فقال: إني قد شغلني عنكن ما نزل بي، يعني من الخلافة، فمن أحبت منكن أن تصبر على ذلك فلتصبر - رضي الله عنه -، وجعلنا في حماه.

ولما انعقد له الأمر وكان قد تعب فيه هم بأن يَقِيلَ فذهب ليدخل الدار، فقال له ابنه عبد الملك بن عمر - رضي الله عنهما -: ما تريد أن تفعل يا أبت؟ فقال له: يا بني إني قد سهرت من هذا الهم، فأردت أن أصيب راحة، فقال له: وأين حقوق الناس؟ فقال: يا بني إلى الظهر، فقال: يا أبت ومن لك بأن تعيش إلى الظهر؟ فأخذه وقبل ما بين عينيه وقال: الحمد لله الذي خلق مني من يعينني على ديني، فترك القيلولة، وخرج إلى الناس وقال: من كانت له مظلمة فليأتنا، وجعل يرد على الناس ضياعهم وأموالهم وينصفهم مما وقع عليهم من الظلم قبله. هكذا هكذا وإلاّ فلا لا ... طرق الجد غير طرق المزاح ومن هذا سئل إمامنا مالك - رضي الله عنه - من يقاتل عن الإمام؟ قال: إن كان كعمر بن عبد العزيز فنعم، وإلاّ فدعه ينتقم الله من الظالم بالظالم حتى ينتقم من الجميع. فإذا عرضت على نفسك هذا الشرط فتنبه إليها، فإن انشرحت له بأول عارض فعسى أن تصدق، وإن رأيت في أديمها انكماشاً ما فهي كذابة تريد أن تتذرع بتسويلتها الباطلة إلى اقتناص اللذات، والانهماك في الشهوات، ولا تغتر بانشراح يظهر منها ثانيَ حالٍ لأنه يكون متكلفاً احتيالاً. الثاني أن تقدر أن لو ظهر غيرك في الوجود ممن يقوم بهذا الأمر مثل ما ترجو أو أفضل هب تكتفي بذلك وتحمد الله تعالى على ما كفاك مئونة ما تريد أم لا. فإن اكتفيت بذلك وعلمت أن المراد انتفاع المسلمين وصلاحهم، وقد حصل بلا شك منك فقد تصدق، وإن وجدت نفسك مع ذلك مضرة على طلب ذلك متنكدة من فواته فاعلم أنها كاذبة إنما تطلب حقها، فإن زعمت أنها إنما طلبت الفوز بدرجة ذلك عند الله تعالى وإنما تنكدت من فواتها فاعرض عليها أنه لو حصل ذلك أو أرفع منه وهي بين يدي الله تعالى في خلوتها مراقبة له لهجة بذكره سارحة في رياض المعارف ليلاً ونهاراً هل تطلب هذه الخطة؟ فإن قالت إذن لا حاجة لي بها إذ أصبت الغنيمة الباردة ووقعت على الدر النفيس فعسى أن تكون صادقة، وإن أصرت على الطلب فهي كاذبة، هذا على أن دسائس النفس أدق شيء وأعمصه فقد تسخو بالحظوظ الحسية كلها حتى تتوهم أنها صادقة وإنما تريد حظوظاً معنوية مثل الصيت والذكر في الدنيا على ما وقع للرهبان، نسأل الله السلامة من شرها. ثم إن ألفيتها صادقة مع الامتحانات، وما أغرب وجود ذلك!، فانظر حينئذ في الإمكان، فإن القيام بذلك متوقف عادة على أمور كالعقل والقوة والعدد والعدة والمال والإخوان والأعوان، فإن تيسر ذلك فمن علامة الإذن التيسير، ولا يكاد يتفق ذلك، ولا سيما فيما نحن فيه من آخر الزمان الذي قل خيره وكثر شره، وإن اتفق فلا يكاد يتفق إلاّ بعد فتن ومفاسد لا يقوم بها ما يرجى من مصلحة، فلا يصل إلى الطاعة على زعمه إلاّ بعد اقتحام معاص عظام، وما أشبهه حينئذ بما شاع في ألسنة المتطببين من أنه لا يكون الرجل طبيباً حتى يعمل مقبرة، ولكن الناس مبتلون مقودون بسلاسل القدر، لينتظم أمر الدنيا على حسب ما شاء الحكيم العليم، نسأله سبحانه أن يصرفنا فيما فيه رضاه، وكذا ما نحن فيه، وإن لم تر إمكاناً أصلاً أو لم تره على مقتضى المصلحة الشرعية فخل عنها، واعلم أنك لست من أهلها. دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي ودع عمار العلى للمقدمين على ... ركوبها واقتنع منهن بالبلل ولا تغتر بصلاح نيتك وتمنيك الخير وتظن أنك تعطى لا محالة ما تتمنى فهيهات! ما كل ما يتمنى المرء يدركه ... تجري الرياح بما لا تشتهي السفن واعلم أنك متى رمت النهوض إلى هذا الأمر بلا عُدّته تكون كالمجبوب يروم أن يتزوج ليولد له ولد صالح يدعو له أو ليكثر الأمة المحمدية بنسله، فهذا أحمق مبين، وحسبه أن يحتسب على الله تعالى نيته الصالحة فعسى أن يعطى بها خيراً، وفي الحديث: " نِيَّةُ المُؤْمِنِ أبْلَغُ منْ عَمَلِهِ " وفي الحديث: " مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَة " وكذا أنت في هذا كله.

الكشف والمكاشفة عند الصوفية

وانظر إلى الملك الذي أشرف على تَلٍّ ونظر إلى جنوده تحته فأعجبوه، فتمنى أن لو كان حاضراً مع النبي صلى الله عليه وسلم لينصره، فرحمه الله تعالى بفضله على هذه النية، فَانْوِ أنت أيضاً أن لو كانت لك قوة على إظهار الشريعة وإحياء السنة وإخماد البدعة وحسم الباطل وإغاثة الملهوف ونصرة المظلوم وإقامة ميزان العدل وإصلاح العباد والبلاد، فعسى أن تنال بهذه النية خيراً، وقف هاهنا وطب نفساً عما وراءه، فلا تلج تلك المضايق ولا تتبع تلك الطرائق، وإذا فهمت الدسيسة في هذا القسم فافهمها في غيره والله الموفق. لله الأمر من قبل ومن بعد الكشف والمكاشفة عند الصوفية حدثنا شيخنا العلاّمة أبو بكر بن الحسن التطافي رحمه الله " قال: دخلت على شيخنا العلاّمة أبي بكر بن الحسين التطافي رحمه الله " قال: دخلت على شيخنا العلاّمة الزاهد أبي محمد عبد الله " بن علي " بن طاهر الحسني رضي الله عنه يوماً وهو إذ ذاك بقرية أولاد الحاج من بلد مضغرة فقال لي: إن بني يفوس وهم قرية من الخنق وقع بينهم قتال قال: فقلت: يا سيدي أجاء أحد من هنالك؟ قال: لا، ولكن أخبرني بذلك قلبي، وقلبي لا يكذب علي، فقد جربته، وكان بينه وبين هؤلاء مرحلة، قال: فجاء الخبر بعد ذلك بوقوع الأمر كما أخبر به. وقد رأيت أن أثبت في هذا المعنى كلاماً تتميماً للفائدة كما هو سبيل هذا الكتاب كله، وأنا أبرأ إلى السامع من نفسي، فلا يتوهم أني من أهل هذا المضمار وأني خبرت عن وجدان، وتكلمت عن ذوق، وبينت عن مشاهدة، كلا، وإنما أقرر شيئاً أتعقله فهماً، أو شيئاً وجدته في كتبهم مشروحاً، ولا أدعي أنه ليس في حكمة الله البالغة، وموهبته السابغة، أزيد من ذلك، بل أذكر ما انتهى إليه فهمي فأقول: إن الغيب المدعى الاطلاع عليه، وهو ما لا يعلمه عامة الناس قسمان: قسم متقرر في نفسه، وللعقول وصول إليه، وقد يدركه بعض العقول دون بعض، وذلك كصفات الله تعالى وأسمائه، وحكمته في أرضه وسمائه، وأحكام المعاد وغير ذلك، وكذا كل علم مستنبط في الأصول والفروع وغير ذلك، فهذا اطلاع صحيح، ولكن لا يسمى في الاصطلاح كشفاً، نعم هو الكشف الصحيح النافع، وسنشير إليه آخر الترجمة إن شاء الله. وقسم مرجعه الموهبة، و " لكن " لا مجال فيه للعقول، ويكون إما بلا تقدم سبب يناسبه كحال مجذوب وهي الرؤيا المستغنية عن التعبير، وإما بمشاهدة مثاله، وهي الرؤيا التي تعبر، وإما بسماع خطاب أو آية أو قراءتها ونحو ذلك، ولا حاجة إلى بيان حقيقة الرؤيا لأن ذلك مستوفى في علم التعبير. وأما الغيبة فأن يشاهد فيها شيء أيضاً أو أمثاله أو يسمع الخطاب أو نحو ذلك، وكون المشاهدة حينئذ بالعين الباصرة أو بعين القلب أمر محتمل، ولا حاجة إلى التعرض لتحقيقه فإنه لا يتعلّق به غرض. وأما اليقظة فبأن يرى الشيء بعينه إن كان مما يرى أو أمثاله، أو يراه بقلبه إما بأن يتجلى له كرؤية البصر أو يخطر فيه أنه كذا، أو يحدث به، وقد يرى الشيء مكتوباً في اللوح المحفوظ أو في الصحف المستنسخة يقظة أو غيبة أو مناماً أو مكتوباً على صفحة جدار أو على جبين السائل أو غير ذلك، وقد يفهم ذلك من صوت يسمعه أو فعل أو حال يراه لغيره أو لنفسه أو نحو ذلك، فهذا النوع كله هو الذي يراد بالكشف والمكاشفة في عرف الناس، وقد يختص ذلك يختص ذلك بالقسم الثاني والثالث أو بالثالث فقط. ولما كان أمراً معشوقاً للإنسان وذلك من وجهين: أحدهما من حيث كونه علماً، والعلم هو غذاء الروح، وكلما كان أغرب، كان أشهى وأعجب.

ثانيهما من حيث كونه غبياً، والعلم به من أوصاف الربوبية، والعبد مرتاح إلى ذلك كارتياحه إلى القدرة والعلو، فكان للناس ولوع بذلك وتشوف إليه لما ذكرنا وتشوف إلى من يظهر عليه شيء منه لاستلذاذ الغرائب، واستعظام العجائب، واستنجاح المآرب، حتى إن العامة مُطبِقون على جعل ذلك آية لثبوت ولاية الولي من غير تعريج على المستقيم منه والسقيم، وكذا صاحبه في نفسه، فنشأ من ذلك كله لعوام المتوجهين شغف به وحرص عليه لأول قدَمٍ، فكثرت فيه الدعوى، وعمت به البلوى، والتبست السبل بالمنهاج، وغطى على شمس الخصوصية دخان الاستدراج، رأينا أن ننبه على وجوه الغلط في الأوجه السالفة بقدر ما حضر في الفكر ليتأتى للإنسان التحرز من مغالطة نفسه ومغالطة غيره له، " والله أعلم " وسمعت الشيخ أبا عبد الله ابن ناصر - رحمه الله - يقول: قال سيدي أحمد ابن إبراهيم - رحمه الله -: لا تكونوا كذابين ولا يلعب بكم الكذابون. فنقول: أما ما يكون من جهة المنام فيمكن الغلط فيه من جهات: منها أن لا يضبط " أمور " نفسه، فإن أمور النوم قلما تنضبط، فيتوهم أنه رأى صورة الشيء أو المثال الدال عليه أو خوطب به أو نحو ذلك والأمر خلافه. ومنها أن يرى صورته لكونها حاضرة في خياله، فإن من أكثر تصور الشيء لشغفه به أو لاستغرابه أو للخوف منه أو عليه ربما تخيله بذلك السبب، ولا حاصل لذلك كما في قصة الذي بشر الملك بطول العمر وأنه بقي في عمره أربعون سنة وأن أمارة ذلك أن يرى في الليلة القابلة كذا لصورة غريبة صورها له، فظل الملك يقلب تلك الصورة في وهمه، فلما أمسى رآها فأصبح مصدقاً بكلام ذلك الشخص فنال الحظوة منه وهو كذاب، وما زال العامة يقولون: إن فلاناً يحلم بفلان أي لخوف منه أو لمحبته، فيكثر ذكره نهاراً ويحلم به ليلاً. ومنها أن يرى مثالاً فيعبره بذلك ويخطئ في العبارة ويبني على الخطأ، وقد لا يذكر المنامة بل يقتصر على تفسيرها على زعمه إما حُسْنَ ظن بنفسه أن الأمر هو ذلك، وإما إيهاماً للناس " أنه " إنما أخبر عن مشاهدة لا عن منام ليعد من الأولياء أهل الكشف، فإن المنامات لا تختص بهؤلاء بل تقع لسائر الناس حتى الكفرة، ولذا وقع الحديث: " الرُّؤْيَا الصّالِحَةُ مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ ... وفي الحديث أيضاً: " إذَا تَقَارَبَ الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ رُؤْيَا المُؤْمِنِ تَكْذِبُ ". ومنها أن يسمع خطاباً في منامه ولا يدري ممن سمعه فيبني عليه ظناً منه أنه من الله تعالى أو من ثقة " من " عباده، وإنما هو شيطان يلعب به، وكذا قد يكون كل ما ذكر شيطانياً، فقد صح أن " الرُّؤْيَا مِنَ اللهِ وَالحُلُمُ مِنَ الشَّيْطَانِ ". وقد يرى الشخص المخاطب فيظنه من أولياء الله أو فلاناً بعينه منهم، وإنما هو شيطان يتراءى به، وقد يسمعه من ولي من الأولياء ويبني عليه فيخرج " خطأ " فإن الولي غير معصوم من مثل هذا، وإذا جاز على الولي الوقوع في هفوة من كبار الذنوب عمداً بلا اضطرار فكيف بالخطأ؟ وسنذكر بعد وجوهاً من الخطأ في الكشف، و " قد " يكون ذلك من الولي تصرفاً في المملكة بتولية أو عزل أو نحو ذلك فينقض عليه ذلك غيره من أهل الحل والعقد بعدما حمله السامع وتحدث به، وقد يحضر أول كلام من مجلس الصالحين في أمر ثم يفوته آخره وهو بخلاف ما سمع إلى غير ذلك. واعلم أن مواقع صدق الرؤيا وشروط اعتبارها مشروحة في فنها، وإنما قصدنا الإشارة إلى بعض ما يقع للناس مما ينبغي التحرز منه. وأمّا ما يرجع إلى حال الغيبة فيمكن أيضاً أن يقع فيها الخطأ بتلاعب الخيال أو تلاعب الشيطان تَرائِياً وإلقاءً، وقد تكون " غيبته " بوارد رباني أو شيطاني، وذلك مشروح في محله عند أهله.

واعلم أنه في كل من المنام والغيبة يمكن أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يسمع في تلك الحالة كلاماً يظنه من النبي صلى الله عليه وسلم سمعه، وهو إنما سمعه من ناحية أخرى فيبني على ذلك ويغر من سمعه، وكون الشيطان لا يتمثل به صلى الله عليه وسلم ألا يوجب امتناع أن يحضر الشيطان في ناحية، ولا أن يتكلم هو أو إنسي آخر فيطرق ذلك أذن السامع وهو في حالته يعسر عليه الضبط فيظنه ما ذكرنا، إذا فهمت هذا فمن حدثك بأمر سماعاً من النبي صلى الله عليه وسلم في النوم ونحوه فلا تعول عليه ولا بد، ولو كان المحدث صدوقاً، بل حتى يبرز، ثم أخلف ذلك فلا تحكم ولا بد بأن المحدث متحلِّم كاذب، بل قد يكون صادقاً في وقوع الرؤيا وإنما غلط فيما سمع فافهم، وما اشتهر في كلام الناس من " أن " الرؤيا التي يحضر فيها النبي صلى الله عليه وسلم رؤيا حق لا حلم يسلم في الرؤيا نفسها لا فيما وراء ذلك من كلام وخطاب مثلاً، وإذا أمكن هذا في جانب النبوءة ففي الأولياء أقرب وأولى. وأما ما يكون في اليقظة فيمكن فيه أيضاً الغلط في رؤية البصر بأن يكون المرئي خيالاً لا حاصل له كما يقع ذلك للمحموم وصاحب المَيْدِ وراكب البحر ونحوهم، وفي رؤية القلب كذلك وفي الخاطر بأن يكون شيطانياً أو مجرد حديث نفس أو قوة رجاء وظن أو نحو ذلك، إذا علمت هذا فأعلم أن الواجب على الإنسان في حق نفسه أن لا يغتر وأن يتهم رأيه، وفي حق غيره أن لا ينخدع لكل مبطل ولا يسيء الظن بكل مسلم، وفي هذا غموض لا يقوم به إلاّ اللبيب الموفق، ولا بد من شرح هذا " كله " بعون الله وتوفيقه. فأما الإنسان في خاصة نفسه ففي باب الرؤيا إن رأى ما يكره فليتعوذ بالله كما جاء في السنة المطهرة وليقل: اللهم إني أعوذ بك من شر ما رأيت أن يضرني في ديني ودنياي فإنها لن تضره، وإن رأى ما يحب فهي مبشرة، وفي الحديث: " ذَهَبَتِ النُّبُوءَةُ، وَبَقِيَتِ المُبَشِّرَاتُ " ومع ذلك لا يغتر لما ذكرنا قبل ولهذا يقال: الرؤيا تسر ولا تغر. وأما تحدثه فإن كان يتقي فيه فتنة أو غروراً أو عجباً لنفسه أو نحو ذلك فليكتم ذلك ولا يلتفت إليه، وإن لم يكن به " بأس " لنفسه ولا لغيره فليذكرها إن شاء " الله " بصورتها لا استغناء بمضمونها على زعمه، فإن خرجت على المراد فذاك، وإلا بقي بريء الساحة، وقد يعرض ما يقتضي ذكرها كاستدعاء أستاذه ذلك منه، وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا أصبح يقول: " مَنْ رَأى رُؤْيَا فَلْيّقُصَّهَا " أو أن يكون في ذلك للإخوان سرور ومزيد، وكان الشيخ أبو مهدي الدغدوغي - رحمه الله - يقول: لا تكتموا عن إخوانكم ما تشهدونه من الكرامات فإن ذلك يحبب إليهم طاعة الله تعالى، غير أن هذا مزلقة للنفس، فالحذر الحذر، والعاقل لا يعدل بالسلامة لنفسه شيئاً. وأما في باب الغيبة فلا اختيار له " في حالتها كما لا اختيار له " في حالة النوم، ولكن بعد السكون يجب عليه أن يتحرز في حق نفسه وفي الإفشاء للغير كما في النوم وأكثر لأنها ملْعَبَة للشيطان إلاّ من عُصم، وليتحرز قبل ذلك من الوقوع في ذلك بتصحيح التقوى، وترك الدعوى، ومجانبة المخلطين والشاطحين المدعين. وقد نقل الأخ أبو العباس زروق - رضي الله عنه - أن من اعتاد من نفسه الغيبة عند السماع أنه لا يحل له تعاطيه لأن حفظ العقل واجب، وبهذا تعلم حال متفقرة الوقت في طلبهم الخمرة، وما مثالهم إلاّ مثال سفيه مسافر وبين يديه قُطّاعٌ ومعه خفير يحميه منهم فَدسوا إليه من أغراه بقتل ذلك الخفير أو طرده عن نفسه، وذلك ليستمكنوا منه بلا مدافع، ففعل ذلك أو سعى في فعله سَفَهاً منه لقلة معرفته بمصالح نفسه ومكايد عدوه.

وهكذا المريدُ خفيرهُ من تلبيس الشياطين عقله مع توفيق الله تعالى، فإذا ذهب " عنه " استمكن منه وهو يطلب ذلك ويحرص عليه لأنه رأى أو سمع أهل الشراب الصافي من أولياء الله تعالى ورأى ما يطلعون عليه من المغيبات وما يدركون من الحقائق وما يتصرفون في المملكة من التصرف، وما يقع للخلق من الإقبال عليهم والتنويه بهم، فيشتهي المسكين تلك الحالة لذلك ولا يدري أن أولئك لم يكونوا أهل شهادات مثله، ولا نالوا ذلك بحولهم " واحتيالهم " ولا قوتهم، ولا بالترَّهات التي يشتغل بها هو، وإنما اختصهم الله بموهبته وأهّلهم لحضرته من غير تدبير منهم ولا اختيار، ولو كان لهم اختيار لاختاروا البقاء في خدمته وأن لا يغيبوا عنها لحظة، فإن أدب العبد وشرفه إنما هو في خدمة مولاه لقيامه فيها بحق سيده لا بحظ نفسه، وما مثال من يطلب الخروج عن ذلك بالولهِ والسكر إلاّ مثال عبد نصبه سيده لخدمته وهو يريد الإباق عنها أو يريد أن يتركها اختياراً منه ليدخل إلى مجلس سيده، فما أحقه في الحالتين بالعصا تأديباً أو طرداً نسأل الله تعالى العافية، نعم ما مر من أنه لا ينبغي له تعاطي السماع مثلاً إنما هو ما دام اختياره معه، وأما المغلوب فلا حكم عليه، وبهذا يجمع بين ما نذكر وبين ما يقع للصوفية في باب السماع وباب الوجد. وبلغنا أن جماعة قدموا على سيدي محمد الشرقي التادلاوي المتقدم الذكر فخرج إليهم وتحرك سماع فلم يشعروا به إلاّ وهو في وسطه يتواجد " و " ليس عليه إلاّ القميص، قال بعض الجالسين لآخر سراً: هذا رجل خفيف، فإذا هو على الفور تكلم على خواطرهم فقال: الله الله يا الله ... الله الله يا لطيف الحب يهز الرجال ... لا والله ماني خفيف ومن هذا قول القطب العارف الشيخ أبى مدين رضي الله عنه: " حيث قال ": فقل للذي ينهى عن الوجد أهلَه ... إذا لم تذق معنا شراب الهوى دعنا " إلى أن قال ": فإنا إذا طبنا وطابت عقولنا ... وخامرنا خمر العشيق تهتكنا فلا تلم السَّكران في حال سكره ... فقد رفع التكليف في سُكرنا عنا والأبيات مشهورة، غير أن هذه الغلبة لا يتحققها الجهال ولا ينتظرونها، نعم استدعاء حال يرجى عنه رقة القلب وانشراح الصدر وذهاب جساوة النفس ورعونتها بلا زائد مع صحة القصد لا ينبغي أن ينكر، بل يلتحق بما أذن فيه شرعاً، بل حضّ عليه مما يفيد رقة القلب وخشوعا وتذكير الآخرة كحضور مجالس الذكر وقراءة القرآن " بالتدبر " وزيارة القبور والمسح على رؤوس اليتامى ونحو ذلك. وقد انجرَّ بنا الكلام إلى ما لا حاجة بنا إليه في هذا المحل لكثرة أبوابه واتساع شعابه، فلنرجع على ما نحن فيه فنقول: وأما في حال اليقظة فليحذر أيضاً من الغلط في رؤيته كما مر وفي خاطره فلا يثق بكل ما يرد عليه في قلبه " في نفسه " فضلاً عن أن يخبر به الناس، وليفرض ذلك الوارد كأنه شخص مجهول ورد عليه من سفر فأخبره بأمر وقع في بلد آخر فلا يثق به وهو لا يعرف صدقه من كذبه، ولا يخبر أحداً بخبره حتى ينظر، ولو وثق به وحدث الناس بكلامه دخل في مضمون: " كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِباً أنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ "، بل حتى ينظر " هل " صدق ما أخبر به، ثم إن صدق فأخبره كرة أخرى فلا يثق به أيضاً لأنه قد يتفق للكاذب الصدق مرة أو أكثر، ثم إن صدق فأخبره أيضاً فكذلك حتى يحصل " له " اليقين بالتكرار والقرائن أنه صدوق، فعند ذلك يثق به فيقول: حدثني الثقة، وهكذا خاطر القلب، وهيهات تحقق ذلك فيه بمجرد هذا، فإن الشخص في المثال يكون معروفاً بعينه، فإذا ثبت له وصف من الصدق عرف به، أما الخاطر القلبي فمتى يعرف أن هذا الذي أخبره الآن هو الذي صدق قبله وهو يعلم أن القلب ميدان للربّاني والملكي والشيطاني والنفساني فلعل هذا شيطاني أو نفساني، نعم إن كان من جنس من قال: كنت بواباً على قلبي ثلاثين أو أربعين سنة، فمتى تحرك خاطر سوء صرفته عنه فعسى أن يثق بما حصل في قلبه، وكذا الله أعلم من ربه أنه أعطى الخاطر أو تجريب صادق من أهله في قلبه كما مرّ أو مع ربه أنه يعلمه بما يحدث في المملكة.

وقد روي أن امرأة من تلامذة الشيخ السري - رضي الله عنه - أرسلت ابناً لها في حاجة فوقع في النهر وغرق، فبلغ الخبر إلى الشيخ قبلها " فقال للجنيد: قم بنا إليها فأتياها فجعل الشيخ يكلمها في مقام الصبر " فقالت: ما أردت بهذا يا أستاذ؟ فقال: إن ابنك من أمره كذا أي مات، فقالت: ابني؟ ما كان الله ليفعل ذلك، ثم ذهبت تهرول إلى الماء فنادت يا فلان فقال: لبيك وخرج إليها يسعى، فنظر السري إلى الجنيد وقال: ما هذا؟ فقال: إن أذن الشيخ تكلمت، قال: تكلم، فقال: هذه امرأة محافظة على ما لله عليها، ومن شأن من كان كذلك أن لا يُحدِثَ الله أمراً حتى يعلمه، فلما لم يعلمها الله علمت أنه لم يكن. ولذا قال بعض المشايخ للتلامذة: أيكم إذا أراد الله أن يحدث شيئاً في المملكة أعلمه إياه؟ قالوا: لا أحدَ مِناّ، فقال: ابكوا على قلوب لا تجد من الله شيئا أو نحو ذلك، وقد شهد الذوق أنه ما يتفق ذلك عادة على استقامة إلاّ بعد صفاء المداخل كلها، فيعم ما يتصل بمعدته من مطعوم، وبأُذنه من مسموع وبعينه من مَرئيٍّ وبلسانه من مقُولٍ إلاّ كدراً، ولا يثق أيضاً بما يقع له من التجلي في باطنه، فإن كل ما سوى الأنبياء عليهم السلام معرضاً للخطأ والغلط، وقد يتجلى الشيء بتمامه وقد ينتقص. وضرب " الإمام " حجة الإسلام في الإحياء لذلك مثلاً وهو أن القلب في مطالعته اللوح المحفوظ بواسطة التجلي يكون كما لو كان بينك وبين جدار أو إنسان أو متاع ستر مرخىً، فإذا انسدل لم تر شيئاً من ذلك الجدار فترسله ولا ترى الباقي أو ترسله قبل أن تبين ما رأيت وهكذا. قلت: ومن ثمَّ يقع لأهل الفراسة من الصالحين اختلال أو نقصان فيظن بهم الكذب، وإنما يؤتون من عدم التجلي كما ذكرنا أو من غلط في فهم خطاب أو نحو ذلك، وذلك مشهور. وقد حدثونا عن صلحاء تادلا أنه لما قام على السلطان أحمد المنصور ابن أخيه أو ابن عمه الناصر قال سيدي أحمد بن أبي القاسم الصومعي: إن الناصر يدخل تادلا بمعنى دخول الملك، فلما بلغ الخبر إلى سيدي محمد الشرقي قال: مسكين بابا أحمد رأى الناصر قد دخل تادلا فظنها الناصر يدخل، فكان الأمر كذلك أنه هزم في نواحي تازا ثم قطع رأسه وجلب إلى مراكش فدخل تادلا في طريقه. وعن صلحاء سلا أن رجلاً من رؤساء البحر جاء إلى سيدي علي أبي الشكاوي فشاوره على السفر في البحر فقال له: لا تفعل، وإن فعلت فلا تربح مالك ونفسك، وخرج من عنده فأتى سيدي عبد الله بن حسون فشاوره فقال له: سافر تسلم وتغنم. فسافر فاتفق عند دخولهم البحر أن أسرهم الروم فذهبوا بهم إلى أن لقوا بعض سفن المسلمين فوقع بينهم قتال فظهر المسلمون، فاستمكن هؤلاء من سفينتهم التي أسرتهم فقبضوا عليها وغنموها ورجعوا سالمين غانمين، ومثل هذا من أحوالهم كثير. وقد ذكر الشيخ عبد الوهاب الشعراني أنه لا ينبغي لمن يطالع ألواح المحو والإثبات أن يتكلم، وإنما يتكلم من يطالع اللوح بنفسه، وذلك لأن ما في اللوح لا يتبدل بخلاف الصحف فإنه يقع فيها التبديل كما قال تعالى:) يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثبتُ (فقد يخبر بما فيها ثم يمحوه الله تعالى فيختلف خبره ويدخل وهناً على الخرقة وتهمة بالكذب والدعوى.

وذكر في صلحاء مصر في وقته أن فلاناً منهم كان يتكلم عن اللوح فكان كل ما يكون يحتفظ به، وفلاناً كان يتكلم عن الألواح فكان ربما يخير بالشيء ولا يقع، والظاهر أن حكاية الشيخ عبد القادر - رضي الله عنه - من هذا المعنى، وذلك أن رجلاً من التجار شاور بعض المشايخ وأظنه الشيخ الدباس على السفر فقال له: لا تفعل فإنك إن سافرت تقتل وينهب مالك، فلقي الرجل الشيخ عبد القادر فكلمه فقال له: سافر ولا بأس عليك، فسافر الرجل فلما كان ببعض الطريق طرح بضاعته ثم قام فنسيها وتنحى إلى مكان آخر فنام فرأى في منامه أن قد خرج عليهم اللصوص فقتلوه ونهبوا أموالهم، فاستيقظ مذعوراً، وإذا به أثر الدم كأنه أثر الطعنة التي رآها في منامه، ثم ذكر بضاعته فهرول إلى الموضع الذي نسيها فيه فإذا هي سالمة، فأخذها ورجع إلى أهله سالماً " بماله "، فلما دخلَ لقي الشيخ الأول فقال له ذلك الشيخ: يا ولدي، الشيخ عبد القادر محبوب طلب من الله تعالى كذا وكذا مدة أن يرد القتل مناماً والنهب نسياناً " ففعل " فهذه الحكاية مع عبارة هذا الشيخ إذا سمعها الجاهل يتوهم أن الله تعالى قضى في أزَلهِ على هذا الشخص أن يقتل في هذه السفرة ويذهب ماله وأنه أطلع الشيخ على ذلك فأخبر به ثم تبدل ذلك بدعاء الشيخ عبد القادر، وذلك باطل لا يكون، فإن علم الله تعالى لا يتبدل، وما قضي في أزله وهو المعبر عنه باللوح المحفوظ لا يتحول، وإنما ذلك يخرج على ما ذكرنا من المحو والإثبات، وهو أن يظهر الله تعالى القتل والنهب ويطلع عليه الشيخ المذكور ويكون قد قضى في علمه أنَّ ذلك منام لا حقيقة، وأن دعاء عبد القادر منوط به، فلما دعا برز ما علمه الله تعالى أن يكون وقضاه، وهو الصحيح، وإظهار المعنى الآخر يكون لحكمة يعلمها الله تعالى كصدور الدعاء والتضرع من الشيخ عبد القادر في هذه الصورة وظهور شفوف منزلته وحظوته عند ربه، وهكذا يفهم كل ما يشبه هذا مما يقع من الكرامات أو المعجزات. واعلم أن كل ما أشرنا إليه من التحذيرات " وقررنا من التحرزات " إنما هو في حال المريدين وعوام المتوجهين المعرَّضين للغلط والزّلق، وأما العارفون الكاملون وإن كانوا أيضاً غير معصومين ولا مستغنين عن التحفظ فلا حديث لنا عنهم لأنهم أعرف بأحوالهم فيما يأتون ويذرون، وما يبدون وما يكتمون، وتوصية أمثالنا لهم حماقة وسوء أدب. وأما الإنسان في حق غيره فهو بين إحدى ثلاث: إما شيء يصدق به لمعرفته له بالبصيرة أو تقليد من يثق به من أستاذ أو نحوه فيقبله، وإما شيء تنكره الشريعة أو الحقيقة أو العقل فينكر بالشروط المقررة في إنكار المنكر في الفقه وفي التصوف مع حسن الظن في الباطن، وإما شيء محتمل " فيسلم " لا ينكر ولا يتبع، ولا تتم هذه الجملة إلاّ بسلامة الصدر للمسلمين وحُسن الظن بهم وتغافل عن مساويهم مع فطنة ويقظة ومعرفة بالزمان وأهله، والمؤمن كيس فطن ثلثاه تغافل، ويقال: اللبيب العاقل هو الفطن المتغافل، أما الزمان فلا تسأل عنه، وقد مرّ في الحديث: " صِنْفَانِ إذَا صَلُحَا صَلُحَ النّاسُ، وَإذَا فَسَدَا فَسَدَ النّاسُ: الأمَرَاءُ وَالعُلَمَاءُ " وقد فسدا معاً وإلى الله المشتكى. وكان الأمر يصلح بأئمة العدل، وفقه الفقهاء، وأدب الصحابة، وقد فسد هؤلاء الثلاثة بالجور والمداهنة والبدعة ففسد الدين بهم أولاً والدنيا ثانياً كما قيل: وهل أفسد الدين إلاّ الملوك ... وأحبار سوء ورهبانها وباعوا النفوس ولم يربحوا ... ولم تغل في البيع أثمانها لقد وقع القوم في جيفة ... يبين لذي عقل إنتانها وقيل: يا معشر القراء يا ملح البلد ... ما يُصلحُ المِلْحَ إذا المِلحُ فسد؟ والمراد بالقراء الفقهاء، وبهم يصلح ما فسد كما يصلح الطعام بالملح، فإذا فسدوا تعذر الصلاح. أما التصوف فقد كان شيخ الطائفة أبو القاسم الجنيد في زمانه يقول رضي الله عنه: أهل التصوف قد مضوا ... صار التصوف مخرقه الأبيات المعروفة فما بالك بزماننا؟ فقد صارت هذه المخرقة مخرقة، ولم يزل الخلق ينقص إلى الآن. وقد قيل قبل هذا بزمان: دعوى عريضة، وضعف ظاهر، أما اليوم فالدعوى من وراء حجاب.

وقد طرق أسماع العوام من قبل اليوم كلام أهل الصولة كفحول القادرية والشاذلية - رضي الله عنهم - وكلام أرباب الأحوال في كل زمان فتعشقت النفوس ذلك، وأذعن له الجمهور، وفاضوا بالتشبه بهم، فلما شئت أن تلقى جاهلاً مسرفاً على نفسه لم يعرف بعد ظاهر الشريعة فضلاً عن أن يعمل " به " فضلاً عن أن يخلص إلى الباطن فضلاً عن أن يكون صاحب حال فضلاً عن أن يكون صاحب مقام إلاّ وجدته يصول ويقول، وينابذ المنقول والمعقول، وأكثر ذلك في أبناء الفقراء يريد الواحد منهم أن يتحلى بحلية أبيه ويستتبع أتباعه بغير حق ولا حقيقة بل لمجرد حطام الدنيا فيقول: خدام أبي " وزريبة أبي " ويضرب عليهم كمغرم السلطان، ولا يقبل أن يحبوا أحداً في الله أو يعرفوه أو يقتدوا به غيره، وإذا رأى من خرج يطلب دينه أو من يدله على الله تعالى يغضب عليه ويتوعده بالهلاك في نفسه وماله وقد يقع " له " عليه شيء من المصائب بحكم القضاء والابتلاء فيضيفه إلى نفسه فيزداد بذلك هو وأتباعه ضلالاً، يخترق لهم من الخرافات والأمور المعتادات ما يدعيه سيرة وديناً يستهويهم به ثم يضمن لهم الجنة على مساوئ أعمالهم والشفاعة يوم الحشر فيقبض على لحمة ذراعه فيقول للجاهل مثله: أنت من هذه اللحمة، فيكتفي ابتهال العوام بذلك ويبقون في خدمته ولداً عن والِدٍ قائلين: نحن خدام الدار الفلانية، وفي زريبة فلان لا نخرج عنها، وكذا وجدنا آبائنا، وهذا هو الضلال المبين، وهؤلاء قطاع العِباد عن الله وعن دينه داخلون في شبه ما قال النبي صلى الله عليه وسلم في ملوك السوء وخصوصاً " في " بني أمية، ففي الحديث: " إذَا بَلَغَ بَنُو أبي العَاصي ثَلاثِينَ رَجُلاً اتَّخَذُوا عِبَادَ اللهِ خَوْلاً وَمَالَ اللهِ دُوَلاً.... الحديث ". ولم يعلم الجهال أنهم كيف يكونون من لحمة ذراعه بمجرد دعواه إذا لم يجعلهم الله تعالى منها؟ وبعد أن يجعلهم كيف يغترون بذلك قبل أن يعلموا أين مصير تلك اللحمة؟ ولعله النار، وماذا ينفعهم اجتماعهم في النار؟ نعوذ بالله من البوار، قال تعالى:) وَلَنْ يَنْفَعَكُمْ اليَوْمَ إذْ ظَلَمْتُمْ أنَّكُمْ في العَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (فالناس عند الله ثلاثة: مقبول مقبول له، ومقبول غير مقبول له، ومردود، فالمردود لم ينج بنفسه فكيف ينجو الناس على يده؟ والمقبول لنفسه غايته نفسه، والمقبول له التكلم في الغير هو الذي يرجى الانتفاع به بإذن الله تعالى، إما في العموم أو في الخصوص كثيراً أو قليلاً، فهذا المدعي الذي يتألّى على الله ويغر عباده ما يُدريه أي الثلاث هو؟ فإن كان مردوداً فيا ويله، وإن كان مقبولاً في خاصة نفسه فما له وللناس؟ وإن كان مقبولاً له الشفاعة فلا يدري أفي كل هؤلاء أم في بعضهم أم في غيرهم؟ فحقه أن يدع الناس ويبكي على نفسه حتى يرى أين هي، وإن قوي رجاؤه حيناً في الله لنفسه أو لغيره فليقل: إن قبلني الله وقبل لي، نسأل الله التوفيق. وأما ما نحن فيه من ادعاء الاطلاع على الغيب والتظاهر بالكشف والتصرف في الوجود فهو الكثير في زماننا في المنتسبين دعوى منهم وتشبعاً بما لم يعطوا إلاّ من عصمه الله وقليل ما هم، فمنهم من يستند إلى مجرد خيالات منامية ويتأولها لنفسه ويحكم بها كما مرّ، ومنهم من يحكم ظناً وخَرْصاً و " ثم " لا يبالي بالفضيحة ولا ينتهي عن غيه، فإذا اتفق صدقه مرة اتخذ ذلك حجة واتخذه له جهال العوام فيقولون والله لقد سمعنا منه كلاماً حقاً، فصاروا في ذلك كأصحاب الكهان من جاهلية العرب، فقد أخبر صلى الله عليه وسلم عنهم بأن الرِّئي من الجن يخطف الكلمة من الملك فيقرها في أُذن وليّه من الإنس ثم يخلط معها مائة كذبة فيقول الناس: ألم يخبرنا يوم كذا بكذا فكان حقاً للكلمة التي تلقفها من الجني، وهكذا المذكورون. وترى الواحد منهم يخبر بأمر أو بعد قضاء حاجة لوقت فإن اتفق صدق ذلك بمصادفة قوله للقضاء الأزلي تبجح بذلك ورعَد على الناس وبَرَق، وإن كذب اكفهر في وجوه الناس وتنكر، أو تغيب أياماً حتى ينسى ذلك فيعود إلى ترّهاته، وما مثاله في ذلك إلاّ مثال امرأة أيّمِ عندها عدة بنات مشهورة بالملاحة ولكنهن بغايا فاسدات كما قال ذو الرمة: على وجه مَيَّ مَسْحةٌ من ملاحةٍ ... وتحت الثياب العار لو كان باديا

فجعلت تنوه بذكرهن وتستميل إليهن قلوب السفهاء أمثالهن حتى اشتهر أن عند فلانة البنات الحسان، فجاء مغرور فخطب إليها فأنكحته واحدة منهن فانقلب جذلان لا يبالي ما أنفق ولا ما أهدى منشداً بلسان حاله: ومن طلب الحسناء لم يغله المهر وجعلت للدخول موعداً فلما دخل أخفق فأصبح بئساً خاسر الصفقة، وحين أحست العجوز بذلك تنكرت وتعيبت حتى نسي ذلك فرجعت تذكر بناتها أيضاً فيجيء أحمق آخر خاطباً فإذا قال له النصحاء ويحك أليس لك فيما وقع لفلان مع هذه الفاجرة عبرة؟ يقول من فرط شغفه بما سمع من الحسن: ذلك أمر قد يتفق، ولعله في تلك البنت فقط لا في غيرها، فيتقدم ويقع له كما وقع للآخر، ثم يجيء مغرور آخر لا علم له بما كان وهكذا إلى أن يتفق لواحد أن يجد الأمر كما يجب فتخرج وتطيل لسانها وتقول: من عنده في الوجود مثل بناتي؟ ويقول الناس: والله إن فلاناً تزوج منها بنتاً فوجدها كما يحب وتذهب تلك المساوي كلها في هذه الحسنة الواحدة، فما أظرف هؤلاء الحمقى إذ يحكمون بأن الحسنات وإن قَلّت يذهبن السيئات وإن كثرت، وهكذا الفقير المدعي يتظاهر بإخبارات وتصرفات هي حسنة لذيذة عند العوام لموافقتها لشهواتهم وحاجاتهم وهي فاسدة لبطلانها وانبنائها على غير أساس، فإذا ظهر كذبه في الواحدة قالوا: سبحان الفاعل لما يشاء، والقادر يحنث عبد القادر، وبهذا أيضاً يعتذر هو. وكنت تحدثت مع بعض الأصحاب في هذا المنزع فقلت لهم: إن المدعين لا يدخلون في الإسلام حتى يفتضحوا فاستعجبوا من ذلك وسألوا عن تأويله فقلت لهم: إن المدعي حين تهيج له الظنون الكاذبة والوساويس الباطلة يحكم بوقوع أمور ولا يذكر الله تعالى ولا يعرج على مشيته وسعة علمه وعظيم قهره، حتى إذا افتضح ببطلان ما قال رجع إلى الحق وجعل يقول: الأمر أمر الله والحكم حكمه، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. فهلا تلا حاميمَ قبل التقدم ومنهم من يتظاهر بالوجد والسكر وأول ما يقول في ذلك، فإن كذب وليم يقول: والله ما أدري " حين تكلمت " ما أقول، وما لي اختيار، ويظن أنه يتخلص بهذا من الملامة، وهيهات ذلك! فإنه إن كان نطقهُ عن عمْد فهو افتراء للكذب، وإلاّ فالشيطان يلعب به ترقيصاً وضرباً واستنطاقاً، وناهيك بها نقيصة. ودخل ذات مرة عليّ الأديب الفاضل أبو عبد الله محمد الصالح بن المعطي وأنا إذ ذاك بمدينة مراكش حرسها الله ومعه رجل أسود من ناحية المشرق، فتحدث الأسود وقال: إنه من وادي العباس، وزعم أنه كان ذهب إلى بغداد زائراً للشيخ عبد القادر رضي الله عنه، وأنه بقي في مقامه أياماً، وأنه رآه فاستتابه ثم أمره بالتوجه إلى شيخ من أهل الوقت في نهر تِيرا يقال له أبو عبد الله، وأن بين بغداد وبين ذلك البلد نحو عشرين مرحلة، كلها قفار معاطش لا يعمرها إلاّ الحيات والثعابين، وأنه قال له: إنك ستبلغ في ثلاث ولا ترى بأساً، فبلغ في ذلك سالماً، وأنه بقي عند الشيخ الآخر أياماً فرده إلى بغداد وبلغها في ذلك أيضاً، وأنه أمره الشيخ عبد القادر بالتوجه إلى بلاد المغرب لزيارة الصالحين، فلما رأيت ذلك طمعت أن تكون له رائحة، وكانت لي حاجة فأردت استنجاده فيها، فحركت الصالح وكانت تعتريه هزّة فتحرك وصاح، فلما تحرك " تحرك " ذلك الرجل وكثر اضطرابه وزعيقه " ثم " وعد بالحاجة لأمد قريب، وزعم أن الشيخ عبد القادر أو الحاكم بذلك، فلم يلبث أن حل الأجل ولم يقع ذلك، وروجع فلم يوجد عنده حاصل، فعلم أن الشيطان استفَزَّه، فقلت للصالح ارتجالاً مطايبة ونصحاً: أين الذي قد قال يا صالح ... من هو عندَ زعمه صالح وإذ بدا ما قاله زائفاً ... فهو لعمري الكاذب الطالح يلعب شيطان به جهرةً ... فهو إلى وسواسه جانح يحسبه القطب الذي يدعي ... والقطب لا يكذب يا صالح أنصحه كي يقلع عن غيه ... فحسبه المنتهج تقوى الإله واعتصام به ... في سنة والعمل الصالح هذا لعمري غنية المغتني ... وذا لعمري التجر الرابح يا أيها الناس اعلموا إنما ... عبد الإله الظافر الناجح من يعبد المولى ويعنى بما ... يعنيه لا وانٍ ولا مازح ولا أخو دعوى ولا مفتر ... ولا بمرتع الهوى سارح ولا عنود عن سبيل التقى ... يوماً ولا عن الهدى جانح

والمرء لا يجني سوى غرسه ... غادٍ إليه كسْبُهُ رائح وهو لما يعتض في نفسه ... من مأرب يقتاده كادح والطبع ملاك زمام الفتى ... وسيره بسره بائح والصدق سيف صارم حدُّهُ ... كشّافُ كل معوص فاتح وكل من أسر مكتومة ... فوجهها في وجهه لائح إن تكُ نوراً فهو منها مُضي ... أو ظلمة فهو بها كالح ومن يُرمْ نيل المنى بالمنى ... فهو عن الفوز بها نازح ومن يخم عنها ولا يقتحم ... أبوابها فهو امرؤ دالح وما على المرء سوى جده ... وجهده وربه المانح وقد انحصرت دعاويهم في الحدثان الكوائن ومآرب الناس، ولم يرتقوا إلى ما فوق ذلك لجهلهم، فاشتغلوا بما يطلبه العوام من الأمور المذكورة، وذلك لو فتح لهم دون ما فوقه لكان أمراً تافهاً لا يلتفت إليه ذو همة، فإن أولياء الله تعالى يكشف لهم عن الذات والصفات والأسماء كشفاً لا تبلغه العقول، وعن ملكوت السماوات والأرض وعن العرش والكرسي والجنة والنار والملك والروح وغير ذلك، فمن لم يبلغ ذلك واطلع على كون المسافر يقدم غداً " وفلان يتولى " وفلان ينعزل، وفلان يتزوج ونحو ذلك وفرح به كان بمنزلة من دخل سوقاً فيها صيارفة الذهب والفضة والجوهر والياقوت الحرير وسائر البزّ والعبيد والخيل والإبل " والبر " والأرز فوقع على بائع نبق فاشترى منه النبق وذهب " به " فرحاً وقال إنه قد تسوق " كما تسوق " الناس، ولا ريب أن ما ذهب به يفرح الصبيان به ومن لا عقل له من النسوان، وكذلك الكوائن يفرح بها صبيان العقول وكل من لم يبلغ مبلغ الرجال من عوام الناس. ومنهم من يستخدم جنيّاً فيأتيه بخبر الناس وخبر من يَرِد عليه مثلاً وما أتى به من الهدية وما وقع له في الطريق فيخبر بذلك قبل مجيئه ويخبره إذا ورد فلا يشك العوام أنه كشف ربّاني وأنه من أولياء الله، وقد يكون من أعداء الله، كما أخبرونا عن رجل ممن تصدر للمشيخة والناس مقبلون عليه فأتى رجل إلى مسجده فجلس في زاوية منه فإذا بالمرابط قد دخل فنظر يميناً وشمالاً فلما لم يرَ أحداً رفع ثوبه وجعل يبول في المسجد يميناً وشمالاً حتى نجسه فحينئذ خرجت جنّيّة فمثلت بين يديه فقال لها: أي شيء جئتني به؟ فقالت: ذهبت إلى قبيلة بني فلان فلم أزل حرضهم على الزيارة حتى اتفقوا وجمعوا من الهدية كذا " وكذا " وهم خارجون يوم كذا، فخرج المرابط إلى مجلسه فقال: تهيئوا لبني فلان فإنهم قادمون عليكم بهدية كذا، فلما قدموا قالوا: قد أخبرنا الشيخ بكم وبما جئتم به منذ يوم كذا، فهذا - والعياذ بالله - كافر، والكرامات تحسب له. ومنهم من يستند إلى التنجيم وعلم الاقترانات وإلى خط الرمل أو نيروجات أخرى تشبهه. ومنهم من يحتال احتيالاً فإذا قدم الوفود مثلاً دسّ إليهم من يسألهم فيقولون: قد اطلع الشيخ على أحوالنا، وقد يحتال في ساعته فينظر مثلاً إلى من بين يديه ثم يبتسم أو يحرك رأسه أو يقول: سبحان الله أو لا إله إلاّ الله ويكون ذلك الشخص قد خطر له شيء فيقول: ما فعل الشيخ هذا إلاّ على ما في قلبي، ويفهم من ذلك إمّا تعجباً وإما استحساناً، ويعده مطلعاً على ذلك وهو لم يطلع، وقد يتكلم على ما في خاطر السامع صريحاً فلا يشك السامع في أنه كشف، ويكون إنما خطر له ذلك اتفاقاً حين خطر للآخر كما يقع الحافر على الحافر، فتكلم عليه ولا اطلاع له، وقد يتكلم " بكلام " في غرض فيحمله السامع على أنه إشارة إلى ما في قلبه أو حاجته وإنه كوشف بذلك، وأكثر ما يحكى من هذا النوع في أهل الزمان إنما هو من أحد هذه المداخل احتيال من المتبوع أو جهل من التابع، والعوام يستنطقون من لا ينطق ويفسدون من لم يفسد، فهم الشياطين في زي المؤمنين، وما بالك بشيطان في زيّ محب، وإن استعذت منه عاداك، ووقع فيك الغيب بالإذابة زيادة على ما فعل في الحضور، فهو شر من الشيطان الآخر بكثير، فكن منهم على حذر كما قيل: فخف أبناء جنسك واخش منهم ... كما تخشى الضراغم والسَبنْسَى وخالِطهم وزَايِلْهُمْ حِذاراً ... وكن كالسامريّ إذا لَمسْتا

واعلم أن أشرف ما يكاشف به العهد ما يرجع إلى معبوده تعالى من معرفته وما له من الجلال والجمال ومن أسماء علية، وصفات سنية، كما مرّ، ثم ما يرجع إلى حكمته في مملكته، ما يرجع إلى أحكامه من معرفة ما تعبّدَ به عباده أصلاً وفرعاً وكل علم يعين على ذلك. وقد وقع في كلام الشيخ الصالح أبي عبد الله السنوسي - رضي الله عنه - حين تكلم عن مذهب أهل السنة في أفعال الحيوان وأنهم أطلعهم الله تعالى على المعنى الجامع بين الحقيقة والشريعة وجنبهم جانبي القدر والجبر ذلك فقال: هذا هو الكشف الذي ينبغي أن يسمى كشفاً لا ما يبتلى به الجاهلون من أحلام شيطانية يتوهمونها كرامات، وهي استدراجات أو نحو هذا من الكلام، فهذه الجملة كلها " كلما " يزداد فيها العبد ازداد كمالاً لأنه أمر مطلوب منه الاطلاع عليه فطلبه قُرية، وحصوله درَجة، ووجوده منفعة، وأما ما خرج عن هذا من جزيئات الكون التي هي متعلقات القضاء والقدر ولا يتعلق بها حكم فليست مطلوبة من العبد إذا أخفيت عنه، فأدبه أن لا يشتغل بها شغلاً بالله تعالى وبما لله تعالى عليه، فإن رزقه الله معرفته وشغله بما له عليه وغطى عنه مملكته وتركه كذلك حتى يلقاه موفوراً فقد أسبغ عليه النعمة، وحماه من جميع موارد النقمة، وإن أطلعه على شيء من ذلك فليعلم أن ذلك لا جدوى له في باب العبودية، وإنما فيه أمر واحد وهو أن الكرامة كلها في الجملة إن صحت دليل على صدق من ظهرت عليه " وعلامة على الخصوصية " وتثبيت لقدم " من " أريد تثبيته في الطريق مع ما ينضاف إلى ذلك من الشكر ومن الرجاء والخوف، وفيها مع ذلك من المخاطرة خوف الركون والمساكنة لها والمكر، كما قيل إنها خدع من الحق للمتوجهين ليقفوا على الحد الذي أريد بهم ولا يجاوزوا إلى مقام لم يكن لهم، وذلك فيمن أريد بذلك، نسأل الله العافية، فحق العبد التسليم والاعتناء بحقوق الله والإعراض عن حظوظه، وإن طلب شيئاً من ذلك طلبه بإذن ليصير من الحقوق، كما أنه أيضاً لا يهرب منها إلاّ بأدب لئلا يصير الهرب من الحظوظ. وهذا الكلام ربما يحتاج إلى تفسير غير أنا نقتصر فقد خرجنا أو كدنا نخرج عما نحن فيه و " مِنْ حُسْنِ إسْلامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ ". واعلم أن ما ذكر من أحوال المدعين على وجه النصح لهم ولمن يغتر بهم إنما أردنا تخليده في بطون الأوراق ليقع عليه الخواص أهل الأدب والفقه الذين يضعون الهناء موضع النقب فيعطون كلَّ ذي حق حقه مع حفظ الحُرْمَة وإقامة حق النسبة كما أشرنا إليه في صدر هذا الكلام، ولم نرد أن نفتح الباب لكل جامد على الظاهر أو خبيث جريء على أهل النسبة مسقط للحرمة فيتخذ مثالب المنتسبين إلى الله تعالى فاكهةً ويمزق أديمهم في مجالس السفهاء حتى يدخل الوهن على النسبة والطعن في الخرقة فيُزْري العُرْيانُ باللابس، ويحترق الرطب باليابس. وليعلم الجاهل الجمود أن " هذه الأمَّة المُطَهَّرَة المُشَرَّفَة كَالْمَطَرِ لا يُدْرَى أوَّلُهَا خَيْرٌ أمْ آخِرُهَا ". و " لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْهَا ظَاهِرِينَ عَلى الحَقِّ لا يَضُرُّهُم مَنْ خَالَفَهُمْ " كما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، ففي كل زمان سادة، وفي كل قطر قادة، فكم من طالع في الدين كالشمس، وإن لم يبصره العُمْيُ والعُمْشُ، وكم من محبوب يرفل في حلل الأنس والإدلال، ويرتضع كؤوس الجمال والإجلال لو تحمّل الشفاعة في قرنين قبيلاً فقبيلاً لكان ذلك في جنب حظوته من مولاه قليلاً وكم من ولي أرخى عليه الخمول ذيلاً، وصار نهاره في أعين أبناء الدهر ليلاً، فأصبح من ضنائن الله بين أوليائه، يلعب بالدهر كما لعب الدهر بأبنائه. وقال أبو نواس: تسترت من دهري بظل جناحه ... فعيني ترى دهري وليس يراني فلو تسأل الأيام عني ما درت ... وأين مكاني ما عرفن مكاني وقال الآخر فيهم: لله تحت قباب العز طائفة ... أخفاهم في رداء الفقر إجلالا هم السلاطين في أطمار مسكنَةٍ ... جرّوا على فلَك الخضراء أذيالا غُبْرٌ ملابسُهم شم معاطسهم ... استعبدوا من ملوك الأرض أقيالا هذي المكارم لا قعبان من لبن ... شِيبا بماء فعادا بعدُ أبوالا هذي المناقب لا ثوبان من عدنٍ ... خيطا قميصاً فعادا بعد أسمالا

إطعام الطعام في الزوايا

والبيت الرابع لأمية بن أبي الصلت في سيف بن ذي يزن، وهو مشهور، وكم من راكع ساجد، أو متورع زاهدٍ، لا يدنيه الجاهل من ساحة المتقربين، لكونه لم يرَ عليه سِيما العارفين، ولا بهجة المحبين، ولم يدر أن الزهر ألوان، والتمر صنوانٌ وغيرُ صِنْوانٍ، والعبيد كلهم عبيد الخضرة، من مسك الكأس إلى مشتري الخضرة، غير أنه لكل حد مرسوم) وَمَا مِنّا إلاّ وَلَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (، فعليك بحسن الظن وسلامة الصدر للمسلمين، وحفظ الحرمة لأهل الدين، والتغافل في عين الحذر، والتبصر فيما تأتي وما تذر، والله الموفق. لله الأمر من قبل ومن بعد إطعام الطعام في الزوايا حدثني الأخ الصالح الفاضل أبو عبد الله محمد الصغير بن أبي عمرو المراكشي رحمه الله ورحم سلفه قال: أخبرني الولي الصالح أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الدلائي أن شيخ المشايخ سيدي أحمد بن يوسف الراشدي الملياني لم يكن في وقته يطعم في زاويته، فقالوا له في ذلك فقال: نحن أردنا انتفاع المسلمين، فإذا قمت أنا وبناتي وتعبنا واحترقنا في طعام المريد الزائر فأي نفع يحصل له؟ وفي المعنى أيضاً كلام يتشعب، ونحن نختصر منه قدراً صالحاً إن شاء الله فنقول: إن الزاوية المشتهر اسمها اليوم عند أهل الطريق من إطعام الطعام للوافدين والمساكين والملازمين على الدوام حتى صارت عند العوام كأنها من الفروض أو الشروط لا يعلم لها من حيث خصوصها أصل، ولا يجري لها ذكر في الكتاب ولا السنّة، وإنما مرجعها إلى القرى وإكرام الضيف، ولا شك أنه مأمورٌ به، ففي الحديث: " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ " ولكنه أمر مشترك بين جميع المؤمنين، لا يختص بالصوفي ولا القدوة، وإن كان هؤلاء أحق بمنازلة كل " خلق " محمود، وكان صلى الله عليه وسلم يقري الضيف ويحض أصحابه على ذلك وربما ورد الضيوف فيذهب ببعضهم ويذهب أصحابه بالباقي ويقول: " مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ وَاحِدٌ فَلْيَذْهَبْ بِثَانٍ وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبُ بِثَالِثٍ " وهكذا، وكان عنده أصحاب الصُّفة: نحو أربعين رجل، وهم أضياف الإسلام، وكان إذا أتته صدقة دفعها إليهم، وإذا أتته هدية أخذ منها معهم، وربما يدخل إلى داره حتى إذا لم يجد شيئاً دفع الضيف إلى غيره، ولا شك أن هذا كله يكون أصلاً للإطعام في الجملة من غير اختصاص بكيفية ولا بدوام ولا تعميم للناس مع أنه صلى الله عليه وسلم اجتمعت له أحوال الظاهر والباطن والولاية والخلافة، فمن حاله " الشريف " يستمد الموفق من كل صنف، ثم كان الخلفاء بعده يطعمون على حسب سيرتهم المعلومة، ثم الملوك بعد ذلك. لله الأمر من قبل ومن بعد الزاوية والرباط

ولما ظهرت الصوفية لم يعرف من حالهم وجود هذه الزاوية والقيام بكل وارد من الجنس وغير الجنس كما هو اليوم، بل كانوا - رضي الله عنهم - مَعنيّين بما يعنيهم، فمنهم المنقبض عن الناس شغلاً بحاله، ومنهم المخالط ينتفع الناس منه بعلومه ومعارفه وآدابه، وقد يكون منهم من يستقر بين أظهر الناس، ومنهم من يكون سائحاً إنما يلقى في الخلوات والفلوات، وقد يكون منهم من يكون أصحابه هم الذين يقومون بمثونته، أو يسأل قدر قوته، فكان أبو جعفر الحداد، وهو من أكابر المشايخ يخرج بين العشائين فيسأل من الديار حتى يحصل عل القدر المحتاج في ليلته، فيرجع، قالوا: وكان له قدم في التوكل معروف، ولم يُزْرِ به ذلك عند أحد، نعم تكون لهم رباطات فيكون فيها المتجردون من أصحابهم للعبادة كشبه حال أهل الصُّفة وذكر اليافعي رحمه الله في ذلك حكاية عن الإمام " أبي بكر " الشبلي - رضي الله عنه - قال: كان عنده في رباطه نحو أربعين مريداً يعبدون ويعيشون بالفتوح، وأنه اتفق له ذات مرة أن يفتح عليهم بشيء، حتى ضاقوا، فخرج الشيخ إليهم فحدثهم في مقام التوكل، وحضهم على الصبر، ثم ذهب عنهم، فبقوا بعده أياماً أُخر لم يأتهم شيء، فلحقتهم الضرورة، فلما كان ذلك خرج إليهم فقال لهم: إن الله تعالى أمرنا بالتوكل ورخص لنا الأسباب، فتسببوا، ففعلوا ذلك، وخرج الواحد منهم، البلد وجعل يجول في الأسواق والمجامع من غير أن يسأل أحداً وإنما يعرض نفسه لما يفتح الله تعالى من رزق، فلم يفتح عليه بشيء حتى انتهى إلى طبيب نصراني قد حلق الناس عليه، وهو يصف لهم الأدوية، فجلس بين يديه، ومد إليه يده ليجس نبضه بلا كلام، فجس الطبيب يده فقال له: أنا أعرف مرضك وأعرف دواءه، ثم قال لغلام له: عليَّ برطل من الشواء، مع خبز وحلواء، فأحضر الغلام ذلك، فقال الطبيب للفقير: أنت جائع، وهذا دواؤك، فقال الفقير: إن كنت صادقاً فمن ورائي أربعون كلهم بهذا المرض، فقال الطبيب لأصحابه: أحضروا من هذا الطعام ما يكفي أربعين، فأحضروا ذلك، فأمر الطبيب من يحمله، وأمر الفقير أن يمشي معهم إلى أصحابه، فلما خرجوا تبعهم الطبيب مستخفياً ليعلم أصدق الفقير أم لا؟ فأدخلوا ذلك إلى الرباط واستدعوا الشيخ فخرج اليهم، فوضعوا الطعام بين يديه فقال: ما هذا؟ فقص عليه الفقير القصة على وجهها فقال لهم: أفترضون أن تأكلوا طعام رجل من غير أن تكافئوه؟ فقالوا: فكيف نكافئه يا أستاذ؟ فقال: تدعون له، فأخذوا في الدعاء له، والطبيب في كل ذلك ينظر إليهم من طاق، فلما رأى صدق القول، ورأى حالهم من المحافظة على الحقوق، وارتفاع هممهم مع غاية الحاجة من غير أن يتناولوا الطعام قبل المكافأة ألقى الله تعالى الأيمان في قلبه، فدخل عليهم وقال للشيخ: مدَّ يدك، وتشهد شهادة الحق ودخل في صحبتهم فصار من الصوفية، ولله الحمد، فأنظر أيها الناظر في حكمة المولى المتفضل كيف أمسك عن أوليائه الرزق ليخرجوا إلى الخلق فيصطادوا هذا الولي الروميّ حين حان أوان الوصال والخروج من سجن القطيعة إلى حضرة مولاه، فسبحان من يقرب من يشاء، وهو ذو الفضل العظيم، وإنما هي السابقة " وكلّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَه " فكم من ولي لله تعالى في وسطه زنّار، وكم من كافر يؤذن فوق المنار، نسأل الله تعالى السلامة والعافية، ويظهر من القصة أن هؤلاء الفقراء يأتيهم الفتوح لرباطهم، لا أن " الطعام " يخرج لهم من دار الشيخ كما جرى في عرف اليوم، بل قد أشركوا الشيخ في طعامهم في هذه القصة.

وكان بعد ذلك الشيخ يوسف العجمي فيما حكى من سيرته يخرج الواحد من أصحابه ويذهب بدابة معه فيسأل النهار كله إلى الليل وما أجتمع يأتي به إلى الفقراء، وبذلك يعيشون، وصورة السؤال أن يقف بباب الدار والحانوت فيقول: الله، ويمد بها صوته حتى يكاد يغشى عليه ويسقط، قالوا: وكانوا يتناوبون في الخروج بينهم وبين الشيخ، يخرج الخارج يوماً لأنفسهم ويوماً للشيخ، فكان الخارج لهم يأتي بالدابة مُوقرة لحماً وخبزاً وجبناً وبصلاً وغير ذلك، وفي يوم الشيخ إنما يأتي بكسيرات يأكلها فقير واحد فقالوا له في ذلك فقال: أنّتم بشريتكم باقية، فبينكم وبين الخلق ارتباط، فيعطونكم، وأنا بشريتي قد فنيت حتى لا تكاد " ترى " فليس بيني وبين التجار والسوقة وأبناء الدنيا كبير مجانسة " قالوا ": وكان يأمر بإغلاق باب الزاوية " طول النهار " لا يفتح لأحد إلاّ للصلاة وإذا دق أحد يقول للنقيب: اذهب وانظر من شق الباب فإن كان معه شيء من الفتوح للفقراء فافتح له، وإلا فهي زيارات فشارات فقال بعض الناس في ذلك، فقال الشيخ: أعز ما عند الفقير وقته، وأعز ما عند أبناء الدنيا مالهم، إن بذلوه لنا بذلنا لهم وقتنا. وقد شاع اليوم إقامة الصوفية الزوايا بإطعام الطعام، ولا سيما في بلادنا المغربية، وخصوصاً في البوادي، وما يكون من فتوح يأتي إلى يد الشيخ، وهو ينفق فيه على المجاورين والواردين، وهذا قد كان فيهم من قديم، ففي ترجمة الشيخ أبي يعزى أن الناس " كانوا " يأتون إليه من كل بلد، فيطعمهم من عنده، ويعلف دوابهم، وأن الفتوح كانت تأتيه من إخوانه في الله تعالى فينفقها على زائريه وأن أهل القرى القريبة منه كانوا يضيفون الواصلين لزيارة أبي يعزى ويتبركون بهم، فلما مات أبو يعزى رِيءَ في النوم وهو يطير في الهواء فقيل له: بم نلت ما نلت؟ فقال: بإطعام الطعام. ويحكى عن الشيخ أبي محمد عبد الخالق بن ياسين الدغوغي أنه كان يقول: طلبنا التوفيق زماناً فأخطأناه، فإذا هو في إطعام الطعام وقد اشتهر ذلك اليوم حتى إن عوام البادية يرون ذلك كأنه شرط انتصب للزيارة أو تصدّى للمشيخة، ويعدون قوة ذلك وتيسره من كراماته، ولا يبالون بمن لم يروا ذلك على يده، فوقع في ذلك منافع عظام وآفات جسام. وأهل الزوايا مختلفون، منهم من يطعم الناس من مال أبيه أو من كد يمينه من غير أن يدخل عليه فتوح أصلاً، فهذا أقرب الناس إلى السلامة وأبعد عن الشبهة، وهو منتفع بحصول الأجر فيما أنفق، وفي سد خلة المحتاج، وفي ترغيب الناس في الخير بما يحصل لهم من الميل الطبيعي، وفي اجتماع أهل الخير عنده، وفي تعاونهم على البر، وتعلم العلم والأدب والمعرفة وتربية الخير، وإحياء مراسم الطريق، وتكثير سواد أهله، وغير ذلك من الوجوه المستحسنة، والمصالح المتبينة، وينتفع الناس معه بما ذكر وبحسن الظن به وبالطريق وبأهلها وبسلامتهم من كل ما يقابل ذلك من الآفات، إن كانت " لا " تأتيه الفتوح فذاك، وإن كانت تأتيه ويردها فلا شك أنها حالة رفيعة، ولكن لا بد أن يحذر آفة الرد كما يحذر آفة الأخذ، ولا سيما في الرد على إخوانه وأتباعه. ومن الآفات المشاهدة اليوم في ذلك أن الشح عياذاً بالله قد غلب على الناس ولا سيما فيما هو لله خالصاً، إذ لا باعث عليه من النفس، فتجد الفقير يثقل عليه أن يتصدق بدرهم لمسكين محتاج ويتيم وأرملة، ويخف عليه أن يحمل الدينار والدينارين إلى دار شيخه، وذلك إما لبواعث شهوانية كطلب الأعواض العاجلة أو مساعفة الغير أو المراياة أو نحو ذلك، وإما تصريف من الله تعالى وتسخير في هذا الوجه، ثم إن رد عليه شيخه ذلك وأغلق عليه بابه انغلقت عليه أبواب الخير والنفقة، فبأي وجه يرتاض في صفة البخل حتى يتخلى منها؟ " أو " بمجرد الموعظة والتذكير من شيخه من غير أن ينازلها بالفعل؟ وهيهات منه ذلك! وإذا كان كذلك كان شيخه قد غشه في تربيته له ولو أنه قبض منه ذلك وأنفقه له في وجوه الخير كان أعود عليه وأرجى لاعتياده ذلك في جهات أخرى، ولحصول نور ينتفع به، نَعَمِ الأمْرُ مُخْطِر، والناس فيه ثلاثة: رجل طالب دنيا آكلٌ بدينه، يقبض لنفسه شهوة، فهذا فاسد مفسد، وربا أنتفع معه من أنفق لله تعالى " إنَّ اللهَ يُؤَيّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الفّاجِرِ ".

ورجل صادق في حاله، غير كامل في تصرفه، يخشى العطب في الأخذ، ويؤثر جانب السلامة، فهذا سالم في نفسه، ولا ربح معه للناس من هذا الوجه. ورجل كامل قد تضلع من العلم والحال، فهذا حقه الأخذ لحق الغير نصحاً له وإعانة له على الخير، اللهم إلاّ أن يعرض ما يمنع كاطلاعه على اختلاف قصد المتصدق أو فساد في المال أو نحو ذلك. وكان صلى الله عليه وسلم يقبل من أصحابه ما يأتون به من النفقة إعانة لهم على الخير، وتزكية لهم عن الأخلاق المذمومة، ونفعاً للمسلمين بما أنفقوا وإلا فهو صلى الله عليه وسلم أغنى الخلق ظاهراً وباطناً، وقد عرض عليه أن تجعل له الجبال ذهباً يتفق منها فلم يرض، وقد لا يقبل لعوارض، وقد قال صلى الله عليه وسلم في آخر الأمر: " هَمَمْتُ ألاَّ أقْبَلَ إلاّ مِنْ قُرَشيّ أو ثَقَفيّ أوْ دَوْسيٍّ " والكامل من المشايخ له مدخل في ذلك. ومنهم من يطعم من الفتوح أو من الأمرين، فإن استقام أخذه وتصرفه فهو ينتفع بما مر في الأول، وإن كان لا يبلغ في أجر النفقة مبلغ من أنفق في كد يمينه، وعرق جبينه، وبمعاونة الناس على الخير، وإدخال السرور عليهم في الأخذ، وتربية أحوالهم المحمودة، وتزكيتهم من المذمومة، وبالسلامة من الأنفة والاشتهار بالنزاهة المتوقع في الأول، وبتيسر رزقه في خلال ذلك ليتفرغ للعباده، إلى غير ذلك من المنافع الدينية والدنيوية، وينتفع الناس معه بما مر، والمنفقون بذلك مع حصول أجر ما أنفقوا، والتخلي والتحلي كما مرّ، وغير ذلك، ومن سوى هذين الشخصين من كل من يستظهر بالخرقة ويتجر باللقمة فلا عبرة له، وقد ينتقع المنفق كما مر إن سلم من أتباعه على زيغه والسقوط في مهاوي بدعته، وهذا كله في الإطعام والإنفاق جملة. وأما أكل المريد لطعام شيخه والنزول في مثواه وافتراش فراشه وغير ذلك من الانتفاعات فقد يسلم في ذلك وقد يحصل له انتفاع زيادة على السلامة كحصول بركة ونور في قلبه أو رحمة من الله تعالى بذلك، وقد جاءت امرأة من لكتاوة إلى دار أشياخنا، وأظنه في حياة سيدي أحمد بن إبراهيم بقصد الزيارة فأكلت من طعام الزاوية ثم رجعت إلى بلدها وبقيت أياماً فماتت فريئت بعد موتها فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقالت: رحمني بالطعام الذي أكلت من الزاوية. وقد يتضرر المريد بذلك من جهات منها أن يتشوف إلى ذلك أو إلى المَزية فيه فيفسد قصده، ويختل حاله، ومنها أن يستشعر شيخه منه أحياناً ثقلاً في ذلك لما يقتضيه الطبع البشري، فينفر منه، وفي ذلك ضرره، وقد تذهب زيارته وخدمته في بطنه، وذلك هو الخسران المبين، ومن ذلك وقع ما ذكر في صدر هذه الترجمة للشيخ أحمد بن يوسف من ترك الإطعام كما قال، وقد يدخل عليه في ذلك من مزاحمة الإخوان والواردين الشغل والفتنة والشحناء والتدابر والتقاطع وغير ذلك. وقد حدثونا عن شيخ شيوخنا سيدي عبد الله بن حسين الرقي - رضي الله عنه - أنه " كان " إذا ذهب مع الفقراء لزيارة شيخهم سيدي أحمد بن علي يأخذ معه زاداً تحت إبطه فإذا وصلوا إلى زاوية الشيخ انفرد عنهم ودخل المسجد واشتغل بحاله واقتات من زاده فلا جَرَمَ " أن " كان هو الذي أنجح وأفلح. هذا ولا يخلو شيء من مصالح وآفات، والمعصوم من عصمة الله، والموفق من وفقه الله، والورع من ورعه الله، فلا يمكن الاعتراض على من أكل، ولا من ترك، ولا من أطعم، ولا من ترك، ولا من اشتهر، ولا من اختفى، اللهم إلاّ " على " من كان في تربيته على يده بوجهه، فمن عرف فليتبع، ومن جهل فليسلم، والنصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باقية في محلها بشرطها. وبلغني أن الفقيه الصالح سيدي الصغير ابن المنيار مر ذات مرة بسيدي محمد بن أبي بكر الدلائي فأخرج إليه الطعام من الزاوية فلم يأكله فبلغ ذلك ابن أبي بكر فذكر ذلك وكأنه اعتل بما يقع من خدمة الناس في الحصاد والدرس، فقال له ابن أبي بكر: أيما أفضل أنت أم جدك؟ يعني سيدي علي بن إبراهيم، وقد جاءه بنو موسى بسبعمائة منجل ليحصدوا، فلما رأى عددهم قال لهم: بخلتمونا يا بني موسى، فقال له سيدي الصغير: جدي أعرف بحاله وأقدر على ما يفعل، وأنا أتصرف بمقتضى حالي أو نحو هذا " من " الكلام. وقد يكون للولي حال مع الله تعالى فيسأل الناس ويأخذ من الله تعالى لا من الناس، ويتصرف بالله وفي الله، ولا يصح الاعتراض عليه لاستقامته.

ميل القلوب ونفرتها

وقد قيل للإمام الجنيد: إن النوري يسأل الناس فقال: دعوه في حاله، ولكن هاتوا الميزان فوزن قدراً من الدراهم، ثم أخذ قبضة من الدراهم بغير وزن فقذفها على الموزون وقال لصاحبه: اذهب بتلك المجموع " إليه " فلما باغ النوري قال: " النوري ": " هات " الميزان، فوزن القدر الموزون ورده وأخذ الباقي، فقال له الحامل: كنت عجبت من فعل الجنيد وأنه كيف خلط الموزون، فأي فائدة للوزن؟ وفعلك هذا أعجب، فما هذا؟ فقال له النوري: إن الجنيد رجل حكيم، وإنه أحب أن يأخذ الحبل بطرفيه، فوزن قدراً لنفسه وجعل الآخر لله تعالى، ونحن قد أخذنا ما لله تعالى، فلما رجع الرسول إلى الجنيد بكى وقال: أخذ ماله ورد علينا مالنا، فتبين بذلك أنه يأخذ ما لله من الله عن بصيره صادقة فلا بأس " عليه " " بذلك " والله الموفق " و " المعين. لله الأمر من قبل ومن بعد ميل القلوب ونفرتها كان بعض الطلبة من أصحابنا في قرية، وكانت القرية قرية سوء، وأهلها كذلك، ثم إن بعض الأصحاب رام لوم ذلك الطالب على الاستقرار فيها فقال له: كيف تبقى في تلك القرية وهي كيت وكيت يعدد عليه مساويها؟ فقال الطالب: أحمد الله وأشكره، فلما قال ذلك استحمقه اللائم وازداد في الإنكار عليه وأنه كيف يحمد على هذا، فقال له الطالب: قد رأيت كلَّ ما ترون من مساويها، وعلمت منها ما تعلمون أو أكثر، ومع ذلك فأجد قلبي غير نفور عنها " فأحمد الله تعالى إذ قضى عليَّ الاستقرار فيها ولم ينفر قلبي عنها " فلو أنه تعالى قضى عليَّ وَكرهها لي وأنا لا أجد بداً منها بحكم القضاء فما ترون يكون عيشي عند ذلك؟ فلما قرر هذا المعنى وجدوه معنى لطيفاً تنبه إليه وسلموا له. وشرح ذلك باختصار أن الله تعالى أودع في طبع الآدمي ميلاً إلى شيء ونفوراً عن شيء، ويسمى الأول ملائماً، إما حسياً كالشراب والطعام واللباس والنكاح " في الجملة ونحو ذلك " وإما معنوياً " كالعز " والجاه والراحة والصحة والعافية ونحو ذلك، ويسمى الثاني منافراً إما حسياً أيضاً كالعَذِرة والبول والدم والميتة والشوك والجرح والضرب والسجن والقيد ونحو ذلك، وإما معنوياً كالذل والمهانة والعجز والضيم والغم والحزن ونحو ذلك. ثم إن الأعيان الموجودة في الدنيا كالأموال المكتسبة وغيرها من الحيوانات العجماوات والجمادات مثل الأمكنة والأزمنة والجهات والقرناء والأصحاب ونحو ذلك منها ما يكون من القسم الأول ملائماً لمقارنته للملائم كالأنعام لما فيها من الأكل والشرب والركوب والحمل والزينة، والرباع لما فيها من الاشتغال بأنواعه، والنساء في الجملة لما فيها من الاستمتاع، وسائر الانتفاع، وعلى الخصوص فيمن وجد ذلك فيه حقيقة أو توهماً، وكذا في سائر ما ينفع له، ولذا قال تعالى:) زُيِّنَ للنّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ (الخ. ومنها ما يكون من القسم الثاني منافراً لمقارنته للمنافر كالسباع والحيات والعقارب والأعداء ونحو ذلك، وكذا الأمكنة والأزمنة والجهات تكون ملائمة إذا كانت ظرفاً للملائم، ومنافرة إذا صارت ظرفاً للمنافر، وهذا هو الأمر المعتاد، وقد تخرق هذه العادة في شخص فيجعل في قلبه ميل إلى غير ملائم أو نفرة عن غير المنافر إما بسبب كالسحر ونحوه، أو بمحض الحكم الأزلي، ولا بد أن يتوهمه في نفسه ملائماً في تلك الحالة أو منافراً، فلا تنتقض العادة الجارية، ثم إن الله تعالى قدر على العبد قبل إيجاده " كل " ما يلقاه من هذه الأشياء، فإن قدر عليه أن يلقى الملائم فعندما يلقاه ينعم من جهتين: إحداهما وجود الانتفاع الذي فيه كما قررنا، والأخرى أنس قلبه به فيكون كما قال عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -: إذا وافق الحق الهوى فهو العسل والزبد، وإن قدر عليه أن يلقى المنافر فهو عندما يلقاه يعذب من جهتين، وهما التضرر الظاهر، والتألم الباطن بالكراهة، وهذان القسمان في الملائم والمنافر الحقيقيين، وهما واضحان جالسان على المعتاد، ووراءهما أربعة أقسام فيما يرجع إلى القلب من الميل والنفرة: الأول أن يقضى عليه بعدم ملاقاة اللائم ولا يخلق في قلبه ميل إليه كحال المجانين أو يخلق له كراهيته.

الثاني أن يقضى عليه بملاقاة المنافر ولا تخلق في قلبه نفرة عنه أو يخلق له الميل إلى الميل إليه، وفي كلا القسمين تقع السلامة من العذاب وإن لم يحصل نعيم أو يحصل نعيم موهوم أو خسيس تابع لخسة عقل صاحبه أو ضعف حسه كالصبي الذي يأكل التراب، ومن القسم الثاني قصة صاحب القرية المذكور. الثالث أن يبتلى بالميل إلى شيء ومحبته بحكم القضاء ملائماً أو غير ملائم ولا يقضى له بملاقاته. الرابع: أن يبتلى بالنفرة عن شيء وكراهته بحكم القضاء أو غير منافر ويقضى عليه بملاقاته، وفي كلا القسمين يقع العذاب والمحنة بالنظر إلى الباطن، وإلى الأول يشير المجنون في قوله: قضى لغيري وابتلاني بحبها ... فهلا بشيء غير ليلى ابتلانيا وكأنه يقول: لو قضاها لي أي الرب سبحانه بأن أتزوجها حين ابتلاني بحبها لنعمت ولو لم يبتلني بحبها حين قضاها لغيري أن يتزوجها لاسترحت فلا أنا بحصولها في يدي ولا أنا بخروجها من قلبي فهذا هو العذاب المبين، وإلى القسمين معاً يشير " الآخر في قوله ": من لم يعش بين أقوام يسر بهم ... فعيشه أبداً همٌّ وأحزان وأخبث العيش ما للنفس فيه أذى ... خُضْرُ الجنان مع الأعداء نيران وأطيب العيش ما للنفس فيه هوى ... سَمّ الخياط مع الأحباب ميدان وحاصله تحكيم القلب وأنه المرجع في النعيم والعذاب، ولا عبرة بالمحسوس إلاّ بما فيه من التأدية إلى ما في القلب، وإلى هذا المعنى يشير الصوفية في النعيم والعذاب الموعود في الدار الآخرة كما قال في الحكم: النعيم وإن تنوعت مظاهره ... إنما هو لشهوده واقترابه، والعذاب وإن تنوعت مظاهره ... إنما بوجود حجابه. فسبب العذاب وجود الحجاب. وإتمام النعيم بالنظر إلى وجهه الكريم. وإلى هذا المعنى يرجع كل ما يذكر من الحنين إلى الأوطان النائية، والبكاء على المراسم الخالية، وذكر الأحباب النازحة، والأيام الصالحة، ومن مرارة الفراق، ولوعة الاشتياق، وما قيل في ذلك يملأ الأرض، ويفوت الطول والعرض، كقول الأول: وكل مصيبات الزمان رأيتها ... سوى فرقة الأحباب هينة الخطب وكتب المهدي وهو بمكة إلى الخيزران: نحن في أفضل السرور ولكن ... ليس إلاّ بكم يتم السرور عيب ما نحن فيه يا أهل ودي ... أنكم غبتم ونحن حضور فأجدوا المسير بل إن قدرتم ... أن تطيروا مع الرياح فطيروا فأجابته: قد أتانا الذي وصفت من الشوْ ... ق فكدنا وما فعلنا نطير ليت أن الرياح كن يؤدي ... ن إليكم ما قد يجن الضمير لم أزل صبة فإن كنت بعدي ... في سرور فدام ذاك السرور وقال أبو تمام: لو حار مرتاد المنية لم يجد ... إلاّ الفراق على النفوس دليلا وقال أبو الطيب: لولا مفارقة الأحباب ما وجدت ... لها المنايا إلى أرواحنا سبلا " وقال أحمد بن رجاء الكاتب: أخذ مني تميم بن المعز جارية كنت أحبها وتحبني فأحضرها ليلة في منادمته فنام فأخذت العود وغنت عليه صوتاً حزيناً من قلب قريح وهو: لا كان يوم الفراق يوما ... لم يبق للمقلتين نوما شتت مني ومنك شملا ... فساء قوماً وسر قوما يا قوم من لي بوصل ريم ... يسومني في الغرام سوما ما لامني الناس فيه إلاّ ... بكيت كيما أزاد لوما فأفاق المعز مع فراغها ورأى دمعها يسيل فقال: ما شأنك؟ فأمسكت هيبة له، فقال لها: إن صدقتني لأبلغنك أملك، فأخبرته بما كنا عليه فأحسن إليها وردها إلي وألحقني بخاصة ندمائه، وقال ابن ميادة: ألا ليت شعري هل يحلن أهلها ... وأهلك روضات ببطن اللوى خصرا وهل تأتينّ الريح تدرج موهناً ... برياك تعروري بها بلداً قفرا بريح خزامي الريح بات معانقاً ... فروع الأقاح تهضب الطل والقطرا ألا ليتني ألقاك يا أم جحدر ... قريباً فأما الصبر عنك فلا صبرا وقال أبو العتاهية: أمسى ببغداد ظبي لست أذكره ... إلاّ بكيت إذا ما ذكره خطرا إن المح إذا شطت منازله ... عن الحبيب بكى أو حن أو ذكرا وقال آخر: أقول لصاحبي والعيس تخدي بنا بين المُنيفة فالضِّمَار تمتع من شميم عرّار نجد ... فما بعدَ العشية من عرّار

حنين المؤلف إلى الزاوية الدلائية

ألا يا حبذا نفحات نجد ... وريا روضه بعد القِطار وأهلك إذ يَحلى الحيّ نَجْداً ... وأنت على زمانك غير شهور ينقضين وما شعرنا ... بأنصاف لهنّ ولا وقال الآخر: سقى الله أياماً لنا قد تتابعت ... وسقياً لعصر العامرية من عصر ليالي أعطيت البِطالة مِقْوَدي ... تمر الليالي والشهور لا أدري وللإمام سليمان الكلاعي - رضي الله عنه -: أحن إلى نجد ومن حل في نجد ... وماذا الذي يغني حنينيَ أو يجدي وقد أوطنوها وادعين وخلفوا ... محبهم رهن الصبابة والوجد وضاقت عليّ الأرض حتى كأنها ... وشاح بخصْرٍ أو سِوار على زَند إلى الله أشكو ما ألاقي من الجوى ... وبعض الذي لاقيته من جوى يُردي فراق أخلاء وصد أحبةٍ ... كأن صروف الدهر كانت على وعد ليالي نجني الأنس من شجر المنى ... ونقطف زهر الوصل من شجر الصد وقال الآخر: إذا أشرف المكروب من رأس تلعة ... على شعب بوان أفاق من الكرب وألهاه بطن كالحرير لطافةً ... ومطرّد يجري من البارد العذب فيا لله يا ريح الجنوب تحملي ... إلى شعب بوان سلام فتى صب " ولا ينحصر هذا الفن والاشتغال به يطيل. لله الأمر من قبل ومن بعد حنين المؤلف إلى الزاوية الدلائية وكنت لما نزلت بخلفون على أم ربيع ذكرت من كان معنا في الزاوية الدلائية من المعارف والأحباب، وكانوا يومئذ قد شرقوا لناحية تلمسان فقلت: سلام على الأحباب غير مضيع ... لذي شرف ذكراً ولا لوضيع سلام محب لا يزال أخا هوى ... إلى جلة قد شرقوا ونزوع ومن يسأل الركبان عني فإنني ... حللت ببيتي حول أم ربيع فألفيته يحكي زفيري زفيرة ... بقلب كقلبي بالفراق صديع ويسعدني في عبرتي غير أنه ... يخالفني في مهبط وطلوع فتجري إلى مَهْفى الجنوب دموعه ... وتجري إلى مَهْفى الشمال دموعي ولما كنت بمدينة مراكش - حرسها الله تعالى - " سنة ثلاث وتسعين وألف " وقد بقيت الأملاك في خلفون والكتب وما معها في مكناسة وبقيت العلائق في جبال فازاز والقبيلة في ملوية " قلت ": تشتت قلبي في البلاد فقسمة ... بمراكش منه على رجل طائر وأخرى بخلفون وأخرى مقيمة ... بمكناسة الزيتون حول الدفاتر وأخرى بفازاز وأخرى تجزأت ... بملوية الأنهار بين العشائر وأخرى بذاك الغرب بين أحبتي ... بأهل البوادي منهم والحواضر فيا رب فاجمعها فإنك قادر ... عليها وما غير الإله بقادر ويا رب فأجعلها بأوطانها فما ... عُبَيدك للبنين المشت بصابر لك الفضل والإحسان بدءاً وآخراً ... وإني لما أوليتني جِدُّ شاكر فمُنَّ بإنعام وجُد لي بحاجتي ... ورفق بقلب للهموم مسامر فمالي إلاّ بابك الرحب ملجأ ... وما طلب الحاجات منك بضائر ومالي إلاّ جودك الجمّ شافع ... وحسبي بفيض منه أغزر وافر وصفوتك المبعوث للناس رحمة ... بشيراً شفيعاً مظهراً بالبشائر صلاة وتسليم عليه مدى المدى ... وعترته والصّحب أهل البصائر وجرى يوماً ذكر البيتين اللذين أنشدهما سيدنا بلال - رضي الله عنه - وهما قوله: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بواد وحولي إذخر وجليل وهل أردن يوماً مياه مَجَنّةٍ ... وهل يبدون لي شامة وطفيل فهاج لي إلى الأوطان اشتياق، فقلت نحو هذا المساق: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بسهب الشنين أو بسهب بني ورا وهل تعبرن نهر العبيد ركائبي ... وهل تتركن داياً وأدواءَها ورا وهل أردن عسلوج يوماً فأشربن ... مياهاً به يحكي رحيقاً وكوثرا وهل تمرحن حيلي بذروة آمناً ... وبُطنانها من قبل أن يحفر الثرى وهل أكحلن يوماً جفوني بنظرة ... إلى الأرزات الفارعات فتبصرا وهل أدفعن جيش الهموم ببسطة ... مع الحي في تلك الديار فتقصرا ونهر العبيد " هو " وادي العبيد المعروف، ومدينة داي هي المعروفة اليوم بالصومعة في تادلا، وإنما قال أدواؤها أي أمراضها لأنها كثيرة الأمراض والوخم.

الاعتزال عن الخلق طلبا للسلامة

ومن غريب ما اتفق لي في هذا البلد أنني مررت به حين سافرت إلى ناحية مراكش في طلب العلم فأصابتني الحمى منه، وذلك أول حمى أصابتني في عمري ثم بقيت في تلك النواحي عدة سنين فلما رجعت ومررت به أصابتني أيضاً، وكأنها كانت تنتظرني، ولذا كان من جملة التمني أن أترك هذه البلدة وأمراضها ورائي بالمجاوزة إلى وطني. وكنا ذات مرة في بساتين خارج الحضرة المراكشية، ثم سرينا ليلة لقصد زيارة بعض الصالحين وركبت فرساً، فما استويت " عنه " وبرد الليل وكنت أستحب السري فانبسطت نفسي وتمنيت أن لو كنت على أعتق من ذلك الفرس، وذكرت الأوطان فقلت ارتجالاً أو شبه ارتجال: يا سرية لو كنت أسريها على ... نهد أغر محجل يعبوب ينسابُ من تحتي كأن ذميله ... جريان ماء في الصفا مصبوب ما بين خلاد فخوخات إلى ... نهر الرمال فمقطع فجبوب فإذا فصلت من السلام عليكمُ ... وهفت صباً في الجو ذات هبوب فهناك تنشقني الحجاز وشيحه ... وتتم عرفاً من شذا محبوب صلى الإله عليه ما وكف الحيا ... في الروض من وبل ومن شؤبوب وعلى الأماجد آله وصحابه ... ما حنّ محبوب إلى محبوب يا رب أنت رجاؤنا في نيْل ما ... نرجو فكن لعبيدك المربوب لا رب نرجوه سواك أممكن ... وجدان آلهة لنا وربوب؟ فامنن عليها واسقنا إنا لفي ... ظمأ على شحط النوى وذبوب واجمع بصفوتك الأجلة شملنا ... مع اخوة ومعارف وحبوب واختم لنا معهم بدين قيم ... يتعلق وتشوّق مشبوب فالدين والخرات أعود مقتنى ... أبداً لكل مشمر ملبوب وجرى " يوماً " ذكر قصيدة ابن الخطيب التي أولها: سلا هل لديها من مخبرة خبر ... وهل أعشب الوادي ونم به الزهر فسما أيضاً شوق وحزن، وعاود الفؤاد ذكر الوطن والسكن فقلت: شم برقها أعلى أجارع ذي أضا ... وكفّت فأترعت الجداول والأضا واحجب عليَّ وميضه فلقد حشا ... وسط الحشا جمر الغضا لما أضا فكأنه مذ لاح في تلك الربا ... ما بين أحشائي حُسام مُنْتَضى ما زال يذكرني معاهد جيرتي ... وعشيرتي ومعارفي مذ أومضا " هذا على أن لست قط بمغفل ... لعهودهم ما حان منها أو مضى " أم ساقها لجيوب ذروة سحرة ... فسقى بها قيصومها والعرمضا وأدار فوق نجودها كاس الحيا ... وهْناً فأصبح كل نشز مبرِضا " خلعت أكف السحب أردية الكلا ... ومطارف الزهر النضير على الفضا " وأفاضت الغدران حتى عاقرت ... أيدي الروابي الشم جريال الفضا ما شئت من روض تراه مُذهبا ... فيها ومن روض تراه مفضّضا بلد صحبت العيش فيه أخضرا ... نضراً ووجهَ الدهر أبيضا درت علي به الأماني حُفّلاً ... وهمَتْ عليَّ غيوث بر فُيَّضا ولبست فضفاض النباهة سابغاً ... وركبت صهوة كل فضل رَيّضا وأسمتُ سرحي في المطايب مُمْرِعاً ... ورميت صيدي في المآرب معرضا في فتيةٍ قد كان شربي فيهم ... صفو الودادِ وكل خلْقٍ مرتضى تَخِذوا المروءة والسماحة والندا ... والبر والإكرام ديناً مقتضى وتألفوا كالماء والصهباء في ... كأس وكلٌّ ذو سجايا ترتضى لله الأمر من قبل ومن بعد الاعتزال عن الخلق طلباً للسلامة حدثني الأخ الفاضل أبو عبد الله محمد بن مسعود العيسوي العرفاوي قال: سافرت إلى بلاد القبلة ذات مرة فمررت بالمرابط الخير أبي عبد الله محمد بن أبي بكر العياشي فدخلت لأزوره فلما قعد مني قريباً ثم أنشدني " متمثلاً " قول الشاعر: جفوت أناساً كنت آلف وصلهم ... وما بالجفا عند الضرورة من باس فلا تعذلوني في الجفاء فإنني ... وجدت جميع الشر في خلطة الناس والمراد من الشعر ومن التمثل به الاعتزال عن الخلق طلباً للسلامة لا ما يفهم من لفظ الجفاء، وفي الحديث: " خَيْرُ النّاسِ مَنْزِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ رَجُلٌ أخَذَ بعِنَانِ فَرَسِهِ في سَبِيلِ اللهِ يُخِيفُ العَدُوَّ وَيُخِيفُونَهُ وَفي رِوَايَةٍ: حَتّى يَمُوتَ أوْ يُقْتَلَ ". والذي يليه رجل معتزل في شِعْبٍ من الشعاب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعتزل شرور الناس.

وعن أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - قال: الطمع فقر، واليأس غنى، والعزلة راحة من جليس السوء، وفريق الصدق خير من الوحدة. وقال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: كان الناس ورقاً لا شوك فيه، وهم اليوم شوك لا ورق فيه. وقال بعض الأئمة: العزلة عن الناس توفي العرض، وتبقي الجلالة، وترفع مئونة المكافأة في الحقوق اللازمة، وتستمر الفاقة. وقد أولع الشعراء قديماً وحديثاً من هذا المعنى بالتبرم بالناس والاستيحاش من الخلق وذم الزمان وأهله، فمن ذلك قول أبي العتاهية: بَرِمْتُ بالناس وأخلاقهم ... فصرت أستأنس بالوحدة ما أكثر الناس لعمري وما ... أقلهم في حاصل العِدّه ونحوه قول الآخر: ما أكثر الناس بل ما أقلهم ... والله يعلم أني لم أقل فَنَدا إني أفتح عيني حين أفتحها ... على كثير ولكن لا أرى أحدا وقول الآخر: مخالط الناس في الدنيا على خطر ... وفي بلاء وصفو شِيبَ بالكدر كراكب البحر إن تسلم حُشاشته ... فليس يسلم من خوف ومن حذر وقول الآخر: قد لزمت السكون من غير عيّ ... ألزمت الفراش من غير عله وهجرت الإخوان لما أتاني ... عنهم كل خصلة مضمحله وقول الآخر: إن بني دهرنا أفاع ... ليس آمن ساوَرَتْ طبيبُ فلا يكن فيك بعد هذا ... لواحد منهم نصيب وقول الآخر ويعزى للإمام الشافعي - رضي الله عنه -: ليت السباع لنا كانت مجاورة ... وليتنا لا نرى مما نرى أحدا إن السباع لتهدا في مرابضها ... والناس ليس بهادٍ شرهم أبدا فاهرب بنفسك وأستأنس بوحدتها ... تعش سليماً إذا ما كنت منفردا وقول طرفة بن العبد: كل خليل كنت خاللته ... لا ترك الله له واضحه كلهمُ أروع من ثعلب ... ما أشبه الليلة بالبارحه وقول امرئ القيس: كذلك جدي ما أصاحب صاحباً ... من الناس إلاّ خانني وتغيرا وقول الآخر: وزهدني في الناس معرفتي بهم ... وطول اختباري صاحباً بعد صاحب فلم تُرِني الأيام خلا تسرني ... مباديه إلاّ خانني في العواقب ولا قلت أرجوه لدفع مُلِمّةٍ ... من الدهر إلاّ كان إحدى المصائب " وقال أبو فراس: بمن يثق الإنسان فيما ينويه ... ومن أين للحر الكريم صِحاب وقد صار هذا الناس إلا أقلهم ... ذئاباً على أجسادهنّ ثياب وقال محمد بن تميم: لك الخير كم صاحبت في الناس صاحباً ... فما نالني منه سوى الهم والعنا وجربت أبناء الزمان فلم أجد ... فتى منهم عند المضيق ولا أنا وقول الآخر: دَع الإخوان إنْ لم تلق منهم ... صفاء واستعِنْ واستغْنِ باللهْ أليس المرء من ماء وطِين ... وأي صفا لهاتيك الحبِلَّه ومثله: ومن يكُ أصلهُ ماء وطيناً ... بعيد من جِبِلَّتِه الصفاء ونحوه: لا تثق من آدميّ ... في وداد بصفاء كيف ترجو منه صفْواً ... وهو من طين وماء وقال أبو العلاء: جربت أهلي وأصحابي فما تركت ... ليَ التجاربُ في ود امرئ غرضا وقول أبي الطيب: إذا ما الناس جربتهم لبيب ... فإني قد أكلتهم وذاقا فلم أرَ وُدَّهم إلاّ خداعاً ... ولم أرَ دينهم إلاّ نفاقا وأنشد أيضاً: ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... عدواً له ما من صداقته بد قيل إنه لما تنبأ قيل له: ما معجزتك؟ قال: قولي ... وأنشد البيت: وقول الآخر: تصفحت أبناء الزمان فلم أجد ... سوى من غدا واللؤم حشو ثيابه فجردت من سيف القناعة مُرْهَفاً ... قطعت رجائي منهم بذُبابه فلا ذا يرني واقفاً في طريقه ... ولا ذا يراني واقفاً عند بابه وقول الآخر: أردت من الدنيا صديقاً مؤاتياً ... وفياً بما أرضاه يرضى وينشرح فإذ لم أجد أغضيت عن كل كائن ... وقلت لقلبي قد خلا الكون فاسترح وقال غيره: ألام على التفرد كل حين ... ولي فيما إلامُ عليهِ عذر وكل أذى فمصبور عليه ... وليس على قرين السوء صبر وقال محمد بن تميم: من كان يرغب في حياة فؤاده ... وصفائه فلينأَ عن هذا الورى

فالماء يصفو إن نأى فإذا دنا ... منهم تغير لونه وتكدرا وقول الآخر: كن من الناس جانبا ... وارض بالله صاحبا قَلِّبِ الناس كيف شئ ... ت تجدهم عقاربا وأما أبو العلاء المعري فقد سلى نفسه عن عماه بقوله: قالوا العمى منظر قبيح ... قلت بفقدانكم يهون والله ما في الوجود شيء ... تأسى على فقده العيون " وقال غيره: الناس داء دفين لا دواء له ... تحير العقل فيهم فهو منذهل إن كنت منبسطاً رأوك مسخرة ... أو كنت منقبضاً قالوا به ثقل وإن تخالطهم قالوا به طمع ... وإن تجانبهم قالوا به ملل وإن تعففت عن أبوابهم كرما ... قالوا غني وأن تسألهم بخلوا ونحوه قول الآخر: لا تُعِدَّنَّ للزِمان صديقاً ... وأعِدّ الزمان للأصدقاء وقول الآخر: ورب أخٍ ناديته لملمة ... فألفيته منها أجلّ وأعظما وقول الآخر: وإخوان اتخذتهم دروعاً ... فكانوها ولكن للأعادي وخلتهم سهاماً صائباتٍ ... فكانوها ولكن في فؤادي وقالوا قد صفت منا قلوب ... لقد صدقوا ولكن من ودادي وقالوا قد سعينا كل سعي ... لقد صدقوا ولكن في فسادي وقال الآخر: لقاء الناس ليس يفيد شيئاً ... سوى الهذيان من قيل وقال فأقلل من لقاء الناس إلاّ ... لأخذ العلم أو إصلاح حال وقول الآخر: لا تعرفنْ أحداً فلست بواجد ... أحداً أضر عليك ممن تعرف وقول الآخر: وما زلت مذ لاح المشيب بمفرقي ... أفتش عن هذا الورى وأكشف فما إن عرفت الناس إلاّ ذممتهم ... جزى الله بالخيرات من لست أعرف ومثله قول الآخر: جزى الله بالخيرات من ليس بيننا ... ولا بينه ود ولا متعرف فما نالني ضيم ولا مسّني أذى ... من الناس إلاّ من فتى كنت أعرف ويقال: كتب رجل من أهل الري على بابه جزى الله خيراً من لا يعرفنا ولا نعرفه ولا جزى الله أصدقاءنا خيراً فإنا لم نُؤتَ إلاّ منهم. وينسب للإمام الغزالي - رضي الله عنه - أيام سياحته: قد كنت عبدا ً والهوى مالكي ... فصرت حراً والهوى خادمي وصرت بالوحدة مستأنساً ... من شر أصناف بني آدم ما في اختلاط الناس خير ولا ... ذو الجهل في الأشياء كالعالم يا لائمي في تركهم جاهلاً ... عذري منقوش على خاتمي قالوا وكان نقش خاتمه:) وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين (. وقول الآخر: من أحسن الظن بأعدائه ... تجرع الهمّ بلا قال بعضهم: لو كنت ناظما لهذا البيت لقلت: من أحسن الظن بأحبابه ولا أقول بأعدائه. واعلم " أن تبرم " الناس بالناس واستيحاش بعضهم من بعض واستنقاص البعض للبعض هو أن الإنسان لما فيه من سبعية مؤذ بالطبع من يلقاه إما بيده أو بلسانه شتماً أو نميمة أو غيبة، وكل من يتأذى منه يستوحش منه ويستنقصه، ولما فيه من الشهوة يتقاضى حظوظه ويضايق عليها غيره لاتساع الشهوة وضيق الدنيا فيثور البغض والحسد وسائر الشر، ثم قد يطمع أن يستحصل حظوظه أو بعضها من الغير، والغير في شغل عنه بحظوظه فيستنقصه، ومن الأول ينشأ العجب بالغني واحتقار الفقير، ومن الثاني ينشأ عدم الوفاء بالوعد والعهد، وذلك أن الإنسان ليس له على التحقيق اختيار، أما باطناً فلأنه في قبضة الله تعالى، وكيف يتأتى وفاء أو عقد أو حل للعبد دون سيده؟ وأما ظاهراً فلأنه أسير شهوته وسمير نهمته، وقد قلت في وصف طباع الناس من قصيدة: ألم ترَ أن الدهر حبلى أنيَّة ... ولادتها يوماً وإن لم تكن تدري فمن منَحٍ تُسلي ومن محنِ تُسي ... نتائجها صغرى على المرء أو كبرى ولا تأمنَنْ أبناءه إن تحببوا ... إليك فمن يُشبه أباه فقد برا وكل بني دهر بأشباه دهرهم ... على ما قضى الله الحكيم وما أجرى متى ما ارتجوا رَغباء منك تقربوا ... إليك وأبدو خالص الود والبرا وأخفوا ذميماً كان فيك وأظهروا ... جميلاً وقالوا ذو محاسن لا تمرى فذلك أحرى أن يجلوا وينصتوا ... إليك رشاداً كان قولك أو ثبرا

ذم المعاصرين ومدح المتقدمين

وإن لم يرجّوا منك خيراً رأيتهم ... جفاء وإعراضاً يولّونك الظَّهْرا وينثون عنك المزريات وإن رأوا ... جميلاً أعاروه الغشاوة والوَقْرا فلا تُصْغ سمعاً للذي ذم منهم ... ولا الذي أبدى الجميل وإن أطرى فإن بني الدنيا عبيدُ هَواهُم ... على مركز الأهواء دَورتهم طُرّا وإنَّ هواهم حيث ترتقب الغنى ... وليس هواهم حيث ترتقب الفقرا إذا ما رأوا ذا الوفر لاذوا بذيله ... وإن لم ينالوا من سحائبه قطرا وإنْ بصروا بالمملق اهتزءوا به ... ومدوا إليه طرفهم نظراً شزرا وقالوا بغيض إن نأي ومتى دنا ... يقولوا ثقيل مبرم أدبر الفقْيرا فإن غاب لم يفقد، وإن علَّ لم يُعَدْ ... وإن مات لم يشهد وإن ضاف لم يقرا وفي اللهِ للمَرْءِ اللبيب كفاية ... عن الناس والمحروم من حرم الأجرا لله الأمر من قبل ومن بعد ذم المعاصرين ومدح المتقدمين واعلم أن هذا الطبع مركوز في طينة الآدمي منذ كان غير مخصوص بأهل زمان، وإن كانت بعض الأزمنة يخصها الله بغير ما يكون في غيرها من خير أو شر " لعارض " غير أن الناس لما دهتهم هذه الداهية من تأذي بعضهم ببعض وعدم الظفر بالغرض من الغير جعل كل يستنقص أهل وقته لمشاهدة وعدم الجدوى فيهم ويمدح من مضى، أما من لم يدركه فلتوهمه أنه على خلاف من رأى وأما من أدركه فلانقطاع شره ووقوع الاستراحة منه مع بقاء بعض الجدوى في الوهم ونزوع النفس إلى الإلف المألوف فلا تسمع إلاّ فسد الزمان وذهب الناس، فمن ذلك قول بشار: فسد الزمان وساد فيه المقرف ... وجرى مع الطرف الحمار الموكف وقول الآخر: ألا ذهب التكرّم والوفاء ... وباد رجاله وبقى الغُثاء وأسلمني الزمان إلى أناس ... كأمثال الذئاب لهم عُواء صديق كلما استغنيت عنهم ... وأعداء إذا نزل البلاء أقول ولا ألام على مقالي ... على الإخوان كلهم العفاء وقول الآخر: ذهب الذين إذا رأوني مقبلاً ... هشوا وقالوا مرحباً بالمقبل وبقيت في خلْفٍ كأن حديثهم ... ولغ الكلاب تهارشت في منهل وقول الآخر: ذهب الذين أحبهم ... وبقيت فيمن لا أحبه إذ لا يزال كريم قو ... مٍ فيهم كلب يسبه وقال منصور الفقيه: يا زماناً ألبس الأح ... رار ذلاً ومهانهْ لست عندي بزمان ... إنما أنت زمانَه وقول الآخر: مضى دهر السماح فلا سماح ... ولا يرجى لدى أحد فلاح رأيت الناس قد مسخوا كلاباً ... فليس لديهم إلاّ النباح وأضحى الظرف عندهم قبيحاً ... ولا والله إنهم القباح سلام أهل ابليد عليكم ... فإن البين أوشكه الرواح نروح فنستريح اليوم منكم ... ومن أمثالكم قد يستراح إذا ما الحر هان بأرض قوم ... فليس عليه في هرب جناح وقول الآخر: مضى الجود والإحسان واجتث أهله ... وأحمد نيران الندى والمكارم وصرت إلى ضرب من الناس آخر ... يرون العلى والمجد جمع الدراهم كأنهم كانوا جميعاً تعاقدوا ... على اللؤم والإمسَاك في صلب آدم " وللإمام الشافعي - رضي الله عنه -: صديق ليس ينفع يوم باس ... قريب من عدو في القياس وما يبقى الصديق بكل عصر ... ولا الإخوان إلاّ للتآسي عمرت الدنيا متلمساً بجهدي ... أخا ثقة فأكداني التماسي تنكرت البلاد عليَّ حتى ... كأن أناسها ليسوا بناس وقال غيره: هذا زمان تجاهل وتسامح ... وتغافل عن أهله فسد الورى فإذا سمعت فكن كأنك ما سمع ... ت وإن رأيت فكن كأنك ما ترى واجهد بنفسك في التخلص منهم ... فعساك تنجو إن نجوت وما أرى أو لا فكن في قعر بيتك لا ترى ... إن كنت ترغب في النجاة وبالحرى وقال أيضاً: عم الفساد جميع الناس ويحهم ... يا ليتَ شعريَ ماذا بعد ينتظر إن وعدُوا أخلفوا أو حدثوا كذبوا ... أو عهدوا غدروا أو خاصموا فجروا أو ائتمنتهم خانوا فكن رجلاً ... منهم على حذر قد ينفع الحذر وقال غيره:

ما في زمانك هذا من تصاحبه ... ولا صديق إذ حان الزمان وفى فعش فريداً ولا تركن إلى أحد ... فقد نصحتك نصحاً بالغاً وكفى وقال الأرجاني: تطلعت في يومَيْ رخاء وشدة ... وناديت في الأحياء هل من مساعد فلم أرَ فيما ساءني غير شامت ... ولم أرَ فيما سرني غير حاسد وقال غيره: خبرت بني الأيام طراً فلم أجد ... صديقاً صَدُوقاً مسعداً في النوائب وأصفيتهم منّي الودادَ فقابلوا ... صفاء ودادي بالقَذى والشوائب وما اخترت منهم صاحباً وارتضيته ... وأحمدته في فعله والعواقب وقال آخر: نحن والله في زمان غشوم ... لو رأيناه في المنام فزعنا أصبح الناس فيه من سوء حال ... حقّ من مات منهم أن يهنّا " وقول الآخر: أنعى إليك خلال الخير قاطبة ... لم يبقَ منهنّ إلاّ دارس العلم أنعى إليك مواساة الصديق وما ... قد كان يرعى من الأخلاق والذمم أين الوفاء الذي قد كان يعرفه ... قوم لقوم وأين الحفظ للحُرم أين الجميل الذي قد كان يلبسه ... أهل الوفاء وأهل الفضل والكرم أيسر وأنت صديق الناس كلهم ... ثمَّ ابلُ سرّهم في حالة العدم فإن وجدت صديقاً عند نائبة ... فلست من طرقات الحزم في أمم لما أناخ عليَّ الدهر كلكله ... وخانني كل ذي ود وذي رحم ناديت ما فعل الأحرار كلهم ... أهل الندى والهدى والبعد في الهمم قالوا حدا بهم ريب الزمان فسل ... أجداثهم عنهم تخبرك عن رمم وقول لبيد: ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب وتمثلت به أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - ثم قالت: وكيف لو أدرك لبيد زماننا؟ فقال عروة: كيف لو أدركت عائشة زماننا؟ ولما بلغ ابن عباس قول عائشة هذا قال: رحم الله لبيداً ورحم الله عائشة، لقد أصيب باليمن سهم في خزائن عاد كأطول ما يكون من رماحكم هذه مفَوَّق مَرِيش مكتوب عليه: " هذا ": ألا هل إلى أبيات منقطع اللوى ... لوى الرمل من قبل الممات معاد بلاد بها كنا وكنا منَ أهلها ... إذِ الناس ناس والبلاد بلاد أي فهذا العاديّ " في زمانه " يستنقص زمانه ويشير إلى أن الناس الأفاضل قد مضوا وأن الأرض تغيرت فكيف حال زمان لبيد ومن بعده كزمان عائشة. وقد تحصل من هذا ما قررنا في صدر الكلام " من " أن الدنيا لم تزل هكذا، والناس هم الناس مند خلقوا. " ولقد أحسن القائل: قل لمن لا يرى المعاصر شيئاً ... ويرى للأوائل التقديما إن هذا القديم كان جديداً ... وسيبقى هذا الجديد قديماً " فالأكمل للإنسان التسليم بل الرضى بوقته فإنه بذلك يفوز بالأدب مع الله تعالى الحكيم العليم الذي هو رب الأولين والآخرين ويفوز بشكره وحمده وبراحة قلبه والسلامة من التشوف والتطلع وسلامة الصدر لأهل زمانه والقيام بحقوقهم واعتقاد الخير في أهله والانتفاع بهم ورؤية المحاسن الوقتية والتغافل عن المساوي وغير ذلك. ولقد منح الله تعالى الصحابة الزمان الفاضل، فكانوا يذكرون ما مضى لهم في الأزمنة السالفة من صنوف الشر من عبادة الأوثان وارتكاب القبائح والجهد الجهيد فيحمدون الله تعالى ويشكرونه، وهكذا ينبغي للمؤمن أن ينظر إلى ما منحه الله تعالى من الخير في زمانه ديناً ودنيا وإلى ما أنجاه الله تعالى " منه " من الشرور الحالية والماضية فيحمد الله على ذلك. وقد جرت على لساني في هذا المعنى أبيات فقلت " مناقضاً لما تقدم من الأشعار ": نحمد الله وقتُنا وقتُ خير ... بذَّ ما قبله من الأوقات غير وقت النبي صلى عليه ال ... له والصحب والتُّلاة الهداة ديننا سالم من البدع العُم ... ي وعشنا بطيّب الأقوات لم تكن كالشرَاة نغشى المعاصي ... لتفوز بالخلد في الغُرُفات ضيعوا الدين بالمروق ودنيا ... هم بوقع الظبّات في السبدات لا ولا كالجبري والقدري النج ... س ولا سائر الجفاة الغواة والذي قد نلقى من المُرّ في الدن ... يا عسى أن نرقى به درجات وبنو الدهر هم بنو الدهر قِدْماً ... هم نبات ينمو بإثر

والطباع الطباع لست ترى في ... ها نُبُوّاً ولا اختلاف ومن اختصه الإله بخير ... فهو فيه من دارج أو آت نعم لا بأس بذكر الماضي من صلحاء الإخوان، والحنين إلى الأوطان، وإن ذلك يعد من حسن العهد، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم دخلت عليه امرأة فأكرمها وقال: " إنَهَا كَانَتْ تَأتينَا أيّامَ خَدِيجَة، وإنَّ حُسْنَ العَهْدِ مِنَ الإيمَانِ ". وكانت عائشة رضي الله عنها تقول: ما غِرْت على امرأة ما غِرت على خديجة، وذلك من كثرة ما كان يذكرها صلى الله عليه وسلم. وقيل لبعض الحكماء: بمَ تعرف وفاء الرجل وذمام عهده دون تجربة واختبار؟ فقال بحنينه إلى أوطانه، وتشوقه إلى إخوانه، وتلهفه على ما مضى من زمانه. وعن الأصمعي قال: إذا أردت أن تعرف وفاء الرجل وذِمام عهده فانظر إلى حنينه إلى أوطانه، وتشوقه إلى إخوانه، وبكائه على ما مضى من زمانه وكان سيدنا بلال - رضي الله عنه - ينشد: ألا ليت شعري هل أبيتَنَّ ليلة ... بوادٍ وحولي إذْخِر وجليل وهل أردنْ يوماً مياه مَجَنّةٍ ... وهل يبدون لي شامة وطَفيل وقد تقدم شيء من هذا قبل. وقال أبو العباس بن العريف - رضي الله عنه -: ما زلت مذ سكنوا قلبي أصون لهم ... لحظي وسمعي ونطقي إذ هم أنسي حلوا الفؤاد فما أندى ولو قطنوا ... صخراً لجاد بماء منه منبجس وفي الحشا نزلوا والوهم يجرحهم ... فكيف قروا على أذكى من القبس لأنهضنّ إلى حشري بحبهم ... لا بارك الله فيمن خانهم فنسي " وقال غيره: جسمي معي غير أن الروح عندكم ... فالجسم في غربة والروح في وطن فليعجب الناس مني أن لي بدناً ... لا روح فيه ولي روح بلا بدن وقال آخر: راحوا فباتت راحتي من راحتي ... صفر وأضحى حبهم لي راحا فتحوا على قلبي الهموم وأغلقوا ... باب السرور وضيعوا المفتاحا وقال غيره: يا راحلاً وجميل الصبر يتبعه ... هل من سبيل إلى لقياك يتفق ما أنصفتك جفوني وهي دامية ... ولا وفى لك قلبي وهو يحترق وقال غيره: ليكفكم ما فيكم من جوى ألقى ... فمهلاً بنا مهلاً ورفقاً بنا رفقا وحرمة ودي لا سئمت هواكم ... ولا رمت لي منه فكاكاً ولا عتقا سأزجر قلباً رام في الحب سلوة ... وأهجره إن لم يمت فيكم عشقا وقال غيره: ما ناح في أعلى الغصون الهزار ... إلاّ تشوقت لتلك الديار ولا سرى من نحوكم بارق ... إلاّ وأجريت الدموع الغزار وا أسفي أين زمان الحمى؟ ... وأين هاتيك الليالي القصار؟ واحر قلبي فمتى نلتقي ... وتنطفي من داخل القلب نار وأنظر الأحباب قد واصلوا ... ويأخذ الوصل من الهجر ثار أقول للنفس ابشري باللقا ... قد واصل الحب وقر القرار " وذكر في التشوف عن أبي شعيب السارية - رضي الله عنه - قال: كان إذا وقف على قبر شيخه أبي علي المسطاسي يقول: أي رجل دفن هاهنا! ما رأيت مثله وأنشد: أسفاً لأيام وإخوان مضوا ... ومنازل فارقتها مغلوبا قلبت قلبي جمرة من بعدهم ... ولبست عيشي بعدهم مقلوبا طالبت بعدهم الزمان بمثلهم ... فأجابني هيهات لا مطلوباً وحكي أيضاً عن أبي عمران الهسكوري الأسود أنه كان لا ترقأ له دمعة، فربما سئل عن كثرة بكائه فيقول: إنما أبكي على فقد من أدركته من الإخوان في الله عز وجل. ويحكى أيضاً عن أبي جعفر الأسود صاحب تاغزوت أنه كان يقول: أدركت ببلاد تادلا ثلاثمائة وسبعين رجلاً صالحاً كلهم يزارون، وأنشد: فآهاً من الربع الذي غير البلى ... وواهاً من القوم الذين تفرقوا أصون تراب الأرض كانوا حلولها ... وأحذر من مري عليها وأفرق ولم يبق عندي للهوى غير أنني ... إذا الركب مروا بي على الدار أشهق

مداراة الناس صدقة

تنبيه على حكم ما وقع من استنقاص الزمان واستنقاص أهله وسبهما يحسب النظر الشرعي أصلاً وفرعاً: فأما الزمان ويقال أيضاً الدهر فجرت عادة الشعراء وغيرهم قديماً وحديثاً بالتشكي منه والتبرم به ونسبة الإذاية والجور إليه. وقد يكون فيهم من يعتقد ظاهر ذلك " وهو مشرك، وقد يكون من لا يعتقد ذلك لكونه موحداً " بل إما غفلة وَجرياً على أسلوب من قبله من التعبير وإما مجازاً بطريق المقارنة لما يقع فيه من الأحداث والكوائن، والفاعل هو الله تعالى، فلا معنى حينئذ للتشكي منه ولا لسبه ولا استنقاصه فإن ذلك سوء أدب مع الله تعالى من جهتين: إحداهما أنه هو المتصرف في الكل، ولذا ورد في الخبر: " لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر " أي ما ترونه فالله تعالى هو فاعله. ثانيهما أنه يجب على المؤمن اعتقاد كل ما برز في كل زمان من التصرفات فذلك هو الصالح في ذلك الوقت الجاري على الحكمة سواء لاءم الطباع أو لا، ومن اعتقد خلاف ذلك فهو جاهل بالله تعالى جاهل بحكمته وقدرته، ولو ولي وال بلدة لم يتصرف فيها إلاّ بالحكمة والمصلحة إلاّ ما خرج عن علمه وطوقه، والله تبارك وتعالى حكيم، قاهر فوق عباده، غالب على أمره لا يتعالى عن قدرته مقدور، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة. ثم الزمان بمعزل عن العيب والنقص، فإنما ذلك في الناس، وما يقع منهم أو يقع لهم فهم أحق بالانتقاص كما قيل: يقول أناسٌ دهر سوء ليعذروا ... وهم عيبه عندي ولا عيب للدهر وأما استنقاص أهل الزمان كما مرّ فلا شك أنه لا يحرم إذ لا يدخل في الغيبة المحرمة حيث لا يكون التعيين. وقد استشعر محيي الدين ابن العربي في رسالة القدس ذلك حيث وقع في متصوفة زمانه فأجاب بنحو ذلك ونزع بما وقع لعائشة - رضي الله عنها - من ذم أهل زمانها كما مرّ وغيرها من أهل الدين، ولكن الأولى الإمساك عن ذلك لما قررنا قبلُ، ولأنه لا يكاد يحصل من ذلك طائل غير إتعاب المرء قلبه ولسانه وتعرضه لمثل ذلك. ومن ظنّ ممن يعاني الحروب ... بأن لا يصاب فقد ظن عجزا نعم ذكر ما يقع منهم من المناكر بالتنصيص بقصد الاحتراز مع الإنصاف كما فعل أبو العباس زروق في النصح الأنفع، وفي عمدة المريد نافع مفيد غير أنه صعب مفتقر إلى تحقيق في المدارك وتضلع في العلوم وتجربة تامة، فإن الأمور قليل منها ما يكون أمراً حقيقياً يذم من كل وجه أو يمدح، وأكثرها إضافي اعتباري يختلف باختلاف الأشخاص والمقاصد والأزمنة والأمكنة والأحوال فافهم. لله الأمر من قبل ومن بعد مداراة الناس صدقة

مما اتفق لي وينتظم في سلك الملح مع تضمن فائدة أني كنت خرجت من مدينة فاس - حرسها الله تعالى - أيا مالحصار، وأتينا على جبل بني زروال، ومعي جموع من الناس من طلبة وفقراء وتجار، فوافينا به رجلاً من أهل محبتنا، فكان ينصرف لي في أموري وفي أمور من معي من الناس يحسب تفقدهم وإنزالهم منازلهم. وربما نتردد فيريد أن يكشف لي عن رأيه في ذلك فيدنو مني ويناجيني، وكان ساقط الأسنان، لا يكاد يفهم كلامه، وكان مع ذلك كلام أهل تلك البلاد منغلقاً عنا لا نكاد نفهمه، ثم يخفت بصوته لئلاّ يسمعه من حضر، فيتكلم ولا أكاد أسمع من كلامه حرفاً واحداً، حتى إذا فرغ من حديثه رفع رأسه إلي وقال: هكذا يكون الكلام مفصحاً بها، فكنت في هذا أباسط أصحابي فأقول لهم: إن هذه الجملة الأخيرة من كلامه وقع فيها حكم بطريق القصر، وهو موقوف على أشياء قبله لم يحصل واحد منها، الأول سماع اللفظ فإنه مقدمة الفهم، الثاني معرفة الوضع فإنه شرط، الثالث فهم الألفاظ مفردة، الرابع فهم التركيب، الخامس فهم النسبة تصوراً، السادس فهم الحكم مطلقاً " أي من غير قصر " السابع فهمه مقصوراً، ثم إن الأخير أعني الحصر محتاج إلى دليل لأنه بسبيل المنع، ولم يحصل شيء من ذلك كله، وما توقف على ما لم يحصل فهو غير حاصل، ثم إني مع ذلك أستبشر عند حديثه، وربما أحرك رأسي موهماً أني قد حصلته، وأني قد استصوبت رأيه، وذلك أنه لم يمكني في الوقت غير ذلك، فإني إن راجعته ليبين لم يبين إلاّ بخفية كما فعل أولاً، فلا يحصل طائل، وقد علمت أن ليس في عدم تبين مقاصده مهمٌّ يفوت، لأن كل ما ينحو إليه من الرأي ويتشوف إليه من المصلحة فعندي بحمد الله ما يكفي فيه، فكنت أساهله وأتركه بحاله رفقاً به وجبراً لخاطره وتقللاً من الشغب وعندي على هذا النحو مذهب، وأرى كثيراً من الناس يَنْبُون عنه، وللتنبيه عليه مع التلميح السابق سطرت هذه القصة، وذلك أني أتغافل عما لا حاجة إليه، ولا أتتبع ما فيه تكلف ولا تدعو الضرورة إليه وإن ذلك عندي هو أسلم وأبعد عما يخشى من ارتكاب الفضول أحياناً، وتجاوز الحدّ أحياناً، وإحراج الصدر أحياناً واستثارة الشر أحياناً وأقرب إلى مكارم الأخلاق، وأدخل في المداراة المطلوبة، وأبعد عن الملاحاة المذمومة. وفي الحديث: " مُدَارَاةُ النّاسِ صَدَقَة " وفي حديث آخر: " رَأسُ العَقْلِ بَعْدَ الإيمَانِ بِاللهِ التَوَدُّدُ إلى النّاسِ " وفي خبر آخر: " التَوَدُّدُ إلى النّاسِ نِصْفُ العَقْلِ، وَحُسْنُ التَدْبِيرِ نِصْفُ المَعِيشَةِ، وَمَا عَالَ مَنِ اقْتَصَدَ " وقال الشاعر: ومن لا يغمض عينه عن صديقه ... وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب ومن يتتبع جاهداً كل عثرة ... يجدها ولا يسلم له الدَّهر صاحب وقال الآخر: أغمض عيني عن صديقي تغافلاً ... كأني لما يأتي من الأمر جاهل وما بي جهل غير أن خليقتي ... تطيق احتمال الكرهِ فيما تحاول ونحوه قول الآخر: أغمض للصديق عن المساوي ... مخافة أن أعيش بلا صديق وقال غيره: إذا كنت في كلّ الأمور معاتباً ... صديقك لا تلقى الذي لا تعاتبه فعش واحداً أو صل أخاك فإنه ... مقارف ذنب مرة ومجتنبه إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى ... ظمِئت وأي الناس تصفو مشاربه؟ ومن ذا الذي تُرضى سجاياه كلها؟ ... كفى المرء نبلاً أن تُعَدَّ معايبه وقال غيره: إذا ما الصديق أسا مرة ... وقد كان فيما مضى مجلا ذكرت المقدم من فعله ... فلم ينسني الآخر الأولا وقال غيره: وأغفر عوراء الكريمِ ادِّخاره ... وأعرض عن شتم اللئيمِ تكرّما وقال غيره: احرص على حفظ القلوب من الأذى ... فرجوعها بعد التنافر يعسر إنَّ القلوب إذا تنافرت وُدّها ... مثل الزجاجة كسرها لا يجبر " وعن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - خلال المكارم عشر تكون في الرجل ولا تكون في أبيه، وتكون في العبد ولا تكون في سيده، يقسمها الله لمن أحب: صدق الحديث، ومداراة الناس، وصلة الرحم، وحفظ الأمانة، والتذمم للجار، وإعطاء السائل، والمكافأة بالصنائع، وقرى الضيف، والوفاء بالعهد، ورأسهن كلهن الحياء. وقال الشاعر:

مناظرة المؤلف لشيخه

أحب مكارم الأخلاق جهدي ... وأكره أن أعيب وأن أعابا وأصفح عن سباب الناس حلماً ... وشر الناس من يهوى السِّبابا ومن هاب الرجال تهيبوه ... ومن حقر الرجال فلن يهابا وقال غيره: ولقد أمر على اللئيم يسبني ... فأجوز ثم أقول: لا يعنيني وقال غيره: إن المكارم أخلاق مطهرة ... فالعقل أولها والدين ثانيها والعلم ثالثها والحلم رابِعها ... والجود خامسها والعرف ساديها والبر سابعها والصبر ثامنها ... والشكر تاسعها واللين عاشيها والنفس تعلم أني لا أصدقها ... ولست أرشد إلاّ حين أعصيها والعين تعلم في عيني محدثها ... من كان من حزبها أو من أعاديها وقال غيره: اترك مكاشفة الصديق إذا ... غطى على هفواته ستر " وفي الحكمة: اللبيب العاقل، هو الفطن المتغافل، وفي قوله تعالى:) عَرَّفَ بَعْضَه وَأعْرَضَ بَعْضَه وَأعْرَضَ عَنْ بَعْضِ (مشرب في هذا المعنى، ويقال: ما استقضى كريم قط، وفي الحديث: " لَمّا أُسْرِيَ بي كَانَ أوَّلَ مَا أمَرَني بهِ رَبِّي أنْ قال: إيّاكَ وَعِبَادَةَ الأوْثَانِ، وَشُرْبَ الخَمْرِ، وَمُلاحَاة الرِّجَالِ " وفي حديث آخر: " احْذَرُوا جِدَالَ كُلَّ مَفْتُونٍ، فَإنَّهُ يُلَقَّنُ حُجَّتَهُ إلى انْقِطَاعِ مُدَّتِهِ " وقال الشاعر: إني محضتك يا كدام نصيحتي ... فاسمع لقول أب عليك شفيق أما المزاحة والمراء فدعهما ... خلقان لا أرضاهما لصديق وقال الآخر: اترك مكاشفة الصديق إذا ... غطى على هفواته ستر وهذا باب واسع مشهور، وفيما ذكرنا منه كفاية. لله الأمر من قبل ومن بعد استقراء المؤلف لهجة ريفية من جملة ما اتفق لي في هذه السفرة إلى جبال الزبيب وسفرات أخرى لزيارة الشيخ عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه أني سمعت لغة لأهل تلك الجبال: يكسرون آخر الموقوف عليا استقراء فتتبعتها فوجدتها لها ضابط، وقد رأيت غيرهم من أهل الآفاق يسمعون عنهم ذلك فيحكونه على غير وجه وينسبون إليهم ما لا يقولون جهلاً منهم بضوابطها، فإنهم لا يكسرون إلاّ الفتحة بعدها ألف، أما الألف المقصورة كالدنيا، أو الممدودة كالسماء والطلباء والشرفاء، والأصلية كالماء، أو المقلوبة عن هاء التأنيث في مجرى العرف كالبقرة والشجرة والصفحة فإن العوام من غيرهم يقولون في الوقف على هذه: البقرا والشجرا بألف، وهؤلاء يكسرون فيقولون: البقري والشجري وتنقلب الألف ياء، وهذا كله في الوقف فإن وصلوا نطقوا بالألف كغيرهم، وإن لم يكن الفتح ولا الألف كالشجر والبقر مراداً به الجنس وقفوا بالسكون كغيرهم، وأني لما تأملت ذلك من كلامهم وحققته في أقرب مدة اتضح عندي معنى الاستقراء في نحو هذا بالمشاهدة، وعلمت كيف كان أئمة العربية القدماء يستقرئون النحو واللغة من أفواه العرب ويضبطون لغة كل قبيلة في ذلك، وتبين أن ذلك أمر صحيح بيّن، وللتنبيه على هذا حكيت هذه القصة، فلا يقل جاهل: ما لنا ولهذه اللغة؟ فلتعرف أو لا تعرف، هذا مع أن معرفة الشيء خير من جهله، فالجاهل بالشيء أعمى فيه وفي ظلمة عنه، والعالم به بصير به وفي نور فيه،) وَهَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَالبَصِيرُ أمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ (والعلم ذخر يجده صاحبه عاجلاً أو آجلاً، وحجة ينتصر بها في الخطوب أيضاً. لله الأمر من قبل ومن بعد. مناظرة المؤلف لشيخه المرابط الدلائي ومما اتفق لي في هذا أني كنت قدمت في أعوام الستين وألف من رحلتي في طلب العلم، وكنت إذ ذاك شاباً، فدخلت الزاوية البكرية، فوجدت شيخنا أبا عبد الله محمد بن محمد المرابط - رحمه الله - قد جمع خطباً وعظية وتقدم إلى أهل الوقت في بلده ليكتبوا عليها تقريظاً، فكتب كل ما قدر له من نثر ونظم، فلما رأيت ذلك كتبت أنا أيضاً فوقع في مكتوبي لفظة القطائف " اللطائف " فاعترض علي ورام تبكيتي وقال: إنا لا نعرف القطائف إلاّ هذه المفروشات، فقلت له إن القطائف هنا جمع قطيفة بمعنى مقطوفة، فقال: هو صحيح في اللغة ولكن الأدباء لهم الاختيار وعندهم ألفاظ يستعملونها مخصوصة، فلا يرتكب عنده كل ما يقع في اللغة، فقلت له حينئذ: هذا أبو محمد الحريري يقول في " مقاماته ":

تنقل المؤلف في طلب العلم بالجنوب

فلا تعذلوني بعدما قد شرحته ... على أن منعتم في اقتطاف القطائف على أن ما زودتم من فكاهة ... ألذ من الحلوى لدى كل عارف فتلون وجهه - رحمه الله - وخجل ولم يرَاجعني بكلمة، فلولا معرفة المقامات واستحضار هذا البيت لأخجلني عوض ما كنت أخجلته، والشيء يذكر بالشيء. لله الأمر من قبل ومن بعد تنقل المؤلف في طلب العلم بالجنوب كنت أيام طلب العلم في بلاد القبلة " حتى " أخذت بطرف من العربية، فحدث لي انتقال على ناحية مراكش، وذلك في دولة السلطان محمد الشيخ، فأخذت في فنون أخرى كالأصول والمنطق والكلام، وتركت العربية، ثم إني دخلت السوس الأقصى واتصلت بشيخنا أبي فارس عبد العزيز أحمد الرسموكي رحمه الله، فوجدت أهل تلك البلاد يشتغلون بتصريف الأفعال ويستحضرون معها النصوص من الخلاصة ونحوها، فحضرت معهم فإذا أبيات الخلاصة تشذ عن فكري لطول العهد بها، فلما رأيت ذلك أحببت أن أحدث عهداً بها فقلت للطلبة: من أحب أن يسمع الخلاصة فليأتني، فشرعنا فيها، وكنا نجلس إليها بعد العشاء الآخرة بساعة " أو أكثر " فنقطع الليل كله في المجلس، وأنقل كل ما في شرح المرادي بأكمل التقرير والتحرير، وختمناه في نحو شهر وعشر ليال، وفي الليلة التي ختمناها نمت فرأيت فيما يرى النائم العذرة تخرج من جوفي على فمي كحالة القيء متصلة حتى انفصلت عني فلما انتبهت وقع في فكري أن ذلك هو الجهل بذلك الكتاب أو ذلك العلم خرج عني، فسرني ذلك، وفهمت من تصوير ذلك بصورة النجاسة أن الجهل قبيح وأن العلم كله حسن محتاج " إليه "، فإنه إما مقصود لذاته فيما تعبد به العبد، وإما معين على ذلك نوع إعانة، فمتى صلحت النية كان الجميع قربة وعبادة، ولقد حدثونا عن بعض الفقهاء ممن كان يواصل أشياخنا رحم الله الجميع وكان يدرس للطلبة الكتب المتداولة في الفقه والنحو والكلام وغير ذك من الفنون أنه توفي وأنه ريء بعد موته وسئل عما فعل الله به فأخبر أنه أثيب على كل كتاب من تلك الكتب بحمد الله، وذلك لصلاح نيته. وقد كنت دخلت يوماً على أستاذنا الإمام أبي عبد الله بن ناصر - رضي الله عنه - وكان يوم جمعة فوجدته في روضة الأشياخ، وإذا هو يقرىء لأولاده " ديوان الشعراء الستة " ويطرر على النسخة ما يحتاج من شرح الغريب ونحو ذلك، فقلت في نفسي: هذا يوم الجمعة يعتني فيه بالإقبال على العباد لشفوف فضله، وهذه الروضة موضع ذكر واعتبار، والشيخ - رضي الله عنه - أعرف، عنده النهاية في كل ذلك، فعلمت أن ذلك إنما كان لصلاح النية وصحة الإخلاص وذهاب الهوى، فكان كل ذلك عبادة أياً كان وفي أي موضع كان، ولهذا يقول أئمة الدين: إن علامة من يأخذ في العلم لله تعالى أن " لو " قيل له غداً تموت لم يطرح الكتاب من يده أي لكونه دخله بوجه صحيح، ولو كان أخذه فيه بالهوى لفر عند الإحساس بالموت عنه إلى الصحيح، وهكذا في جميع التصرفات. ولهذا كان بعض مشايخ الصوفية من ناحية العراق أخذ يبذر أرضاً فمر به بعض الأولياء طائراً في الهواء، وذلك في عشية ليلة عرفة فقال له الأول: إلى أين تريد؟ فقال: إلى الحج، فهل لك فيه؟ فقال: إني نويت أن أحرث هذه الأرض، وامتنع من الذهاب إلى الحج، وذلك لأنه دخل في هذا العمل بنية صحيحة فلم يكن ليتركه، وفي الحديث الصحيح: " إنّمَا الأعْمَالُ بالنّيّاتِ ". وقال تعالى:) ولا تُبْطِلُوا أعْمَالَكُمْ (وفي الحديث الآخر: " يَغْزُو جَيْشٌ الكَعْبَةَ وَفِيِهمْ أسْوَاقُهُمْ ثُمَّ يُخَفُ بِهِمْ وَيُبْعَثُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلى نِيّاتِهِمْ ". لله الأمر من قبل ومن بعد تأخير الصلاة حدثني الأخ الفاضل أبو الحسن علي بن أحمد الرماني قال: كان سيدي محمد الشرقي التادلاوي يوماً مع جماعة من إخوانه فحان وقت الصلاة فجاء المؤذن يؤذنه بالصلاة فتغافل عنه، ثم رجع إليه ثانياً وثالثاً، فلما ضاق الأمر بالمؤذن شرع في إقامة الصلاة من غير إذن، فقال له الشيخ: ما أعجلك؟ إن الصلاة تقضى أو تدرك، ومجلس الأخوان لا يقضى.

أبو بكر الدلائي يكرم العكاكزة مداراة لهم

قلت: وهذا يذهب به العوام ويرتكبون ظاهره، وتأخير الصلاة عن وقتها لا يجوز لشيء من الأشغال أو الفضائل إلاّ العجز، وما لا يجوز لا يفعله الولي اللهم إلاّ مغلوباً بوارد، ولا يقتدي به في تلك الحالة مع أن الموفق محفوظ، أما التأخير عن أول الوقت مثلاً فقد يكون لأمر مهم أو فضيلة تربو، ومحل العذر أو الترخص في السفر أو نحوه معلوم. وحدثونا عن سيدي عبد الله بن " عمرو " المضغري أنه أرتحل إلى مليانة لقصد ملاقاة الشيخ أبي العباس سيدي أحمد بن يوسف الراشدي والأخذ عنه، فوافى البلد وقت صلاة العصر، وقد كان صلى، فلما انتهى إلى زاوية الشيخ سأل عنه فقيل له: إنه لم يصل العصر " بعد " فأنكر ذلك وقال: إن هذا الرجل لم يحافظ على أول الوقت، وانصرف عنه، وذهب إلى سيدي عبد العزيز القسمطيني فأخذ عنه - نفع الله بالجميع -. وقد صار ذلك التأخير الذي وقع للشيخ سبباً لانصراف الآخر عنه حيث لم يسبق القدر بأن يكون من أصحابه وإلاّ فللناس أعذار. ومن الملح في تأخير الصلاة أن الفقيه أبا عبد الله محمد بن سودة قاضي مدينة فاس - رحمه الله - كان يؤم بجامع القرويين وكان يؤخر صلاة الصبح تأخيراً مفرطاً، فحدثني بعض الأصحاب قال: لقيت صبياً من أهل فاس " إذ ذاك " فسألته عن صلاة الصبح في القرويين هل أدركها؟ فقال لي: والله لا تمشي إليها إلاّ بالمظلة، يعني التي تجعل على الرأس اتقاء الشمس، وهذا إفراط في المبالغة. ومما اتفق في هذا الإنكار ولكن في العكس، وهو التقديم ومزاحمة الوقت، حدثونا عن الفقيه الصالح أبي عبد الله سيدي محمد بن سعيد الميرغتي أنه ورد على شيخنا وأستاذنا ومفيدنا الإمام أبي عبد الله سيدي محمد بن ناصر الدرعي - رحم الله الجميع ونفعنا بهم - فكان المؤذن إذا أذن " المغرب " ينكر عليه ويقول له استعجلت: فلما أكثر في ذلك وانتهى الأمر إلى الشيخ خرج إليه فسار معه إلى صومعة الجامع الكبير وذلك في عشي النهار، فجلسا بأعلى الصومعة يتحدثان والمؤذن الذي كان ينكر عليه في مسجد الخلوة بعيداً عنهما بنحو مد البصر، وبقيا في حديثهما حتى غربت الشمس وأقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا فقال الشيخ للفقيه المذكور: أقد تبين الوقت؟ قال نعم، وبفور كلامه قال مؤذن الخلوة: الله أكبر، وجعل يؤذن فعجب الفقيه من هذا الاتفاق الغريب، وعلم أن الأذان كل يوم كان على الصحة، فلم يعد إلى الإنكار. لله الأمر من قبل ومن بعد أبو بكر الدلائي يكرم العكاكزة مداراة لهم حدثني الأستاذ المقرئ الفاضل أبو عبد الله الشرقي بن أبي بكر عن والده سيدي أي بكر أنه كان ذات مرة هربت العكاكزة أولاد عبد الحق بن المنزول من بلادهم فنزلوا بساحته وهم جياع، ووجدوا زرع زاويته محصوداً مجموعاً فقال لهم: ادرسوا وكلوا، فقام إليه ولده الكبير أبو عبد الله محمد ابن أبي بكر فأنكر ذلك وقال: إن هؤلاء فساق أو كفار، ثم هم ظلام محاربون فكيف تعينهم وتبيح لهم زرع المساكين؟ فقال أبوه: إني أريد أن أتخذ عندهم يداً فإذا استلبوا مسكيناً يوماً " ما " وجاء إليّ يشتكي كتبت إليهم كتاباً فلا بد أن يراعوا هذا الخبر فيردون عليه متاعَهُ فأنا إنما فعلت هذا لحق المساكين. قلت ولعل هذا هو نظر ولده المذكور في المسعود بن عبد الحق، فإنه كان يدنيه حتى إنه كثيراً ما يكون أول داخل عليه وآخر خارج حتى إن الفقيه النحوي الحافظ أبا عبد الله محمد بن أبي بكر الإسحاقي الجراني وكان ابن أبي بكر يجفوه كان يقول: وإنما دنياك بالسعود ... وإن شككت انظر إلى مسعود وحدثونا عن مسعود هذا أنه " كان " يحضر مع الناس مجلس البخاري فاحتالوا عليه يوما حتى أوقعوا نقطة مداد على رجله، فلما رجع من الغد لحظوها فإذا هي بحالها فعلموا أنه لم يكن يصلي، أو يصلي بغير طهارة، وهذا الذي فعله المرابط المذكور داخل في باب الرفق والمداراة.

ونحو منه ما حكى المواق في سنن المهتدين عن شيخه ابن سراج عن الشيخ الزيات ببلش وكانت بيد بعض الرؤساء من الملوك النصريين وكان هذا الرئيس يأتي حلقة الشيخ المذكور فيتزحزح له الشيخ ويرحب به فكان بعض الطلبة يجد في نفسه من ذلك فبينا ذلك الطالب يجيء من قريته بشِقصِ حرير في يده أخذه له شرط فجاء إلى الشيخ وشكا له، فأمر الشيخ مؤذناً أتى الرئيس، فما كان أسرع " أن " أتى الرئيس على الرئيس على عادته، وتزحزح له الشيخ وجلس، ثم بعد الفراغ من المجلس وأراد القيام قال الشيخ: أنت أرسلت في هذا؟ وأخرج الحرير فقال: نعم، هو لهذا الطالب " فقال الرئيس للطالب: خذ يا حبيبي متاعك وانصرف فقام الشيخ " وقال لذلك الطالب: يا زبلح لمثل هذا " هو " ذلك التزحزح. وحدث عن إمامنا مالك رضي الله عنه " أنه " قيل له: تترك الجماعة والجمعة وإذا دعاك السلطان أسرعت إليه فقال: لو لم أفعل هذا لم تر بهذه البلدة سنة قائمة. ومن هذا القبيل ما كان فعل الإمام العلاّمة القاضي إسماعيل بن حماد، فقد روي أنه دخل عليه عبدون صاعد الوزير، وكان نصرانياً، فقام له ورحب به ورأى ممن حضر من العدول وغيرهم إنكاراً لذلك فلما خرج قال لهم: قد رأيت إنكاركم، وقد قال الله تعالى:) لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ في الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أنْ تَبَرُّوهُم (. وهذا الرجل يقضي حوائج المسلمين، وهو سفير بيننا وبين المعتضد، وهذا من البر، فسكت الجماعة، وهذا كله داخل في أبواب سد الذرائع وفتحها.

واعلم أن الذريعة هي المدخل إلى الشيء، فإن كان الشيء خيراً فحقها أن تفتح، وإن كان شراً فحقها أن تسد، وتقرير هذا المعنى أن المراد السبب المفضي إلى السبب إفضاء عادياً أو إفضاء عادياً كلياً أو أكثرياً أو حالياً بحيث إن من سعى في استحصال الأول هو ساع في استحصال الثاني بالتبع، ثم الإفضاء إما أن يكون ذهنياً فقط، كما في الفرضيات، أو خارجياً فقط، كما في الاتفاقيات، أو ذهنياً خارجياً، وهو الأكثر، ومتى اعتبر مجرد الربط ولو جزئياً فالذهنيّ أعم مطلقاً، ثم الطرفان قد يكونان جائزين نحو: لو جاءني زيد أكرمته، وقد يكونان واجبين نحو: لو كان الله تعالى عالماً كان حياً أي لكنه عالم فهو حي، وقد يكونان مستحيلين عقلاً نحو: لو وجد شريك لله تعالى لمانَعه على الفعل، وهذان المثالان معاً من قسم ما هو ذهني فقط، لأنه لا تصح السببية الخارجية في شيء من الواجب ولا المستحيل، وقد يكونان مستحيلين عادة نحو: لو وجدت في الأرض جبال من ذهب لاستغنى الناس كلهم في الدنيا، ولو طار زيد إلى السماء لرأى معمور الأرض كله في مرة، ثم الجائزان عقلاً قد يكونان مطلوبين معاً شرعاً، إما وجوباً أو ندباً، كفعل الطواف وفعل السعي بعده، وتلاوة القرآن وسجود التلاوة معه، ونحو ذلك، ولا إشكال فيه، وقد يكون الثاني هو المطلوب بالذات، فيستتبع الأول كقتل النفس قصاصاً، فيستتبع ما تزهق به الروح من حز الرقبة ونحوه، وذبح الضحية فيستتبع ما تحصل به الذكاة شرعاً من قطع الحلقوم والأوداج، ويعرف هذا القسم في أصول الفقه بالمقدمة، وعندهم فيه اختلاف مشهور، هنالك، وقد ينعكس " الأمر " فيكون المطلوب شرعاً هو الأول فقط كصلة الرحم المفضية بإذن الله إلى سعة الرزق والبركة في العمر على ما ورد به الوعد الصادق، وكالإسلام المفضي إلى سلامة الدماء والأموال، وكالإخلاص فيه المفضي إلى نور الوجه وانبساط الروح، وهذا القسم داخل فيه العبادات كلها بحسب ما تفضي إليه من الثواب عليها، غير أن ما كان من هذه الثمار دنيوياً كالذي صدرنا به فيجب ألاّ يقصد عند عمل العبادة، وإلاّ فات الإخلاص، وما كان أخروياً فلا بأس أن يقصد في مقام الإسلام، وقد يكونان منهيين معاً كتزوج الخامسة ووطئها وشراء الخمر وشربها، فيتركان معاً، وقد يكون الأولى مباحاً بذاته شرعياً، والثاني حراماً، فيحرم الأول تبعاً إذا اعتبر الإفضاء كبيع السيف من قاطع الطريق مع العلم به وكبناء الدار لتكون ماخوراً أو معصرة خمر، وغير ذلك مما يكثر، وهو داخل في سد الذرائع المتفق عليه، فإن لم يكن الإفضاء معتبراً، وذلك عند كون الأول مهماً في نفسه، والثاني غير مقصود لم يمنع، كغرس الأعناب في الدنيا مع أنه يؤدي إلى عصر الخمر وشربها، وكالخروج في ضروريات العيش ودخول الأسواق مع أنه قد يؤدي إلى رؤية أجنبية أو وقوع في خصام أو قتال أو معاملة ممنوعة، فهذا ونحوه من الذرائع التي لا يراعى سدها عند أحد، وقد يتعين شيء من ذلك جزئياً فيجب أن يعطى حكماً جزئياً، وقد يكون الأول حراماً ويكون الثاني مباحاً في ذاته فيحرم أيضاً إذا اعتبر الإفضاء كما حرم أصله. وذلك كمزاناة الرجل المرأة على أن تسكنه دارها أو تتفق عليه، وكذا العكس إلاّ ما أباحته الضرورة، ويكفي في هذا القسم ترك الأول امتثالاً فيبطل الثاني وقد يكون الأول خلاف الأولى، فإن أفضى فعله إلى مصلحة يضمحل فساده في جنبها أو تركه إلى مفسدة يكون التحرز عنها أهم ارتكب لأجل ذلك لا لذاته، ومن الأول ما صدرنا به هذه الترجمة من فعل القاضي إسماعيل مع النصراني، وكذا فعل المرابط المذكور، وهذا في المعنى " فيه " جلب مصلحة ودرء مفسدة هي الشحناء والبغض وما ينشأ عنه، ففيه فتح الذريعة من وجه، " وسدّها من وجه "، ومن الثاني مسألة الشيخ عز الدين حيث ترخص في القيام لأهل المناصب جبراً لقلوبهم، وتوقياً من الشحناء والتدابر والتقاطع المنهي عنه، وفيه الاعتباران أيضاً، فالباب الواحد، وقد يكون الأول مطلوباً وجوباً أو ندباً في ذاته، ولكنه يفضي إلى مفسدة ينهى عن ارتكابها فيترك، وذلك كالخروج لطلب الماء للطهارة المفضي إلى تلف النفس بالسباع، أو المال بالسرقة ونحو ذلك مما لا يأتي عليه الحصر، وتوجيهه أن درء المفسدة أهم من جلب المصلحة، أو الحكم الأول أعني الوجوب أو الندب مقيد بالشرط في أصله، فإذا انتفى انتفى

استحلاء الطاعات سموم قاتلة

والثاني يبحث فيه بأنه أي موجب لهذا التقيد فلا بد أن يرجع الأول إلى الوجه الأول وهو أمر مجمل يتداوله الناس " أبداً " فلا بد من البحث عن وجهه وأنه كيف كان درء المفسدة أهم، وفي تحريره طول، ويكفينا فهمه في المثال المذكور فنقول: لو خرج للماء ليحافظ على الطهارة المائية فافترسه الأسد ضاعت حياته وذهبت الصلاة، والطهارة مائية وتُرابية فعبادة الله التي يريد أن يجودها أتلفها رأساً فكان الاكتفاء بطرف وهو التراب واتقاء المفسدة أولى من جلب المصلحة المؤدي إلى ضياع الكل وهكذا في سائر الأنواع. ولعلك تخرج بهذا التقرير عما يهجس في نفوس الجهلة عند سماع تلك الأحكام من توهم أن النفوس والأموال والأعراض ونحوها مقصودة بالأثرة على دين الله تعالة، كلاّ، وإنما ذلك " كله " محافظة على دين الله تعالى، فإنه لا بقاء له مع هلاكها، فافهم. وينخرط في هذا القسم ما منع من سَبّ الكفار كفاحاً حذاراً من أن يسبّوا الله تعالى ودينه، قال تعالى:) وَلا تَسُبُّوا الَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ (والتقاسيم لا تنحصر فيما قررنا، ولكن فيما ذكرنا تنبيه على ما ورائه. واعلم أن كل ما تقرر فيها باعتبار الحكم الشرعي محافظة على التقوى يتقرّر نحوه باعتبار المحاسن العادية محافظة على المروءة، وذلك ملتحق بالدين أيضاً ولا حاجة إلى تتبع التفاصيل، والله الموفق. لله الأمر من قبل ومن بعد استحلاء الطاعات سموم قاتلة حدثني بعض الفقراء عن شيخ له من أهل العصر المتصدر لصحبة المريدين أنه بينما هو جالس في محله جاء فقير غريب، وأظنه قال: من " ناحية " السوس الأقصى، فلما قرب منه تكلم لبعض من كان حاضراً بلسانه البربري فقال له: قل لذلك " الرجل يعني " الشيخ المذكور: أما بقيت في الدنيا مصابيح يقتبس الضوء منها؟ فبلغ الرجل لذلك الشيخ فقال الشيخ: قل له: قد بقيت، ولكن من جاء يقتبس أتى بفتيلة مبلولة، فقال الفقير: قل له: ما معنى بللها؟ فقال الشيخ: قل له: لا أقل من أن يطلب أو يترجى الولاية، فقال: فوضع الفقير يده على جبهته ساعة ثم انصرف من هنالك، فلما رأيت الفقير الذي حدثني تبجح بهذا الكلام الصادر من شيخه وجعله من التنبيهات المهمة للسالك، وكنت جاريته كلاماً في استحلاء الطاعة فقال: إن تلك الحلاوة علة، وعلمت أنه أيضاً قد بنى على ذلك وأنهم سمعوا نحو قول الواسطي رحمه الله: " استحلاء الطاعات سموم قاتلة " فأردت أن أنبّه على غلط يخشى في هذا الأمر، فأقول وبالله التوفيق: إن كلاً من الكلام الواقع للواسطي والواقع من هذا الشيخ صحيح في نفسه، وهو تحقيق في بابه، وعند أربابه، أما إلقاؤه لعوام المتوجهين فغلط في التربية، إما جهلاً وقصوراً، وإما تمويهاً وتظاهراً بالنهايات، أما حديث الولاية فمن وجهين:

الأول أن التدريج معتبر عند الناس، وهو حكمة الله تعالى البالغة الجارية في الناميات الحسيات والمعنويات، ثم ارتكاب أخف الضررين مطلوب شرعاً، فلو رأينا مثلاً كافراً مضراً بالمسلمين وتعذر قطع ضرره بالسيف فإنا إذا أمكننا أن نستنزله عن الضرر بسبب " من " موعظة أو مال أو حظ ما فعلنا ذلك، ورأيناه إذا نزل عن ذلك أفضل من غيره، وإلى هذا الفضل إشارة حديث: " أسْلَمْتَ عَلى مَا سَلَفَ لَكَ مِنْ خَيْرٍ " ولو أمكن أن نستدرجه إلى الإسلام ولو بحظ من دفع مال أو إظهار حفاوة مثلاً لفعلنا ذلك، وهو التأليف الذي جاءت به الشريعة، ورأيناه إذا أسلم ولو مع شوب الحظ أفضل ممن بقي على الكفر المحض ولا نلزمه في هذه الحالة الإخلاص وحقائق الإيمان لأنا نرجو أن سيعاشر المؤمنين ويعاين محاسن الإسلام فلا يزال يتمكن ويصفو، وهكذا وقع لكثير ممن أسلم أوّلاً رغبة في المعاش واستحلاء للغنائم، أو هرباً من الجلاء والسيف. ثم إن المسلم إذا كان مسرفاً على نفسه وأمكننا أن نستجرّه إلى ترك المعاصي والتنزه عن الفسق فعلى هذا النمط ولو تاب إلى الله تعالى وأقلع عن الشهوات الدنيوية طلباً لما أعد الله تعالى في الدار الآخرة من النعيم الذي لا يوازيه نعيم الدنيا ولا يدانيه، وكان لا يجد من نفسه في الحال نزوعاً عن اللذائذ العاجلة إلاّ بما يمنيها به من اللذائذ التي هي أشرف وأنفس فإنا نساعده على هذه العزمة ولا نذمه بأنه انتقل من حظ إلى حظ، ولا نطالبه بارتفاع الهمة " إلى الحضرة " والتخلي عن الدارين، فإن هذا لم يكن بعد من أهل هذا الشأن، وأن النفس لَجوج مصرّة على حظوظها الحسية، وإنما تنزل عنها بالطمع فيما هو من جنسها وأشرف منها إلاّ من خصه الله تعالى. وقد قال صاحب " القواعد ": " ما جبلت عليه النفوس فلا يصح انتفاؤه عنها، بل ضعفه وقوته فيها، وتحويله عن مقصد لغيره، كالطمع لتعلق القلب بما عند الله تعالى توكلاً عليه ورجاء فيه والحرص على الدار الآخرة بدلاً من الدنيا ... " إلى آخر كلامه فلو ألزمنا هذا عزل النفس عن الحظوظ وتجريد القلب للحقيقة أوشك تحيص نفسه حيصة وهي لم تزل قوية، فيعود من حيث جاء، ولعلك تفهم بهذا سر امتلاء كتاب الله تعالى بذكر الجنة وما فيها من الحور والقصور والغلمان والأنهار، فإن الدعاء بمثل هذا هو مشرب النفس، وهو حال عامة الخلق، والله تعالى أعلم بمصالح عباده. ثم إذا ترفع المزيد عن هذه الحالة واشرأبَّ إلى ما وصل إليه العارفون، وانتهض لسلوك هذا المسلك والاشتغال بعمله من العزلة والصمت والجوع والسهر فلو توسمنا فيه التشوف إلى حصول الوصول، أو الولاية، أو المعرفة، أو الفتح، أو القرب، أو نحو ذلك فلا ينبغي أيضاً أن نعالجه بالتحقيق ونطالبه بالعبودية والفناء عن الأغيار من أول وهلة، بل نرخي له العنان حتى يتمكن في الرياضة وتنقاد نفسه ويقشعر جلده وقلبه لذكر الله، فعند ذلك تسهُلُ إشالته مع السابقة والتوفيق إما على لسان شيخ ناصح أو أخ صالح أو بعض من ينصره الله به كما وقع للشيخ أبي الحسن رضي الله عنه حيث قال: كنت أنا وصاحب لي في مغارة نتعبد ونقول: غداً يفتح علينا، وهكذا وطال علينا الأمر، فبينما نحن كذلك يوماً دخل علينا رجل من باب المغارة فسلم ورددنا عليه ثم قلنا له: من أنت؟ فقال: عبد الملك، فعلمنا أنه من أولياء الله، فقلنا له: كيف أنت؟ قال كالمنكر علينا: كيف أنت؟ كيف أنت؟ كيف حال من يقول: غداً يفتح علي فلا فتح ولا فلاح، ولا دين ولا دنيا، يا نفس لم لا تعبدين الله مخلصة له الدين، قال الشيخ: فعلمنا من أين أتينا ورجعنا على أنفسنا باللوم، وقلت: يا نفس، أي شيء أنت حتى تطلبي ما تطلبين أو كلاماً هذا معناه، فقال فجاء الله تعالى بالفتح أو موهبة من الله تعالى بلا واسطة سبب، وما ذلك على الله بعزيز. وبالجملة فدواعي النفس صعبة الانفصال عن الإنسان، ومع ذلك فهي معينة في بابها " إنَّ اللهَ يؤيِّدُ هَذا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الفَاجِرِ "، ومتى وافق الحق الهوى فزبد وعسل.

ثم " إن " التجرد العام، والصفاء التام، عزيز الوجود، ومن ثم قال الشيخ أبو العباس بن العريف رحمه الله: علق العباد بالأعمال، والمريدون بالأحوال، والعارفون بالهمم، فالأعمال للجزاء، والأحوال للكرامات، والهمم للوصول، والكل عمى وتلبيس، إلى أن قال: وإنما يبدو الحق عند اضمحلال الرسم، وما سوى الله حجاب عنه، فهذا مقام التحقيق، ولكن لمن أهل له وبلغه، وليس للمرء أن يلزم به المريد بأول قدم، ولا أن يطمع بحصوله لكل متوجه، ولا أن يطمع بحصوله لكل متوجه، ولا أن لم يحصل له لم يحصل له فليس من أهل الطريق، " كلا " لينفق ذو سعة من سعته، ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله. والرباني هو الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، وما على العبد إلاّ تعاطي الأسباب، وعلى الله فتح الباب، وهو موهبة وخصوصية من الحق لا تنال بمقياس، فمن أراد الله تعالى توصيله طوى عنه مسائف نفسه، ومحا عنه وهمه، فإذا هو عند ربه ومن أراد أن يمادَّه في ميدان أوهامه بقي فيها بقاء بني إسرائيل في التيه. أما ترى إلى قول الشيخ عبد السلام بن مشيش في برد الرضا والتسليم: أخاف أن تشغلني حلاوتهما عن الله تعالى: فنقول: نعم، ثم لو جرد عن تلك الحلاوة لأوشك أن يشتغل بذلك التجريد عن الله تعالى ما دام يلاحظه، فإن كل ما سوى الله حجاب عنه، ثم هكذا في التجريد عن التجرد والفناء عن الفناء إلى ما لا يتناهى حتى يقطع الله تعالى ذلك بموهبته لمن اختصه من عباده. وأما الوجه الثاني فإن هذا الكلام يوهم قلوب عوام المريدين أن الولاية لا تطلب رأساً، وأن المريد متى طلب من الله تعالى أن يرزقه الولاية أو الفتح أو المعرفة أو القرب أو الوصول أو نحوها، أو تشوف إلى شيء من ذلك فهو معلول السلوك، أو هالك مقطوع، وهذا غلط وجهل، كيف والعبد مأذون له أبداً أن يسأل مولاه ويطلبه في حوائجه من أدناها كشراك النعل فإنه إن لم ييسره لم يتيسر إلى أعلاها كرضاه، فإذا طلب من مولاه أن يرزقه ما رزق أولياءه في الدنيا والآخرة فأي حَرَج عليه في ذلك إذا وقف على حدود الأدب؟ وإنما حذر الناس من العلل والصوارف، وذلك أن يكون الباعث له على الانتهاض إلى السلوك والاشتغال بالعبادة إنما هو حصول الولاية مثلاً، فإنه حينئذ يفوته الاخلاص في عبادته فيفسد أمره، ويكون ما يرجو من الولاية مثلاً شاغلاً لفكره وسره عن الله تعالى. فأما من عرف الحق وأن العبد يعمل تعبداً والمولي يعطي تفضلاً لا غير وانتهض على ذلك الوجه يعبد الله تعالى امتثالاً لأمره، وأداء لحق ربوبيته على باب مولاه وسيده ورجاء للنيل من مائدته الموضوعة للخيار فلا بأس عليه، ولا مذمة تلحقه، ولا علة تدخل عليه ما دام على هذه الحال.

تدبر العقل في أسرار الكون

نعم الناس في أمر الطلب والدعاء لا في هذه ولا في غيرها صنفان: " صنف " يسلم ولا يطلب، " وصنف يطلب " وذلك " بسبب " اختلاف المشارب وتباين الشهادات، فمن أشهده الله تعالى كونه عبداً مملوكاً مكفولاً بعين مولاه وفي حياطته لم يبق له دعاء ولا طلب، بل التوكل والتسليم وانتظار القسمة السابقة، وله في هذا مشارب، فقد يلاحظ حياطة المولى وكفالته فيستغني، وقد يلاحظ انبرام القسمة وأن الدعاء لا يزيد فيها ولا ينقص فيمسك، وقد يلاحظ علم الله تعالى وقدرته وجوده فيستحيي، إذ لا ينبه إلاّ غافل، ولا يستنهض إلاّ عاجز ولا يستعطف إلاّ بخيل، إلى غير هذا من الواردات، وقد يلاحظ إساءته وتقصيره في الخدمة فيستحيي أن يطلب، ومن أشهده الله تعالى " كونه " عبداً فقيراً محتاجاً إلى سيده لا يستغني عنه لحظة، وقد أذن له في رفع حوائجه إليه فليس إلاّ الدعاء والطلب، وله في ذلك أيضاً مشارب، فتارة يسترسل مع وصفه من الافتقار واللجأ إلى مولاه، وتارة يرى تعاطي ذلك وإظهاره هو اللائق بالعبودية، وتارة يلاحظ امتثال أمر الله تعالى حيث طلب من عباده أن يدعوه، وذلك كله من غير التفات إلى حاجة تقضى ولا ثمرة غير ما حصل له من التعبد والمناجاة والتذلل بين يدي الملك الجليل، وناهيك بذلك ثمرة " مع " ما يرجى أن يستتبعه ذلك من رضوان الله تعالى، وهو نهاية السول وغاية المأمول، وهذا كله لمعرفته بأن القسمة قد سبقت لا تزداد ولا تنقص، ومحال أن يكون الدعاء اللاحق، سبباً للعطاء السابق، فلم يبق إلاّ أن الدعاء عبادة وتأدب مع الرب تعالى، والرب يفعل ما يشاء " ويحكم ما يريد "، وقد يلاحظ أن من جملة ما يقضى ترتب بروز العطاء على الدعاء، وأن الاشتغال بالدعاء سبب كسائر الأسباب فينتهض لإقامة الحكمة في تعاطي الأسباب وامتثال أمر الله تعالى في ذلك إذا أقيم " فيه " وهذا الوجه هو الذي يظهر من أحوال من يتحرى أوقات الاستجابة وأسبابها من الصالحين، والأوجه كلها حسنة لا يخرج المتلبّس بشيء منها عن الخصوصية، نسأل الله تعالى أن يمنحنا حسن الأدب بمنه. ثم الداعي أيضاً له حالتان، لأنه إما أن يشهد حال نفسه من الإساءة والتقصير والخساسة الذاتية والذلة والمهانة فلا يدعو إلاّ بما يناسب ذلك من العفو والمغفرة والنجاة من النار والإقالة واللطف ونحو ذلك، وفي هذه الحالة قال القائل: تجرأت البارحة فسألت الجنة، وقال الآخر: سبحان الله متى خرجنا من النار حتى نطلب الجنة، وإما أن يشهد وصف ربه من الكرم والجود والفضل، أو يشهد أنه عبد للمالك العظيم، ويلاحظ نحو قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا سَألْتُمْ اللهَ فَاسْتَعْظِمُوا المَسْألَةَ، فَإنَّ اللهَ لا يَتَعَاظَمُهُ شَيْء " فيدعو بما يناسب ذلك من الجنة والدرجة العلية، والرضوان والمعرفة، والمحبة والقرب والولاية، ونحو ذلك، ولا شك أن الحلة الأولى هي أنسبُ بالعبد في هذه الدار وأسلم له، ولكنه بيد الله تعالى يتصرف ويتلون بحسب سابق المشيئة. وأما الحلاوة فمن جهة ما ذكرنا من التدريج، فإنا نود أن لو وجد المسرف حلاوة للطاعة وتبعها حتى يترك فسقه ويتمرن على العبادة، فعسى أن ينقله الله إلى حالة أخرى أرفع، وقد تكلمنا فيما لسنا من أهله وتعدينا طورنا، فنستغفر الله تعالى. لله الأمر من قبل ومن بعد تدبر العقل في أسرار الكون اعلم أن الله جل أسمه بلطيف حكمته وبديع صنعته خلق العقل وجعل غذاءه العلوم والمعارف، ويسر له الاستعداد من الموجودات قال تعالى:) إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب (وقال تعالى:) وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم (فما من شيء يبرز في الوجود من السماء والأرض وما بينهما إلاّ ويمكن أن يكون للعقل فيه غذاء بحصول علم أو علوم، ويختلف ذلك باختلاف العقول فطنة وجموداً أولاً، وباختلاف مواهب الله تعالى وفتوحه ثانياً، ويجري ذلك في الجواهر والأعراض وما لها من الكميات والكيفيات والهيئات، فمن رزقه الله تعالى فطنة استفاد من الأمور ما يستغربه أهل الجمود.

تذوق الصوفية معاني الأبيات

ومن هذا ما وقع للحكماء في البرهان وفي الفلسفة وفي الهندسة وفي أنواع الصنائع والحرف وأصناف الحيل وضروب الغرائب في الأفعال والأقوال، ومن رزقه الله تعالى فهماً من لدنه ونوراً كان أقوى وأكثر، حتى لا يكاد يطير طائر إلاّ استفاد من طيرانه، أو يصر باب إلاّ استفاد من صريره، أو يتكلم متكلم إلاّ استفاد من كلامه، ما لم يرده المتكلم ولم يخطر له ببال، وهذا مشهور عند أهل الطريق من العارفين والمحبين والمريدين الصادقين رضي الله عنهم. لله الأمر من قبل ومن بعد تذوق الصوفية معاني الأبيات والإشارات تأويلها حسب المقامات وقد قال أبو نواس في ممدوحه: تغطيت عن دهري بظل جناحه ... فعيني ترى دهري وليس يراني فلو تسأل الأيام عني ما درت ... وأين مكاني ما عرفن مكاني فكان هذا مشرباً عندهم في حق أهل كهف الإيواء من الأصفياء الأخفياء رضي الله عنهم، وهو واضح. وقال أيضاً في الخمريات: إذا العشرون من شعبان ولّت ... فواصل شرب ليلك بالنهار ولا تشرب بأقداح صغار ... فقد ضاق الزمان على الصغار فصار عندهم موعظة في الإكثار من العمل الصالح والتشمير للتزود للمعاد، ولا سيما عند إيناس قرب الأجل، وخشية فوات الأمل. وقال أيضاً: دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ... وداوني بالتي كانت هي الداء فصارت مشرباً للمحبين أهل الشوق والذوق، رضي الله عنهم. وفي مناقب الشيخ أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه، أنه في مسيره إلى المشرق، وكان في محفّته، فكان فتيان ذات يوم يمشيان تحته في ظلها ثم جعلا يتحدثان، فقال أحدهما " للآخر ": يا فلان مالي أرى فلاناً يسيء إليك وأنت تتحمل منه؟ فقال له: والله ما كان ذلك مني إلاّ لأنه من بلدي فكنت كما قال القائل: رأى المجنون في البيداء كلباً ... فجلله من الإحسان ذيلا فلاموه على ما كان منه ... وقالوا: لِمْ أنلت الكلب نيلا فقال: دعوا الملام فإن عيني ... رأته مرة في حي ليلى فسمعه الشيخ فتواجد وجعل يقول: فقال: دعوا الملام..... البيت. ويكرره ثم خلع غفارته ورمى بها إلى الفتى المنشد فقال له: أنت أولى بها يا بني. وفي " لطائف المنن ": أنشد إنسان بحضرة الشيخ مكين الدين الأسمر - رضي الله عنه - قول القائل: لو كان لي بالراح يسعدني ... لما انتظرت لشرب الراح إفطارا الراح شيء شريف أنت شاربه ... فاشرب ولو حملتك الراح أوزارا فأنكر بعض الحاضرين على المنشد وقال له: لا يجوز إنشاد مثل هذا الشعر فقال الشيخ للمنشد: أنشد فإن هذا - " يعني " المنكر - رجل محجوب. وفي أبيات عبد الصمد بن المعَذَّل المشهورة حيث يقول: يا بديع الدل والغنج ... لك سلطان على المهج إن بيتاً أنت ساكنه ... غير محتاج إلى السرج وجهك المأمول حجتنا ... يوم يأتي الناس بالحجج مشرب عظيم لهم أيضاً. وقد سمع صوفي هذا البيت من جارية فتواجد وصاح ولم يزل كذلك حتى مات. " ومن أجلِّ ما يذكر في هذا الباب وأعذبه ما ذكره الشطيبي في " أذكاره " قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الصفة رضي الله عنهم ومعه ابن عباس فوجدهم يناشدون الشعر فيما بينهم، فلما رأوه أمسكوا إجلالاً له صلى الله عليه وسلم، فلما استقر جالساً قال صلى الله عليه وسلم: هل فيكم من ينشدنا شيئاً من الشعر؟ قالوا: نعم يا رسول الله صلى الله عليك، ثم أنشأ بعضهم: في كل صبح وكل إشراق ... تبكي جفوني بدمع مشتاق قد لسعت حية الهوى كبدي ... فلا طبيب لها ولا راق إلاّ الحبيب الذي شغفت به ... فعنده رؤيتي ودرياقي فتواجد صلى الله عليه وسلم حتى سقط رداؤه عن جسده فأعطاه أهل الصفة وكانوا أربعين رجلاً فقطعه عليهم أربعين قطعة صلى الله عليه وسلم ". وهذا النوع لا يحصى، وفيه يطيب لهم السماع، ويقع الوجد عند الاستماع، وإنما أردت أن ننبه فيه حيث انجذب الحديث إليه على معنى إيقاظاً وإمتاعاً. فاعلم أن فهم المعنى عند سماع لفظ القائل يكون على وجهتين: أحدهما أن يكون لدلالة اللفظ المسموع عليه في الخارج إما حقيقة وإما مجازاً، إما لغة وإما عرفاً.

ثانيهما أن يكون كذلك في وهم السامع ولا حاصل له في الخارج، فتحصل الفائدة بحسب ما طرق وهمه. أما الوجه الثاني وهو بحسب الخارج في حكم السماع من غير اللفظ كصرير الباب وصوت الطائر، مثاله ما ذكر التاج ابن عطاء الله أن ثلاثة نفر سمعوا " صائحاً " يقول: " يا سعتر بري " فسبق إلى فهم واحد منهم أن الصائح يقول " اسْعَ تر بِرّي " " وفهم الآخر أنه يقول: " السّاعَةَ تَرى بِرّي " وفهم الآخر أنه يقول: " يا سَعَة بِرّي "، وكان سماع الثلاثة جميعاً من الحق تعالى إلاّ أن كل واحد منهم فهم على حسب حاله. أما الأول فكان سالكاً مبتدئاً، فورد عليه الأمر بالسعي والجد مع ما يفيد تنشيطه من الترجية برؤية البر بكسر الباء، وهو الإحسان والتفضل من الله تعالى. وأما الثاني فكان سالكاً تطاول به السير، فورد عليه التنفيس والتبشير برؤية البر الساعة. وأما الثالث فكان واصلاً " قد " شاهد الفضل فورد عليه الخطاب على وفق شهوده بأن بر الله تعالى ما أوسعه! فهذه فهوم اختلفت وفصلت من إلقاء الله تعالى عليها ما فهمت بسبب مجرد مناسبة ما في اللفظ المسموع وأن لم يكن طبقاً لها لا إفراد ولا تركيباً ولا حقيقة ولا مجازاً، فإن القائل إنما أراد السعتر المعروف البري بفتح الباء، أي غير البستاني، فسبحان اللطيف الخبير. وأما الوجه الأول فهو الكثير المشهور، وذلك أن يسمع لفظ مشترك أريد به معنى فيفهم معنى آخر من معانيه، أو حقيقة أريد به معناه فيفهم مجازه، وقد يتعدد الفهم بحسب الاحتمال الواقع في التركيب وفي الضمائر ونحو ذلك. ولا بد أن نورد من ذلك أمثلة يتضح بها ما قررنا ليكون مأخذاً في هذا الباب، ومصباحاً يستضيء به ذوو الألباب. فمن ذلك ما وردت عليه فهوم الناس قبلنا كما مرّ من الأبيات، فنشير إلى مأخذ الفهم منه، ومن ذلك ما يسنح للخاطر الآن، فأما أبيات أبي نواس فهي كلها واضحة في إشاراتها، وكذلك أبيات الفتى، فإن ليلى عبارة عن المحبوب " عند " السامع إما خالقاً وإما مخلوقاً واحداً أو جماعة كأهل الله وطائفة المحبين والمنتسبين، أو المصطفى صلى الله عليه وسلم، أو سنته، أو نحو ذلك مما يخطر في البال، وأما أبيات مكين الدين فالراح فيها عند السامع هنا هي الخمرة الربانية القلبية، وهي لطف من الله تعالى ونور يرد على القلب فاستعاروا له اسم الخمر للشبه الواقع في اللذة والانفعال، وهو الصهباء " أيضاً " وبعد البيتين: يا من يلوم على صهباء صافية ... خذ الجنان ودعني أسكن النارا أي خذ جنان الشهوة وراحة النفس ودعني أسكن نار الشوق، فافهم، والأوزار يفهم منها أعباء المحبة والشوق وما يتحمله أصحاب ذلك. وقد وقع لي ذكر لهذا المعنى في أبيات من قصيدة طويلة وهي: فلولا هوى نجد وطيب نسيمها ... وريح خزاماها إذا ساوق الفجرا وعذب فرات سلسبيل سخت به ... أكف العوادي في حدائقها غمْرا مشمولة صهباء ما قطّ شابَها ... بِراوُوقه الحاني ولا حلت القِدْرا بها هامت الأرواح من قبل خلقنا ... ومن بعد ما كنّا وإذا نبلغ الحشرا فكم ولهتْ فكر ابن عيسى ومالك ... وكم أطربت سهلاً وكم شغلت بشرا إذا ما تحساها الفتى لم يخف بها ... جُناحاً ولكن يرتجي عندها برا تحمِّلُه الأوزارَ غيرّ مذمّم ... بأعبائها العظمى ولم يحمِلِ الوِزْرا وتبرد غلاّت الحشا وتشبُّها ... أُواراً وتعطي الرشد والسفه الحجرا وتورثه قبضاً وبسطاً وفرقة ... وجمعاً ونسياناً وتورثُه ذكرا فلولا رجاء الفوز منا بشربة ... تداوي عقابيل الهوى والجَوى المُغْرى لكانت أكف البين تصدع بالجوى ... زجاجة أحشائي فلا أملك الجبرا فكل ما في هذه الأبيات من ذكر الصهباء وكذا نجد وريح الخزامي والعذب والفرات كل ذلك استعارات، وجرى الشعر على أسلوب العرب في الحنين إلى نجد ومنابته، وهو ما ارتفع من بلادهم، وكل أحد نجده ما توجه إليه، وإن لا يرتفع حساً فهو مرتفع معنى فافهم. وأما أبيات ابن المعذل فالبيت فيها عند السامع هو القلب، والساكن فيه هو الحق تعالى شهوداً وحضوراً.

وفي الحديث القدسي: " لَمْ يَسَعْني أرْضي وَلا سَمَائي، وَوَسِعَني قَلْبُ عَبْدِي المُؤْمِنِ ". والوجه وجهه، والضمائر تعود اليه، وهاهنا مزلقة تقشعر منها الرؤوس، وتشمئز النفوس. حكى الإمام الرازي - رحمه الله - في كتاب " الإشارات في التعبير "، قال: أخبرنا أحمد بن عمرو الصوفي بمكة - حرسها الله - قال: أخبرني أبو بكر الطوسي، قال: قال عثمان الأحول تلميذ الخراز - رضي الله عنه -: بات عندي أبو سعيد، فلما مضى بعض الليل صاح بي: يا عثمان، قم أسرج، فقمت وأسرجت، فقال لي: ويحك رأيت الساعة كأني في الآخرة والقيامة قد قامت، فنوديت فوقفت بين يدي الله تعالى وأنا أرتعد، لم يبق علي شعرة إلاّ وقد قامت، فقل " جل وعلا ": أنت الذي تشير إليّ في السماع وإلى سلمى وبثينة، لولا أني أعلم أنك صادق في ذلك لعذبتك عذاباً لم أعذب به أحد من العالمين، انتهى. فنعوذ بالله من جسارة، تؤدي إلى خسارة. وقد وقع في هذا الخطر ابن الفارض، وابن سبعين والششتري وأضرابهم، وهو باب ضنْك، وللعبد في مطرح النعال، سعة عن جناب الكبير المتعال. وقد يكون السامع في فهمه أخف حالاً من المعبر، فإن الفهم أقرب إلى الغلبة، والتعبير أقرب إلى الاختبار، ومثال ما سنح في فكري مما حضر لي الآن قول امرئ القيس: " الله أنجح ما طلبت به ... والبِرّ خير حقيبة الرجل شرحه وقوله ": أنا موضعين لحتم غيب ... ونسحر بالطعام والشراب فإن هذه القطعة موعظة عظيمة في ذكر الآخرة والزهد في الدنيا وإن لم يقصد نفس ذلك المعنى، ويزيد العاقل فيقول: هذا رجل دهري " كان " لا يؤمن بيوم الحساب، قد مقت الدنيا لمجرد ما رأى من الانتقال عنها إلى الفناء، فكيف لا يمقتها من يؤمن بالجنة وأن الدنيا لا تساوي شيئاً إذا قيست إليها ولا تزن عند الله جناح بعوضه، وان الاشتغال بها " يعوق " عن الملك العظيم، والنعيم المقيم، ويعرض للحساب الشديد والعذاب الأليم، وقوله: فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليل من المال ولكنما أسعى لمجد مؤثل ... وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي فإن العابد يفهم منه أنه لو كان يسعى لمعيشة الدنيا الحسيسة الفانية لكفاهُ أدنى شيء، ولكنه يسعى للملك العظيم، في دار النعيم، وهو المجد حقاً، فليس إلاّ الجدّ والاجتهاد، ومسامرة النوافل والأوراد، والعارف يفهم منه أنه لو كان يسعى لمجرد التنعم في الجنة لكفاه إقامة الرسم الشرعي، والوقوف عند الحد المرعي، ولكنه يسعى للوصول والنظرة، والحضور والحضرة، فليس إلاَّ زيادة الاعتناء بصفاء الأسرار، والفناء عن الأغيار، وقوله: تنورتها من أذرِعاتٍ وأهلُها ... بيثربَ أدنى دارِها نظر عال فإن المريد قد يفهم منه " أن " الضمير للحقيقة، وأهلها بيثرب وهم محمد وأصحابه صلى الله عليه وسلم وعلى الصحابة أجمعين. وكون نيل ذلك من أذرعات وهو موضع بالشام " مناسب، لأن الشام " مكان مرتفع باعتبار الغور، وليس يبلغ السالك ذلك إلاّ بعد بلوغ المنزلة الرفيعة " من الاستقامة والطهارة ومن الهمة " الرفيعة فإن العبد يفتح له على قدر همته وبنظره العالي يقرب الفتح بإذن الله تعالى، بل النظر العالي وهو ما يكون إلى الحق دون شيء دونه هو كلية الأمر وعماده، رزقنا الله منه قسطاً وافراً بمنه آمين. وقول عنترة: وأغضّ طرفي ما بدت لي جارتي ... حتى يواري جارتي مأواها إني امرؤ سمح الخليقة ماجد ... لا أتبع النفس اللّجوج هواها فإن هذا في باب العفة والتحلي بمكارم الأخلاق في الجملة صريح، وباعتبار الرياضة والمطلوب من التحلية والتخلية عند السالكين إشارة، وهي كافية في المقصود، لأن مخالفة الهوى هو ملاك الأمر كله، ومثل هذا لا ينحصر في شعر العرب " فقلما يخلو بيت أو أبيات من معنى أو معان فإن الحكمة قد أنزلت على ألسنة العرب ". وقد قال الله تعالى في الشعراء:) أنّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ (ومثل ذلك في كلام المولدين، وقد تقدم من شعر أبي نواس، وفال أبو الطيب: لك يا منازل في القلوب منازل ... أقفرت أنت وهنّ منكِ أواهلُ فإنه يفهم منه سوى مقصود الشاعر أمور:

انتقاد أحد القضاة للمؤلف والرد عليه

منها أن المنازل من مظاهر الكائنات كلها، والقلوب قلوب أرباب الاعتبار والاستبصار يقول إن لهذه الحوادث في قلوبهم منزلة من الحدوث والافتقار إلى الفاعل المختار يتعرفون بها وجود الله تعالى وما له من الصفات " الجلية " والأسماء العلية فهي مقفرة دائرة فانية، والقلوب عامرة منها بالتوحيد، أو منزلة من التقلب في مظاهر التصريف يتعرفون منها ما لله تعالى من الجلال والجمال والعظمة والكبرياء والقهر والبطش والفضل والرحمة والحلم، وبالجملة فالكائنات مرتع لأرباب الاستدلال وأرباب الكمال و) قَدْ عَلِمَ كُل أنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ (، أو القلوب قلوب أهل الغفلة وحب الدنيا، فيقول إن لهذه الحوادث منزلة في قلوبهم محبة لها وتعظيماً، وقد أقفرت هي فلا تنفع ولا حاصل لها ولا بقاء، وقلوبهم عامرة بها مفتونة بالنظر " إليها " والكدح عليها ويكون الكلام تقبيحا للدنيا ونعياً على محبيها. ومنها أن المنازل منازل السّائرين في السلوك أو المقامات الواصلين، والقلوب قلوب المتوجهين فيقول: إن لهذه المنازل أو المقامات في قلوبهم مكاناً من المحبة لها والاغتباط وحب الاقتداء بأهلها فيها، وقد أقفرت هي بذهاب أهلها، بانتقاص الزمان، فإن الإمام الجنيد كان يقول في زمانه الفاضل: إن هذا العلم قد طوي بساطه منذ زمان، وإنما يتكلم الناس في حواشيه، أو كلاماً بمعناه، فما بالك بزمان كل من يسمع هذا الشعر إلى يوم القيامة، أو القلوب عامرة بالمحبة والاشتياق من سماع أخبارها ومطالعها في الدفاتر، أو عامرة بالمعارف والأسرار من مطالعتها وسماعها، فإنه عند ذكر الصالحين تتنزل الرحمة في القلوب، أو من الاقتداء بما فيها والنسج على منوالها، وهو ظاهر، وقد يفهم من المنازل مواضعهم التي كانوا يتعبدون فيها من المساجد والرباطات " والخلوات " والبراري التي دفنوا فيها والتقرير على حسب ما قبله، وكنت أشرت إلى شيء من هذا الغرض في أبيات من قصيدة طويلة، وهي: يا قمريّ البان نح حزناً على زمن ... مضى بقوم من الأبرار أمجاد وسل بنعمان عنهم بعد خيف مِنىً ... وبالمحصَّب يوم الهيد والهاد واهتف بلبنان بعد القدس مصطرخاً ... وباللّكام نداء الهائم الصادي ولا تدع غائراً من كلّ أودية ... ولا تدع شامخاً من كلّ أطواد فتلك أوطان أحبابي وإن نزحوا ... عن مقلي فهم بالقلب شُهّادي فإن ظفرت بمن يهديك نحوهم ... فقد ظفرت بكنز غير نفاذ وإن شممْت شذا أخبارهم عَبِقاً ... أبهى من النور في بطحاء مقلاد فتلك غُنْيَةُ نفس عاقها قدر ... أن تدرك المُنية العظمى بتشهاد وقد اتفقت لبيت أبي الطيب المذكور حكاية لطيفة تذكر في " باب " الأذكياء، وهي أن أبا العلاء المعري كان يعتني بشعر المتنبي، ويستجيده، حتى حكي عنه أنه قال: أنا الذي يعني أبو الطيب بقوله: أنا الذي ينظر الأعمى إلى أدبي ثم إنه حضر يوماً مجلس الأمير فتكلم الأمير حتى وقع في أبي الطيب وغض منه بعض الغض، فأراد المعري أن ينافح عن أبي الطيب فقال: أيها الأمير يكفيك من أبي الطيب قوله: لك يا منازل في القلوب منازل ... أقفرت أنت وهن منك أواهل ففطن الأمير وقال لأصحابه: أتدرون ما يقول الأعمى؟ إنه يشير إلى قوله في أثناء هذه القصيدة: وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل خذوا برجله، فجر أبو العلاء حتى خرج، فأنظر إلى لطافة هذه الأذهان، وكيف تلطف هذا بالإشارة، وكيف وقع عليها الآخر؟ ونحوها ما وقع للكسائي، وكان وعده الرشيد صلة ثم غفل عنه، فاتفق أن سايره يوماً إلى أن مروا بموضع فقال: يا أمير هذا منزل عاتكة الذي يقول فيه الشاعر: يا بيت عاتكة التي أتعزل ... حذر العدا وبه الفؤاد موكل فتعجب الرشيد من مفاتحة الكسائي له بالكلام، ولم يكن ذلك أدباً مع الملوك، ثم نظر فإذا هو يشير إلى قول الشاعر في أثناء القصيدة: وأراك تفعل ما تقول وبعضهم ... مذق الحديث يقول ما لا يفعل ففهم ذلك وأمر له بالصلة. لله الأمر من قبل ومن بعد. انتقاد أحد القضاة للمؤلف والرد عليه

باب في

خطر لي الآن كلام فأردت أن أنبه عليه " و " على طرف منه فإن شرحه يطيل وذلك أنا بعد وفاة الأستاذ المحقق السني أبي عبد الله بن ناصر رضي الله عنه لم نزل نسعى في نفع الناس بتعليم ما يحتاجون من دينهم وما يحتاجون من أوراد النوافل والأذكار التي يتزودون بها لمعادهم ويتحببون بها ويتقربون إلى ربهم عاملين في ذلك على وجه المؤاخاة والمعاونة على البر والنصيحة، على وجه المشيخة، وعلى وجه التعليم والإرشاد لا على وجه التربية، ثم أنه جرى من ذلك ما عادته أن يجري من كلام منكر أو متنصح، فأخبرني بعض أصحابي أنه جرى كلام بينه وبين " بعض " القضاة المتصدرين للدرس فتكلم له القاضي في شأني وقال له على وجه النصيحة فيما زعم: ما ألجأ فلاناً إلى تلقين الأوراد؟ فهل رأيتم مريداً بشروط الإرادة قط؟ فلما حدثني بذلك قلت له: هلا قلت له: أما أنا لم نرَ مريداً كذلك " فهو كذلك " وكيف نراه إلاّ أن يتداركنا الله برحمته؟ وقد كان الشيخ أبو العباس زروق يحكي عن شيخه أبي العباس أحمد ابن عقبة الخضرمي رضي الله عنهما أنه كان يقول " لهم ": لو فتشتم من أقصى مشارق الأرض إلى أقصى مغاربها على مريد صادق في أحواله لم تجدوه فكيف بالعارف الكامل؟ ومع ذلك فانتقاص الزمان وانتقاص أهله لا يوجب انقطاع الدين ولا ارتفاع النصيحة، فإن هذا النقص سارٍ في الدين وفي العقول وفي الأقوات وفي الإمامة الكبرى والصغرى وفي النصيحة وغير ذلك، وهو قضاء جار أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم قبل كونه في الأحاديث الكثيرة، وإليه يشير القائل: هذا الزمان الذي كنا نحاذره ... في قول كعب وفي قول ابن مسعود إن دام هذا ولم يحدث له غير ... لم يبك ميت ولم يفرح بمولود هذا ويا ليته دام، فإنه لا يزيد الأمر إلاّ شدة والخير إلاّ إدباراً حتى ينقرض انقراضاً غير أن المعتبر في كل زمان ما هو فيه، وحكم الله تعالى جار في كل بحسب حاله، والدين مستمر، والحق ظاهر حتى يأتي أمر الله. ثم يلزمك أيها الناصح في هذا مثل ما يلزمنا، وما كان جوابك هو جوابنا، فإنك تصدرت للتعليم فهل رأيت بعينيك متعلماً على شروط التعليم المعتبرة؟ أو هل رأيت في نفسك شروط المعلم؟ " فلا بد أن تعرض على نفسك شروط المعلم " وعلى من يجلس إليك شروط المتعلم، فإن تجد ذلك صحيحاً ظاهراً أو باطناً فتصدر، وإن وجدته مختلاً فكيف يحل لك أن تتصدر، وارتفاع الشرط يوجب ارتفاع المشروط، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " لا تُؤْتُوا الحِكْمَةَ غَيْرَ أهْلِهَا فَتَظْلمُوها " فإن أجاب بأنه ارتكب أخف الضررين أو أن العلم أمنع جانباً من أن يصل إلى غير أهله أو نحو ذلك فهو جوابنا بعينه، والله الموفق المسئول أن يتجاوز عنّا بعفوه ويتغمدنا برحمته إنه ولي ذلك والقادر عليه. لله الأمر من قبل ومن بعد باب في ملح من الأدب رأيت أن ألم بملح من الأدب تثميناً للكتاب، وامتناعاً لذوي الألباب، فإن النفس ملول والأذن مجاجة، وفي التلون والانتقال تطييب لها وتنشيط كما قيل: لا يصلح النفس إن كانت مدبرة ... إلاّ التنقل من حال إلى حال وذلك كله مما يصلح للمحاضرات ويوافق شرط الكتاب، ويعد من الآداب. وقد قال الحسن بن سهل: الآداب عشرة: ثلاثة شهرجانية وهي ضرب العود، ولعب الشطرنج، والصوالج، وثلاثة أنوشروانية، وهي: الطب، والهندسة، والفروسية، وثلاثة عربية، وهي: الشعر والنسب وأيام الناس، والعاشرة مقطعات الحديث والسمر وما يتعاطاه الناس بينهم في المجالس، وهذا عام. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: القلوب تمل كما تمل الأبدان فابتغوا لها طرائف الحكمة. وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: إني لأستجم نفسي من الباطل ليكون أقوى لها على الحق، وقال الشاعر: عجبا ً ممن تناهت حاله ... وكفاه الله ذلات الطلب كيف لا يقسم شطري عمره ... بين حالين نعيم وأدب مرة جداً وأخرى لعباً ... فإذا ما غسق الليل انتصب فقضى الدنيا نهاراً حقه ... وقضى لله ليلاً ما يجب

وفي هذا إشارة إلى ما روي في حكمة آل داود عليه السلام: لا ينبغي للعاقل أن يخلي نفسه من أربع: عدة لمعاد، وإصلاح لمعاش، وفكر يقف به على ما يصلحه مما يفسده، ولذة في غير محرّم يستعين بها على الحالات الثلاث. وكان صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلاّ حقاً، وكان أصحابه يتناشدون ويفيضون في الأنساب وأيام الناس ولا ينكر عليهم، وذلك كله مشهور. وقيل لسعيد بن المسيب: إن قوماً من " أهل " العراق لا يرون إنشاد الشعر فقال: نسكوا نسكاً أعجمياً. وقيل لابن سيرين: إن قوماً يرون إنشاد الشعر ينقض الوضوء فأنشد: لقد أصبحت عرْسُ الفرزدق ناشزاً ... ولو رضيت رمح أسته لاستقرت ثم قام يصلي، وقيل بل أنشد: نبئت أن فتاة كنت أخطبها ... عرقوبها مثل شهر الصوم في الطول وقيل لأبي السائب المخزومي: أترى أحداً لا يشتهي النسيب فقال: أما من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا. وكان فضلاء هذه الأمة يروون الشعر ويقولونه أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان مصروفاً عنه قول الشعر سداً للذريعة، وتنزيهاً عن النقيصة، ونفياً للتهمة، قال الله تعالى:) وَمَا عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغي لَهُ (وأما غيره صلى الله عليه وسلم فلا محذور عليه في إنشاد الشعر رواية وقولاً، فإن الشعر من جملة الكلام، نعم إذا كثر ذلك حتى ألهاه عن ذكر الله فهو مذموم، ولا خصوصية في هذا الشعر. فمما يروى لأبي بكر رضي الله عنه قوله: تعدون قتلى في الحرام عظيمة ... وأعظم منه لو يرى الرشد راشد صدودكم عما يقول محمد ... وكفر به والله راءٍ وشاهد سقينا من ابن الحضرمي رماحنا ... بنخلة لما أوقد الحربَ واقد ومما يروي لعمر رضي الله عنه قوله: لا شيء مما ترى تبقى بشاشته ... إلاّ الإله ويودي المال والولد لم تُغْنِ عن هرمز يوماً خزانته ... والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا ولا سليمان إذ تجري الرياح له ... والجن والإنس فيما بينها ترد أين الملوك التي كانت نوافلها ... من كل أوب إليها وافد يفد حوض هنلك مورد بلا كذب ... لا بد من ورده يوماً كما وردوا ومما يروى لعثمان رضي الله عنه قوله: تفنى اللذاذة ممّن نال صفوتها ... من الحرام ويبقى الإثم والعار تبقى عواقب سوء من مغبتها ... لا خير في لذة من بعدها النار ومما ينسب إلى علي كرم الله وجهه: محمد النبي أخي وصهري ... وحمزة سيد الشهداء عمّي وجعفر الذي يمسي ويضحي ... يطير مع الملائكة ابن أمي وبنت محمد سكَني وعرسي ... منوط لحمها بدمي ولحمي وسبطا أحمد ولداي منها ... فمن هذا له سهم كسهمي سبقتكم إلى الإسلام طراً ... غلاماً ما بلغت حلْمي وصليت الصلاة وكنت رِدْءاً ... فمن ذا يدعي يوماً كيومي وأوجب لي الولاء معاً عليكم ... رسول الله يوم غدير خم وغدير خم بضم الخاء موضع بين الحرمين. ومن شعره أيضاً وقيل: لم يثبت عنه غيره: تلكم قريش تمناني لتقتلني ... فلا وربث ما برّوا ولا ظفروا فإن هلكت فرهن ذمتي لهم ... بذاتِ وَدْقَينِ لا يعفو لها أثر وذات ودقين الداهية. ومما يروى لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قوله: إن كنت تعلم أن الله يا عمر ... يرى ويسمع ما تأتي وما تذر وأنت غفلة عن ذاك تركب ما ... عنه نهاك فأين الخوف والحذر فانظر لنفسك يا مسكين في مهل ... ما دام ينفعك التفكير والنظر قف بالمقابر وانظر إن وقفت بها ... لله درك ماذا تستر الحُفَر ففيهم لك يا مغرور موعظة ... وفيهم لك يا مغرور معتبر فهؤلاء الأئمة المقتدى بأقوالهم وأفعالهم " وأحوالهم ". وقد وقع ذلك لأكابر العلماء من أهل الدين كثيراً شهيراً، ومنهم من كان غزير المادة في الشعر مديد الباع فيه كعبيد الله بن عبد الله بن عتبة ابن مسعود أحد الفقهاء السبعة بالمدينة حتى كان ابن المسيب إذا لقيه يقول له: مرحباً بالفقيه الشاعر فيقول عبيد الله: لا بد للمصدور أن ينفث، فمن قوله: كتمتَ الهوى حتى أضر بك الكتم ... ولامك أقوام ولومهم ظلم

ونمّ عليك الكاشحون وقبلهم ... عليك الهوى قد نم لو ينفع النم وزادك إغراء بها طول بخلها ... عليك وأبلى لحم أعظمك الهم وأصبحت كالنهدي إذ مات حسرة ... على أثر هند أو كمن سقي السم وكأنه أراد: من سقيه السم فحذف الضمير. ووردت امرأة جميلة مع ابن " لها " صغير " المدينة " فخطبت وكان ممن خطبها عبيد الله فقال فيها معرضاً ببراعة الفقهاء السبعة: أحبك حباً لا يحبك مثله ... قريب ولا في العالمين بعيد أحبك حباً لو علمت ببعضه ... لجُدْتِ ولم يصعب عليك شديد أحبك يا أم الوليد متيمي ... شهيدي أبو بكر وذاك شهيد ويعلم وجدي قاسم بن محمد ... وعروة ما ألقى بكم وسعيد ويعلم ما أخفي سليمان كله ... وخارجه يبدي بنا ويعيد متى تسألي عما أقول تخبري ... فللحب عندي طارف وتليد ويحكى أنه لقيه بعد هذا سعيد بن المسيب يوماً فقال له: أما إنك قد أمنت أن تسألنا، ولو سألتنا ما شهدْنا لك بزور، وهذا من فكاهة أهل الحجاز ولطافتهم رضي الله عنهم. وكان الإمام الشافعي - رضي الله عنه - وهو القائل مخبراً عن غزارة عنصره في ذلك: ولولا الشعر بالفقهاء يزري ... لكنت اليوم أشعرَ من لبيد فمن قوله: ماذا يخبر ضيف بيتك أهله؟ ... إن سيل: كيف مَراده ومعاجه؟ أيقول جاورت الفرات ولم أنل ... رِفداً إليه وقد طغت أمواجه ورقيت في درج العلى فتضاءلت ... عما أريد شعاره وفجاجه ولتخبرنَّ خصاصتي بتملقي ... والماء يخبر عن قذاه عندي يواقيت القريض ودُرُّه ... وعليّ إكليل الكلام وتاجه تُرْبي على روض الرّبى أزهاره ... ويرِق في نادي الندى ديباجه والشاعر المِنطيق أسود سالخ ... والشعر منه لعابه ومُجاجه وعداوة الشعراء داء مُعضِل ... ولقد يهون على الكريم علاجه والظاهر أنه قال هذا قبل اشتغاله بالفقه، فأنه لم يشتغل به حتى الآن في البادية وتوسع في العربية والشعر. ويحكى عن أبي القاسم بن الأزرق الشاعر أنه قال: جئت الشافعي يوما فقلت: يا أبا عبد الله لك الفقه تفوز بفوائده، ولنا الشعر، فأردت مداخلتنا فيه، فأما أفردتنا الشعر، وإما أشركتنا في الفقه، وقد أتيت بأبيات إن أتيت بمثلها تبت عن الشعر، وإن عجزت تبت عنه، فقال: هات، فأنشدته: ما همّتي إلاّ مقارعة العدا ... خَلِقَ الزمان وهمتي لم تخلَق والناس أعينهم إلى سلب الفتى ... لا يسألون عن الحِجا والأوْلَقِ لكن من رُزِق الحجا حُرِم الغنى ... هذان مفترقان أي تفرق لو كان بالحِيَل الغنى لوجدتني ... بنجوم أقطار السماء تعلقي فقال الشافعي: أنا أقول خيراً منه وأنشد مرتجلاً: إن الذي رُزِقَ اليسارَ ولم ينلْ ... حمداً ولا أجراً لغيرُ موفَّق فالجَدَ يدني كل شيء شاسع ... والجَدّ يفتح كل باب مغلق فإذا سمعت بأن مجدوداً حوى ... عوداً فأثمر في يديه فحقق وإذا سمعت بأن محروماً أتى ... ماء ليشربه فغاص فصدّق وأحقّ خلق اللهِ بالهمِّ امرؤ ... ذو همة يبلى برزق ضيق ومن الدليل على القضاء وكونه ... بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق وقال أبو سعيد المكي: سمعت الشافعي رضي الله عنه ينشد: رأيت نفسي تتوق إلى مصر ... ومن دونها عرض المهامه والفقر ووالله ما أدري أللفقر والغنى ... أقاد إليها أم أقاد إلى قبري وكان ينشد رضي الله عنه: يا لهف نفسي على مال أفرقه ... على الفريقين من أهل المروآت إن اعتذاري إلى من جاء يسألني ... ما ليس عندي لمن إحدى المصيبات وقال يونس بن عبد الأعلى: كان الشافعي يتمثل: إذا أصبحت عندك قوت يوم ... فخلِّ الهم عني يا سعيد ولم تخطر هموم غد ببالي ... لأن غداً له رزق جديد أسلم إن أراد الله أمراً ... وأترك ما أريد لما يريد توفي رضي الله عنه بمصر آخر يوم من رجب سنة سبع ومائتين، قال الربيع: لما دفناه رأينا هلال شعبان، وعاش أربعاً وخمسين سنة.

وكان القاضي عبد الوهاب بن نصر الفقيه المالكي رضي الله عنه، وفيه يقول أبو العلاء المعري حين مر بهم متوجهاً إلى مصر: والمالكيُّ ابن نصرٍ زار في سفر ... بلادنا فحمدنا النأيَ والسّفرا إذا تكلّم أحيا مالكاً جدَلاً ... ويُنشرُ الملك الضليل إن شعرا فمن قوله يتغزل ويوري بالمسائل الفقهية: ونائمة قبّلتها فتنبهت ... فقالت: تعالوا فاطلبوا اللص بالحد فقلت لها: إني لثمتك غاصباً ... وما حكموا في غاصب بسوى الرد خديها وكفي لي عن إثم ظلامتي ... وإن أنت لم ترضي فألف من العد فقالت: قصاص يشهد العقل أنه ... على كبد الجاني ألذ من الشهد فباتت يميني وهي هسيان خصها ... وباتت يساري وهي واسطة العقد وقالت: ألم أخبر بأنك زاهد ... فقلت لها: ما زلت أزهد في الزهد وينسب إليه قوله: تملكت يا مهجتي مهجتي ... وأسهرت يا ناظري ناظري وما كان ذا أملي يا ملول ... ولا خطر الهجر في خاطري فجد بالوصال فدتك النفوس ... فلست على الهجر بالقادر أيا غائباً حاضراً في الفؤاد ... سلام على الغائب الحاضر " وله أيضاً رحمه الله: يلومونني أن بعت بالرخص منزلي ... ولم يعلموا جاراً هناك ينغص فقلت لهم: كفوا الملام فإنما ... بجيرانها تغلو الديار وترخص " ولفقهاء العدوة من ذلك ما يطلع بدراً لائحاً، ويسطع زهراً فائحاً، وتتهاداه الحور، وتتحلى منه النحور، وتتبع ذلك يطيل، ونلم من ذلك بالقليل، إذ لا بد لهذا الكتاب، أن يأخذ من كل لباب، فمن ذلك قول الفقيه القاضي أبي الوليد الباجي رحمه الله في معنى الزهد: إذا كنت أعلم علماً يقيناً ... بأن جميع حياتي كساعة فلمْ لا أكون ضنينا بها ... وأجعلها في صلاح وطاعة ومن ذلك قول محمد بن سماك صاحب الأحكام يصف الروض: الروض مخضر الربى متجمّل ... للناظرين بأجمل الألوان فكأنما بسطت هناك سوارها ... خود زهت بقلائد العقيان وكأنما فتحت هناك نوافج ... من مسكة عجنت بصرف البان والطير يسجع في الغصون كأنه ... نقر القيان جثت على العيدان والماء مطّرد يسيل عبابه ... كسلاسل من فضة وجمان بهجات حسن أكملت فكأنما ... حسن اليقين وبهجة الإيمان وللفقيه أبي محمد عبد الله بن السيد البطليوسي في الزهد: أمرت إلهي بالمكارم كلها ... ولم ترضها إلاّ وأنت لها أهل فقلت: اصفحوا عمن أساء إليكم ... وعوذوا بحلم منكم إن بدا جهل فهل لجهول خاف صعب ذنوبه ... لديك أمان منك أو جانب سهل وله يصف فرساً: وأدهم من آل الوجيه ولاحقٍ ... له ليل لون والصباح حُجُول تحير ماء الحسن فوق أديمه ... فلولا التهاب الحضر ظل يسيل كأن هلال الفطر لاح بوجهه ... فأعيينا شوقاً إليه تميل كأن الرياح العاصفات تُقِلّه ... إذا ابتل منه محزم وقليل وللحافظ أبي بكر بن عطية رحمه الله يحذر من خلط الزمان: كن بذئب صائد مستوحشاً ... فإن أبصرت إنسانا ففر إنما الإنسان بحر ماله ... ساحل فأحذره إياك الغَرَر واجعل الناس كشخص واحد ... ثم كن من ذلك الشخص حذر وله يعاتب بعض إخوانه: وكنت أظن جبالَ رَضوى ... تزول وأن ودّك لا يزول ولكن الأمور لها اضطراب ... وأحوال ابن آدم تستحيل فإن يك بيننا وصل جميل ... وإلاّ فليكن هجر جميل ولابنه الحافظ عبد الحق رحمه الله يصف الزمان وأهله: داء الزمان وأهله ... داء يعز له العلاج أطلعت في ظلماته ... ودّا كما سطع السراج لصحابة أعيا ثِقَا ... في من قناتهم اعوجاج أخلاقهم ماء صفا ... مرأى ومطعمهُ أُجاج كالدر ما لم تختبر ... فإذا اختبرت فهم زجاج وللفقيه القاضي عياض بن موسى اليحصبي رضي الله عنه من شعره: إذا ما نشرت بساط انبساط ... فعنه فديتك فاطو المزاحا فإن المزاح كما قد حكى ... أُولُوا العلم قبلُ عن الحلم زاحا وله عند ارتحاله من قرطبة رحمه الله:

نبذة مختارة من مختار الشعر

أقول وقد جدّ ارتحالي وغردت ... حُداتي ورنت للفراق ركائبي وقد غمصت من كثرة الدمع مقلتي ... وصارت هواءً من فؤادي ترائبي ولم تبقَ إلاّ وقفة تستحثها ... وداعي للأحباب لا للحبائب رعى الله جيراناً بقرطبة العلى ... وسقى رباها بالعِهادِ السواكب وحيا زماناً بينهم قد ألفته ... طليق المحيّا مستلانَ الجوانب أحبابنا في الله فيها تذكروا ... معاهد جار أو مودّة صاحب غدوت بهم من برهم واحتفائهم ... كأني في أهلي وبين أقاربي وله برد الله ضريحه في الوداع: يا من ترحل عني غير مكترث ... لكنه للضنى والسّقم أوصى بي تركتني مستهام القلب ذا حُرَقٍ ... أخا جوى وتباريح وأوْصاب فلم أذق من لذيذ العيش بعدكم ... إلاّ جَنى حنظل في الطعم أو صاب أراقب النجم في جنح الدجى سَهَراً ... كأنني راقب للنجم أو صابي وللأديب أبي الوليد محمد بن عبد الله بن زيدون رحمة الله عليه: ودع الصبر محب ودَّعك ... حافظ من سره ما استودعك يقرع السن على أن لم يكن ... زاد في تلك الخُطا إذ شيعك يا أخا البدر سناءً وسَناً ... حفظ الله زماناً أطلعك إنْ يَطلْ بعدك ليلي فلكَمْ ... بتّ أشكو قِصَر الليل معك يا قمراً أطلعه المغرب ... قد ضاق بي حبك المذهب ألزمتني الذنب الذي جئته ... صدقت فاصفح أيها المذنب وإنما أغرب ما مرّ بي ... أن عذابي بك مستغرب " وتتبع ذلك يطيل ويخرج عن الغرض. لله الأمر من قبل ومن بعد نبذة مختارة من مختار الشعر وهذه نبذة مختارة من شعر العرب، فمن ذلك في الأمثال، وقد تقدمت جملة منها في الكتاب: ففي الحض على الاتفاق والتوكل على الله تعالى قول جميل: كلوا اليوم من رزق الإله ابشروا ... فإن على الرحمن رزقكم غدا وفي تكذيب الكهانة وزجر الطير قول لبيد: لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى ... ولا زاجرت الطير ما الله صانع وفي اليأس من إصلاح الأولاد مع فساد الآباء قول الفرزدق: ترجّي ربيع أن تجيء صغارها ... بخير، وقد أعيا ربيعاً كبارها وفي تلهف المعدم على قصوره عن فعل الخير قول خالد بن علقمة: وقد يقصر القل الفتى دون همه ... وقد كان لولا القل طلاع أنجد وفي الجنوح إلى الجبن قول النهشل بن حَرِّي: فلو أن لي نفسين كنت مقاتلاً ... بإحداهما حتى نموت وأسلما ونحو هذا قول حبيب بن عوف حين قال له المهلب " بن أبي صفرة " أكرر على القوم: يقول لي الأمير بغير علم ... تقدم حين جدَّ بهِ المراس فما لي أن أطلعتك من حياةِ ... وما لي غير هذا الرأس رأس " وقول أبي دلامة وقد ليم على الفرار: ألا لا تلمني في الفرار فإنني ... أخاف على فخّارتي أن تحطما فلو أنني أبتاع في السوق مثلها ... وحقّك ما باليت أن أتقدما وقال المبرد: حدثني عجل بن أبي دُلَف أن ابن أبي فتن مدح أباه بقوله مورياً: ما لي وما لك قد كلفتني شططاً ... حمل السلام وقول الدار عين قف أمن رجال المنايا خلتني رجلاً ... أمسي وأصبح مشتاقاً إلى التلف؟ تمشي المنون إلى غيري فأكرهها ... فكيف أسعى إليها بارز الكتف؟ أم قد حسبت سواد الليل شجعني ... أو أن قلبي في جنبيّ أبي دُلّف؟ فبلغ الشعر أبا دُلف فبعث إليه بأربعة آلاف دينار، فأخذها وأغلق عليه الدار، ولا عليه فيمن قعد أو طار، فقال المبرد: هذا كالذي دخل على قوم يشربون فسقاه بعضهم من غير الشراب الذي يشربون استحقاراً له فقال: نبيذان في مجلس واحد ... لإيثار مثر على مقتر فلو كنت تفعل فعل الكرام ... فعلت كفعل أبي البَحتري تتبع إخوانه في البلاد ... فأغنى المقل عن المكثر فاتصل قوله بأبي البختري فوصله بألف دينار ولم يره ". وفي الحض على اقتناء العمل الصالح قول الأخطل: وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ... ذخراً يكون كصالح الأعمال وفي اليأس من تلافي ما فسد قول رجل من عمان: والثوب إن أنهج فيه البلى ... أعيا على ذي الحيلة الراقع

وفي مجاملة العدو وإعداده لأعدى منه قول مرداس الأسدي: وذوي ضباب مظهرين عداوة ... وغر بصدور معاودي الإفناد ناسيتهم بغضاءهم ووفرتهم ... وهم إذا حسب الصديق أعاد كيما أعدهم لأبعد منهم ... ولقد يجاء إلى ذوي الأحقاد وفي حفظ المال وتثميره قول الملتمس: قليل المال تصلحه فيبقى ... ولا يبقى الكثير مع الفساد وحفظ المال أيسر من بغاه ... وسير في البلاد بغير زاد وفي تبليغ العدو قول عروة بن الورد: ومن يك مثلي ذا عيال ومقترا ... من المال يطرح نفسه كل مطرح ليبلغ عذراً أو يصيب رغيبة ... ومبلغ نفس عذرها مثل منجح وفي معنى قولهم: القريب من تقرب - أي بورده - " لا " من تنسب قول الأعشى: لا تطلبن الود من متباعد ... ولا تنأ من ذي بغضة إن تقربا فإن القريب من يقرب نفسه ... لعمر أبيك الخير لا من تنسيا وفي الحض على الصبر في المواطن قول عمرو بن الإطنابة: أبت لي همتي وأبى بلائي ... وأخذ الحمد بالثمن الربيح وإقدامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي لأدفع عن مآثر صالحات ... وأحمي بعد عن عرض صحيح وقد حكي عن معاوية رضي الله عنه أنه قال: دعوت بفرسي يوم صفين لأتصرف لاشتداد الأمر فما نفعني إلاّ أبيات عمرو المذكورة ذكرتها فصبرت. ونحوها " قول " قطري بن الفجاءة: أقول لها وقد طارت شَعاعاً ... من الأبطال: ويحك لن تراعي فصبراً في مجال الموت صبراً ... فما نيل الخلود بمستطاع سبيل الموت غاية كالترجّي ... وداعيه لأهل الأرض داع وما للمرء خير في حياة ... إذا ما عد من سقط المتاع وفيمن يسعى لما فيه هلاكه ولا يعلم قول الآخر: وكم من طالب يسعى لأمر ... وفيه هلاكه لو كان يدري ومثله قول الآخر: وكم طالب أمراً وفيه حمامه ... وسائرة تسعى إلى ما يضيرها ومثله قول الآخر: كم شارب عسلاً فيه منيّتُه ... وكم تقلد سيفاً من به ذُبحا ومثله قول أبي العتاهية: وقد يهلك الإنسان من باب أمنه ... وينجو بإذن الله من حيث يحذر ومن المعنى قول عدي بن أبي الصلت: تجري الأمور على حكم القضاء، وفي ... طي الحوادث محبوب ومكروه فربما سرّني ما بت أحذره ... وربما ساءني ما بت أرجوه " وفي التشكّي من فناء الأهل والأحبة قول ابن هرّمة: ما أظن الزمان يا أم عمرو ... تاركاً إن هلكت من يبكيني ويقال: إنه حين مات لم ير أحد خلف جنازته، وإنما رفعها عبيد له. وفي احتقار " السفيه " واللئيم وما يصدر منه قول الآخر: وما كل كلب نابح يستفزني ... ولا كلما طن الذباب أراع ونحوه في التنبيه على كثرتهم وأنه لا ينبغي الاحتفال بهم قول الآخر: لو كل كلب عوى ألقت حجراً ... لأصبح الصخر مثقالاً بدينار وقول الآخر: أو كلما طن الذباب زجرته ... إن الذباب إذن عليَّ كريم آخر: اذهب فأنت طليق عرضك إنه ... عرض عززت به وأنت ذليل آخر: نجا بك عرضك منجى الذباب ... حمته مقاذيره أنْ ينالا وفي فعل الحاسدين من نشر المساوي ودفن المحاسن " قول " الآخر: إن يسمعوا الخير يخفوه وإن سمعوا ... سراً أذيع وإن لم يسمعوا كذبوا ونحوه قول الآخر: صم إذا سمعوا خيراً ذكرت به ... وإن ذكرت بسوء عندهم أذِنوا وفي بيع ما يضمن به عند الحاجة قول الآخر: وقد تخرج الحاجات يا أم مالك ... كرائم من رب بهن ضنين " وقال أبو علي الحداد: قالت: وأبدت صفحة ... كالشمس من تحت القناع بعت الدفاتر، وهي آ ... خر ما يباع من المتاع لا تعجبي ممّا رأي ... ت فنحن في زمن الضياع ونحو ذلك قول ابن الحاجب لما ورد مصر: يا أهل مصر وجدت أيديكم ... عن بسطها للنوال منقبضه لما عدمت الغذا بأرضكم ... أكلت كتبي كأنني أرضه وصرت لما حللت واديكم ... كجملة في الكلام معترضه " وفي قساوة القلب قول مهلهل بن ربيعة:

يبكي عليتا ولا نبكي على أحد ... لنحن أغلظ أكباداً من وفي اتباع ما تيسر، وترك ما تعسر، قول الأعشى: إذا حاجة ولتك لا تستطيعها ... فخذ طرفاً من غيرها حين تسبق ونحوه قول عمرو بن معد يكرب: إذا لم تستطع شيئاً فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع وقد سبق إليه امرؤ القيس في قوله: وخير ما رمت ما ينال وفي التحذير من فعل السوء مخافة قول عمرو بن كلثوم: ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا أي فنعاقبه، فسمى المجازاة على الجهل جهلاً كقوله تعالى:) الله يستهزئ بهم (. وفي التشكي من قلة الإخوان الصادقين قول امرؤ القيس: إذا قلت: هذا صاحب قد رضيته ... وقرت به العينان بدلت آخرا كذلك جدّي ما أُصاحب صاحباً ... من الناس إلاّ خانني وتغيّرا وأخذ الشعراء هذا المعنى كثيراً كقول الأندلسي: وزهدني في الناس معرفتي بهم ... وطول اختباري صاحباً بعد صاحب فلم ترني الأيام خلاً تسرني ... مباديه إلاّ ساءني في العواقب ولا قلت: أرجوه لدفع ملمّة ... من الدهر إلاّ كان إحدى المصائب وذكر عن ابن العباس النيسابوري أنه قال: لو صحت صلاة بغير قراءة القرآن لصحت بهذا البيت: أتمنى على الزمان محالاً ... أن ترى مقلتاي وجنة حر ويحكى أن علوية غنى بين يدي المأمون بن الرشيد - رحمهم الله -: وإني مشتاق إلى ظل صاحب ... يروق ويصفو إن كدرت عليه يوافقني في كلّ أمر أرومه ... ويغفر ذنبي إن أسأت إليه فقال المأمون: أعطوني هذا الصاحب وخذوا نصف الخلافة، والشعر لأبي العتاهية. ولابن حمديس من قصيدة: فلا ترج من دنياك خيراً وإن يكن ... فما هو إلاّ مثل ظلّ سحاب وما الحزم كل الحزم إلاّ اجتنابها ... وأشقى الورى من تصطفي وتحابي ولغيره: وإخوان وثقت بهم فأضحى ... أذاهم يعتريني كل حين فلما أن أسأت الظنّ كفوا ... فيا عجباه من ظن يقيني طرفة: كل خليل كنت خاللته ... لا ترك الله له واضحه كلهم أروغ من ثعلب ... ما أشبه الليلة بالبارحة! غيره: وكنت أخي بإخاء الزمان ... فلما انقضى صرت حرْباً عوانا وكنت أُعدّك للنائبات ... فهم أن أطلب منك الأمانا غيره: فلا تغترّ من خلّ ببشر ... ولا يتودد عند التلاقي فكم نَبْت نضير راق حسناً ... عياناً وهو مُرٌّ في المذاق غيره: كان ما كان وانقضى ومضى ... وقد طويت بساطاً كنت ناشره لما رأيتك لا تبقي على أحد ... فكيف أحسد بعدي من تعاشره وقال سعيد بن حميد من أبيات: وما أنت إلاّ كالزمان تلونت ... نوائب من أحداثه وأمور فإن قل إنصاف الزمان وعدلُه ... فمن ذا على جور الزمان يُجير؟ وقال جحظة: ضاقت عليّ وجوه الرأي في نفر ... يلقون بالجحد والكفران إحساني قلّب الطرف تصعيداً ومنْحَدَراً ... فما أقابل إنساني بإنسان وقال: وإذا جفاني صاحب ... لم أستجر ما دمت قطْعَهْ وتركته مثل القب ... ر أزورها في كل جمعة " وفي التفجع على الشباب قول حميد بن ثور الهلالي: ليالي أبصار الغواني وسمعها ... إلي وإذْ ريحي لهنّ جنوب وإذا شعري ضافٍ ولوني مُذهَب ... وإذا ليَ في ألبابهنّ نصيب فلا يبعد الله الشباب وقولنا ... إذا ما صبونا صَبْوةً سنتوب وقال أبو الفضل المكيالي بل ابن الرومي: يمضي الشباب ويبقى من لبانته ... شجو على النفس لا ينفك يشجيها ما كان لي دون إعجاب النساء به ... والنفس أوجب إعجاباً لما فيها وقال قتادة في قوله تعالى) وَجَاءكُمْ النَّذيِرُ (يعني الشيب. وقال المهلبي: صبغت الرأس ختلاً للغواني ... كما غطى على الرِّب المريب أعلل مرة وأساء أخرى ... ولا تحصى من الكبر العيوب أُسوف توبتي خمسين حولاً ... وظني أن مثلي لا يتوب يقَوَّمُ بالثِّقافِ العود لدْناً ... ولا يتقَّومُ العودُ الصليب وكان مالك بن دينار يقول: ما أشد فطام الكبير، وقال آخر:

أشعر بيت قالته العرب

دعي لومي ومعتبي أماما ... فإني لم أعود أن ألاما وكيف ملامتي إذْ شاب رأسي ... على خلق نشأت به غلاما وقال محمود للوراق في الخضاض: يا خاضب الشيب الذي ... في كل ثالثة يعود وله بديهةُ لوعةٍ ... مكروها أبداً عتيد فدع المشيب كما أرا ... د فلن يعود كما تريد وقال أيضاً في ذلك: يا خاضب الشيبة نح فقدها ... فإنما تدرجها في كفن أما تراها منذ عاينتها ... تزيد في الرأس بنقص البدن وحكى أن أبا الأسود الدؤلي دخل على عبيد الله بن زياد فقال له عبيد الله يهزأ به: يا أبا الأسود، إنك لجميل، فلو تعقلت تميمة؟؟ فقال أبو الأسود: أفنى الشباب الذي أفنيت جدته ... كَر الجديدين من آت ومنطلق لم يتركا لي في طول اختلافهما ... شيئا أخاف عليه لذْعة الحدق " ونحوه قول محمد بن حازم: لا تكذبن فما الدنيا بأجمعها ... من الشباب بيوم واحد بدل وقول منصور النمري: ما كنت أوفى شبابي حق عزته ... حتى مضى فإذا الدنيا لهُ تبع " وقال ابن الخطيب: لما علاني الشيب قال صواحبي ... لا تبتغي خلاًّ بثوب أشهب فصبغته خوف الصدود فقلن لي: ... هذا رواية أصبغ عن أشهب وقال غيره: نظرت إليّ بطرف من لم يعدل ... لما تمكن طرفها من مقتلي لما رأت شيباً ألمَّ بمفرقي ... صدت صدود بجانب متحمِّل فجعلت أطلب وصلها بتملق ... والشيب يغمزُها بأن لا تفعلي وقال غيره: أناخ الشيب ضيفاً لم أُرِدُه ... ولكن لا أطيق له مَرَدّا رداء للرّدى فيهِ الدليل ... تردى من به يوماً تردى وقال غيره: حلّ المشيب بعارضي ومفارقي ... بئس القرين أراهُ غير مفارقي رحل الشباب فقلت: قف لي ساعة ... حتى أودع قال: إنك لاحقي ويحكى أن أبا دلف دخل على المأمون وعنده جارية فغمزها عليه فقالت له: شِبْتُ يا أبا دُلف، فأعرض عنها، فقال له المأمون: ألا تجيبها؟ فأطرق ساعة ثم رفع رأسه وقال: تهزأت إذا رأت شيبي فقلت لها: ... لا تهزئي من يطلْ عمرٌ به يشب شيب الرجال لهم زين ومكرمة ... وشيبكنّ لكُنّ العارُ فاكتئبي فينا لكُنّ وإن شَيْبٌ بدا أرَبٌ ... وليس فيكن بعد الشيب من أرب غيره: لا تخطون إلى خِطءٍ ولا خطَأ ... من بعد ما الشيب في فوديك قد وخطأ فأي عذر لمن شابت مفارقُه ... إذا جرى في ميادين الهوى وخطا وقيل: ظهور الشيب في الناصية كرم، وفي القفا لؤم، وفي الهامة وقار، وفي الفودين شرف، وفي الصدغين شح، وفي الشاربين فحش ". وهذا الباب لا يأتي عليه الحصر، فلنقتصر على هذا القدر. واعلم أنه لا يزال علماء الأدب من لدن أدبرت العرب يختلفون في مقالة العرب بحسب اختيار الأجود منه والأصدق والأفخر أو نحو ذلك فنورد جملة مما وقع لهم في ذلك إمتاعاً والله الموفق. لله الأمر من قبل ومن بعد أشعر بيت قالته العرب حدثوا في حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: " أشعر بيت قالته العرب قول دريد ابن الصمة: قليل التشكي للمصيبات ذاكر ... من اليوم أعقاب الأحاديث في غد وقيل: قول أبي ذؤيب: والنّفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع وقيل: قول زهير: فلما وردن المساء زُرْقاً جمامُه ... وضعن عصيَّ الحاضر المتخيعم وقيل: قول الآخر: صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه ... فلما علاه قال للباطل ابعد وقيل: قول لبيد: وأكذب النفس إذا حدثتها ... إن صدق النفس يزري بالأمل وقيل: قول امرؤ القيس: ألا يا لهفَ هندٍ إثْرَ قومٍ ... همُ كانوا الشفاء فلم يصابوا وقاهُمْ جَدُّهُم ببني أبيهِم ... وبالأشقّين ما كان العقاب وأفْلتهنَّ عِلْباءٌ جريضاً ... ولوْ أدركنه صَفِرَ الوِطاب وقيل: بل قوله: اللهُ أنجَحُ ما طلبْتَ به ... والبِرّ خيرُ حقيبةِ الرَّحْلِ وقوله أيضاً: وإنك لم يفخر عليك كفاخر ... ضعيف ولم يغلبك مثل مغلَّب لله الأمر من قبل ومن بعد

أحسن بيت قالته العرب

أحسن بيت قالته العرب وأحسن بيت قالته العرب قول كعب بن زهير في النبي صلى الله عليه وسلم: تحملهُ الناقةُ الأدماءُ معتجراً ... بالبُرْدِ كالبدر جليّ ليلة الظلمِ وفي عِطافَيْهِ أو أثناء بردته ... ما يعلم الله من دين ومن كرم وقيل: قول الآخر من الخزانة فيه صلى الله عليه وسلم: فشَقَّ له من اسمه ليُجلَّه ... فذو العرش محمود وهذا محمد وقيل: أحسن ما قالته العرب قول التميمي: ما كلف الله نفساً فوق طاقتها ... ولا تجود يد إلاّ بما تجد وقول المرقش: ومن يلق خيراً يحمد الناس أمره ... ومن يغْوِ لا يعدم على الغي لائما وقول الآخر: ألا عائذ بالله من عدم الغنى ... ومن رغب يوماً إلى غير راغب لله الأمر من قبل ومن بعد أصدق بيت قالته العرب وأصدق بيت قالته العرب قول الشاعر: وما حملت ناقة فوق رحلها ... أبَرَّ وأوفى ذمة من محمد وقيل: قول أبي ذؤيب: والنفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع وقيل: قول الحطيئة: من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العُرف بين الله والناس وقول طرفة: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود " وكان صلى الله عليه وسلم يذكره ويقول: " ويأتيك بالأخبار من لم تزوده بالأخبار ". ويقول عليه السلام: التركيب أو المعنى واحد، فيقول أبو بكر رضي الله عنه: أشهد أنك رسول الله، وقد قال الله تعالى:) وما علمناه الشعر (رجع ". وقيل: قول امرئ القيس: الله أنجح ما طلبت به ... والبر خير حقيبة الرجل واعلم أن هذا الخلاف في هذه الأبيات وكذا في هذه التراجم ليس اختلاف تناقض، فإنها كلها صحيحة، وإنما ذلك أن كلاً يتكلم بما عرف أو بما حضر في فكره فافهم. لله الأمر من قبل ومن بعد أكذب بيت قالته العرب أكذب بيت قالته العرب قول الأعشى: لو أسندت ميتاً إلى صدرها ... عاش ولم ينقل إلى قابر حتى يقول الناس ممّا رأوْا ... يا عجبا للمَيِّتِ الناشر وقيل: قول مهلهل: فلولا الريح أسمع من بنجد ... صليل البَيْض تُقرع بالذكور لله الأمر من قبل ومن بعد أنصف بيت قالته العرب أنصف بيت قالته العرب قول سيدنا حسان رضي الله عنه: أتهجوه ولست له بكفءٍ ... فشرّكما لخيرِكما الفداء ومن ذلك قول الآخر: بكلّ قرارةٍ منّا ومنهم ... بَنانُ فتىً وجمجمةُ فَلِيقُ فأشبعنا الضباع وأشبعوها ... فراحت كلها تئق تفوق قتلنا الفارس الوضاح منهمْ ... كأن فروع لمّتِه العُذوق أبكينا نساءهم وأبكوا ... نساء ما يسوغ لهن ريق وقول الآخر: نطاعنهم نستودع البيض فيهم ... ويستودعونا السمهري المقوما لله الأمر من قبل ومن بعد أفخر بيت قالته العرب أفخر بيت قالته العرب قول " الشاعر وينسب " لحسان في النبي صلى الله عليه وسلم: له همم لا منتهى لكبارها ... وهمته الصغرى أجل من الدهر له راحة لو أن معشار جودها ... على البر كان البر أندى من البحر و" قيل ": قول امرئ القيس: ولو أن ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليل من المال ولكنما أسعى لمجد مؤثّل ... وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي وقيل: قول الفرزدق: ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا ... وإن نحن أومأنا إلى الناس وقَّفُوا ونحوه قول جرير: إذا غضبت عليك بنو تميم ... وجدت الناس كلهم غضابا لله الأمر من قبل ومن بعد أمدح بيت قالته العرب أمدح بيت قالته العرب قول الخنساء رحمها الله: وإن صخراً لتأتمُّ الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار وقيل: قول زهير: تراه إذا ما جئته متهللاً ... كأنك معطيه الذي أنت سائله وقيل: قول جرير: ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح وقيل: قول الأخطل: شُمسُ العداوةِ حتى يُستقادَ لهم ... وأعظم الناس أحلاماً إذا قدروا وقيل: قول حسان رضي الله عنه في بني جفنة:

أهجى بيت قالته العرب

يُغشَوْنُ حتى ما تهر كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل وقيل: قول الأعشى: فتى لو ينادي الشمس ألقت قناعها ... أو القمر الساري لألقى المقالدا قوله: ينادي الشمس أي يجالسها في نَدِيٍّ. وقيل: قول أبي الطمحان القيني: أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه أهجى بيت قالته العرب أهجى بيت قالته العرب قول الأعشى: تبيتون في المشتى مِلاءٍ بطونكم ... وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا وقيل: قول الأخطل: قوم إذا نبح الأضياف كلبهم ... قالوا لأمهم: بولي على النار فتمسك البول بخلاً أن تجود به ... فما تبول لهم إلاّ بمقدار وقيل: قول حسان رضي الله عنه: لا بأس بالقوم من طول ومن قصر ... جسم البغال وأحلام العصافير وقيل: قول زياد الأعجم: قالوا: الأشاقر تهجوني فقلت لهم: ... ما كنت أحسبهم كانوا ولا خلقوا " وقيل: قول أوس: لعمرك ما تبلى سرابيل عامر ... من اللؤم ما دامت عليها جلودها وقيل: قول الطرماح: تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت سبل المكارم ضلت وقيل: قول الفرزدق: أنتم قرارة كل معدن سوأة ... ولكل سائلة تسيل قرارُ لله الأمر من قبل ومن بعد أشجع بيت قالته العرب أشعر بيت قالته العرب قول العباس بن مرداس: أشد على الكتيبة لا أبالي ... أحتفي كان فيها أم سواها وقيل: قول عنترة: وإني لدى الحرب العوان موكل ... بتقديم نفس لا أريد بقاءها وقيل قوله: إنَّ المنية لو تمثل مثلت ... مثلي إذا نزلوا بضنك المنزل وقيل قول الآخر: دعوت بني قحافة فاستجابوا ... فقلت: ردوا فقد طاب الورود لله الأمر من قبل ومن بعد أشعر بيت في وصف الجبان أشعر بيت قيل في وصف الجبان قول جرير: ما زلت تحسب كل شيء بعدهم ... خيلاً تكرّ عليكم ورجالا وقيل قول الشاعر: طليق الله لم يمنن عليه ... أبو داود وابن أبي كبير ولا الحجاج عينَيْ بنتِ ماءٍ ... تقلب طرفها حذَرَ الصقور نصب عيني على الذم. ومن هذا قول الطرماح: ولو أن برغوثاً على ظهر قملة ... يكر على صفّيْ تميم لولّت لله الأمر من قبل ومن بعد أشعر بيت قيل في الاستحقار أشعر بيت قيل في الاستحقار قول الحطيئة: فمن أنتم إنا نسينا من أنتم ... وريحكم من أي ريح الأعاصر وأنتم أُلى جئتم مع البقل والدبى ... فطار وهذا شخصكم غير طائر أي الذين جئتم مع البقل والدبى جمع دباة بفتحتين. وقيل: قول جرير: فإنك لو رأيت عبيد تيم ... وتيماً قلت: أيهم العبيد؟ ويقضى الأمر حين تغيب تيم ... ولا يستأذنون وهم شهود وقيل: قول الطرماح: لو كان يخفى على الرحمان من أحد ... من خلقه خفيت عنه بنو أسد " ولما قتل جعفر بن يحيى البرمكي بكى عليه أبو نؤاس فقيل له: أتبكيه وقد هجوته؟ فقال: ذلك لركوب الهوى بالله " كذا " بلغه أني قلت: ولست وإن أطنبت في وصف جعفر ... بأول إنسان خرا في ثيابه فكتب: يدفع إليه عشرة آلاف درهم يغسل بها ثيابه. وقال ابن الأعرابيّ: أهجى بيت قال المحدثون قول محمد بن وهب في محمد بن هشام: لم يند كفاك من بذل النوال كما ... لم يند سيفك، مذ قلدته، بدم وقال الصفي الحلي: إني مدحتك كي أجيد قريحتي ... وعلمت أن المدح فيك يضيع لكن رأيت المسك عند فساده ... يدنوهُ من بيت الخلا فيضوع وقال آخر: إذا رمت هجواً من فلان تصدني ... خلائق سوء عنه لا تتزحزح تجاوز قدر المدح حتى كأنه ... بأقبح ما يهجى به الناس يمدح وقال غيره في مأنوف: رأينا للئيم جدار أنف ... يضاهي في تشامخه الجبالا تصدر للهلال لكي يراه ... ولولا أنفه لرأى الهلالا ويلتحق كثير من الهجاء بهذا الباب كقول جرير: لو أن تغلب جمعت أحسابها ... يوم التفاخر لم تزن مثقالا وكقوله فيها: والتغلبيّ إذا تنحنح للقرى ... حك أسته وتمثّل الأمثالا لله الأمر من قبل ومن بعد أكرم بيت قالته العرب

باب في

أكرم بيت قالته العرب قول طرفة: وأعسر أحياناً فتشتد عسرتي ... وأدرك ميسور الغنى ومعي عرضي وقيل: قول كثير: إذ قلّ مالي زاد عرضي كرامةً ... عليَّ ولم أتبع دقيق المطامع وقيل: قول عنترة: ولقد أبيت على الطوى وأظلّه ... حتى أنال به كريم المأكل وقيل: قول كعب بن مالك رضي الله عنه: نُسوِّد ذا المال القليل إذا بدت ... مروءته فينا وإن كان معدما لله الأمر من قبل ومن بعد باب في نبذة من كلام الأذكياء وهذه نبذة من كلام الأذكياء، وإنما نعني بها ما شأنه أن يصدر عن ذكي سواء صدر عنه أو غيره، وللناظر العاقل في كليهما اعتبار، فإن كل ما هو حكمة أو صواب من القول فهو ثمرة العقل عادة، فإن صدر عن العاقل دل على حكمة الله تعالى الباهرة في ترتيب المسببات على أسبابها، ونبه على شرف العقل وشرف من اتصف به من الخلق، وإن صدر عن غير العاقل دلّ على مشيئة الله تعالى واختياره في أن يفعل ما شاء وأنه هو الخالق للحكمة والصواب على ألسنة العقلاء من غير تأثير للعقل فيها ولا ربط عقلي بينه وبينها بل عنده لا به، فتبارك الله رب العالمين، فيدخل في هذا ما يقع للحكماء، وما يندرج عن غيرهم كالصبيان والنساء وجفاة الأعراب، وتدخل الأجوبة المسكتة ونحو ذلك. فمن ذلك ما ورد عن حكماء العرب وبعضه ينسب حديثاً: لا حليم إلاّ ذو عثرة ولا حكيم إلاّ ذو تجربة. خير المقال ما صدقه الفعال. رأس الدين، صحة اليقين. كفر النعمة لؤم، وصحبة الجاهل شؤم. جانب مودة الحسود، وإن زعم أنه ودود. إذا جهل عليك الحمق فالبس له سلاح الرفق. لكل شيء آفة، فآفة العلم النسيان، وآفة العبادة الرياء، وآفة الحياء الضعف، وآفة اللب العُجْب، وآفة الظرف الصلف، وآفة الجود السرف، وآفة الجمال التيه، وآفة السؤدد الكبر، وآفة الحلم الذل. ويقال أيضاً: آفة الحلم السفه، وآفة الحديث الكذب، وآفة العبادة الفَتْرَةُ، وآفة الشجاعة البغي، وآفة السماحة المن، وآفة الدين الهوى، وآفة الحسب الفخر. والمراد بالصلف هنا مجاوزة الحد تكبرا. مؤمل النفع من اللئام، كزارع البذر في الحمام. صحبة الفاسق شين، وصحبة الفاضل زين. من جرى في ميدان أمله، عثر في عنان أجله. من لم يصبر على البلاء، لم يرض بالقضاء. فقد الصبر، أعظم من حوائج الدهر. إذا حزن الفؤاد، ذهب الرقاد. الجليس الصالح، كالمسك النافح. الحسود مغتاظ على من لا ذنب له. من الآفات، كثرة الالتفات. من أشد العذاب، فراق الأحباب. كلب شاكر، خير من صديق غادر. إذا جاء القدر، عمى البصر. العيال، سوس المال. إذا صدق العيان، لم يحتج إلى برهان. شفاء الصدور، في التسليم للمقدور. الحق ثقيل، وطالبه قليل. كثرة العتاب، داعية الاجتناب. من سعى إليك، سعى عليك. مدح الغائب تعريض بالحاضر. من تفرغ للشر يطلبه، أتيح له من يغلبه. من أمل أحداً هابه، ومن قصر عن شيء عابه. رب أخ لم تلده لك أمك. لا يضر السحابَ، نُباحُ الكلاب. وفي معناه قول حسان رضي الله عنه: ما أبالي أنَبَّ بالحَزْن تيس ... أم لحاني بظهر غيبٍ لئيمُ وقول الآخر: ما يضر البحر أمسى زاخراً ... أن رمى فيه غلام يحجر وقول الآخر: زعم الفرزدق أن سيقتل مِرْبعاً ... أبشر بطول سلامة يا مِرْبع وقول الآخر: تهددني لتقتلني نمير ... متى قتلت نمير من هجاها وقيل: مما يعين على العدل اصطناع من يؤثر التقى، واطّراح من يقبل الرُّشا، واستكفاء من يعدل في القضية، واستخلاص من يشفق على الرعية، فإنه ما عدل من جار وزيره، ولا صلح من فسد مشيره. وقيل: آفة الملوك سوء السيرة، وآفة الوزراء خبث السريرة، وآفة الجند مفارقة القادة، وآفة الرعية مفارقة الطاعة، وآفة الزعماء ضعف السياسة، وآفة العلماء حب الرياسة، وآفة القضاة شدة الطمع، وآفة الشهود قلة الورع. وقيل: أربعة لا يزول معها ملك: حفظ الدين، واستكفاء الأمين، وتقديم الحزم، وإمضاء العزم. وأربعة لا يثبت معها ملك: غش الوزير، وسوء التدبير، وخبث النية، وظلم الرعية.

وأربعة لا تستغني عن أربعة: الرعية عن السياسة، والجيش عن القادة، والرأي عن الاستشارة، والعزم عن الاستخارة. وأربعة لا بقاء لها: مال يجمع من حرام، وحال تعهد من الأيام، ورأي يعرى من العقل، وملك يخلو من العدل. وأربعة تولد المحبة: حسن البشر، وبذل البر، وقصد الوفاق، وترك النفاق. وأربعة من علامات الكرم: بذل الندى، وكف الأذى، وتعجيل المثوبة وتأخير العقوبة. وأربعة من علامات اللؤم: إفشاء السر، واعتقاد الغدر، وتجنب الأخيار، وإساءة الجوار. وأربعة من علامات الإيمان: حسن العفاف، والرضى بالكفاف، وحفظ اللسان، ومحبة الإخوان. وأربعة من علامات النفاق: قلة الديانة، وكثرة الخيانة، وغش الصديق، ونقض المواثيق. وأربعة تزال بأربعة: النعمة بالكفران، والقوة بالعداون، والدولة بالإغفال، والحظوة بالإدلال. وأربعة يُترَقّى بها إلى أربعة: العقل الرياسة، والرأي إلى السياسة، والعلم إلى التصدير، والحلم إلى التوقير. وأربعة تؤدي إلى أربعة: الصمت إلى السلامة، والبر إلى الكرامة، والجود إلى السيادة، والشكر إلى الزيادة. وأربعة تدل على وفور العقل: حب العلم، وحسن العلم، وصحة الجواب، وكثرة الصواب. وأربعة تدل على نقصان العقل: الجهل بالأعادي، والأمن للعوادي، والجفوة للإخوان، والجرأة على السلطان. وأربعة لا تتم إلاّ بأربعة: العلم بالحجا، والدين بالتقى، والعمال بالنيات، والموالاة بإخلاص الطويّات. وقال حكيم آخر: ثلاث لا يستصلح فسادهن بشيء من الحيلة: العداوة بين الأقارب، وتحاسد الأكفاء، والركاكة في العقول. وثلاث لا يستفاد صلاحهن بنوع من المكر: العبادة من العلماء، والقناعة من المستبصرين، والسخاء في ذوي الأخطار. وثلاثة لا يشبع منها: الحياة، والعافية، والمال. وثلاثة لا يستغني عنها السلطان: وزير حسن التدبير، ومستشار نصيح، وصاحب بريد صدوق. وثلاث هي قوام العالم: عدل الأمراء، وصلاح العلماء، وانقياد الرعية للرؤساء. ومن مشاهير الحكماء القدماء لقمان الحكيم، وقد ذكره الله تعالى وذكر " بعض " ما قال لابنه، وقال له رجل: ما الذي بلغ بك ما أرى؟ فقال: ما ذاك؟ فقال: وطئ الناس بساطك ورضوا بقولك، فقال: يا أخي إن صنعت ما أقول لك كنت كذلك، ثم قال: غَضّي بصري، وكفّي لساني، وعفة مطمعي، وحفظ فرجي، وقيامي بعهدي، ووفائي بوعدي، وإكرام ضيفي، وحفظ جاري، وترك ما لا يعنيني هو الذي صيرني كما ترى. ومن حكيم كلامه لابنه: يا بني. جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإن الله تعالى يحيي القلوب الميتة بالعلم كما يحيي الأرض الميتة بوابل المطر. وقوله: من لم يملك لسانه يندم، ومن لم يتق الشتم يشتم، ومن صاحب قرين السوء لم يسلم. وقال قائل لأكثم بن صيفي حكيم العرب: ما السؤدد؟ قال: اصطناع العشيرة، واحتمال الجريرة، قال: فما الشرف؟ قال: كفّ الأذى، وبذل الندى، قال: فما المجد؛ قال: حمل المغارم، وبناء المكارم، قال: فما الكرم؟ قال: صدق الإخاء، في الشدة والرخاء، قال: فما العز؟ قال: شدة العضد، وكثرة العدد، قال: فما السماحة؟ قال: بذل النائل، وحب السائل، قال: فما الغنى؟ قال: الرضا بما يكفي، وقلة التمني، قال: فما الرأي؟ قال: لُبٌّ تعينه تجربة. ومن كلامه أيضاً: من وفى بالعهد، فاز بالحمد، ومن اصطنع قوماً، انتفع بهم يوماً، ومن فسدت بطانته كان كمن غصّ بالماء، ومن أكثر من شيء عرف به، ومن حدث من لا يفقه كان كمن قدم مائدة لأهل القبور، ومن قطع عليك الحديث فلا تحدثه، إذ ليس بصاحب أدب، ومن عرف بالصدق قُبِل كَذِبه، ومن عرف بالكذب لم يُقبل صدقه، ومن غضب بلا شيء رضي بلا شيء، ومن أظهر محاسنه ودفن مساويه كمل عقل، ومن غلب هواه عقله افتضح، ومن استشار عدوه في صديقه أمر بقطيعته، ومن فرح بكذب الناس في الثناء عليه بان لهم حُمقه، ومصادقة الكرام غنيمة، ومصادقة اللئام ندامة، وعِدَةُ الكريم نقْد، وعِدَة اللئيم تسويف.

ومن كلام بزرجمهر الفارسي: نصحني النصحاء، ووعظني الوعاظ، فلم يعظني أحد مثل شيمتي، ولا نصحني مثل فكري، واستضأت بنور الشمس وضوء النهار، فلم أستضيء بشيء أضوأ من نور قلبي، وكنت عبد الأحرار والعبيد، فلم يملكني أحد ولا قهرني مثل هواي، وعاداني العداء فلم أرَ أعدى إلي من نفسي، وزاحمتني المضايق، فلم يزاحمني مثل الخلق السوء، ووقعت في المضار العظيمة، فلم أقع في أضر من لساني، ومشيت على الجمر ووطئت على الرمضاء، فلم أرَ ناراً أحر من غضبي إذا تمكن مني، وطلبني الطلاب فلم يدركني مثل إساءتي، وفكرت في الداء القاتل ومن أين يأتيني فوجدته من معصية ربي، والتمست الراحة لنفسي فلم أجد شيئاً أروح لها من ترك ما لا يعنيها، وركبت البحر، وعاينت الأهوال، فلم أرَ هولاً أعظم من الوقوف بين يدي سلطان جائر، وتوحشت في البراري والجبال، فلم أرَ أوحش من قرين السوء، وعالجت السباع فغلبتها، وغلبني صاحب الخلق السوء، وأكلت الطيّب، وشربت المسْكر، وعانقت الحسان، وركبت الجياد، فلم أجد شيئاً ألذ من العافية والأمن، وأكلت الصَّبر وشربت المر، فلم أرَ شيئاً أمرّ من الفقر، وشاهدت الزحوف، وعاينت الحتوف، وضارعت الأقران، فلم أرَ أغلب من المرأة السوء، وعالجت الأثقال، ونقلت الصخر، فلم أرَ حِمْلاً أثقل من الدَّين، ونظرت فيما يذل العزيز، ويسكر القوي، ويضع الشريف، فلم أرَ أذل من ذي فاقة وذي حاجة، ورشقت بالنشاب وشددت في الوثاق، وضربت بعمد الحديد، فلم يهدمني مثل ما هدمني الهم والحزن، واصطنعت الأخدان وانتخبت الأقوام للعدة والشدة والنائبة، فلم أرَ شيئاً خيراً من التكرم عندهم، وطلبت الغنى من وجوهه، فلم أرَ غنىً أغنى من القناعة، وتصدقت بالذخائر، فلم أرَ أنفع من رد ضال إلى الهدى، ورأيت الذل في الغربة والوحدة، فلم أرَ أذل من مقاساة جار السوء، وشيدت البنيان لأعتز به وأُذكر فلم أرَ شرفاً أرفع من اصطناع المعروف، ولبست الملابس الفاخرة، فلم ألبس مثل الصلاح، وطلبت أحسن الأشياء عند الناس فلم أجد شيئاً أحسن من حسن الخلق، وسررت بعطايا الملوك وجوائزهم، فلم أسر بشيء أعظم من الخلاص منهم. ولما قتله كسرى أنوشروان لرغبته عن دين المجوسية وانتقاله إلى دين عيسى عليه السلام وجدوا في منطقته رقعة فيها ثلاث كلمات وهي: إذا كان القدر حقاً فالحرص باطل، وإذا كان الغدر في الناس طبيعة فالثقة بكل أحد عجز، وإذا كان الموت بكل الناس نازلاً فالطمأنينة إلى الدنيا حمق. ويقال: إن المهلب لما توسم النجابة في ابنه يزيد وهو صغير أراد أن يختبره، فقال له: يا بني ما أشد البلاء؟ قال: يا أبت معاداة العقلاء، ثم قال: اقلني قال: قد أقلتك فقل: فقال: أشد البلاء تأمير اللؤماء على الكرماء. ثم قال: أقلني قال: قد أقلتك فقل: فقال: أشد البلاء معاداة العقلاء ومسألة البخلاء وتأمر اللؤماء على الكرماء، فقال المهلب: والله يا بني ما يسرني بقولك مقول لقمان، ولا يعدل عندي بقاءك ملك سليمان. وكان زياد وهو من ذوي السياسة يقول: أوصيكم بثلاثة: العالم والشيخ والشريف، فوالله لا أوتي بوضيع سب شريفاً، أو شاب وثب بشيخ، أو جاهل امتهن عالماً، إلاّ عاقبت وبالغت. وفي الأجوبة: أمر عليه الصلاة والسلام أن تضرب عنق عقبة بن أبي معيط فقال: من للصبية يا محمد؟ قال: النار. وقال الصديق رضي الله عنه لرجل قال له: لأشتمنك شتماً يدخل معك في قبرك: معك والله يدخل لا معي. وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه لعامر بن عبد القيس العنبري ورآه أعرابياً: يا أعرابي أين ربك؟ قال: بالمرصاد. وقال رجل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ فقال علي: أين سؤال عن المكان وكان الله ولا مكان. وكان الأعمش يقول: احذروا الجواب، فإن عمروا بن العاصي قال لعدي بن حاتم: متى فقئت عينك يا أبا طريف؟ فقال: يوم طعنت في أستك وأنت مُوَلٍّ يعني يوم صفّين. ودخل معن بن زائدة على المنصور فقال: كبر سنك يا معن فقال: في طاعتك يا أمير المؤمنين، قال: وإنك مع ذلك لجلد، قال: على أعدائك يا أمير المؤمنين، قال: وإن فيك لبقية، قال: هي لك يا أمير المؤمنين. وقال معاوية لابن عباس رضي الله عنهم، وقد كف بصره: أنتم يا بني هاشم تصابون في أبصاركم، فقال: وأنتم يا بني أمية تصابون في بصائركم.

وقال ابن " أبي " الزناد لابن شبرم في مناظرة: من عندنا خرج العلم، فقال ابن شبرمة: نعم ثم لم يعد إليكم. وقال عمر بن الخطاب لأبي مريم السلولي: والله لا أحبك حتى تحب الأرض الدم قال: أفتمنعني حقاً؟ قال: لا، قال: فلا بأس، إنما يأسف على الحب النساء. وقال الحجاج لرجل من الخوارج: إني لأبغضكم فقال الخارجيّ: أدخل الله أشدنا بغضاً لصاحبه الجنة. وقال رجل لعمرو بن العاصي: لأتفرغن لك، فقال: حينئذ تقع في الشغل. وقال عبد الملك بن مروان لبثينة صاحبة جميل: ما رجا منك جميل حين أحلك؟ فقالت له: ما رجت منك الأمة حين ملكتك أمرَها. وقال لثابت بن عبد الله: زعم عبد الله بن هلال أنك أشبه الناس بإبليس، قال: صدق، ما ينكر أن يكون سيد الإنس يشبه سيد الجن؟ وقال معاوية لرجل من أهل اليمن: ما كان أحمق قومك حين قالوا) ربنا باعد بين أسفارنا (وكان اجتماع الشمل خيراً لهم، فقال اليماني: يا أمير المؤمنين: قومك أحمق حين قالوا:) اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء (ولم يقولوا: فاهدنا له. وقال الرشيد لشريك القاضي: يا شريك آية في كتاب والله ليس لك ولا لقومك فيها شيء قوله تعالى:) وإنَّهُ لذكر لَكَ ولقومك (فقال: يا أمير المؤمنين وآية أخرى ليس لي ولا لقومي فيها شيء قوله تعالى:) وكّذَّب بهِ قَوْمكَ وَهُوَ الحَقّ (". وقدم على عمر بن عبد العزيز فتيان فقالوا: توفي أبونا وترك مالاً عند عمنا حُمَيْد، فأمر بإحضاره وقال له: أنت القائل؟: حُمَيْدُ الذي أمَجٌ دارُه ... أخو الخمر ذو الشيبة الأصلعُ أتاه المشيب على شربها ... وكان كريماً فما يَنْزِعُ قال: نعم، قال: أما إذ أقررت فسأجدُّك قال: هيهات، ألم تسمع قوله تعالى:) وَالشُّعَرَاءُ يَتْبَعَهُمْ الغَاوُونَ ألَمْ تَرَ أنَّهُمْ في كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ (قال: أفلت ثم قال: يا حميد، لقد كان أبوك رجلاً صالحاً وأنت رجل سوء، قال: هؤلاء يزعمون أن أباهم توفي وترك عندك مالاً، قال: نعم، وأنا أنفق عليهم من مالي ثم أحضر المال بخواتيم أبيهم، فقال عمر: ما أحدٌ أحق أن يكون عنده منك، قال: لا يعود إليَّ بعد أن خرج مني، وأمج بفتحتين موضع. ويروى عن الأصمعي أنه قال: أتى شهر رمضان وأنا بمكة، فخرجت إلى الطائف لأصوم به فراراً من حر مكة، فلقيني أعرابي فقلت له: أين تريد؟ قال: أريد هذا البلد المبارك " لأصوم فيه هذا الشهر المبارك " فقلت له: أما تخاف الحر؟ قال: من الحر أفِرّ. ونحو هذا ما يحكى عن الربيع بن خثيم رضي الله عنه وقد صلى ليلة حتى أصبح. فقال له رجل: أتعبت نفسك فقال: راحتها أطلب. ونحوه قول عروة بن الورد: تقول سليمى: لو أقمت بأرضنا ... لم تدرِ أني للمقام أُطَوِّف وقول الآخر: سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا ... وتسكب عيناي الدموع لتجمدا وقول أبي تمام: أألفة النحيب كم افتراقٍ ... أجدَّ فكان داعية اجتماع وليست فرحة الأوبات إلاّ ... لموقوفٍ على ترَح الوداع وقال مسلمة بن عبد الملك يوماً لنصيب الشاعر: أمدحت فلاناً لرجل من أهله؟ قال: قد فعلت، قال: أوحرمك؟ قال: قد فعل، قال: فهلاّ هجوته؟ قال: لم أفعل لأني أحق بالهجاء منه إذْ رأيته موضعاً لمدحي، فأعجب ذلك مسلمة فقال له: سلني، قال: لا أفعل، قال: ولم؟ قال: لأن كفك بالعطية أجود من لساني بالمسألة، فوهب له ألف دينار.

ولما فتح قتيبة بن مسلم سمَرْقَنْد ظفر بأثاث وآلات لم يرَ مثلها، وأراد أن يُري الناس عظيم ما ظفر، فأمر بدار ففرشت وفيها قدور تُرْتقى بالسلالم، فإذا بالحضين بن المنذر الرَّقاشي قد أقبل والناس جلوس على مراتبهم، والحصين شيخ كبير، فلما رآه عبد الله بن مسلم قال لقتيبة: ائذن لي في معابثته، فقال له: لا ترده فإنه خبيث الجواب، فأبى عبد الله إلاّ أن يعابثه، وكان عبد الله يضعَّفُ، وكان قد تسوَّر حائطاً إلى امرأة قبل ذلك، فأقبل على الحضين فقال له: أمن الباب دخلت يا أبا ساسان، قال: أجل، أسنَّ عمك عن تسوُّر الحيطان. قال: أرأيت هذه القدور؟ قال: هي أعظمُ مِن أن لا تُرى، قال: ما أحسب بكر بن وائل رأى مثلها قطُّ، قال: أجل، ولا عيلان، ولو كان رآها لسمي شَبْعان ولم يُسَمَّ عَيْلان. فقال عبد الله: يا أبا ساسان أتعرف الذي يقول: عزَلْنا وأمَّرْنا وبكر بنُ وائل ... تجُرّ خُصاها تيتغي من تُحالف قال: أعرف هذا وأعرف الذي يقول: وخيبة من يخيب على غّنيٍّ ... وباهلة بن أعصر والركاب يريد يا خيبة من يخيب. قال: أفتعرف الذي يقول: كأن فقاح الأزد حول ابن مسمع ... إذا عرقت أفواه بكر بن وائل قال أعرف هذا وأعرف الذي يقول: قوم قتيبة أمهم وأبوهم ... لولا قتيبة أصبحوا في مجهل وقبل هذا البيت: إن كنت ترجو ان تنال رغيبة ... في دار باهلة بن أعصر فارحل قال: أما الشعر فأراك ترويه، فهل تقرأ من القرآن شيء؟ فقال: أقرأ منه الأكثر الأطيب:) هَلْ أتَى عَلى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (فأغضبه فقال: والله لقد بلغني أن امرأة الحضين حملت إليه وهي حبلى من غيره، فما تحرك الشيخ عن هيئته الأولى ثم قال على رِسْلِهِ: وما يكون؟ تلد غلاماً على فراشي فيقال: بن الحضين كما يقال: عبد الله بن مسلم. ودخل المعتصم على خاقان يعوده في مرض، فقال للفتح ابنه وهو صبي: أيما أحسن داري أم داركم؟ فقال: يا أمير المؤمنين أما ما دمتَ في دارنا فهي أحسن، ويروى أنه قال له: الدار التي أنتَ فيها أحسن يعني دارهم. وقيل لرجل من الجند: أراك تكره الخروج إلى العدو، فقال: إني لأكره أن يأتيني الموت في بيتي، فكيف أسافر إليه؟ ولما قتل عبد الملك عمرو بن سعيد بقيت أخته آمنة عند الوليد، فلما هلك عبد الملك سعى بها ساع إلى الوليد وأنها لم تبك على عبد الملك كما بكت نظائرها، فذكر لها الوليد ذلك فقالت: صدق القائل إن كنت قائلة ماذا أقول؟ يا ليته بقي حتى يقتل لي أخاً آخر كعمرو بن سعيد. ويلتحق بهذا الباب ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على القبائل خرج وأنا معه وأبو بكر معنا، فأتينا مجلساً فقلنا: من القوم؟ فقالوا: من ربيعة، فقال: أبو بكر: من هامتها أم لهازِمِها؟ فقالوا: من هامتها العظمى، فقال: وأيّ هامتها العظمى؟ قالوا: ذُهْل الأكبر، قال: فمنكم عوف الذي كان يقال فيه: " لا حُرَّ وِوَادِي عَوْف " قالوا: لا، قال: فمنكم بسطام منتهى الأحياء؟ قالوا: لا، قال: فمنكم المزدلف صاحب العمامة؟ قالوا: لا، قال: فمنكم حسان بن ربيعة حامي الذمار؟ قالوا: لا، قال: فمنكم الحَوْفَزان قاتل الملوك؟ قالوا: لا، قال: فأنتم أخوال الملوك من كندة؟ قالوا: لا، قال: فأنتم أصهار الملوك من لحم؟ قالوا: لا، قال: لستم ذُهْل الأكبر، أنتم ذُهْل الأصغر، فقام إليه أعرابي منهم وقال: إنَّ على سائلنا أن نسأله ... والعِبءُ لا تعرفه أو تحمِله

يا هذا سألتنا فلم نكتمك، فمن أنت؟ قال: من قريش، قال: بخ بخ أهل الشرف والرياسة، فمن أي قريش أنت؟ قال: من تيم ابن مرة، قال: أمكنت الرامي من ثغرتك، فمنكم قصي الذي جمع الله به القبائل من فهر؟ قال: لا، قال: فمنكم هاشم الذي هشم الثريد لقومه؟ قال: لا، قال: فمنكم شيبة الحمد مطعم الطير؟ قال: لا، قال: فلكم الإفاضة؟ قال: لا، قال: فلكم الندوة؟ قال: لا، قال: فلكم الحجابة؟ قال: لا، قال: فلكم السّقاية؟ قال: لا، ثم اجتذب أبو بكر زمام طاقته وانصرف عنه، فقال له: أيم الله، لو تلبثت لأخبرتك أنك من زمعات قريش أو ما أنا بدغفل فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال علي: فقلت: يا أبا بكر حصلت من الأعرابي على باقعة، قال: أجل إن فوق كل طامة طامة، والبلاء موكل بالمنطق. وكان عتبة بن أبي سفيان عاملاً على المدينة فولى رجلاً من أهله على الطائف، ثم إنه ظلم رجلاً من الأزد وأخذ له غنماً، فجاء إلى المدينة مشتكياً ودخل على عتبة فأنشأ يقول: أمرت من كان مظلوماً ليأتيكم ... فقد أتاك غريب الدار مظلوم وذكر ما فعل به العامل وأكثر، فقال له عتبة: إنك أعرابيّ جاف، والله ما أحسبك تعرف كم تصلي في كل يوم وليلة، فقال الأعرابيّ: أرأيتك إن أنبأتك عن ذلك أن تجعل لي أن أسألك عن مسألة؟ قال: نعم، فقال الأعرابي: إن الصلاة أربع وأربع ثم ثلاث بعدهن أربع ثم صلاة الفجر لا تضيع قال صدقت فسل، فقال: كم فقار ظهرك قال: لا ادري، قال: فتحكم بين الناس وأنت تجهل هذا من نفسك، فقال عتبة: ردوا عليه غنيمته. ولما ظهر المهلب بن أبي صفرة على الخوارج أرسل كعب " قال عنه الأصفهاني في " أغانيه " " 14: 284 ": " كعب بن معدان الأشقري، والأشاقر قبيلة من الأزد، شاعر، فارس، خطيب، معدود في الشجعان، من أصحاب المهلب والمذكورين في حروب الأزارقة " " ابن مَعْدان الأشقري ومرة بن تليد الأزدي إلى الحجاج ليعلماه بالفتح فلما طلعا عليه تقدم كعب فأنشد: يا حفص إني عداني عنكم السفر ... وقد سهرت فأرْدى نوميَ السهر فقال له الحجاج: أشاعر أم خطيب؟ فقال: كلاهما، ثم أنشده القصيدة، ثم أقبل عليه فقال: خبرني عن " بني " المهلب فقال: المغيرة فارسهم وسيدهم، وكفى بيزيد فارساً شجاعاً، وجوادهم وسحبهم قبيصة، ولا يستحيي الشجاع أن يفر من مدرك، وعبد الملك سم ناقع وحبيب موت ذعاف، ومحمد ليث غاب، وكفى بالفضل نجدة، قال: فكيف خلفت جماعة الناس؟ قال: قد خلفتهم بخير، قد أدركوا ما أملوا، وأمنوا ما خافوا، قال: فكيف كان بنو المهلب فيهم؟ قال: كانوا حماة للسرح نهاراً، فإذا أليلوا ففرسان للبيات، قال: فأيهم كان انجد؟ قال: كانوا كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفها، قال: فكيف كنتم أنتم وعدوكم؟ قال: كنا إذا أخذنا عفونا " واخذوا عفوهم يئسنا منهم "، وإذا اجتهدوا واجتهدنا طمعنا فيهم، فقال الحجاج:) إنَّ العَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (كيف أفلتكم قطري؟ قال: كادنا ببعض ما كنا نكيده، قال: فهلا اتبعتموه؟ قال: كان الحد عندنا آثر من الفل، قال: كيف كان لكم المهلب وكنتم له؟ قال: كان لنا منه شفقة الوالد، وله منا بر الولد، قال: فكيف اغتباط الناس؟ قال: فشا فيهم الأمن، وشملهم النقل قال: أكنت أعددت لي هذا الجواب؟ قال: لا يعلم الغيب إلاّ الله، قال: هكذا والله يكون الرجال، المهلب كان أعلم بك حين وجهك. وفي " نوادر القالي " أن الحجاج قال له: كيف كان محاربة المهلب للقوم؟ قال: كان إذا وجد الفرصة سار كما يسور الليث، وإذا دَهِمَتْه الطحمة راغ كما يروغ الثعلب، وإذا مادَّه القوم صبر صبر الدهر، وانه قال له: كيف أفلتكم قطريّ؟ قال: كادنا ببعض ما كدناه به، والأجل أحصن جنة، وأنفذ عُدة، قال: وكيف اتبعتم عبد ربه وتركتموه؟ قال: آثرنا الحد على الفل، وكانت سلامة الجند أحب إلينا من شجب العدو. ولما مات سعيد بن العاصي قال معاوية لابنه عمرو بن سعيد وهو صبي صغير: إلى من أوصى بك أبوك يا غلام؟ فقال: يا أمير المؤمنين إن أبي أوصاني ولم يوص بي.

وقال معاوية لابنه يزيد وهو ابن تسع سنين: في أي سورة أنت يا بني؟ وكان في سورة القتال، فكره أن يذكرها فقال: أنا في السورة التي تلي:) إنّا فَتَحْنَا لَكَ فَتحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً (يا أمير المؤمنين، فقال معاوية: هذه السورة تليها سورتان، وهي بينهما، ففي أيتهما أنت؟ قال: في السورة التي فيها:) وَالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلى مُحَمّدٍ وَهُوَ الحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّآتِهِمْ وَأصْلَحَ بَالَهُمْ (فتمثل معاوية حينئذ بقول الشاعر: ملوك وأبناءُ الملوك وسادة ... تفلق عنها بيضة الطائر الصقر متى تلق منهم ناشئاً في شبابه ... تجده على آثار والده يجري ولما أصاب أهل البوادي القحط أيام هشام بن عبد الملك وفدت عليه رؤساء القبائل وفيهم صبي صغير في رأسه ذؤابة، وعليه بردة يمنية فأنكر هشام حضوره وقال للحاجب: ما يشاء أحد أن يصل إلينا إلاّ وصل حتى الصبيان، فقال الصبي: يا أمير المؤمنين إن دخولي لم ينقصك، ولكن شرفني، وإن هؤلاء قدموا لأمر فهابوك دونه، وإن الكلام نشر والسكوت طي لا يعرف إلاّ بنشره، فأعجب هشاماً كلامه " فقال له: " انشر لا أم لك فقال: يا أمير المؤمنين أصابتنا سنون ثلاث، فسنة أذابت الشحم، وسنة أكلت اللحم، وسنة أنقت العظم، وفي يدكم نصول أموال، فإن كانت لله ففرقوها على عباده، وإن كانت لهم فعلام تحبسونها عنهم؟ وإن كانت لكم فتصدقوا بها عليهم، فإن الله يجزي المتصدقين، ولا يضيع أجر المحسنين، فقال هشام: ما ترك لنا الغلام في واحدة من الثلاث عذراً، وأمر بمائة ألف درهم " ففرقت في البادية وأمر للغلام بمائة ألف درهم " فقال: ارددها في جائزة العرب، فما لي بها حاجة في خاصة نفسي دون سائر المسلمين، فكان في هذه أعجب. ولما استخلف عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه جاءته الوفود، فحين دخل عليه وفد أهل الحجاز أراد غلام منهم أن يتكلم فقال له عمر: يا غلام، يتكلم من هو أسن منك، فقال الغلام: يا أمير المؤمنين، إنما المرء بأصغريه: قلبه ولسانه، فإذا منح الله عبده لساناً لافظاً، وقلباً حافظاً، فقد أجاد " له " الاختيار، ولو أن الأمور بالسن لكان هنا من هو أحق بمجلسك منك، فقال له: صدقت فتكلم، فهذا هو السحر الحلال، فقال: يا أمير المؤمنين، نحن وفدُ التهنئة، لا وفد المرزئة، لم تقْدِمْنا إليك رغبةٌ ولا رهبةٌ، لأنا قد أمِنّا في أيامك ما خفناه، وأدركنا ما طلبناه، وفي رواية: أما الرغبة فقد أوصلها لنا فضلك، وأما الرهبة فقد أمّننا منها عدلك، فتهلل وجه عمر عند ثناء الغلام عليه، وسأل عن سن الغلام فقيل: عشر سنين ثم كأن عمر خاف العجب فأقبل على الغلام وقال: عظنا يرحمك الله: فقال: يا أمير المؤمنين، لا يغلبن جهل القوم بك معرفتك بنفسك، فأجهل الناس مضن ترك يقين ما عنده لظن ما عند الناس، وإن قوماً خدعهم الثناء، وغرهم الشكر، فزلت أقدامهم فهوُوا في النار، أعاذك الله يا أمير المؤمنين أن تكون منهم، وألحقك بصالح سلَف هذه الأمة، فجعل عمر يبكي حتى خيف عليه. ودخل الأحنف بن قيس على معاوية فقال له معاوية: ما الشيء الملفف في البجاد؟ قال: السخينة يا أمير المؤمنين، أشار معاوية إلى قول الشاعر يهجو بني تميم بحب الطعام: إذا ما مات ميت من ... وسرك أن يعيش فجئ بزاد بخبز أو بلحم أو ... أو الشيء الملفف في البجاد وأصل ذلك أن عمرو بن هند لما حلف ليحرقن من بني تميم مائة في ثأره أخذهم فجعل يلقيهم في النار، حتى بقي له واحد من العدة، فإذا برجل تميمي من البراجم قد ذهب في حاجة فشم روائح المحترقين فقال: هذا شواء اتخذه الملك، فمال إليه، فلما وقف عليه قال له: من أنت؟ قال: برجميّ، فقال الملك: " إن الشقيّ وافد البراجم " وأمر به فقذف في النار تكميلاً للعدد، فمن ذلك عيّرت العرب تميماً بحب الطعام، وقال الشاعر: ألا أبلغ لديك بني تميم ... بآية ما يحبون الطعاما وأشار الأحنف بذكر السخينة، وهي حساء رقيق كانت قريش تتخذه في الشدة ويعيرون به.

باب

ومن هذا المعنى ما وقف رجل من فقعس على الفرزدق فقال له الفرزدق: أين تركت القنان؟ فقال: تركته يسامي أو يقابل لصافاً وهما جبلان معروفان، الأول منهما هو الواقع في قول زهير: جعلن القنان عن يمين وحزْنَهُ ... ومن بالقنان من محل ومحرم والثاني هو الواقع في قول: بمصطحبات من لصاف وثبرة ... يزرن إلالا سيرهن التدافع وإلال هو جبل عرفة، فعرض الفرزدق بالفقعس مشيراً إلى قول الشاعر فيهم: ضمن القنان لفقعس سوآتها ... إن القنان بفقعس وأشار الفقعسي بذكر لصاف إلى قول الآخر في تميم: وإذا ترك من تميم خصلة ... فلَمّا يسوءك من تميم أكثر قد كنت أحسبهم أسودَ خفيّةٍ ... فإذا لصاف تبيض فيه الحمَرُ والحمر على وزن صرد، وتشدد ميمه وهو اللائق في البيت طائر شبههم به في الضعف والجبن. وقال بعضهم: كنت عند جسر بغداد فإذا بفتاة حسناء قد مرت، فجاء فتى من الجانب الآخر، فلما رآها قال: يرحم الله علي بن الجهم، فقالت: ويرحم الله أبا العلاء المعري، ثم انطلق كل لحاجته، ولم يقف قال: فتبعت المرأة وقلت لها: لئن لم تخبريني بما جرى بينكما لأفضحنك، فقالت: لا شيء إلاّ أنه أشار إلى قول علي بن الجهم: عيون المها بين الرصافة والجسر ... جلبن الخوى من حيث أدري ولا أدري فأشرت أنا إلى قول المعري: فيا دارها بالحزن إن مزارها ... قريب ولكن دون ذلك أهوال وتقدم نحو هذا في قصة المعري وقصة الكسائي. ومن هذا القبيل في ذكاء العقول ولطافة الأفهام ما يحكى أن المعتمد بن عباد خرج يوماً هو ووزيره أبو بكر بن عمه فمرا بالرحبة فإذا بامرأة بذيّةٍ بين الرجال، فقال المعتمد: " الجيارين " فقال ابن عمار: نعم يا سيدي " والحباسين " فالأول يقول: " الحيا زين " والثاني يقول: " والحنا شين " وصحف كل تعمية على العامة واتكالاً على فهم صاحبه. وهذا الباب لا يأتي عليه الحصر، وما ورد فيه من الشعر أكثر وأكثر، وقد قيل: أنزلت الحكمة على ألسنة العرب، وما ذلك إلاّ في شعرها، وقال صلى الله عليه وسلم: " إنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً " وتقدمت جملة من ذلك في الأمثال، وسيأتي شيء منه في الوصايا والمواعظ إن شاء الله. لله الأمر من قبل ومن بعد باب نبذة في أبيات المعاني والألغاز العربية وهذه نبذة من أبيات المعاني والألغاز العربية، وأتبعناها للحكم والأجوبة المسكتة للمناسبة الظاهرة، فإن الكل منشؤه الذكاء والفطنة، والألغاز وإن كانت كما قال المحققون " من " صنعة البطالين لا نريد أن نخلي الكتاب من شيء عنها لقصد التفنن والإحماض و " قد " تقدم شيء من أبيات المعاني " في الكتاب " ومن ذلك في الأنواء قول بعض السدوسيين: إذا القوس وترها أيِّدٌ ... رمى فأصاب الكلى والذُّرا يريد أن القوس أعني قوس قزح إذا وترها أي أقامها ونصبها على ما هي أيّد أي قوي، وهو الموكل بها، أو الفاعل المختار سبحانه رمى بالغيث فأصاب بالشحم كلى الأنعام وذُراها. وفي صفة السيف قول الآخر: وكنت إذا الإبريق أقعى على استه ... وظن نديم الشر أن ليس راويا كررت عليه الكأس حتى كأنما ... يرى بالذي أسقيه منه الأفاعيا الإبريق السيف لأنه يسقي الموت، وإقعاؤه على استه أن يأخذ بقائمه عند إرادة الضرب، ونديم الشر العدوّ، والكأس كأس الشّر. وفي صفة الظل قول الآخر: وصاحب غير ذي ظلٍ ولا نفَسٍ ... هيجته بسواء البيد، فاهتاجا يريد بالصاحب ظله، فإنه لا ظل له، ولا نفس، وقد حركه بمشيئته فتحرك. ونحوه قول الآخر: وثنيّةٍ جاوزتها بثنيّةٍ ... حرْف يعارضها ثنيٌّ أدهم فالثنية الأولى ثنيّة بالجبل، والثانية الناقة التي ذلك سِنُّها، والثني الآخر ظلها، وهو أدهم أي أسود. وفي اللصوصية قول الآخر: تعيرني ترك الرماية خُلّتي ... وما كل من يرمي الوحوش يَنالُها فإلا أصادف غرة الوحش أقتنص ... من الإنسيات العظام جُفالها أي إن لم أقتنص الوحش أسرق من الغنم العظام الجفال أي الصوف. وقول الآخر: توخّى بها مجرى سُهَيْلٍ وخلفه ... من الشام أعلام تطول وتقصر فلما رأى أن النِّطافَ تعذرت ... رأى أن ذا الكلبين لا يتعذر

هذا لص طرد إبلاً فتوخى أي قصد بها مجرى سهيل، وهو اليمن، وترك الشام وأعلامه أي جباله خلفه تطول وتقصر في السراب فلما رأى أن النطاف أي المياه تعذرت في طريقه رأى أن ذا الكلبين أي سيفه، والكلبان مسماران في قائمه، لا يتعذر فينحر ويفتظ الكرش فيشرب ما فيه: وقول الآخر: إنا وجدنا طرَدَ الهوامل ... خيراً من التأنان والمسائل وعِدّةِ العام وعام قابل ... ملقوحة في بطن ناب حامل يقول: إن سرقة الإبل الهوامل " أي " التي لا راعي معها خير لنا من الأنين والتشكي وسؤال الناس، فهذا يردنا، وهذا بالعطاء في العام أو القابل جنيناً في بطن أمه. وقول الآخر: عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذا عوى ... وصَوَّتَ إنسان فكدت أطير درى الله إني للأنيس لمبغض ... ويقليه مني شاهد وضمير وإني لأستحيي من الله أن أرى ... أطوف بحبل ليس فيه بعير وأن أسأل المرء اللئيم بعيره ... وبُعرانُ ربي في البلاد كثير هذا لص يستوحش من الناس لئلاّ يقبض، ثم زعم أنه يستحيي أن يأتي بحبل يسأل من يعطيه بعيراً فيربطه به، وأن يسأل البخلاء وإبل الله كثيرة يسرقها. وقول الآخر: أيا بارح الجوزاء مالك لا ترى ... عيالك قد أمسوا مراميل جوعاً البارح الريح الشديدة تهبّ في القيظ، فهو يطلبها فإذا سرق الإبل عفت أثره فلا يدرك، وجعل عياله عيالاً للريح لأنه يعولها به. ومثله قول الآخر: جزى الجوزاء عنّا الله خيراً ... فقد أغنت عن الحبل الجذيم أي أغنتنا بريحها فنأخذ ما شئنا ولا ندرك ولم نحتج إلى حبل جذيم أي مقطوع نأتي به صاحباً يعطينا فيه بعيراً. وقول الآخر: ألا يا جارتا بأُباضَ إنّي ... رأيت الريح خيراً منك جارا تغذينا إذا هبّت علينا ... وتملأ وجه ناظركم غبارا أُباض كغراب قرية باليمامة ويقال: لم يرَ أطول من نخيلها فيقول هذا اللص لجاريته بها: إن الريح خير منكما، وذلك أنه يسرق التمر فإذا هبت الريح أسقطته له، وأعمت أربابه، فلا يرونه حتى يقضي منه أربه. وقول الآخر: خليليّ لا تستعجلا وتبينا ... بوادي حَبَوْني هل لهن زوال ولا تيأسا من رحمة الله وادعوا ... بوادي حَبَوْنى أن تهب شَمال أي فتعفي الأثر وتعمي عيون الرعاة فيأخذوا حاجتهم. وفي " الأيام والليالي " قول الآخر: مطايا يقربن البعيد وإن نأى ... وينقلن أشلاء الكريم إلى القبر " وقبله: سرينا وأدلجنا وصارت ركابنا ... تمرّ بنا في غير برّ ولا بحر وما هي إلاّ ليلة ثمَّ يومها ... وحول إلى حول وشهر إلى شهر ويُنكحْنَ أزواج الغَيورِ عدوه ... ويقسمن ما يحوي الشحيح من الوفر " وقول الآخر: سبع رواحل ما ينخن من الوَجَى ... شوم تشاف بسبعة زهر متواصلات لا الدءُوبُ يملها ... باقٍ تعاقبها مدى الدهر سبع أي ليال، شوم أي سود، وسبعة زهر أي أيام. وفي التعبير على أخذ الدية وترك القيام بالثأر قول الآخر: غدا ورداؤه لَهِقٌ حُجير ... ورحت أجر ثَوْبيْ أرجوان كلانا اختار فانظر كيف تبقى ... أحاديث الرجال على الزمان أي غدا حجير يعني أخاه، ورداؤه لهق أي أبيض لم يقتل قاتليه، ورحت أنا بثوب أرجوان أي أحمر لقيامي بالثأر. وقول الآخر: إذا صب ما في الوطب فاعلم بأنه ... دم الشيخ فاشرب من دم الشيخ أو دعا أي إذا تركت ثأرك في أبيك وأخذت الإبل فمتى صببت لبناً من الشكوة فهو دم أبيك تشربه. وقول الآخر: عقوا بسهم فلم يشعر به أحد ... ثم استفاءوا وقالوا حبّذا الوَضَحُ الوضَحُ اللبنَ وعقوا رموا بسهم يقال له العقيقة، وكانوا إذا كان لهم ثأر وجنحوا إلى الصلح يأخذون سهماً فيقولون: بيننا وبين إلهنا علامة، وهي أن نرمي هذا السهم، فإن رجع مضرّجاً بالدم فهو يأمرنا " بالقيام بالثأر، وإن رجع نقياً فهو يأمرنا " بأخذ الدية، ثم يرمون به إلى السماء، ولا يرجع أبداً إلاّ نقيّاً فعيرهم الشاعر بفعل ذلك. وفي ضد ذلك قول الآخر: يطأ الطريق بيوتَهم بعياله ... والنار تحجب والوجوه تذال لا يشربون دماءهم بأكفهم ... إن الدماء الغاليات تكال

يقول: إنهم كرام مقارٍ فهم ينزلون على الطريق لأبناء السبيل، وهم عيال الطريق، وذلك في حال الشدة، حيث تحجب النار لئلا يراها الطارق، وتذال الوجوه أي امتهان، ثم أخبر أنهم لا يأخذون الدية فيشربون الألبان عِوَضَ دمائهم، فإن الدماء الغالية على أهلها تكال أي تجازى كَيْلَ الصاع بالصاع ولا تذهب هدراً بالديات. وقول الآخر: ألا لله ما مِرْدى حروب ... حواه بين حضنيه الظليم وقد قامت عليه مها رُماحٍ ... حواسِرَ ما ننام ولا تنيم الظليم القبر المحفور في غير موضع الحفر، فهو مظلوم أي فهذا الفتى قد حواه القبر وقامت عليه النساء حواسر يندبنه، وشبههن في صفائهن أو في سَعَة عيونهن بمَها رماحٍ، ورُماحٌ كغراب موضع، والعرب ما يندبون القتيل حتى يؤخذ بثأره، فالندب كناية عن ذلك. ومثله قول قيس بن زهير: من كان مسروراً بقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهار يجد النساء حواسراً يندبنه ... بالليل قبل تبلج الأسحار أي فيعلم أنا قد ثأرنا به. وفي الشيب والكبر " قوله ": ولما رأيت النسر عَزّ ابنَ دَأيَةٍ ... وعشعش في وكريه جاشت له نفسي النسر الشيب وابن دأية الغراب وهو الشاب وعَزَّه غَلَبَهُ. وقول الآخر: أعار أبو زيد يميني سلاحه ... وحد سلاح الدهر للصخر كالم وكنت إذا ما الكلب أنكر أهله ... أفدى وحين الكلب جذلان نائم أبو زيد كنية الكبر، ويحتمل الدهر، وسلاحه العصا، وإنكار الكلب أهله عند لبس السلاح فيفدى لإقدامه على الحرب وهو شاب، ووَقْتُ نَوْم الكلب وجذَلُهُ أن تموت الماشية من الهزال فيشبع منها، ولهذا قالوا في المثل السائر: نَعِمَ كلب ببؤس أهله. وقول الآخر: أبا مالك إن الغواني هجرنني ... أبا مالك إني أظنك دائبا أبو مالك هو الكبر لأنه يملك صاحبه. وقول الآخر: بئس قريناً لامرئ سالك ... أم عبيد وأبو مالك أم عبيد الصحراء، وأبو مالك الكبر. وأما الألغاز ففي الدرهم قوله: ومعشوق يرقص كلّ يومٍ ... ترى في وجهه أبداً كلاما إذا فارقته أجداك خيراً ... ولا يجدي عليك إذا أقاما وفي القلم قول الآخر: عجبت لذي سنين في الماء نبته ... له أثر في كل مصر ومعمر وقول الآخر: وبيت بعلياء الفلاة بنيته ... بأسمر مشقوق الخياشم يرعف يصف بيت شعر عمله في الصحراء وكتبه بالقلم. " وقال آخر: وما ميت ذو طعم عند رأسه ... متى ذاق من ذاك الطعام تكلما فلا هو في الأحياء حي فيتقى ... ولا هو في الأموات ميت فيرحما غيره: ما رأت عيني عجيباً ... كيراعي في الدواةِ غائصاً يستخرج الدر ... ببحر الظلمات " وفي الهلال قول الآخر: ومولود شهر كان فيه شبابه ... وفي شهره أودى وأدركه الكِبَرْ غيره: فما وليد ربا في غير مولده ... وعاد فيه قديم السن قد نحلا وفيه وزيادة: ألا ربَّ مولود وليس له أب ... وذي ولد لم يلْدَه أبوان وذي شامة سوداء في حر وجهه ... مجللة لا تنقضي لأوان ويكمل في خمس وتسع شبابه ... ويهرم في سبع معاً وثمان " وفي مصراعي الباب قول الآخر: عجبت لمحرومين من كل لذة ... يبيتان طول الليل يعتنقان إذا أمسيا كانا على الناس مرصداً ... وعند طلوع الشمس يفترقان ولقي عَبيدُ الأبرص أمرأَ القيس فقال له: ألا أساجلك؟ فقال: بلى، فقال عبيد: ما حية ميتة أحيت بموتها ... درداء ما أنبتت ناباً وأضراسا فقال أمرؤ القيس: تلك الشعيرة تحنى في سنابلها ... فأضعفت بعد نبت الزرع أكداسا فقال عَبيدٌ: ما السود والبيض والأسماء واحدة ... ما يستطيع لهن الناس إمساسا فقال امرؤ القيس: تلك السحاب إذا الرحمان هيجها ... بث النطاف بماء المزن أنفاسا فقال عَبيدٌ: ما قاطعات بلاداً لا أنيس بها ... إذا ابتكرن سرى كنسن أكناسا فقال امرؤ القيس: تلك الرياح إذا هبّت عواصفها ... كفى بأذيالها للتراب كناسا وقال عَبيدٌ: ما ذات حكم بلا سمع ولا بصر ... ولا لسان فصيح يعجب الناسا فقال امرؤ القيس:

باب في

تلك الموازين والرحمان أنزلها ... رب البرية بين الناس مقياسا وقال عَبيدٌ: ما مدلجات على هول ركائبها ... يقطعن بعد النوى يسراً وامراسا فقال امرؤ القيس: تلك النجوم إذا حانت مطالعها ... شبهتها في ظلام الليل أقباسا وقال عَبيدٌ: ما قاطعات بلاد الله في طلق ... إذا استبقن ولا يرجعن قرطاسا فقال امرؤ القيس: تلك الأماني يتركن الفتى ملكاً ... دون السماع ولم ترفع له راسا فعجب عَبيدٌ من بداهة أمرئ القيس وقال له: ما أرى أحداً يخوض تيّارك. قالوا: فكان امرؤ القيس مدلاّ بنفسه لا يرى لشاعر فضلاً حتى لقي التوأم اليشكري، فتنازعا الشعر، فقال له امرؤ القيس: إن كنت شاعراً كما تزعم فملط أنصاف ما أقول، فقال له: قل: فقال امرؤ القيس: أحارِ ترى بريقاً هبَّ وَهْناً فقال التوأم: كنار مجوس تستعر استعارا فقال امرؤ القيس: أرِقْتُ ونام أبو شُرَيْحٍ فقال التوأم: إذا ما قلت قد هدأ استطارا فقال امرؤ القيس: كأن هزيزه بوراء غيب فقال التوأم: عشارٌ وُلَّهٌ لاقت عشارا فقال امرؤ القيس: فلما أن دنا لقفا أضاخ فقال التوأم: وهت أعجاز ريِّقه فحارا فقال امرؤ القيس: فلم يترك بذات السر ظبياً فقال التوأم: ولم يترك بجلتها حمارا فبهت امرؤ القيس مما راى من بداهة اليشكري، وأقسم ألا ينازع الشعر أحداً. واجتع الطرماح بذي الرمة فقال له: هل نتساجل، فقال: قل، فقال ذو الرمة: فماذا زينة قد زينوه ... لغير زيادة ولغير عيد فقال الطرماح: هو الميت المكفن في ثياب ... يلف بها إلى القبر الجديد وقال ذو الرمة: وبنيان شديد الأيْدِ عالٍ ... بلا مدر أقل ولا عمود فقال الطرماح: فتلك سماؤنا خلقت ظلالاً ... بناها الله ذو العرش المجيد وقال ذو الرمة: وحسناء المناظر كل يوم ... لها وجه يضرب بالحديد فقال الطرماح: هو الوَرِقُ التي في الكير تجلى ... تخلص بالمطارق والوقود وهذا الباب لا ينحصر، وإنما أشرنا إلى شيء مما وقع للعرب ليعلم أنهم يتنبهون لمثل ذلك، وما وقع بعدهم في كل زمان إلى اليوم أكثر وأكثر. لله الأمر من قبل ومن بعد باب في نبذة من المضحكات والملح باب - وهذه نبذة في المضحكات وكل ما تنبسط به النفس من الملح، واعلم أن هذا النوع هو للعقل فاكهة، كما أن الحكمة السابقة هي غذاؤه وقوامه، فلا بد من كل منهما في استصلاح العقول وإزالة جساوتها وتنمية ذكائها، غير أن الملح تكون بقدر الحاجة كالملح للطعام، وإلى ذلك أشار القائل: أفسد طبعك المكدود بالجد راحة ... تفره وعلله بشيء من المزح ولكن إذا أعطيته المزح فليكن ... بمقدار ما يعطى الطعام من الملح وقال ابن عباس رضي الله عنه: إذا مللتم فأحمضوا إي إذا مللتم من الجد فخذوا في شيء من الهزل، وقالوا: الانبساط بين أهل المروءة يسقط الحشمة، ويؤكد الحرمة، ويفتق البديهة، ويشحذ الطبيعة، وقال آخر: من كمال المرء مفاكهة إخوانه، إذ ممازحة الكريم تزيد في وده وتديم إخاءه، وقال الشاعر " في ذلك ": ممازحة الكريم تزيد وداً ... إذا كانت تضاف إلى الملاحة فمازح من تحب وتصطفيه ... فمزحك مع صديقك فيه راحة ولا بد أن يكون ذلك على قدر، ومع أهله، وإلاّ كان سخفاً ومجلبة لكل سوء، ولذلك قال عمر رضي الله عنه: من كثر ضحكه استخف " به " وذهب بهاؤه، وقال سعيد بن العاصي: لا تمازح الشريف " فيحقد " ولا الدنيء فيجترئ، وقال جعفر بن محمد: إياكم والمزاح فإنه يذهب بنور الوجه، وقال الشاعر: الكبر ذل والتواضع رفعة ... والمزح والضحك الكثير سقوط والحرص فقر والقناعة عزة ... واليأس من صنع الإله قنوط غيره: وإياك إياك المزاح فإنه ... يجري عليك الطفل والرجل النذلا ويذهب ماء الوجه بعد بهائه ... ويورثه من بعد عزته ذلا فهذا كله من الإفراط ومع ممازحة الأنذال أو مفاتحة النذل من فوقه من الأشراف بالمزاح، فإنه إنما يحسن بين الأكفاء والله الموفق.

قال عبد الرحمان بن " أبي " الزناد لأشعب الطامع: أنت شيخ مسن، فهل تروي شيئاً من الحديث قال: نعم، حدثني عكرمة عن ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام قال: خصلتان من حافظ عليهما دخل الجنة قال: قلت: فما هما؟ قال: نسي عكرمة إحداهما ونسيت أنا الأخرى. وكان أشعب هذا يغشى سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم، فخرج سالم يوماً إلى حائط له بأهله ومعهم طعام، فتبعهم أشعب ودق الباب فلم يفتح له فتسور الحائط فأشرف على سالم فقال له سالم: أما تستحيي؟ تطلع على بناتي؟ فقال أشعب:) لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا في بَنَاتِكَ منْ حَقٍّ وَإنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (فقال له: اخرج وبعث إليه بطعام فأكله وانصرف. وتداعى قوم من بني راسب وقوم من الطفاوة إلى زياد زياد في غلام وأقام كلّ بينةً، فأشكل الأمر على زياد، فقام سعد الرابية اليربوعي فقال: أيها الأمير، قد تبين لي في هذا الكلام وجه الحكم فوَلِّنِيِه، فقال: ما هو؟ فقال: يطرح في النهر، فإن طفا فوق الماء فهو للطفاوة، وإن رسب في الماء فهو لبني راسب، فنهض زيد وذهب وقد علاه الضحك، ثم أرسل إلى سعد فقال: ألم أنهك أن تمازح في مجلسي قال: أصلحك الله حضرني أمر خفت " أن أنساه ". ودخل رجل على الشعبي وامرأته معه فقال: أيكما الشعبي؟ فقال الشعبي: هذه، وأشار إلى المرأة، فقال: ما تقول في رجل شتمني في أول " يوم من " رمضان أيؤجر على ذلك أم لا؟ فقال الشعبي: أما إن قال لك: يا أحمق فأرجو أن يكون له في ذلك الأجر العظيم. وأهدى رجل إلى الحجاج تيناً في غير إبانه فجلس على الباب ينتظر الجائزة، فإذا بقوم جلبوا ليقتلوا، فلما بلغوا الباب هرب واحد منهم، فخاف الموكل بهم على نفسه، فأخذ صاحب التين فيهم، فلما قدموا للقتل قال: أيها الأمير، هؤلاء يذنبون وأنا لا ذنب لي، فقال له الحجاج: ألست منهم؟ فقال: لا، أنا " الذي " جئت بالتين، فبحث الحجاج على ذلك فوجده صادقاً فقال له: أخفناك مع إحسانك إلينا، تمن عليّ، فقال له الرجل: تعطيني ربع دينار، فقال: ما تصنع به؟ قال: أشتري به فأساً فأقطع هذه الشجرة التي كانت سبب معرفتي بك، فضحك الحجاج وأمر له بصلة سنية. ومات للحجاج بعض من يعز عليه فقال لمن بحضرته: ليت إنساناً يعزيني بما يسليني، فقال رجل من أهل الشام كان أرسله عبد الملك إليه: أنا أسليك قال: قل، فقال: كل خليل سوف يفارق خليله بموت أو يقتل أو يصلب أو يقع من أعلى البيت أو يقع في بئر أو يكون شيء آخر لا نعرفه، فقال الحجاج: قد سليتني والله عن مصيبتي بأعظم منها في توجيه أمير المؤمنين رسولاً مثلك. ودخل إسماعيل بن يسار يوماً على الغمر بن يزيد بن عبد الملك بعد أن حجبه ساعة ثم أذن له، فجعل إسماعيل يبكي، فقال له الغمر: ما يبكيك؟ فقال: وكيف لا أبكي وأنا على مروانيتي ومروانية أبوي أحجب عنك؟ وجعل الغمر يعتذر له وهو يبكي فما سكت حتى وصله بمال، فلما انصرف تبعه رجل فقال له: أي مروانية كانت لك ولأبويك؟ فقال: بغضنا إياهم، امرأته طالق إن لم تكن أمه تلعن مروان وآله كل يوم مكانَ التسبيح، وإن لم يكن أبوه حضره الموت فقيل له: قل: لا إله إلاّ الله فقال: لعن الله مروان تقرباً بذلك إلى الله تعالى وإقامة له مقام التوحيد. ودخل أبو دلامة على المهدي فقال له: إني رأيتك في المنا ... م وأنت تعطيني خياره مملوءة بدراهم ... وعليك تفسير العبارة فقال له: هات خيارة تملأ لك، فخرج وأتى بقرعة فقال له: أنت رأيت الخيارة وهذه قرعة فقال: أُم الدلامي طالق إن كنت رأيت إلاّ قرعة، ولكني نسيت فما ذكرتها حتى رأيتها في السوق، فضحك المهدي وأمر له بخمسة آلاف درهم. وجلس بشار يوماً مع الناس على باب المهدي ينتظرون الإذن، فقال بعض موالي المهدي لمن حضر: ما عندكم في قوله تعالى:) وَأوْحَى رَبُّكَ إلى النَحْلِ (ما المراد بالنحل؟ فقال بشار: النحل التي يعرفها الناس، فقال: هيهات يا أبا معاذ! النحل هنا بنو هاشم، وقوله:) يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ ألْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ للنّاسِ (هي أنواع العلوم. فقال له بشار: جعل الله طعامك وشرابك وشفاءك ما يخرج من بطون بني هاشم، فغضب وشتم بشاراً. وبلغ الخبر المهدي فدعاهما فسألهما عن القصة، فأخبره بشار بها فضحك حتى أمسك على بطنه.

وسأل أبو العيناء بعض الوزراء أن يكتب له كتاباً إلى عامل له في رجل يطلب تسريحه فكتب إليه، فلما خرج قال: أخشى أن يكون كصحيفة المتلمس، ففتحه فإذا فيه: أما بعد فقد سألنا من لا نوجب حقه في رجل لا نعرفه، فإن فعلت خيراً لم نشكرك، وإن فعلت شراً لم نلمك، فرجع به إلى الوزير وقال له: ما هذا الذي كتبت أيها الوزير؟ فقال: تلك علامة بيني وبين العامل إذا أراد قضاء حاجة إنسان، فإن السؤال كثير، فقال أبو العيناء: لعن الله الوزير، وقطع يديه ورجليه، وأعمى عينيه، وأصم أذنيه، فقال الوزير: ما هذا الدعاء؟ فقال: هذه علامة بيني وبين ربّي إذا أردت أن يستجيب لي في قضاء حاجة إنسان. وأتى رجل إلى النخاس فقال له: اطلب لي حماراً ليس بالصغير المحتقر، ولا الكبير المسرف، إن خلا لَهُ الطريقُ تدفق، وإن كثر الزحام ترفق، وإن قللت علفه صبر، وإن أكثرته شكر، وإن ركبته هام، وإن ركبه غيري نام، لا يصادم السواري، ولا يدخل تحت البواري فقال له النخاس: يا عبد الله، اصبر، فإن مسخ الله القاضي حماراً أصبت لك حاجتك إن شاء الله. ومثل هذا ما روي أن رجلاً أراد شراء فرس فقال له النخاس: صف لي بغيتك منه، فقال: أريده حسن القميص، جيد الفصوص وثيق القصب نقي العصب، يشير بأذنيه، ويشرف برأسه ويخطر بيديه، ويدحو برجليه، كأنه مرج في لجة، أو سَيْلٌ في حَدُورٍ أو منحط من جبل، فقال له النخاس: نعم كذلك كان صلوات الله عليه وسلامه فقال: إنما وصفت لك فرساً، " فقال ": والله ما كنت أحسب إلاّ أنك تذكر صفة نبي من الأنبياء. وأُخِذ بعض الشطار فحُمل إلى الكاتب ليسجّل نعته، فأغلق عينه اليمنى فكتب الكاتب: أعور العين اليمنى، فلما علم الشاطر أنه قد كتب ذلك فتح اليمنى وأغلق اليسرى، فلما نظر إليه الكاتب توهم أنه غلط فمحا اليمنى وكتب اليسرى، فأغلق الشاطر اليمنى وفتح اليسرى، فنظر الكاتب إليه " فقال: لعن الله الشيطان، أفسدت ما كان صحيحاً، فكتب اليمنى فأغلق الشاطر اليسرى، فتحير الكاتب " ولم يدر ما يفعل فكتب: أعور من أي عينيه شاء. وأُخذ قوم محاربون فقدموا لتضرب أعناقهم فقال واحد منهم: والله ما كنت إلاّ أغني لهم، فقيل له: فغَنِّ إذن فلم يجرِ على لسانه غير قول القائل: عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن مقتد فقيل له: صدقت وضربت عنقه. وذكرت الشيعة عند بعض شيوخ الإباضية قالوا: مخالفونا من أهل القبلة كفار، ومرتكب الكبيرة موحد غير مؤمن بناء على أن الأعمال داخلة في الإيمان، وكفروا علياً رضي الله عنه وأكثر الصحابة ". في ح: " أول كلمة " بالتنكير فأنكرهم وسبهم جداً فقيل له في ذلك فقال: إن الشين أول الكلمة إنما توجد في مسخوط مثل شؤم وشر وشيطان وشح وشغب وشرك وشتم وشَيْن وشوك وشوصة وشكوى وشنآن قلت: وليس كما قال، بل هذا كثير، وضده وهو المحبوب أيضاً كثير، مثل شهد وشبع وشرب وشكر وشرف وشاب وشرع وشكد وشحم وشورى وشفاعة وشفقة وشغفر وشفاء، وفي أسمائه تعالى: الشكور الشهيد. وخطب عتاب بن ورقاء الرياحي يوماً فقال وهو على المنبر: أقول لكم كما قال الله في كتابه: ليس شيء على المنون بباق ... غير وجه المسبّح الخلاّق فقيل له: أيها الأمير هذا قول عدي بن زيد فقال: ليقله من شاء فنعم القول هو. وأتي يوماً بامرأة من الخوارج فقال لها: يا عدوة الله ما حملك على الخروج أما سمعت الله يقول: كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جر الذيول فقالت: جهلك بكتاب الله يا عدو الله حملني على الخروج عليك وعلى أئمتك. ومثل هذا ما خطب علي بن زياد الأيادي فقال: أقول لكم مثل قول الرجل الصالح:) مَا أُرِيكُمْ إلاّ مَا أرَى وَمَا أُهْدِيكُمْ إلاّ سَبيلَ الرَّشَادِ (فقيل له: إنما قاله فرعون، فقال: يقوله من فاله فقد أحسن فيه. وكان رجل يكثر مجالسة أبي يوسف ويطيل الصمت، فقال له يوماً ألا تسأل؟ قال: بلى، متى يفطر الصائم؟ قال: إذا غربت الشمس، قال فإن لم تغرب إلى نصف الليل؟ فضحك أبو يوسف وتمثل بقول الشاعر: عجبت إزراء الغبيّ بنفسه ... وصمت الذي قد كان بالعلم أعلما وفي الصمت ستر للغبي وإنما ... صحيفة لب المرء أن يتكلما

ومثل هذا ما روي أن شاباً كان يكثر مجالسة الأحنف ولا يتكلم، فأعجب الأحنف ذلك منه، ثم خلت الحلقة يوماً فقال له الأحنف: يا ابن أخي مالك لا تتكلم؟ فقال: يا عم أرأيت لو أن رجلاً سقط من شرفة هذا المسجد أيضره شيء؟ فقال الأحنف: ليتنا تركناك يا ابن أخي مستوراً ثم أنشد متمثلاً: وكائن ترى من صامت لك معجب ... زيادته أو نقصه في التكلم لسان الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤاده ... ولم يبق إلاّ صورة اللحم والدم وروي عن الجاحظ قال: عبرت على معلم كتّاب فدخلت إليه فرحب بي وأجلسني معه فذاكرته في القرآن فإذا هو ماهرٌ فيه، وكذا في العربية واللغة والشعر كما هو عارف، فقَوي عزمي على تمزيق " دفتر المعلمين " وجعلت أختلف إليه فأتيت يوماً فوجدت الكتاب مغلقاً، فسألت عنه فقيل: مات له ميت، فذهبه لأعزيه، فدققت الباب وخرجت جارية فقال: ما تريد؟ فقلت: أريد مولاك، فقالت: هو جالس وحده في العزاء ما يأذن لأحد فقلت: قولي له: صديقك فلان فدخلت فقالت: ادخل فدخلت فقلت له: أعظم الله أجرك) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللهِ أسْوَةٌ حَسَنَةٌ (وهذا سبيل لا بد منه، فعليك بالصبر، ثم قلت: هذا الميت ولدك؟ فقال: لا، قلت: والدك؟ قال: لا، قلت أخوك؟ قال: لا، قلت: فمن؟ قال: حبيبتي، فقلت في نفسي: هذا أوان المناحس، ثم قلت: سبحان الله! النساء كثير، وتجد أحسن منها، فقال: وكأني رأيتها فقلت في نفسي: وهذه منحسة ثانية، ثم قلت: وكيف عشقت من لم تره؟ فقال: كنت في الطارمة فسمعت مغنياً يقول: يا أم عمرو جزاك الله مغفرة ... ردي عليّ فؤادي أينما كانا " لا تأخذين فؤادي تلعبين به ... فكيف يلعب بالإنسان إنسانا ". فقلت في نفسي: أولاً أن أم عمرو ما في الدنيا مثلها ما قيل فيها هذا الشعر، فعلقها قلبي، ثم بعد أيام مرّ بي ذلك الرجل " أو غيره " وهو يقول: إذا ذهب الحمار بأم عمرو ... فلا رجعت ولا رجع الحمار فعلمت أنها ماتت فحزنت عليها، وجلست للعزاء منذ ثلاثة أيام، قال الجاحظ: فعاد عزمي إلى إبقاء " الدفتر " بأم عمرو. وعن بعضهم قال: لقيت شيخاً من الأعراب فرجوت أن يكون يقول الشعر أو يرويه فسألته فقال: أما الرواية فلم أسمع من أروي عنه، وأمّا القول فلم أقل قط إلاّ بيتاً واحداً، فقلت: وهذا خير، أروي عنك هذا البيت فتحصل به رواية شعرك فما هو؟ فقال: سقياً ورعياً وزيتوناً ومغفرة ... قتلتم الشيخ عثمان بن عفان قال الراوي: فجعلت أتأمله، فقال الشيخ: لعلك تتأمل في فهم معناه " قلت: نعم، قال: أنا قلته منذ سبعين سنة وأنا أفكر في معناه " فما فهمته، فكيف تطمع به أنت في ساعة واحدة. " وقال أحمد بن عمار: عملت شعراً لا معنى له ولا قافية، وقلت لسعيد بن حميد: رَوِّهِ فلاناً صديقاً لنا من الطالبيين، وكان جلداً شهماً، معه تغفيل، وقل له: ينشده شجاع بن القاسم كاتب المستعين كأنه يمدحه به، وضل له على ذلك صلة وهو: شجاع لجاع كاتب لاتب معاً ... كجلمود صخر حطه السيل من عل خبيص لبيص مستمر مقدم ... كثير أثير ذو شمال مهذب فطين أطين آمر لك زاجراً ... حصيف لصيف حين يجبر يعلم بليغ لبيغ كلما شئت قلته ... لديه وإن تسكن من القول يسكن أديب أبيب فيه عقل وحكمة ... عليم بشعري حين أنشد يشهد كريم أريم قالص متباسل ... إذا جئته قدماً إلى البذل يسمح فحفظه الطالبي ولقي شجاعاً ونحن نسايره فقال: أعزك الله، ليس الشعر من صناعتي، ولكنك أحسنت إليّ وإلى أهلي، فتكلفت أبياتاً مدحتك بها، فإن رأيت أن تسمعها مني، قال: قد أغناك الله من ذلك بشرفك ومودتك، فقال: بلى تتفضل بسماعها، وأنشده الأبيات، فلما فرغ شكره على ذلك، ودخل إلى المستعين فأخرج له عشرة آلاف درهم، وأجرى له ألف درهم في كل شهر، فجائنا الطالبي شاكراً: أنتما أوصلتما هذا. وتزوج رجل امرأة حمقاء فغاب عنها مدة فلما قدم وضمها الفراش سألها عما حدث في غيبته فأنشأت تقول: ما مسّني بعدك من إنسِّي ... غير غلام واحد قيسيِّ ورجل آخر من بَلِيّ ... وثالث جا من بني عَدِيّ ورابع أيضاً أتى من طَيّ ... وخمسة جاءوا مع العشيّ وسبعة كانوا على الطويّ ... غر كرام من بني عليّ

وآخرين معملي المطيّ ... من بين كوفي ومن بصريّ ومن تهاميّ ومن نجديّ ... ما فيهم من ليس بالمرضيّ فقام بضربها فصاحت فأجتمع الناس فقال لهم: لولا أني قمت أضربها لعدّتْ عليّ أهلَ عرفات ومنى. وكان بشار إذا أعوزنه القافية أو المعنى يدخل في شعره أشياء لا حقيقة لها تكميلاً لشعره، فمن ذلك أنه أنشد شعراً فقال فيه: غنّي للغريض يا ابن قنان فقيل له: من ابن قنان هذا؟ فإنا لا نعرفه في المغنين، فقال: وما عليكم منه؟ ألكم قِبّلهَ دَينٌ تطالبونه به؟ أو ثأر تريدون أن تدركوه منه؟ أو كفلت لكم به فإذا غاب طلبتموني؟ فقالوا: ليس بيننا وبينه شيء من هذا، ولكنا أردنا أن نعرفه، فقال: هذا رجل يغني لي ولا يخرج من بيتي، فقالوا له: إلى متى؟ فقال من يوم ولد إلى يوم يموت، فتفرقوا عنه متضاحكين. وقال بعضهم: شربنا يوماً عند عبد الصمد بن علي عم المنصور، وكان يغنينا الدارمي المكي، وكان حلو ظريفاً، فنعس عبد الصمد وعطس الدارمي عطسة هائلة فوثب عبد الصمد مرعوباً وغضب غضباً شديداً وقال: يا ابن الفاعلة، إنما أردت أن تفزعني، قال: لا والله ولكن هذا عطاسي، فقال: والله لأقبنك أو تأتيني ببيِّنة على ذلك، ووكل به غلمانه، فخرج ولا يدري أين يذهب، فلقيه رجل يعرفه من أهل مكة، فسأله عن أمره فأخبره فقال له: أنا أشهد لك، ومضى معه حتى دخل على عبد الصمد فقال له: بم تشهد لهذا؟ فقال: رأيته عطس عطسة سقط منها ضرسه، وتطاير نصف لحيته، فضحك عبد الصمد وقال: خلوا سبيله. وقال الماوردي: كنت بمجلس درسي بالبصرة فدخل عليّ شيخ مسنّ قد ناهز الثمانين أو جاوزها وقال لي: قصدتك بمسألة اخترتك لها فقلت: وما هي؟ وظننت أنه يسأل عن حادثة نزلت به، فقال: أخبرني عن طالع إبليس وطالع آدم من النجوم ما هو، فان هذين لعظيم شأنهما لا يسأل عنها إلا علماء الدين، فعجبت وعجب من في مجلسي من سؤاله وبادر إليه واحد منهم بالإنكار والاستخفاف، فكففتهم، وقلت: هذا لا يقتنع مع ما ظهر من حاله إلا بجواب مثله، فأقبلت عليه وقلت: يا هذا إن النجمين يزعمون أن نجوم الناس لا تعرف إلاّ بمعرفة مواليدهم، فإن ظفرنا بمن يعرف وقت ميلادهما أخبرناك بالطالع، فقال جزاك الله خيراً، وانصرف مسروراً، فلما كان بعد أيام عاد إلي وقال: ما وجدت إلى وقتي هذا من يعرف مولدهما. وكان المأمون يوماً جالساً مع ندمائه مشرفاً على دجلة يتذاكرون أخبار الناس، فقال المأمون: ما طالت لحية إنسان إلاّ نقص من عقله بقدر ذلك، فلم يسلم له أصحابه ذلك، فبينما هم في ذلك رأوا رجلاً كبير اللحية حسن الهيئة والثياب، فقال المأمون: عليّ به، فلما وقف بين يديه سلم، فأجلسه المأمون، وقال له: ما أسمك؟ قال: أبو حمدونة، فقال: وما كنيتك؟ قال: علوبة، فضحك المأمون وأقبل على جلسائه فغمزهم عليه، ثم قال: ما صنعتك قال: فقيه أجيد الشرح للمسائل، فقال: نسأل عن مسألة، فقال: سل عما بدا لك، قال: فما تقول فيمن أشترى شاة فلما قبضها خرجت من أستها بعرة فقأت عين رجل، على من تجب دية العين؟ على البائع أم على المشتري؟ فنكت بإصبعه الأرض طويلاً ثم قال: دية العين على البائع قال: ولمَ؟ قال: لأنه باع ولم يشترط أن في أستها منجنيقاً، فضحك المأمون ومن معه، ثم أنشأ يقول: ما أحد طلت له لحية ... فزادت اللحية في هيئته إلاّ وما نقص من عقله ... أكثر مما زاد في لحيته ويؤيد هذا ما روي أن معاوية كان مع أصحابه فمرّ بهم رجل طويل اللحية فقال معاوية: أيكم يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في طول اللحية، فقال عمرو بن العاصي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اعتبروا عقل الرجل في ثلاث: طول لحيته، وكنيته، ونقش خاتمه "، فلما جاءهم الرجل قال معاوية: ما نقش خاتمك:) وَتَفَقّدَ الطّيْرَ فَقَالَ مَالي لا أرَى الهُدْهُدَ (. قال: وما كنيتك؟ قال: أبو الكوكب الدري، فقال معاوية: كمل الرجل، ولهذا قال عليه السلام: " من سعادة المرء خفة لحيته ". وروي أن أعرابيين اختصما إلى شيخ حيهما، فقال أحدهما للآخر: إنك والله ما تحفظ آية من كتاب الله، فقال الآخر: والله إني لقارئ، فقال له الشيخ: اقرأ علي، فقال كأنه يقرأ: علق القلب ربابا ... بعدما شابت وشابا

إن دين الحبّ فرض ... لا ترى فيه ارتيابا فقال الشيخ لخصمه: والله لقد قرأها كما أنزلت، فقال خصمه: والله يا سيدي ما تعلمها إلاّ البارحة. ويشبه هذا ما ذكر أن رجلاً سمع رجلاً ينشد: فلا تقبل لغانية يمينا ... ولو حلفت برب العالمينا فقال: أشكل علي موضعها في) إنّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (. وذكر أن أعرابياً تقدم إلى القاضي سوار في أمر فلم يجد عنده ما يحب، فاجتهد فلم يظفر بحاجته، قال: فقال الأعرابي وفي يده عصا: رأيت رؤيا ثمَّ عبرتها ... وكنت للأحلام عبارا بأنني أخبط في ليلتي ... كلباً فكان الكلب سوارا ثم انحنى على سوار بالعصا حتى منع منه قال: فما عاقبة سوار. ويروى أن ضيفاً نزل بالحطيئة وهو يرعى غنماً له وفي يده عصا فقال له الضيف: يا راعي الغنم، فأومأ الحطيئة بعصاه وقال: عجراء من سلم، فقال الرجل: إني ضيف فقال: للضيفان أعددتها. وروي أن ناسكاً من بني الهجيم بن عمرو بن تميم كان يقول في قصصه: اللهم اغفر للعرب خاصة، وللموالي عامة، فأما العجم فهم عبيدك، والأمر إليك. ونظر يزيد بن مَزْيد الشيباني إلى رجل ذي لحية عظيمة وقد تلففت على صدره، وإذا هو خاضب فقال: إنك من لحيتك في مئونة فقال: أجل، ولذلك أقول: لها درهم للدهن في كلّ جمعة ... وآخر للحناء يبتدران ولولا نوال من يريد بن مزيد ... لصوَّت في حافاتها الجَلّمان ونظر أعرابي إلى رجل جيد الكِدْنة أي الشحم يعني سميناً فقال: يا هذا، إني لأرى عليك قطيفة محكمة من نسج أضراسك. ويروى أن جارية لهمام بن مرة بن ذهل بن شيبان قالت له يوماً: أهمام بن مرة حنّ قلبي ... إلى اللائي يكن مع الرجال فقال: يا فَساقِ، أردت صفيحة ماضية فقالت: أهمام بن مرّة حنّ قلبي ... إلى صلعاء مشرفة القذال فقال: يا فَجارِ، أردت بيضة حضينة فقالت: أهمّام بن مرّة حنّ قلبي ... إلى أير أسد به مبالي وكان بشار يقول: لم تقل امرأة شعر قط إلاّ تبين فيه الضعف، فقيل له: أو كذلك الخنساء؟ قال: تلك كان لها أربع خُصىً. وقال المبرد: حدّثني شيخ من الأزد عن رجل منهم أنه كان يطوف بالبيت وهو يدعو لأبيه فقيل له: ألا تدعو لأمك فقال: إنها تميمية. وسُمع رجل يطوف بالبيت وهو يدعو لأمه ولا يذكر أباه، فعوتب فقال: هذه ضعيفة وأبي يحتال لنفسه. وقال بعض المحدثين: ولا أكتم الأسرار لكن أنمها ... ولا أترك الأسرار تغلي على قلبي وإن أحق الناس بالسخف لامرؤ ... تقلبه الأسرار جنباً إلى جنب وقال الآخر: وأمنع جارتي من كلّ خير ... وأمشي بالنميمة بين صحبي " ورأى طفيلي رجلاً اشترى سمكاً كثيراً مطبوخاً، وحمله على رأس أمه له إلى داره، فتبعه، فلما رأى الرجل الطفيلي بادر فأدخل الأمة ودخل وأغلق الباب، فتسور الطفيلي فأشرف عليهم، فقال له الرجل: أما تتقي الله تطلع على محارم الناس؟ فقال:) لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا في بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإنّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (فضحك الرجل وقال له: انزل إلى الباب يفتح لك، فنزل، فعمد الرجل إلى كبار السمك فجعلها في زاوية البيت وترك الصغار، فلما دخل الطفيلي ورآها علم القصة، فأجال بصره في البيت فرأى الإناء في زاوية البيت مغطى، فعلم أن حاجته فيه، فجعل يأخذ من تلك الصغار السمكة فيقطع رأسها " بعنف " ويقربه من أذنه ويصغي إليه ثم يطرحه، فقال له الرجل: ما هذا الذي تصنع؟ فقال له: اعلم أن أبي كان يسافر في البحر، فغرق وأكلته الحيتان، فقلت: اليوم أدرك ثأري، فإذا بهذه الحيتان تقول لي: إنا عند غرق أبيك لم نكن خلقنا بعد، وإن التي أكلت لحم أبيك في الإناء الذي في زاوية البيت، فضحك الرجل واستظرفه، وآتاه بالإناء الذي فيه الكبار، فأكل حتى قضى حاجته. " وأتى طفيلي وليمة فاقتحم وأخذ مجلسه مع الناس، فأنكر عليه صاحب الدار وقال: لو صبرت حتى يؤذن لك لكان أحسن لأدبك فقال: إنما اتخذت البيوت ليدخل فيها، والموائد ليؤكل عليها، والشحنة قطيعة، وإطراحها صلة، وجاء في الآثار: صل من قطعك، وأحسن إلى من أساء إليك، ثم اجمع فيها خلالاً، أحصل مجالساً، وآكل موانساً، وأبسط رب الدار وإن كان عابساً، وأنشد:

طفيل بن دلال الهلالي رأس الطفيليين

كل يوم أدور في عرصة الدا ... ر أشم القتار شم الذباب فإذا ما رأيت آثار عرس ... أو دخاناً أو دعوة الأصحاب لم أعرج دون التقحم لا أن هب شتماً ولكزة البواب مستهيناً بمن دخلت عليه ... غير مستأذن ولا هيّاب فتراني ألف بالرغم منهم ... كلّ ما قدّموهُ لف العقاب ذاك أهنا من التكلف والغر ... م وشتم البقال والقصاب وعن آدم الطويل قال: دخل حانوتي غريب يأكل شيئاً من طعام أتى به، فرآه طفيلي فجاء ليدخل فرددته وقلت له: ما أكثر ما تتردد إلينا، فقال الغريب الذي في الحانوت: لعله كما قال الشاعر: لو طبخت قدر بمطمورة ... أو في ذرى قصر بأعلى الثغور وكنت بالصين لوافيتها ... يا عالم الغيب بما في الصدور " لله الأمر من قبل ومن بعد طفيل بن دلال الهلالي رأس الطفيليين واعلم أن الطفيلي، وهو من يغشى الناس ابتغاء الأكل من غير استدعاء ولا سؤال، منسوب إلى طفيل بن دلال الهلالي، وكان بالكوفة، فكان إذا سمع بطعام أتاه من غير أن يدعى إليه، فما فاته عرس قط، فقيل له: طفيل الأعراس، فكان كل من فعل فعله ينسب إليه فيقال: طفيلي. ويقال: إنه لما حضرته الوفاة دعا ابنه عبد الحميد ليعهد إليه بهذه الحرفة فقال له: يا بني إذا دخلت عرساً فلا تلتفت التفات المريب، وتخير المجلس، فإن كان العرس كثير الزحام فمُرْ وانْه، وامض لشأنك، ولا تنظر في وجوه الناس ليظن أهل الرجل أنك من أهل المرأة ويظن أهل المرأة أنك من أهل الرجل، فإن كان البواب فظاً وقاحاً فابدأ به ومره وانهه من غير عنف ثم أنشد يقول: لا تجزعن من القري ... ب ولا من الرجل البعيد وادخل كأنّك طابخ ... بيديك مغرفة الثريد متدلياً فوق الطعا ... م تدلّي البازي الصيود لتلف ما فوق الموا ... ئد كلها لفّ الفهود واطرح حياءك إنما ... وجه المطفل من حديد وعليك بالفالوذجا ... ت فإنها بيت القصيد حتى إذا أحرزتها ... ودعونهم هل من مزيد؟ والعرس لا يخلو من ال ... لوزينج الرطب العتيد فإذا أتيت به حوي ... ت محاسن الجامّ الجديد ثم أغمي عليه عند ذكر اللوزينج فأفاق بعد ساعة فقال: وتنقلَنَّ على الموا ... ئد مثل شيطان مَرِيد فإذا انتقلت عبثت بال ... كعك المجفف والقديد واعلم بأنك إن قبل ... ت نعمت يا عبد الحميد وقال بنان الطفيل: دخلت البصرة فإذا فيها عريف للطفيليين يكسوهم ويرشدهم إلى الأعمال، ويقاسمهم، فجئته فكساني وصرفني معهم فأزللت شيئاً كثيراً، والزلة عندهم ما يفضل في الولائم، فأخذ النصف وأعطاني النصف، ثم حضرت عرساً جليلاً فأخذت زلة فلقيني رجل فاشتراها مني بدينار وكتمته، فلما جئت دعا العريف جماعة منهم فقال لهم: إن هذا البغدادي قد خان، وظن أني لا أعلم ما فعل، فاصفعوه وعرفوه قال: فصفعني الأول منهم وشم يدي فقال: أكل مضيرة، وصفعني الثاني وشم يدي فقال: أكل بقيلة، وهكذا حتى ذكروا كل ما أكلت ثم صفعني آخر فقال: هاهو ذا، فدفعته إليهم، وجردني من الثياب التي أعطاني وقال: اخرج، يا خائن، في غير حفظ الله، فخرجت متوجهاً إلى بغداد، وأقسمت أن لا أقيم ببلد طفَيْليَّتُهُ يعلمون الغيب. وبنان هذا هو الذي قيل له: ما تحفظ من القرآن فقال: كنت حفظته ثم نسيته إلاّ آية واحدة، قيل: وما هي؟ قال:) وَإذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ (إلى قوله:) آتِنَا غَدَاءَنَا (فقيل له: وهل تحفظ من الشعر شيئاً؟ فقال: بيتاً واحداً وهو: تزوركم لا نكافيكم بجفوتكم ... إن الكريم إذا لم يستزر زارا وقال الشاعر: الماء في دار عثمان له ثمن ... والخبز أيضاً له شأن من الشان عثمان يعلم أن الحمد ذو ثمن ... لكنه يشتهي حمداً بمَجّان والناس أكيس من أن يمدحوا رجلاً ... ما لم يروا عنده آثار إحسان وقال آخر: على الماء في داره زحمة ... وفيها على الخبز سفك الدما أضاف أناساً إلى داره ... فنزههم في نجوم السّما وبالجوع قطع أمعاءهم ... ) وإن يستغيثوا يغاثوا بما ( وقال غيره: يا داخلاً في داره خارجاً ... من غير ما معنى ولا فائده

باب في

قد جن أضيافك من جوعهم ... فاقرأ عليهم سورة المائده " ومن الملح القديمة ما يحكى عن نبي الله سليمان عليه السلام أنه وعدته الهدهد وهو في ساحل البحر أن تضيفه هو وجنوده أجمعين، فلما كان الوقت جاءت بجرادة فرمت بها في البحر ثم قالت لهم: دونكم، فمن فاته اللحم فليشرب المرق، فضحكوا من ذلك حولاً كاملاً. لله الأمر من قبل ومن بعد باب في ذكر شيء من أخبار الثقلاء اعلم أن الثقلاء أشد الخلق ضرراً على العقلاء، وأثقل من رواسي الجبال على قلوب النبلاء، قيل لجالينوس: لم صار الرجل الثقيل أثقل من الحِمْل الثقيل؟ فقال: لأن ثقله على القلب دون الجوارح، والحِمْل الثقيل يستعين القلب عليه بالجوارح، وكان أبو هريرة - رضي الله عنه - إذا استثقل رجلاً يقول: اللهم اغفر لنا وأرحنا منه، وقال الأعمش: من فاتته ركعتا الفجر فليلعن الثقلاء، ونقش على خاتمه: يا مقيت أبرمت فقم، فإذا استثقل جليساً ناوله إياه، وربما أنشد: وما الفيل تحمله ميتاً ... بأثقل من بعض جلاسنا وقال له رجل: مم عمشت عيناك؟ فقال: من النظر إلى الثقلاء أمثالك، وقال جالينوس: لكل شيء حمى وحمى الروح النظر إلى الثقيل. وكان حماد بن زيد إذا استثقل جليساً قال:) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنّا العَذَابَ إنّا مُؤْمِنُونَ (وكان يجلس إلى معمر بن المثنى رجل ثقيل اسمه زنباع، فسأل رجل يوماً معمراً عن معنى الزنبعة في كلام العرب فقال: التثاقل، ولذلك سمي جليسنا هذا به. وقال أبو العتاهية لابن له ثقيل: يا بني أنت والله ثقيل الظل، مظلم الهوا، خامد النسيم، بارد حامض منتن. وقال زياد بن عبد الله: قيل للشافعي: هل يمرض الروح قال: نعم من ظل الثقلاء قال: فمررت به يوماً وهو بين ثقيلين فقلت: كيف الروح؟ فقال في النزع. وقال سهل بن هارون: من ثقل عليك بنفسه، وأغم عليك بحديثه، فأعره عيناً عمياء، وأذناً صماء. وكان بعض الظرفاء إذ رأى ثقيلاً يقول: قد جاءكم الجبل، فإذا جلس قال: قد وقع عليكم، وقيل لظريف له ثلاثة بنين ثقلاء: أي بنيك أثقل؟ قال: ليس بعد الكبير أثقل من الصغير إلاّ الأوسط. وكان يلم ببشار ثقيل اسمه أبو سفيان، فسئل عنه فقال: لا أدري كيف لم تحمل الأمانة أرض حملته، ولا كيف احتاجت إلى الجبال بعدما أقلته، كأن قربه أيام المصائب، وليالي النوائب، وكأن عشرته فقد الحبائب، وسوء العواقب، ثم أنشد: ربما يثقل الجليس وإن كا ... ن خفيفاً في كفة الميزان ولقد قلت حين وتّد في البيْتِ ... ثقيل أربى على ثهلان كيف لا تحمل الأمانة أرض؟ ... حملت فوقها أبا سفيان وكان له صديق يستثقل، اسمه هلال، فقال لبشار يوماً يمازحه: يا أبا معاذ، إن الله لم يذهب بصر أحد إلاّ عوضه منه شيئاً، فما عوضك؟ قال: الطويل العريض، قال: وما هو؟ قال: أن لا أراك ولا أرى أمثالك من الثقلاء ثم قال: يا هلال، تطيعني في نصيحة أخصك بها؟ قال: نعم، قال: إنك كنت تسرق الحمير زماناً، ثم تبت وصرت رافضياً، فعد، والله، إلى سرقة الحمير، فهي والله، خير لك من الرفض، وفي هلال هذا يقول بشار: وكيف يخف لي بصري وسمعي ... وحولي عسكران من الثقال قعوداً عند دسكرتي وداري ... كأن لهم عليَّ فضول مال إذا ما شئت جالسني هلال ... وأي الناس أثقل من هلال؟ وقال الحمدويّ: بعث إلي أحمد بن حرب المهلبي في غداة غيم فأتيته وعنده عجاب المغنية، فلما أكلنا أخذنا في الشراب والغناء، فمرت لنا أطيب ساعة فقال ابن حرب: اللهم اكفنا ثقيلاً ينغص، فما تم قوله حتى دق الباب ففتح فدخل رجل آدم ضخم، فلم يدر كيف يسلم، ولا بم يتكلم، وخطا فعثر في قدح فكسره، فلما رأيت ما حل بنا أخذت القلم والقرطاس وكتبت: كدّر الله عيش من كدّر العي ... ش وقد كان صافياً مستطابا جاءنا والسماء تهطل بالغي ... ث وقد طابق السماع الشرابا كسر الكأس وهي كالكوكب الدر ... ي ضمت من المدام لعابا قلت لما رُميت منه بما أكس ... ره والدهر ما أفاد أصابا عجل الله نقمة لابن حرب ... تدع الدار بعد شهر خرابا

وألقيتها إلى ابن حرب فلما قرأها قال: ويحك ألاّ نفست؟ فقلت: بعد حول فقلت: ما أردت أن أقول: إلاّ بعد يوم، ولكني خفت أن تصيبني معكما الصيحة، ففطن الثقيل فنهض، فقال لي ابن حرب: آذيته، فقلت: هو آذاني أولاً، والبادي أظلم، ثم قال: لعمري لئن أساء في قدومه وإقدامه، لقد أحسن في نهوضه وقيامه. واستأذن بعض الثقلاء على ابن المبارك فلم يأذن له، فكتب إليه ذلك الثقيل: هل لذي حاجة إليك سبيل؟ ... لا طويل قعوده بل قليل فأجابه ابن المبارك: أنت يا صاحب الكتاب ثقيل ... وقليل من الثقيل طويل وذكر ثقيل عند بعض الأذكياء فقال: هو ثقيل السكون، بغيض الحركة، كثير الشؤم، قليل البركة، كأنه ثقل الدين، ووجع العين، وما أحقه بقول القائل: ثقيل يطالهنا من أمم ... إذا سرّه رغم أنفي ألم لنظرته وخزة في القلوب ... كوخز المحاجم في الملتزم أقول له إذ أتى لا أتى ... ولا حملته إلينا قدم: عدمت خيالك لا من عمىً ... وسمع كلامك لا من صمم ووصف آخر ثقيلاً فقال: هو بين الجفن والعين قذاة، وبين القدم والنعل حَصاةٌ، ما أشبه طلعته إلاّ بوقت الفراق، أو كتاب الطلاق، أو طلعة الرقيب، أو موت الحبيب: مشتملٌ بالبغض لا تنثني ... إليه طوعاً لحظة الرامق يظلّ في مجلسنا قاعداً ... أثقل من واش على عاشق وذكر عند العباس بن الحسن العلوي ثقيل يسمى أبا عمار فقال: ما الحمام على الأضرار، وحلول الدين على الإقتار، وشدة السقم في الأسفار، بأثقل على النفس من طلعة أبي عمار، وأنشد: تحمل منه الأرض أضعاف ما ... يحمله الحوت من الأرض وقال بعضهم في صفة ثقيل: هو أثقل من داء بلا علة، وأبغض من خراج بلا غلة، قد خرج عن حد الاعتدال، وذهب من ذات اليمين إلى ذات الشمال، يحكي ثقل الحديث المعاد، على القلوب والأكباد، وإذا نظرت إلى مشيته أنشدت: ثقيل براه الله أثقل من برا ... ففي كل قلب بغضة منه كامنه مشى فدعا من ثقله الحوت ربه ... وقال: إلهي، زيدت الحوت ثامنه وقول أبي عمار بل عبد الله بن خلف في صفة ثقيل: وثقيل أشد من ثقل المو ... ت ومن شدة العذاب الأليم لو عصَت ربها الجحيمُ لما كا ... ن سواه عقوبة للجحيم ولابن عطاء الصنهاجي: ليس من الناس ولكنه ... يحسبه الناس من الناس أثقل في أنفس أصحابه ... من جبل راس على راس وقال آخر وبالغ: يا رحمة الله على آدم ... رحمة من عمّ ومن خصصا لو كان يدري أنه خارج ... مثلك من إحليله لاختصى وقال آخر مثله: لو كان آدم عالماً غيباً بأن ... ستكون من أولاده فيما غبر لأبان حقاً بالطلاق ثلاثة ... وأبى لأجلك أن يكون أبا البشر وقول الآخر، ويقال: إنها ما قرئت على ثقيل إلاّ ارتحل: يا مبرماً أهدى حمل ... خذ وارتجل ألف جمل قال: وما أحملها ... قلت: زبيب وعسل قال: ومن يقودها؟ ... قلت له: ألف بطل قال: وما سلاحهم؟ ... قلت: سيوف وأسَل قال: وما لباسهم؟ ... قلت: حليٌّ وحلل فقال: ملك لي إذن؟ ... قلت: نعم إن ترتحل قال: فهل أبرمتكم؟ ... قلت له: الأمر جلل قال: وهل أثقلتكم؟ ... قلت له: فوق الثقل وقال البهاء المهلبي: وجاهل طال به عنائي ... لازمني وذاك من شقائي كأنه الأشهر من أسمائي ... أخرق ذو بصيرة عمياء لا يعرف المدح من الهجاء ... أفعاله الكل بلا استواء أقبح من وعد بلا وفاء ... ومن زوال النعمة الحسناء أبغض للعين من الأقذاء ... أثقل من شماتة الأعداء فهو إذا رأته عين الرائي ... أبو معاذ وأخو الخنساء ومطيع بن إياس قال: قل لعباس أجبنا ... يا ثقيل الثقلاء أنت في الصيف سَمُوم ... وجليد في الشتاء وللصاحب بن عباد: تزلزلت الأرض زلزالها ... وأخرجت الأرض أثقالها مشى ذا الثقيل على ظهرها ... فماجت وقيل: انظروا ما لها وقال آخر: إذا جلس الثقيل إليك يوماً ... أتتك عقوبة من كل باب

باب

فهل لك يا ثقيل إلى خصال ... تنال ببعضها كرم المآب إلى مالي فتأخذه جميعاً ... أحل لديك من ماء السحاب وتنثف لحيتي وتدق أنفي ... وما في فيَّ من ضرس وناب على أن لا أراك ولا تراني ... على حال إلى شيب الغراب وقال أبو نواس في الرقيب: لسهم الجرح في فؤادي ... وذاك الجرح من عين الرقيب يوكل ناظريه بنا ويحكي ... مكان الحافظين على الذنوب ولو سقط الرقيب من الثريا ... لصب على محب أو حبيب ولو عمي الرقيب بغير شك ... لأبصر قلبه ما في القلوب وله: لاحظته فبسما ... وخلا المكان فسلما وبدا الرقيب فقلت: لا ... سلم الرقيب من العمى ولابن المعتز: قد دنت الشمس للمغيب ... وحان شوقي إلى الحبيب طوبى لمن عاش عشر يوم ... له حبيب بلا رقيب قيل لأبي الحارث جميز: ما تشتهي قال: القضاء على أعين الرقباء وألسن الوشاة وأكباد الحساد. وقال القاضي عمر بن الوردي: لي شهوتان أحب جمعهما ... لو كانت الشهوات مضمونه أعناق عدائي " مدققة " ... ومفاصل الرقباء " مدفونه " وقال غيره: قال لي عُوَّدي غداة رأوني ... ما الذي تشتهيه واجتهدوا بي قلت مِقْلىً فيه لسان وشاة ... قطعوه فيه بصنع عجيب وأضيفت إليه كِبْدُ حسود ... فقئت فوقها عيون الرقيب آخر: عندي لكم يوم التواصل دعوة ... يا معشر الندماء والجلساء أشوي قلوب الحاسدين بها وأل ... سنة الوشاة وأعين الرقباء وقال جحظة: يا لفظة النعي بموت الخليل ... يا وقفة التوديع بين الحمول يا شربة اليارج يا أجرة ال ... منزل يا وجه العدو الثقيل يا نهضة المحبوب عن غضبة ... يا نعمة قد أذنت بالرحيل ويا طبيباً قد أتى باكراً ... على أخي السقيم بماء البقول ويا كتاباً جاء من مخلف ... للوعد مملوءاً بعذر طويل يا بكرة الثكلى إلى حفرة ... مستودع فيها عزيز الثكول يا ردة الحاجب عن قسوة ... يا نكسة من بعد برء العليل يا طلعة النّعش ويا منزلاً ... أقفر من بعد الأنيس الخليل يا شوكة في قدم رخصة ... ليس إلى إخراجها من سبيل وجحظة هذا من ولد يحيى بن خالد بن برمك، واسمه أحمد بن جعفر وسماه ابن المعتز جحظة لجحوظة في عينيه، وكان قبيح الوجه طيّب الغناء، وفيه يقول ابن الرومي: نبئت جحظة يستعير جحوظهُ ... من فيل شطرنج ومن سرطان يا رحمة لمنادميه تحملوا ... ألم العيون للذة الآذان " لله الأمر من قبل ومن بعد باب نبذة في الأوليات وهذه نبذة في الأوليات مما علق بفكري في: أول نبي ورسول آدم عليه السلام، وهو أول من بنى، وأول من الحرث والحياكة وأمور النساء والنسل مما يكثر عده، أول قاتل قابيل، أول مقتول هابيل، أول رسول إلى أهل الأرض أي كل من في الأرض من الناس المختلفين نوح عليه السلام، وبما ذكرنا يظهر الفرق بينه وبين آدم، فإن آدم أرسل إلى أولاده، وهم وإن كثروا بنو رجل واحد، وهو أول من عمل السفينة، وأول من هلك قومه بعصيانه. أول من ظهر فيه سواد الخلقة الكوش بن حام، وهو جد السودان، وقيل إنهم إنما اسودوا من حرارة بلدهم. أول ملك قام في الأرض كيومرث " قيل " وهو ابن آدم لصلبه. أول من سخرت له الخيل إسماعيل بن إبراهيم - عليهما السلام - وقيل: إنه أعطيها آدم قبل ذلك. أول من بنى الكعبة إبراهيم - عليه السلام - وقيل: أول من بناها شيت بن آدم. أول من نطق بالعبرانية إسحاق بن إبراهيم - عليهما السلام -. أول من بنى بالآجر فرعون - لعنه الله -. أول من جمع العروبة وهي الجمعة كعب بن لؤي أحد أجداده صلى الله عليه وسلم. أول من خضب بالسواد من العرب عبد المطلب بن هاشم. أول من اتخذ العود للغناء لامك والد نوح - عليه السلام -. أول امرأة ثقبت أذناها وخفضت وجرَّت ذيلها هاجر أم إسماعيل - عليه السلام -. أول من قال القريض والرجز يعرب بن قحطان. أول جزية وقعت في الأرض أخذها أولاد حام من أولاد يافث ثم أجلاهم أعني أولاد حام إلى بلاد المغرب يعرب المذكور.

باب

أول من تتوج من ملوك العرب سبأ. أول من سقف البيوت بالخشب المنشور أَمِيم وكان ملكاً أبا قبيلة. قال المعري: يراه بنو الدهر الأخير بحاله ... كما أبصرته جرهم وأمِيم أول من كسا البيت الحرام بالديباج الحجاج، وقيل: عبد الله بن الزبير، وقيل: قتيلة بنت جناب أم العباس بن عبد المطلب. أول ميت بعد الهجرة وأول من صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأول من دفن بالبقيع أسعد بن زرارة - رضي الله عنه - وقيل أول منه إلى الموت كلثوم بن الهِدْمِ. أول من قال أما بعد قس بن ساعدة الإيادي، وقيل غيره وقال القائل: " جرى الخلف " أما بعد " من كان بادئاً ... بها عد أقوام وداوود أقرب ويعقوب أيوب الصبور ونافع ... وقس وسحبان وكعب ويعرب " أول سورة أنزلت:) اقْرَأ بِاسْمِ رَبّكَ (وقيل:) يَا أيُّهَا المُدَّثِرُ (وأولية الأولى بحسب النبوءة والثانية بحسب الرسالة. أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم من الرجال " الصرحاء " أبو بكر الصديق ولذلك سمي صديقاً - رضي الله عنه - ومن النساء خديجة، ومن الموالي زيد بن حارثة، ومن الغلمان علي - رضي الله عنه وعن جميعهم -. أول جمعة صليت في المدينة قبل الهجرة صلاها المصعب بن عمير وأصحابه - رضي الله عنهم -. أول جمعة صليت في غير المدينة في جُواثَى: قرية بالبحرين. وأول من رمى بسهم في سبيل الله سعد بن أبي وقاص الزهري - رضي الله عنه -. أول غنيمة حصلت عبر عمرو بن الحضرمي، وهو أول مقتول على الكفر. أول متبارزين في الجهاد حمزة وعلي وعبيدة مع أقرانهم من المشركين، وهم عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة، وقيل إنه فيهم نزلت:) هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا في رَبِّهِمْ (. أول مولود في الإسلام عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما -. أول الخلفاء في هذه الملة أبو بكر - رضي الله عنه -. أول الملوك فيها معاوية - رضي الله عنه -. أول من كتب بالعربية إسماعيل - عليه السلام -. أول من أدخل الكتاب العربي على أرض الحجاز حرب بن أمية وقيل: سفيان بن أمية. أول من جمع القرآن في الصحف أبو بكر. أول من جمعه في المصاحف عثمان - رضي الله عنه -. أول من تكلم في فن الإعراب أمير المؤمنين علي. أول من جمع الحديث إمامنا مالك - رضي الله عنه -. أول من هذب علم أصول الدين وحصله أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري - رضي الله عنه -. أول من اتخذ ركاب السرج من حديد المهلب بن أبي صفرة. أول من أدخل علوم الأوائل في هذه الملة المأمون العباسي. لله الأمر من قبل ومن بعد باب نبذة من المواعظ والوصايا وهذه نبذة من المواعظ والوصايا، فمن ذلك ما يروى حديثاً نحو قوله صلى الله عليه وسلم: " المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالمُؤْمِنُ مَنْ أمِنَهُ النّاسُ عَلى أمْوَالِهِمْ وَأنْفُسِهِمْ، وَالمُهَاجِرُ مَنْ هَاجَرَ الخَطَايَا وَالذَنُوبَ وَالمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ في طَاعَةِ اللهِ تَعَالى ". وقوله عليه السلام لعبد الله بن عمر: " اغْتَنِمْ خَمْساً قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ ". وقوله: " مَا يَنْتَظِرُ أحَدُكُمْ إلاّ غِنىً مُطغِياً، أوْ فَقْراً مُنْسِياً، أوْ مَرَضاً مُفْسِداً، أوْ هَرَماً مُنْفِداً أوْ مَوْتاً مُجْهِزاً، أوْ الدَّجّالَ، وَالدَّجّالُ شَرٌّ غَائِبٍ " يُنْتَظَرُ " أوِ السّاعَةَ وَالسَاعَةُ أدْهَى وَأمَرُّ ". وقوله: " عِشْ مَا شِئْتَ فَإنّكَ مَيِّتٌ، وَأحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإنَّكَ مُفَارِقُهُ، اعْمَلْ مَا شِئْتَ، فَإنّكَ مُلاقِيهِ ". وقوله صلى الله عليه وسلم: " ازْهَدْ في الدُّنْيَا يُحِبُّكَ اللهُ، وَازْهَدْ فِيمَا في أيْدِي النّاسِ يُحِبُّكَ النّاسُ ". وقوله: " لَيْسَ لِلإنْسَانِ مِنْ مَالِهِ إلاّ مَا أكَلَ فَأفْنَى، أوْ لَبِسَ فَأبْلى، أوْ تَصَدَّقَ فَأمْضَى ". ومن كلام الصديق رضي الله عنه: " الموت أهون ما بعده وأشد ما قبله ". وقوله: " ثلاثة من كن فيه كن عليه: البغي والنكث والمكر ". وقوله:

طائفة من الحكم

" إن الله تعالى قرن وعده بوعيده ليكون العبد راغباً راهباً ". ومن كلام الفاروق رضي الله عنه يخاطب ابنه عبد الله: " أما بعد، فإن من اتقى الله وقاه، ومن توكل عليه كفاه، ومن شكر له زاده، ومن استقرضه جزاه، فاجعل التقوى عماد قلبك، وجلاء بصرك، فإنه لا عمل لمن لا نية له، ولا أجر لمن لا حِسْبَة له، ولا جديد لمن لا خلق له ". وقوله في بعض خطبه: " أيها الناس، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا، فإنه أيسر لحسابكم، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، وتجهزوا للعرض الأكبر يوم تعرضون لا تخفى منكم خافية ". ومن كلام علي كرم الله وجهه في بعض وصاياه: " لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل، ويؤخر التوبة لطول الأمل، ويقول في الدنيا بقول الزاهدين، ويعمل بعمل الراغبين، إن أعطي لم يشبع، وإن منع لم يقنع، يعجز عن شكر ما أوتي، ويبتغي الزيادة فيما بقي، ينهى ولا ينتهي، ويأمر بما لا يأتي، يحب الصالحين ولا يعمل معهم، ويبغض المسيئين وهو منهم، يكره الموت لكثرة ذنوبه، ويقيم على ما يكره الموت بسببه، إن مرض ظل نادماً، وإن صح أمن لاهياً، يعجب بنفسه إذا عوفي، ويقنط إذا ابتلي، تغلبه نفسه على ما يظن، و " لا " يغلبها على ما يتيقن، ولا يثق بما ضمن له، ولا يعمل بما فرض عليه، إن استغنى بَطِر وفتن، وإن افتقر قنط وحزن، يخاف الموت، ولا يبادر الفوت، يطاع فيعصي، ويستوفي ولا يوفي ". وقوله أيضاً يخاطب سلمان رضي الله عنهما: " إنما مثل الدنيا كمثل الحية، لَيّنٌ مَسُّها، قاتل سمها، فأعرض عما يعجبك فيها لقلة ما يصحبك منها، ودع عنك همومها لما أيقنت به من فراقها، وكن أَسرَّ ما تكون فيها أحذرَ ما تكون لها، فإن صاحبها كلما اطمأن فيها إلى سرور، أشخصه عنه مكروه، وإن ركن منها إلى إيناس، أزاله عنه إيحاش ". طائفة من الحكم " وجمع بعضهم حكمه رضي الله عنه على حروف المعجم. حرف الألف إيمان الرجل يعرف بإيمانه. أخوك من واساك بالشدة. إظهار الغنى من الشكر. أداء الدَّيْنِ من الدِّين. أدب المرء خير من مذهبه. أدِّبْ عيالك تنتفع بهم. إخوان هذا الزمان جواسيس العيوب. أحسن إلى المسيء تَفْسُده. إخفاء الشدائد من المروءة. آفة الإنسان، من اللسان. الإسراف مذموم إلاّ في البِرّ. العلم يرفع الوضيع. الإنسان، عبد الإحسان. العاقل يترك ما يحبّ فيستغني عن علاج ما يكره. الناس نيام فإذا ما ماتوا انتبهوا. النصح بين الملأ تقريع. إذا تم العقل نقص الكلام. أكبر الأعداء أخفاهم مكيدة. الحرمان مع الحرص. الحاسد مغتاظ على من لا ذنب له. السعيد من وعظ بغيره. الإحسان، يقطع اللسان. الشرف بالعقل والأدب، لا بالأصل والحسب. إذا أفلستم فأقرضوا الله بالصدقة. إذا حل القدر، بطل الحذر. إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو شكراً لقدرتك عليه. الناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم. المرء مخبوء تحت طي لسانه، لا تحت طَيْلسانه. الجزع عند البلاء تمام المحنة. المرء عدو ما جَهِله. إعادة الاعتذار تذكير للذنوب. الشفيع جناح الطالب. أحسن المكارم الجود. أفضل المعرفة معرفة الإنسان نفسه. أحسن العدل نصرة المظلوم. أفضل الناس السخي المؤمن. السامع للغيبة أحد المغتابين. الأدب صورة العقل. القلب إذا كره عمي. العداوة شغل شاغل. الراحة مع اليأس. أكرم الأدب حسن الخلق. أكبر الفقر الحمق. أوحش الوحشة العُجْبُ. أغنى الغنى العقل. احذروا نفار النعم فما كل شارد بمردود. أكثر مصارع العقول تحت بروق الأطماع. الطامع في وثاق الذل. إذا وصلت إليكم أطراف النعم فلا تُنَفّروها أقصاها بقلة الشكر. حرف الباء الفقير مستسهل الفقر لنفسه، يعيش في الدنيا عيش الفقراء ويحاسب في الآخرة حساب الأغنياء. بشر مال البخيل بحادث أو وارث. بشر نفسك بالظفر مع الصبر. بالبر، يتعبد الحر. بر الوالدين سلف. بع الدنيا بالآخرة تربح. بكاء المرء من خشية الله قرة عين. باكر تسعد. باكر السبت والخميس تغنم. بركة العمر في حسن العمل. بشاشة الوجه عطية ثانية. بلاء الإنسان، من اللسان. بِرَّكَ لا تبطله بالمنة. حرف التاء

حرف الثاء

توكل على الله يكفك تأخير الإساءة من الإقبال. تدارك في آخر عمرك ما فاتك في أوله. تكاسل المرء في الصلاة من ضعف الإيمان. تفاءلْ بالخير تَنَلْه. تأكيد المودة في الحرمة. تغافَلْ عن المكروه تظفر بترك الذنوب. تزاحم الأيدي على الطعام بركة. تواضع المرء بكرمه. توقير الأكابر من الأدب. حرف الثاء ثلاث مهلكات: بخل وهوى وعُجْبٌ. ثلث الإيمان حياء، وثلثه عقل، وثلثه جودٌ. ثلمة الدين موت العلماء. ثلمة الحرص لا يسدها إلاّ التراب. ثني " كذا " إحسانك بالاعتذار. ثوب السلامة لا يبلى. ثبات الملك في العدل. ثواب الآخرة خير من نعيم الدنيا. ثبات النفس بالعدل " كذا ". ثبات الروح بالغنى " كذا ". ثناء الرجل على معطيه مستزيد " كذا ". ثلاث خصال من لم تكن فيه لا خير فيه: دين يرشده، أو حياء يردعه، أو خوف يمنعه. ثلاث من السعادة: سلامة الدين، وسلامة البدن، وسلامة الدنيا. حرف الجيم جد ما تجد. جهد المقل كثير. جمال المرء في الحلم. جليس السوء شيطان. جولة الباطل ساعة، وجولة الحق إلى الساعة. جودة الكلام في الاختصار. جليس الخير غنيمة. جليس المرء مثله. جالس الفقراء تزدد شكراً. جد بالكثير واقنع بالقليل. حرف الحاء حلم المرء عونه. حسن الخلق غنيمة. حلي الرجال الأدب، وحلي النساء الذهب. حدة المرء تهلكه. حرفة المرء كنزه. حياء المرء ستره. حرقة الأولاد، محرقة الأكباد. حرم الوفاء على من لا أصل له. حموضات الكلام، خير من حموضات الطعام. حرف الخاء خَفِ اللهَ تأمَنْ غيره. خالف نفسك تسترح. خير الأصحاب من يدللك على الخير. خليل المرء دليل عقله. خوف الله يجلي القلوب. خلو القلب خير من إملاء " كذا " الكيس. خلوص الود، من حسن العهد. خير النساء الولود الودود. خير المال ما أنفق في سبيل الله. خابت صفقة من باع الدين بالدنيا. حرف الدال دوام السرور بر الإخوان. دولة الأرذال، آفة الرجال. دار من جفاك تخجله. دواء القلب الرضا بالمقدور. دار الظالمين خراب. دينار البخيل حجر. دولة الملوك العدل. دم على كظم الغيظ تحمد عاقبتك. حرف الذال ذم الشيء من الاشتغال به. ذنب واحد كثير وألف حسنة قليلة. ذكر الأولياء ينزل الرحمات. ذكر الظالمين في طغيانهم. ذل المرء في الطمع. ذليل الفقر عند الله عزيز. ذكر الشباب حسرة. ذكر الموت جلاء القلب. ذكر الثناء خسارة "؟ ". حرف الراء راع أباك يراعك ابنك. رتبة العلم أعلى الرتب. رزقك يطلبك فاسترح. راع النفس عند غلبات الحمق. رؤية الحبيب جلاء العين. رفاهية العيش في الأمن. رسول الموت الولادة. رواية الحديث نسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. رفيق المرء دليل عقله. راع الحق عند غلبات النفس. رعونات النفس تتبعها " كذا ". حرف الزاي زر المرء على قد إكرامه لك. زيارة الضعفاء من التواضع. زيارة الحبيب تطري المحبة " كذا ". زوايا الدنيا مشحونة بالرزايا. زلة العالم كبيرة. زينة الباطن خير من زينة الظاهر. زهد الغامّيّ مضلة. زن الرجال بموازينهم. زحمة الصالحين رحمة. زوال العلم بموت العلماء. زكاة السلطان إغاثة الملهوف. زيارة المحبوب تزيد المحبة. حرف السين سرورك بالدنيا غرور. سيرة المرء تنبئ عن سريرته. سلامة الإنسان، في حفظ اللسان. سادة الأمة الفقهاء. سوء الخلق وحشة لا خلاص منها. سكرة الأحياء سوء الخلق. سلاح الضعفاء الشكاية. حرف الشين شيبك ناعيك. شرط الألفة، ترك الكلفة. شفاء الجَنان، قراءة القرآن. شر الناس من تتقيه الناس خوفاً من شره. شحيح غني أفقر من فقير سخي. شر الأمور أقربها من الشر. شمر في طلب الجنة. شح الغني عقوبة. شمة " كذا " من المعرفة خير من كثير من العلم. حرف الصاد صدق المرء نجاته. صحة البدن الصوم. صاحب الأخيار تأمن من الأشرار. صلاح الدين في الورع، وفساده في الطمع. صبرك يورثك الظفر. صلاح البدن في السكون.

حرف الضاد

صلاة الليل بهاء في النهار. صلاح الإنسان، في حفظ اللسان. صمت الجاهل يستره. صل الأرحام يكثر حشمك. صحبة الأحمق عذاب الروح. صحبة الأشرار، توجب سوء الظن بالأخيار. حرف الضاد ضل من عاشر الأشرار. ضل من باع الدين بالدنيا. ضرب اللسان، أشد من ضرب السنان. ضاقت الدنيا على المتباغضين. ضمن الله رزق كل أحد. ضرب الحبيب أوجع. ضياء القلب من أكل الحلال. ضيق القلب أشد من ضيق اليد. ضاق صدر من ضاقت يده. ضادوا الشر بالخير. حرف الطاء طاب وقت من وثق بالله تعالى. طال عمر من قصر أمله. طلب الأدب، خير من طلب الذهب. طوبى لمن رزق العافية. طول العمر مع العافية من خلع الأنبياء عليهم السلام. طال عمر من قصر تعبه. طوبى لمن لا أهل له. طاعة العدو هلاك. طاعة الله غنيمة. طلاق الدنيا مَهْرُ الجنة. حرف الظاء ظلم الظالم يقوده إلى الهلاك. ظمأ المال أشد من ظمأ الماء. ظلم المرء يصرعه. ظلامة المظلوم لا تضيع. ظل الأعوج أعوج. ظل السلطان كظل الله. ظلمة الظالم تظلم الإيمان. ظل الظالم قصير. ظل الكريم فسيح. ظل الملوك " كذا " أسهل من ذلال الرعية " كذا ". حرف العين عش قانعاً تكن ملكاً. عيب الكلام تطويله. عاقبة الظلم وخيمة. عدو عاقل خير من صديق أحمق. علو الهمة من الإيمان. عز من قنع. عسر المرء مقدمة اليسر. عليك بالحفظ دون الجمع من الكتب. عقوبة الظالم سرعة الموت. حرف الغين غضب الجاهل في قوله، وغضب العاقل في فعله. غشك من أسخطك بالباطل " كذا ". غنم من سلم. غلت قدور المتوكلين. غمرة الموت أهون من مجالسة من لا تهوى. غاب حظ من عاب نفسه. غضبك من الحق مقبحة. غدرك من دلك على الإساءة. غشك من أرضاك بالباطل. غنيمة المؤمن وجدان الحكمة. حرف الفاء فاز من ظفر بالدين. فخر المرء بفضله، أفضل من فخره بأصله. فاز من سلم من شر نفسه. فسدت نعمة من كفرها. فعل المرء يدل على أصله. فرع الشيء يخبر عن أصله. فكاك المرء بالصدقة. حرف القاف قول المرء مخبر عما في قلبه. قول الحق من الدين. قوة القلب من صحة الإيمان. قاتل الحريص حرصه. قرب الأشرار مضرة. قسوة القلب من الشبع. قلب الأحمق في فمه، ولسان العاقل في قلبه. قيمة كل امرئ ما يحسنه. قرين المرء دليل دينه. قدر في العمل، تنج من الزلل. قدر المرء ما يهمه. حرف الكاف كلام الله دواء للقلب. كفاك من عيوب الدنيا أن لا تبقى. كفاك همّاً علمك بالموت. كمال الجود الاعتذار معه. كفى الحسود حسده. كمال الحلم في الحلم. كفى بالشيب ناعياً. كفى بالسلامة داء. كثرة الإلحاح توجب المنع. كفران النعمة يزيلها. كلام الرجل ميزان عقله. كل قانع غني. كل حريص فقير. كفى بالظفر شفيعاً للمذنب. كثرة الوفاق نفاق. كثرة الخلاف شقاق. كافر سخي أرجى للجنة من مسلم شحيح. حرف اللام ليس للحسود راحة. ليّنْ قلبك تحبّ. لبس الشهرة من الرعونة. لكل عداوة مصلحة إلاّ عداوة الحسد. ليس الشيب من العمر. لين الكلام قيد القلوب. ليس لسلطان العلم زوال. لكل ظالم انتقام. لسانك يقتضيك ما عودته. لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً. لكل مقام مقال. حرف الميم من علت همته طالت همومه. من كتم سره، ملك أمره، ومن كثر كلامه كثر ملامه. من طلب شيئاً وجدّ وجد، ومن قرع باباً وألح ولج. مهلك المرء حدة طبعه. ما هلك امرؤ عرف نفسه. من عذب لسانه، كثر أخوانه. من عرف نفسه فقد عرف ربه. من طلب ما لا يعنيه فاته ما يغنيه " كذا ". من كثر مزاحه لم يخل من حقد عليه واستخفاف به. من نظر اعتبر. من أوتي في عجلته " كذا " قل حياؤه وبذ " كذا " لسانه. من لانت أسافله صلبت أعاليه. من كثر فكره في العواقب لم يشجع. من أبدى صحيفته للحق هلك. من جرى في عِنان أمله، عثر بأجله. ما أضمر أحد شيئاً إلاّ ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه. من أحب قوماً حشر معهم. مجلس العلم روضة من الجنة. ما ندم من سكت.

حرف النون

مجلس الكرام حصون الكلام. منقبة المرء تحت لسانه. مجالسة الأحداث مفسدة الدين. مشرب العذب مزدحم. مصاحبة الأشرار ركوب البحر. حرف النون نور المؤمن قيام الليل. نسيان الموت صدأ القلب. نور قلبك بالصلاة في ظُلَم الليل. نصرة الإنسان في الصدق. نفاق المرء ذلة. نعمة الجاهل كروضة في مزبلة. نور مشيبك لا تظلمه بالمعصية. نار الحرقة أشد من نار جهنم. نعيت إليك نفسك، حين شاب رأسك. نم آمناً تكن سالماً في أمهد الفرش. نضرة الوجه في التصدق. نيل المنى، في الغنى. حرف الهاء همة السعيد آخرته، وهمة الشقي دنياه. هلاك المرء في العُجْب. هموم المرء بقدر همته. هلك الحريص وهو لا يعلم. هيهات من نصيحة العدو. هربك من نفسك أشد من هربك من الأسد. همة المرء قيمته. هات ما عندك تعرف به. حرف الواو وهم المرء بقدر همه. وعد الكريم نقد. ولاية الأحمق سريعة الزوال. وضع الإحسان في غير محله ظلم. وزر صدقة المنان أعظم من أجره. وحدة المرء خير من جليس السوء. والاك من لم يعادك. واساك من تغافل عنك. ويل للحسود من حسده. ولي الطفل مرزوق. حرف لام ألف لا دين لمن لا مروءة له. لا فقر للعاقل. لا راحة للحاسد. لا غم للقانع. لا وفاء للمرأة. لا كرامة للكاذب. لا حرمة للفاسق. لا ظفر مع البغي. لا صواب لمن ترك المشورة. لا كرم أعز من التقوى. لا داء أعيا من الجهل. لا مرض أعيا من قلة العقل. لا راحة لملول. لا عقل لمن لا أدب له. لا علم لمن لا بصيرة له. لا بصيرة لمن لا فكر له. لا خير في علوم الكذابين. لا أعز من القانع ولا أذل من الطامع. لا تنظر إلى من قال وانظر إلى ما قال. لا يرفع الشح. لا صحة مع النهم. لا شرف مع سوء الأدب. لا ثناء مع الكبر. لا زيادة مع الزراعة " كذا ". لا راحة للملوك. لا شرف أعلى من الإسلام. لا معقل أحسن من الورع. لا شفيع أنجح من التوبة. لا لباس أجمل من السلامة. لا أيمان لمن لا إيمان له. لا غنى لمن لا فضل له. لا حياء لحريص. لا شفيع كالودود الناصح. حرف الياء يأتيك ما قدر لك. يطلبك رزقك كما تطلبه. يبلغ الإنسان بالصدق منازل الكبار. يسود المرء قومه بالإحسان. يسود المرء بمصاحبة السعيد. يشقى الرجل بمصاحبة السفيه. يزيد في العمر الصدقة. يأمن الخائف إذا وصل إلى ما خافه. يأمن القلب راحة النفس " كذا ". يسعد الرجل بمصاحبة السعيد ". لله الأمر من قبل ومن بعد الرغيف والذهب وروي عن نبي الله عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام أنه خرج هو وصاحب له في سياحة فأصابهما الجوع وقد مرا بقرية فقال لصاحبه: انطلق فاطلب لنا طعاماً بهذه القرية، وقام هو يصلي، فانطلق الرجل وأتى بثلاثة أرغفة، فوجده مشغولاً فأكل رغيفاً، فلما انصرف عيسى عليه السلام قال له: أين الرغيف الثالث؟ فقال: ما كان إلاّ رغيفان. فانطلقا حتى مرّا بظباء فدعا - عليه السلام - ظبياً منها فذكاه وأكلا منه، ثم قال له: قم بإذن الله الذي يحيي الموتى، فقام يشتدّ فقال الرجل: سبحان الله! فقال عيسى: بالذي أراك هذه الآية من صاحب الرغيف الثالث؟ قال ما كان إلاّ إثنان، فانطلقا فمرّا بنهر عظيم فأخذ بيده فمرّ به على الماء حتى قطع، فقال الرجل سبحان الله؟ فقال عيسى: بالذي أراك هذه الآية من صاحب الرغيف الثالث؟ قال: ما كان إلاّ إثنان، فانطلقا حتى أتيا قرية خربة وإذا بثلاث لبنات من ذهب. فقال الرجل: هذا مال، فقال عيسى عليه السلام: واحدة لي وواحدة لك وواحدة لصاحب الرغيف الثالث. فقال الرجل: أنا صاحبه، فقال عيسى: هي لك كلها وفارقه، فأقام عليها ليس معه من يحملها له، فمرّ به ثلاثة نفر فقتلوه وأخذوا اللبنات، فقال اثنان منهم للواحد: انطلق إلى القرية فائتنا بطعام، اتفق الاثنان على قتله إذا رجع، وأتى هو بالطعام فوضع فيه سماً ليموتا فيختص بالمال، فلما جاء قتلاه وأكلا الطعام فماتا، فمر بهم عيسى - عليه السلام - وهم حول المال كلهم صرعى فقال: هكذا تفعل الدنيا بأهلها، وتركهم.

عدي بن زيد والأمير النعمان

وروي عنه " أيضاً " عليه السلام أنه مر وهو في جمع من أصحابه بزرع قد أفرك فقال أصحابه: يا نبي الله، نحن جياع، فأوحى الله تعالى إليه أن ائذن لهم في قوتهم، فأذن لهم، فدخلوا " الزرع " يفركون ويأكلون، فبينما هم كذلك جاء صاحب الزرع فقال: بإذن من تأكلون يا هؤلاء زرعي، وأرضي ورثتها عن آبائي، فدعا عيسى عليه السلام تعالى فبعث الله كل من ملك تلك الأرض من ولد آدم عليه السلام، فإذا عند كل سنبلة رجل أو امرأة يقول: أرضي ورثتها عن آبائي، ففزع الرجل منهم، وكان قد بلغه أمر عيسى وهو لا يعرفه، فقال: معذرة إليك يا رسول الله، إني لم أعرفك فزرعي ومالي لك حلال، فبكى عيسى عليه السلام وقال: ويحك هؤلاء كلهم ورثوا هذه الأرض وعمروها وارتحلوا عنها، وأنت مرتحل وبهم لاحق، ويحك ليس لك أرض ولا مال. ولما دخل أبو الدرداء الشام قال: يا أهل الشام: اسمعوا قول أخ ناصح، مالي أراكم تبنون ما لا تسكنون، وتجمعون ما لا تأكلون، إن الذين كانوا قبلكم بنوا مشيداً، وأملوا بعيداً، وجمعوا كثيراً، وشيدوا قصوراً، فأصبح أملهم غروراً، وجمعهم ثبوراً، ومساكنهم قبوراً. لله الأمر من قبل ومن بعد عدي بن زيد والأمير النعمان وكان عدي بن زيد العِباديّ ممن تنضر ودان بدين المسيح، وكانت له حظوة عند النعمان بن امرئ القيس، فحضر عنده يوماً والنعمان في أحسن زِيٍّ في مجلسه مع ندمائه فلما شرب وطرب قال لعدي: كيف ترى هذا النعيم الذي نحن فيه يا أبا زيد؟ فقال: إنه حسن لو كان لا ينفَدُ، ومسرة لو كانت تدوم، فقال: أو كل ما أرى إلى نفاد؟ قال: نعم، أبَيْتَ اللّعْن، فقال النعمان: وأي خير فيما يفنى؟ فلما رأى عدي ذلك منه طمع في ارعوائه، فجعل يعظه، فلما خرج سايره، فمروا بمقبرة فقال أيها الملك أتدري ما تقول هذه القبور؟ قال: لا، قال: إنها تقول: أيها الركب المخبون ... وعلى الأرض المجدون مثلما أنتمُ كنّا ... وكما نحن تكونون فظهر على النعمان انكسار. ثم إنهم مروا بشجرات متَناوِحاتٍ بينها عين جارية فقال عدي: أتدري ما تقول هذه الشجرات أبَيْتَ اللّعْنَ؟ قال: لا، قال: إنها تقول: مَن رآنا فليحدث نفسه ... أنه موفٍ على قرن زوال وصُروف الدهر لا يبقى لها ... ولما تأتي به صُمُّ الجبال رب ركب قد أناخوا حولنا ... يشربون الخمر بالماء الزلال والأباريق عليها فُدمٌ ... وعتاق الخيل تردي بالجلال عمروا دهراً بعيش حسن ... آمني دهرهم غير عجال ثمّ أضحوا عَصَفَ الدهرُ بهم ... وكذاك الدهر يُودي بالرجال وكذاك الدهر يرقى بالفتى ... في طلاب العيش حالاً بعد حال فوقع كلامه منه أحسن موقع فقال له: ائتني عند السحر، فإن عندي أمراً أطلعك عليه، فأتاه فوجده قد لبس مِسْحاً وأخذ أهبة السياحة فودعه وذهب، ولم يعلم له بعد ذلك خبر، وذكر أنه قال له: قد علمت أن القبور لا تتكلم، والشجرة لا تتكلم، وإنما أردت موعظتي، ففيم النجاة؟ فقال له عدي: تترك عبادة الأوثان وتدين بدين المسيح عليه السلام، فننصر النعمان حينئذ: وفي معنى هذا قول شاعر قديم: يا أيها الناس سيروا إن قصدكم ... أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا حثوا المطايا وأرْخوا من أزمّتها ... قبل الممات وقضّوا ما تُقضّونا كنّا أناساً كما كنتم فغيّرَنا ... دهر فأنتم كما كنا تكونونا لله الأمر من قبل ومن بعد من شعر أبي العتاهية في الزهد والمواعظ ودخل أبو العتاهية على الرشيد حين بنى قصره، وزخرف مجلسه، واجتمع إليه خواصه، فقال له: صف لنا ما نحن فيه من الدنيا فقال: عش ما بدا لك آمناً ... في ظلّ شاهقة القصور فقال الرشيد: أحسنت، ثم ماذا؟ فقال: يسعى إليك بما اشتهي ... ت لدى الرواح وفي البكور فقال: حسن، ثم ماذا؟ فقال: فإذا النفوس تقعقعت ... في ضيق حشرجة الصدور فهناك تعلم موقناً ... ما كنت إلاّ في غرور فبكى الرشيد بكاء شديداً حتى رُحِم، فقال له الفضل بن يحيى: بعث إليك المؤمنين لتسره فأحزنته، فقال له الرشيد: دعه فإنه رآنا في عمى فكره أن يزيدنا عمى: ألا نحن في اللديا قليل بقاؤها ... سريع تعديها وشيك فناؤها

تزوَّد من الدنيا التقى والنهى فقد ... تنكرت الدنيا وحان انقضاؤها تَرَقَّ من الدنيا إلى أي غاية ... سموت إليها فالمنايا انتهاؤها ومن كلفته النفس فوق كَفافِها ... فما ينقضي حتى الممات عناؤها وقوله: ألا إنما الدنيا متاع غرور ... ودار صعود مرة وحدور كأني بيوم ما أخذت تأهباً ... له في رواح عاجل وبكور كفى عِبْرة أن الحوادث لم تزَلْ ... تُصَيِّرُ أهل الملك أهل قبور خليليَّ كم من ميت قد حضرته ... ولكنني لم أنتفع بحضور ومن لم يزده الدهر ما عاش عبرة ... فذاك الذي لا يستنير بنور وقوله أيضاً: إني سألت القبر ما فعلت ... بعدي وجوه فيك منعفره فأجابني: صيَّرتُ ريحهمُ ... تؤذيك بعد روائح عَطِره وأكلت أجساداً منعمة ... كان النعيم يَزِينُها نضرَه لم أبق غير جماجم عَرِيَت ... بيض تلوح وأعظمٍ نَخِره وقوله أيضاً: تفكر قبل أن تندم ... فإنك ميت فاعلم ولا تغتر بالدنيا ... فإن صحيحها يسقم وإن جديدها يبلى ... وإن شبابها يهرم وإنّ نعيمها يفنى ... فترك نعيمها أحزم ومن هذا الذي يبقى ... عل الحدثان أو يسلم رأيت الناس اتباعاً إلاّ ما ... نوى في الخير أو قدَّم وقوله: إياك أعني يا ابن آدم فاستمع ... ودع الركون إلى الحياة فتنتفع لو كان عمرك ألف حول كامل ... لم تذهب الأيام حتى تنقطع إن المنية لا تزال ملحة ... حتى تستت كل شمل مجتمع فاجعل لنفسك عدة للقاء من ... لو قد أتاك رسوله لم تمتنع يا أيها المرء المضيع دينه ... إحراز دينك خير شيء تصطنع فامهد لنفسك صالحاً تجزى به ... وانظر لنفسك أيّ أمر تتبع واعلم بأن جميع ما قدمته ... عند الإله موفر " لك " لم يضع " وله أيضاً: كم يكون الشتاء ثم المصيف ... وربيع يمضي ويأتي خريف وانتقال من الحرور إلى الظ ... ل وسيف الردى عليك منيف يا قليل البقاء في هذه الدا ... ر إلى كم يغرك التسويف عجباً لامرئ يذل لذي دن ... يا ويكفيه كل يوم رغيف وقال أحمد بن علي بن مروان: دخلت مع إسماعيل بن سويد العنبري على أبي العتاهية وهو يجود بنفسه ويقول: يا نفس قد مثلت حا ... لي هذه لك منذ حين وشككت أني ناصح ... لك فاشتملت على الظنون فتأملي ضعف الحرا ... ك ونجلتي بعد السكون وتيقّني أن الذي ... بك من علامات المنون ومن شعر محمود الوراق: إن جيشاً إلى الممات مصيره ... لحقيق ألا يدوم سروره وسرور يكون آخره المو ... ت سواء طويله وقصيره وقوله: أبقيت مالك ميراثاً لوارثه ... يا ليت شعري ما أبقى لك المال القوم بعدك في حال تسرهم ... فكيف بعدهُم صارت بك الحال ملوا البكاء فما يبكيك من أحد ... واستحكم القيل في الميراث والقال مالت بهم عنك دنيا أقبلت لهم ... وأدبرت عنك، والأيام أحوال " من ذلك قول بعضهم: زيادة المرء في دنياه نقصان ... وربحه دون محض الدين خسران وكل وجدان حظ لا ثبات له ... فإن معناه في التحقيق فقدان يا عامراً لخراب الدهر مجتهداً ... بالله هل لخراب الدهر عمران ويا حريصاً على الأموال يجمعها ... نسيت أن سرور المال أحزان دع الركون إلى الدنيا وزخرفها ... فصفوها كدر والوصل هجران وأرْعِ سمعك أمثالاً أفصلها ... كما يفصل ياقوت ومَرْجان أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ... فطالما استعبد الإنسان إحسان وكن على الدهر مِعواناً لذي أمل ... يرجو نداك فإن الحر مِعوان من جاد بالمال مالَ الناس قاطبةً ... إليه والمال للإنسان فَتّان من كان للخير منّاعاً فليس له ... عند الخليقة إخوان وأخدان لا تخدشنَّ بمَطلٍ وجه عارفَةٍ ... فالبر يخدِشه مطْلٌ مليَان يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته ... أتطلب الربح فيما فيه خسران

أقبل على النفس واستكمل فضائلها ... فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان من يتق الله يحمد في عواقبه ... ويكفه شر من عزّوا ومن هانوا حسْبُ الفتى عقله خِلاًّ يعاشره ... إذا تجافاه أصحاب وأعوان لا تستشر غير شخص حازم فطن ... قد استوى منه إسرار وإعلان فللتدابير فرسانٌ إذا ركضوا ... فيها أبرّوا كما للحرب فرسان وللأمور مواقيت مقدَّرة ... وكلّ أمر له حدّ وميزان من رافق الرفق في كل الحوادث لم ... يندمْ عليه ولم يذمُمْه إنسان ولا تكن عاجلاً في الأمر تطلبه ... فليس يحمد قبل النضج بحران وذو القناعة راض في معيشته ... وصاحب الحرص إن أثرى فغضبان كفى من العيش ما قد سد من رمق ... ففيه للحر إن حققت غُنيان هما رضيعا لِبانٍ حكمةٌ وتُقىً ... وساكناً وطنٍ مالٌ وطغيان من مد طرفاً بفرط الجهل نحو هوى ... أغضى عن الحق يوماً وهو خَزيان من استشار صروف الدهر قام له ... على حقيقة طبع الدهر برهان من عاشر الناس لاقى منهم نَصَباً ... لأن طبعهم بَغْي وعُدوان ومن يفتش عن الإخوان مجتهداً ... فجعل إخوان هذا الدهر خوّان من يزرع الشر يحصد في عواقبه ... ندامة ولحصد الزرع إبّان من استنام إلى الأشرار نام وفي ... قميصه منهم صلٌّ وثعبان من سالم الناس يسلم من غوائلهم ... وعاش وهو قريرُ العين جذلان من كان للعقل سلطان عليه غدا ... وما على نفسه للحرص سلطان وإن أساء مسيء فليكن لك في ... عروض زلته صفح وغفران إذا نبا بكريم موطن فله ... وراءه في بسيط الأرض أوطان لا تحسبن سروراً دائماً أبداً ... من سره زمن ساءته أزمان يا ظالماً فرحاً بالعز ساعده ... إن كنت في سنَةٍ فالدهر يقظان يا أيها العالم المرضيّ سيرته ... أبشر فأنت بغير الماء رَيّان ويا أخل الجهل لو أصبحت في لججٍ ... فأنت ما بينها لا شك ظمآن دع التكاسل في الخيرات تطلبها ... فليس يسعد بالخيرات كسلان صُن حُرَّ وجهك لا تهتك غلائله ... فكل حر لحُر الوجه صَوّان لا تحسب الناس طبعاً واحداً فلهم ... غرائز لست تحصيها وألوان ما كلُّ ماء كصدّاء لوارده ... نعم ولا كل نبت فهو سعدان من استعان بغير الله في طلب ... فإن ناصره عجز وخذلان واشدد يديك بحبل الله معتصماً ... فإنه الركن إن خانتك أركان لا ظل للمرء يغني عن تُقى ورضاً ... وإن أظلته أوراق وأفنان سُحْبانْ من غير مال باقلٌ حَصِرٌ ... وباقِلٌ في ثراء المال سَحْبان والناس أعوان من والتْه دولته ... وهم عليه إذا خانته أعوان يا رافلاً في الشباب الوَحف منتشياً ... من كأسه هل أصاب الرشد نشوان لا تغترر بشباب ناعم خضلٍ ... فكم تقدم قبل الشّيب شبان ويا أخا الشيب لو ناصحت نفسك لم ... يكن لمثلك في الأشراف إخوان هب الشبيبة تبدي عذر صاحبها ... ما بال شيبك يستهويه شيطان كل الذنوب فإن الله يغفرها ... إن شيع المرء إخلاص وإيمان وكل كسر فإن الله يَسْبُره ... وما لكسر قناة الدين جبران أحسن إذا كان إمكان لقدرة ... فلا يدوم على الإنسان إمكان فالروض يزدان بالأنوار فاغمةً ... والحر بالعدل والإحسان يزدان خذها سوائرَ أمثال مُهذبة ... فيها لمن يبتغي التّبيان تِبيان ما ضرّ حسانها والطبع صائغها ... أن لم يصغها قرِيعُ الشعر حسّان وذيل عليها بعضهم فقال: وكن لسنّة خير الخلق متبعاً ... فإنها لنجاة العبد عنوان فهو الذي شمِلت للعبد أنعمه ... وعمهم منه في الدارين إحسان جبينه قمر، قد زانه خَفَرٌ، ... وثغرُه دُرَرٌ غُرٌّ ومرجان والبدر يخجل من أنوار طلعه ... والشمس من حسنه الوضاح تزدان ومُذْ أتى أبصرت عُمْيُ القلوب به ... سُبْلَ الهدى وَوعَت للحقّ آذان به توسّلُنا في محو زلتنا ... لربنا إنه ذو الجود منّان

القصيدة الزينبية

يا رب صل عليه ما همَى مطر ... فأينعت منه أوراق وأغصان وابعث إليه سلاماً زاكياً عطراً ... والآلِ والصحب لا تُفنيه أزمان لله الأمر من قبل ومن بعد القصيدة الزينبية ومن ذلك القصيدة الزينبية: صرمت حبالك بعد وصلك زينبُ ... والدهر فيه تغير وتقلبُ نشرت ذوائبها التي تزهو بها ... سُوداً ورأسك كالثغامة أشيبُ واستنفرت لما رأتك وطالما ... كانت تحن إلى لقاك وترغب وكذاك وصل الغانيات فإنه ... آلٌ ببلقَعَةٍ وبرقٌ خُلّبُ فدع الصبا فلقد عداك زمانه ... وازهد فعمرك مرّ منه الأطيب ذهب الشباب فما له من عودة ... وأتى المشيب فأين منه المهرب؟ دع عنك ما قد كان في زمن الصبا ... واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب واذكر مناقشة الحساب فإنّه ... لا بد يُحصى ما جنيت ويكتب لم ينسه الملكان حين نسيته ... بل أثبتاه وأنت لاهٍ تلعب وألوح فيك وديعة أُودِعْتَها ... سترُدّها بالرغم منك وتُسلَب وغرور دنياك التي تسعى لها ... دار حقيقتها متاع يذهب والليل فاعلم والنهار كلاهما ... أنفاسنا فيه تُعدُّ وتحسب وجميع ما حصلته وجمعته ... حقاً يقيناً بعد موتك ينهب تباً لدار لا يدون نعيمها ... ومَشيدُها عمّا قليل يَخْرَب فاسمع أُخَيّ وصية أولاكها ... برّ نصوح للأنام مجرب " أهدى النصيحة فاتّعظ بمقاله ... فهو التقي اللوذعي الأدرب " صحب الزمان وأهله مستبصراً ... ورأى الأمور بما تثوب وتعقب لا تأمَنِ الدهر الخئون فإنه ... ما زال قدماً للرجال يؤدب وعواقب الأيام في غُصَّاتها ... مَضَضٌ يذل لها الأعز الأنجب فعليك تقوى الله فالزمها تفز ... إن التقي هو البَهيُّ الأهيب واعمل بطاعته تنل منه الرضا ... إن المطيع لربه لمقرب واقنع ففي بعض القناعة راحة ... واليأس عما فات فهو المطلب فإذا طمعت لبست ثوب مذلة ... فبذا اكتسى ثوب المذلة أشعب وتَوَقَّ من غدر النساء خيانة ... فجميعهن مكايد لك تُنْصَب لا تأمن الأنثى حياتَك إنها ... كالأفعوان يُراع منه الأنيب تُغْري بلين حديثها وكلامها ... فإذا سطت فهي الصقيل الأشطب وابدأ عدوك بالتحية ولتكن ... منهُ زمانَك خائفاً تترقب واحذره إن لاقيته متبسّماً ... فالليث يبدو نابُه إذ يغضب إن العدو وإن تقادم عهده ... فالحقد باقٍ في الصدور مغيب وإذا الصديق لقيته متلوناً ... فهو العدو وحقه يتجنب لا خير في ود امرئ متملقٍ ... حلو اللّسان وقلبه يتلهب يلقاك يحلف أنّه بك واثق ... وإذا توارى عنك فهو العقرب يعطيك من طرف السان حلاوة ... ويروغ عنك كما يروغ وصل الكرام ولو رموك بجفوة ... فالصفح عنهم والتجاوز أصوب فاختر قرينك واصطفيه مواتياً ... إن القرين إلى المقارن ينسب إنَّ الغنيَّ من الرجال مكرم ... وتراهُ يرجى ما لديه ويرهب فأخفض جناحك للأقارب كلهم ... بتذلل واغفر لهم إن أذنبوا وذر الذنوب ولا يكن لك صاحباً ... إن الكذوب يشين حراً يصحب والفقر شَيْن في الرجال وإنّه ... حقاً يهون به الشريف الأنسب وزن الكلام إذا نطقت ولا تكن ... ثرثارة في كل ناد تخطب وتوقَّ من عثراته من زلة ... فالمرء يسلم باللسان ويعطب والسر فاكتمه ولا تنطق به ... " فهو الأسير لديك إذ لا ينشب واحرص على حفظ القلوب من الأذى ... فرجوعها بعد التنافر يصعب إن القلوب إذا تنافر ودها " ... شبه الزجاجة كسرها لا يُشعَب وكذاك سر المرء إنْ لم يطْوِه ... نشرته ألسنة تزيد وتكذب لا تحرصن فالحرص ليس بزائد ... في الرزق بل يشقى الحريص ويتعب ويظل ملهوفاً يروم تحيلاً ... والرزق ليس بحيلة يستجلب كم عاجز بالناس يأتي رزقه ... رغداً ويحرم كَيّسٌ ويخيَّب وارع الأمانة، والخيانةَ فاجتنب ... واعدل ولا تظلم بطيب المكسب

تائية المقرئ في المواعظ

وإذا أصابتك نكبة فاصبر لها ... من ذا رأيت مسلماً لا ينكب وإذا رُميت من الزمان بريبة ... أو نالك الأمر الأشد الأصعب فاضرع لربك إنه أدنى لمن ... يدعوه من حبْل الوريد وأقرب كن ما استطعت من الأنام بمعزل ... إن القليل من الورى من تصحب واحذر مصاحبة اللئيم فإنها ... تُعدي كما يعدي الصحيحَ الأجرب واحذر من المظلوم سهماً صائباً ... واعلم بأن دعاءه لا يحجب وإذا رأيت الرزق عزّ ببلدة ... وخشيت فيها أن يضيق المكسب فارحل فأرض الله واسعة الفلا ... طولاً وعرضاً شرقها والمغرب " فلقد نصحتك إن قبلت نصيحتي ... فالنصح أغلى ما يباع ويوهب " لله الأمر من قبل ومن بعد تائية المقرئ في المواعظ وللعلاّمة المقرئ رحمه الله: إلى كم تماد في غرور وغفلة؟ ... وكم هكذا نوم؟ متى يوم يقظة؟ لقد ظاع عمر ساعةٌ منه تشترى ... بملء السما والأرض أيّةَ ضيعة أتنفق هذا في هوى هذه التي ... أبى الله أن تسوى جناحَ بَعوضة وترضى من العيش السعيد تعيشه ... مع الملأ الأعلى يعيش البهيمة أيا درة بين المزابل ألقيت ... وجوهرة بيعت بأبخس قيمة أفان بباق تشتريه سفاهة؟ ... وسخطاً برضوان وناراً بجنة؟ أأنت صديق أم عدو لنفسه ... فإنك ترميها بكلّ مصيبة ولو فعل الأعدا بنفسك بعض ما ... فعلت لمستهم لها بعض رحمة لقد بعتها ... حزني عليك رخيصة وكانت بهذا منك غير حقيقة فَويْكَ استقل لا تفضحنها بمشهد ... من الخلق إن كنت ابن أمٍ كريمة فبين يديها موقف وصحيفة ... تقاد عليها كل مثقال ذرة كَلِفْتَ بها دنيا كثير غرورها ... تعامل من في نصحها بالخديعة إذا أقبلت ولت وإن هي أحسنت ... أساءت وإن صفت فثق بالكدورة ولو نلت منها مالَ قارونَ لم تنلْ ... سوى لقمة في فيك منه وخِرْقة وهبك ملكت الملك فيها ألم تكن ... لتَنزعه من فيك أيدي المنايا فدعها وأهليها وفِرَّ وخذ كذا ... بنفسك عنها فهي كل الغنيمة ولا تغتبط منها بفرحة ساعة ... تعود بأحزان عليك طويلة فعيشك فيها ألف عام وينقضي ... كعيشك فيها بعض يوم وليلة عليك بما يجري عليك من التقى ... فإنك في سهو عظيم وغفلة مجالس ذكر الله يُلهيك أن ترى ... بها ذاكراً للهِ ضعف العقيدة إذا شرعوا فيها تجمشت قائماً ... قيامك ذا قل لي إلى أي لعنة وإن كان لهواً أو أحاديث ريبة ... وثبت وثوب الليث نحو الفريسة تصلي بلا قلب صلاةً بمثلها ... يكون الفتى مستوجباً للعقوبة تظل وقد تمستها غير عالمٍ ... تزيد احتياطاً ركعة بعد ركعة فخيحك تدري من تناجيه معرضاً ... وبين يدي من تنحني غيرَ مُخْبِت تجاطبه إياك نعبد مقبلاً ... على غيره فيها لغير ضرورة ولو رد من ناجاك للغير طرفه ... تميزت من غيظ عليه وغيرة أما تستحي من مالك الملك أن يرى ... صدودك عنه يا قليل المروءة صلاة أقيمت يعلم الله أنها ... بفعلك هذا طاعة كالخطيئة وأقبح منها أن تدل بفعلها ... كمن قلد المدلول بعد صنيعة وأن يعتريك العُجْب أيضاً بكونها ... على ما حوته من رياء وسمعة ذنوبك في الطاعات وهي كثيرةٌ ... إذا عددت تغنيك عن كل زلة سبيلك أن تستغفر اللهَ بعدها ... وأن تتلافى الذنب منها بتوبة فيا عاملاً للنار جسمك ليّنٌ ... فجربه تمريناً بحرِّ الظهيرة وجربه في لسع الزنابير تجتني ... على نهش حيات هناك عظيمة فإن كنت لا تقوى فويلك ما الذي ... دعاك إلى إسخاط ربّ البرية تعامله بالمنكرات عشّيةً ... وتصبح في أثواب نسك وعفّة فأنت على ما أنت أجراً لدى الورى ... بما فيك من جهل وخبث السريرة تقول مع العصيان ربّيَ غافر ... صدقت ولكن غافر بالمشيئة وربك رزاق كما هو غافِرٌ ... فلِمْ لَمْ تصدق فيهما بالسوية

خاتمة

فإنك ترجو العفو من غير توبة ... ولست ترجّي الرزق إلاّ بحيلة على أنه بالرزق كفل نفسه ... لكل ولم يكفل لكل بجنة فلم ترض إلاّ السعي فيما كُفيِتَه ... وإهمال ما كُلّفته من وظيفة تسيء به ظناً وتحسن تارة ... على قدر ما يعطي الهوى في القضية إلهي لا تواخِذَنْ "؟ " بذنوبنا ... ولا تخزنا وانظر إلينا برحمة إلهي اهدنا فيمن هديت وخذ بنا ... إلى الحق نهجاً سواء الطريقة وكن شغلنا في كل شغل وهمنا ... وبغيتنا عن كل هم وبغية وصل صلاة لا تناهى على الذي ... جعلت به مسكاً ختام النبوءة وآل وصحب أجمعين وتابع ... وتابعهم من كل إنس وجِنّة " لله الأمر من قبل ومن بعد خاتمة في ذكر جماعة من شيوخ العلم والتصوف لقيهم المؤلف أسرد من حضر الآن في فكري ممن لقيت وتبركت به ممن اتسم بالخير و " اشتهر " بالصلاح تبركاً بهم، فإنه " قد " قيل: تنزل الرحمة عند ذكر الصالحين، " وقال القائل: اسرد حديث الصالحين وسمهم ... فبذكرهم تنزل الرحمات واحضر مجالسهم تنل بركاتهم ... وقبورهم زرها إذا ما ماتوا ولم أتعرض لأحوالهم لأن ذلك يطول، والكتاب غير موضوع له، فاكتفيت بذكر أسمائهم. فمنهم " من " الطائفة الغازية بسجلماسة سيدي أحمد بن أبي القاسم ابن مولود " الجاوزي السجلماسي " زرته مراراً، وأبوه أبو القاسم من مشاهير أصحاب شيخ " مشايخنا " " سيدي " أبي القاسم الغازي، وجده سيدي مولود من أصحاب شيخ الطوائف المغربية أبي العباس سيدي أحمد بن يوسف " الراشيدي الملياني وسيدي عبد الكريم ابن أحمد بن يوسف " زرته " أيضاً " مراراً وأبوه هو ابن أخي الشيخ أبي القاسم الغازي وأحد أصحابه، وسيدي البكري ابن أحمد بن أبي القاسم بن مولود المتقدم، وسيدي مبارك بن محمد الغرفي العنبري، وشيخنا الأستاذ سيدي أحمد الدراوي. وبدرعة أستاذنا ومُفيدنا الإمام الهمام بحر الشريعة والحقيقة، وسراج الطريقة، أبو عبد الله سيدي محمد بن ناصر، وشيخه سيدي عبد الله بن حسن الرقي، وشيخه سيدي أحمد بن علي الحاجي، وشيخه سيدي أبو القاسم الغازي، وجماهة من أصحاب الشيخ ومن أولاده يطول ذكرهم: فمنهم خليفته سيدي أحمد بن محمد بن ناصر، وأخوه " الشيخ " سيدي الحسين بن محمد بن ناصر، وسيدي منصور أحد أولاد الشيخ سيدي أحمد بن علي، ومنهم " سيدي " أحمد بن عبد الصادق الرتبي، ومنهم سيدي أبو طاهر بن عبد الله بن أبي بكر السجلماسي، ومنهم المولى أبو عبد الله سيدي محمد بن عبد الله بن علي بن طاهر الحسني المعروف بابن علي، وكنت عقدت معه عقد المحبة الخاصة، وكتبت إليه في شأن ذلك من الزاوية البكرية كتاباً وفيه: يا ابن الكرام الصّيدِ من فِهْرِ ... أُولي المعالي السادة الزُّهْرِ مَنْ بَيْتُهم يعلو الثريّا ومن ... حذَوْا نعالاً رُقْعَةَ البدرِ ومن صفَوْا قِدماً وصُوفوا على ... كل الورى في سالف الدهر هذا سلام الله يغدوكم ... على مطايا الشّوق من صدري شيعته من صفو ودي لكم ... بنسمة طيبة النّشْرِ أبهى وأذكى من نسيمٍ سرى ... سحيرة من جانب الشِّحْر في روضه غناء يزهو بها ... غِبَّ الندى مؤتلقُ الزَّهْر سلام من لم يختلل قلبه ... لكم سوى ود بلا غِمْر رأس صفي لم يشب محضه ... صرف ولا أزرى به مزر فإن يكن هجر فممّا جنت ... نفسي، ولكن عنده عذري إن جزاء الحُبّ حُبّ كما ... قد قاله الشبلي أبو بكر

ومنهم العالم العلاّمة المولى أبو محمد سيدي عبد الهادي بن عبد الله بن علي بن طاهر الحسني أخو المذكور قبله وأكبر منه سناً وعلماً. " ومنهم شيخنا أبو بكر بن الحسن التطافي " ومنهم شيخنا أبو عبد الله " سيدي " محمد بن محمد المرابط الدلائي. ومنهم شيخنا أبو محمد سيدي عبد القادر بن علي الفاسي. ومنهم شيخنا أبو عبد الله سيدي محمد بن سعيد السوسي المرغتي، وأخونا في الله سيدي عبد الله الشريف المصمودي، ومحبتنا سيدي أحمد بن محمد اليماني، وصاحبه أخونا " في الله " سيدي أحمد ابن محمد الأندلسي، والأستاذ سيدي عبد الرحمان بن القاضي، والحاج عبد العزيز الفلالي، " وسيدي " علي بن محمد الشريف " وسيدي عبد الله بن إبراهيم الفلالي " وسيدي عبد الله بن إبراهيم الفاسي وسيدي أحمد بن إبراهيم العطار الأندلسي وسيدي إسماعيل بن سعيد الدكالي وسيدي شعيب بن علي العباس وسيدي محمد بن أحمد الهشتوكي وسيدي منصور الدرهي التيرستي والحاج الحسين الدرعي وسيدي محمد بن عبد الله الزولتي وسيدي محمد بن عبد الله أحشوي، وسيدي محمد بن الشيخ الوفراوي والثلاثة من درعة. وسيدي عبد الله بن محمد العياشي، وسيدي علي بن عبد الرحمان الدرعي، وسيدي علي بن موسى السوسي، وسيدي محمد " بن موسى " الشيخ الزعري، وسيدي عبد الله بن أحمد بن رحال، وسيدي محمد بن موسى، وسيدي أبو جمعة بن مسعود، وسيدي سعيد بن عبد القادر الرجراجيون، وسيدي الوافي بن إبراهيم، وسيدي الصغير بن المنيار وابن عمه سيدي البصري، والفقيه سيدي محمد بن سعيد السملالي " السوسي " وسيدي محمد بن عبد القادر الونجلي، وسيدي أبو القاسم بن موسى، وسيدي محمد بن أبي بكر العياشي، وعائشة العدوية والحاج أحمد العجل، والأستاذ الطاهر الشريف. انتهى بحمد الله تعالى وحسن عونه من خط المصنف بواسطتين عند العصر يوم الاثنين السابع والعشرين من رجب الفرد سنة إحدى وخمسين ومائة وألف، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين وإمام المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين عدد ما في علم الله صلاة وسلاماً تامين دائمين بدوام ملك الله.

§1/1