المحاسن والأضداد

الجاحظ

مقدمة كتاب المحاسن والأضداد

مقدمة كتاب المحاسن والأضداد لم يرد ذكر لهذا المؤلف في كتب الجاحظ، لقد ذكر أبو عثمان أسماء نحو ستة وثلاثين من مؤلفاته في مقدمة «كتاب الحيوان» وليس بينها اشارة إليه قريبة أو بعيدة. كما ذكر في بعض رسائله اسماء عدد من كتبه الكثيرة واغفل هذا الكتاب اغفالا تاما. وكذلك خلت المصادر القديمة من ذكره، عدا كتاب الخزانة للبغدادي. أما المصادر الحديثة فقد ذكرته، منها كتاب أدب الجاحظ للسندوبي وكتاب تاريخ الأدب العربي لبرو كلمان. وترجم أو. ريشر بعض فصوله إلى الالمانية ونشرها. وقام فان فلوتن بإصدار الطبعة الأولى منه في ليدن سنة 1897 م. وتبعه الخانجي فطبعه في القاهرة سنة 1906 م، مع مقدمة موجزة عن حياة الجاحظ، وبدون شرح. ثم توالت الطبعات التي لم تكن احسن من طبعة الخانجي، ومعظمها صدر في بيروت. وجميع هذه الطبعات نسبت الكتاب للجاحظ ولم تبد شكها فيه. ولكن المستشرق الفرنسي شارل بيلا لا حظ في القائمة التي وضعها لكتب الجاحظ أن الكتاب منحول ولم يذكر الأسباب التي استند إليها. وربما كان الدافع الذي حفز هؤلاء الناشرين على نسبة الكتاب

للجاحظ مقدمته التي يعترف فيها أبو عثمان أنه كان ينحل غيره- أمثال ابن المقفع، والخليل بن أحمد، وسلم صاحب بيت الحكمة، والعتابي، ويحيى بن خالد، وأشباههم- بعض كتبه، لتروج. وأن بعض الكتاب في عصره كانوا يغيرون على كتبه ويسرقون بعض فصولها ومعانيها ويؤلفون منها كتبا ينسبونها لأنفسهم. ثم يعلن نسبة الكتاب إليه قائلا: «وهذا كتاب وسمته بالمحاسن والأضداد لم أسبق إلى نحلته ولم يسألني أحد صنعه، ابتدأته بذكر محاسن الكتابة والكتب، وختمته بذكر شيء من محاسن الموت. والله يكلأه من حاسد إذا حسد» . والحق أن هذه المقدمة التي لا تتعدى صفحة واحدة إنما هي فقرة استلت من رسالة للجاحظ طويلة عنوانها «فصل ما بين العداوة والحسد» ووضعت في صدر هذا الكتاب لتخفي حقيقته. بيد أن ما جاء فيها بصدد النحل والسرقة يشكل برهانا على نحل الكتاب، او عدم صحة نسبته للجاحظ: إن قلق الناحل من انكشاف فعلته وخوفه من أن يرمى بالنحل دفعاه إلى الكلام على النحل وابعاد التهمة عن نفسه. وإمعانا في تضليل القارىء أورد المؤلف بابين في أول الكتاب: باب في محاسن الكتابة والكتب، وباب في مساوىء اللحن في اللغة. وكلاهما من كلام الجاحظ. استقى الأول من كتاب الحيوان واستقى الثاني من كتاب البيان والتبيين مع بعض التصرف. أما سائر ابواب الكتاب التي تناهز الستين فإن عناوينها أو موضوعاتها طرقها الجاحظ في مختلف كتبه ولكن محتوياتها غير موجودة في تلك الكتب. وقد فزع المؤلف إلى وسيلة أخرى للتمويه هي الجدل. والجدل يعني هنا قول الشيء وضده. وقد أولع الجاحظ بالجدل حتى غدا سمة من سمات كتاباته، فنهج المؤلف هذا النهج تقليدا للجاحظ. فهو يعدد محاسن الشيء ثم يردف ذلك بتعداد مساوئه: محاسن المخاطبات

وضدها، ومحاسن المكاتبات وضدها، ومحاسن الجوابات وضدها، ومحاسن حفظ اللسان وضدها، ومحاسن كتمان السر وضدها، ومحاسن الصدق وضدها، ومحاسن الصحة وضدها، ومحاسن السخاء وضدها ومحاسن البخل وضدها، ومحاسن الشجاعة وضدها، ومحاسن المفاخرة وضدها، ومحاسن الزهد وضدها، ومحاسن النساء وضدها الخ ... بيد أن الفرق شاسع بين جدل الجاحظ وجدل مؤلف المحاسن والأضداد. أن جدل المحاسن والأضداد يقتصر على تعداد محاسن الأمر ومساوئه دون إبداء الرأي ودون المناقشة أما جدل الجاحظ فيتعدى هذه المهمة أي تعداد المحاسن والمساوىء إلى إصدار الأحكام والبحث عن الحقيقة، والبت في الأمور المتنازع في شأنها. لنأخذ مثلا على ذلك مسألة البخل. لقد أورد صاحب المحاسن والأضداد اقوالا وأخبارا تبين حسنات البخل، وأخرى تظهر مساوئه واستغرق ذلك بعض الصفحات. أما الجاحظ فقد ألف كتابا ضخما في هذا الموضوع اسماه «البخلاء» وقسمه ثلاثة أقسام: قسم أول يورد فيه احتجاجات البخلاء، وقسم ثان يورد فيه احتجاجات الأسخياء، وقسم ثالث يحكم فيه بالأمر، ويعلن رأيه الخاص، وهو أن الفضيلة هي في منزلة بين البخل والأسراف، يدعوها الأقتصاد الذي يتوسط رذيلة البخل ورذيلة الأسراف. وهو في ذلك ينطلق من مبدأ فلسفي انماز به مع سائر المعتزلة والذي عرف بالمنزلة بين المنزلتين. ولنأخذ مثلا آخر بين لنا الفرق بين جدل الجاحظ وجدل صاحب المحاسن والأضداد، وهو مسألة الصمت والكلام. في الكتاب الذي بين أيدينا صفحتان تثبتان أقوالا تزين الصمت وآخرى تزين المنطق. أما في البيان والتبين، ورسالة التربيع والتدوير، ورسالة صناعة الكلام الخ. فنلفي عشرات الصفحات التي تدور حول هذه المسألة، وتصورها

من مختلف نواحيها، وتقلبها على مختلف وجوهها، ثم ينتهي الجاحظ إلى رأي جازم: ان الكلام خير من الصمت، وعلم الكلام علم شريف يهدف إلى معرفة الحقيقة. وإذا كان صاحب الكتاب لا يعلن رأيه ولا غايته، فإننا نستطيع أن نتبين من خلال النص بعض ميوله واتجاهاته التي يختلف فيها مع الجاحظ. فهو ينادي بالحجاب ويحشد أقوالا كثيرة تدعو إليه وتزينه وتحذر من السفور، وعلى عكس سائر الأبواب لم يذكر مساوىء الحجاب كما ذكر محاسنه. ويستشهد بحديث نبوي يقول: «باعدوا بين أنفاس الرجال والنساء فإن كانت المعاينة واللقاء كان الداء الذي لا دواء له» وبآخر يقول: «الناسء حبائل الشيطان» ؛ ليقرر أن المرأة تغوي الرجل وأن لقاء الرجل للمرأة ورؤيته إياها يدفعه إلى الزنى ولذا ينبغي الفصل بينهما. كما يستشهد بقول لعمر بن الخطاب يدعو إلى حرمان المرأة من الظهور والتزين والتبرج: «استعينوا عليهن بالعري» ويقول لأمرأة زنت هي هند بنت الخس تعترف فيه أن سبب اقترافها الفحش إنما هو «طول السهاد وقرب الوساد» . ويخبر أن أكاسرة الفرس كانوا يمتحنون امناءهم برؤية النساء، فمن صبر عليهن ولم يقع بحبائلهن ولم يغوه جمالهن، وثق به وإلّا تخلص منه أو أبعده. أما الجاحظ فقد عالج هذا الموضوع في رسالة مستقلة هي رسالة «القيان» . وهو يحمل على حجاب المرأة ويدعو إلى السفور ويقدم البراهين المنطقية والأجتماعية والدينية التي تسند موقفه. فهو يخبرنا أن العرب لم يعرفوا الحجاب في الجاهلية، وكان الرجال والنساء يجتمعون على الحديث والمسامرة. وفي الإسلام أجاز الدين للنساء الطواف بالكعبة مكشفات الوجوه. ولم يحرم عمر بن الخطاب السفور رغم زهده وورعه وفقهه وعلمه. وكذلك الحسن بن علي لم يحرم النظر إلى النساء، حتى الشعبي فقيه أهل العراق لم ير في النظر إلى عائشة بنت طلحة امرأة مصعب بن الزبير حراما الخ.. ثم يقول إن كل ما في العالم مسخر

للإنسان وكل ما تقله الأرض متاع له. واقرب واطيب ما سخر له الأنثى لأنها خلقت ليسكن إليها. وكل ما لم يحرمه الشرع محلل. والشرع لم يحرم سفور المرأة. ونلمس في الكتاب عصبية علوية لا نعهدها عند الجاحظ. فهو في باب محاسن المفاخرة يغمز من قناة أبي بكر الصديق ويقول عنه أنه ليس من أشراف قريش. ويحصى مثالب معاوية ومروان بن الحكم وعمرو بن العاص وزياد ابن أبيه أركان البيت الأموي ويشهر بهم بينما يذكر فضائل البيت العلوي ويرددها مرارا. وإذا كان الجاحظ يشارك صاحب المحاسن والأضداد في التنديد بمعاوية والأمويين كما يتضح من رسالة العثمانية، ورسالة الحكمين، فإنه لا يشاطره موقفه من أبي بكر الصديق الذي محضه كل اكبار وتقدير في جميع كتاباته. واسلوب الكتاب يختلف عن اسلوب الجاحظ اختلافا ظاهرا. فنحن لا نقع فيه على عبارة الجاحظ المتنوعة القصيرة، التي تمتاز بالرشاقة والطبيعة والترادف المعنوي واللفظي، مع المحافظة على القوة والجمال: إن عبارة الكتاب تعوزها الجزالة وتشوبها الركاكة وتقترب من العامية والسوقية أحيانا. ولكنه كالجاحظ يتنكب جادة الحشمة والعفة في كلامه على النساء والجماع. وثمة بينة أخرى تدل على عدم صحة نسبة الكتاب للجاحظ هي ورود ذكر عبد الله بن المعتز في الكتاب عدة مرات، مرفقا بنماذج من شعره وأقواله. ونحن نعلم أن عبد الله بن المعتز عاش بعد الجاحظ وقتل سنة 908 م بعد يوم واحد من ارتقائه عرش الخلافة في بغداد على يد مؤنس الخادم. وكان شاعرا رقيقا انيق اللفظ، وألف كتابا في البديع وآخر في تاريخ الشعر اسمه طبقات الشعراء، وثالثا في آداب الشراب والخمر اسمه «الجامع في الغناء» . وإذا لم يكن الكتاب للجاحظ فمن هو صاحبه إذن؟ ليس لدينا

معرفة قاطعة به. ولكن ينبغي أن لا يكون من معاصري الجاحظ، بل من المتأخرين عنه، من كتاب القرن العاشر الميلادي وما بعده. وفي المكتبة العربية كتاب يشبه عنوانه عنوان كتاب المحاسن والأضداد اسمه «المحاسن والمساوىء» تأليف إبراهيم بن محمد اليهقي الذي إتصل بإبن المعتز ثم بالمقتدر الذي خلف ابن المعتز وحكم بين سنتي (295- 320 هـ) وكتب له. وقد حققه أبو الفضل إبراهيم وطبعته مكتبة نهضة مصر في القاهرة سنة 1966 م ولفت نظره إشتراك أو تشابه الكتابين في كثير من النصوص والأخبار «مما حمله على الظن أن مؤلفهما واحد أو أنهما كتابان أخذا من أصل مشترك» . من أبوابه: 1) محاسن الكتب، نقلا عن الجاحظ، كما في المحاسن والأضداد، 2) محاسن رسول الله، نقلا عن البيان والتبيين للجاحظ، 3) محاسن المعراج، 4) مساوىء من تنبأ، 5) محاسن أبي بكرّ الصديق، 6) محاسن عمر بن الخطاب، 7) محاسن عثمان بن عفان، 8) محاسن علي بن أبي طالب، 9) مساوىء من تنقص علي بن أبي طالب، 10) محاسن الحسن والحسين، 11) محاسن المفاخرة، 12) محاسن النتاج المركب، 13) محاسن الوفاء ومساوئه، 14) مساوىء العي وضعف العقل، 15) محاسن الحجاب ومساوئه، 16) محاسن الصحة ومساوئها، 17) محاسن السخاء ومساوئه، 18) محاسن صلات الشعراء ومساوئها، 19) محاسن الفقر وسماوئه، 20) محاسن ومساوىء حب الوطن. الخ..... والواقع أن ظن أبي الفضل إبراهيم لا يجانب الحقيقة. فإن الكتابين- اعني المحاسن والأضداد المنسوب للجاحظ والمحاسن والمساوىء المنسوب للبيهقي- يتطابقان في كثير من الموضوعات والمادة والنصوص وإن انفرد الكتاب الثاني بإضافة موضوعات أخرى أو أبواب جديدة.

واعتقد أن إبراهيم بن محمد البيهقي هو مؤلف الكتابين. ألف الأول ونسبه للجاحظ ليروج. ولما تحقق من رواجه عدل فيه قليلا وسماه المحاسن والمساوىء ونسبه لنفسه. وكتاب المحاسن والأضداد يخلو من الأصالة والجدة ويقتصر عمل صاحبه على تجميع الأقوال والأشعار والأخبار والأقوال التي تتعلق بكل باب من أبوابه الستين، وروايتها، دون شرح أو تعليق أو ابداء رأي. فهو إذن من نوع أدب الرواية. وإذا كانت كتب الجاحظ حافلة بمثل هذا الأدب إلّا أن شخصية الجاحظ تبقى حاضرة: تنقد هذا الخبر، وتعلق على ذاك، وتفيد من الأقوال التي تسوقها والأشعار التي ترويها لتأييد أرائها الأصيلة ومواقفها المتميزة. ويفتقر الكتاب إلى وحدة الموضوع، ويعجز عنوانه عن لم شعث نحو ستين موضوعا مختلفا فيكتفي بربطها ربطا اعتباطيا مصطنعا. ويستغرق موضوع المرأة نصف الكتاب تقريبا. ويترجم لثلاث نساء حرائر شاعرات هن الخنساء وليلى الأخيلية وهند بنت عتبة أم معاوية ابن أبي سفيان، ويروي شيئا من أشعارهن. ثم يورد أخبار عدة قيان منهن عنان جارية الناطفي وصاحبة أبي نواس، وعريب جارية المأمون، ويروي شعر بعض الأعرابيات. ثم يذكر صفات المرأة الجميلة على لسان اعرابي يقول لمن سأله: اتحسن صفة النساء؟ «نعم إذا عذب ثناياها، وسهل خداها، ونهد ثدياها، ونعم ساعدها، والتف فخذاها، وعرض وركاها، وجدل ساقاها، فتلك هم النفس ومناها» . وعلى لسان عبد الله بن المعتز الذي يقول: وحياة من جرج الفؤاد بطرفه ... لأحبرن قصائدي في وصفه قمرٌ به قمر السماء متيمٌ ... كالغصن يعجب نصفه من نصفه

إني عجبت لخصره من ضعفه ... ماذا تحمل من ثقالة ردفه هذا وما أدري بأية فتنةٍ ... جرح الفؤاد بلطفه أم ظرفه أم بالدلال أم الجمال أم الضيا ... من وجهه أم بالقفا من خلفه أما صفات المرأة الخلقية فقد جمعت في قول بعضهم «لا تتزوجن حنانة ولا منانة ولا عشبة الدار، ولا كية القفا» الحنانة هي التي تزوجها رجل من قبل وتحن إليه، والأنانة هي التي تئن من غير علة، والمنانة التي لها مال تمنن به. وعشبة الدار الحسناء في أصل السوء، وكية القفا ذات السمعة السيئة. ويقدم الكتاب عن المرأة صورة سيئة تروي أخبارا كثيرة عن مكرها وخيانتها وفحشها واغوائها ويدعو إلى ضرب الحجاب عليها لكي لا تفتن الرجل وتورده موارد الهلكة. وثمة موضوع آخر يسترعي الأنتباه طرقه صاحب الكتاب هو الغناء وأخبار الشعراء والمغنين، لا يختلف في اسلوبه عن أبي الفرج الأصفهاني (897- 967 م) في كتابه «الأغاني» . فهو يروي لنا أخبار إبراهيم الموصلي والرشيد وعلية أخته، وأخبار عمر بن أبي ربيعة مع الثريا وابنة عبد الملك بن مروان والأشعار التي نظمها فيهما أو التي غنيت. ثم أخبار كثير عزة، وجميل بثينة، وذي الرمة، وأبي نواس والغلمان الخ.. وهذا التشابه بين «الأغاني» والمحاسن والأضداد يحملنا على الظن أن صاحب الكتاب تأثر بأبي الفرج الأصفهاني واستقى من كتابه الشهير وعاصره أو عاش بعده. ونلفي في الكتاب كمية من الأمثال. والمثل أنواع ثلاثة حكمي وسائر وخرافي. ولا يوجد سوى مثلين اثنين من الأمثال الخرافية هما مثل الثعلب وملك الطيور، ومثل الغراب والحمامة. والمثل الخرافي قصة قصيرة أبطالها من الحيوانات وتنطوي على حكمة أو ترمز إلى رأي. وأهم

أثر عربي في هذا الفن كتاب كليلة ودمنة الذي نقله ابن المقفع في مطلع الدولة العباسية من الفارسية إلى العربية. وتبدو لغة المثلين قريبة من لغة كليلة ودمنة وكذلك اسلوبهما مما يحملنا على القول أن صاحب المحاسن والأضداد تأثر بكليلة ودمنة. أما الأمثال السائرة فعديدة وردت متفرقة في تضاعيف الكتاب. والمثل السائر جملة قصيرة ترمز إلى حادثة نادرة جرت لبعض الناس أو قالها أحدهم بمناسبتها، فشاعت وسارت على الألسن، ورددها الناس في الحوادث المشابها. أهمها «أحمق من هبنقة» ، «وأحمق من دغة» ، «وأحمق من باقل» (باب محاسن الدهاء والحيل) . ومنها المثل «لا هنك انقيت ولا ماءك أبقيت» ، والمثل «في الصيف ضيعت اللبن» (باب أمثال في التزويج) . ومنها المثل «تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها» (باب المطلقات) . والمثل «ويل للشجي من الخلي» «وعند جهينة الخبر اليقين» (باب مساوىء مكر النساء) . ثم المثل «العجب كل العجب بين جمادى ورجب» . والمثل «سبق السيف العذل» (باب محاسن الغيرة) . ونجد في كتب الجاحظ كثيرا من الأمثال السائرة الواردة في المحاسن والأضداد وكذلك نجد الميداني (518 هـ) يؤلف كتابا ضخما يجمع الأمثال هو «مجمع الأمثال» . ولا بد أن الميداني أفاد منهما. وهناك مصدر آخر استمد منه الكتاب الكثير من مادته هو الآداب الفارسية. ويبدو أن صاحبه يعرف اللغة الفارسية فهو مثلا يورد توقيع عبد الله بن طاهر «من سعى رعى، ومن لزم المنام رأى الأحلام» ثم يعلق عليه قائلا: هذا المعنى سرقه من توقيعات أنو شروان فإنه يقول «هرك روذ حرد هرك خسبد خراب ببند» . ويقول في مكان آخر: «وجد في بعض خزائن ملوك العجم لوح من حجارة مكتوب عليه: كن لما لا

ترجو أرجى منك لما ترجو، فإن موسى عليه السلام خرج ليقبس ناراً، فنودي بالنبوة» (باب محاسن الرزق) . ويرجع إلى تاريخ الفرس فيروي بعض أخباره عن الكسروي ويحدثنا عن النيروز والمهر جان وتاريخهما وشعائر هما، وعن الفهليد المغني وأخباره مع كسرى ابرويز الخ، والهدايا التي تقدمها ملوك الأمم إلى ملوك فارس والتي يقدمها ملوك الفرس إلى سائر الملوك (باب محاسن الهدايا وما قبله) . ثم إن بعض الأبواب خصصت برمتها للحديث عن ملوك الفرس وعلاقاتهم بالنساء مثل باب محاسن وفاء النساء، وباب غدر النساء. ونلمح في الكتاب أثرا نصرانيا، يتمثل في رواية المؤلف قصة النعمان ملك الحيرة مع شريك بن شراحبيل والطائي الذي أتاه في يوم نحسه فأمر بقتله، فاستمهله الطائي ريثما يأتي أولاده وزوجته ليودعهم ويوصي بهم. وضمنه شريك بن شراحبيل. ووفى الطائي بوعده وعاد في الوقت المحدد فأعجب النعمان بوفائه وسأله عن دينه فأجابه: ديني النصرانية فتنصر النعمان لأن النصرانية دين الوفاء (باب محاسن الوفاء) . وفي رواية خبر الصبي الذي مات ثم عاد إلى الحياة بدعاء أمه. والخبر يرويه المؤلف عن إبراهيم بن عبد الله عن أنس بن مالك. وكان الصبي من الأنصار مرض فمات، «فمدت أمه يدها إلى السماء وقالت: اللهم إنك تعلم أني أسلمت لك، وهاجرت إلى نبيك محمد صلوات الله عليه، رجاء أن تغيثني عند كل شدة، فلا تحملني هذه المصيبة اليوم، فكشف ابنها الذي سجيناه وجهه، وما برحنا حتى طعم وشرب وطعمنا معه» وهذا الخبر يشبه خبر اليعازر الوارد في الكتاب المقدس. ونقع في الكتاب على أقوال لعيسى بن مريم (باب محاسن الثقة بالله) . كذلك نلفي في الكتاب أثرا يهوديا يتمثل برواية قصة السمؤال بن عادياء الشاعر الذي وفى بوعده وحفظ الأمانة التي أودعها عنده الشاعر

امرؤ القيس، وضحى من أجل وفائه بابنه (محاسن الوفاء) . كما يبدو في الحديث المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم والذي يجعل اليهود أكرم الناس نسبا. لقد سئل النبي عن أكرم الناس نسبا فأجاب «يوسف الصديق، صديق الله بن يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله، فأين مثل هؤلاء الآباء في جميع الدنيا ما كان مثلهم ولا يكون مثلهم أحد أبدا» (باب محاسن المفاخرة) . إن هذه الأقوال والأخبار التي تبين فضائل الفرس والنصارى واليهود تخفي خلفها شعوبية متنكرة. ونحن نعلم أن الجاحظ حمل على الشعوبية التي كانت تبغض العرب وتكيد لهم وتحاول تشويه دينهم وتزوير تاريخهم بالدس والنحل والتوليد. وموقف الجاحظ من النصارى واليهود يختلف عن موقف صاحب المحاسن والأضداد ومن يقرأ رسالة النصارى يتضح له بجلاء أن أبا عثمان لم يكن راضيا عنهم ولا عن الفرس حملة لواء الشعوبية. وعلى الرغم من هذه الملامح الفارسية والنصرانية واليهودية يبقى الكتاب أثرا من صميم الآداب العربية كالبيان والتبيين للجاحظ والكامل للمبرد والعقد الفريد لابن عبد ربه. أنه يحشد كمية لا بأس بها من أجمل ما تفوه به ابيناء العرب في الكتب والمكاتبات والجوابات وحفظ اللسان والمشورة والشكر والصدق والعفو والصداقة والوفاء والكرم والبخل والشجاعة والموعظة والزهد والمرأة والهدايا الخ.. ويترجم لبعض الشعراء ويروي الكثير من أشعارهم ابتداء بامرىء القيس الجاهلي حتى عبد الله بن المعتز 908 م مرورا بالأخطل وكثير وذي الرمة وأبي تمام وأبي نواس الخ.. ويروي الكثير من أخبار خلفاء الدولة الأموية والدولة العباسية وقوادهم، هذا عدا الأحاديث النبوية الشريفة وأقوال الخلفاء الراشدين الأربعة في مختلف الموضوعات التي عرض لها.

لقد حاول صاحب كتاب المحاسن والأضداد أن يقلد الجاحظ فلم يستطع، وظهر زيفه لأن اسلوبه يختلف عن أسلوب الجاحظ، وتفكيره يتعارض مع تفكير الجاحظ. أنه يفتقر إلى أصالة الجاحظ وعبقريته الأدبية والفلسفية. وحسبنا في هذه المقدمة أننا أمطنا اللثام عن هذه المسألة. بيروت في 1/8/1988 علي بوملحم

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على رسوله، سيدنا محمد، وآله أجمعين. مقدمة قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، رحمه الله: «إني ربما ألفت الكتاب المحكم المتقن في الدين، والفقه، والرسائل، والسيرة، والخطب، والخراج، والأحكام، وسائر فنون الحكمة، وأنسبه إلى نفسي، فيتواطأ على الطعن فيه جماعة من أهل العلم بالحسد والمركب فيهم، وهم يعرفون براعته وفصاحته؛ وأكثر ما يكون هذا منهم إذا كان الكتاب مؤلفاً لملك معه المقدرة على التقديم، والتأخير، والحط، والرفع، والترهيب، والترغيب، فإنهم يهتاجون عنذ ذلك، اهتياج الإبل المغتلمة. فإن أمكنتهم الحيلة في إسقاط ذلك الكتاب عند السيد الذي ألف له، فهو الذي قصدوه وأرادوه، وإن كان السيد المؤلف فيه الكتاب نحريرا نقاباً، ونقريساً بليغاً، وحاذقاً فطناً، وأعجزتهم الحيلة، سرقوا معاني ذلك الكتاب، وألفوا من أعراضه وحواشيه كتاباً وأهدوه إلى ملك آخر، ومتوا إليه به، وهم قد ذموه وثلبوه لما رأوه منسوباً إلي، وموسوماً بي. وربما ألفت الكتاب الذي هو دونه في معانيه وألفاظه، فأترجمه باسم غيري، وأحيله على من تقدّمني عصره مثل ابن المقفع والخليل وسلم صاحب بيت الحكمة، ويحيى بن خالد، والعتابي، ومن أشبه هؤلاء من مؤلفي

الكتب، فيأتيني أولئك القوم بأعيانهم، الطاعنون على الكتاب الذي كان أحكم من هذا الكتاب، لا ستنساخ هذا الكتاب وقراءته علي، ويكتبونه بخطوطهم، ويصيرونه إماما يقتدون به ويتدار سونه بينهم، ويتأدبون به، ويستعملون ألفاظه ومعانيه في كتبهم وخطاباتهم، ويروونه عني لغيرهم من طلاب ذلك الجنس، فتثبت لهم به رياسة يأتم بهم قوم فيه، لأنه لم يترجم باسمي، ولم ينسب إلى تأليفي» «1» . وهذا كتاب وسمته (بالمحاسن والأضداد) لم أسبق إلى نحلته، ولم يسألني أحد صنعه؛ ابتدأته بذكر محاسن الكتابة، والكتب، وختمته في ذكر شيء من محاسن الموت، والله يكلؤه من حاسد إذا حسد «2» .

محاسن الكتابة والكتب

محاسن الكتابة والكتب كانت العجم تقيد مآثرها بالبنيان والمدن والحصون، مثل بناء ازدشير وبناء اصطخر، وبناء المدائن والسدير، والمدن والحصون، ثم أن العرب شاركت العجم في البنيان، وتفردت بالكتب والأخبار، والشعر والآثار؛ فلها من البنيان غمدان، وكعبة نجران، وقصر مأرب، وقصر مارد، وقصر شعوب، والأبلق الفرد وغير ذلك من البنيان، وتصنيف الكتب أشد تقييداً للمآثر على ممر الأيام والدهور من البنيان، لأن البناء لا محالة يدرس، وتعفى رسومه، والكتاب باق يقع من قرن إلى قرن، ومن أمة إلى أمة، فهو أبداً جديد، والناظر فيه مستفيد، وهو أبلغ في تحصيل المآثر من البنيان والتصاوير. وكانت العجم تجعل الكتاب في الصخور، ونقشاً في الحجارة، وخلقة مركبة في البنيان، فربما كان الكتاب هو الناتيء، وربما كان هو المحفور، إذا كان ذلك تاريخاً لأمر جسيم، أو عهداً لأمر عظيم، أو عظيم، أو موعظة يرتجى نفعها، أو أحياء شرف يريدون تخليد ذكره، كما كتبوا على قبة غمدان وعلى باب القيروان، وعلى باب سمرقند، وعلى عمود مأرب، وعلى ركن المقشعر، وعلى الأبلق الفرد، وعلى باب الرها؛ يعمدون إلى المواضع المشهورة والأماكن المذكورة، فيضعون الخط في أبعد المواضع من الدثور، وأمنعها من الدروس. وأجدر أن يراه من مر به، ولا ينسى على وجه الدهور «1» . ولولا الحكم المحفوظة والكتب المدونة، لبطل أكثر العلم، ولغلب

سلطان النسيان سلطان الذكر، ولما كان للناس مفزع إلى موضع استذكار، ولو لم يتم ذلك لحرمنا أكثر النفع، ولولا ما رسمت لنا الأوائل في كتبها، وخلدت من عجيب حكمتها، ودونت من أنواع سيرها، حتى شاهدنا بها ما غاب عنا، فتحنا بها كل مستغلق، فجمعنا إلى قليلنا كثيرهم، وأدركنا ما لم نكن ندركه إلا بهم، لقد بخس حظنا منه، وأهل العلم والنظر وأصحاب الفكر والعبر، والعلماء بمخارج الملل وأرباب النحل، وورثة الأنبياء وأعوان الخلفاء، يكتبون كتب الظرفاء والصلحاء، وكتب الملاهي، وكتب أعوان الصلحاء وكتب أصحاب المراء والخصومات، وكتب السخفاء وحمية الجاهلية، ومنهم من يفرط في العلم أيام خموله وترك ذكره وحداثة سنه، ولولا جياد الكتب وحسانها لما تحركت همم هؤلاء لطلب العلم، ونازعت إلى حب الكتب، وألفت من حال الجهل وإن يكونوا في غمار الوحش، ولدخل عليهم من الضرر والمشقة وسوء الحال ما عسى أن يكون لا يمكن الإخبار عن مقداره إلا بالكلام الكثير «1» . وسمعت محمد بن الجهم يقول: «إذا غشيني النعاس في غير وقت النوم تناولت كتاباً فأجد اهتزازي للفوائد الأريحية التي تعتريني من سرور الإستنباه وعز التبين، أشد إيقاظاً من نهيق الحمار، وهدة الهدم، فإني إذا استحسنت كتاباً واستجدته ورجوت فائدته، لم أوثر عليه عوضاً، ولم أبغ به بدلاً، فلا أزال أنظر فيه ساعة بعد ساعة، كم بقي من ورقة مخافة استنفاده، وانقطاع المادة من قبله» «2» . وقال ابن داحة: «كان عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب لا يجالس الناس فنزل مقبرة من المقابر وكان لا يزال في يده كتاب يقرؤه، فسئل عن ذلك فقال: «لم أر أوعظ من قبر ولا آنس من كتاب، ولا أسلم من الوحدة» «3» .

وأهدى بعض الكتاب إلى صديق له دفتراً وكتب معه: «هديتي هذه، أعزك الله، تزكو على الإنفاق، وتربو على الكد، لا تفسدها العواري، ولا تخلقها كثرة التقليب، وهي إنس في الليل والنهار والسفر والحضر تصلح للدنيا والآخرة تؤنس في الخلوة وتمنع من الوحدة، مسامر مساعد، ومحدث مطواع، ونديم صدق. وقال بعض الحكماء: «الكتب بساتين العلماء» وقال آخر: «ذهبت المكارم إلا من الكتب» . قال الجاحظ: وأنا أحفظ وأقول: «الكتاب نعم الذخر والعقدة، والجليس والعمدة، ونعم النشرة ونعم النزهة، ونعم المشتغل والحرفة، ونعم الأنيس ساعة الوحدة، ونعم المعرفة ببلاد الغربة، ونعم القرين والدخيل والزميل، ونعم الوزير والنزيل. والكتاب وعاء مليء علماً، وظرف حشي ظرفاً، وإناء شحن مزاحاً، إن شئت كان أعيا من باقل، وإن شئت كان أبلغ من سحبان وائل، وإن شئت سرتك نوادره، وشجتك مواعظه، ومن لك بواعظ مله، وبناسك فاتك، وناطق أخرس؛ ومن لك بطبيب أعرابي، ورومي هندي، وفارسي يوناني، ونديم مولد، ونجيب ممتع؛ ومن لك بشيء يجمع الأول والآخر، والناقص والوافر، والشاهد والغائب، والرفيع والوضيع، والغص والسمين، والشكل وخلافه، والجنس وضده؛ وبعد فما رأيت بستاناً يحمل في ردن، وروضة تنقل في حجر، ينطق عن الموتى ويترجم عن الأحياء، ومن لك بمؤنس لا ينام إلا بنومك ولا ينطق إلا بما تهوى، آمن من الأرض وأكتم للسر من صاحب السر، وأحفظ للوديعة من أرباب الوديعة؛ ولا أعلم جاراً آمن، ولا خليطاً أنصف، ولا رفيقاً أطوع، ولا معلماً أخضع، ولا صاحباً أظهر كفاية وعناية، ولا أقل املالا ولا إبراما، ولا أبعد من مراء، ولا أترك لشغب، ولا أزهد في جدال، ولا أكف في قتال من كتاب، ولا أعم بيانا، ولا أحسن مؤاتاة، ولا اعجل مكافأةً، ولا شجرة أطول عمراً، ولا أطيب ثمراً، ولا أقرب مجتنى، ولا أسرع إدراكاً، ولا أوجد في كل إبان من كتاب. ولا اأعلم نتاجاً في حداثة سنه، وقرب ميلاده، ورخص ثمنه وإمكان وجوده، يجمع من السير العجيبة، والعلوم

الغريبة، وآثار العقول الصحيحة ومحمود الأذهان اللطيفة، ومن الحكم الرفيعة، والمذاهب القديمة، والتجارب الحكيمة والأخبار عن القرون الماضية، والبلاد النازحة، والأمثال السائرة والأمم البائدة ما يجمعه كتاب. ومن لك بزائر إن شئت كانت زيارته غباً وورده خمساً، وإن شئت لزمك لزوم ظلك، وكان منك كبعضك. والكتاب هو الجليس الذي لا يطريك، والصديق الذي لا يقليك، والرفيق الذي لا يملّك، والمستمع الذي لا يستزيدك، والجار الذي لا يستبطئك، والصاحب الذي لا يريد استخراج ما عندك بالملق، ولا يعاملك بالمكر، ولا يخدعك بالنفاق. والكتاب هو الذي إن نظرت فيه أطال إمتاعك، وشحذ طباعك، وبسط لسانك، وجود بيانك، وفخم ألفاظك وبجح نفسك، وعمر صدرك، ومنحك تعظيم العوام وصداقة الملوك، يطيعك بالليل طاعته بالنهار، وفي السفر طاعته في الحضر، وهو المعلم إن افتقرت إليه لا يحقرك، وإن قطعت عنه المادة لم يقطع عنك الفائدة، وإن عزلت لم يدع طاعتتك، وإن هبت ريح أعدائك لم ينقلب عليك، ومتى كنت متعلقاً منه بأدنى حبل لم تضطرك معه وحشة الوحدة إلى جليس السوء، وإن أمثل ما يقطع به الفراغ نهارهم وأصحاب الكفايات ساعات ليلهم، نظر في كتاب لا يزال لهم فيه ازياد في تجربة، وعقل ومروءة وصون عرض وإصلاح دين، وتثمير مال، ورب صنيعة، وابتداء إنعام. ولو لم يكن من فضله عليك، وإحسانه إليك، إلا منعه لك من الجلوس على بابك، والنظر إلى المارة بك مع ما في ذلك من التعرض للحقوق التي تلزم، ومن فضول النظر وملابسة صغار الناس، ومن حضور ألفاظهم الساقطة، ومعانيهم الفاسدة، وأخلاقهم الردية، وجهالتهم المذمومة، لكان في ذلك السلامة والغنيمة، واحراز الأصل مع استفادة الفرع؛ ولو لم يكن في ذلك إلا أنه يشغلك عن سخف المنى، واعتياد الراحة، وعن اللعب، وكل ما تشتهيه، لقد كان له في ذلك على صاحبه اسبغ النعم، وأعظم المنة «1» .

وجملة الكتاب وإن كثر ورقه، فليس مما يمل لأنه وإن كان كتاباً واحداً، فإنه كتب كثيرة في خطابه، والعلم بالشريعة والأحكام، والمعرفة بالسياسة والتدبير، وقال مصعب بن الزبير: إن الناس يتحدثون بأحسن ما يحفظون، ويحفظون أحسن ما يكتبون، ويكتبون أحسن ما يسمعون، فإذا أخذت الأدب فخذه من أفواه الرجال، فإنك لا ترى ولا تسمع إلا مختاراً ولؤلؤاً منظوماً» . وقال لقمان لابنه: «يا بني نافس في طلب العلم، فإنه ميراث غير مسلوب، وقرين غير مرغوب، ونفيس حظ من الناس وفي الناس مطلوب» . وقال الزهري: «الأدب ذكر لا يحبه إلا الذكور من الرجال ولا يبغضه إلا مؤنثهم» . وقال: «إذا سمعت أدباً فاكتبه ولو في حائط» ، وقال منصور بن المهدي للمأمون: «أيحسن بنا طلب العلم والأدب» ؟ قال: «والله لأن أموت طالباً للأدب خير لي أن أعيش قانعاً بالجهل» . قال: «فإلى متى يحسن بي ذلك» ؟ قال: «ما حسنت الحياة بك» .

مساويء اللحن في اللغة

مساويء اللحن في اللغة «1» وضده الحديث المرفوع: «رحم الله عبداً أصلح من لسانه» . وكان الوليد بن عبد الملك لحنة فدخل عليه إعرابي يوماً فقال: «أنصفني من ختني يا أمير المؤمنين» ، فقال: «ومن ختنك» ؟ قال: «رجل من الحي لا أعرف اسمه» ، فقال عمر بن عبد العزيز: «إن أمير المؤمنين يقول لك من ختنك؟ فقال: «هو ذا بالباب» . فقال الوليد لعمر: «ما هذا» ؟ قال: «النحو الذي كنت أخبرتك عنه» ، قال: «لا جرم فإني لا أصلي بالناس حتى أتعلمه» . قال: وسمع أعرابي مؤذناً يقول: «أشهد أن محمداً رسول الله» فقال: «يفعل ماذا» ؟ قال: وقال رجل لزياد: «أيها الأمير؟ إن أبينا ملك، وإن أخينا غصبنا على ميراثنا من أبانا» فقال زياد: «ما ضيعت من نفسك أكثر مما ضاع من ميراث أبيك، فلا رحم الله أباك حيث ترك ابناً مثلك» وقال مولى لزياد: أيها الأمير احذوا لنا همار وهش، فقال: «ما تقول» ؟ فقال: «احذوا لنا إيراً» ، فقال زياد: «الأول خير من الثاني» . قال واختصم رجلان إلى عمر بن عبد العزيز فجعلا يلحنان: فقال الحجاب: «قمنا فقد أوذيتما أمير المؤمنين» ، فقال عمر للحاجب: «أنت والله أشد إذاء منهما» ؛ قال: وقال بشر المريسي، وكان كثير اللحن: «قضى لكم

الأمير على أحسن الوجوه وأهنؤها» ، فقال القاسم التمار: هذا على قوله: إن سليمى والله يكلؤها ... ضنت بشيء ما كان يرزؤها مكان احتجاج القاسم أطيب من لحن بشر. قال: وكان زياد النبطي شديد اللكنة، وكان نحوياً، فدعا غلامه ثلاثاً، فلما أجابه قال: «من لدن دأوتك إلى ديتني ما كنت تصنأ» ، يريد (دعوتك وجئتني وتصنع) ، ومر ماسرجويه الطبيب بمعاذ بن مسلم فقال: يا مسارجويه: «إني لأجد في حلقي بححا. قال: هو من عمل بلغم» . فلما جاوزه قال: تراني لا أحسن أن أقول بلغم ولكنه قال بالعربية، فأجبته بضدها.

محاسن المخاطبات

محاسن المخاطبات حكوا عن ابن القرية «1» ، إنه دخل على عبد الملك بن مروان، فبينا عنده إذ دخل بنو عبد الملك عليه فقال: «من هؤلاء الفتية يا أمير المؤمنين؟» قال: «ولد أمير المؤمنين» ، قال: «بارك الله لك فيهم كما بارك لأبيك فيك، وبارك لهم فيك كما بارك لك في أبيك» ، قال: فشحن فاه دراً. قال: وقال عمارة بن حمزة لأبي العباس، وقد أمر له بجوهر نفيس: «وصلك الله يا أمير المؤمنين وبرك، فو الله لئن أردنا شكرك على أنعامك ليقصرن شكرنا على نعمتك كما قصر الله بنا عن منزلتك» . قيل ودخل إسحاق بن إبراهيم الموصلي على الرشيد فقال: ما لك؟ قال: سوامي سوام المكثرين تجملاً ... ومالي كما قد تعلمين قليل وآمرة بالبخل قلت لها اقصري ... فذلك شيء ما إليه سبيل وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى ... ورأي أمير المؤمنين جميل أرى الناس خلان الجواد، ولا أرى ... بخيلاً له في العالمين خليل فقال الرشيد: «هذا والله الشعر الذي صحت معانيه، وقويت أركانه ومبانيه، ولذ على أفواه القائلين وأسماع السامعين. يا غلام احمل إليه خمسين ألف درهم» ، قال إسحاق: «يا أمير المؤمنين كيف أقبل صلتك، وقد مدحت شعري بأكثر مما مدحتك به؟» قال الأصمعي: «فعلمت أنه أصيد

للدراهم مني» . قال: ودخل المأمون، ذات يوم الديوان، فنظر إلى غلام جميل، على أذنه قلم، فقال: «من أنت؟» قال: «أنا الناشيء في دولتك، المتقلب في نعمتك، المؤمل لخدمتك، الحسن ابن رجاء» ، فقال المأمون: «بالإحسان في البديهة تتفاضل العقول، يرفع عن مرتبة الديوان إلى مراتب الخاصة، ويعطي مائة ألف درهم تقوية له» . قال: ووصف يحيى بن خالد «1» الفضل بن سهل، وهو غلام على المجوسية للرشيد، وذكر أدبه، وحسن معرفته، فعمل على ضمه إلى المأمون، فقال ليحيى يوماً: «ادخل إلى هذا الغلام المجوسي، حتى أنظر إليه فأوصله» فلما مثل بين يديه وو وقف، تحير، فأراد الكلام فارتج عليه، فأدركته كبوة، فنظر الرشيد إلى يحيى نظرة منكرة لما كان تقدم من تقريظه إياه، فانبعث الفضل بن سهل فقال: يا أمير المؤمنين إن من أبين الدلائل على فراهة «2» الملوك شدة إفراط هيبته لسيده» ، فقال له الرشيد: «أحسنت والله لئن كان سكوتك لتقول هذا إنه لحسن، ولئن كان شيئاً أدركك عند انقطاعك، إنه لأحسن وأحسن» ثم جعل لا يسأله عن شيء إلا رآه فيه مقدماً، فضمه إلى المأمون. قال: وقال الفضل بن سهل للمأمون، وقد سأله حاجة لبعض أهل بيوتات دهاقين «3» سمرقند كان وعده تعجيل إنفاذها فتأخر ذلك: «هب لوعدك مذكرا من نفسك وهنيء سائلك حلاوة نعمتك، واجعل ميلك إلى ذلك في الكرم حثاً على اصطفاء شكر الطالبين، تشهد لك القلوب بحقائق الكرم، والألسن بنهاية الجود» ، فقال: «قد جعلت إليك إجابة سؤالي عني بما ترى فيهم، وآخذك في القصير فيما يلزم لهم من غير استثمار أو معاودة

في إخراج الصكاك من أحضر الأموال متناولاً» ، قال: «إذن، لا تجدي معرفتي بما يجب لأمير المؤمنين الهناء به بما يديم له منهم حسن الثناء، ويستمد بدعائهم طول البقاء» . وقال الفضل بن سهل للمأمون: «يا أمير المؤمنين اجعل نعمتك صائنة لوجوه خدمك عن إراقة مائها في غضاضة السؤال» ، فقال: «والله لا كان ذلك إلا كذلك» . قال ودخل العتابي على المأمون. فقال: «خبرت بوفاتك فغمتني، ثم جاءتني وفادتك فسرتني» ، فقال: «يا أمير المؤمنين! كيف أمدحك، أم بماذا أصفك، ولا دين إلا بك، ولا دنيا إلا معك؟» ، قال: «سلني ما بدا لك؟» قال: «يداك بالعطية أطلق من لساني بالمسألة» . قال: وقدم السعدي أبو وجزة «1» على المهلب بن أبي صفرة، فقال: «أصلح الله الأمير. إني قد قطعت إليك الدهناء، وضربت إليك آباط الإبل من يثرب» . قال: «فهل أتيتنا بوسيلة أو عشرة أو قرابة؟» ، قال: «لا، ولكني رأيتك لحاجتي أهلاً، فإن قمت بها، فأهل ذلك، وإن يحل دونها حائل، لم أذمم يومك، ولم أيأس من غدك» . فقال المهلب: «يعطي ما في بيت المال» . فوجد مائة ألف درهم، فدفعت إليه، فأخذها وقال: «يا من على الجود صاغ الله راحته ... فليس يحسن غير البذل والجود عمت عطاياك من بالشرق قاطبةً ... فأنت والجود منحوتان من عود وقد يجب على العاقل الراغب في الأدب أن يحفظ هذه المخاطبات، ويد من قراءتها، وقد قال الأصمعي: أما لو أعي كل ما أسمع ... وأحفظ من ذاك ما أجمع ولم أستفد غير ما قد جمعت ... لقيل: أنا العالم المقنع ولكن نفسي إلى كل شيء ... من العلم تسمعه، تنزع،

فلا أنا أحفظ ما قد جمعت ... ولا أنا من جمعه أشبع وأقعد للجهل في مجلس ... وعلمي في الكتب مستودع ومن يك في علمه هكذا ... يكن دهره القهقرى يرجع يضيع من المال ما قد جمعت ... وعلمك في الكتب مستودع إذا لم تكن حافظاً واعيا ... فجمعك للكتب ما ينفع وقال بعضعهم: «الحفظ مع الإقلال أمكن، وهو مع الإكثار أبعد. وتغيير الطبائع زمن رطوبة الغصن أقبل» . وفيها قال الشاعر: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلباً خالياً فتمكنا وقيل: «العلم في الصغر كالنقش في الحجر، والعلم في الكبر كالعلامة على المدر..» فسمع ذلك، الأحنف، فقال: «الكبير أكثر عقلاً ولكنه أكثر شغلاً» ، كما قال: وإن من أدبته في الصبا ... كالعود يسقى الماء في غرسه حتى تراه مورقاً ناضراً ... بعد الذي أبصرت من يبسه والصبي عن الصبي أفهم، وهو له آلف، وإليه أنزع؛ وكذلك العالم عن العالم، والجاهل عن الجاهل. وقال الله تعالى: «ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً» ، لأن الإنسان عن الإنسان أفهم، وطباعه بطباعه آنس. وضده، قال: دخل أبو علقمة النحوي على أعين الطبيب، فقال: «إني أكلت من لحوم الجوازيء «1» ، وطسئت طسأة «2» ، فأصابني وجع بين الوابلة «3» إلى دأية «4» العنق؛ فلم يزل يربو وينمو حتى خالط الشراسيف «5» ؛

فهل عندك دواء؟» قال: «نعم. خذ خوفقاً وسربقاً ورقرقاً، فاغسله واشربه بماء» . فقال: «لا أدري ما تقول» ، قال: «ولا أنا دريت ما قلت» . قال: وقال يوماً آخر: «إني أجد معمعة في قلبي، وقرقرة في صدري» ، فقال له: «أما المعمعة فلا أعرفها، وأما القرقرة فهي ضراط غير نضيج» . قال: وأتى رجل الهيثم بن العريان، بغريم له قد مطله حقه، فقال: «أصلح الله الأمير! إن لي على هذا حقاً قد غلبني عليه» . فقال له الآخر: «أصلحك الله. إن هذا باعني عنجداً «1» ، واستنسأته «2» حولاً، وشرطت عليه أن أعطيه مياومة، فهو لا يلقاني في لقم «3» إلا اقتضاني ذهباً» . فقال له الهيثم: «أمن بني أمية أنت» ؟ قال: لا. قال: «فمن بني هاشم أنت» ؟ قال: لا. قال: «أفمن أكفائهم من العرب» ؟ قال: لا. قال: «ويلي عليك! انزعوا ثيابه» . فلما أرادوا أن ينزعوا ثيابه قال: «أصلحك الله، إن إزاري مرعبل» «4» . قال: «دعوه، فلو ترك الغريب في موضع لتركه في هذا الموضع» . قال: ومر أبو علقمة ببعض الطرق، فهاجت به مرة، فوثب عليه قوم، فجعلوا يعصرون إبهامه، ثم يؤذنون في أذنه. فأفلت من أيديهم، فقال: «ما بالكم تتكأكأون «5» علي تكأكؤكم على ذي جنة؟ افرنقعوا «6» عني» . فقال رجل منهم: «دعوه، فإن شيطانه يتكلم بالهندية» . قال: وقا لحجام يحجمه: «اشدد قصب الملازم، وأرهف ظبة المشارط، وخفف الوضع، وعجل النزع، وليكن شرطك وخزاً، ومصك نهزاً، ولا تكرهن أبياً، ولا تردن أتياً» . فوضع الحجام محاجمه في جونته، وانصرف.

محاسن المكاتبات

محاسن المكاتبات قال كعب العبسي لعروة بن الزبير: قد أذنبت ذنباً إلى الوليد بن عبد الملك، وليس يزيل غضبه شيء؛ فاكتب لي إليه، فكتب إليه: «لو لم يكن لكعب من قديم حرمته ما يغفر له عظيم جريرته، لوجب أن لا تحرمه التفيؤ بظل عفوك الذي تأمله القلوب، ولا تعلق به الذنوب. وقد استشفع بي إليك، فوثقت له منك بعفو لا يخالطه سخط. فحقق أمله، وصدق ثقتي بك، تجد الشكر وافياً بالنعمة» . فكتب إليه الوليد: «قد شكرت رغبته إليك، وعفوت عنه لمعوله عليك، وله عندي ما يحب، فلا تقطع كتبك عني في أمثاله وفي سائر أمورك» . وكتب عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر إلى بعض إخوانه: «أما بعد، فقد عاقني الشك عن عزيمة الرأي، ابتدأتني بلطف من غير خبرة، ثم أعقبتني جفاء من غير ذنب. فأطمعني أولك في إحسانك، وأيأسني آخرك من وفاتك. فلا أنا في غير الرجاء مجمع لك اطراحاً، ولا في غد انتظره منك على ثقة. فسبحان من لو شاء كشف إيضاح الرأي فيك، فأقمنا على ائتلاف أو افترقنا على اختلاف» «1» . قال: وسخط مسلمة بن عبد الملك على العريان بن الهيثم، فعزله عن

شرطة الكوفة، فشكا ذلك إلى عمر بن عبد العزيز، فكتب إليه: «إن من حفظ أنعم الله؛ رعاية ذوي الإحسان؛ ومن إظهار شكر الموهوب، صفح القادر عن الذنب، ومن تمام السؤدد حفظ الودائع، واستتمام الصنائع. وقد كنت أودعت العريان نعمة من أنعمك، فسلبتها عجلة سخطك، وأنصفته غضبته، على أن وليته ثم عزلته وخليته، وأنا شفيعه؛ فأحب أن تجعل له من قلبك نصيبه، ولا تخرجه من حسن رأيك، فتضيع ما أودعته وتتوى ما أفسدئه» . فعفا عنه، ورده إلى عمله. قال: وغضب سليمان بن عبد الملك على ابن عبيد مولاه، فشكا إلى سعيد بن المسيب ذلك، فكتب إليه: «أما بعد، فإن أمير المؤمنين في الموضع الذي يرتفع قدره عما تقتضيه رعيته، وفي عفو أمير المؤمنين سعة للمسيئين» ، فرضي عنه. قال: وطلب العتابي «2» من رجل حاجة، فقضى له بعضها، ومطله ببعض. فكتب إليه: «أما بعد، فقد تركتني منتظراً لوعدك، منتجزاً لرفدك. وصاحب الحاجة محتاج إلى نعم هنيئة. أو لا، مريحة؛ والعذر الجميل أحسن من المطل الطويل. وقد قلت بيتي شعر: بسطت لساني ثم أو ثقت نصفه ... فنصف لساني بامتداحك مطلق فإن أنت لم تنجز عداتي تركتني ... وباقي لسان الشكر بالناس موثق» قال: وكتب عمرو بن مسعدة إلى المأمون في رجل من بين ضبة، يستشفع له بالزيادة في منزلته، وجعل كتابه تعريضاً: «أما بعد، فقد استشفع بي فلان، يا أمير المؤمنين، لتطولك علي، في إلحاقه بنظرائه من الخاصة فيما يرتزقون به؛ وأعلمته أن أمير المؤمنين لم يجعلني في مراتب المستشفعين، وفي ابتدائه بذلك تعدي طاعته. والسلام» . فكتب إليه

المأمون: «قد عرفنا تصريحك له، وتعريضك لنفسك، وأجبناك إليهما، ووقفناك عليهما» . قال: وكتب عمرو بن مسعدة إلى المأمون كتاباً يستعطفه على الجند: «كتابي إلى أمير المؤمنين، ومن قبلي من أجناده وقواده في الطاعة والانقياد على أحسن ما تكون عليه طاعة جند تأخرت أرزاقهم، واختلت أحوالهم» فقال المأمون: «والله لأقضين حق هذا الكلام» ، وأمر بإعطائهم لثمانية أشهر. قال: وقدم رجل من أبناء دهاقين قريش على المأمون لعدة سلفت منه، فطال على الرجل انتظار خروج أمر المأمون، فقال لعمرو بن مسعدة: «توسل في رقعة مني إلى أمير المؤمنين تكون أنت الذي تكتبها، تكن لك علي نعمتان» . فكتب: «إن رأى أمير المؤمنين أن يفك أسر عبده من ربقة المطل بقضاء حاجته، ويأذن له في الانصراف إلى بلده، فعل إن شاء الله» . فلما قرأ المأمون الرقعة، دعا عمراً، فجعل يعجبه من حقن لفظها، وإيجاز المراد، فقال عمرو: «فما نتيجتها يا أمير المؤمنين» ؟ قال: «الكتاب له في هذا الوقت بما وعدناه، لئلا يتأخر فضل استحساننا كلامه، وبجائزة مائة ألف درهم، صلة عن دناءة المطل وسماجة الأغفال» ، ففعل ذلك له. وحدثنا إسماعيل بن أبي شاكر، قال: لما أصاب أهل مكة السيل الذي شارف الحجر، ومات تحته خلق كثير، كتب عبيد الله بن الحسن العلوي، وهو والي الحرمين إلى المأمون: «إن أهل حرم الله، وجيران بيته، وآلاف مسجده وعمرة بلاده، قد استجاروا بعز معروفك من سيل تراكمت أخرياته في هدم البنيان، وقتل الرجال والنسوان، واجتياح الأصول، وجرف الأبقال، حتى ما ترك طارفاً ولا تالداً للراجع إليهما في مطعم، ولا ملبس. فقد شغلهم طلب الغذاء عن الاستراحة إلى البكاء على الأمهات والأولاد والآباء والأجداد، فأجرهم يا أمير المؤمنين بعطفك عليهم، وإحسانك إليهم تجد الله مكافئك عنهم، ومثيبك عز الشكر منهم» .

قال: فوجه إليهم المأمون بالأموال الكثيرة، وكتب إلى عبيد الله: أما بعد فقد وصلت شكيتك لأهل حرم الله أمير المؤمنين فباكاهم بقلب رحمته وأنجدهم بسبب نعمته وهو متبع ما أسلف إليهم بما يخلفه عليهم عاجلاً وآجلا، إن أذن الله في تثبيت عزمه على صحة نيته؛ قال: فصار كتابه هذا آنس لأهل مكة من الأموال التي أنفذها إليهم. قال: وكتب جعفر بن محمد بن الأشعث إلى يحيى بن خالد يستعفيه من العمل: «شكري لك على ما أريد الخروج منه شكر من سأل الدخول فيه» ، قال وكتب علي بن هشام إلى إسحاق بن إبراهيم الموصلي: «ما أدري كيف أصنع؟ أغيب فأشتاق، وألتقي ولا أشتفي، ثم يحدث لي اللقاء الذي طلبت منه الشفاء، نوعاً من الحرقة للوعة الفرقة» . قال: وكتب معقل إلى أبي دلف: «فلان جميل الحال عند الكرام، فإن أنت لم ترتبطه بفضلك عليه، فعل غيرك» . وكتب أبو هاشم الحربي إلى بعض الأمراء: «غرضي من الأمير معوز، والصبر على الحرمان معجز» . وكتب آخر إلى صديق له: «أما بعد، فقد أصبح لنا من فضل الله ما لا نحصيه، مع كثرة ما نعصيه، وما ندري ما نشكر: أجمل ما نشر، أم كثير ما ستر، أم عظيم ما أبلى، أم كثير ما عفا؟ غير أنه يلزمنا في كل الأمور شكره، ويجب علينا حمده فاستزد الله في حسن بلائه، كشكرك على حسن آلائه» . وضدّه، قال الجاحظ: كتب ابن المراكبي إلى بعض ملوك بغداد: «جعلت فداك، برحمته» . قال: وقرأت على عنوان كتاب لأبي الحسن الشمري: «للموت لنا قبلة» ، وقرأت أيضاً على عنوان كتاب: «إلى الذي كتب إلي» .

محاسن الجواب

محاسن الجواب قال: دخل رجل على كسرى أبرويز، فشكا إليه عاملا على ضيعة له، فقال له كسرى: «منذ كم هي في يدك؟» قال: «منذ أربعين سنة» ، قال: «فأنت تأكلها أربعين سنة ما عليك أن يأكل عاملي منها سنة واحدة؟» فقال: «وما كان على الملك أن يأكل بهرام جور الملك سنة واحدة؟» فقال: «ادفعوا في قفاه فأخرجوه» ، فلما خرج أمكنته التفاتة، فقال: «دخلت بمظلمة وخرجت بثنتين» . فقال كسرى: «ردوه» ، وأمر برد ضيعته، وصيره في خاصته. ويقال: إن سعيد بن مرة الكندي، حين أتى معاوية قال له: «أنت سعيد» ، قال: «أمير المؤمنين سعيد، وأنا ابن مرة» . قال: ودخل السيد بن أنس الأزدي على المأمون، فقال: «أنت السيد» ؟ فقال: «أنت السيد يا أمير المؤمنين، وأنا ابن أنس» . قال: وقيل للعباس بن عبد المطلب: «أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم» ؟ قال: «هو عليه الصلاة والسلام أكبر مني، وأنا ولدت قبله» . قال: وقال الحجاج للمهلب: «أنا أطول أم أنت» ؟ قال: «الأمير أطول وأنا أبسط قامة منه» . قيل: ووقف المهدي على امرأة من بني ثعل فقال لها: «ممن العجوز» ؟ قالت: «من طيء» قال: «ما منع طيئاً أن يكون فيها آخر مثل حاتم» . قالت: «الذي منع العرب أن يكون فيها آخر مثلك» ، وأعجب بقولها ووصلها. قيل: ولما استوثق أمر العراق لعبد الله بن الزبير، وجه مصعب إليه وفداً، فلما قدموا عليه، قال لهم: «وددت أن لي بكل خمسة منكم رجلاً

من أهل الشام» ، فقال رجل من أهل العراق: «يا أمير المؤمنين علقناك، وعلقت بأهل الشام وعلق أهل الشام بآل مروان، فما أعرف لنا مثلاً إلا قول الأعشى علقتها عرضاً وعلقت رجلاً ... غيري وعلق أخرى غيرها الرجل فما وجدنا جواباً أحسن من هذا. قال: وقال مسلمة بن عبد الملك: «ما شيء يؤتى العبد بعد الإيمان بالله تعالى، أحب إلي من جواب حاضر، فإن الجواب إذا انعقب لم يكن شيئا» . وضده، قال: اجتمع عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبرقان بن بدر «1» وعمرو بن الأهثم «2» ، فذكر عمرو الزبرقان قال: «بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إنه إطعام جواد الكف، مطاع في أدانيه، شديد العارضة، مانع لما وراء ظهره» . فقال الزبرقان: «بأبي أنت وأمي يا رسول الله إنه ليعرف مني أكثر من هذا، ولكنه يحسدني» . فقال عمرو: «والله يا نبي الله، إن هذا لزمر المروءة، ضيق العطن، لئيم العم، أحمق الخال» ، فرأى الكراهية في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اختلف قوله، فقال: «يا رسول الله ما كذبت في الأولى، ولقد صدقت في الأخرى، ولكني رضيت فقلت أحسن ما علمت، وسخطت فقلت أسوأ ما أعلم» . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من البيان لسحراً، وإن من الشعر لحكما) . وذكروا إن الوليد بن عقبة قال لعقيل بن أبي طالب: «غلبك على الثروة والعدد» . قال: «وسبقني وإياك إلى الجنة» . قال الوليد: «أما والله إن شدقيك لمتضمخان من دم عثمان» . قال عقيل: «ما لك ولقريش؟ وإنما أنت فيهم كمنيح الميسر» . فقال الوليد: «والله إني لأرى لو أن أهل الأرض

اشتركوا في قتله لوردوا صعوداً» ، فقال له عقيل: «كلا، أما ترغب عن صحبة أبيك» ؟. قال: وقال رجل من قريش لخالد بن صفوان: «ما اسمك» ؟ قال: «خال بن صفوان ابن الأهتم» ، قال: «إن اسمك لكذب ما أنت بخالد، وإن أباك لصفوان وهو حجر، وإن جدك لأهتم والصحيح خير من الأهتم» ، قال له خالد: «من أي قريش أنت» ؟ قال: «من عبد الدار بن قضي بن كلاب» ، قال: «لقد هشمتك هاشم، وأمتك أمية، وجمحت بك جمح، وخزمتك مخزوم، وأقصتك قصي، فجعلتك عبد دارها، تفتح إذا دخلوا، وتغلق إذا خرجوا» . قيل: ومر الفرزدق فرأى خليفة الشاعر فقال له: يا أبا فراس من القائل: هو القين وابن القين لا قين مثله ... لفطح المساحي، أو لجدل الأداهم قال الفرزدق: الذي يقول: هو اللص وابن اللص لا لص مثله ... لنقب جدار أو لطر الدراهم

محاسن حفظ اللسان

محاسن حفظ اللسان قال أكثم بن صيفي «1» : «مقتل الرجل بين فكيه- يعني لسانه-» وقال: «رب قول أشد من صول» ، وقال: «لكل ساقطة لا قطة» . وقال المهلب لبنيه: «اتقوا زلة اللسان فإني وجدت الرجل تعثر قدمه فيقوم من عثرته، ويزل لسانه فيكون فيه هلاكه» . قال يونس بن عبيد «2» : «ليست خلة من خلال الخير تكون في الرجل هي أحرى أن تكون جامعة لأنواع الخير كلها من حفظ اللسان» . وقال قسامة بن زهير: «يا معشر الناس، إن كلامكم أكثر من صمتكم، فاستعينوا على الكلام بالصمت، وعلى الصواب بالفكر» . وكان يقال: «ينبغي للعاقل أن يحفظ لسانه كما يحفظ موضع قدمه، ومن لم يحفظ لسانه فقد سلطه على هلاكه» . وقال الشاعر: عليك حفظ اللسان مجتهداً ... فإن جل الهلاك في زلله وقال غيره: وجرح السيف تأسوه فيبرا ... وجرح الدهر ما جرح اللسان جراحات الطعان لها التئام ... ولا يلتام ما جرح اللّسان

وقال غيره: احفظ لسانك لا تقول فتبتلي ... إن البلاء موكل بالمنطق وقال غيره: لعمرك ما شيء علمت مكانه ... أحق بسجن من لسان مذلل على فيك مما ليس يعنيك قوله ... بقفل شديد حيث ما كنت فاقفل قيل: تكلم أربعة من الملوك بأربع كلمات كأنما رميت عن قوس واحد: قال كسرى: «أنا على رد ما لم أقل أقدر مني على رد ما قلت» ، وقال ملك الهند: «إذا تكلمت بكلمة ملكتني، وإن كنت أملكها» ؛ وقال قيصر: «لا أندم على ما لم أقل، وقد ندمت على ما قلت» ، وقال ملك الصين: «عاقبة ما قد جرى به القول أشد من الندم على ترك القول» . وقال بعضهم: «من حصافة الإنسان أن يكون الاستماع أحب إليه من النطق، إذا وجد من يكفيه، فإنه لن يعدم الصمت. والاستماع سلامة، وزيادة في العلم» ، وقال بعض الحكماء: «من قدر على أن يقول فيحسن، فإنه قادر على أن يصمت فيحسن» . وقال بعضهم: كان ابن عبيدة الريحاني المتكلم الفصيح صاحب التصانيف يقول: «الصمت أمان من تحريف اللفظ، وعصمة من زيغ المنطق، وسلامة من فضول القول» . وقال أبو عبيد الله كاتب المهدي: «كن على التماس الحظ بالسكوت أحرص منك على التماسه بالكلام» . وكان يقال: «من سكت فسلم كان كمن قال فغنم» . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يكره الانبعاق في الكلام. ويرحم الله امرأ اوجز في كلامه، واقتصر على حاجته» . قيل: وكلم رجل سقراط «1» عند قتله بكلام أطاله، فقال: «أنساني أول كلامك طول عهده، وفارق آخره فهمي لتفاوته» . ولما قدم ليقتل بكت امرأته فقال لها: «ما يبكيك» ؟

قالت: «تقتل ظلماً» قال: «وكنت تحبين أن أقتل حقاً أو أقتل ظلماً» . وشتم رجل المهلب، فلم يجبه فقيل له: «حلمت عنه» ، فقال: «ما أعرف مساويه، وكرهت أن أبهته بما ليس فيه» . وقال سلمة بن القاسم عن الزبير قال: حملت إلى المتوكل وأدخلت عليه فقال: «يا أبا عبد الله الزم أبا عبد الله- يعني المعتز- حتى تعلمه من فقه المدنيين» ، فأدخلت حجرة، فإذا أنا بالمعتز قد أتى، في رجله نعل من ذهب، وقد عثر به، فسال دمه، فجعل يغسل الدم، ويقول: يصاب الفتى من عثرة بلسانه ... وليس يصاب المرء من عثرة الرجل فعثرته من فيه ترمي برأسه ... وعثرته بالرجل تبرا على مهل فقلت في نفسي: «ضممت إلى من أريد أن أتعلم منه» . وضده، سئل بعض الحكماء عن المنطق فقال: «إنك تمدح الصمت بالمنطق ولا تمدح المنطق بالصمت، وما عبر به عن شيء فهو أفضل منه» . وسئل آخر عنهما فقال: «أخزى الله المساكتة ما أفسدها للسان، وأجلبها للعي، وو الله للمهاراة في استخراج حق أهدم للعي من النار في يابس العرفج» . فقيل له: «قد عرفت ما في المماراة من الذم» . فقال: «ما فيها أقل ضرراً من السكتة التي تورث عللاً، وتولد داء أيسره العي» . وقال بعض الحكماء: «اللسان عضو فإن مرنته مرن، وإن تركته حرن، وممن أفرط في قوله فاستقيل بالحلم، ما حكي عن شهرام المروزي، فإنه جرى بينه وبين أبي مسلم «1» صاحب الدولة كلام، فما زال أبو مسلم يحاوره إلى أن قال له شهرام: «يا لقطة» - فصمت أبو مسلم، وندم شهرام على ما سبق به لسانه، وأقبل معتذراً خاضعاً ومتنصلاً؛ فلما رأى ذلك أبو مسلم، قال:

«لسان سبق، ووهم أخطأ؛ وإنما الغضب شيطان، والذنب لي، لأني جرأتك على نفسي بطول احتمالي منك، فإن كنت معتمداً للذنب فقد شركتك فيه، وإن كنت مغلوباً فالعذر يسعك، وقد غفرنا لك على كل حال» . قال شهرام: «أيها الملك عفو مثلك لا يكون غروراً» قال: «أجل» ، قال: «وإن عظيم ذنبي لن يدع قلبي يسكن» ، ولج في الاعتذار، فقال أبو مسلم: «يا عجباً كنت تسيء وأنا أحسن، فإذا أحسنت أسأت» .

محاسن كتمان السر

محاسن كتمان السر قال: كان المنصور يقول: «الملك يحتمل كل شيء من أصحابه إلّا ثلاثا: إفشاء السر، والتعرض للحرم، والقدح في الملك» . وكان يقول: «سرك من دمك فانظر من تملكه» . وكان يقول: «سرك لا تطلع عليه غيرك، وإن من أنفذ البصائر كتمان السر حتى يبرم المبروم» . وقيل لأبي مسلم: «بأي شيء أدركت هذا الأمر» ؟ قال: «ارتديت بالكتمان، واتزرت بالحزم، وحالفت الصبر، وساعدت المقادير، فأدركت طلبتي، وحزت بغيتي؛ وأنشد في ذلك: أدركت بالحزم والكتمان ما عجزت ... عنه ملوك بني مروان إذ حشدوا ما زلت أسعى عليهم في ديارهم ... والقوم في ملكهم بالشام قد رقدوا حتى ضربتهم بالسيف فانتبهوا ... من نومة لم ينمها قبلهم أحد ومن رعى غنماً في أرض مسبعة ... ونام عنها تولى رعيها الأسد قال: وقا عبد الملك بن مروان للشعبي، لما دخل عليه: «جنبني خصالاً أربعاً: لا تطريني في وجهي، ولا تجرين علي كذبة، ولا تغتابن عندي أحداً، ولا تفشين لي سراً» ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (استعينوا على إنجاح حوائجكم بكتمان السر فإن كل ذي نعمة محسود) . وأنشد اليزيدي في ذلك: النجم أقرب من سر إذا اشتملت ... مني على السّرّ أضلاع وأحشاء وقال غيره:

ونفسك فاحفظها ولا تفش للعدى ... من السر ما يطوي عليه ضميرها فما يحفظ المكتوم من سر أهله ... إذا عقد الأسرار ضاع كثيرها من القوم إلا ذو عفاف يعينه ... على ذاك منه صدق نفس وخيرها قال معاوية بن أبي سفيان: «أعنت على علي بن أبي طالب بأربع خصال: كان رجلاً ظهره «1» علنةً لا يكتم سراً، وكنت كتوماً لسري، وكان لا يسعى حتى يفاجئه الأمر مفاجأة، وكنت أبادر إلى ذلك، وكان في أخبث جند وأشدهم خلافاً، وكنت في أطوع جند وأقلهم خلافاً، وكنت أحب إلى قريش منه، فنلت ما شئت فلله من جامع إلي، ومفرق عنه» . وكان يقال: «لكاتم سره من كتمانه إحدى فضيلتين: الظفر بحاجته والسلامة من شره، فمن أحسن فليحمد الله وله المنة عليه، ومن أساء فليستغفر الله» . وقال بعضهم: «كتمانك سرك يعقبك السلامة، وإفشاؤك سرك يعقبك الندامة، والصبر على كتمان السر أيسر من الندم على إفشائه» . وقال بعضهم: «ما أقبح بالإنسان أن يخاف على ما في يده من اللصوص فيخفيه، ويمكن عدوه من نفسه بإظهاره ما في قلبه من سر نفسه وسر أخيه؛ ومن عجز عن تقويم أمره فلا يلومن إلا نفسه إن لم يستقم له» . وقال معاوية: «ما أفيشيت سري إلى أحد إلا أعقبني طول الندم، وشدة الأسف، ولا أودعته جوانح صدري فحكمته بين أضلاعي، إلا أكسبني مجداً وذكراً، وسناء ورفعة» . فقيل: «ولا ابن العاص» . قال: «ولا ابن العاص» . وكان يقول: «ما كنت كاتمه من عدوك فلا تظهر عليه صديقك» . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كتم سره كانت الخيرة في يده، ومن عرض نفسه للتهمة فلا يلومن من أساء به الظن؛ وضع أمر أخيك على أحسنه، ولا تظن بكلمة خرجت منه سواء ما كنت واجداً لها في الخير مذهباً، وما كفأت من عصى الله فيك بأفضل من أن تطيع الله جل اسمه فيه، وعليك باخوان الصدق فإنهم زينة عند الرخاء، وعصمة عند البلاء» .

وحدث إبراهيم بن عيسى قال: ذاكرت المنصور، ذات يوم، في أبي مسلم، وصونه السر، وكتمه حتى فعل ما فعل، فأنشد: تقسمني أمران لم أفتتحهما ... بحزم ولم تعركهما لي الكراكر وما ساور الأحشاء مثل دفينة ... من الهم ردتها إليك المعاذر وقد علمت أفناء عدنان أنني ... على مثلها مقدامة متجاسر وقال آخر: صن السر بالكتمان يرضك غبه ... فقد يظهر السر المضيع فيندم ولا تفشين سراً إلى غير أهله ... فيظهر خرق الشر من حيث يكتم وما زلت في الكتمان حتى كأنني ... برجع جواب السائلي عنه أعجم لنسلم من قول الوشاة وتسلمي ... سلمت وهل حي على الدهر يسلم وقال آخر: أمني تخاف انتشار الحديث ... وحظي في ستره أوفر ولو لم أصنه لبقيا عليك ... نظرت لنفسي كما تنظر وقال أبو نواس: لا تفش أسرارك للناس ... وداو أحزانك بالكاس فإن إبليس على ما به ... أرأف بالناس من الناس وقال المبرد «1» : أحسن ما سمعت في حفظ اللسان والسر ما روي لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: لعمرك إن وشاة الرجا ... ل لا يتركون أديماً صحيحا فلا تبد سرك إلا إليك ... فإن لكل نصيح نصيحا

وقال العتبي: ولي صاحب سري المكتم عنده ... محاريق نيران بليل تحرق غدوت على أسراره فكسوتها ... ثياباً من الكتمان ما تتخرق فمن كانت الأسرار تطفو بصدره ... فأسرار صدري بالأحاديث تغرق فلا تودعن الدهر سرك أحمقاً ... فإنك إن أودعته منه أحمق وحسبك في ستر الأحاديث واعظاً ... من القول ما قال الأديب الموفق إذا ضاق ضدر المرء عن سر نفسه ... فصدر الذي يستودع السّرّ أضيق وقال خّر: لا يكتم السر إلا كل ذي خطر ... فالسر عند كرام الناس مكتوم والسر عندي في بيت له غلق ... قد ضاع مفتاحه والباب مردوم قيل: دخل أبو العتاهية «1» على المهدي، وقد ذاع شعره في عتبة، فقال: «ما أحسنت في حبك، ولا أجملت في إذاعة سرك» ، فقال: من كان يزعم أن سيكتم حبه ... أو يستطيع الستر فهو كذوب الحب أغلب للرجال بقهره ... من أن يرى للسر فيه نصيب وإذا بدا سر اللبيب فإنه ... لم يبد إلا والفتى مغلوب إني لأحسد ذا هوىً مستحفظاً ... لم تتهمه أعين وقلوب فاستحسن المهدي شعره وقال: «قد عذرناك على إذاعة سرك، ووصلناك على حسن عذرك، إن كتمان السر أحسن من إذاعته» . وقال زياد: «لكل مستشير ثقة، وإن الناس قد ابتدعت بهم خصلتان: إذاعة السر، وترك النصيحة، وليس للسر موضع إلا أحد رجلين: إما أخروي يرجو

ثواب الله، أو دنيوي له شرف في نفسه، وعقل بصون به حسبه، وهما معدومان في هذا الدهر» . وقال المهلب: «ما ضاقت صدور الرجال عن شيء كما تضيق عن السر» ، كما قال الشاعر: ولربّما كتم الوقور فصرّحت ... حركاته لناس عن كتمانه ولربما رزق الفتى بسكوته ... ولربما حرم الفتى ببيانه وقال آخر: إذا أنت لم تحفظ لنفسك سرها ... فسرك عند الناس أفشى وأضيع وقال آخر: لساني كتوم لأسراركم ... ودمعي نموم لسري مذيع فلولا الدموع كتمت الهوى ... ولولا الهوى لم تكن لي دموع

محاسن المشورة

محاسن المشورة يقال: «إذا استخار الرجل ربه، واستشار نصيحه واجتهد، فقد قضى ما عليه، ويقضي الله في أمره ما يحب» . وقال آخر: «حسن المشورة من المشير قضاء حق النعمة» . وقيل: «إذا استشرت فانصح، وإذا قدرت فاصفح» . وقيل: «من وعظ أخاه سراً زانه ومن وعظه جهراً شانه» . وقال آخر: «الاعتصام بالمشورة نجاة» . وقال آخر: «نصف عقلك مع أخيك، فاستشره» . وقال آخر: «إذا أراد الله لعبد هلاكاً أهلكه برأيه» . وقال آخر: «المشورة تقوم اعوجاج الرأي» . وقال: «إياك ومشورة النساء، فإن رأيهن إلى أفن، وعزمهن إلى وهن» . وضده: قال بعض أهل العلم: «لو لم يكن في المشورة إلا استضعاف صاحبك لك وظهور فقرك إليه، لوجب اطراح ما تفيده المشورة، والقاء ما يكسبه الامتنان؛ وما استشرت أحداً إلا كنت عند نفسي ضعيفاً، وكان عندي قوياً، وتصاغرت له ودخلته العزة، فإياك والمشورة وإن ضاقت بك المذاهب، واختلفت عليك المسالك، وأداك الاستبهام إلى الخطأ الفادح، فإن صاحبها أبدا مستذل مستضعف، وعليك بالاستبداد فإن صاحبه أبداً جليل في العيون، مهيب في الصدور، ولن تزال كذلك ما استغنيت عن ذوي العقول، فإذا افتقرت إليها حقرتك العيون، ورجفت بك أركانك، وتضعضع بنيانك، وفسد تدبيرك، واستحقرك الصغير، واستخف بك الكبير، وعرفت بالحجة إليهم» . وقيل: «نعم المستشار العلم، ونعم الوزير العقل» . وممن اقتصر

على رأيه دون المشورة، الشعبي، فإنه خرج مع ابن الأشعث، فقدم به على الحجاج؛ فلقيه يزيد بن أبي مسلم، كاتب الحجاج، فقال له: «أشر علي» فقال: «لا أدري بما أشير، ولكن أعتذر بما قدرت عليه» . وأشار بذلك عليه كافة أصحابه، قال الشعبي: فلما دخلت خالفت مشورتهم، ورأيت والله غير الذي قالوا، فسلمت عليه بالأمرة، ثم قلت: «أيد الله الأمير، إن الناس قد أمروني أن أعتذر بغير ما يعلم الله أنه الحق، ولك الله أن لا أقول في مقامي هذا إلا الحق، قد جهدنا وحرضنا، فما كنا بالأقوياء الفجرة، ولا الأتقياء البررة، ولقد نصرك الله علينا، وأظفرك بنا فإن سطوت فبذنوبنا، وإن عفوت فبحلمك، والحجة لك علينا» . فقال الحجاج: «أنت والله أحب إلينا قولاً ممن يدخل علينا وسيفه يقطر من دمائنا ويقول: والله ما فعلت ولا شهدت، أنت آمن يا شعبي» . فقلت: «أيها الأمير اكتحلت والله بعدك، السهر، واستجلست الخوف، وقطعت صالح الإخوان، ولم أجد من الأمير خلفاً» . قال: «صدقت» ، وانصرفت.

محاسن الشكر

محاسن الشكر قال بعض الحكماء: «صن شكرك عمن لا يستحقه، واستر ماء وجهك بالقناعة» . وقال الغضل بن سهل: «من أحب الازدياد من النعم فليشكر، ومن أحب المنزلة فليكف، ومن أحب بقاء عزه فليسقط دالته ومكره» . ومن ذلك قول رجل لرجل شكره في معروف: لقد ثبتت في القلب منك مودة ... كما ثبتت في الراحتين الأصابع قال: واصطنع رجل رجلاً فسأله يوماً: «أتحبني يا فلان» قال: «نعم احبك حبا لو كان فوقك لأظللك، أو كان تحتك لأقللك» . وقال كسرى أنوشروان: «المنعم أفضل من الشاكر، لأنه جعل له السبيل إلى الشكر» . واختصر حبيب بن أوس هذا في مصراع واحد فقال: لهان علينا أن نقول وتفعلا قال الباهلي عن أبي فروة: مكتوب في التوراة: «أشكر من أنعم عليك، وأنعم على من شكرك فإنه لا زوال للنعم إذا شكرت، ولا إقامة لها إذا كفرت. والشكر زيادة في النعم، وأمان من الغير» . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خمس تعاجل صاحبهن بالعقوبة: (البغي، والغدر، وعقوق الوالدين، وقطيعة الرحم، ومعروف لا يشكر) ، وأنشد الحطيئة عمر، وكعب الأحبار «1» عنده:

من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس فقال كعب: «يا أمير المؤمنين من هذا الذي قال هذا؟ هو مكتوب في التوراة» ؟ فقال عمر: «كيف ذلك» ؟ قال في التوراة مكتوب: «من يصنع الخير لا يضيع عندي لا يذهب العرف بيني وبين عبدي» . وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فما هذا الاجتهاد» ؟ فقال: «أفلا أكون عبداً شكوراً» . وفي الحديث «أن رجلاً قال في الصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم ربنا لك الحمد حمداً مباركاً طيباً زكياً» ، فلما انصرف صلى الله عليه وسلم، قال: «أيكم صاحب الكلمة» ؟ قال أحدهم: «أنا يا رسول الله» . فقال: «لقد رأيت سبعة وثلاثين ملكا يتبدرون أيهم يكتبها أولاً» وقيل: «نسيان النعمة أول درجات الكفر» . وقال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: «المعروف يكفر من كفره لأنه يشكرك عليه أشكر الشاكرين» ، وقد قيل في ذلك: يد المعروف غنم حيث كانت ... تحملها كفور أم شكور فعند الشاكرين لها جزاء ... وعند الله ما كفر الكفور وقال بعض الحكماء: «ما أنعم الله على عبد نعمة فشكر عليها إلا ترك حسابه عليها» . وقال بعض الحكماء: «عند التراخي عن شكر النعم تحل عظائم النقم» . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يقول لعائشة ما فعل بيتك فتنشده: يجزيك أو يثنى عليك وإن من ... أثنى عليك بما فعلت كمن جزى فيقول صلى الله عليه وسلم: «صدق القائل، يا عائشة، إن الله إذا أجرى على يد رجل خيرا فلم يشركه، فليس لله بشاكر» . وقيل لذي الرمة: «لم خصصت بلال بن أبي بردة بمدحك» ؟ قال: «لأنه وطأ مضجعي، وأكرم مجلسي، وأحسن صلتي، فحق لكثير معروفه عندي أن يستولي على شكري» . ومنهم من يقدم ترك مطالبة الشكر وينسبه إلى مكارم الأخلاق، من ذلك ما قال بزرجمهر: «من انتظر بمعروفه شكرك عاجل المكافأة» ، وقال بعض

لحكماء: «إن الكفر يقطع مادة الإنعام، فكذلك الاستطالة بالصنيعة تمحق الأجر» . وقال علي بن عبيدة: «من المكارم الظاهرة، وسنن النفس الشريفة، ترك طلب الشكر على الإحسان، ورفع الهمة عن طلب المكافأة، واستكثار القليل من الشكر، واستقلال الكثير مما يبذل من نفسه ... وفصل من كتاب ولست أقابل أياديك، ولا أستديم إحسانك إلا بالشكر الذي جعله الله للنعم حارساً، وللحق مؤديا، وللمزيد سببا» . وضده، قال بعض الحكماء: «المعروف إلى الكرام يعقب خيراً، وإلى اللئام يعقب شراً، ومثل ذلك مثل المطر، يشرب منه الصدف فيعقب لؤلؤاً، وتشرب منه الأفاعي فيعقب سماً» . وقال سفيان «1» : «وجدنا أصل كل عداوة اصطناع المعروف إلى اللئام» . وقال: «أثار جماعة من الأعراب ضبعاً، فدخلت خباء شيخ منهم، فقالوا: «أخرجها» ، فقال: «ما كنت لأفعل، وقد استجارت بي» فانصرفوا وقد كانت هزيلاً، فأحضر لها لقاحاً، وجعل يسقيها حتى عاشت، فنام الشيخ ذات يوم فوثبت عليه فقتلته. فقال شاعرهم في ذلك: ومن يصنع المعروف في غير أهله ... يلاقي الذي لاقى مجير أم عامر أقام لها لما أناخت ببابه ... لتسمن ألبان اللقاح الدرائر فأسمنها حتى إذا ما تمكنت ... فرته بأنياب لها وأظافر فقل لذوي المعروف هذا جزاء من ... يجود بإحسان إلى غير شاكر قيل: وأصاب إعرابي جرو ذئب فاحتمله إلى خبائه وقرب له شاة فلم يزل يمتص من لبنها حتى سمن وكبر ثم شد على الشاة فقتلها. فقال الأعرابي يذكر ذلك: غذتك شويهتي ونشأت عندي ... فمن أدراك أن أباك ذيب

فجعت نسيةً وصغار قوم ... بشاتهم وأنت لها ربيب إذا كان الطباع طباع سوء ... فليس بنافع أدب الأديب وفي المثل: سمن كلبك يأكلك. وأنشد: هم سمنوا كلباً ليأكل بعضهم ... ولو عملوا بالحزم ما سمنوا كلبا وقال آخر: وإني وقيساً كالمسمن كلبه ... فخدشه أنيابه وأظافره ويضرب المثل بسنمار، وكان بني للنعمان بن المنذر الخورنق فأعجبه وكره أن يبني لغيره مثله فرمى يه من أعلاه فمات، فقيل فيه: جزينا بني سعد بحسن بلائهم ... جزاء سنمار وما كان ذا ذنب وقال بشار: أثني عليك ولي حال تكذبني ... فيما أقول فأستحيي من الناس قد قلت إن أبا حفص لأكرم من ... يمشي فخاصمني في ذاك إفلاسي حتى إذا قيل ما أعطاك من صفد ... طأطأت من سوء حالي عندها راسي ولأبي الهول: كأني إذ مدحتك يا ابن معن ... رآني الناس في رمضان أزني فإن أك رحت عنك بغير شيء ... فلا تفرح كذلك كان ظني وقال آخر: لحى الله قوماً أعجبتهم مدائحي ... فقالوا مقالاً في ملام وفي عتب أبا حازم تمدح. فقلت معذراً ... هبوني امرأً جربت سيفي على كلب وقال آخر: عثمان يعلم أن الحمد ذو ثمن ... لكنه يشتهي حمداً بمجان والناس أكيس من أن يمدحوا رجلاً ... حتى يروا عنده آثار إحسان

وقال آخر: يحب المديح أبو خالد ... ويغضب من صلة المادح كبكر تحب لذيذ النكاح ... وتجزع من صولة الناكح وقال آخر: ولو كان يستغني عن الشكر سيد ... لعزة ملك أو علو مكان لما أمر الله العباد بشكره ... فقال اشكروني أيها الثقلان

محاسن الصدق

محاسن الصدق قال بعض الحكماء: «عليك بالصدق فما السيف القاطع في كف الرجل الشجاع بأعز من الصدق؛ والصدق عز وإن كان فيه ما تكره، والكذب ذل وإن كان فيه ما تحب؛ ومن عرف بالكذب اتهم في الصدق» . وقيل: «الصدق ميزان الله الذي يدور عليه العدل، والكذب مكيال الشيطان الذي يدور عليه الجور» . وقال ابن السماك: «ما أحسبني أوجر على ترك الكذب لأني أتركه أنفة» . وقال آخر: «لو لم يترك العاقل الكذب إلا مروءة لكان بذلك حقيقا، فكيف وفيه المأثم والعار» ؟ وقال الشعبي: «عليك بالصدق حيث ترى أنه يضرك فإنه ينفعك، واجتنب الكذب حيث ترى أنه ينفعك فإنه يضرك» . وقال بعضهم: «الصدق عز والكذب خضوع» . ومدح قوم بالصدق، منهم أبو ذر رضي الله عنه، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء، ولا طلعت الشمس على ذي لهجة أصدق من أبي ذر» . ومنهم العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه فإنه روى أنه أطلع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده جبريل، فقال له جبريل: «هذا عمك العباس» قال: «نعم» ، قال: «إن الله تعالى يأمرك أن تقرأ عليه السلام، وتعلمه أن اسمه عند الله «الصادق» ، وإن له شفاعة يوم القيامة» . فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فتبسم فقال: «إن شئت أخبرتك مما به تبسمت، وإن شئت أن تقول فقل» ، فقال: «بل تعلمني يا رسول الله» ، فقال: «لأنك لم تحلف يميناً في جاهلية ولا إسلام برة ولا فاجرة، ولم تقل لسائل: لا» ، قال: «والذي بعثك بالحق نبياً، ما تبسمت إلا لذلك» . ويروى أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إني أستسر بخلال: الزنا

والسرقة وشرب الخمر والكذب فأيهن أحببت تركته» . قال: «دع الكذب» ، فمضى الرجل فهم بالزنا، فقال: «يسألني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن جحدت، نقضت ما جعلته له، وإن أقررت حددت» ، فلم يزن. فهم بالسرقة وشرب الخمر، ففكر في ذلك فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: «قد تركتهن أجمع» . فأما من رخص له في الكذب، فيروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه قال: «لا يصلح الكذب إلا في ثلاث: كذب الرجل لأهله ليرضيها وكذب في إصلاح ما بين الناس وكذب في حرب» . وروي عن المغيرة بن إبراهيم أنه قال: «لم يرخص لأحد في الكذب إلّا الحجاج بن علاط، فإنه لما فتحت خيبر قال: يا رسول الله: إن لي عند امرأة من قريش وديعة، فأذن لي يا رسول الله أن أكذب عليك كذبة لعلي أستل وديعتي، فرخص له في ذلك. فقدم مكة فأخبرهم أنه ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم أسيراً في أيديهم يأتمرون فيه، فقائل يقول: يقتل، وقائل يقول: لا بل يبعث به إلى قومه فتكون منة، فجعل المشركون يتباشرون بذلك ويوئسون العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم والعباس يريهم التجمل، وأخذ الرجل وديعته فاستقبله العباس وقال: «ويحك ما الذي أخبرت به» ؟ فأعلمه السبب، ثم أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فتح خيبر، ونكح صفية بنت حيي بن أخطب، وقتل زوجها وأباها، ثم قال: «أكتم علي اليوم وغداً حتى أمضي» ، ففعل ذلك، فلما مضى يومان أخبرهم العباس بالذي أخبره، فقالوا: «من أخبرك بهذا» ؟ قال: «من اخبركم بضده» . وضده، قيل: وجد في بعض كتب الهند: «ليس لكذوب مروءة، ولا لضجور رياسة، ولا لملول وفاء، ولا لبخيل صديق» . وقال قتيبة بن مسلم «1» : «لا تطلبن الحوائج من كذوب، فإنه يقربها وإن كانت بعيدة، ويبعدها إن كانت قريبة؛ ولا إلى رجل قد جعل المسألة مأكلة، فإنه يقدم حاجته قبلها، ويجعل حاجتك وقاية لها؛ ولا إلى أحمق فإنه يريد نفعك

فيضرك» . وقيل: «أمران لا ينفكان من كذب: كثرة المواعيد، وشدة الاعتذار» . وقيل: «كفاك موبخاً على الكذب، علمك بأنك كاذب» . وقال رجل لأبي حنيفة: «ما كذبت قط» ، قال: «أما هذه فواحدة» . وفي المثل: «هو أكذب من أخيذ السند» ، وذلك أنه يؤخذ الخسيس منهم، فيزعهم أنه ابن الملك. وكذلك يقال: «أكذب من سياح خراسان» ، لأنهم يجتازون في كل بلد، ويكذبون للسؤال والمنسألة. ويقال: «هو أكذب من الشيخ الغريب» ، وذلك أنه يتزوج في الغربة، وهو ابن سبعين سنة، فيزعم أنه ابن أربعين، ويقال: «هو أكذب من مسيلمة» وبه يضرب المثل. ومما قيل في ذلك من الشعر: حس الكذوب من البلية ... بعض ما يحكى عليه ما إن سمعت بكذبة ... من غيره نسبت إليه وقال آخر: لقد أخلفتني وحلفت حتى ... إخالك قد كذبت وإن صدقتا ألا لا تحلفن على كلام ... فأكذب ما تكون إذا حلفتا وقال آخر: قد كنت أنجر دهراً ما وعدت إلى ... أن أتلف الوعد ما جمعت من نشب فإن أك صرت في وعدي أخا كذب ... فنصرة الصدق أفضت بي إلى الكذب قال الأصمعي: قال الخليل بن سهل: «يا أبا سعيد أعلمت أن طول رمح رستم كان سبعين ذراعاً من حديد مصمت، في غلظ الراقود» «1» ، فقلت: «ههنا إعرابي له معرفة، فاذهب بنا إليه فحدثه بهذا» . فذهبت به إلى الأعرابي فحدثه، فقال الأعرابي: «قد سمعت بذلك، وبلغنا أن رستم هذا كان هو واسفنديار أتيا لقمان بن عاد بالبادية، فوجداه نائماً، ورأسه في حجر أمه، فقالت لهما: ما شأنكما، فقال: «بلغنا شدة هذا الرجل فأتيناه»

فانتبه فزعاً من كلامهما، فنفخهما، فألقاهما إلى أصبهان، فقبرهما اليوم بها، فقال الخليل: قبحك الله ما أكذبك! قال: «يابن أخي ما بينا شيئاً إلا وهو دون الراقود» . قيل: وقدم بعض العمال من عمل، فدعا قوماً إلى طعامه، وجعل يحدثهم بالكذب، فقال بعضهم: نحن كما قال عز وجل: «سماعون للكذب أكالون للسحت» . قيل: وكان رجال من أهل المدينة من بين فقيه ورواية وشاعر، يأتون بغداد، فيرجعون بحظوة وحال حسنة؛ فاجتمع عدة منهم، فقالوا لصديق لهم لم يكن عنده شيء من الأدب: «لو أتيت العراق فلعلك أن تصيب شيئاً» . قال: «أنتم أصحاب آداب تلتمسون بها» . فقالوا: «نحن نحتال لك» ، فأخرجوه، فلما قدم بغداد طلب الاتصال بعلي بن يقطين، وشكا إليه الحاجة، فقال: «ما عندك من الأدب» ؟ فقال: «ليس عندي من الأدب شيء غير أني أكذب الكذبة وأخيل إلى من يسمعها أني صادق» . وكان ظريفاً مليحاً، فأعجب به، وعرض عليه مالاً، فأبى أن يقبله وقال: «ما أريد منك إلا أن تسهل أذني، وتدني مجلسي» . قال: «ذاك لك» . وكان من أقرب الناس إليه مجلساً حتى عرف بذلك. وكان المهدي قد غضب على رجل من القواد، واستصفى ماله، وكان يختلف إلى علي بن يقطين، رجاء أن يكلم له المهدي، وكان يرى قرب المديني، ومكانه من عليه، فأتى المديني القائد عشياً فقال: «ما البشرى» ؟ قال: «لك البشرى وحكمك» ، قال: «أرسلني علي بن يقطين إليك وهو يقرئك السلام ويقول: قد كلمت أمير المؤمنين في أمرك، ورضي عنك، وأمر برد مالك وضياعك ويأمرك بالغدو إليه لتغدو معه إلى أمير المؤمنين متشكراً» . فدعا له الرجل بألف دينار وكسوة وحملان، وغدا على علي مع جماعة من وجوه العسكر متشكراً، فقال له علي: «وما ذاك» ؟ قال: «أخبرني أبو فلان- وهو إلى جنبه- كلامك أمير المؤمنين في أمري ورضاه عني» ، فالتفت إلى المديني وقال: «ما هذا» ؟ فقال: «أصلحك الله، هذا بعض ذلك المناع نشرناه» ، فضحك علي

وقال: «علي بدابتي» ، وركب إلى المهدي، وحدثه الحديث، فضحك المهدي وقال: «إنا قد رضينا عن الرجل ورددنا عليه ماله» ، وأجرى على المديني رزقاً واسعاً، واستوصى به خيراً، ثم وصله، وكان يعرف «بكذاب أمير المؤمنين» .

محاسن العفو

محاسن العفو قيل: أسر مصعب بن الزبير رجلاً من أصحاب المختار «1» ، فأمر بضرب عنقه فقال: «أيها الأمير! ما أقبح أن أقوم يوم القيامة إلى صورتك هذه الحسنة فأتعلق بأطرافك وأقول: «رب سل مصعباً فيم قتلني» ؟ فقال: «أطلقوه» ، فقال: «أيها الأمير أعل ما وهبت لي من عمري في خفض عيش» ، فقال: «أعطوه مائة ألف درهم» ، قال: «بأبي أنت وأمي أشهدك أن لابن قيس الرقيات منها خمسين ألفاً قال: «لم» ؟ قال: لقوله فيك: إنما مصعب شهاب من الله ... تجلت عن وجهه الظلماء ملكه ملك رأفة ليس فيه ... جبروت ولا له كبرياء فضحك مصعب وقال: «لقد تلطفت وإن فيك لموضعاً للصنيعة» ، وأمر له بالمائة ألف، ولابن قيس الرقيات «2» بخمسين ألف درهم. قيل: وأمر الرشيد يحيى بن خالد بحبس رجل جنى جناية فحبسه، ثم سأل عنه الرشيد فقيل: «هو كثير الصلاة والدعاء» ، فقال للموكل به: «عرض له بأن تكلمني وتسألني إطلاقه» ، فقال له الموكل ذلك، فقال: «قل لأمير

المؤمنين أن كل يوم يمضي من نعمتك ينقص من محنتي، والأمر قريب، والموعد الصراط، والحاكم الله» ، فخر الرشيد مغشياً عليه ثم أفاق وأمر بإطلاقه. وقيل: ظفر المأمون برجل كان يطلبه فلما دخل عليه قال: يا عدو لله أنت الذي تفسد في الأرض بغير الحق. يا غلام خذه إليك فاسقه كأس المنية» . فقال: «يا أمير المؤمنين إن رأيت أن تستبقيني حتى أؤيدك بمال» ؟ قال: «لا سبيل إلى ذلك» فقال: «يا أمير المؤمنين فدعني أنشدك أبياتاً» . قال: هات. فأنشده: زعموا بأن الباز علق مرة ... عصفور بر ساقه المقدور فتكلم العصفور تحت جناحه ... والباز منقض عليه يطير ما بي لما يغني لمثلك شبعةً ... ولئن أكلت فأنني لحقير فتبسم الباز المدل بنفسه ... كرما وأطلق ذلك العصفور فقال له المأمون: «أحسنت. ما جرى ذلك على لسانك إلا لبقية بقيت من عمرك» ، فأطلقه وخلع عليه ووصله. وعن بعضهم أن والياً أتى برجل جنى جناية، فأمر بضربه، فلما مد قال: «بحق رأس أمك ألا ما عفوت عني» . قال: أوجع. فقال: «بحق خديها ونحرها» ، قال: اضرب. قال: «بحق ثدييها» ، قال: اصرب. قال: بحق سرتها» . قال: ويلكم دعوه لا ينحدر قليلاً» . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الرجل إذا ظلم فلم ينتصر، ولم يجد من ينصره فرفع طرفه إلى السماء ودعا، قال الله له: لبيك عبدي أنصرك عاجلاً وآجلاً» . وقال صلى الله عليه وسلم في قولهم: أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، وقد سئل عن ذلك فقيل: أنصره مظلوماً فكيف أنصره ظالماً؟ فقال: «تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه» . وقال فضيل بن عياض «1» : «بكى أبي فقلت: ما

يبكيك؟ فقال: أبكي على ظالمي. ومن أخذ مالي، أرحمه غداً إذا وقف بين يدي الله عز وجل، وسأله فلا تكون له حجة» . وقال الحسن البصري: «أيها المتصدق على السائل يرحمه، ارحم أولاً من ظلمت» . وروي عن عبد الله بن سلام قال: «قرأت في بعض الكتب: قال الله عز وجل: «إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني» . قال خالد بن صفوان: «إياكم ومجانيق الضعفاء (يعني الدعاء) . وضده، قيل: لما قالت التغلبية للجحاف بن حكيم السلمي، وفيه وقعته بالبشر: «قوض الله عمادك، وأطال سهادك، وأقل رقادك، فو الله إن قتلت إلا نساء أسافلهن دمي، وأعاليهن ندي» ، قال لمن حوله: «لولا أن تلد مثلها لخليت سبيلها» . فبلع ذلك الحسن البصري فقال: «أما الجحاف فجذوة من نار جهنم» . قال: ولما بنى زياد بناء البصرة، أمر أصحابه أن يسمعوا من أفواه الناس، فأتى برجل تلا آية: «أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون» . قال: «وما دعاك إلى هذا» ؟ قال: آية من كتاب الله عز وجل خطرت على بالي فتلوتها، والله لأعلمن فيك بالآية الثانية: «وإذا بطشتم جبارين» ثم أمر به فبني عليه ركن من أركان القصر. قال وبعث زياد إلى رجل من بني تميم فقال: «أخبروني بصلحاء كل ناحية» ، فأخبروه، فاختار منهم رجالاً فضمنهم الطريق، وقال: «لو ضاع بيني وبين خراسان حبل لعلمت من لقطه» . وكان يدفن الناس أحياء، وينزع أضلاع اللصوص. قال: وقال عبد الملك للحجاج: «كيف تسير في الناس» ؟ قال: «انظر إلى عجوز أدركت زياداً، فاسألها عن سيرته، فاعمل بها» ، فأخذ والله بسنته حتى ما ترك منها شيئاً. وذكروا أن الحجاج لما أتى المدينة أرسل إلى الحسن بن الحسن رضي الله عنه فقال: «هات سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه» ، قال: «لا أفعل» ، قال: فجاء الحجاج بالسيف والسوط فقال: «والله لأضربنك بهذا السوط حتى أقطعه، ثم لأضربنك بهذا السيف حتى تبرد أو تأتيني بهما» ، فقال الناس: «يا أبا محمد لا تعرض لهذا الجبار» ،

قال: فجاء الحسن بسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه فوضعهما بين يدي الحجاج، فأرسل الحجاج إلى رجل من بني أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: «هل تعرف سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم» ؟ قال: «نعم» ، فخلطه بين أسيافه ثم قال: «أخرجه» . ثم جاء بالدرع فنظر إليها، ثم قال: «هناك علامة كانت على الفضل بن العباس يوم اليرموك، فطعن بحربة فخرقت الدرع فعرفناها» ، فوجد الدرع على ما قال. فقال الحجاج: «أما والله لو لم تجئني به، وجئت بغيره لضربت به رأسك» . وذكروا أن الحجاج قال ذات ليلة لحاجبه: «أعسس «1» بنفسك، فمن وجدته فجئني به فلما أصبح أتاه بثلاثة، فقال: «أصلح الله الأمير ما وجدت إلا هؤلاء الثلاثة» ، فقال الحجاج لواحد منهم: «ما كان سبب خروجك بالليل وقد نادى المنادي أن لا يخرج أحد بالليل» ، قال: «أصلح الله الأمير كنت سكران فغلبني السكر فخرجت ولا أعقل» ، ففكر ساعة ثم قال: «سكران غلبه سكره خلوا عنه لا تعودن» . ثم قال للآخر: «فأنت ما كان سبب خروجك» ؟ قال: «أصلح الله الأمير كنت مع قوم في مجلس يشربون فوقعت بينهم عربدة فخفت على نفسي فخرجت» ، ففكر الحجاج ساعة فقال: «رجل أحب المسالمة خلوا عنه» ، ثم قال للآخر: «ما كان سبب خروجك» ؟ فقال: «لي والدة عجوز، وأنا رجل حمال فرجعت إلى بيتي فقالت والدتي: ما ذقت إلى هذا الوقت طعاماً ولا ذواقاً، فخرجت التمس لها ذلك فأخذني العسس» ففكر ساعة ثم قال: «يا غلام اضرب عنقه، فإذا رأسه بين رجليه» .

محاسن الصبر على الحبس

محاسن الصبر على الحبس قال الكسروي: وقع كسرى بن هرمز إلى بعض المحبسين: «من صبر على النازلة، كان كمن لم تنزل به، ومن طول في الحبل كان فيه عطبه، ومن أكل بلا مقدار تلفت نفسه» . قيل ودخل ابن الزيات على الأفشين وهو محبوس فقال يخاطبه: اصبر لها صبر أقوام نفوسهم ... لا تستريح إلى عقل ولا قود فقال الأفشين «1» : «من صحب الزمان لم ينج من خيره أو شره ووجد الكرامة والهوان، ثم قال: لم ينج من خيرها أو شرها أحد ... فاذكر شوائبها إن كنت من أحد خاضت بك المنية الحمقاء غمرتها ... فتلك أمواجها ترميك بالزبد ولعلي بن الجهم «2» لما حبسه المتوكل: قالت حبست فقلت ليس بضائري ... حبسي وأي مهند لا يغمد أو ما رأيت الليث يألف غيله ... كبراً وأوباش السباع تردّد

والنار في أحجارها مخبوءة ... لا تصطلى إن لم تثرها الأزند والبدر يدركه الظلام فتنجلي ... أيامه وكأنه متجدد والزاعبية لا يقيم كعوبها ... إلا الثقاف وجذوة تتوقد غير الليالي بادئات عود ... والمال عارية يفاد وينفد لا يؤيسنك من تفرج كربة ... خطب أتاك به الزمان الأنكد فلكل حال معقب ولربما ... أجلى لك المكروه عمّا تحمد كم من عليل تخطاه الردى ... فنجا ومات طبيبه والعود صبراً فإن اليوم يعقبه غد ... ويد الخلافة لا تطاولها يد والحبس ما لم تغشه لدنية ... شنعاء نعم المنزل المتورد لو لم يكن في الحبس إلّا أنّه ... لا يتسذلّك بالحجاب الأعبد بيت يجدد للكريم كرامةً ... ويزار فيه ولا يزور ويحمد أبلغ أمير المؤمنين ودونه ... خوف العدا ومخاوف لا تنفد أنتم بنو عم النبي محمد ... أولى بما شرع النبي محمد ما كان من حسن فأنتم أهله ... كرمت مغارسكم وطاب المحتد أمن السوية يا ابن عم محمد ... خصم تقربه وآخر يبعد يا أحمد ابن أبي دؤاد إنما ... تدعى لكل كريهة يا أحمد إن الذين سعوا إليك بباطل ... أعداء نعمتك التي لا تجعد شهدوا وغبنا عنهم فتحكموا ... فينا وليس كعائب من يشهد لو يجمع الخصماء عندك منزل ... يوماً لبان لك الطريق الأرشد والشمس لولا أنها محجوبة ... عن ناظريك لما أضاء الفرقد وضده، أنشدنا عاصم بن محمد الكاتب لنفسه، لما حبسه أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف قوله: قالت: حبست. فقلت: خطب أنكد ... أنحى علي به الزمان المرصد لو كنت حراً كان سربي مطلقاً ... ما كنت أحبس عنوةً وأقيد

لو كنت كالسيف المهند لم يكن ... وقت الكريهة والشدائد يغمد لو كنت كالليث الهصور لما رعت ... في الذئاب وجذوتي تتوقد من قال إن الحبس بيت كرامة ... فمكاثر في قوله متجلد ما الحبس إلا بيت كل مهانة ... ومذلة ومكاره لا تنفد إن زارني فيه العدو فشامت ... يبدي التوجع تارةً ويفند أو زارني فيه المحب فموجع ... يذري الدموع بزفرة تتردد يكفيك أن الحبس بيت لا يرى ... أحد عليه من الخلائق يحسد تمضي الليالي لا أذوق لرقدة ... طعماً وكيف يذوق من لا يرقد في مطبق فيه النهار مشاكل ... لليل والظلمات فيه سرمد فإلى متى هذا الشقاء مؤكد ... وإلى متى هذا البلاء مجدد ما لي مجير غير سيدي الذي ... ما زال يكفلني فنعم السيد غذيت حشاشة مهجتي بنوافل ... من سيبه وصنائع لا تجحد عشرين حولاً عشت تحت جناحه ... عيش الملوك وحالتي تتزيد فخلا العدو بموضعي من قلبه ... فحشاه جمراً ناره تتوقد فاغفر لعبدك ذنبه متطولاً ... فالحقد منك سجية لا تعهد واذكر خصائص خدمتي ومقاومي ... أيام كنت جميع أمري تحمد وقال عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، رضي الله عنهم: خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها ... فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا إذا دخل السجان يوماً لحاجة ... عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا ونفرح بالرؤيا فجل حديثنا ... إذا نحن أصبحنا الحديث عن الرؤيا فإن حسنت كانت بطيئاً مجيئها ... وإن قبحت لم تنتظر وأتت سعيا وقال آخر: ألا أحد يدعو لأهل محلة ... مقيمين في الدنيا وقد فارقوا الدنيا

كأنهم لم يعرفوا غير دارهم ... ولم يعرفوا غير الشدائد والبلوى وقال ابن المعتز «1» : تعلمت في السجن نسج التكك ... وكنت امرأ قبل حبسي ملك وقيدت بعد ركوب الجياد ... وما ذاك إلا بدور الفلك ألم تبصر الطير في جوها ... تكاد تلاصق ذات الحيك إذا أبصرته خطوب الزمان ... أوقعنه في حبال الشرك فهذاك من حالك قد يصاد ... ومن قعر بحر يصاد السمك ووجد في البيت الذي قتل فيه، مكتوب بخطه على الأرض: يا نفس صبراً لعل الخير عقباك ... خانتك بعد طوال الأمن دنياك مرت بنا سحراً ظير فقلت لها ... طوباك يا ليتني إياك طوباك وقال إعرابي: ولما دخلت السجن كبر أهله ... وقالوا أبو ليلى الغداة حزين وفي الباب مكتوب على صفحاته ... بانك تنزو ثم سوف تلين وفي الحديث المرفوع (إن يوسف عليه السلام شكا إلى الله تعالى طول الحبس فأوحى إليه أنت حبست نفسك حين قلت: رب السجن أحب إلى مما يدعونني إليه) ، ولو قلت العافية أحب إلي لعوفيت. قال: وكتب يوسف عليه السلام على باب السجن: هذه منازل البلوى وقبور الأحياء وشماتة الأعداء وتجربة الأصدقاء.

محاسن المودة

محاسن المودة قال بعض الحكماء: ليس للإنسان تنعم إلا بمودات الاخوان وقال آخر: الازدياد من الاخوان زيادة في الآجال وتوفير لحسن الحال، وقيل: عاشر الناس معاشرة إن عشتم حنوا إليكم وإن متم بكوا عليكم، وقال: قد يمكث الناس حينا ليس بينهم ... ود فيزرعه التسليم واللطف يسلى الشقيقين طول النأي بينهما ... وتلتقي شعب شتى فتأتلف وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لابنه الحسين: ابذل لصديقك كل مودة ولا تطمئن إليه كل الطمأنينة وأعطه كل المواساة ولا تفش إليه كل الأسرار. وقال العباس بن جرير: المودة تعاطف القلوب وائتلاف الأرواح وانس النفوس ووحشة الأشخاص عند تنائي اللقاء وظهور السرور بكثرة التزاور وعلى حسب مشاكلة الجواهر يكون الإنفاق في الخصال. وقال بعضهم: من لم يواخ من الأخوان إلا من لا عيب فيه قل صديقه، ومن لم يرض من صديقه إلا بإيثاره إياه على نفسه دام سخطه، ومن عاتب على غير ذنب كثر عدوه. وكان يقال: أعجز الناس من فرط في طلب الأخوان. وقال الشاعر في مثله: لعمرك ما مال الفتى بذخيرة ... ولكن إخوان الثقاب الذخائر وضده، قال المأمون: الأخوان ثلاث طبقات: طبقة كالغذاء لا يستغني عنه، وطبقة كالدواء يحتاج إليه أحيانا، وطبقة كالداء لا يحتاج إليه. وكتب بعض الكتاب أن فلاناً أولاني جميلاً من البشر مقروناً بلطيف من الخطاب في بسط وجه ولين كنف، فلما كشفه الامتحان بيسير الحاجة كان

كالتابوت المطلي عليه بالذهب المملوء بالعذرة أعجبك حسنه ما دام مطيفاً فلما فتح آنذاك نتنه فلا أبعد الله غيره، ومما قيل في ذلك: والله لو كرهت كفي منادمتي ... لقلت للكف بيني إذ كرهتني وقال آخر: ولو أني تخالفني شمالي ... لما اتبعتها أبداً يميني إذاً لقطعتها ولقلت بيني ... كذلك اجتوي من يجتويني وقال آخر: من لم يزدك فلا ترده ... ليكن كمن لم تستفده باعد أخاك ببعده ... فإذا نأى شبراً فزده وقال آخر: تود عدوي ثم تزعم أنني ... أودك إن الرأي منك لعازب وليس أخي من ودني رأي عينه ... ولكن أخي من ودني وهو غائب وقال آخر: إن اختيارك لا عن خبرة سلفت ... إلّا الرجاء وما يخطيء النظر كالمستغيث ببطن السيل يحسبه ... حرزا يبادره إذ بله المطر وقال آخر: وصاحب كان لي وكنت له ... أشفق من والد ومن ولد وكان لي مؤنسا وكنت له ... ليست بنا وحشة إلى أحد كنا كساق مشت بها قدم ... أو كذراع نيطت إلى عضد حتى إذا أمكن الحوادث من ... حظي وحل الزمان من عقدي أزور عني وكان ينظر من ... عيني ويرمي بساعدي ويدي حتى إذا استرفدت يدي يده ... كنت كمسترفد يد الأسد

وقال آخر: فيا عجبا لمن ربيت طفلا ... القمه بأطراف البنان أعلمه الرماية كل يوم ... فلما اشتد ساعده رماني أعلمه الفتوه كل حين ... فلما طر شاربه جفاني أعلمه الرواية كل وقت ... فلما صار شاعرها هجاني

محاسن الولايات

محاسن الولايات سئل عمار بن ياسر «1» رضي الله عنه عن الولاية فقال: هي حلوة الرضاع مرة الفطام. وذكروه أنه كان سبب عزل الحجاج بن يوسف عن المدينة، وقد وفد من أهل المدينة منهم عيسى بن طلحة بن عبيد الله على عبد الملك بن مروان، فأثنوا على الحجاج وعيسى ساكت، فلما قاموا ثبت عيسى حتى خلا له وجه عبد الملك فقام فجلس بين يديه فقال: يا أمير المؤمنين من أنا؟ قال: عيسى بن طلحة بن عبيد الله، قال: فمن أنت؟ قال: عبد الملك بن مروان. قال: أفجهلتنا أو تغيرت بعدنا؟ قال: وما ذاك؟ قال: وليت علينا الحجاج بن يوسف يسير بالباطل ويحملنا على أن نثني عليه بغير الحق والله لئن أعدته علينا لنعصيك ملكك، فقال له عبد الملك: انصرف والزم بيتك ولا تذكرن من هذا شيئاً، قال: فقام إلى منزله وأصبح الحجاج غادياً إلى عيسى بن طلحة فقال: جزاك الله عن خلوتك بأمير المؤمنين خيراً فقد أبدلني بكم خيراً وأبدلكم بي غيري وولاني العراق. وعن معمر بن وهيب قال: كان عبد الملك عند ما استعفى أهل العراق من الحجاج قال لهم: اختاروا أي هذين شئتم، يعني أخاه محمد بن مروان وابنه عبد الله بن عبد الملك- مكان الحجاج؟ فكتب إليه الحجاج: يا أمير المؤمنين، إن أهل العراق استعفوا عثمان بن عفان من سعيد بن العاص فلما عفاهم منه ساروا إليه من قابل وقتلوه، فقال: صدق ورب الكعبة، وكتب

إلى محمد وعبد الله بالسمع والطاعة له. وضده، كتب عبد الصمد بن المعذل إلى صديق له ولي النفاطات فأظهر تيهاً: لعمري لقد أظهرت تيهاً كأنما ... توليت للفضل بن مروان عكبرا دع الكبر واستبق التواضع إنه ... قبيح بوالي النفط أن يتغيرا لحفظ عيون النفط أحدثت نخوةً ... فكيف به لو كان مسكاً وعنبرا وقال ابن المعتز: كم ثائه بولاية ... وبعزله يعدو البريد سكر الولاية طيب ... وخماره صعب شديد وقال آخر: لا تفرحن فكل وال يعزل ... وكما عزلت فمن قريب تقتل وكذا الزمان بما يسرك تارةً ... وبما يسوءك تارةً يتنقل

محاسن الصحبة

محاسن الصحبة قيل: قال علقمة بن ليث لابنه: يا بني، إن نازعتك نفسك إلى الرجال يوماً لحاجتك إليهم فاصحب من أن صحبته زانك، وإن تخففت له صانك، وإن نزلت بك مؤونة مانك، وإن قلت صدق قولك، وإن صلت شدد صولك، اصحب من إذا مددت إليه يدك لفضل مدها، وإن رأى منك حسنة عدها، وإن بدت منك ثلة سدها، واصحب من لا تأتيك منه البوائق، ولا تختلف عليك منه الطرائف ولا يخذلك عند الحقائق، وقال آخر: أصحب من خولكم نفسه وملكك خدمته وتخيرك لزمانه، فقد وجب عليك حق وذمامه. وكان يقال: من قبل صلتك فقد باعك مروءته وأذل لقدرك عزه. وقال بعضهم لصاحبه: أنا أطوع لك من اليد وأذل من النعل. وقال بعضهم: إذا رأيت كلباً ترك صاحبه وتبعك فارجمه فإنه تاركك كما ترك صاحبه. وقال ابن أبي دؤاد «1» لرجل انقطع إلى محمد بن عبد الملك الزيات «2» : ما خبرك مع صاحبك؟ فقال: لا يقصر في الإحسان إلي، فقال: يا هذا إن لسان حالك يكذب لسان مقالك. وضده، قال: كان يوسف بن عمر الثقفي يتولى العراقين لهشام بن عبد الملك، وكان مدموما في عمله، فخبرني المدائني قال: وزن يوسف بن عمر درهماً فنقص حبة فكتب إلى دور الضرب بالعراق يضرب أهلها مائة.

قيل: وخطب في مسجد الكوفة فتكلم إنسان مجنون فقال: يا أهل الكوفة ألم أنهكم أن تدخلوا مساجدكم المجانين اضربوا عنقه فضربت عنقه. قال: وقال لهمام بن يحيى وكان عاملاً له: يا فاسق، خربت مهرجا نقذق قال: إني لم أكن عليها إنما كنت على ما دينار وعمرت البلاد فأعاد ذلك عليه مراراً، فقال همام: قد أخبرتك إني كنت على ماه دينار وتقول: ضربت مهرجاً نقذق فلم يزل يعذبه حتى مات. قال: وقال لكاتبه وقد احتبس عن ديوانه يوماً: ما حبسك؟ قال: اشتكيت ضرسي قال: تشكي ضرسك وتقعد عن الديوان ودعا الحجام وأمره أن يقلع ضرسين من أضراسه. وعن المدائني قال: حدثني رضيع كان ليوسف بن عمر من بني عبس قال: كنت لا أحجب عنه وعن خدمته فدعا ذات يوم بجوار له ثلاث ودعا بخصي له يقال له حديج فقرب إليه واحدة فقال لها: إني أريد الشخوص أفأخلفك أو أشخصك معي؟ فقالت: صحبة الأمير أحب إلي، ولكني أحسب أن مقامي وتخلفي أعفى وأخف على قلبه. فقال: أحببت التخلف للفجور يا حديج اضرب فضربها حتى أوجعها ثم أمره أن يأتيه بالثانية، وقد رأت ما لقيت صاحبتها فقال لها: إني أريد الشخوص أفأخلفك أم أخرجك؟ فقالت: ما أعدل بصحبة الأمير شيئاً بل تخرجني قال: أحببت الجماع، ما تريدين أن يفوتك ليلة يا حديج، اضرب فضربها حتى أوجعها، ثم أرمه أن يأتيه بالثالثة، وقد رأت ما لقيت، المتقدمتان، فقال لها: إني أريد الشخوص أفأخلفك أم أخرجك؟ قالت: الأمير أعلم لينظر أخف الأمرين عليه فليفعله. قال: اختياري لنفسك قالت: ما عندي اختيار فليختر الأمير. قال: قد فرغت من كل عمل فلم يبق لي إلا أن أختار لك أوجعها يا حديج، فضربها حتى أوجعها. قال الرجل: فكأنما أوجعني من شدة غيظه عليه، فولت الجارية فتبعها الخادم فلما بعدت قالت: الخيرة والله في فراقك ما تقرعني أحد بصحبتك فلم يفهم يوسف كلامها. فقال: ما تقول يا حديج؟ قال: قالت كذا وكذا. فقال: يا بن الخبيثة من أمرك أن تعلمني يا غلام، خذ السوط من يده فأوجع رأسه. فما زال يضربه حتى اشتفى، فتعرف من الغلام الآخر كم ضربت؟ قال: لا أدري. قال: عدو الله، أتخرج حاصلي من بيت مالي من غير حساب، اقتلوه، فقتلوه.

محاسن التطير

محاسن التطير عن عكرمة قال: كنا جلوساً عند ابن عباس وابن عمر فطار غراب يصيح، فقال رجل من القوم: خير خير، فقال ابن العباس: لا خير ولا شر، والذي حضرنا من العشر في مثله لأبي الشيص «1» : ما فرق الأحباب بع ... د الله إلا الإبل والناس يلحون غراب ... البين لما جهلوا وما على ظهر غرا ... ب البين تطوى الرحل ولا إذا صاح غرا ... ب في الديار ارتحلوا وما غراب البيين إ ... لا ناقة أو جمل وقال آخر: أترحل عمن أنت صب بمثله ... وتلحي غراب البين أنك تظلم أقم فغراب البين غير مفرّق ... ولا بأتي إلا على الفصل يحكم وقال آخر: غلط الذين رأيتهم بجهالة ... يلحون كلهم غراباً ينعق ما الذنب إلا للجمال فإنها ... مما يشتت شملهم ويفرق إن الغراب بيمنه يدنى النوى ... وتشتت الشمل الجميع الأنيق

وقال آخر: لا يعلم المرء ليلا ما يصبحه ... إلا كواذب مما يخبر الفال والفال والزجر والكهان كلهم ... مضللون ودون الغيب أقفال وضده، حكي عن النعمان بن المنذر أنه خرج متصيداً ومعه عدي بن زيد العبادي «1» فمر بآرام- وهي القبور- فقال عدي: أبيت اللعن، أتدري ما تقول هذه الآرام؟ فقال: لا قال: إنها تقول: أيها الركب المخفون ... على الأرض تمرون لكما كنتم فكنا ... وكما كنا تكونون فقال: أعد فأعادها فترك صيده ورجع كئيباً، وخرج معه مرة أخرى فوقف على آرام بظهر الحيرة، فقال عدي: أبيت اللعن، أتدري ما تقول هذه الآرام قال: لا، قال: إنها تقول: رب ركب قد أناخوا عندنا ... يشربون الخمر بالماء الزلال ثم أضحوا عصف الدهر بهم ... وكذاك الدهر حالا بعد حال فانصرف وترك صيده. قال: ولما خرج خالد بن الوليد إلى أهل الردة انتهى إلى حي من تغلب فأغار عليهم وقتلهم، وكان رجل منهم جالساً على شراب له وهو يغني بهذا البيت: ألا عللاني قبل جيش أبي بكر ... لعل منايانا قريب وما ندري فوقف عليه رجل من أصحاب خالد فضرب عنقه، فإذا رأسه في الجفنة التي كان يشرب منها. وهذا كقولهم: إن البلاء موكل بالمنطق

محاسن الوفاء

محاسن الوفاء قيل في المثل: أوفى من مكيهة وهي امرأة من بني قيس بن ثعلبة، كان من وفائها أن السليك بن سلكة عزا بكر بن وائل، فلم يجد غفلة يلتمسها، فخرج جماعة من بكر فوجدوا أثر قدم على الماء فقالوا: إن هذا الأثر قدم ورد الماء، فقصدوا له، فلما وافى حملوا عليه فعدا حتى ولج قبة فكيهة فاستجار بها، فأدخلته تحت درعها فانتزعوا ضمارها فنادت إخوتها فجاءوا عشرة، فمنعوهم منها. قال: وكان سليك يقول: كأني أجد خشونة شعر استها على ظهري حين أدخلتني تحت درعها: وقال: لعمر أبيك وابناء تنمي ... لينقم الجار أخت بني عوارا من الخفرات لم تفضح أخاها ... ولم ترفع لوالدها شنارا عنيت به فكيهة حين قامت ... لدخل السيف فانتزعوا الخمارا ويقال أيضاً: هو أوفى من أم جميل، وهي من رهط ابن أبي بردة من دوس، وكان من وفائها أن هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي قتل رجلاً من الأزد فبلغ ذلك قومه بالسراة فوثبوا على ضرار بن الخطاب الفهري ليقتلوه فعدا حتى دخل بيت أم جميل وعاذ بها، فقامت في وجوههم ودعت قومها فمنعوه لها فلما ولي عمر بن الخطاب ظنت أنه أخوه فأتته بالمدينة، فلما انتسبت له عرف القصة فقال: إني لست بأخيه إلا في الإسلام وهو غاز وقد عرفنا منتك عليه وأعطاها على أنها ابنة سبيل. ويقال: أوفى من السموأل بن عاديا» ، وكان من وفائه أن امرأ القيس بن حجر لما أراد الخروج إلى قيصر

استودع السموأل دروعا له فلما مات امرؤ القيس غزاه ملك من ملوك الشام فتحرز منه السموأل فأخذ الملك ابناً له خارج الحصن وصاح، يا سموأل هذا ابنك في يدي وقد علمت أن امرأ القيس ابن عمي وأنا أحق بميراثه، فإن دفعت إلي الدروع وإلا ذبحت ابنك. فقال: أجلني فأجله، فجمع أهل بيته فشاورهم فكلهم أشاروا بدفع الدروع وأن يستنقذ ابنه، فلما أصبح أشرف عليه وقال: ليس لي إلى دفع الدروع سبيل فاصنع ما أنت صانع فذبح الملك ابنه وهو ينظر إليه وكان يهوديا، وانصرف الملك ووافى السموأل بالدروع في الموسم فدفعها إلى ورثة أمرىء القيس: وقال في ذلك: وفيت بأدرع الكندي إني ... إذا ما خان أقوام وفيت وقالوا عنده كنز رهيب ... فلا وأبيك أغدر ما مشيت بنى لي عادياً حصناً حصيناً ... وبئراً كلما شئت استقيت وفي ذلك يقول الأعشى: كن كالسموأل إذ طاف الهمام به ... في جحفل كسواد الليل جرار بالأبلق الفرد من تيماء منزله ... حصن حصين وجار غير غدار خبره خطتي خسف فقال له ... مهما تقول فإني سامع حار فقال ثكل وغدر أنت بينهما ... فاختر فما فيهما حظ لمختار فشك غير طويل ثم قال له ... اقتل أسيرك إني مانع جاري ويقال: أوفى من الحارث بن عباد، وكان من وفائه أنه أسر عدي بن ربيعة ولم يعرفه، فقال له: دلني على عدي بن ربيعة ولك الأمان، فقال: أنا آمن أن دللتك عليه، قال: نعم. قال: فأنا عدي بن ربيعة فخلاه وفي ذلك يقول الشاعر: لهف نفسي على عدي وقد شا ... رفه الموت واجتوته المنون ويقال: هو أوفى من عوف بن محلم، وكان من وفائه أن مروان القرظ عزا بكر بن وائل ففضوا جيشه وأسره رجل منهم وهو لا يعرفه فأتى به

أمه فقالت: إنك تختال بأسيرك كأنك جئت بمروان القرظ فقال لها مروان: وما ترجين من مروان؟ قالت: عظم فدائه. قال: وكم ترجين من فدائه؟ قالت: مائة بعير. قال مروان: لك ذلك على أن ترديني إلى خماعة بنت عوف بن محلم، قالت: ومن لي بالمائة فأخذ عوداً من الأرض وقال: هذا لك، فمضت به إلى عوف فاستجار بخماعة ابنته فبعثت به إلى عوف، ثم إن عمرو بن هند بعث إلى عوف أن يأتيه بمروان، وكان واجداً عليه في شيء، فقال عوف لرسوله: إن خماعة ابنتي قد أجارته، فقال: إن الملك قد آلى أن يعفو عنه أو يضع كفه في كفه، فقال عوف: يفضل ذلك على أن تكون كفي بين أيديهما، فأجابه عمرو إلى ذلك، فجاء عوف بمروان فأدخله عليه فوضع يده في يده ووضع يده بين أيديهما فعفا عنه. ومنهم الطائي صاحب النعمان بن المنذر، وكان من وفائه أن النعمان ركب في يوم بؤسه، وكان له يومان يوم بؤس ويوم نعيم لم يلقه أحد في يوم بؤسه إلا قتله ولا في يوم نعيمه إلا أحياه وحباه وأعطاه، فاستقبله في يوم بؤسه أعرابي من طيء، فقال: حيا الله الملك، لي صبية وصغار لم أوص بهم أحداً فإن رأى الملك أن يأذن لي في إتيانهم وأعطيه عهد الله أن أرجع إليه إذا أوصيت بهم حتى أضع يدي بين يديه، فرق له النعمان وقال له: لا إلا أن يضمنك رجل ممن معنا فإن لم تأت قتلناه، وكان مع النعمان شريك بن عمرو بن شراحبيل فنظر إليه الطائي وقال: يا شريك ابن عمرو ... هل من الموت محاله يا أخا كل مضاف ... يا أخا من لا أخاله يا أخا النعمان فك ... اليوم عن شيخ غلاله ابن شيبان قتيل ... أصلح الله فعاله فقال شريك: هو علي أصلح الله الملك، فمضى الطائي وأجل له أجلاً يأتي فيه، فلما كان ذلك اليوم أحضر النعمان شريكاً وجعل يقول له: إن صدر هذا اليوم قد ولي وشريك يقول: ليس لك علي سبيل حتى نمسي فلما أمسوا أقبل شخص والنعمان ينظر إلى شريك فقال شريك: ليس لك

علي سبيل حتى يدنو الشخص فلعله صاحبي، فبينما هما كذلك أقبل الطائي فقال النعمان: والله ما رأيت أكرم منكما وما أدري أيكما أكرم أهذا الذي ضمنك وهو الموت أم أنت وقد رجعت إلى القتل؟ والله لا أكون الأم الثلاثة، فأطلقه وأمر برفع يوم بؤسه. وأنشد الطائي: ولقد دعتني للخلاف عشيرتي ... فأبيت عند تجهم الأقوال إني امرؤ مني الوفاء سجية ... وفعال كل مهذب بذال فقال النعمان: ما حملك على الوفاء؟ قال: ديني. قال: وما دينك؟ قال: النصرانية. قال: أعرضها علي، فعرضها عليه، فتنصر النعمان «1» . وضده، قيل: كتب صاحب بريد همذان إلى المأمون وهو بخراسان يعلمه إن كاتب صاحب البريد المعزول أخبره أن صاحبه وصاحب الخراج كانا تواطأ اعلى إخراج مائتي ألف درهم من بيت المال واقتسماها بينهما، فوضع المأمون، إنا ترى قبول السعاية شراً من السعاية لأن السعاية دلالة والقبول إجارة وليس من دل على شيء كمن قبله وأجازه، فأنف الساعي عند ذلك وقال: يا أمير المؤمنين رضي الله عنك. المعذرة فإن الساعي وإن كان في سعايته صادقا لقد كان في صدقه لئيماً إذ لم يحفظ الحرمة ولم يف لصاحبه. قال: ودخل رجل على سليمان بن عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين، عندي نصيحة. قال: وما نصيحتك هذه؟ قال: فلان كان عاملاً ليزيد بن معاوية وعبد الملك والوليد، فخانهم فيما تولاه ثم اقتطع اموالا كثيرة جليلة فمر باستخراجها منه. قال: أنت شر منه وأخون حيث أطلقت على أمره وأظهرته ولولا أني أنفر النصاح لعاقبتك، ولكن اختر مني خصلة من ثلاث. قال: أعرضهن يا أمير المؤمنين. قال: إن شئت فتشنا عما ذكرت، فإن كنت صادقاً مقتناك، وإن كنت كاذباً عاقبناك وإن استقلت أقلناك، فاستقاله الرجل.

محاسن السخاء

محاسن السخاء روي عن نافع قال: لقي يحيى بن زكريا عليه السلام إبليس لعنه الله فقال: أخبرني بأحب الناس إليك وأبغضهم إليك. قال: أحبهم إلي كل مؤمن بخيل وأبغضهم إلي كل منافق سخي. قال: ولم ذاك؟ قال: لأن السخاء خلق الله الأعظم فأخشى أن يطلع عليه في بعض سخائه فيغفر له. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «السخي قريب من الله قريب من الناس بعيد من النار والبخيل بعيد من الله من الجنة قريب من النار، والجاهل السخي أحب إلى الله عز وجل من عابد بخيل، وأدوأ الداء البخل» . وقال صلى الله عليه وسلم: «ما أشرقت شمس إلا ومعها ملكان يناديان يسمعان الخلائق غير الجن والأنس وهما الثقلان: اللهم عجل المنفق خلفا والممسك تلفاز والملكان يناديان: أيها الناس هلموا إلى ربكم فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى» . وعن الشعبي قال: قالت أم البنين ابنة عبد العزيز أخت عمر بن عبد العزيز وكانت تحب الوليد بن عبد الملك: لو كان البخل قميصاً ما لبسته أو طريقاً ما سلكتها، وكانت تعتق كل يوم رقبة، وتحمل على قريش في سبيل الله وكانت تقول: البخل كل البخل من بخل على نفسه بالجنة. وقيل اعتقت هند بنت عبد المطلب في يوم واحد أربعين رقبة. وقال بعض الحكماء: ثواب الجود خلف ومحبة ومكافأة، وثواب البخل حرمان وإتلاف ومذمة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: «يا علي، كن شجاعاً فإن الله يحب الشجاع، وكن سخياً فإن الله يحب السخي وكن غيوراً فإن الله يحب الغيور. يا علي: وإن إنسان سألك الحاجة ليس لها بأهل فكن أنت أهلاً لها» . وقال الني صلى الله عليه وسلم: «السخاء شجرة في الجنة من

أخذ منها بغصن مد به إلى الجنة» . وقال عبد العزيز بن مروان: لو لم يدخل على البخلاء في لؤمهم إلا سوء ظنهم بالله عز وجل لكان عظيماً. وقال صلى الله عليه وسلم: «تجافوا عن ذنب السخي فإن الله آخذ بيده كلما عثر» . وقال بهرام جور: من أحب أن يعرف فضل الجود على سائر الأشياء فلينظر إلى ما جاد الله به على الخلق من المواهب الجليلة والرغائب النفيسة والنسيم والريح كما وعدهم الله بالجنان فإنه لولا رضاه الجود لم يصطفه لنفسه. وقال الموبذان لأبرويز: أكنتم تمنون أنتم وآباؤكم بالمعروف وتترصدون عليه بالمكافأة؟ قال: لا، ولا نستحسن ذلك لخولنا وعبيدنا فكيف نرى ذلك وفي كتاب ديننا من فعل معروفاً خفياً وأظهره ليتطول به على المنعم عليه فقد نبذ الدين وراء ظهره واستوجب أن لا نعده من الأبرار ولا نذكره في الأتقياء والصالحين؟ قيل: وسئل الإسكندر: ما أكبر ما شيدت به ملكك؟ قال: ابتداري إلى اصطناع الرجال والإحسان إليهم. قال: وكتب ارسطاطاليس في رسالته إلى الإسكندر: وأعلم أن الأيام تأتي على كل شيء فتخلقه وتخلق آثاره وتميت الأفعال إلا ما رسخ في قلوب الناس. فأودع قلوبهم محبة آبدة «1» تبقي بها حسن ذكرك وكريم فعالك وشرف آثارك. قال: ولما قدم بزرجمهر إلى القتل قيل له: إنك في آخر وقت من أوقات الدنيا وأول وقت من أوقات الآخر فتكلم بكلام تذكر به. فقال: أي شيء أقول؟ الكلام كثير ولكن إن أمكنك أن يكون حديثاً حسناً فافعل. قيل: وتنازع رجلان أحدهما من أبناء العجم والآخر إعرابي من الضيافة. فقال الإعرابي: نحن أقرى للضيف. قال: وكيف ذلك؟ قال: لأن أحدنا ربما لا يملك إلا بعيراً فإذا حل به ضيف نحره له، فقال له الأعجمي: فنحن أحسن مذهبا في القرى منكم، قال: وما ذاك؟ قال: نحن نسمي الضيف مهمان ومعناه أنه أكبر من في المنزل وأملكنا به، وقال بعض الحكماء: بلغ الجود من قام بالمجهود. وقيل الجواد من لم يضن

بالموجود. وقال المأمون: الجود بذل الموجود والبخل سوء الظن بالمعبود. قيل وشكا رجل إلى إياس بن معاوية كثرة ما يهب ويصل الناس وينفق. قال: إن النفقة داعية الرزق وكان جالساً على باب فقال للرجل: أغلق هذا الباب فأغلقه. فقال: هل تدخل فيه الريح؟ قال: لا. قال: فافتحه، ففتحه فجعلت الريح تخترق في البيت، فقال: هكذا الرزق أغلقت فلم تدخل الريح فكذلك إذا أمسكت لم يأتك الرزق. قيل: ووصل المأمون محمد بن عباد المهلبي بمائة ألف دينار ففرقها على إخوانه فبلغ ذلك المأمون. فقال: يا أبا عبد الله إن بيوت الأموال لا تقوم بهذا. فقال: يا أمير المؤمنين البخل بالموجود سوء الظن بالمعبود. وعن أمية بن يزيد الأموي قال: كنا عند عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية فجاءه رجل من أهل بيته فسأله المعونة على تزويج، فقال له قولاً ضعيفاً فيه رعد وقلة أطماع. فلما قام من عنده ومضى دعا صاحب خزانته فقال: أعطه أربعمائة دينار فاستكثرناها وقلنا: كنت رددت عليه رداً ظننا إنك تعطيه شيئاً قليلاً فإذا أنت أعطيته أكثر مما آمل، فقال: إني أحب أن يكون فعلي أحسن من قولي. وبحاتم يضرب المثل والسخاء، فحدثنا عن بعض حالات حاتم. قيل: كان حاتم جواداً شاعراً وكان حيثما نزل عرف منزله وكان ظفراً إذا قاتل غلب وإذا غنم نهب وإذا سئل وهب وإذا شرب بالقداح سبق وإذا أسر أطلق، وكان أقسم أن لا يقتل واحداً، قيل: ولما بلغ حاتماً قول المتلمس الضبعي: قليل المال تصلحه فيبقى ... ولا يبقى الكثير مع الفساد وحفظ المال أيسر من بقاء ... وضرب في البلاد بغير زاد فقال: ما له قطع الله لسانه، يحرض الناس على البخل أفلا قال: فلا الجود يفني المال قبل فنائه ... ولا البخل في مال الشحيح يزيد فلا تلتمس رزقا بعيش مقتر ... لكل غد رزق يعود جديد ألم تر أن الرزق غاد ورائح ... وأن الذي أعطاك سوف يعيد

قال: ونزل على حاتم ضيف ولم يحضره القرى فنحر ناقة الضيف وعشاه وغداه وقال: إنك قد أقرضتني ناقتك فاحتكم علي. قال: راحلتين. قال: لك عشرون أرضيت؟ قال: نعم وفوق الرضى. قال: إلى أربعون. ثم قال لمن بحضرته من قومه: من أتانا بناقة فله ناقتان بعد المائة، فأتوا بأربعين فدفعها إلى الضيف. وحكوا عن حاتم أنه خرج في الشهر الحرام يطلب حاجة فلما كان بأرض عنزة ناداه أسير فيهم. يا أبا سفانة قد أكلني الأسار والقمل. قال: والله ما أنا في بلادي ولا معي شيء وقد أسأت إلى أن نوهت باسمي فذهب إلى العنزيين فساومهم فيه واشتراه منهم وقال: خلوا عنه وأنا أقيم مكانه في قيده حتى أؤدي قراه، ففعلوا فأتاهم بغداء. قيل: ولما مات حاتم خرج رجل من بني أسد يعرف بأبي الخيبري في نفر من قومه وذلك قبل أن يعلم كثير من العرب بموته فأناخوا بقبره فقال: والله لأحلفن للعرب أنني نزلت بحاتم وسألته القرى فلم يفعل وجعل يضرب القبر برجله ويقول: عجل أبا سفانة قراكا ... فسوف أنبي سائلي ثناكا فقال بعضهم: ما لك تنادي رمة باتوا مكانهم فقام صاحب القول من نومه مذعوراً فقال: يا قوم عليكم مطاياكم فإن حاتماً أتاني فأنشدني: أبا الخيبري وأنت امرؤ ... ظلوم العشرة شتامها فماذا أردت إلى رمة ... بدؤيّة صخبت هامها تبغي أذاها وإعسارها ... وحولك طيّ وإنعامها وإنا لننعم أضيافنا ... من الكوم بالسيف نعتامها وقيل في المثل: هو أجود من كعب بن إمامة وكان من إياد وبلغ من جوده أنه خرج في ركب فيهم رجل من بني النمر بن قاسط في شهر ناجر

وألجأهم العطش فظلوا فتصافتوا ماءهم فجعل النميري يشرب نصيبه فإذا أراد كعب أن يشرب نصيبه قال: آثر أخاك النمري فيؤثره حتى أضر به العطش فلما رأى ذلك استحث ناقته وبادر حتى رفعت أعلام الماء وقيل له: رد كعب فإنك وارد فمات قبل أن يرد ونجا رفيقه. ومن قول أبي تمام: هو البحر من أي النواحي أتيته ... فلجته المعروف والجود ساحله كريم إذا ما جئت للعرف طالباً ... حباك بما تحوي عليه أنامله فلو لم يكن في كفه غير نفسه ... لجاد بها فلتّق الله سائله وللبحتري: لو أن كفك لم تجد لمؤمل ... لكفاه عاجل وجهك المتهلل ولو أن مجدك لم يكن متقادماً ... أغناك آخر سؤدد عن أول ولبكر بن النطاح في أبي دلف: بطل بصدر حسامه وسنانه ... أجلان من صدر ومن أبراد ورث المكارم وابتناها قاسم ... بصفائح واسنة وجياد يا عصمة العرب التي لو لم تكن ... حياً إذا كانت بغير عماد إن العيون إذا رأتك بعزمه ... فتحت منه مواضع الأسداد وكأن رمحك منقع في عصفر ... وكان سيفك سل من فرصاد «1» لو صال من غضب أبو دلف على ... بيض السيوف لذبن في الأغماد أورى ونور للعداوة والهوى ... نارين: نار دم ونار زناد قال أبو هفان «2» : انتشرت هذه الأبيات [حتى انتهت إلى] عبد العزيز بن أبي دلف بسر من رأى فقال: هل سمعت بمثل هذه الأبيات؟ قلت: لا،

قال: ولغيره في أبي دلف: ولو يجوز لقال الناس كلهم ... لولا أبو دلف ما أورق الشجر قال ابن يحيى النديم: دعاني المتوكل ذات يوم وهو مخمور فقال: أنشدني قول عمارة في أهل بغداد فأنشدته: ومن يشتري مني ملوك مخرم ... أبع حسناً وابني هشام بدرهم وأعطي رجاءً بعد ذاك زيادة ... وأمنح ديناراً بغير قتوم فإن طلبوا مني الزيادة زدتهم ... أبا دلف والمستطيل بن أكثم فقال المتوكل: ويلي على ابن البوال على عقبيه يهجو شقيقه دولة العباس قال: فهل عندك من أعدم في أبي دلف القاسم بن عيسى «1» شيء؟ قلت: يا أمير المؤمنين قول الإعرابي الذي يقول فيه: أبا دلف إن السماحة لم تزل ... مغللة تشكو إلى الله غلها فبشرها ربي بميلاد قاسم ... فأرسل جبريلاً إليها فحلها وقال غيره: حر إذا جئته يوماً لتسأله ... أعطاك ما ملكت كفاه واعتذرا يخفي صنائعه والله يظهرها ... إن الجميل إذا أخفيته ظهرا وقال آخر: فتى عاهد الرحمن فابذل ماله ... فليس تراه الدهر إلا على العهد فتى قصرت آماله عن فعاله ... وليس على الحر الكريم سوى الجهل وقال آخر: إذا ما أتاه السائلون توقدت ... عليه مصابيح الطلاقة والبشر

له من ذرى المعروف نعمى كأنها ... مواقع ماء المزن في البلد القفر وقال آخر: عاد السرور إليك في الأعياد ... وسعدت من دنياك بالإسعاد رفقا بعبد جل ما أوليته ... رفقا فقد أثقلته بأيادي ملأ النفوس مهابة ومحبة ... بدر بدا متعمّرا بسواد ما أن أرى لك مشبهاً فيمن أرى ... إن الكرام قليلة الأنداد وقال في ابن أبي دؤاد: بدا حين أثرى بإخوانه ... فقلل عنهم شبات «1» العدم وحذره الحزم صرف الزمان ... فبادر قبل انتقال النعم فليس وإن نجل البا ... خلون يقرع سناً له من ندم ولا ينكث الأرض عند السؤال ... ليمنع سؤاله عن نعم ويروي في الحديث: إنه لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد صالح أبداً. ويقولون: الشحيح أغدر من الظالم أقسم الله بعزته لا يساكنه بخيل في جنته. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من فتح له باب من الخير فلينتهزه فإنه لا يدري متى يغلق عنه» . وقال الشاعر في ذلك: ليس في كل ساعة وأوان ... نتيها صنائع الإحسان فإذا أمكنت تقدمت فيها ... حذراً من تعذر الإمكان وذكر عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، إن أمير المؤمنين علياً صلوات الله عليه بعثه إلى حكيم بن حزام بن خويلد يسأله مالاً، فانطلق به إلى منزله، فوجد في الطريق صوفاً، فأخذه ومر بقطعة كساء فأخذها، فلما صار إلى المنزل أعطاه طرف الصوف فجعل يفتله حتى صيره خيطاً، ثم دعا بغرارة مخرقة فرقعها بالكساء وخيطها بالخيط وصر فيها ثلاثين ألف درهم

فحملت معه. قال: وأتى قوم قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري رحمه الله يسألونه في حمالة فصادفوه في حائط له يتتبع ما يسقط من الثمر فيعزل جيده ورديئه على حدة فهموا بأن يرجعوا عنه وقالوا ما نظن خيراً. ثم كلموه فأعطاهم، فقال رجل من القوم: لقد رأيناك تصنع شيئاً لا يشبه فعالك. فقال: وما ذاك؟ فأخبروه. فقال: إن الذي رأيتم يؤول إلى اجتماع ما ينفع وينمو، ومنها قيل: الذود إلى الذود إبل. وأنشدوا: أب كبير هامه صغير ... وفي البحور تغرق البحور وقال آخر: قد يلحق الصغير الجليل ... وإنما القرم من الأفيل «1» وسحق النخل من الغسل قال: وأتى رجل ابن طلحة بن عبيد الله فسأله حمالة فرآه يهنأ بعيراً له فقال: يا غلام أخرج إليه بدرة. فقبضها وقال: أردت أن أتصرف حين رأيتك تهنأ بالبعير فقال: إنا لا نضيع الصغير ولا يتعاظمنا الكبير.

مساوىء البخل

مساوىء البخل المثل السائر في البخل: هو أبخل من مادر، وهو رجل من بني هلال بن عامر بلغ من بخله أنه يسقي إبله فبقي في أسفل الحوض ماء قليل فسلح فيه ومدر الحوض به فسمي مادراً. وذكروا أن بني هلال وبني فزارة تنافروا إلى أنس بن مدرك وتراضوا به، فقالت بنو فزارة: لم نعرفه، وكان سبب ذلك أن ثلاثة اصطحبوا: فزاري، وثعلبي، وكلابي، فصادفوا حمار وحش، ومضى الفزاري في بعض حوائجه فطبخا وأكلا وخبأ اللفزاري أير الحمار فلما رجع قالا: قد خبأنا لك حقك فكل، فأقبل يأكل ولا يسيغه فجعلا يضحكان: ففطن وأخذ السيف وقام إليهما وقال: لتأكلا منه أو لأقتلكما، فامتنعا فضرب أحدهما فقتله وتناوله الآخر فأكل منه، فقال الشاعر: نشدتك يا فزار وأنت شيخ ... إذا خيّرت تخطيء في الخيار أصيحانية أدمت بسمن ... أحب إليك أم أير الحمار بلى أير الحمار وخصيتاه ... أحب إلى فزارة من فزاري فقالت بنو فزارة: منكم يا بني هلال من سقى إبله فلما رويت سلح في الحوض ومدره بخلاً فنفرهم أنس بن مدرك على الهلاليين فأخذ الفزاريون منهم مائة بعير وكانوا تراهنوا عليها، وفي بني هلال يقول الشاعر: ولكن يرى مشرقاً وجهه ... ليرغم في حاله من رغم لقد جللت خزياً هلال بن عامر ... بني عامر طرا بسلحة مادر فأف لكم لا تذكروا الفخر بعدها ... بني عامر أنتم شرار العشائر

وفي المثل: هو أبخل من أبي حباحب، وهو رجل في الجاهلية من بخله أنه كان يسرج السراج، فإذا أراد أحد أن يأخذه منه أطفأه، فضرب به المثل. ومنهم صاحب نجيح بن سلكة اليربوعي، فإنه ذكر أن نجيحاً اليربوعي خرج يوماً يتصيد، فعرض له حمار وحش فاتبعه حتى دفع إلى أكمة، فإذا هو برجل أعمى أسود قاعد في أطمار، بين يديه ذهب وفضة ودر وياقوت، فدنا منه فتناول بعضها ولم يستطع أن يحرك يده حتى ألقاه، فقال: يا هذا، ما هذا الذي بين يديك؟ وكيف يستطاع أخذه؟ وهل هو لك أم لغيرك؟ فإني أعجب مما أرى أجواد أنت فتجود لنا أم بخيل فأعذرك؟ فقال الأعمى: أطلب رجلاً فقد منذ سنين وهو سعد ابن خشرم بن شماس فأتني به نعطك ما تشاء، فانطلق نجيع مسرعاً قد استطير فؤاده حتى وصل إلى قومه ودخل خباءه ووضع رأسه فنام لما به من الغم لا يدري من سعد بن خشرم، فأتاه آت في منامه فقال له: يا نجيح إن سعد بن خشرم في حي بني محلم من ولد ذهل بن شيبان، فسأله عن بني محلم ثم سأل عن خشرم بن شماس فإذا هو بشيخ قاعد على باب خبائه فحياه نجيح، فرد عليه السلام، فقال له نجيح: من أنت؟ قال: أنا خشرم بن شماس. قال له: فأين ولدك سعد؟ قال خرج في طلب نجيح اليربوعي وذلك أن آتياً أتاه في منامه فحدثه أن مالاً له في نواحي بني يربوع لا يعلم به إلا نجيح اليربوعي، فضرب نجيح فرسه ومضى وهو يقول: أيطلبني من قد عناني طلابه ... فياليتني ألقاك سعد بن خشرم أتيت بني يربوع تبغي لقاءنا ... وجئت لكي ألقاك، حي محلم فلما دنا من محلته استقبله سعد فقال له نجيح: أيها الراكب هل لقيت سعداً في بني يربوع؟ قال: أنا سعد فهل تدل على نجيح؟ قال: أنا نجيح. وحدثه بالحديث فقال: الدال على الخير كفاعله- وهو أول من قالها- فانطلقا حتى أتيا ذلك المكان فتوارى الرجل الأعمى عنهما وترك المال فأخذه سعد كله، فقال نجيح: يا سعد قاسمني، فقال له اطوعني وعن مالي

كشحا. وأبى أن يعطيه شيئاً فانتضى نجيح سيفاً، فجعل يضربه حتى برد فلما وقع قتيلاً تحول الرجل الحافظ للمال سعلاة، فأسرع في أكل سعد وعاد المال إلى مكانه فلما رأى نجيح ذلك ولى هارباً إلى قومه. قيل: وكان أبو عبس بخيلاً وكان إذا وضع الدرهم في يده نقره بإصبعه ثم يقول: كم من مدينة قد دخلتها، ويد قد وقعت فيها الآن، الآن استقر بك القرار واطمأنت بك الدار، ثم يرمي به في صندوقه فيكون آخر العهد به. قيل: ونظر سليمان بن مزاحم إلى درهم فقال في شق: لا إله إلا الله، وفي شق: محمد رسول الله، ما ينبغي أن تكون إلا معاذة، وقذفه في صندوقه. وذكروا أنه كان بالري عامل على الخراج يقال له المسيب فأتاه شاعر يمتدحه فلم يعطه شيئاً ثم سعل سعلة فضرط، فقال الشاعر: أتيت المسيب في حاجة ... فما زال يسعل حتى ضرط فقال: غلطنا حساب الخراج ... فقلت من الضرط جاء الغلط فما زالوا يقولون ذلك حتى هرب منها من غير عزل. قال: وكتب ارسطاطاليس «1» إلى رجل بشيء فلم يفعل فكتب إليه: إن كنت أردت فلم تقدر فمعذور، وإن كنت قدرت ولم ترد، فسيأتيك يوم تريد فيه فلا تقدر. قال: وسمع أبو الأسود الدؤلي رجلاً يقول: من يعشي الجائع؟ فعشاه ثم قام الرجل ليخرج فقال: هيهات تخرج فتؤذي الناس كما آذيتني، ووضع رجله في الأدهم حتى أصبح. قال: وكان رجل يأتي ابن المقفع فيلح عليه ويسأله أن يتغدى عنده ويقول: لعلك تظن أني أتكلف لك شيئاً والله لا أقدم لك إلا ما عندي، فلما أتاه لم يجد في بيته إلّا سكرا يابسة وملح جريش. وجاء سائل إلى الباب فقال له: وسع الله

عليك، فلم يذهب فقال: والله لئن خرجت إليك لادقن رأسك، فقال ابن المقفع للسائل: ويحك لو عرفت من صدق وعيده ما أعرف من صدق وعده لم تزد كلمة ولم تقم طرفة عين! قال: وكتب إبراهيم بن سيابة إلى صديق له كثير المال يستسلفه، فكتب إليه: العيال كثير والدخل قليل والمال مكذوب عليه. فكتب إليه: إن كنت كاذباً فجعلك الله صادقاً، وإن كنت صادقاً فجعلك الله معذوراً. وكتب آخر إلى آخر يصف رجلاً: أما بعد فإنك كتبت تسأل عن فلان كأنك هممت به أو حدثتك نفسك بالقدوم إليه فلا تفعل. فإن حسن الظن به لا يقع في الوهم إلا بخذلان الله، والطمع فيما عنده لا يخطر على القلب إلا بسوء التوكل على الله، والرجاء فيما في يده لا ينبغي إلا بعد اليأس من رحمة الله. إنه يرى الإيثار الذي يرضى به التبذير الذي يعاقب عليه والاقتصاد الذي أمر به الإسراف الذي يعاقب عليه، وإن بني إسرائيل لم يستبدلوا العدس والبصل بالمن والسلوى إلا لفضل أخلاقهم وقديم علمهم، وأن الصنيعة مرفوعة والصلة موضوعة، والهبة مكروهة، والصدقة منحوسة، والتوسع ضلالة، والجود فسوق، والسخاء من همزات الشياطين. وإن مواساة الرجال من الذنوب الموبقة والأفضال عليهم من إحدى الكبائر. وأيم الله إن المرء في خصاصة نفسه ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ومن آثر على نفسه فقد ضل ضلالاً بعيداً كأنه لم يسمع بالمعروف إلا في الجاهلية، الذي قطع الله أدبارهم ونهى المسلمين عن إتباع آثارهم وإن الرجفة لم تأخير أهل مدين إلا لسخاء كان فيهم ولا أهلكت الريح عاداً إلا لتوسع كان منهم فهو يخشى العقاب على الإنفاق ويرجو الثواب على الإقتار ويعد نفسه خاسراً أو يعدها الفقر ويأمرها بالبخل خيفة أن تمر به قوارع الدهر وأن يصيبه ما أصاب القرون الأولى، فأقم رحمك الله مكانك واصطبر على عسرك عسى الله أن يبدلنا وإياك خيراً منه زكاة وأقرب رحماً. ولبعض الكتاب: أما بعد فإن كثير المواعيد من غير نجح عار على المطلوب إليه وقلتها مع نجح الحاجة مكرمة من صاحبها، وقد رددتنا في حاجتنا هذه في كثرة مواعيدك من غير نجح لها حتى كأنا قد رضينا بالتعلل لها دون النجاح كقول القائل:

لا تجعلنا ككمون بمزرعة ... إن فاته الماء أروته المواعيد وكتب آخر: ما رأيت طيب قولك أسره سوء فعلك ولا مثل بسط وجهك خالفه طول تنكيدك ولا مثل قرب عدتك باعدها إفراط مطلك ولا مثل أنس مذاهبك أوحش منه اختيار عواقبك حتى كأن الدهر أودعك لطيف الحيلة بالمكر بأهل الحلة، وكأن زينك فيه بالخديعة لتدرك منهم فرصة الهلكة. وقد قيل: وعد الكريم نقد وتعجيل، ووعد اللئيم مطل وتأجيل. وقال بعضهم: وعدتنا مواعيد عرقوب ومطلتنا مطل نعاس الكلب، وغررتنا غرور السراب، ومنيتنا أماني الكمون. ولبعضهم: أما بعد فلا تدعني مقلقا بوعدك بالعذر الجميل أحسن من الطل الطويل، فإن كنت تريد الأنعام وإن تعذرت الحاجة فأوضح، وأعلمني ذلك لأصرف وجه الطلب إلى غيرك. وذكروا أن فتى من مراد كان يختلف إلى عمرو بن العاص فقال له ذات يوم: إنك امرأة؟ قال: لا. قال: فتزوج وعلي المهر، فرجع إلى أمه فأخبرها الخبر فقالت: إذا حدثتك النفس إنك قادر ... على ما حوت أيدي الرجال فكذب فتزوج وأتى عمرو بن العاص فاعتل عليه «1» ولم ينجز وعده فشكا ذلك إلى أمه فقالت لا تغضبنّ على امرىء في ماله ... وعلى كرائم حر مالك فاغضب ووصف إعرابي رجلاً فقال له: بشر مطمع ومطل مؤيس، وكنت منه أبداً بين الطمع واليأس لا بذل سريح ولا مطل مريح، وقال إعرابي: أنا من فلان في أماني تهبط العصم وخلف يذكر العدم ولست بالحريض الذي إذا وعده الكذوب علق نفسه لديه واتعب راحته إليه، وذكر إعرابي رجلاً فقال له: مواعيد عواقبها المطل وثمارها الخلف ومحصولها اليأس، ويقال: سرعة اليأس أحد النجحين، وقال بعضهم: مواعيد فلان مواعيد عرقوب، ولمع الآل، وبرق الخلب، وأماني الكمون، ونار الحباحب، وصلف تحت الراعدة، ومما قيل في ذلك:

أروح وأغدو نحوكم في حوائجي ... فأصبح فيها غدوةً كالذي أمسي وقد كنت أرجو للصديق شفاعتي ... فقد صرت أرضى أن أشفع في نفسي ولأبي النواس: وعدتني وعدك حتى إذا ... أطمعتني في كنز قارون جئت من الليل بغاسلة ... تغسل ما قلت بصابون ولأبي تمام: يحتاج من يرتجي نوالكم ... إلى ثلاث من غير تكذيب كنوز قارون أن تكون له ... وعمر نوح وصبر أيوب وقال آخر: إني رأيت من المكارم حسبكم ... أن تلبسوا خز الثياب وتشبعوا وقال حسان بن ثابت: إني لأعجب من قول غررت به ... حلو يمد إليه السمع والبصر لو تسمع العصم من صم الجبال به ... ظلت من الراسيات العصم تنحدر كالخمر والشهد يجري فوق ظاهره ... وما لباطنه طعم ولا خبر وكالسراب شبيهاً بالغدير وإن ... تبغ السراب فلا عين ولا قطر لا ينبت العشب عن برق وراعدة ... غراء ليس لها سيل ولا مطر وقال آخر: رأيت أبا عثمان يبذل عرضه ... وخبز أبي عثمان في أحرز الحرز يحن إلى جاراته بعد شبعه ... وجاراته غرثى تحن إلى الخبز وقال آخر: ما كنت أحسب أن الخبز فاكهة ... حتى نزلت على أرض بن منصور الحابس الروث في اعفاج بغلته ... خوفاً على الحب من لقط العصافير

وقال آخر: نوالك دونه خرط القياد ... وخبزك كالثريا في البعاد ترى الإصلاح صوفك لا لنسك ... وكسر الخبز من عمل الفساد أرى عمر الرغيف يطول جداً ... لديك كأنه من قوم عاد وقال آخر: اللؤم منك على الطعام طباع ... فعيال بيتك ما حييت جياع وإذا يمر بباب دارك سائل ... حملت عليه نوابح وسباع وعلى رغيفك حية مسمومة ... وعلى خوانك عقرب وشجاع وقال آخر: يا تارك البيت على الضيف ... وهارباً عنه من الخوف طيفك قد جاء بخبز له ... فارجع وكن ضيفاً على الضيف إذا اشتهى الضيف طبيخ الشتا ... أتاه بالشهوة في الصيف وإن دنا المسكين من بابه ... شد على المسكين بالسيف وقال آخر: رأى ضيفك بالدار ... وكرب الجوع يغشاه على خبزك مكتوبا ... سيكفيكهم الله وقال آخر: لأبي نوح رغيف ... أبدا في حجر دايه ابدا يمسحه الدهر ... بكم ووقايه وله كاتب سر ... خط فيه بعنايه فسيكفيكهم الله ... إلى آخر الآيه وقال آخر:

الخبز يبطي حين يدعو به ... كأنه يقدم من قاف ويمدح الملح لأصحابه ... يقول هذا ملح سيراف سيان أكل الخبز في داره ... وقلع عينيه بخطاف وقال آخر: فتىً لا يغار على عرسه ... ولكن يغار علي خبزه فمنه يد الجود مقبوضة ... وكف السماحة في عجزه وقال آخر: يصونون أثوابهم في التخوت ... وأزواجهم بذلة في السكك ينحون من رام رغفانهم ... ويدنون من رام حل التكك وقال آخر: أما الرغيف على الخوا ... ن فمن حمامات الحرم ما أن يحبس ولا يم ... سّ ولا يذاق ولا يشم فتراه اخضر يابسا ... بالي النقوش من الهرم وقال آخر: أتينا أبا طاهر مفطرين ... إلى داره فرجعنا صياما وجاء بخبز له حامض ... فقلت دعوه وموتوا كراما وقال آخر: يبخل بالماء ولو أنه ... منغمس في وسط النيل شحاً فلا تطمع في خبزه ... ولو تشفعت بجبريل وعن حذيفة بن محمد الطائي قال: قال الرشيد: ما لأحد من المولودين ما لأبي النواس في الهجاء: وما روحتنا لتذب عنا ... ولكن خفت مرزئة الذباب شرابك كالسراب إذا التقينا ... وخبزك عند منقطع التراب

وقال آخر: خان عهدي عمرو وما خنت عهده ... وجفاني وما تغيرت بعده ليس لي ما حييت ذنب إليه ... غير أني يوماً تغذيت عنده وقال الخليل بن أحمد العروضي الأزدي «1» : فكفاه لم تخلقا للندى ... ولم يك بخلهما بدعه فكف على الخبز مقبوضة ... كما نقضت مائة تسعه وكف ثلاثة آلافها ... وتسع مئيها لها شرعه وقال ابن أبي البغل: وكل من أجتديه في بلد ... أروم مما لديه في صفد يعقد لي باليسار أربعةً ... منوصة تسعةً إلى العدد وقال آخر: أتيت أبا عمرو أرجي نواله ... فزاد أبو عمرو على حزني حزنا فكنت كباغي القرن أسلم أذنه ... فآب بلا أذن ولم يستفذ قرنا

محاسن الشجاعة

محاسن الشجاعة قيل: كان باليمانة رجل من بني حنيفة يقال له جحدر بن مالك، وكان لسناً فاتكاً شجاعاً شاعراً، وكان قد أبر على أهل هجر وناحيتها، فبلغ ذلك الحجاج بن يوسف فكتب إلى عامل اليمامة يوبخه بتلاعب جحدر به، ويأمره بالتجرد في طلبه حتى يظفر به، فبعث العامل إلى فتية من بني يربوع بن حنظلة، فجعل لهم جعلاً عظيماً إن هم قتلوا جحدراً أو أتوه به أسيراً، ووعدهم أن يوفدهم إلى الحجاج ويسني فرائضهم، فخرج الفتية في طلبه حتى إذا كانوا قريباً منه بعثوا إليه رجلاً منهم يريه أنهم يريدون الانقطاع إليه والتحرم به، فوثق بهم واطمأن إليهم، فبينما هم على ذلك إذ شدوه وثاقاً وقدموا به إلى العامل، فبعث به معهم إلى الحجاج وكتب يثني على الفتية. فلما قدموا على الحجاج قال له: أنت جحدر؟ قال: نعم. قال: ما حملك على ما بلغني عنك؟ قال: جرأة الجنان، وجفوة السلطان، وكلب الزمان، قال: وما الذي بلغ من أمرك فيجترىء جنانك ويصلك سلطانك ولا يكلب زمانك؟ قال: لو بلاني الأمير لوجدني من صالحي الأعوان، وبهم الفرسان وممن أوفى على أهل الزمان. قال الحجاج: إنا قاذفوك في قبة فيها أسد فإن قتلك كفانا مؤونتك، وإن قتلته خليناك ووصلناك، قال: قد أعطيت أصلحك الله الأمنية وأعظمت المنة وقربت المحنة. فأمر به فاستوثق منه بالحديد وألقي في السجن، وكتب إلى عامله بكسكر يأمره أن يصيد له أسداً ضارياً، فلم يلبث العام أن بعث إليه بأسد ضاريات قد أبرت على أهل تلك الناحية، ومنعت عامة مراعيهم ومسارح دوابهم، فجعل منه ومنها واحداً في تابوت يجر على عجلة،

فلما قدموا به على الحجاج أمر فألقى في حيز وأجيع ثلاثاً، ثم بعث إلى جحدر فأخرج وأعطي سيفاً ودلي عليه فمشى إلى الأسد وأنشأ يقول: ليث وليث في مكان ضنك ... كلاهما ذو أنف ومحك وصولة في بطشة وفتك ... إن يكشف الله قناع الشك وظفراً بجؤجؤ وبرك ... فهو أحق منزل بترك الذئب يعوي والغراب يبكي حتى إذا كان منه على قدر رمح تمطى الأسد وزأر وحمل عليه فتلقاه جحدر بالسيف فضرب هامته ففلقها وسقط الأسد كأنه خيمة قوضتها الريح، فانثنى جحدر وقد تلطخ بدمه لشدة حملة الأسد عليه، فكبر الناس فقال الحجاج: يا جحدر إن أحببت أن ألحقك ببلادك وأحسن صحبتك وجائزتك فعلت بك، وإن أحببت أن تقيم عندنا أقمت فأسنينا فريضتك، قال: اختار صحبة الأمير، ففرض له ولجماعة أهل بيته وأنشأ جحدر يقول: يا جمل إنك لو رأيت بسالتي ... في يوم هيج مردف وعجاج وتقدمي لليث أرسف نحوه ... حتى أكابده على الإحراج جهم كأن جبينه لما بدا ... طبق الرحى متفجر الأثباج يرنو بناظرتين تحسب فيهما ... من ظن خالهما شعاع سراج ششن براثنه كأن نيوبه ... زرق المعاول أو شذاة زجاج وكأنما خيطن عليه عباءة ... برقاء أو خلق من الديباج قرنان محتضران قد ربتهما ... أم المنية غير ذات نتاج وعلمت إني أن أبيت نزاله ... إني من الحجاج لست بناج فمشيت أرسف في الحديد مكبلاً ... بالموت نفسي عند ذاك اناجي

والناس منهم شامت وعصابة ... عبراتهم لي بالحلوق شواجي ففلقت هامته فخر مكانه ... أطم تقوض مائل الأبراج ثم انثنيت وفي قميصي شاهد ... مما جرى من شاخب الأوداج أيقنت إني ذو حفاظ ماجد ... من نسل أملاك ذوي أتواج فلئن قذفت إلى المنية عامداً ... إني لخيرك بعد ذلك راجي علم النساء بأنني لا أنثني ... إذ لا يثقن بغيره الأزواج وحكى عن الطفيل بن عامر العمري «1» قال: خرجت ذات يوم أريد الغار، وكنت رجلاً أحب الوحدة، فبينا أنا أسير إذ ضللت الطريق الذي أردته، فسرت أياماً لا أدري أين أتوجه حتى نفذ زادي، فجعلت آكل الحشيش وورق الشجر حتى أشرفت على الهلاك ويئست من الحياة، فبينا أنا أسير إذ أبصرت قطيع غنم في ناحية من الطريق فملت إليها، وإذا شاب حسن الوجه فصيح اللسان، فقال لي: يا بن العم أين تريد؟ فقلت: أردت حاجة لي من بعض المدن وما ظني إلا قد ضللت الطريق، فقال: أجل! إن بينكم وبين الطريق مسيرة أيام فانزل حتى تستريح وتطمئن وتريح فرسك، فنزلت فرمى لفرسي حشيشاً وجاء إلي بثريد كثير ولبن، ثم قام إلى كبش فذبحه وأجج ناراً وجعل يكبب لي ويطعمني حتى أكتفيت، فلما جننا الليل قام وفرش لي وقال: قم فارم بنفسك فإن النوم اذهب لتعبك وارجع لنفسك، فقمت ووضعت رأسي، فبينا أنا نائم إذ أقبلت جارية لم تر عيناي مثلها قط حسناً وجمالاً، فقصدت إلى الفتى وجعل كل واحد منهما يشكو إلى صاحبه ما يلقى من الوجد به، فامتنع علي النوم لحسن حديثهما فلما كان في وقت السحر قامت إلى منزلها، فلما أصبحنا دنوت منه فقلت له: ممن الرجل؟ قال: أنا فلان بن فلان، فانتسب لي فعرفته فقلت له: ويحك! إن أباك

لسيد قومه، فما حملك وضعك نفسك في هذا المكان؟ فقال: أنا والله أخبرك، كنت عاشقاً لابنة عمي هذه التي رأيتها وكانت هي أيضاً لي واهقة، فشاع خبرنا في الناس، فأتيت عمي فسألته أن يزوجنيها. فقال: يا بني، والله ما سألت شططا، وما هي بآثر عندي منك، ولكن الناس قد تحدثوا بشيء وعمك يكره المقالة القبيحة، ولكن انظر غيرها في قومك حتى يقوم عمك بالواجب لك، فقلت: لا حاجة لي فيما ذكرت وتحملت عليه بجماعة من قومي فردهم وزوجها رجلاً من ثقيف له رياسة وقدر فحملها إلى ههنا- وأشار إلى خيم كثيرة بالقرب منا- فضاقت علي الدنيا برحبها وخرجت في أثرها فلما رأتني فرحت فرحاً شديداً وقلت لها: لا تخبري أحداً إني منك بسبيل ثم أتيت زوجها وقلت: أنا رجل من الأزد أصبت دما وأنا خائف، وقد قصدتك لما أعرف من رغبتك في اصطناع المعروف ولي بصر بالغنم إن رأيت أن تعطيني من غنمك شيئاً فأكون من جوارك وكنفك فأفعل. قال: نعم وكرامة، فأعطاني مائة شاة وقال لي: لا تبعد بها من الي، وكانت ابنة عمي تخرج إلي كل ليلة في الوقت الذي رأيت وتنصرف، فلما رأى حسن حال الغنم أعطاني هذه فرضيت من الدنيا بما ترى. قال: فأقمت عنده أياماً، فبينا أنا نائم إذ نبهني وقال: يا أخا بني عامر، قلت له: ما شأنك؟ قال: إن ابنة عمي قد أبطأت ولم تكن هذه عادتها وو الله ما أظن ذلك إلّا لأمر فحدثني فجعلت أحدثه، فأنشأ يقول: ما بال مية لا تأتي كعادتها ... هل هاجها طرب أو صدها شغل لكن قلبي لا يعنيه غيركم ... حتى الممات ولا لي غيركم أمل لو تعلمين الذي بي من فراقكم ... لما اعتذرت ولا طابت لك العلل نفسي فداؤك قد أحللت بي حرقاً ... تكاد من حرّها الأحشاء تنفصل لو كان عادية منه على جبل ... لزل وأنهد من أركانه الجبل فو الله ما اكتحل بغمض حتى انفجر عمود الصبح وقام ومر نحو الحي فأبطأ عني ساعة ثم أقبل ومعه شيء وجعل يبكي عليه، فقلت له: ما هذا؟ قال: هذه ابنة عمي افترسها السبع فأكل بعضها ووضعها بالقرب مني فأوجع

والله قلبي، ثم تناول سيفه ومر نحو الحي فأبطأ هنيهة ثم أقبل إلي وعلى عاتقه ليث كأنه حمار فقلت له: ما هذا؟ قال: صاحبي، قلت: وكيف علمته؟ قال: إني قصدت الموضع الذي أصابها فيه وعلمت أنه سيعود إلى ما فضل منها، فجاء قاصداً إلى ذلك الموضع فعلمت أنه هو فحملت عليه فقلته، ثم قام فحفر في الأرض فأمعن وأخرج ثوباً جديداً، وقال: يا أخا بني عامر إذا أنا مت فأدرجني معها في هذا الثوب، ثم ضعنا في هذه الحفرة وهل التراب واكتب هذين البيتين على قبرنا وعليك السلام: كنا على ظهرها والعيش في مهل ... والدهر يجمعنا والدار والوطن فخاننا الدهر في تفريق الفتنا ... واليوم يجمعنا في بطنها الكفن ثم التفت إلى الأسد وقال: ألا أيها الليث المدل بنفسه ... هبلت لقد جرت يداك لنا حزنا وغادرتني فرداً وقد كنت آلفاً ... وصيرت آفاق البلاد لنا سجنا أأصحب دهراً خانني بفراقها ... معاذ إلهي أن أكون له خذنا ثم قال: يا أخا بني عامر إذا فرغت من شأننا فصح في إدبار هذه الغنم، فردها إلى صاحبها ثم قام إلى شجرة فاختنق حتى مات، فقمت فأدرجتهما في ذلك الثوب ووضعتهما في تلك الحفرة وكتبت البيتين على قبر هما، ورددت الغنم إلى صاحبها، وسألني القوم فأخبرتهم الخبر، فخرج جماعة منهم فقالوا: والله لننحرن عليه تعظيماً له، فخرجوا وأخرجوا مائة ناقة وتسامع الناس فاجتمعوا إلينا فنحرت ثلاثمائة ناقة ثم انصرفنا. وقيل لما كان من أمر عبد الرحمن بن الأعث الكندي ما كان، قال الحجاج اطلبوا لي شهاب بن حرقة السعدي في الأسرى أو القتلى فوجدوه في الأسرى فلما أدخل على الحجاج قال له: من أنت؟ قال: أنا شهاب بن حرقة، قال: والله لأقتلنك، قال: ما كان الأمير بالذي يقتلني. قال: ولم؟ قال: لأن في خصالاً يرغب فيهن الأمير. قال: وما هن؟ قال: ضروب بالصفيحة، هزوم للكثيرة من الكتيبة، أحمي الجار وأذب عن الذمار

وأجود على العسر من اليسر غير بطيء عن النصر. قال الحجاج: ما أحسن هذه الخصال فاخبرني بأشد شيء مر عليك، قال: نعم أصلح الله الأمير: بينا أنا أسير ... ومركبي وثير في عصبة من قومي ... في ليلتي ويومي يمضون كالآجادل ... في الحرب كالبواسل أنا المطاع فيهم ... في كل ما يليهم فسرت خمساً عوما ... وبعد خمس يوما حنى وردت أرضاً ... ما أن ترام عرضاً من بلد البحرين ... عند طلوع العين فهجتهم نهاراً ... التمس المغارا حتى إذا كان السحر ... من بعد ما غاب القمر إذا أنا بعير ... يقودها خفير موقرة متاعاً ... مقيلة سراعاً فصلت بالسنان ... مع سادة فتيان فسقتها جميعاً ... أحثها سريعاً أريد رجع عالج ... أمعج بالعناجج أسير في الليالي ... خرقاً بعيداً خالي وقد لقينا تعباً ... وبعد ذاك نصباً حتى إذا هبطنا ... من بعد ما صعدنا عنت لنا بيدانه ... قد كان فيها عانه رميتها بقوسي ... في مهمه كالترس حتى إذا ما أمعنت ... بالقفز ثم درمت وردت قصراً منهلاً ... في جوفه طام حالا وعنده خييمة، ... في جوفها نعيمة

عزيزة كالشمس ... فاقت جميع الأنس فعجت مهري عندها ... حتى وقفت معها حييت ثم ردت ... في لطف وحيت فقلت يا لعوب ... والطفلة العروب هل عندكم قراء ... إذ نحن بالعراء قالت نعم برحب ... في لطف وقرب أربع هنا عتيداً ... ولا تكن بعيداً حتى يجئك عامر ... مثل الهلال زاهر فعجت عن قريب ... في باطن الكثيب حتى رأيت عامراً ... يحمل ليثاً خادراً على عتيق سابح ... كمثل طود اللامح قال: وكان الحجاج متكئاً فاستوى جالساً ثم قال: ويحك دعنا من السجع والرجز وخذ في الحديث، قال: نعم أيها الأمير ثم نزل فربط فرسه وجمع حجارة وأوقد عليه ناراً وشق عن بطن الأسد وألقى مرافه في النار فجعلت، أصلح الله الأمير، اسمع للحم الأسد نشيشا فقالت له نعيمة: قد جاءنا ضيف وأنت في الصيد، قال: فما فعل؟ قالت: ها هو ذاك بظهر الكثيب والخيمة، فأومأت إلي، فأتيتها، فإذا أنا بغلام أمرد كأن وجهه دارة القمر فربط فرسي إلى جنب فرسه ودعاني إلى طعامه فلم أمتنع عن أكل لحم الأسد لشدة الجوع، فأكلت أنا ونعيمة منه بعضه وأتى الغلام على آخره، ثم قام إلى زق فيه خمر فشرب، ثم سقاني فشربت ثم شرب الغلام حتى أتى على آخره، فبينما نحن كذلك إذ سمعت وقع حوافر خيل أصحابي فقمت وركبت فرسي وتناولت رمحي وصرت معهم ثم قلت: يا غلام خل عن الجارية ولك ما سواها فقال: ويلك أحفظ الممالحة، قلت: لا بدّ من الجارية وفارس، فالتفت إليها وقال لها: قفي، ثم قال: يا فتيان هل لكم في العافية؟ وإلا فارس وفارس فبرز إليه رجل من أصحابي فقال له الغلام: من أنت؟ فلست أقاتل من لا أعرفه ولا أقاتل إلا كفوءاً أعرفه، فقال: أنا

عاصم بن كلبة السعدي، فشد عليه وأنشد يقول: إنك يا عاصم بي لجاهل ... إذ رمت أمراً أنت عنه ناكل إني كمي في الحروب باسل ... ليث إذا اصطك الليوث بازل ضراب هامات العدى منازل ... قتال أقران الوغى مقاتل ثم طعنه فقتله. وقال: يا فتيان، هل لكم في العافية؟ وإلا فارس وفارس، فتقدم إليه آخر من أصحابي فقال له الغلام: من أنت؟ فقال: أنا صابر بن حرقة. فشد عليه وأنشأ يقول: إنك والإله لست صابرا ... على سنان يجلب المقادرا ومنصل مثل الشهاب باترا ... في كف قزم يمنع الحرائرا إني إذا رمت امرأ فآسرا ... يكون قرني في الحروب بائرا ثم طعنه فقتله. ثم قال: يا فتيان هل لكم في العافية؟ وإلا فارس لفارس فلما رأيت ذلك هالني أمره وأشفقت على أصحابي فقلت: احملوا عليه حملة رجل واحد فلما رأى ذلك أنشأ يقول: الآن طاب الموت ثم طابا ... إذ تطلبون رخصة كعابا ولا نريد بعدها عتابا فركبت نعيمة فرسها وأخذت رمحها فما زال يجالدنا ونعيمة حتى قتل منا عشرين رجلا فاشفقت على أصحابي فقلت: يا غلام قد قبلنا العافية والسلامة. فقال: ما كان أحسن هذا لو كان أولاً ونزلنا وسالمنا. ثم قلت: يا عامر بحق الممالحة من أنت؟ قال: أنا عامر بن حرقة الطائي وهذه ابنة عمي ونحن في هذه البرية منذ زمان ودهر ما مر بنا إنسي غيركم، فقلت: من أين طعامكم؟ قال: حشرات الطير والوحش والسباع. قلت: إن معي مائة من الإبل موقرة متاعاً فخذ منها حاجتك. فقال: لا أرب لي فيها ولو أردت ذلك لكنت أقدر عليه فارتحلنا عنه منصرفين. فقال الحجاج: الآن يا عدو الله طاب قتلك لغدرك بالفتى. قال: كان خروجي على الأمير أصلحه الله أعظم

من ذلك فإن عفا عني الأمير رجوت أن لا يؤاخذني بغيره فأطلقه ووصله ورده إلى بلده. وضده، قال: دخل أبو زبيد الطائي على عثمان بن عفان في خلافته، وكان نصرانياً فقال له: بلغني أنك تجيد وصف الأسد. فقال له: لقد رأيت منه منظراً وشهدت منه مخبراً لا يزال ذكره يتجدد على قلبي. قال: هات ما مر على رأسك منه. قال: خرجت يا أمير المؤمنين في صيابة، من إفناء قبائل العرب ذوي شارة حسنة ترتمي بنا المهاري بأكسائها القزوانيات ومعنا البغال عليها العبيد يقودون عتاق الخيل نريد الحارث بن أبي شمر الغساني ملك الشام، فاخروط «1» بنا المسير في حمارة القيظ حتى إذا عصبت الأفواه وذبلت الشفاه وشالت المياه وأذكت الجوزاء المعزاء وذاب الصيخد «2» وصر الجندب وضايق العصفور الضب في وجاره قال قائلنا: أيها الركب غوروا بنا في دوح هذا الوادي فإذا واد كثير الدغل دائم الغلل شجراؤه مغنة وأطياره مرنة، فحططنا رحالنا بأصول دوحات كنهبلات فأصبنا من فصلات المزاود وأتبعناها بالماء البارد، فأنا لنصف حر يومنا ومما طلته إذ صر أقصى الخيل أذنيه وفحص الأرض بيده، ثم ما لبث إن جال فحمحم وبال فهمهم ثم فعل الذي يليه واحد بعد واحد فتضعضعت الخيل وتكعكعت «3» الإبل وتقهقرت البغال، فمن نافر بشكاله وناهض بعقاله فعلمنا أن قد أتينا وأنه السبع لا شك فيه ففزع كل امرىء منا إلى سيفه واستله من جربانه، ثم وقفنا له رزدقاً «4» فأقبل يتطالع في مشيته كأنه مجنوب أو في هجار لصدره نحيط وليلا غيمه غطيط ولطرفه وميض ولا رساغه نقيض كأنما يخبط هشيماً أو يطأ صريماً «5» ، وإذا هامة كالمجن وخد كالمسن وعينان سجراوان «6» كأنهما سراجان يقدان وقصرة «7» ربلة «8» ولهزمة «9» رهلة وكتد مغبط وزور مفرط وساعد مجدول وعضد مفتول

وكفّ شثنه البراثن «1» إلى مخالب كالمحاجن ثم ضرب بذنبه فأرهج «2» وكشر فأفرج عن أنياب كالمعاول مصقولة غير مفلولة وفم أشدق كالغار الأخرق ثم تمطى فأسرع بيديه وحفر وركيه برجليه حتى صار ظله مثليه، ثم أقعى «3» فاقشعر «4» ، ثم مثل «5» فاكفهر «6» ، ثم تجهم فازبأر «7» ، فلا والذي بيته في السماء ما أتقيناه بأول من أخ لنا من بني فزارة كان ضخم الجزارة فوهصه «8» ثم أقعصه فقضقض متنه وبقر بطنه، فجعل يلغ في دمه فذمرت أصحابي فبعد لأي ما استقدموا فكر مقشعر الزبرة كأن به شيهماً «9» حولياً فاختلج من دوني رجلا اعجر ذا حوايا فنفضه نفضة فتزايلت أوصاله واتقطعت أوداجه، ثم نهم فقرقر، ثم زفر فبربر، ثم زأر فجرجر ثم لحظ، فو الله لخلت البرق يتطاير من تحت جفونه عن شماله ويمينه، فارتعشت الأيدي واصطكت الأرجل وأطت الأضلاع وارتجت الأسماع وحملجت العيون وانخزلت المتون ولحقت الظهور البطون ثم ساءت الظنون وأنشأ (يقول) : عبوس شموس، مصلخد خنايس ... جريء على الأرواح للقرن قاهر «10» منيع ويحمي كل واد يرومه ... شديد أصول الماضغين مكابر براثنه شثن وعيناه في الدجى ... كجمر الغضا في وجهه الشر ظاهر يدل بانياب حداد كأنها ... إذا قلص الأشداق عنها خناجر فقال عثمان: أكفف لا أم لك، فلقد أرعبت قلوب المسلمين ولقد وصفته حتى كأني أنظر إليه يريد يواثبني. وقيل في المثل: وهو أجبن من هجرس- وهو القرد- وذلك لأنه لا ينام إلا وفي يده حجر مخافة أن يأكله الذئب. وحدثنا رجل بمكة قال: إذا كان الليلة رأيت القرود تجتمع في موضع واحد ثم تبيت مستطيلة واحداً في أثر واحد في يد كل واحد منهم حجر لئلا ترقد فيأتيها الذئب فيأكلها وإن نام واحد وسقط الحجر من يده خرج

فتحرك الآخر فصار قدامه فلا نزال كذلك طول الليل فتصبح وقد صارت من الموضع الذي باتت فيه على ثلاثة أميال أو أكثر جبناً. وقيل: هو أجبن من صافر وهو طائر يتعلق برجليه وينكس رأسه ثم يثفر ليلته كلها خوفاً من أن ينام فيؤخذ. وقيل أيضاً: هو أجبن من المنزوف ضرطاً. وكان من حديثه أن نسوة من العرب لم يكن لهن رجل فتزوجت واحدة منهن برجل كان ينام إلى الضحى فإذا انتبه ضربنه وقلن له قم فاصطبح ويقول: لو لعادية نبتهتنّي- أي خيل عادية عليكن مغيرة فأدخلها عنكن- فلما رأين ذلك فرحن وقلن: إن صاحبنا لشجاع ثم اقبلن عليه وقلن: تعالين نجربه فأتينه كما كن يأتينه فأيقظنه فقال: لو لعادية نبتهتنّني فقلن له: نواصي الخيل معك، فجعل يقول: الخيل الخيل ويضرط حتى مات فضرب به المثل. وقيل لجبان: انهزمت فغضب الأمير عليك، قال: ليغضب الأمير وأنا حي أحب إلي من أن يرضى وأنا ميت. وقيل لبعض المجان: ما لك لا تغزو؟ قال: والله إني لأبغض الموت على فراشي فكيف أمر إليه ركضاً؟ قال: وقال الحجاج لحميد الأرقط وقد أنشده قصيدة يصف فيها الحرب: يا حميد هل قاتلت قط؟ قال: لا أيها الأمير إلا في النوم. قال: وكيف كانت وقعتك؟ قال: انتبهت وأنا منهزم. ومما قيل في ذلك من الشعر: ظلت تشجعني هند بتضليل ... وللشجاعة خطب غير مجهول هاتي شجاعاً لغير القتل مصرعه ... أوجدك ألف جبان غير مقتول الحرب توسع من يصلى بها حربا ... يتم العيال وإثكال المثاكيل اسم الوغى اشتق من غوغاء يحربها ... يغدون للموت كالطير الأبابيل والله لو أن جبريلاً تكفل لي ... بالنصر ما خاطرت نفسي لجبريل هل غير أن يعذروني أنني فشل ... فكل هذا نعم فأغروا بتعزيلي إن أعتذر من فراري في الوغى أبداً ... كان اعتذاري رديداً غير مقبول اسمع أخبرك عن بأسي بذي سلب ... خلاف بأس المساعير البهاليل لما بدت منهم نحوي عشوزنة ... شماء تشرع في عرضي وفي طولي

فقلت ويحكم لا ترهبوا جلدي ... رمحي كسير وسيفي غير مصقول لما اتقيتهم طوعاً بذات يد ... وانصعت أطوي الفلا ميلاً إلى ميل الله خلصني منهم وفلسفتي ... حتى تخلصت مخضوب السراويل وقال آخر: أضحت تشجعني هند فقلت لها ... إن الشجاعة مقرون بها العطب لا والذي قبلة الأنظار كعبته ... ما يشتهي الموت عندي من له إرب للحرب قوم أضل الله سعيهم ... إذا دعتهم إلى حوماتها وثبوا ولست منهم ولا أهوى فعالهم ... لا القتل يعجبني منهم ولا السلب وقال آخر: يقول لي الأمير بغير جرم ... تقدم حين حل بنا المراس فما لي أن أطعتك في حياة ... ولا لي غير هذا الراس راس

محاسن حب الوطن

محاسن حب الوطن قال عمر بن الخطاب: لولا حب الوطن لخرب بلد السوء. وكان يقال: بحب الأوطان عمرت البلدان «1» ، وقال جالينوس: يتروح العليل بنسيم أرضه كما تتروح الأرض الجدبة ببل المطر. وقال بقراط: يداوي كل عليل بعقاقير أرضه كأن الطبيعة تنزع إلى غذائها، ومما يؤكذ ذلك قول إعرابي وقد مرض بالحضر فقيل له: ما تشتهي؟ فقال: مخيضاً روباً وضباً مشوياً، وقد قيل: أحق البلدان بنزاعك إليها بلد أمصك حلب رضاعه، وقيل: احفظ أرضاً أرسخك رضاعها، وأصلحك غذاؤها، وارع حمى اكتنفك فناؤه. وقيل: لا تشك بلداً فيه قبائلك. وقيل: من علامة الرشد أن تكون النفس إلى أوطانها مشتاقة وإلى مولدها تواقة. وحدثنا بعض بني هاشم قال: قلت لإعرابي: من أين أقبلت؟ قال: من هذه البادية، قلت: وأين تسكن منها؟ قال: مساقط الحمى حمى ضرية ما إن لعمر الله أريد بها بدلاً ولا أبتغي عنها حولاً حفتها الفلوات فلا يملولح ماؤها وتحمى تربتها ليس فيها أذى ولا قذى ولا وعك ولا لوم ونحن بارفه عيش وأوسع معيشة وأسبغ نعمة. قلت: ما طعامكم؟ قال: بخ بخ الهبيد والضباب واليرابيع مع القنافذ والحيات وريثما الله أكلنا القد واشتوينا الجلد فلا نعلم أحداً أخصب منا عيشاً، فالحمد لله على ما رزق من السعة وبسط من حسن الدعة.

وقيل لإعرابي: كيف تصنع بالبادية إذا انتصف النهار وانتعل كل شيء ظله؟ فقال: وهل العيش إلا ذاك؟ يمشي أحدنا ميلاً فيرفض عرقاً كأنه الجمان ثم ينصب عصاه ويلقي عليها كساه وتقبل الرياح من كل جانب فكأنه في إيوان كسرى. وقال بعض الحكما: عسرك في بلدك خير من يسرك في غربتك. وقيل لإعرابي: ما الغبطة؟ قال: الكفاية ولزوم الأوطان والجلوس مع الإخوان، وقيل: فما الذل؟ قال: التنقل في البلدان والتنحي عن الأوطان. وقال بعض الأدباء: الغربة ذلة والذلة قلة، وقال الآخر: لا تنهض عن وطنك ووكرك فتنقصك الغربة وتصمتك الوحدة. وشبهت الحكماء الغريب باليتيم اللطيم الذي ثكل أبويه فلا أم ترأمه ولا أب يحدب عليه. وكان يقال: الغريب عن وطنه ومحل رضاعه الذي زايل أرضه وفقد شربه فهو ذاو لا يثمر وذابل لا ينضر. وكان يقال: الجالي عن مسقط رأسه كالعير الناشر عن موضعه الذي هو لكل رام رمية، وأحسن من ذلك وأصدق قول الله عز وجل: «ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء» . وقال تعالى: «ولو أنما كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو أخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم» فقرن جل ذكره للجلاء عن الوطن بالقتل، وقال تقدست أسماؤه: «وما لنا ألّا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا» ، فجعل القتال بازاء الجلاء، قال صلى الله عليه وسلم: «الخروج عن الوطن عقوبة» ومما قيل في ذلك من الشعر: إذا ما ذكرت الثغر فاضت مدامعي ... وأضحى فؤادي نهبة للهماهم حنينا إلى أرض بها اخضر شاربي ... وحلت بها عني عقود التمائم والطف قوم بالفتى أهل أرضه ... وأرعاهم للمرء حق التقادم وقال آخر: أحن إلى أرض الحجاز وحاجتي ... خيام بنجد دونها الطرف يقصر وما نظري من نحو نجد بنافعي ... أجل لا ولكني على ذاك أنظر ففي كل يوم قطرة ثم عبرة ... لعيشك يجري ماؤها يتحدّر

متى يسترح قلب فإما محاذر ... حزين وإما نازح يتذكر وقال آخر: نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبداً لأول منزل «1» وقال ابن أبي السرح: قرأت على حائط بيتي شعر، وهما: إن الغريب ولو يكون ببلدة ... يجبى إليه خراجها لغريب وأقل ما يلقى الغريب من الأذى ... إن يستذل وإن يقال كذوب وقال: وقرأت على حائط بعسكر مكرم: إن الغريب إذا ينادي موجعاً ... عند الشدائد كان غير مجاب فإذا نظرت إلى الغريب فكن له ... مترحماً لتباعد الأحباب وقال: وقرأت على حائط ببغداد: غريب الدار ليس له صديق ... جميع سؤاله أين الطريق تعلق بالسؤال لكل شيء ... كما يتعلق الرجل الغريق فلا تجزع فكل فتى سيأتي ... على حالاته سعة وضيق وقال: ووجدت على حائط باب مكتوباً: عليك سلام الله يا خير منزل ... رحلنا وخلفناك غير ذميم فإن تكن الأيام فرقن بيننا ... فما أحد من ريبها بسليم

وقال آخر: وإن اغتراب المرء من غير حاجة ... ولا فاقة يسمو لها لعجيب فحسب امريء ذلاً ولو أدرك الغنى ... ونال ثراءً، أن يقال غريب وقال آخر: إن الغريب وإن يكن في غبطة ... لمعذب وفؤاده محزون ومتى يكون مع التغرب عاشقاً ... ومفارقاً يا رب كيف يكون وقال آخر: إن الغريب ذليل أينما سلكا ... لو أنه ملك كل الورى ملكا إذا تغنى حمام الأيك في غصن ... حن الغريب إلى أوطانه فبكى وقال آخر: سل الله الإياب من المغيب ... فكم قد رد مثلك من غريب وسل الحزن منك بحسن ظن ... ولا تيأس من الفرج القريب وقال آخر: تصبر ولا تعجل وقيت من الردى ... لعل إياب الظاعنين قريب فقلت وفي قلبي جوى لفراقها: ... ألا لا تصبرني فلست أجيب وقال آخر: أعاذل حبي للغريب سجية ... وكل غريب للغريب حبيب لئن قلت لم أجزع من البين إن مضوا ... لطيتهم إني إذاً لكذوب بلى غبرات الشوق اضرمت الحشا ... ففاضت لها من مقلتي غروب وقال آخر: إذا اغترت الكريم رأى أموراً ... مجللة يشيب لها الوليد

وقال آخر: ما كنت أحسب أن يكو ... ن كذا تفرقنا سريعا بخل الزمان علي أن ... نبقى كما كنا جميعا فأحلني في بلدة ... وأحلك البلد الشسيعا قد كنت أنتظر الوصال ... فصرت أنتظر الرجوعا وقال آخر: نسيم الخزامى والرياح التي جرت ... بنجد على نجد تذكرني نجدا أتاني نسيم السدر طيباً إلى الحمى ... فذكرني نجداً فقطعني وجدا وفي معناه (الدعاء للمسافر) بأيمن طالع وأسر طائر، ولا كبابك مركب ولا أشت بك مذهب ولا تعذر عليك مطلب، سهل الله لك السير، وأنا لك القصد، وطوى لك البعد بمسرة الظفر وكرامة المدخر. على الطائر الميمون والكوكب السعد إلى حيث تتقاصر أيدي الحوادث عنك وتتقاعس نوائب الأيام دونك بسهولة المطلب ونجاح المنقلب. كان الله لك في سفرك خفيراً وفي حضرك ظهيراً بسعي نجيح وأوب سريح. بصرك الله محلك وهدك رحلك وسر بأوبتك أهلك، ولا زلت آمناً مقيماً وظاعناً بأسعد جد وانجح مطلب واسر منقلب وأكرم بدأة وأحمد عاقبة. أشخص مصحوباً بالسلامة والكلاءة، آئباً بالنجح والغبطة، محوطاً فيما تطالعه بالعناية والشفقة، في ودائع الله وكنفه وجواره وستره وأمانه وحفظه وذمامه. وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أريد سفراً، فقال: «في كنف الله وستره زودك الله التقوى ووجهك إلى الخير حيثما كنت استخلف الله فيك واستخلفه منك» . وقا الشاعر: في كنف الله وفي ستره ... من ليس يخلو القلب من ذكره وقال آخر: ارحل أبا بشر بأيمن طائر ... وعلى السعادة والسلامة فانزل

وضده، قال بعض حكماء الفلاسفة: اطلبوا الرزق في البعد فإنكم إن لم تكسبوا مالاً غنمتم عقلاً كثيراً، وقال آخر: لا يألف الوطن إلّا ضيق العطن. وقيل: لا توحشنك الغربة إذا آنستك النعمة. وقيل: الفقير في الأهل مصروم والغني في الغربة موصول. وقال: لا تستوحش من الغربة إذا أنست مصورما. وقيل: أوحش قومك ما كان في إيحاشهم أنسك واهجر وطنك ما نبت عنه نفسك. وأنشد: لا يمنعنك خفض العيش في دعة ... نزوع نفس إلى أهل وأوطان تلقى بكل بلاد إن حللت بها ... أهلاً بأهل وجيراناً بجيران وقال آخر: نبت بك الدار فسر آمنا ... فللفتى حيث انتهى دار وفي معناه (الدعاء إلى المسافر) بالبارح الأشأم والسائح الأعضب والصرد الأنكد والسفر الأبعد. لا استمرت به مطيته ولا استتبت به أنيته ولا تراخت منيته. بنحس مستمر وعيش مر. لا قرى إذا استضاف ولا أمن إذا خاف. ويقال إن علياً عليه السلام لما اتصل به مسير معاوية قال: لا أرشد الله قائده ولا أسعد رائده ولا أصاب غيثاً ولا سار إلا ريثاً ولا رافق إلا ليثاً أبعده الله وأسحقه وأوقد على أثره وأحرقه لا حط الله رحله ولا كشف محله ولا بشر به أهله، لا زكى له مطلب ولا رحب له مذهب ولا يسر له مراما، فلا فرج الله غمه ولا سرى همه، لا سقاه الله ماء ولا حل عقده ولا أروى زنده، جعله الله سفر الفراق وعصى الشقاق وأنشد: بأنكد طائر وبشر فال ... لأبعد غاية وأخس حال بحد السد حيث يكون مني ... كما بين الجنوب إلى الشمال غريباً تمتطي قدميك دهرا ... على خوف تحن إلى العيال وقال آخر: إذا استقلت بك الركاب ... فحيث لا درّت السحاب

وحيث لا تبتغي فلاحا ... وحيث لا يرتجى إياب وحيث ما درت فيه يوما ... قابلك الذئب والغراب وقال آخر: أدنى خطاك الهند والصين ... وكل نحس بك مقرون بحيث لا يأنس مستوحش ... وحيث لا يفرج محزون تهوي بك الأرض إلى بلدة ... ليس بها حاء ولا طين «1»

محاسن الدهاء والحيل

محاسن الدهاء والحيل قال الهيثم بن الحسن بن عمار: قدم سنيح من خزاعة أيام المختار فنزل على عبد الرحمن بن إبان الخزاعي، فلما رأى ما تصنع سوقة المختار من الأعظام جعل يقول: يا عباد الله إن المختار يصنع هذا والله لقد رأيته يتتبع الإماء بالحجاز فبلغ ذلك المختار فدعا به وقال: ما هذا الذي بلغني عنك. قال: الباطل، فأمر بضرب عنقه. فقال: لا والله لا تقدر على ذلك، قال: ولم؟ قال: أما دون أن أنظر إليك وقد هدمت مدينة دمشق حجرا حجرا وقتلت المقاتلة وسببت الذرية ثم تصلبني على شجرة على نهر. والله إني لأعرف الشجرة الساعة وأعرف شاطىء ذلك النهر. فالتفت المختار إلى أصحابه فقال لهم: إن الرجل قد عرف الشجرة فحبس حتى إذا كان الليل بعث إليه فقال: يا أخا خزاعة أو مزاح عند القتل؟ قال: أنشدك الله أن أقتل ضياعاً، قال: وما تطلب ههنا؟ قال: أربعة آلاف درهم أقتضي بها ديني. قال: ادفعوها إليه وإياك أن تصبح بالكوفة. فقبضها وخرج عنه. وعنه قال سراقة البارقي من ظرفاء أهل الكوفة فأسره رجل من أصحاب المختار فأتى به المختار فقال له: أسرك هذا؟ قال سراقة: كذب والله ما أسرني إلا رجل عليه ثياب بيض على فرس أبلق. فقال المختار: إلا أن الرجل قد عاين الملائكة خلوا سبيله. فلما أفلت منه أنشأ يقول: ألا أبلغ أبا إسحاق إني ... رأيت البلق دهما مصمتات أري عينيّ ما لم ترأياه ... كلانا عالم بالترهات كفرت بوحيكم وجعلت نذرا ... عليّ قتالكم حتى الممات

وعنه قال: كان الأحوص بن جعفر المخزومي يتغذى في دير اللج في يوم شديد البرد ومعه حمزة بن بيض وسراقة البارقي، فلما كان على ظهر الكوفة وعليه الوبر والخز وعليهما الأطمار قال حمزة لسراقة: أين يذهب بنا في البرد ونحن في أطمار؟ قال: سأكفيكه. فبينما هو يسير إذ دنا منهم راكب مقبل فحرك سراقة دابته نحوه وواقفه ساعة ولحق بالأحوص، فقال له: ما خبرك الراكب؟ قال: زعم أن خوارج خرجت بالقطقطانة. قال: بعيد. قال: إن الخوارج تسير في ليلة ثلاثين فرسخاً وأكثر. وكان الأحوص أحد الجبناء فثنى رأس دابته وقال: ردوا طعامنا نتغذى في المنزل. فلما حاذى منزله قال لأصحابه: ادخلوا. ومضى إلى خالد بن عبد الله القسري فقال: خرجت خارجة بالقطقطانة. فنادى خالد في العسكر فجمعهم ووجه خيلاً تركض نحو اللج لتعرف الخبر فأعلموه أنه لا أصل للخبر. فقال للأحوص: من أعلمك بهذا؟ قال: سراقة. قال: وأين هو؟ قال: في منزلي، فأرسل إليه من أتاه به. قال: أنت أخبرته عن الخارجة؟ قال: ما فعلت أصلح الله الأمير، قال له الأحوص: أتكذبني بين يدي الأمير، قال خالد: ويحك أصدقني. قال: نعم أخرجنا في هذا البرد وقد ظاهر الخز والوبر ونحن في أطمارنا هذه فأحببت أن أرده، فقال له خالد: ويحك وهذا مما يتلاعب به، وسراقة هذا هو القائل: قالوا سراقة عنين فقلت لهم ... الله أعلم أني غير عنين فإن ظننتم بي الشيء الذي زعموا ... فقربوني من بنت ابن ياسين وذكروا: إن شبيب بن يزيد الخارجي مر بغلام مستنقع في الفرات فقال له: يا غلام أخرج إني أسألك، فعرفه الغلام فقال له: إني أخاف. أفآمن أنا إذا خرجت حتى ألبس ثيابي: قال: نعم، فخرج وقال: والله لا ألبسها اليوم. فضحك شبيب وقال: خدعتني ورب الكعبة ووكل به رجلاً من أصحابه يحفظه إلا يصيبه أحد بمكروه. قال: وكان رجل من الخوارج يقول: فمنا يزيد والبطين وقعنب ... ومنا أمير المؤمنين شبيب

فسار البيت حتى سمعه عبد الملك بن مروان فأمر بطلب قائله فأتي به، فلما وقف بين يديه قال: أنت القائل: «ومنا أمير المؤمنين شبيب ... » قال: لم أقل هكذا يا أمير المؤمنين إنما قلت: ومنا أمير المؤمنين شبيب. فضحك عبد الملك وأمر بتخليه سبيله، فتخلص بدهائه وفطنته لإزالة الأعراب من الرفع إلى النصب. وزعموا أن عمرو بن معدي كرب هجم في بعض غاراته على شابة جميلة منفردة وأخذها فلما أمعن بها بكت. فقال: ما يبكيك؟ قالت: أبكي لفراقي بنات عمي هن مثلي في الجمال وأفضل مني خرجت معهن فانقطعنا عن الحي، قال: وأين هن؟ قالت: خلف ذلك الجبل ووددت إذ أخذتني أنك أخذتهن معي فامض إلى الموضع الذي وصفته فمضى إلى هنالك، فما شعر بشيء حتى هجم على فارس شاك في السلاح فعرض عليه المصارعة فصارعه الفارس، ثم عرض عليه ضروباً من المناوشة فغلبه الفارس في كلها. فسأله عمرو عن اسمه فإذا هو ربيعة بن مكرم الكناني فاستنقذ الجارية. وعن عطاء أن مخارق بن عفان ومعن بن زائدة تلقيا رجلاً ببلاد الشرك ومعه جارية لم يريا أحسن منها شباباً وجمالاً، فصاحا به خل عنها، ومعه قوس فرمى بها وهابا الإقدام عليه، ثم عاد ليرمي فانقطعت وتره وسلم الجارية وأسند في جبل كان قريباً منه فابتدراه وأخذا الجارية، وكان في أذنها قرط فيه درة فانتزعاه من أذنها، فقالت: وما قدر هذه لو رأيتما درتين معه في قلنسوته وفي القلنسوة وتر قد أعده ونسيه من الدهش. فلما سمع قول المرأة ذكر الوتر فأخذه وعقده في قوسه، فوليا ليست لهما همة إلا الالتجاء وخليا عن الجارية. وعن الهيثم قال: كان الحجاج حسوداً لا يتم له صنيعة حتى يفسدها فوجه عمارة بن تميم اللخمي إلى عبد الرحمن محمد بن الأشعث فظفر به وصنع ما صنع، ورجع إلى الحجاج بالفتح ولم ير منه ما أحب وكره منافرته، وكان عاقلاً رفيقاً فجعل يرفق به ويقول: أيها الأمير أشرف العرب، أنت من شرفته شرف، ومن وضعته أتضع، وما ينكر ذلك مع رفقك ويمنك ومشورتك ورأيك، وما كان هذا كله إلا بصنع الله وتدبيرك وليس أحد أشكر لبلائك مني ومن ابن الأشعث، وما خطره حتى عزم الحجاج على

المسير إلى عبد الملك، فأخرج عمارة معه وعمارة يومئذ على أهل فلسطين أمير، فلم يزل يلطف بالحجاج في مسيره ويعظه حتى قدموا على عبد الملك، فلما قامت الخطباء بين يديه وأثنت على الحجاج قام عمارة فقال: يا أمير المؤمنين سل الحجاج عن طاعتي ومناصحتي وبلائي، قال الحجاج: يا أمير المؤمنين صنع وصنع ومن بأسه ونجدته وعفافه كذا وكذا وهو أيمن الناس نقيبة وأعلمهم بتدبير السياسة ولم يبق في الثناء عليه غاية. فقال عمارة: قد رضيت يا أمير المؤمنين، قال: نعم فرضي الله عنك حتى خالها ثلاثاً في كلها يقول قد رضيت، قال عمارة: فلا رضي الله عن الحجاج يا أمير المؤمنين ولا حفظه ولا عافاه فهو والله السيّء التدبير الذي قد أفسد عليك أهل العراق وألب الناس عليك وما أتيت إلا من قبله ومن قلة عقله وضعف رأيه وقلة بصره بالسياسة، فلك والله أمثالها إن لم تعزله، فقال الحجاج: مه يا عمارة، فقال: لا مه ولا كرامة كل امرأة له طالق وكل مملوك له حر إن سار تحت راية الحجاج ابدا، قال: إني أعلم أنه ما خرج هذا منك إلا عن معتبة ولك عندي العتبى وأرسل إليه، فقال: ما كنت أظن أن عقلك على هذا أرجع إليه بعد الذي كان من طعني عليه وقولي عند أمير المؤمنين ما قلت فيه: لا ولا كرامة. وضده، قيل: هو أحمق من عجل، وهو عجل بن لجيم، وذلك إنه قيل له: ما سميت فرسك؟ ففقأ عينه وقال: سميته الأعور، فقام الشاعر فيه: رمتني بنو عجل بداء أبيهم ... وأي امرىء في الناس أحمق من عجل أليس أبوهم عار عين جواده ... فصارت به الأمثال تضرب في الجهل وقيل: هو أحمق من هبنقة «1» ، وبلغ من حمقه أنه ضل له بعير فجعل

ينادي: من وجد بعيري فهول له، فقيل له ولم تنشره؟ قال: وأين حلاوة الظفر والوجدان؟ واختصمت إليه الطفاوة وبنو راسب في رجل ادعى هؤلاء، وهؤلاء فيه فقالوا: انظروا بالله من طلع علينا؟ فلما دنا قصوا عليه القصة فقال هبنقة: الحكم في هذا بين، اذهبوا به إلى نهر البصرة فألقوه فيه، فإن كان راسبياً رسب، وإن كان طفاوياً طفا. فقال الرجل: أريد أن أكون من أحد هذين الحيين ولا حاجة لي في الديوان. وقيل: هو أحمق من دغة وهي مارية بنت مغنج تزوجت في بني العنبر وهي صغيرة فلما ضربها المخاض ظنت أنها تريد الخلاء فخرجت تتبرز فصاح الولد فجاءت منصرفة، فصاحت: يا أماه هل يفتح الجعر فاه؟ قالت: نعم، ويدعو أباه، فسبت بنو العنبر بذلك، فقيل: بنو الجعراء. وقيل: بنو الجعراء. وقيل: هو أحمق من باقل «1» ، وكان اشترى عنزاً بأحد عشر درهماً فسئل بكم اشرتيت العنز؟ ففتح كفيه وفرق أصابعه وأخرج لسانه، يريد أحد عشر درهماً فعيروه بذلك، قال الشاعر: يلومون في حمقه باقلا ... كأن الحماقة لم تخلق فلا تكثروا العذل في عيه ... فللصمت أجمل بالأموق خروج اللسان وفتح البنان ... أحب إلينا من المنطق ومما قيل أيضا من اشعر فيه: يا ثابت العقل كم عاينت ذا حمق ... الرزق أغرى به من لازم الجرب فأنني واجد في الناس واحدة ... الرزق أروغ شيء عن ذوي الأدب وخصلة ليس فيها من يخالفني ... الرزق والنوك مقرونان في سبب وقال آخر: أرى زمناً نوكاه أسعد خلقه ... على أنه شقى به كل عاقل

علا فوقه رجلاه والرأس تحته ... فكب الأعالي بارتفاع الأسافل وقال آخر: كم من قوي قوي في تقلبه ... مهذب اللب عند الرزق منحرف ومن ضعيف ضعيف العقل مختلط ... كأنه من خليج البحر يغترف

محاسن المفاخرة

محاسن المفاخرة قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» . وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا ينشد بيتاً من الشعر: إني امرؤ حميرى حين تنسبني ... لا من ربيعة آبائي ولا مضر فقال له: ذلك ألأم لك وأبعد عن الله ورسوله، وقال بعضهم: إذا مضر الحمراء كانت أرومتي ... وقام بنصري خازم وابن خازم عطست بأنف شامخ وتناولت ... يداي الثريا قاعداً غير قائم شعيب بن إبراهيم عن علي بن يزيد عن عبد الله بن الحارث عن عبد المطلب ابن ربيعة قال: مر العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه بنفر من قريش وهم يقولون إنما محمد من أهله مثل نخلة نبتت في كناسة، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم فوجد منه فخرج حتى قام فيهم خطيبا ثم قال: «أيها الناس، من أنا؟ قالوا: أنت رسول الله. قال: أفأنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، إن الله عز وجل خلق خلقه فجعلني من خير خلقه ثم جعل الخلق الذي أنا منهم شعوباً فجعلني في خيرهم شعباً، ثم جعلهم بيوتاً فجعلني من خيرهم بيتاً، فأنا خيركم بيتاً وخيركم والداً وإني مباه لكم. قم يا عباس فقام عن يمينه، ثم قال: قم يا سعد فقام عن يساره فقال: يقرب امرؤ منكم عماً مثل هذا وخالاً مثل هذا» . وحدثنا سنان بن الحسن التستري عن إسماعيل بن مهران العسكري عن إبان بن عثمان عن عكرمة عن ابن عباس رحمهما الله تعالى عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: لما أمر رسول

الله صلى الله عليه وسلم إن يعرض نفسه على القبائل خرج وأنا معه وأبو بكر وكان عالماً بأنساب العرب فوقفنا على مجلس من مجالس العرب عليهم الوقار والسكينة، فتقدم أبو بكر فسلم عليهم فردوا عليه السلام فقال: ممن القوم؟ فقالوا: من ربيعة. قال: من هامتها أم لهازمها؟ قالوا: بل من هامتها العظمى. قال: وأي هامتها؟ فقالوا: ذهل. قال: ذهل الأكبر أم ذهل الأصغر؟ قالوا: بل الأكبر. قال فمنكم عوف الذي كان يقال لأحر بوادي عوف؟ قالوا: لا. قال: أفمنكم بسطام بن قيس صاحب اللواء ومنتهى الأحياء؟ قالوا: لا قال: أفمنكم جساس بن مرة حامي الذمار ومانع الجار؟ قالوا: لا. قال: أفمنكم المزدلف صاحب العمامة؟ قالوا: لا. قال أفأنتم أخوال الملوك من كندة؟ قالوا: لا. قال: أفأنتم أصهار الملوك من لخم؟ قالوا: لا. قال: فلستم من ذهل الأكبر إذا أنتم من ذهل الأصغر فقام إليه أعرابي غلام حسن بقل وجهه فأخذ بزمام ناقته ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف على ناقته يسمع مخاطبته فقال: لنا على سائلنا أن نسأله ... والعبء لا تعرفه أو تحمله يا هذا إنك قد سألتنا أي مسألة شئت فلم نكتمك شيئاً فأخبرنا ممن أنت؟ فقال أبو بكر: من قريش: فقال: بخ بخ! أهل الشرف والرياسة فأخبرني من أي قريش أنت؟ قال: من بني تميم بن مرة. قال: أفمنكم قصي بن كلاب الذي جمع القبائل من فهر فكان له مجمع؟ قال أبو بكر: لا. قال: أفمنكم هاشم الذي يقول فيه الشاعر: عمرو العلى هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف قال أبو بكر: لا. قال: أفمنكم شيبة الحمد الذي كان وجهه يضيء في الليلة الداجية مطعم الطير؟ قال: لا. قال: أفمن المضيفين بالناس أنت. قال: لا. قال: أفمن أهل الرفادة أنت؟ قال: لا. قال: أفمن أهل السقاية أنت؟ قال: لا. قال: أفمن أهل الحجابة أنت؟ قال: لا. قال: أما والله لو شئت لأخبرتك لست من أشراف قريش، فاجتذب أبو بكر زمام

ناقته منه كهيئة المغضب فقال الأعرابي: صادف در السيل در يدفعه ... في هضبة ترفعه وتضعه فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال علي كرم الله وجهه: فقلت: يا أبا بكر وقعت من هذا الأعرابي على باقعة «1» . قال: أجل يا أبا الحسن، ما من طامة إلا وفوقها طامة وإن البلاء موكل بالمنطق. قال: وأتى الحسن بن علي رضي الله عنهما معاوية بن أبي سفيان وقد سبقه ابن العباس رحمه الله فأمر معاوية بإنزاله فبينا معاوية مع عمرو بن العاص ومروان بن الحكم وزياد المدعى إلى أبي سفيان يتحاورون في قديمهم ومجدهم إذ قال معاوية: قد أكثرتم الفخر ولو حضركم الحسن بن علي وعبد الله بن عباس لقصروا من أعنتكم، فقال زياد: وكيف ذاك يا أمير المؤمنين وما يقومان لمروان ابن الحكم في غرب منطقه ولا لنا في بواذخنا فابعث إليهما حتى نسمع كلامهما. فقال معاوية لعمرو: ما تقول في هذا الليل فابعث إليهما في غد، فبعث معاوية بابنه يزيد إليهما فأتيا فدخلا عليه وبدأ معاوية فقال: إني أجلكما وأرفع قدركما على المسامر بالليل ولا سيما أنت يا أبا محمد فأنك ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيد شباب أهل الجنة. فشكر له، فلما استويا في مجلسهما علم عمرو أن الحدة ستقع به فقال: والله لا بد أن أتكلم فإن قهرت فسبيل ذلك وإن قهرت أكون قد ابتدأت. فقال: يا حسن أنا قد تفاوضنا فقلنا إن رجال بني أمية أصبر على اللقاء وأمضى في الوغاء وأوفى عهداً وأكرم ضيماً وأمنع لما وراء ظهورهم من بني عبد المطلب، ثم تكلم مروان بن الحكم: فقال كيف لا يكون ذلك وقد قارعناهم فغلبناهم وحاربناهم فملكناهم فإن شئنا عفونا وإن شئنا بطشنا. ثم تكلم زياد فقال: ما ينبغي لهم أن ينكروا الفضل لأهله ويجحدوا الخير في مظانه نحن الحملة في الحروب ولنا الفضل على سائر الناس قديماً وحديثاً، فتكلم الحسن بن علي رضي الله عنه فقال: ليس من الحزم أن يصمت الرجل عن إيراد الحجة ولكن من الأفك أن ينطق الرجل بالخنا ويصور الكذب في صورة الحق يا عمرو افتخاراً بالكذب وجراءة على الأفك ما زلت أعرف

مثالبك الخبيثة أبديها مرة بعد مرة أتذكر مصابيح الدجى وأعلام الهدى وفرسان الطراد وحتوف الأقران وأبناء الطعان وربيع الضيفان ومعدن العلم ومهبط النبوة؟ وزعمتم أنكم أحمى لما وراء ظهوركم وقد تبين ذلك يوم بدر حين نكصت الأبطال وتساورت الأقران واقتحمت الليوث، واعتركت المنية وقامت رحاها على قطبها، وفرت عن نابها، وطار شرار الحرب، فقتلنا رجالكم ومن النبي صلى الله عليه وسلم على ذراريكم، وكنتم لعمري في هذا اليوم غير مانعين لما وراء ظهوركم من بني عبد المطلب ثم قال: وأما أنت يا مروان فما أنت والإكثار في قريش وأنت ابن طليق وأبوك طريد تتقلب في خزاية إلى سوءة، وقد أتى بك إلى أمير المؤمنين يوم الجمل، فلما رأيت الضرغام قد دميت براثنه، واشتبكت أنيابه كنت كما قال الأول: بصبصن ثم رمين بالأبعار فلما من عليك بالعفو وأرخى خناقك بعد ما ضاق عليك وغصصت بريقك لا تقعد منا مقعد أهل الشكر ولكن تساوينا وتجارينا، ونحن من لا يدركنا عار ولا يلحقنا خزاية، ثم التفت إلى زياد وقال: وما أنت يا زياد وقريش ما أعرف لك فيها أديماً صحيحاً. ولا فرعاً نابتاً ولا قديماً ثابتاً ولا منبتاً كريماً، كانت أمك بغياً يتداولها رجالات قريش وفجار العرب، فلما ولدت لم تعرف لك العرب والدا فادعاك هذا- يعني معاوية- فما لك والافتخار!!؟ تكفيك سمية ويكفينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي سيد المؤمنين الذي لم يرتد على عقبيه وعماي حمزة سيد الشهداء وجعفر الطيار في الجنة، وأنا وأخي سيدا شباب أهل الجنة، ثم التفت إلى ابن العباس فقال إنما هي بغاث الطير انقض عليها البازي، فأراد ابن العباس أن يتكلم فأقسم عليه معاوية أن يكف فكف، ثم خرجا، فقال معاوية أجاد عمرو الكلام أولا لولا أن حجته دحضت، وقد تكلم مروان لولا أنه نكص ثم التفت إلى زياد فقال: ما دعاك إلى محاورته ما كنت إلا كالحجل في كف العقاب. فقال عمرو: أفلا رميت من ورائنا؟ قال معاوية: إذا كنت شريككم في الجهل أفأفاخر رجلاً، رسول الله صلى الله عليه وسلم جده

وهو سيد من مضى ومن بقي وأمه فاطمة سيدة نساء العالمين ثم قال لهم: والله لئن سمع أهل الشام ذلك أنه للسوءة السواء. فقال عمرو: لقد أبقى عليك ولكنه طحن مروان وزياداً طحن الرحى بثفالها ووطئهما وطىء البازل القراد بمنسمه، فقال زياد: والله لقد فعل ولكنك يا معاوية تريد الإغراء بيننا وبينهم لا جرم والله لا شهدت مجلساً يكونان فيه إلا كنت معهما على من فاخرهما، فخلا ابن عباس بالحسن رضي الله عنه فقبل بين عينيه وقال: أفديك بابن عمي والله مازال بحرك يزخر وأنت تصول حتى شفيتني من أولاد البغايا. ثم إن الحسن رضي الله عنه غاب أياماً ثم رجع حتى دخل علي معاوية وعنده عبد الله بن الزبير. فقال معاوية: يا أبا محمد إني أظنك تعباً نصباً فأت المنزل فأرح نفسك، فقام الحسن رضي الله عنه، فخرج، فقال معاوية لعبد الله بن الزبير: لو افتخرت على الحسن فأنت ابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته ولأبيك في الإسلام نصيب وافر، فقال ابن الزبير: أنا له. ثم جعل ليلته يطلب الحجج فلما أصبح دخل على معاوية وجاء الحسن رضي الله عنه فحياه معاوية وسأله عن مبيته فقال: خير مبيت وأكرم مستفاض، فلما استوى في مجلسه قال له ابن الزبير: لولا أنك خوار في الحروب غير مقادم ما سلمت لمعاوية الأمر وكنت لا تحتاج إلى اختراق السهول وقطع المراحل والمفاوز تطلب معروفه وتقوم ببابه وكنت حرياً أن لا تفعل ذلك وأنت ابن علي في بأسه ونجدته، فما أدري ما الذي حملك على ذلك؟ أضعف حال أم وحي نحيزه «1» ؟ ما أظن لك مخرجاً من هذين الحالين أما والله لو استجمع لي ما استجمع لك لعلمت أنني ابن الزبير وأنني لا أنكص عن الأبطال، وكيف لا أكون وجدتي صفية بنت عبد المطلب وأبي الزبير حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشد الناس بأساً وأكرمهم حسباً في الجاهلية، وأطوعهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فالتفت الحسن إليه وقال: أما والله لولا أن بني أمية تنسبني إلى العجز عن المقال لكففت عنك تهاوناً بك، ولكن سأبين ذلك لتعلم أني لست بالكليل. أإياي تعير وعلي تفتخر، ولم تك لجدك في الجاهلية مكرمة أن لا تزوجه

عمتي صفية بنت عبد المطلب فبذخ بها على جميع العرف وشرف بمكانها، فكيف تفاخر من في القلادة وساطتها وفي الأشراف سادتها؟ نحن أكرم أهل الأرض زنداً، لنا المشرق الثاقب والكرم الغالب، ثم تزعم أني سلمت الأمر لمعاوية فكيف يكون؟ ويحك كذلك! وأنا ابن أشجع العرب ولدتني فاطمة سيدة النساء وخيرة الأمهات لم أفعل ويحك ذلك جبناً ولا فرقاً، ولكنه بايعني مثلك وهو يطلب يثرة ويداجيني المودة فلم أثق بنصرته لأنكم بيت غدر وأهل إحن ووتر، فكيف لا تكون كما أقول؟ وقد بايع أمير المؤمنين أبوك ثم نكث بيعته ونكص على عقبيه واختدع حشية من حشايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضل بها الناس، فلما دلف نحو الأعنة ورأى بريق الأسنة قتل بمضيعة لا ناصر له وأتى بك أسيراً، وقد وطئتك الكماة بأظلافها والخيل بسنابكها واعتلاك الأشتر فغصصت بريقك واقعيت على عقبيك كالكلب إذا احتوشته الليوث، فنحن ويحك نور البلاد وأملاكها وبنا تفتخر الأمة وإلينا تلقى مقاليد الأزمة، نصول وأنت تختدع النساء ثم تفتخر على بني الأنبياء لم تزل الأقاويل منا مقبولة وعليك وعلى أبيك مردودة. دخل الناس في دين جدي طائعين وكارهين، ثم بايعوا أمير المؤمنين صلوات الله عليه فسار إلى أبيك وطلحة حيث نكثا البيعة وخدعا عرس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلا عند نكثهما بيعته وأتي بك أسيراً تبصبص بذنبك فناشدته الرحم أن لا يقتلك فعفا عنك، فأنت عتاقة أبي وأنا سيدك وأبي سيد أبيك، فذق وبال أمرك، فقال ابن الزبير: أعذرنا يا أبا محمد فإنما حملني على محاورتك هذا واشتهى الإغراء بيننا فهلا إذ جهلت أمسكت عني فإنكم أهل بيت سجيتكم الحلم، قال الحسن: يا معاوية أنظر، أأكعو «1» عن محاورة أحد ويحك؟ أتدري من أي شجرة أنا وإلى من أنتمي؟ انته عني قبل أن اسمك بسمة يتحدث بها الركبان في آفاق البلدان، قال ابن الزبير: هو لذلك أهل، فقال: معاوية أما إنه قد شفا بلابل صدري منك ورمى فقتلك فبقيت في يده كالحجل في كف البازي يتلاعب بك كيف شاء، فلا أراك تفتخر على أحد بعد هذا. وذكروا أن الحسن بن علي صلوات الله

عليهما دخل على معاوية فقال في كلام جرى من معاوية في ذلك: فيم الكلام وقد سبقت مبرزا ... سبق الجواد من المدى والمقوس فقال معاوية، إياي تعني؟ والله لآتينك بما يعرفه قلبك ولا ينكره جلساؤك، أنا ابن بطحاء مكة، أنا ابن أجودها جوداً وأكرمها أبوة وجدوداً وأوفاها عهوداً، أنا ابن من ساد قريشاً ناشئاً. فقال الحسن: أجل! إياك أعني، افعلي تفتخر يا معاوية وأنا ابن ماء السماء وعروق الثرى وابن من ساد أهل الدنيا بالحسب الثاقب والشرف الفائق والقديم السابق وابن من رضاه رضى الرحمن وسخطه سخط الرحمن فهل لك أب كأبي أو قديم كقديمي، فإن تقل: «لا» تغلب، وإن تقل: «نعم» تكذب، فقال: أقول، «لا» تصديقاً لقولك، فقال الحسن رضي الله عنه: ألحق أبلج لا تزيغ سبيله ... والحق يعرفه ذوو الألباب قال: وقال معاوية ذات يوم، وعنده أشراف الناس من قريش وغيرهم: «أخبروني بأكرم الناس أبا وأما وعما وخالاً وخالة وجداً وجدة» فقام مالك بن عجلان، وأومأ إلى الحسن بن علي صلوات الله عليه، فقال: «هو ذا أبوه علي بن أبي طالب، وأمه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمه جعفر الطيار، وعمته أم هانىء بنت أبي طالب، وخاله القاسم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخالته زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجدته خديجة بنت خويلد» . فسكت القوم، ونهض الحسن، فأقبل عمرو بن العاص على مالك فقال: «أحب بني هاشم حملك على أن تكلمت بالباطل» ؟ فقال ابن عجلان: «ما قلت إلا حقاً، وما أحد من الناس يطلب مرضاة مخلوق بمعصية الخالق إلّا لم يعط أمنيته في دنياه، وختم له بالشقاء في آخرته، أليس بنو هاشم أنضركم عوداً وأوراكم زنداً، أكذلك هو معاوية» ؟ قال: «اللهم نعم» . قال: واستأذن الحسن بن علي رضي الله عنه على معاوية، وعنده عبد الله بن جعفر وعمرو ابن العاص، فأذن له، فلما أقبل قال عمرو: «قد

جاءكم الفهه العيي الذي كان بين لحييه عقله، فقال عبد الله بن جعفر: «مه، والله لقد رمت صخرة ململمة تنحط عنها السيول، وتقصر دونها الوعول، لا تبلغها السهام، فإياك والحسن إياك، فإنك لا تزال راتعاً في لحم رجل من قريش، ولقد رميت فما برح سهمك، وقدحت، فما أورى زندك» . فسمع الحسن الكلام، فلما أخذ مجلسه قال: «يا معاوية لا يزال عندك عبد يرتع في لحوم الناس، أما ولله لئن شئت ليكونن بيننا ما تتفاقم فيه الأمور، وتحرج منه الصدور» ثم أنشأ يقول: أتأمر يا معاوي عبد سهم ... بشتمي والملا منا شهود إذا أخذت مجالسها قريش ... فقد علمت قريش ما تريد أأنت تظل تشتمني سفاهاً ... لضغن ما يزول ولا يبيد فهل لك من أب كأبي تسامي ... به من قد تسامي أو تكيد ولا جدّ كجدّي يابن حرب ... رسول الله إن ذكر الجدود ولا أم كأمي من قريش ... إذا ما حصل الحسب التليد فما مثلي تهكم بابن حرب ... ولا مثلي ينهنهه الوعيد فمهلاً لا تهج منا أموراً ... يشيب لهولها الطفل الوليد وذكروا أن عمرو بن العاص قال لمعاوية: «ابعث إلى الحسن بن علي فأمره أن يخطب على المنبر، فلعله يحصر، فيكون في ذلك ما نعيره به» . فبعث إليه معاوية، فأمره أن يخطب، فصعد المنبر وقد اجتمع الناس، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن علي بن أبي طالب ابن عم النبي، أنا ابن البشير النذير، السراج المينر، أنا ابن من بعثه الله رحمة للعالمين. أنا ابن من بعث إلى الجن والأنس، أنا ابن مستجاب الدعوة، أنا ابن الشفيع المطاع، أنا ابن أول من ينفض رأسه من التراب، أنا ابن أول من يقرع باب الجنة، أنا ابن من قاتلت معه الملائكة ونصر بالرعب من مسيرة شهر» ، وأمعن في هذا الباب ولم يزل، حتى أظلمت الأرض على معاوية، فقال: «يا حسن قد

كنت ترجو أن تكون خليفة ولست هناك» ، قال الحسن: «إنما الخليفة من سار بسيرة رسول الله وعمل بطاعته، وليس الخليفة من دان بالجور، وعطل السنن، واتخذ الدنيا أباً وأماً، ولكن ذلك ملك أصاب ملكاً يمتع به قليلاً ويعذب بعده طويلاً، وكان قد انقطع عنه واستعجل لدته وبقيت عليه التبعة؟ فكان كما قال الله تعالى: «وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين» . ثم انصرف، فقال معاوية لعمرو: «ما أردت إلا هتكي. ما كان أهل الشام يرون أحداً مثلي، حتى سمعوا من الحسن ما سمعوا» . قال: وقدم الحسن بن علي رضي الله عنه على معاوية، فلما دخل عليه، وجد عنده عمرو ابن العاص، ومروان بن الحكم، والمغيرة بن شعبة، وصناديد قومه ووجوه أهل بيته، ووجوه أهل اليمن وأهل الشام، فلما نظر إليه معاوية، أقعده على سريره، وأقبل عليه بوجهه يريه السرور به وبقدومه، فحسده مروان وقد كان معاوية قال لهم: «لا تحاوروا هذين الرجلين، فقد قلداكم العار عند أهل الشام» - يعني الحسن بن علي رضي الله عنه، وعبد الله بن عباس- فقال مروان: «يا حسن، لولا حلم أمير المؤمنين وما قد بناه له آباؤه الكرام من المجد والعلى، ما أقعدك هذا المقعد، ولقتلك، وأنت لهذا مستحق بقودك الجماهير إلينا، فلما قاومتنا وعلمت ألا طاقة لك بفرسان أهل الشام، وصناديد بني أمية، أذعنت بالطاعة، واحتجزت بالبيعة، وبعثت تطلب الأمان. أما والله لولا ذلك لأراق دمك، ولعلمت أنا نعطي السيوف حقها عند الوغى، فاحمد الله إذ ابتلاك بمعاوية، وعفا عنك بحلمه، ثم صنع بك ما ترى» . فنظر إليه الحسن وقال: «ويلك يا مروان، لقد تقلدت مقاليد العار في الحروب عند مشاهدتها. والمخاذلة عند مخالطتها. هبلتك أمك. لنا الحجج البوالغ، ولنا عليكم، إن شكرتم، النعم السوابغ، ندعوكم إلى النجاة، وتدعوننا إلى النار، فشتان ما بين المنزلتين. تفتخر ببني أمية وتزعم أنهم صبر في الحرب، أسد عند اللقاء، ثكلتك الثواكل أولئك البهاليل السادة، والحماة الذادة، والكرام القادة، بنو عبد المطلب. أما والله لقد رأيتهم أنت، وجميع

من في المجلس، ما هامتهم الأهوال، ولا حادوا عن الأبطال، كالليوث الضارية الباسلة الحنقة، فعندها وليت هارباً وأخذت أسيراً، فقلدت قومك العار، لأنك في الحروب خوار، أتهرق دمي؟ فهلا أهرقت دم من وثب على عثمان في الدار، فذبحه كما يذبح الحمل وأنت تثغو ثغاء النعجة، وتنادي بالويل والثبور كالمرأة الوكعاء، ما دافعت عنه بسهم، ولا منعت دونه بحرب، قد ارتعدت فرائصك، وغشي بصرك، واستغثت كما يستغيث العبد بربه، فأنجيتك من القتل، ثم جعلت تبحث عن دمي، وتحض على قتلي، ولو رام ذلك معاوية معكم، لذبح كما ذبح ابن عفان، وأنت معه أقصر يداً، وأضيق باعاً، وأجبن قلباً من أن تجسر على ذلك، ثم تزعم أني ابتليت بحلم معاوية؟ أما والله لهو أعرف بشأنه، وأشكر لنا إذ وليناه هذا الأمر، فمتى بدا له، فلا يغضين جفنه على القذى معك، فو الله لأعنفن أهل الشام بجيش يضيق فضاؤه، ويستأصل فرسانه، ثم لا ينفعك عند ذلك الروغان والهرب، ولا تنتفع بتدريجك الكلام، فنحن من لا يجهل آباؤنا الكرام القدماء الأكابر، وفروعنا السادة الأخيار الأفاضل، انطق إن كنت صادقاً» . فقال عمرو: «ينطق بالخنا وتنطق بالصدق» ، ثم أنشأ يقول: قد يضرط العير والمكواة تأخذه ... لا يضرط العير والمكواة في النار «ذق وبال أمرك يا مروان» فأقبل عليه معاوية فقال: «قد نهيتك عن هذا الرجل، وأنت تأبى إلا انهماكا فيما لا يعنيك، أربع على نفسك فليس أبوه كأبيك، ولا هو مثلك. أنت ابن الطريد الشرير وهو ابن رسول الله صلى الله عليه وسلّم الكريم، ولكن رب باحث عن حتفه بظلفه» . فقال مروان: «ارم دون بيضتك، وقم بحجة عشيرتك» ، ثم قال لعمرو: «لقد طعنك أبوه فوقيت نفسك بخصيتيك، ومنها ثنيت أعنتك، وقام مغضباً» . فقال معاوية: «لا تجار البحار فتغمرك، ولا الجبال فتقهرك، واسترح من الاعتذار» . قال: ولقي عمرو بن العاص، الحسن بن علي عليهما السلام في الطواف، فقال: «يا حسن. أزعمت أن الدين لا يقوم إلا بك وبأبيك؟ فقد رأيت الله أقامه بمعاوية، فجعله ثابتاً بعد ميله، وبيناً بعد خفائه، أفيرضى الله

قتل عثمان، أم من الحق أن تدور بالبيت كما يدور الجمل بالطحين؟ عليك ثياب كغرقيء البيض، وأنت قاتل عثمان، والله إنه لألم للشعث، وأسهل للوعث، إن يوردك معاوية حياض أبيك» . فقال الحسن صلوات الله عليه: «إن لأهل النار علامات يعرفون بها: وهي الإلحاد في دين الله، والموالاة لأعداء الله، والانحراف عن دين الله، والله إنك لتعلم أن علياً لم يتريث في الأمر، ولم يشك في الله طرفة عين، وأيم الله لتنتهين يا بن العاص، أو لأقرعن قصتك- يعني جبينه- بقراع وكلام، وإياك والجراءة عليّ فإني من عرفت لست بضعيف المغمز، ولا بهش المشاشة- يعني العظام- ولا بمرىء المأكلة، وإني لمن قريش كأوسط القلادة، معرق حسبي لا أدعى لغير أبي، وقد تحاكمت فيك رجال من قريش، فغضب عليك ألأمها حسباً، وأعظمها لعنة، فإياك عني! فإنما أنت نجس، ونحن أهل بيت الطهارة، أذهب الله عنا الرجس وطهرنا تطهيراً» . قال: واجتمع الحسن بن علي صلوات الله عليهما، وعمرو بن العاص، فقال الحسن: «قد علمت قريش بأسرها أني منها في عز أرومها لم أطبع على ضعف، ولم أعكس على خسف، أعرف نسبي، وأدعى لأبي» . فقال عمرو: «وقد علمت قريش أنك ابن أقلها عقلاً، وأكثرها جهلاً، وإن فيك خصالاً لو لم يكن فيك إلا واحدة منها، لشملك خزيها، كما شمل البياض الحائك، وايم الله لئن لم تنته عما أراك تصنع، لأكبسن لك حافة كجلد العائط، إذا اعتاطت رحمها، فما تحمل، أرميك من خللها بأحر من وقع الأثافي، أعرك منها أديمك عرك السلعة، فإنك طالما ركبت المنحدر، ونزلت في أعراض الوعر، التماساً للفرقة وإرصاداً للفتنة، ولن يزيدك الله فيها إلا فظاعة» . فقال الحسن: «أما والله لو كنت تسمو بحسبك، وتعمل برأيك، ما سلكت فج قصد، ولا حللت راية مجد، أما والله لو أطاعنا معاوية، لجلعك بمنزلة العدو الكاشح، وإنه طال ما تأخر شأوك، واستسر داؤك، وطمح بك الرجاء إلى الغاية القصوى التي لا يروق بها غصنك، ولا يخضر منها رعيك، أما والله لتوشكن بابن العاص أن تقع

بين لحيي ضرغام، ولا ينجيك منه الروغان إذا التقت حلقتا البطان. ابن المنذر عن أبيه الشعبي عن ابن عباس أنه دخل المسجد وقد سار الحسين بن علي رضي الله عنه إلى العراق، فإذا هو بابن الزبير في جماعة من قريش، قد استعلاهم بالكلام، فجاء ابن عباس فضرب بيده على عضد ابن الزبير، وقال: أصبحت والله كما قال الشاعر: يا لك من قنبرة بمعمر ... خلا لك الجو فبيضي وأصفري ونقري ما شئت أن تنقّري ... قد ذهب الصّيّاد عنك فابشري لا بدّ من أخذك يوماً فاصبري «1» خلت الحجاز من الحسين بن علي، وأقبلت تهدر في جوانبها، فغضب ابن الزبير وقال: «والله إنك لترى أنك أحق بهذا من غيرك» ، فقال ابن عباس: «إنما يرى ذلك من كان في حال شك، وأنا من ذلك على يقين» ، قال: «وبأي شيء أستحق عندك أنك بهذا الأمر أحق مني» ؟ فقال ابن عباس: «لأنا أحق بمن يدل بحقه، وبأي شيء أستحق عندك أنك أحق بها من سائر العرب إلا بنا؟ فقال ابن الزبير: «أستحق عندي أني أحق بها منكم لشرفي عليكم قديماً وحديثاً» ، فقال: «أنت أشرف أم من شرفت به» ؟ فقال: «إن من شرفت به زادني شرفاً إلى شرفي» ، قال: «فمني الزيادة أم منك» ؟ فتبسم ابن عباس، فقال ابن الزبير: «يابن عباس، دعني من لسانك هذا الذي تقلبه كيف شئت، والله يا بني هاشم لا تحبوننا أبداً» . قال ابن عباس: «صدقت، نحن أهل بيت مع الله، لا نحب من أبغضه الله» ، قال: «يابن عباس، أما ينبغي لك أن تصفح عن كلمة واحدة «إنما يصفح عمن أقر، وأما من هر فلا، والفضل لأهل الفضل» ، فقال ابن الزبير: «فأين الفضل» ؟ قال: «عند أهل البيت لا تصرفه عن أهله فتظلم، ولا تضعه في غير أهله فتندم» . قال ابن الزبير: «أفلست من أهله» ؟ قال: «بلى إن نبذت الحسد، ولزمت الجدد» .

وانقضى حديثهما. وروي عن ابن عباس أنه قال: قدمت على معاوية وقد قعد على سريره وجمع من بني أمية ووفود العرب عنده، فدخلت، وسلمت، وقعدت فقال: «يابن عباس من الناس» ؟ فقلت: «نحن» ، قال: «فإذا غبتم» ، قلت: «فلا أحد» ، قال: «فإنك ترى إني قعدت هذا المقعد بكم» ، قلت: «نعم فيمن قعدت» ؟ قال: «بمن كان مثل حرب بن أمية» ، قلت: «من كفأ عليه إناءه وأجاره بردائه» . قال: فغضب وقال: «أرحني من شخصك شهراً، فقد أمرت لك بصلتك، وأضعفتها لك» ، فلما خرج ابن عباس، قال لخاصته: «ألا تسألونني ما الذي أغضب معاوية» ؟ قالوا: «بلى، فقل بفضلك» ، قال: «إن أباه حرباً لم يلق أحداً من رؤساء قريش في عقبة ولا مضيق إلا تقدمه حتى يجوزه، فلقيه يوماً رجل من تميم في عقبة فتقدمه التميمي» ، فقال حرب: «أنا حرب بن أمية، فلم يلتفت إليه وجازه، فقال: موعدك مكة، فخافه التميمي، ثم أراد دخول مكة، فقال: «من يجيرني من حرب بن أمية» ؟ فقيل له: «عبد المطلب» ، فقال: «عبد المطلب أجل قدراً من أن يجير على حرب» . فأتى ليلاً إلى دار الزبير بن عبد المطلب، فدق بابه فقال الزبير لعبده: قد جاءنا رجل إما طالب قرى، وإما مستجير، وقد أجبناه إلى ما يريد، ثم خرج الزبير إليه، فقال التميمي: لا قيت حرباً في الثنية مقبلاً ... والصبح أبلج ضوءه للساري فدعا بصوتٍ واكتنى ليروعني ... وسما علي سمو ليثٍ ضاري فتركته كالكلب ينبح ظله ... وأتيت قرم معالم وفخار ليثاً هزبراً يستجار بعزه ... رحب المباءة مكرماً للجار «1» ولقد حلفت يمكّة وبزمزمٍ ... والبيت ذي الأحجار والأستار إن الزبير لما نعي من خوفه ... ما كبر الحجاج في الأمصار

فقدمه الزبير وأجاره، ودخل به المسجد، فرآه حرب فقام إليه فلطمه، فحمل عليه الزبير بالسيف فولى هارباً يعدو حتى دخل دار عبد المطلب فقال: «أجرني من الزبير» ، فأكفأ عليه جفنة كان هاشم يطعم فيها الناس، فبقي تحتها ساعة ثم قال له: أخرج، قال: «وكيف أخرج وعلى الباب تسعة من بنيك قد احتبوا بسيوفهم» ؟ فألقى عليه رداء كان كساه إياه سيف بن ذي يزن، له طرتان خضروان، فخرج عليهم فعلموا أنه قد أجاره عبد المطلب، فتفرقوا عنه» . قال: وحضر مجلس معاوية عبد الله بن جعفر، فقال عمرو بن العاص: «قد جاءكم رجل كثير الخلوات بالتمني، والطربات بالتغني، محب للقيان، كثير مزاحه، شديد طماحه، سدود عن الشبان، ظاهر الطيش، رخي العيش، أخاذ بالسلف، منفاق بالسرف» ، فقال ابن عباس: «كذبت، والله، أنت، وليس كما ذكرت، ولكنه لله ذكور، ولنعمائه شكور، وعن الخنا زجور، جواد كريم، سيد حليم، إذا رمى أصاب، وإذا سئل أجاب، غير حصر ولا هياب؛ ولا عيابة مغتاب؛ حل من قريش في كريم النصاب كالهزبر الضرغام، الجريء المقدام، في الحسب القمقام، ليس بدعي ولا دنيء، لا كمن اختصم فيه من قريش شرارها، فغلب عليه جزارها، فأصبح ألأمها حسباً، وأدناها منصباً ينوء منها بالذليل، ويأوي منها إلى القليل، مذبذب بين الحيين كالساقط بين المهدين، لا المضطر فيهم عفروه، ولا الظاعن عن عنهم فقدوه، فليت شعري بأي قدر تتعرض للرجال، وبأي حسب تعتد به عند النضال؟ أبنفسك، وأنت الوغد اللئيم، والنكد الذميم، والوضيع الزنيم؟ أم بمن تنمى إليهم، وهم أهل السفه والطيش، والدناءة في قريش؟ لا بشرف في الجاهلية شهروا، ولا بقديم في الإسلام ذكروا، جعلت تتكلم بغير لسانك، وتنطق بالزور في غير أقرانك، والله لكان أبين للفضل، وأبعد للعدوان، أن ينزلك معاوية منزلة البعيد السحيق، فإنه طالما سلس داؤك، وطمح بك رجاؤك إلى الغاية القصوى التي لم يخضر فيها رعيك، ولم يورق فيها غصنك» . فقال عبد الله

بن جعفر: «أقسمت عليك لما أمسكت، فإنك عني ناضلت، ولي فاوضت» ، فقال ابن عباس: «دعني والعبد فإنه قد كان يهدر خاليا، ولا يجد ملاحيا، وقد أتيح له ضيغم شرس، للأقران مفترس، وللأرواح مختلس» ، فقال ابن العاص: «دعني يا أمير المؤمنين أنتصف منه، فو الله ما ترك شيئاً» . قال ابن عباس: «دعه فلا يبقى المبقي إلا على نفسه» . فو الله إن قلبي لشديد، وإن جوابي لعتيد، وإني لكما قال نابغة بني ذبيان: وقدماً قد قرعت وقارعوني ... فما نزر الكلام ولا شجاني يصد الشاعر العراف عني ... صدود البكر عن قرم هجان قال وبلغ عاثمة بنت عاثم ثلب معاوية وعمرو بن العاص لبني هاشم، فقالت لأهل مكة أيها الناس، إن بني هاشم سادت فجادت، وملكت وملكت، وفضلت وفضلت، واصطفت واصطفيت، ليس فيها كدر عيب ولا أفك ريب، ولا خسروا طاغين ولا خازين، ولا نادمين، ولا هم من المغضوب عليهم ولا الضالين، إن بني هاشم أطول الناس باعاً، وأمجد الناس أصلاً، وأعظم الناس حلماً، وأكثر الناس علماً وعطاءً، منا عبد مناف المؤثر، وفيه يقول الشاعر: كانت قريش بيضةً فتفلقت ... فالمح خالصها لعبد مناف وولده هاشم الذي هشم الثريد لقومه، وفيه يقول الشاعر: عمر العلا هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف ومنا عبد المطلب الذي سقينا به الغيث، وفيه يقول أبو طالب: ونحن سني المحل قام شفيعنا ... بمكة يدعو والمياه تغور وابنه أبو طالب عظيم قريش، وفيه يقول الشاعر: آتيته ملكاً فقام بحاجتي ... وترى العليج خائباً مذموما ومنا العباس بن عبد المطلب، أردفه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاه ماله، وفيه

يقول الشاعر: رديف رسول الله لم نر مثله ... ولا مثله الماجد البر الوصول ومنا جعفر ذو الجناحين، أحسن الناس حالاً، وأكملهم كمالاً، ليس بغدار ولا جبان، أبدله الله بكلتا يديه جناحين يطير بهما في الجنة، وفيه يقول الشاعر: هاتوا كجعفرنا ومثل علينا ... كانا أعز الناس عند الخالق ومنا أبو الحسن علي بن أبي طالب، صلوات الله عليه، أفرس بني هاشم، وأكرم من احتبى وانتعل، وفيه يقول الشاعر: علي ألف الفرقان صحفاً ... ووالى المصطفي طفلاً صبيا ومنا الحسن بن علي عليه السلام، سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيد شباب أهل الجنة، وفيه يقول الشاعر: يا أجل الأنام يابن الوصي ... أنت سبط النبي وابن علي ومنا الحسين بن علي حمله جبريل عليه السلام على عاتقه، وكفاه بذلك فخراً، وفيه يقول الشاعر: حب الحسين ذخيرةٌ لمحبه ... يا رب فاحشرني غداً في حزبه يا معشر قريش والله ما معاوية كأمير المؤمنين علي، ولا هو كما يزعم هو والله شانىء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني آتية معاوية وقائلة له ما يعرق منه جبينه، ويكثر منه عويله وأنينه» ، فكتب عامل معاوية إليه بذلك، فلما بلغه أنها قربت منه، أمر بدار ضيافة فنظفت، وألقى فيها فرش، فلما قربت من المدينة، استقبلها يزيد في حشمه ومماليكه، فلما دخلت المدينة، أتت دار أخيها عمرو بن عائم، فقال لها يزيد: «إن أبا عبد الرحمن يأمرك أن تنتقلي إلى دار ضيافته» ، وكانت لا تعرفه، فقالت: «من أنت كلأك الله» ؟ قال: «إني يزيد بن معاوية» ، قالت: «فلا رعاك الله يا ناقص لست بزائد» ، فتغير لون يزيد، وأتى أباه فأخبره فقال: «هي أسن قريش وأعظمهم

حلماً» ، قال يزيد: «كم تعد لها» ؟ قال: «كانت تعد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعمائة عام، وهي من بقية الكرام» ، فلما كان من الغد أتاها معاوية فسلم عليها فقالت: «على المؤمنين السلام، وعلى الكافرين الهوان والملام» ، ثم قالت: «أفيكم عمرو بن العاص» ! قال عمرو: «ها أناذا» ، قالت: «أنت تسب قريشاً وبني هاشم، وأنت أهل السب، وفيك السب، وإليك يعود السب؛ يا عمرو إني والله عارفه بك وبعيوبك، وعيوب أمك، وإني اذكر ذلك: ولدت من أمة سوداء، مجنونة حمقاء، تبول من قيامها، وتعلوها اللئام، وإذا لامسها الفحل فكان نطفتها أنفذ من نطفته، ركبها في يوم واحد أربعون رجلاً، وأما أنت فقد رأيتك غاوياً غير مرشد، ومفسداً غير مصلح، والله لقد رأيت فحل زوجتك على فراشك، فما غرت ولا أنكرت، وأما أنت يا معاوية فما كنت في خير، ولا ربيت في نعمة، فما لك ولبني هاشم؟ نساؤك كنسائهم؟ أم أعطى أمية في الجاهلية والإسلام ما أعطى هاشم؟ وكفى فخرا برسول الله» ، فقال معاوية: «أيتها الكبيرة أنا كاف عن بني هاشم» ، قالت: «فإني أكتب عليك كتاباً فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا ربه أن يستجيب لي خمس دعوات، أفأجعل تلك الدعوات كلها فيك» ؟ فخاف معاوية فحلف لا يسب بني هاشم أبداً، فهذا ما كان بين معاوية وبين هاشم من المفاخرة. قال: وكان علي بن عبد الله بن عباس عند عبد الملك بن مروان، فاخذ عبد الملك يذكر أيام بني أمية، فبينا هو على ذلك، نادى المنادي بالآذان، فقال: «أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله» ، فقال علي: هذي المكارم لا قعبان من لبن ... شيباً بماء، فعادا بعد أبوالا فقال عبد الملك: الحق في هذا أبين من أن يكابر. قال علي بن محمد النديم: دخلت على المتوكل وعنده الرضي فقال: «يا علي من أشعر الناس في زماننا» ؟ قلت: «البحتري» ، قال:

«وبعده» ، قلت: «مروان بن أبي حفصة عبدك» ، فالتفت إلى الرضي فقال: «يابن عم، من أشعر الناس» ؟ قال: «علي بن محمد العلوي» ، قال: «وما تحفظ من شعره» ؟ قال قوله: لقد فاخرتنا من قريش عصابةٌ ... بمط خدودٍ وامتداد أصابع فلما تنازعنا القضاء قضى لنا ... عليهم بما نهوى نداء الصوامع فقال المتوكل: «ما معنى قوله: نداء الصوامع» ؟ قال: «الشهادة» ، قال: «وأبيك أنه أشعر الناس» . ومما قيل في هذا المعنى من الشعر قوله أيضاً: بلغنا السماء بأنسابنا ... ولولا السماء لجزنا السماء فحسبك من سؤدد أننا ... بحسن البلاء كشفنا البلاء إذا ذكر الناس كنا ملوكاً ... وكانوا عبيداً وكانوا إماء يطيب الثناء لآبائنا ... وذكر علي يطيب الثناء هجاني رجالٌ ولم أهجهم ... أبى الله لي أن أقول الهجاء وقال آخر: وإني من القوم الذين عرفتهم ... إذا مات منهم سيدٌ قام صاحبه أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه نجوم السماء كلما انقض كوكبٌ ... بدا كوكبٌ تأوي إليه كواكبه وقال آخر: خطباء حين يقول قائلهم ... بيض الوجوه مقاولٌ لسن لا يفطنون لعيب جارهم ... وهم لحفظ جوارهم فطن وضده: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تفتخروا بآبائكم في الجاهلية فو الذي نفسي بيده لما يد حرج الجعل برجله خير من آبائكم الذين ماتوا في الجاهلية» . قال: وكان الحسن البصري يقول:

«يا ابن آدم، لم تفتخر، وإنما خرجت من سبيل بولين نطفة مشجت بأقذار» . وقال بعضهم لرجل: «أتفتخر؟ ويحك وأولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت فيما بينهما وعاء عذرة، فما هذا الافتخار» ؟ وروي عن ابن عباس، أنه قال: «الناس يتفاضلون في الدنيا بالشرف والبيوتات والإمارات والغنى والجمال والهيئة والمنطق، ويتفاضلون في الآخرة بالتقوى واليقين، وأتقاهم أحسنهم يقيناً، وأزكاهم عملاً، وأرفعهم درجة» . وقيل في ذلك: يزين الفتى في الناس صحة عقله ... وإن كان محظوراً عليه مكاسبه وشين الفتى في النّاس قيّلة عقله ... وإن كرمت آباؤه ومناسبه وقيل لعامر بن قيس: «ما تقول في الإنسان» ؟ قال: وما أقول فيمن إن جاع ضرع وإن شبع بغى وطغى» . وقال بعض الحكماء: «لا يكون الشرف بالنسب. ألا ترى أن أخوين لأب وأم يكون أحدهما أشرف من الآخر، ولو كان ذلك من قبل النسب لما كان لأحد منهم على الآخر فضل، لأن نسبهما واحد، ولكن ذلك من قبل الأفعال، لأن الشرف إنما هو بالفضل لا بالنسب» . قال الشاعر: أبوك أبي والجد لا شك واحدٌ ... ولكننا عودان آس وخروع وبلغنا عن المدائني قال: ليس السؤدد بالشرف، وقد ساد الأحنف بن قيس بحلمه، وحصين بن المنذر برأيه، ومالك بن مسمع بمحبته في العامة، وسويد بن منجوف بعطفه على أرامل قومه، وساد المهلب بن أبي صفرة بجميع هذه الخصال. وأما الشرف بالدين فالحديث المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم انه أتاه أعرابي، فقال: «بأبي أنت وأمي، يا رسول الله، من أكرم الناس حسناً» ؟ قال: «أحسنهم خلقاً وأفضلهم تقوى» ، فانصرف الأعرابي، فقال: «ردوه» ، ثم قال: «يا أعرابي، لعلك أردت أكرم الناس نسباً» ، قال: «نعم يا رسول الله» ، قال: «يوسف الصديق، صديق الله بن يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله فأين مثل

هؤلاء الآباء في جميع الدنيا ما كان مثلهم ولا يكون مثلهم أحد أبداً» ، وقال الشاعر في ذلك: ولم أر كالأسباط أبناء والدٍ ... ولا كأبيهم والداً حين ينسب قال: ودخل عيينة بن حصن الفزاري على رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتسب له، فقال: «أنا ابن الأشياخ الأكارم» ، فقال صلى الله عليه وسلم: «أنت إذاً يوسف صديق الرحمن عليه السلام ابن يعقوب إسرائيل الله ابن إسحق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله» . وقال صلى الله عليه وسلم: «خير البشر آدم، وخير العرب محمد، وخير الفرس سلمان الفارسي، وخير الروم صهيب، وخير الحبشة بلال» . قال: وسمع عمر بن الخطاب، وهو خليفة، صوتاً ولفظاً بالباب فقال بعض من عنده: «اخرج فانظر من كان من المهاجرين الأولين فأدخله» ، فخرج الرسول فوجد بلالاً وصهيبا وسلمان فأدخلهما، وكان أبو سفيان بن حرب وسهيل بن عمرو في عصابة من قريش جلوساً على الباب فقال: «يا معشر قريش، أنتم صناديد العرب وأشرافها وفرسانها بالباب، ويدخل حبشي وفارسي ورومي» ، فقال سهيل: «يا أبا سفيان أنفسكم فلوموا، ولا تذموا أمير المؤمنين، دعي القوم فأجابوا، ودعيتم فأبيتم، وهم يوم القيامة أعظم درجات واكثر تفضيلاً» ، فقال أبو سفيان: «لا خير في مكان يكون فيه بلال شريفاً» . فأما صناعات الأشراف، فإنه روى أن أبا طالب كان يعالج العطر والبز، وأما أبو بكر وعمر وطلحة وعبد الرحمن بن عوف فكانوا بزازين، وكان سعد بن أبي وقاص يعذق النخل، وكان أخوه عتبة نجاراً، وكان العاص بن هشام أخو أبي جهل بن هشام جزاراً، وكان الوليد ابن المغيرة حدادا، وكان عقبة بن أبي معيط خماراً، وكان عثمان بن طلحة صاحب مفتاح البيت خياطا، وكان أبو سفيان بن حرب يبيع الزيت والأدم، وكان أمية بن خلف يبيع البرم، وكان عبد الله بن جدعان نخاساً، وكان العاص بن وائل يعالج الخيل والإبل، وكان جرير بن عمرو وقيس أبو الضحاك بن قيس، ومعمر بن

عثمان، وسيرين بن محمد بن سيرين، كانوا كلهم حدادين، وكان المسيب أبو سعيد زياتاً، وكان ميمون بن مهران بزازاً، وكان مالك بن دينار وراقا، وكان أبو حنيفة صاحب الرأي خزازا، وكان مجمع الزاهد حائكاً. قيل: اتخذ يزيد بن المهلب بستاناً في داره بخراسان، فلما ولى قتيبة ابن مسلم، جعله لإبله، فقال مرزبان مرو: «هذا كان بستاناً وقد اتخذته لإبلك» ، فقال قتيبة: «أبي كان اشتربان وكان أبو يزيد بستانبان فمنها صار ذلك كذلك» . قال: وذكروا أن المأمون ذكر أصحاب الصناعات فقال: السوقة سفل، والصناع أنذال، والتجار بخلاء، والكتاب ملوك على الناس، والناس أربعة: أصحاب الحرف وهي: أمارة، وتجارة، وصناعة، وزراعة، فمن لم يكن منهم صار عيالاً عليهم.

محاسن الثقة بالله

محاسن الثقة بالله قيل: خطب سليمان بن عبد الملك فقال: «الحمد لله الذي أنقذني من ناره بخلافته» . وقال الوليد بن عبد الملك: «لأشفعن للحجاج بن يوسف، وقرة بن شريك عند ربي» . وقال الحجاج: «يقولون مات الحجاج، ما أرجو الخير كله إلا بعد الموت، والله ما رضي الله البقاء إلا لأهون خلقه عليه، أليس إبليس إذ قال: «رب انظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم» . وقا أبو جعفر المنصور: «الحمد لله الذي أجارني بخلافته، وأنقذني من النار بها» . وحدثني إبراهيم بن عبد الله «1» عن أنس بن مالك قال: «دخلنا على قوم من الأنصار، وفيهم فتى عليل، فلم نخرج من عنده حتى قضى نحبه، فإذا عجوز عند رأسه، فالتفت إليها بعض القوم فقال: استسلمي لأمر الله واحتسبي، قالت: أمات ابني؟ قال: نعم، قالت: أحق ما تقولون؟ قلنا: نعم، فمدت يدها إلى السماء وقالت اللهم إنك تعلم أني أسلمت لك، وهاجرت إلى نبيك محمد صلوات الله عليه، رجاء أن تغيثني عند كل شدة، فلا تحملني هذه المصيبة اليوم، فكشف ابنها الذي سجيناه وجهه، وما برحنا حتى طعم، وشرب، وطعمنا معه» . وضده، قال عيسى بن مريم صلوات الله تعالى عليه: «يا معشر

الحواريين أن ابن آدم مخلوق في الدنيا في أربع منازل: هو في ثلاث منها واثق، وهو في الرابعة سيىء الظن يخاف خذلان الله إياه، فإما المنزلة الأولى فإنه خلق في ظلمات ثلاث: ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة، فوفاه الله رزقه في جوف ظلمة البطن، فإذا أخرج من ظلمة البطن، وقع في اللبن لا يخطو إليه بقدم ولا ساق، ولا يتناوله بيد، ولا ينهض إليه بقوة، بل يكره إليه إكراهاً، ويؤجر إيجاراً حتى ينبت عليه لحمه ودمه، فإذا ارتفع عن اللبن، وقع في المنزلة الثالثة من الطعام من أبويه يكسبان عليه من حلال وحرام، فإن ماتا، عطف عليه الناس، هذا يطعمه، وهذا يسقيه، وهذا يؤويه، وهذا يكسوه. فإذا وقع في المنزلة الرابعة، واشتد واستوى، وكان رجلاً، خشي أن يرزق، فيثب على الناس، فيخون أماناتهم، ويسرق أمتعتهم، ويغصبهم أموالهم مخافة خذلان الله تعالى إياه.

محاسن طلب الرزق

محاسن طلب الرزق قال عمرو بن عتبة: «من لم يقدمه الحزم أخره العجز» ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله تبارك وتعالى: «يابن آدم أحدث لي سفراً أحدث لك رزقاً» ، وفي بعض الحديث «سافروا تغنموا» . وقال الكميت بن زيد الأسدي: ولن يزيح هموم النفس إن حضرت ... حاجات مثلك إلا الرحل والجمل وقال أبو تمام الطائي: وطول مقام المرء في الحي مخلقٌ ... لديباجتيه، فاغترب تتجدد فإني رأيت الشمس زيدت محبةً ... إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد وقال بعض الحكماء: «لا تدع الحيلة في التماس الرزق بكل مكان، فإن الكريم محتال والدنيء عيال وأنشد يقول: فسر في بلاد الله والتمس الغنى ... تعش ذا يسارٍ أو تموت فتعذرا ولا ترض من عيش بدون ولا تنم ... وكيف ينام الليل من كان معسرا وتقول العامة: «كلب جوال خير من أسد رابض» ، وتقول: «من غلى دماغه صائفاً، غلت قدره شاتياً» . ووقع عبد الله بن طاهر: «من سعى رعى، ومن لزم المنام رأى الأحلام» . هذا المعنى سرقه من توقيعات أنوشروان فإنه يقول: «هرك روذ جرد هرك خسبد خراب ببند» . وأنشد: كفى حزناً أن النوى قذفت بنا ... بعيداً وأن الرزق أعيت مذاهبه ولو أننا إذ فرق الدهر بيننا ... غنى واحدٍ منا تمول صاحبه

ولكننا من دهرنا في مؤونةٍ ... يكالبنا طوراً وطوراً نكالبه وقال آخر: ومن يك مثلي ذا عيالٍ ومقتراً ... من المال يطرح نفسه كل مطرح ليبلغ عذراً أو ينال غنيمةً ... ومبلغ نفسٍ عذرها مثل منجح وقال آخر: وليس الرزق عن طلبٍ حثيثٍ ... ولكن أدل دلوك في الدّلاء تجئك بملئها حينا وطورا ... تجيّ بحمأة وقليل ماء وضده، قيل: وجد في بعض خزائن ملوك العجم لوح من حجارة، مكتوب عليه: «كن لما لا ترجو، أرجى منك لما ترجو؛ فإن موسى عليه السلام خرج ليقبس ناراً، فنودي بالنبوة» . وبلغنا عن ابن السماك أنه قال: «لا تشتغل بالرزق المضمون عن العمل المفروض، وكن اليوم مشغولاً بما أنت مسؤول عنه غداً، وإياك والفضول، فإن حسابها يطول» . قال الشاعر: إني علمت، وعلم المرء ينفعه ... أن الذي هو رزقي سوف يأتيني أسعى له فيعنّيني تطلبه ... ولو قعدت، أتاني لا يعنيني وقال آخر: لعمرك ما كل التعطل ضائر ... ولا كلّ شغل فيه للمرء منفعة إذا كانت الأرزاق في القرب والنوى ... عليك سواءً، فاغتنم لذة الدعة وقال آخر: سهل عليك، فإنّ الرزق مقدور ... وكل مستأنفٍ في اللوح، مسطور أتى القضاء بما فيه لمدته ... وكل ما لم يكن فيه، فمخطور لا تكذبن فخير القول أصدقه ... إن الحريص على الدنيا لمغرور ؟ وقال آخر: لا تعتبن على العباد، فإنما ... يأتيك رزقك حين يؤذن فيه

وقال آخر: هي المقادير تجري في أعنتها ... فاصبر فليس لها صبرٌ على حال يوما تريش خسيس القوم ترفعه ... دون السّماء ويوما تخفض العالي وقال آخر: اصبر على زمن جم نوائبه ... فليس من شدةٍ إلا لها فرج تلقاه بالأمس في عمياء مظلمةٍ ... ويصبح اليوم قد لاحت له السرج وقال آخر: ألا رب راج حاجةً لا ينالها ... وآخر قد تقضى له وهو آيس يجول لها هذا وتقضى لغيره ... فتأتي الذي تقضى له وهو جالس وقال آخر: فلما أن عنيت بما ألاقي ... وأعيتني المسائل بالقروض دعوت الله لا أرجو سواه ... وربّ العرش ذو فرج عريض وقال آخر: يا صاحب الهم إن الهم منفرجٌ ... أبشر بخيرٍ كأن قد فرج الله اليأس يقطع أحياناً بصاحبه ... لا تيأسن فإن الصانع الله إذا ابتليت فثق بالله وارض به ... إن الذي يكشف البلوى هو الله وقال آخر: وإذا تصبك من الحوادث نكبةٌ ... فاصبر، فكل بليةٍ تتكشّف

محاسن المواعظ

محاسن المواعظ قال الأصمعي «1» : حججت، فنزلت ضرية، فإذا أعرابي قد كور عمامته على رأسه، وقد تنكب قوساً؛ فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أيها الناس! إنما الدنيا دار ممر، والآخرة دار مقرّ. فخذوا من ممرّكم لمقركم، ولا تهتكوا أستاركم عند من يعلم أسراركم. أما بعد، فإنه لن يستقبل أحدٌ يوماً من عمره إلا بفراق آخر من أجله؛ فاستعجلوا لأنفسكم لما تقدمون عليه، لا لما تطعنون عنه؛ وراقبوا من ترجعون إليه، فإنه لا قويّ أقوى من خالق ولا ضعيف أضعف من مخلوق، ولا مهرب من الله إلا إليه؛ وكيف يهرب من يتقلّب بيني يدي طالبه «وإنما توفون أجوركم يوم القيامة، فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة، فقد فاز، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور» . وقال بعض الأعراب: «إن الموت ليقتحم على بني آدم كاقتحام الشيب على الشباب؛ ومن عرف الدنيا لم يفرح بها فهو خائف، ولم يحزن فيها على بلوى؛ ولا طالب أغشم من الموت، ومن عطف عليه الليل والنهار أردياه، ومن وكل به الموت أفناه» . وقال أعرابي: «كيف يفرح بممر تنقصه الساعات، وبسلامة بدن معرض للآفات؟ لقد عجبت من المرء يفرّ من الموت، وهو سبيله، ولا أرى أحد إلا استدركه الموت» . وقيل: وجد في كتاب من كتب بزرجمهر صحيفة مكتوب فيها: «إن حاجة الله إلى عباده أن يعرفوه؛ فمن عرفه لم يعصه طرفة عين. كيف البقاء مع الفناء، وكيف يأسى

المرء على ما فاته، والموت يطلبه» ؟ وقال كسرى: «لم يكن من حق علمه أن يقتل وإني لنادم على ذلك ... قال: وحضرت الوفاة رجلاً من حكماء فارس فقيل له: «كيف حالك» ؟ قال: «كيف يكون حال من يريد سفراً بعيداً بغير زاد، ويقدم على ملك عادل بغير حجة، ويسكن قبراً موحشاً بغير أنيس» ؟ وضده، قيل: لما مات عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز، جزع أبوه عليه جزعاً شديداً، فقال ذات يوم لمن حضره: «هل من منشد شعراً يعزيني به أو واعظ يخفف عني فأتسلى به» ؟ فقال رجل من أهل الشام: «يا أمير المؤمنين كل خليل مفارق خليلة بأن يموت أو يذهب إلى مكان» ، فتبسم عمر بن عبد العزيز وقال: «مصيبتي فيك زادتني إلى مصيبتي مصيبة» . وأصيب الحجاج بن يوسف بمصيبة، وعنده رسول لعبد الملك بن مروان، فقال: «ليت إني وجدت إنساناً يخفف عني مصيبتي» ، فقال له الرسول: «أقول» ، قال: «قل» قال: «كل إنسان مفارق صاحبه بموت أو بصلب أو بنار تقع عليه من فوق البيت، أو يقع عليه البيت، أو يسقط في بئر، أو يغشى عليه أو يكون شيء لا يعرفه» . فضحك الحجاج وقال: «مصيبتي في أمير المؤمنين أعظم حين وجه مثلك رسولاً» .

محاسن الدنيا [ومساوئها]

محاسن الدنيا [ومساوئها] قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: «الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن لها عنها، ودار غنى لمن تزود منها، مسجد أنبياء الله، ومهبط وحيه، ومصلى ملائكته، ومتجر أوليائه يكسبون فيها الرحمة، ويربحون فيها الجنة، فمن ذا يذمها؟ وقد آذنت ببنيها، ونادت بفراقها، ونعت نفسها، وشوقت بسرورها إلى السرور، وببلائها إلى البلاء تخويفاً وتحذيراً، وترغيباً وترهيباً. فيا أيها الذام للدنيا والمفتتن بغرورها متى غرتك: أبمصارع آبائك من البلى، أم بمضاجع أمهاتك تحت الثرى؟ كم عللت بكفيك، وكم مرضت بيديك؟ تبتغي لهم الشفاء، وتستوصف لهم الأطباء، وتلتمس لهم الدواء؟ لم تنفعهم بطلبتك، ولم تشفعهم بشفاعتك، ولم تستشفهم باستشفائك بطبك. مثلت بهم الدنيا مصرعك ومضجعك، حيث لا ينفعك بطاؤك، ولا يغني عنك أحباؤك» . ثم التفت إلى قبور هناك، فقال: «يا أهل الثراء والعز، الأزواج قد نكحت، والأموال قد قسمت، والدور قد سكنت. هذا خير ما عندنا، فما خير ما عندكم» ؟ ثم قال لمن حضر: «والله، لو أذن لهم لأجابوا بأن خير الزاد التقوى» . وأنشد: ما أحسن الدنيا وإقبالها ... إذا أطاع الله من نالها من لم يواس من فضلها ... عرض للإدبار إقبالها قال أبو حازم «1» : «الدنيا طالبة ومطلوبة. طالب الدنيا يطلبه الموت

حتى يخرجه منها، وطالب الآخرة تطلبه الدنيا حتى توفيه رزقه» . وقال الحسن البصري: «بينا أنا أطوف بالبيت، إذا أنا بعجوز متعبدة، فقلت: «من أنت» ؟ فقالت: «من بنات ملوك غسان» ، قلت: «فمن أين طعامك» ؟ قالت: «إذا كان آخر النهار، جاءتني امرأة متزينة، فتضع بين يدي كوزاً من ماء، ورغيفين، قلت لها: «أتعرفينها» ؟ قالت: «اللهم لا» . قلت: «هي الدنيا خدمت ربك، جل ذكره، فبعث إليك الدنيا فخدمتك» . وضده، زعموا أن زياد أبن أبيه مر بالجدة، فنظر إلى دير هناك، فقال لخادمه: «لمن هذا» ؟ قيل له: «هذا دير حرقة بنت النعمان بن المنذر» ، فقال: «ميلوا بنا إليه نسمع كلامها» ، فجاءت إلى وراء الباب فكلمها الخادم فقال لها: «كلمي الأمير» ، فقالت: «أأوجز أم أطيل» ؟ قال: «بل أوجزي» ، قالت: «كنا أهل بيت طلعت الشمس علينا وما على الأرض أحد أعز منا، وما غابت تلك الشمس حتى رحمنا عدونا» ، قال: فأمر لها بأوساق من شعير، فقالت: «أطعمتك يد شبعاء جاعت، ولا أطعمتك يد جوعاء شبعت» ، فسر زياد بكلامها، فقال لشاعر معه: قيد هذا الكلام ليدرس، فقال: سل الخير أهل الخير قدماً ولا تسل ... فتىً ذاق طعم الخير منذ قريب ويقال: إن فروة بن إياس بن قبيصة انتهى إلى دير حرقة بنت النعمان، فألفاها وهي تبكي، فقال لها: «ما يبكيك» ؟ قالت: «ما من دار امتلأت سرورا إلّا امتلأت بعد ذلك تبوراً» ، ثم قالت: فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا ... إذا نحن فيهم سوقة نتنصف فأف لدنيا لا يدوم نعيمها ... تقلب تارات بنا وتصرف قال: وقالت حرقة بنت النعمان «2» لسعد بن أبي وقاص: «لا جعل الله

لك إلى لئيم حاجة، ولا زالت لكريم إليك حاجة، وعقد لك المنن في أعناق الكرام، ولا أزال بك عن كريم نعمة، ولا أزالها بغيرك إلا جعلك سبباً لردها عليه» . قال: وقال عبد الله بن مروان لسلم بن يزيد الفهمي: «أي الزمان أدركت أفضل وأي ملوكه أكمل» ؟ قال: «أما الملوك فلم أر إلّا ذاماً وحامداً، وأما الزمان فرفع أقواماً ووضع آخرين، وكلهم يذم زمانه لأنه يبلي جديدهم ويهرم صغيرهم، وكل ما فيه منقطع إلا الأمل» ، قال: «فأخبرني عن فهم» ، قال: هم كما قال الشاعر: درج الليل والنهار على فه م بن عمرو فأصبحوا كالرميم وخلت دارهم فأضحت قفاراً ... بعد عز وثروة ونعيم وكذاك الزمان يذهب بالنا ... س وتبقى ديارهم كالرسوم قال: فمن يقول منكم: رأيت الناس مذ خلقوا وكانوا ... يحبون الغني من الرجال وإن كان الغني أقل خيراً ... بخيلاً بالقليل من النوال فلا أدري علام وفيم هذا ... وماذا يرتجون من المحال أللدنيا فليس هناك دنيا ... ولا يرجى لحادثة الليالي قال: أنا، وقد كتمتها. قال: ولما دخل علي صلوات الله عليه المدائن فنظر إلى إيوان كسرى أنشد بعض من حضره قول الأسود بن يعفر «1» : ماذا يؤمل بعد آل محرق ... تركوا منازلهم وبعد إياد «2» أهل الخورنق والسدير وبارق ... والقصر ذي الشرفات من سنداد نزلوا بأنقرة يسيل عليهم ... ماء الفرات يجيء من أطواد

أرض تخيرها لطيب نسيمها ... كعب بن مامة وابن أم دواد جرت الرياح على محل ديارهم ... فكأنما كانوا على ميعاد فإذا النعيم وكل ما يلهى به ... يوماً يصير إلى بلىً ونفاد وقال علي صلوات الله عليه: «أبلغ من ذلك قول الله تعالى: «كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك، وأورثناها قوماً آخرين، فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين» . وقال عبد الله بن المعتز: «أهل الدنيا كركب، يسار بهم، وهم نيام» . وقال غيره: «طلاق الدنيا مهر الجنة» ، وذكروا أن إعرابياً ذكر الدنيا، فقال: «هي جمة المصائب، رنقة المشارب» . وقال آخر: «الدنيا لا تمتعك بصاحب» . قال أبو الدرداء: «من هوان الدنيا على الله تعالى إنه لا يعصى إلا فيها، ولا ينال ما عنده إلا بتركها» . وقال: «إذا أقبلت الدنيا على امرىء أعارته محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه» . وقال الشاعر: أيا دنيا حسرت لنا قناعاً ... وكان جمال وجهك في النقاب ديار طالما حجبت وعزت ... فأصبح إذنها سهل الحجاب وقد كانت لنا الأيام ذلت ... فقد قرنت بأيام صعاب كأن العيش فيها كان ظلاً ... يقلبه الزمان إلى ذهاب قال الأصمعي: وجد في دار سليمان بن داود، عليه السلام، على قبته مكتوباً: ومن يحمد الدنيا لشيء يسره ... فسوف لعمري عن قريب يلومها إذا أدبرت كانت على المرء حسرةً ... وإن أقبلت كانت كثيراً همومها وكان إبراهيم بن أدهم «1» ينشد:

نرقع دنيانا بتمزيق ديننا ... فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع وقال أبو العتاهية: يا من ترفع بالدنيا وزينتها ... ليس الترفع رفع الطين بالطين إذا أردت شريف القوم كلهم ... فأنظر إلى ملك في زي مسكين ذاك الّذي عظمت في النّاس همّته ... وذاك يصلح للدنيا وللدين وقال آخر: هب الدنيا تساق إليك عفواً ... أليس مصير ذاك إلى زوال وقال محمود الوراق «1» : هي الدنيا فلا يغررك منها ... مخائل تستفز ذوي العقول أقل قليلها يكفيك منها ... ولكن لست تقنع بالقليل تشيد وتبتني في كل يوم ... وأنت على التجهز للرحيل ومن هذا على الأيام تبقى ... مضاربه بمدرجة السيول وقال آخر: دنيا تداولها العباد ذميمة ... شيبت بأكره من نقيع الحنظل وثبات دنيا ما تزال ملمةً ... منها فجائع مثل وقع الجندل وقال آخر: حتى متى أنت في دنياك مشتغل ... وعامل الله بالرحمن مشغول وقال أبو نواس الحسن بن هانيء: دع الحرص على الدنيا ... وفي العيش فلا تطمع

؟ ولا تجمع لك المال ... فما تدري لمن تجمع ولا تدري أفي أرض ... ك أم في غيرها تصرع؟ قال الأصمعي: سمعت أبا عمرو بن العلاء وهو يقول: بينا أنا أدور في بعض البراري، إذا أنا بصوت: وإن امرأ دنياه أكثر همه ... لمستمسك منها بحبل غرور فقلت: «أإنسي أم جني؟» ، فلم يجبني، فنقشته على خاتمي. قال: وسمع يحيى بن خالد بيت العدوي في وصفه الدنيا: حتوفها رصد، وعيشها نكد ... وشربها رنق، وملكها دول فقال: «لقد نظن في هذا البيت صفة الدنيا» قال: وسمع المأمون بيت أبي نواس: إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو في ثياب صديق فقال: «لو سئلت الدنيا عن نفسها ما وصفت نفسها كصفة أبي نواس» . وقيل للحسن البصري: «ما تقول في الدنيا» ؟ قال: «ما أقول في دار، حلالها حساب، وحرامها عقاب» ، فقيل: «ما سمعنا كلاماً أوجز من هذا» . قال: «بلى، كلام عمر بن عبد العزيز، كتب إليه عدي بن أرطأة: «ولهي على حمص، قد تهدمت واحتاجت إلى صلاح حيطانها» ، فكتب إليه: «حصنها بالعدل ونق طرقها من الظلم، والسلام» .

محاسن الزهد

محاسن الزهد قال محمد بن الحسن عن أبي همام، وكان قد عرف ضيغماً: كنت معه في طريق مكة، فلما بعدنا في الرمل، نظر إلى ما تلقى الإبل من شدة الحر، فبكى ضيغم، فقلت: «لو دعوت الله أن يمطر علينا، كان أخف على هذه الإبل» ، قال: فنظر إلى السماء وقال: «إن شاء الله فعل» ، قال: «فو الله ما كان إلا أن تكلم، حتى نشأت سحابة، فهطلت» . وعن عطاء بن يسار أن أبا مسلم الخولاني خرج إلى السوق بدرهم يشتري لأهله دقيقاً، فعرض له سائل فأعطاه بعضه، ثم عرض له سائل آخر فأعطاه الباقي، فأتى النجارين، فملأ مزوده من نشارة الخشب، وأتى منزله فألقاه، وخرج هارباً من أهله، فاتخذت المرأة المزود فإذا دقيق حواري، لم تر مثله فعجنته وخبزته، فلما جاء قال: «أين لك هذا» ؟ قالت: «الدقيق الذي جئت به» . وعن أبي عبد الله القرشي، عن صديق له قال: دخلت بئر زمزم فإذا بشخص ينزع الدلو مما يلي الركن، فلما شرب أرسل الدلو، فأخذته، فشربت فضلته، فإذا هو سويق لم أر أطيب منه؛ فلما كانت القابلة في ذلك الوقت جاء الرجل، وقد أسبل ثوبه على وجهه، ونزع الدلو فشرب ثم أرسله فأخذته فشربت فضلته فإذا هو ماء مضروب بالعسل، لم أر شيئاً قط أطيب منه، فأردت أن آخذ طرف ثوبه فانظر من هو ففاتني، فلما كان في الليلة الثالثة قعدت قبالة زمزم في ذلك الوقت، فجاء الرجل، وقد أسبل ثوبه على وجهه، فنزع الدلو، فشرب، وأرسله، وأخذته، وشربت فضلته، فإذا هو

أطيب من الأول، فقلت: «يا هذا أسالك برب هذه البنية من أنت» ؟ قال: «تكتم علي حتى الموت» ؟ قلت: «نعم» . قال لي: «أنا سفيان الثوري، وكانت تلك الشربة تكفيني إذا شربتها إلى مثلها لا أجد جوعاً ولا عطشاً» . وقال الأصمعي: «أرأيت إعرابياً يكدح جبهته في الأرض يريد أن تجعل سجادة» . فقلت: «ما تصنع» ؟ قال: «إني وجدت الأثر في وجه الرجل الصالح» . وقال الشاعر: كيف يبكي لمحبس في طلول ... من سيقضي ليوم حبس طويل إنّ في البعث والحساب شغلا ... عن وقوف برسم ربع محيل وقال آخر: إن الشقي الذي في النار منزله ... والفوز فوز الذي ينجو من النار يا رب أسرفت في ذنبي ومعصيتي ... وقد علمت يقيناً سوء آثاري فاغفر ذنوباً إلهي قد أحطت بها ... رب العباد وزحزحني عن النار وقال ذو الرمة: تعصي الإله وأنت تظهر حبه ... هذا محال في القياس بديع لو كان حبك صادقاً لأطعته ... إن المحب لمن يحب يطيع وقال أبو نواس: أيا عجباً كيف يعصى الإله ... أم كيف يجحده الجاحد ولله في كل تحريكة ... وتسكينة فاعلمن شاهد وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد وقال أيضاً: سبحان من خلق الخل ... ق من ضعيف مهين يسوقهم من قرار ... إلى قرار مكين

يجوز خلقاً فخلقاً ... في الحجب دون العيون حتى بدت حركات ... مخلوقة من سكون وقال آخر: أخي ما بال قلبك ليس ينقى ... كأنّك ما تظنّ الموت حقّا ألا يابن الذين مضوا وبادوا ... أما والله ما ذهبوا لتبقى وما لك غير تقوى الله زاد ... إذا جعلت إلى اللهوات ترقى وقال آخر: يا قلب مهلاً وكن على حذر ... فقد لعمري أمرت الحذر ما لك بالترهات مشتغلاً ... أفي يديك الأمان من سقر وقال آخر: إن كنت تؤمن بالقيامة ... واجترأت على الخطيه فلقد هلكت وإن جحد ... ت فذاك أعظم للبليه وقال آخر: وأفنية الملوك محجبات ... وباب الله مبذول الفناء فما أرجو سواه لكشف ضري ... ولا أفزع إلى غير الدعاء ولا أدعو إلى اللإواء كهفاً ... سوى من لا يصم عن الدعاء وضده، قيل: كان جندي بقزوين يصلي في بعض المساجد، فافتقده المؤذن أياماً، فصار إليه، وقرع بابه عليه، فخرج إليه، فقال له المؤذن: «أبو من» ؟ قال: «أبو الجحيم» ، قال: «بئس، يا هذا رد الباب» . قال: وقيل للقيني: «ما أيسر ذنبك» ؟ قال: «ليلة الدير» . قيل له: «وما ليلة الدير» ؟ قال: «نزلت بدير نصرانية فأكلت عندها طفشيلاً بلحم خنزير، وشربت خمرها، وفجرت بها، وسرقت كساءها، وخرجت» . قيل أتى خمسة من الفتيان إلى قرية، فنزلوا على باب خان، فقام

أحدهم يصلي، والباقون جلوس، فمرت بهم نبطية، فقالوا: «دلينا على قحبة» قالت: «نعم، كم انتم» ؟ قالوا: «نحن أربعة» ، فأومى ألى الذي يصلي، بيده: سبحان الله! أنا الخامس» . وقال الشاعر: وإنني في الصلاة أحضرها ... ضحكة أهل الصلاة إن شهدوا أقعد في سجدة إذا ركعوا ... وأرفع الرأس إن هم سجدوا أسجد والقوم راكعون معاً ... وأسرع الوثب إن هم قعدوا فلست أدري إذا هم فرغوا ... كم كان تلك الصلاة والعدد وقال آخر: وأصلي فأغلط الدهر فيما ... بين سبع وأربع وثمان ومواقيت حينها لست أدري ... ما أذان موقت من أذان وقال آخر: نعم الفتى لو كان يعرف ربه ... ويقيم وقت صلاته حماد عدلت مشافره الدنان فأنفه ... مثل القدوم يسنه الحداد فأبيض من شرب المدامة وجهه ... فبياضه يوم الحساب سواد وقال آخر: إن قرأ العاديات في رجب ... لم يعد منها إلا إلى رجب بل نحن لا نستطيع في سنة ... نختم تبت يدا أبي لهب

محاسن النساء [الشاعرات]

محاسن النساء [الشاعرات] قيل: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحسن قول الخنساء في صخر أخيها: لا بدّ من ميتة في صرفها غير ... والدهر من شأنه حول وإضرار وإن صخراً لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار وقيل للخنساء: «صفي لنا صخراً» ؟ فقالت: «كان مطر السنة الغبراء، وذعاف «1» الكتيبة الحمراء» . قيل: «فمعاوية» ؟ قالت: «حياء الجدبة إذا نزل، وقرى الضيف إذا حل» . قيل: «فأيهما كان عليك أحنى» ؟ قالت: أما صخر فسقام الجسد، وأما معاوية فجمرة الكبد، وأنشدت: أسدان محمرا المخالب نجدةً ... غيثان في الزّمن الغصوب الأعسر قمران في النادي رفيعا محتد ... في المجد فرعا سؤدد متخير وروي إنها دخلت على عائشة أم المؤمنين، عليها صدار من شعر، فقالت لها عائشة: أتتخذين الصدار، وقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وآله» ؟ فقالت: «يا أم المؤمنين! زوجي كان رجلاً متلافاً منفقاً، فقال لي: لو أتيت معاوية فاستعنته، فخرجت وقد لقيني صخر، فأخبرته فشاطرني ماله ثلاث مرات، فقالت له امرأته: لو أعطيتها من شرارها- تعني الإبل- فقال: تا لله لا أمنحها شرارها ... وهي حصان قد كفتني عارها

وإن هلكت مزقت خمارها ... واتخذت من شعر صدارها فلما هلك صخر اتخذت هذا الصدار، ونذرت أن لا أنزعه حتى أموت» . قال ثور بن معن السلمي: حدثني أبي قال: دخلت على الخنساء في الجاهلية وعليها صدار من شعر، وهي تجهز ابنتها، فكلمتها في طرح الصدار، فقالت: «يا حمقاء والله لأنا أحسن منك عرساً، وأطيب منك درساً، وأرق منك نعلا، وأكرم منك بعلا» . قال عبد الرحمن بن مرة عن بعض أشياخه أن عمر بن الخطاب قال للخنساء: «ما أقرح مآقي عينيك» ؟ قالت: «بكائي على السادات من مضر» ، قال: «يا خسناء إنهم في النار» ، قالت: «ذلك أطول لعويلي» . ومما اخترنا من أشعارها قولها: تفرقني الدهر قرعاً وغمزاً ... وأوجعني الدهر نهشاً ووخزا وأفنى رجالي فبادوا معاً ... فأصبح قلبي لهم مستفزا كأن لم يكونوا حمىً يتقى ... إذ الناس إذ ذاك من عز بزا وكانوا سراة بني مالك ... وزين العشيرة مجداً وعزا وهم في القديم صحاح الأدي ... م والكائنون من الناس حرزا بسمر الرماح وبيض الصفاح ... فبالبيض ضرباً وبالسمر وخزا حززنا نواصي فرسانكم ... وكانوا يظنون أن لا تحزا ومن ظن ممن يلاقي الحروب ... بأن لا يصاب فقد ظن عجزا نعف ونعرف حق القرى ... ونتخذ الحمد ذخراً وكنزا ونلبس في الحرب نسج الحديد ... وفي السلم نلبس خزاً وقزا وروي خبر الخنساء من جهة أخرى: ذكروا أنها أقبلت حاجة، فمرت بالمدينة ومعها أناس من قومها، فأتوا عمر بن الخطاب، فقالوا: «هذه خنساء، فلو وعظتها فقد طال بكاؤها في الجاهلية والإسلام» ، فقام عمر وأتاها وقال: «يا خنساء» ، قال: فرفعت رأسها، فقالت: «ما تشاء وما الذي تريد» ؟ فقال: «ما الذي أقرح مآقي عينيك» ؟ قالت: «البكاء على سادات مضر» . قال: «إنهم هلكوا في الجاهلية، وهم أعضاد اللهب، وحشو

جهنم» ، قالت: «فداك أبي وأمي، فذلك الذي زادني وجعاً» ، قال: «فأنشديني ما قلت» ، قالت: «أما أني لا أنشدك ما قلت قبل اليوم، ولكني أنشدك ما قلته الساعة» ، فقالت: سقى جدثاً أعراق غمرة دونه ... وبيشه ديمات الربيع ووابله وكنت أعير الدمع قبلك من بكى ... فأنت على من مات قبلك شاغله وأرعيهم سمعي إذا ذكروا الأسى ... وفي الصدر مني زفرة لا تزايله فقال عمر: دعوها فإنها لا تزال حزينة أبدا. ليلى الأخيليلة هاجها رجل من قومها فقال: ألا حييا ليلى وقولا لها هلا ... فقد ركبت أيراً أغر محجلاً فأجابته: تعيرني داء بأمك مثله ... وأي جواد لا يقال له هلا ذكروا أنها دخلت على عبد الملك بن مروان، فقال لها: «يا ليلى هل بقي في قلبك من حب توبة، فتى الفتيان، شيء» ؟ قالت: «وكيف أنساه» ؟ وهو الذي يقول يا أمير المؤمنين: ولو أن ليلى في ذرى متمنّع ... بنجران لا لتفّت علي قصورها حمامة بطن الواديين ترنمي ... سقاك من الغر الغوادي مطيرها أبيني لنا لا زال ريشك ناعماً ... وبيضك في خضراء غصن نصيرها تقول رجال لا يصيرك نأيها ... بلى كلّ ما شفّ الفنّوس يصيرها أيذهب ريعان الشباب ولم أزر ... كواعب في همدان بيضاً نحورها قال: «عمرك الله أن تذكيه» . ولتوبة في ليلى الأخيلية: ولو أن ليلى الأخيلية سلمت ... علي ودوني جندل وصفائح لسلمت تسليم البشاشة أو زقا ... إليها صدىً من جانب القبر صائح ولو أن ليلى في السماء لأصعدت ... بطرفي إلى ليلى العيون اللّوامح

فلما مات توبة، مز زوج ليلى بليلى على قبره، فقال لها: «سلمي على توبة فإنه زعم في شعره أنه يسلم عليك تسليم البشاشة» ، فقالت: «ما تريد إلى من بليت عظامه» ، فقال: «والله لتفعلن» ، فقالت وهي على البعير: «سلام عليك يا توبة، فتى الفتيان» . وكانت قطاة مستظلة في ثقب من ثقب القبر، فلما سمعت الصوت، طارت وصاحت، فنفر البعير ورمى بليلى فماتت، فدفنت إلى جنب قبر توبة. قال: وسأل الحجاج ليلى: «هل كان بينك وين توبة ريبة قط» ؟ قالت: «لا والذي أسأله صلاحك أنه مرة قال لي قولاً ظننت أنه خنع لبعض الأمر» فقلت له: وذي حاجة قلنا له لا تبح بها ... فليس إليها ما حييت سبيل لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه ... وأنت لأخرى فارغ وخليل فما كلمني بعد ذلك بشيء، حتى فرق بيني وبينه الموت. قال الحجاج: «فما كان بعد ذلك» ؟ قالت: لم يلبث أن قال لصاحب له: إذا أتيت الحاضر من بني عباد فقل بأعلى صوتك: عفا الله عنها هل أبيتن ليلةً ... من الدهر لا يسري إلي خيالها فلما سمعت الصوت، خرجت، فقلت: وعنه عفا ربي وأحسن حاله ... تعز علينا حاجة لا ينالها قال: ودخلت ليلى على الحجاج فأنشدته قولها فيه: إذا نزل الحجاج أرضاً سقيمةً ... تتبع أقصى دائها فشفاها شفاها من الداء العضال الذي بها ... غلام إذا هز القناة ثناها أحجاج لا تعطي العصاة مناهم ... ولا الله يعطي للعصاة مناها فوصلها الحجاج بألف دينار، وقال: لو قلت: «بدل غلام همام لكان أحسن» . هند بنت عتبة أم معاوية بن أبي سفيان قيل: لما قتل شيبة وعتبة، ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة، رثتهم هند فقالت:

إني رأيت فساداً بعد إصلاح ... في عبد شمس فقلبي غير مرتاح هاجت لهم ادمعٌ تترى ومنبعها ... من رأس محروبة إن لها لاحي لما تنادت بنو فهرٍ على حنقٍ ... والموت بينهم ساعٍ لأرواح كأنما النسج في قتلى مصرعةٍ ... سرجٌ أضاءت على جدرٍ وألواح يا آل هاشم إنا لا نصالحكم ... حتى نرى الخيل تردي كل كفاح إن يمكن الله يوماً من هزيمتكم ... يورث نساءكم داءً بتقراح فأجابتها عمرة بنت عبد الله بن رواحة الأنصاري: يا هند مهلاً لقد لا قيت مهبلةً ... يوم الأعنة والأرواح في الراح أسدٌ غطارفةٌ غرٌ جحاجحةٌ ... أبناء محصنةٌ بيضٌ لجحجاح هنالك الفوز والرضوان إن صبروا ... مع الرسول فما آبوا بتقباح الله أهلكهم والأوس شاهدةٌ ... والخزرج الغر فيهم كلّ مجتاح لا تبعدنّ فإنّي غير صارخة ... وكيف تصرخ ذات البعل: يا صاح

النساء الماجنات

النساء الماجنات قال سليمان بن عبد الملك: «أنشدوني أحسن ما سمعتم من شعر النساء» ، فقال بعضهم: يا أمير المؤمنين سار رجل من الظرفاء في بعض طرقاته، إذا أخذته السماء، فوقف تحت مظلة ليستكن من المطر، وجارية مشرفة عليه، فلما رأته حذفته بحجر فرفع رأسه وقال: لو بتفاحةٍ رميت رجونا ... ومن الرمي بالحصاة جفاء فأجابته: ما جهلنا الذي ذكرت من الشّك ... ل ولا بالذي نراه خفاء وداية معها، فقالت: قد بدأتيه ما ذكرت وجدي ... ليت شعري فهل لهذا وفاء وسائلة في الباب، فقالت: قد لعمري دعوتها فاجابت ... هي داءٌ، وأنت منه شفاء قال سليمان: «قاتلها الله هي والله أشعرهم» . عنان جارية الناطفي، قال السلولي: دخلت يوماً على عنان وعندها رجل أعرابي، فقالت: «أيا عم لقد أتى الله بك» ، قلت: «وما ذاك» ؟ قالت: «هذا الأعرابي دخل علي فقال: بلغني أنك تقولين الشعر فقولي بيتاً» ، فقلت لها: «قولي» ، فقالت: «قد رتج علي، فقل أنت» ، فقلت: لقد جد الفراق وعيل صبري ... عشية عيرهم للبين زمت

فقال الأعرابي: نظرت إلى أواخرها ضحيا ... وقد بانت وأرض الشام أمت فقالت عنان: كتمت هواكم في الصدر مني ... على أن الدموع علي نمت فقال الأعرابي: «أنت والله أشعرنا، ولولا أنك بحرمة رجل لقبلتك، ولكني أقبل البساط» . وقال بعضهم: دخلت علي عنان فإذا عليها قميص يكاد يقطر صبغة وقد تناولها مولاها بضرب شديد وهي تبكي فقلت: إن عناناً أرسلت دمعها ... كالدر إذ ينسل من سمطه فقالت وأشارت إلى مولاها: فليت من يضربها ظالماً ... تجف يمناه على سوطه فقال مولاها: «هي حرة لوجه الله إن ضربتها ظالماً أو غير ظالم» . قال: واجتمع أبو نواس، والفضل الرقاشي، والحسين الخليع، وعمرو الوراق، ومحكم بن رزين، والحسين الخياط «1» في منزل عنان فتناشدوا إلى وقت العصر، فلما أرادوا الانصراف قالوا: «أين نحن الليلة» ؟ فكل قال: «عندي» ؟ فقالت عنان: «بالله قولوا شعراً وارضوا بحكمي» ، فقال الرقاشي: عذراء ذات احمرارٍ ... إني بها لا أحاشي قوموا نداماي روّوا ... مشاشكم من مشاشي وناطحوني كئوساً ... نطاح صلب الكباش وإن نكلت فحلٌّ ... لكم دمي ورياشي

فقال أبو نواس: لا بل إلي ثقاتي ... قوموا بنا بحياتي قوموا نلذ جميعاً ... بقول هاك وهات فإن أردتم فتاةً ... أتيتكم بفتاتي وإن أردتم غلاماً ... صادفتموني مؤاتي فبادروه مجوناً ... في وقت كل صلاة وقال الحسين الخليع: أنا الخليع فقوموا ... إلى شراب الخليع إلى شرابٍ لذيذٍ ... وأكل جدي رضيع ونيك أحوى رخيمٍ ... بالخندريس صريع قوموا تنالوا وشيكاً ... مثال ملك رفيع وقال الوراق: قوموا إلى بيت عمرو ... إلى سماع وخمر وساقيات علينا ... تطاع في كل أمر وبيسري رخيمٍ ... يزهو بجيد ونحر فذاك بر وإن ... شئتم أتينا ببحر هذا وليس عليكم ... أولى ولا وقت عصر وقال محكم بن رزين: قوموا إلى دار لهوٍ ... وظل بيت دفين فيه من الورد والمر ... زنجوش والياسمين وريح مسك ذكي ... وجيد المرزجون قوموا فصيروا جميعاً ... إلى الفتى ابن رزين

فقال الحسين الخياط: قضت عنان علينا ... بأن نزور حسينا وأن تقروا لديه ... بالقصف واللهو عينا فما رأينا كظرف ... الحسين فيما رأينا قد قرّب الله منه ... زينا وباعد شينا قوموا وقولوا أجزنا ... ما قد قضيت علينا وقالت عنان: مهلاً فديتك مهلاً ... عنان أحرى وأولى بأن تنالوا لديها ... أسنى النعيم وأحلى قإنّ عندي حراماً ... من الشراب وحلا لا تطمعوا في سوائي ... من البرية كلا يا سادتي خبروني ... أجاز حكمي أم لا فقالوا جميعاً: «قد أجزنا حكمك وأقاموا عندها» . قال: وكتبت عنان إلى الفضل بن الربيع: كن لي هديت إلى الخليفة سلّما ... بوركت يابن وزيره من سلم حث الإمام على شراي وقل له ... ريحانةٌ ذخرت لأنفك فاشمم وكانت عنان تتوقى أبا نواس، وتخاف بمجونه وسفهه، وفيها يقول: عنان يا من تشبه العينا ... أنتم على الحب تلومونا حسنك حسن لا يرى مثله ... قد ترك الناس مجانينا فتهيأت لأبي نواس، وتصنعت له، إلى أن صار إليها، فرأى عندها بعض وجوه أهل بغداد، فأحب أن يخجلها، فقال لها: ما تأمرين لصب ... يكفيه منك قطيره

فقالت: إياي تعني بهذا ... عليك فاجلد عميره فقال: إني أخاف وربي ... على يدي من عبيرة فقالت: علبك أمك نكها ... فإنها كندبيره فأخجلته، وشاع الخبر حتى بلغ الرشيد فاستظرفها، وطلبها من الناطفي، فحملت إليه فقال لها: «يا عنان» ، قالت: «لبيك يا سيدي» ، فقال: «ما تأمرين لصب» ؟ قالت: «قد مضى الجواب في هذا يا أمير المؤمنين» ، قال: «بحياتي كيف قلت» ؟ قالت: قلت: إياي تعني بهذا ... عليك فاجلد عميره فضحك الرشيد وطلبها من مولاها، فاستام فيها مالاً جزيلاً، فردها. عريب جارية المأمون: وأنتم أناسٌ فيكم الغدر شيمةٌ ... لكم أوجه شتى وألسنة عشر عجبت لقلبي كيف يصبوا إليكم ... على عظم ما يلقى وليس له صبر فضل الشاعر حدثنا القاسم بن عبد الله الحراني قال: كنت عند سعيد بن حميد الكاتب ذات يوم وقد افتصد، فأتته هدايا «فضل الشاعرة» ألف جدي، وألف دجاجة، وألف طبق رياحين، وطيب وعنبر، وغير ذلك، فلما وصل ذلك كتب إليها: «إن هذا اليوم لا يتم سروره إلا بك وبحضورك» . وكانت من أحسن الناس ضرباً بالعود، وأملحهم صوتاً، وأجودهم شعراً، فأتته، فضرب بينه وبينها حجاب، وأحضر قوماً ندماءه، ووضعت المائدة، وجيء بالشراب، فلما شربنا أقداحنا أخذت عودها فغنت بهذا الشعر، والصوت لها والشعر والأبيات هذه:

يا من أطلت تفرسي ... في وجهه وتنفسي أفديك من متدلل ... يزهو بقتل الأنفس هبني أسأت وما أسأ ... ت بلى أقول أنا المسي أحلفتني أن لا أسا ... رق نظرةً في مجلسي فنظرت نظرة عاشقٍ ... أتبعتها بتنفسي ونسيت أني قد حلفت ... فما يقال لمن نسي وضربت أيضاً وغنت: عاد الحبيب إلى الرضا ... فصفحت عما قد مضى من بعد ما لصدوده ... شمت الحسود فعرضا تعس البغيض فلم يزل ... لصدودنا متعرضا هبني أسأت وما أسأ ... ت فإن أسأت لك الرضا قال: فما أتى علي يوم أسر من ذلك اليوم. صاحبة الفرزدق: ذكروا أن الفرزدق كان مع أصحاب له فإذا هو بجارية مع مولاها، فقال لأصحابه: «هل أخجل لكم هذه» ؟ قالوا: «نعم» ، فقال: إن لي إيراً خبيثاً ... لونه يحكي الكميتا لو يرى في السقف صدعا ... [لأستحال] عنكبوتا أو يرى في الأرض شقّا ... لنزا حتى يموتا فقالت الجارية: زوجوا هذا بألفٍ ... وأرى ذلك قوتا قبل أن ينقلب الدا ... ء فلا يأتي ويوتى فخجل الفرزدق وانصرف. صاحبة جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي، قالت:

عزمت على قلبي بأن أكتم الهوى ... فضج ونادى إنني غير عاقل فإن حان موتي لم أدعك بغصتي ... وأقررت قبل الموت أنك قاتلي جارية البارقي: ذكروا أنها أنشدت في مجلس عمرو بن مسعدة: يا أحسن العالم حتى متى ... يرتفع الحب وانحط وكيف منجاي وبحر الهوى ... مذ حف بي ليس له شط فأجيبت: يدركك الوصل فتنجو به ... أو يقع البحر فتنحطّ قال علي بن الجهم: كنت في مجلس محمد بن عمرو بن مسعدة، فأقبلت جارية كأنها البدر ليلة التمام، بلون كأنه الدر في البياض، مع احمرار خدين كشقائق النعمان فسلمت، فقال لي محمد: «يا أبا الحسن! هذه الجنة التي كنتم توعدون» ، فقالت: وما الوعد يا سؤلي وغاية منيتي ... فإن فؤادي من مقالك طائر فقال لها محمد: أما وإله العرش ما قلت سيئاً ... وما كان إلا أنني لك شاكر فقال ابن الجهم: أمسك فديتك عن عتاب محمد ... فهو المصون لوده، المتحاذر فأقبلت تحدثنا، فإذا عقل كامل، وجمال فاضل، وحسن قاتل، وردف مائل فقلت: «لقد أقر الله عيناً تراك» ، فقالت: «أقر الله أعينكم، وزادكم سروراً وغبطة» . ثم اندفعت تغني بنغمة لم أسمع أحسن منها: أروح بهم من هواك مبرح ... أناجي به قلباً كثير التّفكّر عليك سلام لا زيارة بيننا ... ولا وصل إلا أن يشاء ابن معمر

فما زلنا بومنا ذلك معها في الفردوس الأعلى، وما ذكرتها، بعد ذلك، إلا اشتقت لها، وأسفت عليها. محمد بن حماد قال: كنا يوماً عند إسحاق بن نجيح، وعنده جارية يقال لها «شادن» ، موصوفة بجودة ضرب العود، وشجو صوت، وحسن خلق، وظرف مجلس، وحلاوة وجه، وأخذت العود وغنت: ظبيٌ تكامل في نهاية حسنه ... فزها ببهجته وتاه بصده فالشمس تطلع من فرند جبينه ... واليدر يغرق في شقائق خده ملك الجمال بأسره فكأنما ... حسن البرية كلها من عنده يا رب هب لي وصله وبقاءه ... أبداً فلست بعائشٍ من بعده فطارت عقولنا، وذهلت ألبابنا من حسن غنائها وظرفها، فقلت: «يا سيدتي، من هذا الذي تكامل في الحسن والبهاء سواك» ؟ فقالت: فإن بحت نالتني عيونٌ كثيرةٌ ... وأضعف عن كتمانه حين أكتم

الأعرابيات

الأعرابيات حدثنا ثعلب «1» عن الفتح بن خاقان «2» قال: لما خرج المتوكل إلى دمشق، كنت عديله، فلما صرنا بقنسرين، قطعت بنو سليم على التجار، فأنهى ذلك إليه، فوجه قائداً من وجوه قواده إليهم فحاصرهم، فلما قربنا من القوم، إذا نحن بجارية ذات جمال وهيئة، وهي تقول: أمير المؤمنين سما إلينا ... سمو البدر مال به الغريف فإن نسلم فعفو الله نرجو ... وإن نقتل فقاتلنا شريف فقال لها المتوكل: «أحسنت، ما جزاؤها يا فتح» ، قلت: «العفو والصلة» ، فأمر لها بعشرة آلاف درهم وقال لها: «مري إلى قومك وقولي لهم: «لا تردوا المال على التجار فإني أعوضهم عنه» . قال الأصمعي: خرجت إلى بادية فإذا أنا بخباء فيه امرأة، فدنوت فسلمت، فإذا هي أحسن الناس وجهاً، وأعدلهم قامةً، وأفصحهم لساناً، فحار فيها بصري، واعترتني خجلة، فقالت: «ما وقوفك» ؟ فقلت: هل عندكم من مخيض اليوم نشربه ... أم هل سبيلٌ إلى تقبيل عينيك فلست أبغي سوى عينيك منزلةً ... أم هل تجودي لنا عضاً بخديك أو تأذنين بريقٍ منك أرشفه ... أو لمس بطنك أو تغميز ثدييك

ردي الجواب على من زاده كلفاً ... تكريره الطرف في أجدال ساقيك فرفعت رأسها إلي وقالت: «يا شيخ ألا تستحي؟ ارجع إلى أهلك وارغب في مثلك» . وقال بعضهم: رأيت أعرابية بالنباح فقلت لها: «أتنشدين» ؟ قالت: «نعم في مثلك، ورب الكعبة» ، قلت: «فأنشديني» ، فأنشأت تقول: لا بارك الله فيمن كان يخبرني ... أن المحب إذا ما شاء ينصرف وجد المحب إذا ما بان صاحبه ... وجد الصبي بثديي أمه الكلف قال: قلت لها: «أنشديني من قولك» ، فقالت: بنفسي من هواه على التنائي ... وطول الدهر مؤتنقٌ جديد ومن هو في الصلاة حديث نفسي ... وعدل الروح عندي بل يزيد فقلت لها: «إن هذا كلام من قد عشق» . فقالت: «وهل يعرى من ذلك من له سمع وقلب» ؟ ثم أنشدتني: ألا بأبي والله من ليس نافعي ... بشيء ولا قلبي على الوجد شاكره ومن كبدي تهفو إذا ذكر اسمه ... بشيء ومن قلبي على النأي ذاكره له خفقانٌ يرفع الجيب بالشجى ... ويقطع أزرار الجربان ثائره قال: وكتب عمر بن أبي ربيعة إلى امرأة بالمدينة: برز البدر في جوارٍ تهادى ... مخطفات الخصور معتجرات «1» فتنفست ثم قلت لبكرٍ ... عجلت في الحياة لي الحيبات هل سبيلٌ إلى التي لا أبالي ... بعدها أن أموت قبل وفاتي فأجابته: قد أتانا الرسول بالأبيات ... في كتابٍ قد خط بالترهات حائر الطرف إن نظرت وماطر ... فك عندي بصادق النظرات غر غيري فقد عرفت لغيري ... عهدك الخائن القليل الثبات

محاسن المتكلمات

محاسن المتكلمات حدث عمر بن يزيد الأسدي، قال: مررت بخرقاء، صاحبة ذي الرمة فقلت لها: «هل حججت قط» ؟ قالت: أما علمت أني منسك من مناسك الحج، ما منعك أن تسلم علي؟ أما سمعت قول عمك ذي الرمة: تمام الحج أن تقف المطايا ... على خرقاء واضعة اللثام فقلت لها: «لقد أثر فيك الدهر» ، قالت أما سمعت قول العجيف العقيلي حيث يقول: وخرقاءٌ لا تزداد إلا ملاحةً ... ولو عمرت تعمير نوحٍ وجلت قال: «ورأيتها وإن فيها لمباشرة، وإن ديباجة وجهها لطرية كأنها فتاة، وإنها لتزيد يومئذ على المائة، ولقد حدثت أنه شبب بها ذو الرمة، وهي ابنة ثمانين سنة» . وحدث رجل من بني أسد قال: «أدركت ميا صاحبة ذي الرمة، وكان الرجل أعور قال: ورأيتها في نسوة من قومها فقلت: «أهذه مي؟ وأومأت إليها» ، فقلنا: فقلت: «ما أدري ما كان يعجب ذا الرمة منك، وما أراك على ما كان يصف» ؟ فتنفست الصعداء وقالت: «إنه كان ينظر بعينين وأنت ننظر إلي بعين واحدة» . وروي الأصمعي عن رجل من أهل الشام قال: قدمت المدينة، فقصدت منزل ابن هرمة، فإذا بنية له تلعب، فقلت لها: «ما فعل أبوك» ؟ قالت: «وفد إلى بعض الأخوان» ، قلت: «فانحري لنا ناقة فإنا أضيافك» ، قالت: «يا عماه والذي خلقك ما عندنا شيء» ، قلت:

«فباطل ما قال أبوك» ! قالت: «فما قال» ؟ قلت، قال: كم ناقة قد وجأت منحرها ... لمستّهلّ الشؤبوب أو جمل قالت: «يا عماه فذلك القول من أبي أصارنا إلى أن ليس عندنا شيء» ، قال وأتى زيادٌ الأقطع باب الفرزدق، وكان له صديقا، فخرجت إليه ابنة الفرزذق، وكانت تسمى «مكية» ، وأمها حبشية، فقال لها: «ما اسمك» ؟ قالت: «مكية» قال: «ابنة من» ؟ قالت: «ابنة الفرزدق» ، قال: «فأمك» ؟ قالت: «حبشية» ، فأمسك عنها فقالت: «ما بال يدك مقطوعة» ؟ قال: «قطعها الحرورية» ، قالت: «بل قطعت في اللصوصية» ، قالت: «عليك وعلى أبيك لعنة الله» ، وجاء الفرزدق فأخبر بالخبر، فقال: «أشهد أنها بنتي» ، وأنشأ يقول: حام إذا ما كنت ذا حميه ... بدارميّ بنته صبيه صمحمح مثل أبي مكيه وحدث سليمان بن عباس السعدي قال: كان كثير يلقى حاج أهل المدينة بقديد على ست مراحل، ففعل عاماً من الأعوام غير يومهم الذي نزلوا فيه، فوقف حتى ارتفع النهار، فركب جملاً في يوم صائف، ووافى قديدا وقد كل بعيره وتعب، فوجدهم قد ارتحلوا، وقد بقي فتى من قريش، فقال الفتى لكثير: «اجلس» . قال: فجلس كثير إلى جنبي، ولم يسلم علي، فجاءت امرأة وسيمة جميلة، فجلست إلى خيمة من خيام قديد، واستقبلت كثيراً فقالت: «أنت كثير» ؟ قال: «نعم» ، قالت: «أنت ابن أبي جمعة» ؟ قال: «نعم» ، قالت: أنت الذي تقول: وكنت إذا ما جئت أجللن مجلسي ... وأضمرن مني هيبةً لا تجهما قال: «نعم» ، قالت: «فعلى هذا الوجه هيبة، إن كنت كاذبا فعليك

لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» . قال: فضجر كثير وقال: «ومن أنت» ؟ فسكتت، ولم تجبه بشيء، فسأل الموالي التي في الخيام عنها، فلم يخبرنه، فضجر واختلط عقله، فلما سكن قالت: أنت الذي تقول: متى تنشرا عني العمامة تبصرا ... جميل المحيا أغفلته الدواهن أهذا الوجه جليل؟ إن كان كاذباً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» ، فاختلط وقال: «لو عرفتك لفعلت وفعلت» . فلما سكن قالت له: أنت الذي تقول: يروق العيون الناظرات كأنه ... هر قليّ وزنٍ أحمر التبر راجح أهذا الوجه الذي يروق الناظرات؟ إن كنت كاذباً فعليك لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» . قال: فازداد ضجراً واختلط، وقال: «لو عرفتك والله لقطعتك وقومك هجاء» . ثم قام فاتبعته طرفي حتى توارى عني، ثم نظرت إلى المرأة، فإذا هي قد غابت عني، فقلت لمولاة من بنات قديد: «لك الله على أن أخبرتني من هذه المرأة أن أطوي لك ثوبي هذين، إذا قضيت حجي، ثم أعطيكهما» . فقالت: «والله لو أعطيتني زنتهما ذهباً، ما أخبرتك من هي؟ هذا كثير مولاي لم أخبره» . قال القرشي: فرحت وبي أشد مما بكثير. قيل: وقدم كثير الكوفة، وكان شيعياً من أصحاب محمد بن الحنفية، فقال: «دلوني على منزل قطام» ، قيل له: «وما تريد منها» ؟ قال: «أريد أن أوبخها في قتل علي بن أبي طالب صلوات الله عليه» ، فقيل له: «عد عن رأيك فإن عقلها ليس كعقول النساء» ، قال: «لا والله لا أنتهي حتى أنظر إليها وأكلمها» . فخرج يسأل عن منزلها حتى دفع إليها، فاستأذن فأذنت له، فرأى امرأة برزة قد تخددت، وقد حنا الدهر من قناتها، فقالت: «من الرجل» ؟ قال: «كثير بن عبد الرحمن» ، قالت: «التيمي الخزاعي» ؟ قال: «التيمي الخزاعي» ، ثم قال لها: «أنت قطام» ؟ قالت: «نعم» ، قال: «أنت صاحبة علي بن أبي طالب

صلوات الله عليه» ؟ قالت: «بل صاحبة عبد الرحمن بن ملجم» . قال: «أليس هو قتل علياً» ؟ قالت: «بل مات بأجله» . قال: «والله إني كنت أحب أن أراك فلما رأيتك نبت عيني عنك، وما ومقك قلبي، ولا احلوليت في صدري» ، قالت: «أنت والله قصير القامة، صغير الهامة، ضعيف الدعامة» ، كما قيل: «لأن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» . فأنشأ كثير يقول: رأت رجلاً أودى السفار بجسمه ... فلم يبق إلّا منطق وجناجن قالت: «لله درك ما عرفت إلا بعزة تقصيراً بك» ، قال: والله لقد سار لها شعري، وطار بها ذكري، وقرب من الخلفاء مجلسي، وإنها لكما قلت فيها: وإن خفيت كانت لعينيك قرةً ... وإن تبد يوماً لم يعمك عارها من الخفرات البيض لم تر شقوةً ... وفي الحسب المحض الرفيع نجارها فما روضةٌ بالحزن طيبة الثرى ... يمج الندى جثجاثها وعرارها «1» بأطيب من فيها إذا جئت طارقاً ... وقد أوقدت بالمندل الرطب نارها «2» قالت: «والله ما سمعت شعراً أضعف من شعرك هذا، والله لو فعل هذا بزنجية طاب ريحها. ألا قلت كما قال امرؤ القيس: ألم تر أني كلما جئت طارقاً ... وجدت بها طيباً وإن لم تطيب قال: «فلله در بلادك» ، وخرج وهو يقول: ألحق أبلج لا تزيغ سبيله ... والحق يعرفه ذوو الألباب قال: وقال المسيب راوية كثير: انطلق كثير مرة فقال لي: «هل لك في عكرمة بن عبد الرحمن بن هشام» ؟ وهو يومئذ على حنظلة بن عمرو بن تميم، فقلت: «نعم» ، قال: فخرجنا نريده حتى إذا صدرنا عن المدينة،

إذا نحن بامرأة على راحلة تسير، فسرت حذاءها، فقالت: «أتروي لكثير شيئاً» ، قلت: «نعم» . قالت: «أنشدني» ، فأنشدتها من شعره، فقالت: «أين هو» ؟ قلت: «هو ذاك الذي ترين على غير الطريق» ، فقالت بعد أن دنت منه: «قاتل الله زوج عزة حيث يقول: لعمرك ما رب الرباب كثيرٌ ... بفحلٍ ولا آباؤه بفحول فغضب كثير وسار وتركها، ثم نزل منزلاً، فجاءت جارية لها تدعوه، فأبى كثير أن يأتيها فقلت: «ما رأيت مثلك قط! امرأة مثل هذه ترسل إليك، فتأبى عليها» ؟ فلم أزل به حتى أتاها، قال: فسفرت عن وجهها، فإذا هي أجمل الناس وأكملهم ظرفاً وعقلاً، وإذا هي غاضرة أم ولد بشر بن مروان، فصحبناها حتى كنا بزبالة فمالت بنا الطريق، فقالت له: «هل لك أن تأتي الكوفة فأضمن لك على بشر الصلة والجائزة» ؟ فأبى وأمرت له بخسمة آلاف درهم، ولي بألفين، فلما أخذنا الخمسة الآلاف قال: «ما أصنع بعكرمة، وقد أصبت ما ترى» ؟ فذلك قوله حيث يقول: شجا أظعان غاضرة الغوادي ... بغير مشورةٍ عوضاً فؤادي أغاضر لو رأيت غداة بنتم ... حنو العائدات على وسادي رثيت لعاشقٍ لم تشكميه ... جوانحه تلذع بالزناد (الشكيمة: العطية، والزناد: جمع زند وهو عود يقدح منه النار) . قالالحكم بن صخر الثقفي: حججت فرأيت بأقرة امرأتين لم أر كجمالهما وظرفهما وثيابهما، فلما حججت وصرنا بأقرة، إذا أنا بإحدى الجاريتين قد جاءت، فسألت سؤال منكر، فقلت: «فلانة» ؟ قالت: «فداك أبي وأمي رأيتك عاماً أول شاباً سوقة، والعام شيخاً ملكاً، وفي وقت دون ذلك ما تنكر المرأة صاحبها» . فقلت: «ما فعلت أختك» ؟ فتنفست الصعداء وقالت: قدم علينا ابن عم لنا فتزوجها، فخرج بها إلى نجد فذاك حيث أقول:

إذا ما قفلنا نحو نجدٍ وأهله ... فحسبي من الدنيا القفول إلى نجد فقلت: «أما أني لو أدركتها لتزوجتها» ، قالت: «فداك أبي وأمي، فما يمنعك من شريكتها في حسنها، وشقيقتها في حسبها، قلت، قول كثير: إذا وصلتنا خلّة كي تزيلنا ... أبينا وقلنا الحاجييّة أول قالت: وكثير بيني وبينك أليس هو الذي يقول: هل وصل عزة إلا وصل غانيةٍ ... في وصل غانيةٍ من وصلها خلف قال: فتركت جوابها، ولم يمنعني منه إلا العيّ.

صفة النساء الحسان

صفة النساء الحسان قيل: «أحسن النساء الرقيقة البشرة، النقية اللون، يضرب لونها بالغداة إلى الحمرة، وبالعشي إلى الصفرة» . وقالت العرب: «المرأة الحسناء أرق ما تكون محاسن، صبيحة عرسها، وأيام نفاسها، وفي البطن الثاني من حملها» . وقيل لأعرابي: «أتحسن صفة النساء» ؟ قال: «نعم، إذا عذب ثناياها وسهل خداها، ونهد ثدياها، ونعم ساعداها، والتف فخذاها، وعرض وركاها، وجدل ساقاها، فتلك هم النفس ومناها» . ووصف أعرابي امرأة فقال: «كان وجهها السقم لمن رآها، والبرء لمن ناجاها» . وذكر أعرابي امرأة فقال: «أرسل الحسن إلى خديها صفائح نور، ورشق السحر عن لحظها بأسهم حداد، ولقد تأملت فوجدت للبدر نوراً من بعض نورها» . وذكر أعرابي امرأة قال: «هي شمس تباهي بها شمس سمائها، وليس لي شفيع إليها غيرها في اقتضائها، ولكني كتوم لفيض النفس عند امتلائها» . وذكر أعرابي امرأة فقال: «ما أحسن من حبها نعاسا، ولا أنظر إليها إلّا اختلاسا، وكل امريء منها يرى ما أحب» . وذكر أعرابي امرأة فقال: «لها جلد من لؤلؤ رطب مع رائحة المسك الأذفر، في كل عضو منها شمس طالعة» . ومما جاء في الحسن من الشعر: قال عبد الله بن المعتز: أنشدني أبو سهل إسماعيل بن علي، لأبي الصواعق: ومريض طرفٍ ليس يصرف طرفه ... نحو المدى إلّا رماه بحتفه ظبي له نظرٌ ضعيفٌ كلما ... قصد القوي أتى عليه بضعفه

قد قلت لما مر يخطر مائساً ... والردف يجذب خصره من خلفه يا من يسلم خصره من ردفه ... سلم فؤاد محبه من طرفه فقلت في هذا المعنى وعلى هذا الوزن: وحياة من جرح الفؤاد بطرفه ... لأحبرن قصائدي في وصفه قمرٌ به قمر السماء متيمٌ ... كالغصن يعجب نصفه من نصفه إني عجبت لخصره من ضعفه ... ماذا تحمل من ثقالة ردفه هذا وما أدري بأيّة فتنةٍ ... جرح الفؤاد بلطفه أم ظرفه أم بالدلال أم الجمال أم الضيا ... من وجهه أم بالقفا من خلفه وأنشد أبو الحسين بن فهم لأبي نواس: كفاك ما مر على راسي ... من شادن قطع أنفاسي أكثر ما أبلغ في وصفه ... تحيري من قلبه القاسي أغار أن أنعت منه الذي ... ينعته الناس من الناس ولم أر العشاق قبلي رأوا ... بوصف من يهوون من باس كل أحاديثي نعتٌ له ... منكشفٌ مني لجلاسي فقلت في المعنى، وهذا الروي، والوزن: لو عشر ما مر على راسي ... مر بصلد حجرٍ قاسي لا نصدعت فيه صدوع كما ... صدع قلبي طول وسواسي يا غصن آس ومحالٌ إذا ... قصرت تشبيهك بالآس ماذا على طرفك لو أنه ... أعار لحظاً منه قرطاسي ليتك عللت بمطل ولم ... تقطع رجائي منك بالياس وقال آخر: وزائرةٍ يحتثها الشوق طارقه ... أتتنا من الفردوس لا شك آبقه إذا ما تثنت قال للريح قدها ... كذا حركي الأغصان إن كنت صادقه

وقال آخر: قد أقبل البدر في قراطقه ... يسلب بالدل قلب عاشقه «1» يسطو عليه بسيف مقلته ... لا بالذي شد في مناطقه وقال آخر: قل للملاح الحدق ... وللحسان الخلق هل في فؤادي للقوى ... أو جسدي شيء بقي إن لم ترووا عطشي ... بخلاً فبلوا رمقي يا مقلةً أجفانها ... محشوةٌ بالأرق بقيت في رقّ الهوى ... شقيّة فيمن شقي وقال آخر: يا ملاح الدلال والإغتناج ... ما أرى القلب من هواكن ناجي أنت ذرفت فوق خديك صدغاً ... من عبير على صفائح عاج أشرقت وجنتاك بالنور حتى ... أغنتا الخلق عن ضياء السراج فعلت مقلتاك بالقلب مني ... فعلة القرمطي بالحجاج يا هلالاً أنست منه بضوء ... جنح ليل من الظلام الداجي وقال آخر: نشرت غدائر فرعها لتظلني ... حذر العيون من العيون الرمق فكأنها وكأنه وكأنني ... صبحان باتا تحت ليلٍ مطبق وقال آخر: يا غزالاً وهلالاً ... وقضيباً وكثيبا كم وكم أضمر وجداً ... بك مكتوماً عجيبا

كيف يرجى برء من قد ... كتم الداء الطبيبا وقال آخر: شمسٌ ممثلةٌ في خلق جاريةٍ ... كأنما بطنها طي الطوامير فالجسم من جوهر والشعر من سبج ... والغّر من لؤلؤ والوجه من عاج وقال آخر: نتيج دلالٍ حار في حسنه الطرف ... ففكرته قبرٌ ومنطقه لطف بديع جمال زانه العقل والظرف ... سماوي لونٍ لا يحيط به وصف له ريقةٌ علت بماء قرنفلٍ ... يمازجها التفاح والخمرة الصرف تجسم في جسم من النور ساطعٍ ... تمكن في دعصٍ ينوء به ردف «1» على صحن خديه بهارٌ منورٌ ... ووردٌ جنيٌ لا يليق به القطف تكامل فيه الحسن والنور والبها ... كبدر الدجى إذ تم من شهره النصف براه إلهي لي عذاباً وفتنةً ... فما عنده عدلٌ ولا عنده عطف وقال آخر: لك من قلبي المكان المصون ... كل لومٍ علي فيك يهون قدر الله أن أكون شقيّا ... بك والصبر عنك ما لا يكون يا غزالاً بلحظه يفتن النا ... س وفي طرفه الردى والمنون لك صبرٌ وليس لي عنك صبرٌ ... فأنا اليوم هائمٌ محزون قد خلعت العذار فيك حبيبي ... ما أبالي بما رمتني الظنون وقال آخر: يا نظرةً جاءت على ياس ... من ساحر المقلة مياس أطرافه تعقد من لينها ... وقلبه كالحجر القاسي

يلومني الناس على حبه ... أعانني الله على الناس وقال آخر: يا ويح جسمٍ يذوب من قلقه ... من حبٍ من لم أقف على خلقه من حب ظبيٍ مهفهفٍ لبقٍ ... يهتز مثل القضيب في ورقه لم تر عيني ولن ترى أبداً ... أحسن من نحره ومن عنقه كأنّما المسك حين تسحهه ... بماء وردٍ يفوح من عرقه أو خمرةٌ في الزجاج صافيةٌ ... شيبت بماء السحاب في نسقه وقال آخر: أربعةٌ قرحت فؤادي ... فطال وجدي وعيل صبري مقلة خشفٍ وقد غصنٍ ... وطيب وردٍ وحسن بدر نفسي ومالي فداء ظبيٍ ... أذاب جسمي وليس يدري فمن لصب أسير شوقٍ ... قتيل صبٍ بسيف هجر وقال آخر: وماريح ريحانٍ بمسك وعنبر ... يعل بكافورٍ ودهنة بان بأطيب من ريا حبيبي لو أنني ... وجدت حبيبي خاليا بمكان

صفة الزوجة الصالحة

صفة الزوجة الصالحة روي أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال: يا رسول الله، إني أريد أن أتزوج، فادع الله أن يرزقني زوجة صالحة، فقال: «لو دعا جبريل وميكائيل وأنا معهما ما تزوجت إلا المرأة التي كتب الله لك فإنه ينادي في السماء ألا إن امرأة فلان بن فلان، فلانة بنت فلانة» . وقال صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالإبكار فإنهم أطيب أفواهاً، وأنتق أرحاماً» . وقال عمر رضي الله عنه: «عليكم بالإبكار، واستعيذوا بالله من شرار النساء، وكونوا من خيارهن على حذر» ، قال الشاعر: لا تنكحن عجوزاً إن دعيت لها ... وإن حبيت على تزويجها الذهبا فإن أتوك وقالوا إنها نصفٌ ... فإن أطيب نصفيها الذي ذهبا وقال آخر: عليك إذا ما كنت لا بدّ ناكحاً ... ذوات الثنايا الغر والأعين النجل وكل هضيم الكشح خفاقة الحشا ... قطوف الخطا، بلهاء، وافرة العقل وقال الحارث بن كلدة «1» : «لا تنكحوا من النساء إلا الشابة، ولا تأكلوا من الحيوان إلا الفتى، ولا من الفاكهة إلا النضيج» ، وقال مغيرة بن

شعبة: «حصنت تسعاً وتسعين امرأة، ما أمسكت واحدة منهن على حب، ولكني أحفظها لمنصبها وولدها، فكنت أسترضيهن بالباه شاباً، فلما إن شبت وضعفت عن الحركة استرضيتهن بالعطية» . وقال بعضهم: «لذة المرأة على قدر شهوتها، وغيرتها على قدر لذتها» . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه قال: «إنما النساء لعب فإذا تزوج أحدكم فليستحسن» . وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «تزوجها سمراء ذلفاء عيناء، فإن تركتها فعلى صداقها» ، وقال الحجاج بن يوسف: «من تزوج قصيرة فلم يجدها على ما يريد فعلى صداقها» . وروي عن علي، صلوات الله عليه، أن رجلاً أتاه فقال: «إني تزوجت امرأة مجنونة» ، فقالت المرأة: «يا أمير المؤمنين إنه يأخذني عند الجماع غشية» ، فقال للرجل: «ما أنت لها بأهل» . وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياكم وخضراء الدمن) ، وهي المرأة الحسناء في المنبت السوء، وقال بعضهم: «لا تتزوجن حنانة ولا أنانة ولا منانة ولا عشبة الدار، ولا كية القفا. فأما الحنانة، فالتي قد تزوجها رجل من قبل، فهي تحن إليه. والأنانة، التي تئن من غير علة. والمنانة، التي لها مال تمتن به. وعشبة الدار، الحسناء في أصل السوء. ولا كية القفا، التي إذا قام زوجها من المجلس، قال الناس: فعلت امرأة هذا كذا. وقال محمد بن علي رضي الله عنهما: «اللهم ارزقني امرأة تسرني إذا نظرت، وتطيعني إذا أمرت، وتحفظني إذا غبت» ، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه قال: «إذا خطب أحدكم امرأة، فلا جناح عليه أن ينظر إليها، وإن كانت لا تعلم» . وقال بعض الشعراء في تزويج الشبه: إذا أردت حرةً تبغيها ... كريمةً فانظر إلى أخيها ينبيك عنها وإلى أبيها ... فإن أشباه أبيها فيها وقال آخر: إذا كنت مرتاداً لنفسك أيما ... لنجلك فانظر من أبوها وخالها

فإنهما منها كما هي منهما ... كما النعل إن قيست بنعل مثالها وقال آخر: إذا كنت عن عين الصبية باحثاً ... فأبصر تر عين الصبي فذلكا قال خالد بن صفوان «1» لدلال: «أطلب لي امرأة بكرا، أو كبكر، حصانا عند جارها، ما جنة عند زوجها، قد أدبها الغنى، وذللها الفقر، لا ضرعةً صغيرة، ولا عجوزاً كبيرة، قد عاشت في نعمة، وأدركتها حاجة، لها عاقل وافر، وخلق طاهر، وجمال ظاهر، صلة الجبين، سهلة العرنين، سوداء المقلتين، خدلجة الساقين «2» ، لفاء الفخذين، نبيلة المقعد، كريمة المحتد، رخيمة المنطق، لم يداخلها صلف، ولم يشن وجهها كلف، ريحها أرج، ووجهها بهج، لينة الأطراف، ثقيلة الأرداف، لونها كالرق، وثديها كالحق، أعلاها عسيب، وأسفلها كثيب، لها بطن مخطف، وخصر مرهف، وجيد أتلع، ولب مشبع، تتثنى تثني الخيزران، وتميل ميل السكران، حسنة المآق، في حسن البراق، لا الطول ازرى بها ولا القصر» . قال الدلال: «استفتح أبواب الجنان، فإنك سوف تراها» . وقال أيضاً: «لا تتزوج واحدة فتحيض إذا حاضت، وتنفس إذا نفست، وتعود إذا عادت، وتمرض إذا مرضت، ولا تتزوج اثنتين فتقع فيما بين الجمرتين، ولا تتزوج ثلاثاً فتقع بين أثافي، ولا تتزوج أربعاً، فيحقرنك ويهرمنك ويفلسنك» . فقال له رجل: «حرمت ما أحل الله» . فقال: «طمران وكوزان ورغيفان وعبادة الرحمن» . وعن صالح بن حسان قال: «رأيت امرأة بالمدينة يقال لها «حواء» ،

وهي التي علمت نساء المدينة النقع، وهو النخر والحركة والغربلة والرهر، وكانت لها سقيفة تتحدث إليها رجالات قريش، ولم يكن في الدنيا أهل بيت إلا وتأخذ صبيانهم، وتمصهم ثديها، أو ثدي إحدى بناتها، فكان أهل المدينة يسمونها «حواء» . ولم يكن بالمدينة شريف ممن يجلس في سقيفتها إلا واصل إليها في السنة ثلاثين وسقاً وأكثر من طعام وتمر، مع الدنانير والدراهم، والخدم والكساء. فجاءها ذات يوم مصعب بن الزبير، وعمرو بن سعيد بن العاص، وابن لعبد الرحمن ابن أبي بكر، فقالوا لها: «يا خالة قد خطبنا نساء من قريش، ولسنا ننتفع إلا بنظرك إليهن، فأرشدينا بفضل علمك فيهن» ، فقالت لمصعب: «يابن أبي عبد الله ومن خطبت» ؟ قال: «عائشة بنت طلحة» ؛ قالت: «فأنت يابن الصديق» ، قال: «أم القاسم بنت زكرياء بن طلحة» ، قالت: «فأنت يابن أبي أحيحة» ، قال: «زينب بنت عمرو بن عثمان» ، فقالت: «يا جارية علي بمنقلي» - تعني خفيها- فأتتها بهما، فخرجت ومعها خادم لها، فأتت عائشة بنت طلحة، فقالت: «مرحباً بك يا خالة» ، فقالت: «يا بني أنا كنا في مأدبة لقريش، فلم تبق امرأة لها جمال إلا ذكرت وذكر جمالك، فلم أدر كيف أصفك، فتجردي لأنظرك» ، فألقت درعها، ثم مشت، فارتج كل شي منها، ثم أقبلت على مثل ذلك، فقالت: «فداك أبي وأمي، خذي ثوبيك» . وأتتهن جميعاً على مثل ذلك، ثم رجعت إلى السقيفة فقالت: «يابن أبي عبد الله، ما رأيت مثل بنت طلحة عائشة قط ممتلئة الترائب، زجاء العينين، هدبة الأشفار، مخطوطة المتنين، ضخمة العجيزة، لفاء الفخذين، مسرولة الساقين، واضحة الثغر، نقية الوجه، فرعاء الشعر، إلا أنني رأيت خلتين هما أعيب ما رأيت فيها: أما احداهما فيروايها الخف وهي عظم القدم، والأخرى يواريها الخمار وهي عظم الأذن، وأما أنت يابن أحيحة فما تستأنس إليه، وهي ملاحة تعتز بها، وأما أنت يابن الصديق، فو الله ما رأيت مثل أم القاسم، ما شبهتها إلّا بخوط بانة بتتثنى، أو خشف يتقلب على رمل، ولم أرها إلا فوق الرجل، وإذا زادت على الرجل المرأة لم تحسن، لا والله، إلا من يملأ المنكبين، فتزوجوهن» .

ولو ركبت ما حرم الله لم يكن ... بأقبح عند الله مما استحلت قال: وكان بالمدينة رجل قد أعطي جودة الرأي، ولم يكن فيها من يريد إبرام أمر إلا شاوره، فأراد رجل من قريش أن يتزوج، فأتاه فقال: «أنا أريد أن أضم إلي أهلاً فأشر علي» ، قال: «افعل تحصن دينك، وتصن مؤونتك، وإياك والجمال البارع» ، قال: «ولم نهيتني، وإنما هو نهاية ما يطلب الناس» ؟ قال: «لأنه ما فاق الجمال إلا لحقه قول» ، أما سمعت قول الشاعر: ولن تصادف مرعى مونقاً أبداً ... إلا وجدت به آثار مأكول قيل: وكانت جارية من بنات الملوك تكره التزويج، فاجتمع عندها نسوة فتذاكرن التزويج، وقلن لها: «ما يمنعك منه» ؟ قالت: «وما فيه من الخير» ؟ قلن: «وهل لذة العيش إلا في التزويج» ؟ قالت: «فلتصف كل واحدة منكن ما عندها فيه من الخير حتى أسمع» ؟ فقالت إحداهن: «زوجي عوني في الشدائد، وهو عائدي دون كل عائد، إن غضبت عطف، وإن مرضت لطف» ، قالت: «نعم الشيء هذا» ، قالت الأخرى: «زوجي لما عناني كافٍ، ولما أسقمني شافٍ، عرقه المسك المعراق، وعناق كالخلد، ولا يملّ طول العهد» . قالت: «هذا خير منه» ، قالت الأخرى: «زوجي الشعار حين أبرد، وأنيسي حين أفرد» . فتزوجت، فقلن لها: «يا فلانة، كيف رأيت» ؟ قالت: «أنعم النعيم، وسروراً لا يوصف، ولذة ليس منها خلف» .

أمثال في التزويج

أمثال في التزويج قيل: إن أول من قال: «لا هنك أنقيت، ولا ماءك أبقيت» ، الضب بن أروى الكلاعي، وذاك أنه خرج من أرضه، فلما سار أياماً، حار في تلك المفاوز التي تعسفها، وتخلف عن أصحابه، وبقي فرداً يعسف فيها ثلاثة أيام، حتى دفع إلى قوم لا يدري من هم. فنزل عليهم، وحدثهم؛ وكان جميلاً، وإن امرأة من أفاضل أولئك، هويته، فأرسلت إليه أن أخطبني، فخطبها، وكانوا لا يزوجون إلا شاعراً أو رجلاً يزجر الطير أو يعرف عيون الماء، فسألوه، فلم يحسن شيئاً من ذلك، فلم يزوجوه؛ فلما رأت المرأة ذلك، زوجته نفسها على كره من قومها؛ فلبث فيهم ما لبث؛ ثم أن رجلا من العرب أغار عليهم في خيل، فاستأصلهم، فتطيروا بضب، وأخرجوه وامرأته، وهي طامث؛ فانطلقا، واحتمل ضب شيئاً من ماء، ومشيا يوم اوليلة إلى الغد، حتى اشتد الحر، وأصابهما عطش شديد، فقالت له: «ادفع إلي السقاء حتى اغتسل به، فإنا ننتهي إلى الماء، ونستقي. فاغتسلت بما في السقاء، ولم يقع منها موقعاً، وأتيا العين، فوجداها ناضبةً، وأدركهما العطش، فقال ضب: «لا هنك أنقيت ولا ماءك أبقيت» ، فذهبت مثلاً. ثم استظلا تحت شجرة كبيرة، فأنشأ ضبّ يقول: تا لله ما ظلةٌ أصاب بها ... سواد قلبي قارع العطب ظل كئيب الفؤاد مضطرباً ... وتكتسي من غدائر قلب أن يعرف الماء تحت صم صفاً ... أو يخبر الناس منطق الخطب أخرجني قومها بأن رحىً ... دارت بشؤم لهم على قطب

فلما سمعت ذلك فرحت وقالت: «قم فارجع إلى قومي فإنك شاعر» فانطلقا راجعين حتى انتهيا إليهم، فاستقبلو هما بالسيف والعصا، فقال لهم ضب: «اسمعوا شعري، ثم إن بدا لكم أن تقتلوني بعد، فافعلوا» ، فتركوه فصار فيهم عزيزاً. وقيل إن أول من قال: «في الصيف ضيعت اللبن» ، قتول بنت عبد، وكانت تحت رجل من قومها، فطلقها وأنها رغبت في أن يراجعها، فأبى عليها، فلما يئست خطبها رجل، يقال له عامر بن شوذب، فتزوجها فلما بنى بها، بدا للزوج الأول مراجعتها، وهوى بها هوى شديداً، فجاء يطلبها ويرنو بنظره إليها، ففطنت به فقالت: أتركتني حتى إذا ... علقت أبيض كالشّطن أنشأت تطلب وصلنا ... في الصيف ضيعت اللبن فذهبت مثلاً، فقال لها زوجها الأول واسمه الأشق: «فهل بقي شيء» ؟ قالت: «نعم فاصله عن جميع مالك وطلاقي، فإن فصلته، تزوجتك» ، فرضي بذلك؛ ثم راجع نفسه فقال لها ذلك، فقالت: «أما إذا ضننت بما لك فانطلق إلى مكان إذا أنت تكلمت سمع زوجي كلامي وكلامك، ثم اقعد كأنك لا تشعر به وقل: لحا الله بنت العبد إن وصالها ... وصال ملولٍ لا تدوم على بعل تحدثني أن سوف تقتل عامراً ... لأن لم يكن في ما له عامر مثلي فهيهات تزويج التي تقتل عامرا ... إذا ما أبت يوماً وإن كان من أجلي فتقتلني يوماً إذا هويت فتىً ... سواي وأني اليوم من وصلها مجلي فانطلق الأشق ففعل ما أمرته به، فسمعه عامر، فوقع في قلبه قوله، وقد كان عرف حبها له، فصدق ذلك ودخل عليها، فطلقها، وتزوجها الأشق. وذكروا أن بطناً من قريش اشتدت عليهم السنة، وكان فيهم جارية يقال لها «زينب» ، من أكمل نسائهم جمالاً، وأتمهن تماماً. وأشرفت فرآها

شاب يقال له «عروة» ، فوقعت في قلبه، فجعل يطالعها، ولا يقدر على أكثر من ذلك، فاشتد وجده بها، فلما انقضت السنة، وأرادوا الرجوع إلى منازلهم، دعا بعض جواري الحي، فقال: «يا ابنة الكرام هل لك في يد تتخذين بها عندي شكراً» ؟ قالت: «ما أحوجني إلى ذلك» ، قال: تنطلقين إلى خيمة فلانة كأنك تقتبسين ناراً، فإذا أنت جلست فقولي حيث تسمع زينب: ألا هل لنا قبل التفرق ليلةٌ ... ويومٌ فتقضي كل نفسٍ مناها فانطلقت الجارية ففعلت ذلك، فلما سمعت زينب قولها وكانت تفلي رأس زوجها، وكان عنده أخ له، فقالت مجيبة لها: لعمري لقد طال ال مقامة هاهنا ... لو أن لحب حاجةً لقضاها فسمع أخو الزوج قول الجارية، وجواب زينب، فقال: ألا يعلم الزوج المفلى بأنها ... رسالة مشغوف الفؤاد رجاها فانتبه الزوج لأمرهم، وعرف ما أرادت، فقال: لحى الله من لا يستقيم بوده ... ومن يمنح النفس الطروب هواها انطلقي يا زينب فأنت طالق. فخرجت من عنده وبعثت إلى عروة فأعلمته، وأقامت حتى انقضت عدتها، ثم تزوجته.

رأي المرأة بالرجل

رأي المرأة بالرجل ذكروا أن الأخطل «1» كانت عنده امرأة، وكان بها معجبا، قطلقها وتزوج بمطلقة رجل من بني تغلب، وكانت بالتغلبي معجبة، فبينا هي ذات يوم جالسة مع الأخطل، إذ ذكرت زوجها الأول، فتنفست الصعداء، ثم ذرفت دموعها، فعرف الأخطل ما بها، فذكر امرأته الأولى، وأنشأ يقول: كلانا على وجدٍ يبيت كأنما ... بجنبيه من مس الفراش قروح على زوجها الماضي تنوح وزوجها ... على الطلة الأولى كذاك ينوح قيل: وخاصمت امرأة زوجها إلى زياد فجعلت تعيبه، وتقع فيه، فقال الزوج: «أصلح الله الأمير، إن شر المرأة كبرها، إن المرأة إذا كبرت عقم رحمها، وبذأ لسانها، وساء خلقها، والرجل إذا كبر استحكم رأيه، وقل جهله» . قال: «صدقت» ، وحكم له بها. وذكروا أن امرأة أتت عبيد الله بن زياد، وكانت ذات شحم وجسم وجمال، مستعدية على زوجها، وكان أسود دميم الخلقة، فقال: «ما بال هذه المرأة تشكوك» ؟ قال: «أصبح الله الأمير سلها عما ترى من جسمها وشحمها أمن طعامي أم من طعام غيري» ؟ قالت: «من طعامك، أفتمن عليّ بطعام أطعبيه، والكلاب تأكل» ؟ قال: «سلها عن كسوتها من مالي هي أم من مال غيري» ؟ قالت: «من مالك، أفتمن علي بثوب كسوتنيه» ،

قال: «وسلها عما في بطنها مني هو أم من غيري» ؟ قالت: «منك ووددت أنه في بطني من كلب» ، قال الرجل: «أصلح الله الأمير فما تريد المرأة إلا أن تطعم وتكسي وتنكح» ، قال: «صدقت فخذ بيدها» . قال: خرج رجل مع قتيبة بن مسلم إلى خراسان، وخلف امرأة يقال لها هند من أجمل نساء زمانها، فلبث هناك سنين، فاشترى جارية اسمها جمانة، وكان له فرس يسميه الورد فوقعت الجارية منه موقعاً، فأنشأ يقول: ألا لا أبالي اليوم ما فعلت هند ... إذا بقيت عندي الجمانة والورد شديد مناط القصريين إذا جرى ... وبيضاء مثل الرئم زينها العقد فهذا لأيام الهياج وهذه ... لحاجة نفسي حين ينصرف الجند فبلغ ذلك هنداً فكتبت إليه: ألا أقره مني السلام وقل له ... عنينا بفتيان غطارفةٍ مرد فهذا أمير المؤمنين أميرهم ... سبانا وأغناكم أراذلة الجند إذا شاء منهم ناشيء مد كفه ... إلى كبد ملساء أو كفلٍ نهد فلما قرأ كتابها، أتى به إلى قتبية، فأعطاه إياه، فقال له: «أبعدك الله، هكذا يفعل بالحرة» وأذن له في الانصراف. قال وسمع عمر بن الخطاب امرأة تنشد وتقول: فمنهن من تسقى بعذبٍ مبردٍ ... نقاخٍ فتلكم عند ذلك قرت ومنهن من تسقى بأخضر آجنٍ ... أجاجٍ فلولا خشية الله فرت فأمر بإحضار زوجها، فوجده متغير الفم، فخيره جارية من المغنم أو خمسمائة درهم على طلاقها، فاختار الخمسمائة، فدفعت إليه، وخلى سبيلها. وحكي عن الفضل بن الربيع أنه كان بمكة، ومعه الفرج الرخجي، وكان الفضل صبيحاً ظريفاً، والفرج دميماً قبيحاً، فخرجا إلى الطواف، ثم

انصرفا إلى بعض طرقات مكة، وقعدا يتغديان؛ فبينما هما كذلك على طعامهما، إذ وقفت عليهما امرأة جميلة بهية، حسنة شكلة، وعليها برقع، فرفعته عن وجهها، فإذا وجه كالدينار، وذراع كالجمار، فسلمت وقعدت، وجعلت تأكل معهما. قال الفضل: فأعجبني ما رأيت من جمالها وهيئتها، فقلت: «هل لك من بعل» ؟ قالت: «لا» ، قلت: «فهل لك في بعل من أصحاب أمير المؤمنين، حسن الخلق والخلق» ؟ قالت: «وأين هو» ؟ فأشار إلى فرج، فقالت: «جوابك عند فراغنا» ، فلما أكلت قالت للفضل: «تقرأ شيئاً من كتاب الله» ؟ قال: «نعم» ، قالت: «أفتؤمن به» ؟ قال: «نعم» ، قالت: فإن الله يقول: «ومن يكن الشيطان له قريناً فساء قريناً» ، فضحك الفضل، ودخل على الرشيد فأخبره فأمر بإحضارها، فلما نظر إليها، أعجب بها، فتزوجها وحملها إلى مدينة السلام. قال: وحج إسماعيل بن طريح، فوقفت عليه أعرابية جميلة. قال: فقال لها: «هل لك أن تزوجيني نفسك» ؟ فقالت من غير توقف: بكى الحسب الزكي بعينٍ غزيرةٍ ... من الحسب المنقوص أن يجمعا معا وانصرفت. قال العتبي: كنت كثير التزوج، فمررت بامرأة فأعجبتني فأرسلت إليها: «ألك زوج» ؟ قالت: «لا» ، فصرت إليها، فوصفت لها نفسي، وعرفتها موضعي فقالت: «حسبك قد عرفناك» ، فقلت لها: «زوجيني نفسك» ، فقالت: «نعم ولكن ههنا شيء تحتمله» ، قلت: «وما هو» ؟ قالت: «بياض في مفرق رأسي» ، قال: فانصرفت، فصاحت بي: «ارجع» ، فرجعت إليها فأسفرت عن رأسها فنظرت إلى وجه حسن، وشعر أسود، فقالت: «إنا كرهنا منك، عافاك الله، ما كرهت منا» وأنشدت: أرى شيب الرجال من الغواني ... بموضع شيبهن من الرّجال «1»

وعن عطاء بن مصعب قال: جاءت امرأة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالت: «يا أمير المؤمنين لا أنا ولا زوجي» ، فقال لها: «وما لك من زوجك» ؟ قالت: «مر بإحضاره» ، فأحضر، فإذا رجل قذر الثياب قد طال شعر جسده وأنفه ورأسه، فأمر عمر أن يؤخذ من شعره، ويدخل الحمام، ويكسى ثوبين أبيضين، ثم يؤتى به، ففعل ذلك، ودعا المرأة فلما رأت الزوج قالت: «الآن» ، فقال لها عمر: «اتقي الله، وأطيعي زوجك» ، قالت: «افعل يا أمير المؤمنين» . فلما ولت قال عمر: «تصنعوا للنساء فأنهن يحببن منكم ما تحبون منهن» . ويقال: «إن المرأة تحب أربعين سنة، وتقوى على كتمان ذلك، وتبغض يوماً واحداً، فيظهر ذلك بوجهها ولسانها، والرجل يبغض أربعين سنة فيقوى على كتمان ذلك، وإن أحب يوما واحداً شهدت جوارحه» .

نساء الخلفاء

نساء الخلفاء قال علي بن محمد بن سليمان: أبي يقول: كان المنصور شرط لأم موسى الحميرية أن لا يتزوج عليها، ولا يتسرى، وكتبت عليه بذلك كتاباً أكدته، وأشهدت عليه بذلك، فبقي مدة عشر سنين في سلطانه يكتب إلى الفقيه بعد الفقيه من أهل الحجاز وأهل العراق، وجهد أن يفتيه واحد منهم في التزويج، وابتياع السراري، فكانت أم موسى إذا علمت مكانه بادرته، وأرسلت إليه بمال، فإذا عرض عليه أبو جعفر الكتب، لم يفته، حتى ماتت بعد عشر سنين من سلطانه ببغداد، فأتته وفاتها وهو بحلوان، فأهديت إليه مائة بكر، وكان المنصور أقطع أم موسى الضيعة المسماة بالرحبة، فوقفتها قبل موتها على المولدات الإناث دون الذكور، فهي وقف عليها إلى هذا الوقت. حدثنا يحيى بن الحسن عن محمد بن هشام قاضي مكة، قال: كانت الخيزران لرجل من ثقيف، فقالت لمولاها الثقفي: «إني رأيت رؤيا» ، قال: «وما هي» ؟ قالت: «رأيت كأن القمر خرج من قبلي، وكأن الشمس خرجت من دبري» ، قال لها: «لست من جواري مثلي، أنت تلدين خليفتين» . فقدم بها مكة، فباعها في الرقيق فاشتريت، وعرضت على المنصور فقال: «من أين أنت» ؟ قالت: «المولد مكة والمنشأ بجرش» . قال: «فلك أحد» ؟ قالت: «ما لي أحد إلا الله، وما ولدت أمي غيري» ، قال: «يا غلام اذهب بها إلى المهدي وقل له: «تصلح للولد» ، فأتى بها المهدي، فوقعت منه كل موقع، فلما ولدت موسى وهرون، قالت: «إن لي أهل بيت بجرش» ، قال: «ومن لك» ؟ قالت: «لي أختان اسمهما

أسماء وسلسل، ولي أم وأخوان» ، فكتب فأتى بهم، فتزوج جعفر بن المنصور سلسل، فولدت منه زبيدة، واسمها سكينة، تزوجها الرشيد، وبقيت اسماء بكرا، فقال المهدي للخيزران: «قد ولدت رجلين، وقد بايعت لهما، وما أحب أن تبقى أمة، وأحب أن أعتقك، وتخرجين إلى مكة، وتقدمين فأتزوجك» . قالت: «الصواب رأيت» ، فأعتقها وخرجت إلى مكة، فتزوج المهدي أختها أسماء، ومهرها ألف ألف درهم، فلما أحس بقدوم الخيزران، استقبلها فقالت: «ما خبر أسماء وكم وهبت لها» ؟ قال: «من أسماء» ؟ قالت: «امرأتك» ، قال: «إن كانت اسماء امرأتي فهي طالق» ، فقالت له: «طلقتها حين علمت بقدومي» ، قال: «أما إذا علمت، فقد مهرتها ألف ألف درهم، ووهبت لها ألف ألف درهم» ، ثم تزوج الخيزران. قال: كانت نخلة، جارية الحسين الخلال، قبل أن يتولى المتوكل الخلافة، تقعد بين يديه وتغنيه، فولدت للحسين ابناً، فلما ولي المتوكل الخلافة، طرقه ليلاً، فقال له الحسين: «زرتنا، جعلت فداك» ، قال: «اشتهيت أن أسمع غناء نخلة» . فأخرجها إليه مطمومة الشعر، فقال: «يا خلال أليس قد ولدت منك ابناً» ؟ قال: «بلى» ، قال: «فأنا أحب أن تعتقها» . قال: «فإنها حرة» ، قال: «فأشهد إني قد تزوجتها، قومي يا نخلة» . فاشتد ذلك على الحسين، فعوضه منها خمسة عشر ألف دينار، وحول إليه نخلة. قيل: ووصف للمتوكل ابنة لسليمان بن القاسم بن عيسى بن موسى الهادي، وعدة من الهاشميات، فحملن إليه، وعرضن عليه، فاختارها من بينهن، وصرف البواقي، ونزلت منه منزلة حتى ساوى بينها وبين قبيحة في المنزلة؛ وكانت جارية لها لباقة وملاحة، ووصفت له ريطة بنت العباس بن علي، فحملت إليه، فتزوجها ثم سألها أن تطم شعرها، وتتشبه بالمماليك، فأبت عليه، فأعلمها إن لم تفعل فارقها. فاختارت الفرقة، فطلقها؛ ووصفت له عائشة بنت عمرو بن الفرج الرخجي، فوجه في جوف الليل، والسماء تهطل، إلى عمر أن أحمل إلي عائشة، فسأله أن يصفح عنها، فإنها القيمة بأمره، فأبى، فانصرف عمر وهو يقول: «اللهم قني شر

عبدك جعفر» ، ثم حملها بالليل فوطئها، ثم ردها إلى منزل أبيها قال: «وكان الهادي يشاور من أصحابه عبد العزيز بن موسى، وعيسى بن دأب، والعزيزي، وعبد الله بن مالك، فخرج ذات يوم إليهم وهو مغضب، كأنه جمل هائج، منتفخ الأوداج، منتقع اللون، فأقبل حتى جلس في مجلسه، وكان العزيزي أجرأهم عليه، فقال: «يا أمير المؤمنين، إنا نرى بوجهك ما كدر علينا عيشنا، وبغض الدنيا إلينا، فإن رأى أمير المؤمنين أن يخبرنا بالسبب، فإن كان عندنا حيلة أعلمناه بها، وإن تكن مشورة أشرنا بها، وإن أمكن احتمال الغم عنه وقيناه بأنفسنا، وحملنا الغم عنه» . قال: فأطرق طويلاً، والعزيزي قائم، فقال له: «اجلس يا عزيزي، فإني لم أر كصاحب الدنيا قط أكثر آفات، وأعظم نائبة، ولا أنغص عيشاً» ، قال العزيزي: «وما ذاك يا أمير المؤمنين» ؟ قال: «لبابة بنت جعفر بن أبي جعفر قد علمتم موقعها مني، وأثرتها عندي، كلمتني بإدلال فأغلظت، فلم يكن لها عندي احتمال، ولا عندها إقصار، حتى وثبت عليها وضربتها ضرباً موجعاً» . قال: وسكت، فقال ابن دأب: يا أمير المؤمنين، إنك والله لم تأت منكراً، ولا بديعاً، قد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤدبون نساءهم، ويضربونهن. هذا الزبير بن العوام، حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته، وثب على امرأته أسماء بنت أبي بكر، وهي أفضل نساء أهل زمانها، فضربها في شيء عتب عليها فيه ضرباً مبرحاً، حتى كسر يدها، وكان ذلك سبب فراقها، وذلك أنها استغاثت بولدها عبد الله، فجاء يخلصها من أبيه فقال: «هي طالق إن حلت بيني وبينها» ، ففعل وبانت منه، وهذا كعب بن مالك الأنصاري، عتب على امرأته، وكانت من المهاجرات، فضربها حتى حال بنوها بينه وبينها، فقال: فلولا بنوها حولها لخبطتها ... كخبطة فروجٍ ولم أتلعثم

المطلقات

المطلقات قيل: كانت أم الحجاج بن يوسف، الفارغة بنت همام بن عروة بن مسعود، وكانت عند المغيرة بن شعبة، فرآها يوم تتخلل بكرة، فقال: «أنت طالق، والله لئن كان هذا من غذاء يومك لقد شرهت، وإن كان من عشاء أمسك لقد انتنت» . فقالت: «لا يبعد الله غيرك، والله ما هو إلا من السواك، فخلف عليها بعده يوسف أبو الحجاج، فأولدها الحجاج، وفيها أشعار، منها: أهاجتك الظعائن يوم بانوا ... بذي الزي الجميل من الأثاث ظعائن أسلكت نقب المنقى ... تحث إذا ونت أي احتثاث كأن على الحدائج يوم بانوا ... نعاجاً ترتعي بقل البراث» تؤمّل أن تلاقي أهل بصرى ... فيالك من لقاء مستراث تهيجنا الحمام إذا تداعى ... كما سجع النوائح بالمراثي وفي زينب أخت الحجاج، يقول النميري: ولم تر عيني مثل سربٍ رأيته ... خرجن من التنعيم معتمرات ولما رأت ركب النميري أعرضت ... وكن من أن يلقينه حذرات تضوع مسكاً بطن نعمان إذ مشت ... به زينب في نسوة عطرات مرون بفخ ثم رحن عشيةً ... يلبين للرحمن مؤتجرات

دعت نسوةً شم العرانين بدناً ... نواعم لا شعثاً ولا غبرات فأدنين لما قمن يحجبن دونها ... حجاباً من القسي والحبرات أجل الذي فوق السموات عرشه ... أوانس بالبطحاء معتجرات يخبين أطراف البنان من التقى ... ويخرجن بالأسحار معتمرات قال عوانة عن محمد بن زياد عن شيخ من كندة: خرج الحارث بن سليل الأسدي زائراً لمعلقة بن حفصة الطائي، فلما قدم عليه، بصر بابنة له يقال لها: «الزباء» ، وكانت من أجمل نساء أهل عصرها، فأعجب بها فقال لأبيها: «أتيتك زائراً، وقد ينكح الخاطب، ويكرم الطالب، ويفلح الراغب» فقال: «أنت امرؤ كريم يقبل منك الصفو، ويؤخذ منك العفو، فأقم ننظر في أمرك» ثم انكفأ إلى أهله فقال: «إن الحارث بن سليل سيد قومه منصباً وحسباً وبيتاً فلا ينصرفن من عندنا إلا بحاجته، فأريدي ابنتك عن نفسها» فخلت بالزباء فقالت: «يا بنية أي الرجال أحب إليك، الكهل الجحجاح، الفاضل المناح، أم الفتى الوضاح» قالت: «الزمور الطماح» قالت: «يا بنية إن الشيخ يميرك، ولا يغيرك، وليس الكهل الفاضل الكثير النائل، كالحديث السن، الكثير الظن» قالت: «يا أماه أخشى الشيخ أن يدنس ثيابي، ويشمت بي أترابي، ويبلي شبابي» . قال: فلم تزل بها أمها حتى غلبتها على رأيها، فتزوجها الحارث بن سليل على خمسين ومائة من الإبل وألف درهم وابتنى بها ثم رحل إلى قومه، فبينما هو جالس ذات يوم، وهي إلى جانبه، إذ أقبل فتية من بني أسد نشاوى يتبخترون، فلما نظرت إليهم تنفست الصعداء، وبكت فقال: «ما شأنك» ؟ قالت: «ما لي وللشيوخ الناهضين كالفروخ» ؟ قال: ثكلتك أمك؛ تجوع الحرّة، ولا تأكل بتدييها» فذهبت مثلاً. أما وأبيك، لرب غارةٍ شهدتها، وخيل وزعتها، وسبية أردفتها، وخمرة شربتها. الحقي بأهلك، فأنت طالق. وقال: تهزأت أن رأتني لابساً كبراً ... وغاية الناس بين الموت والكبر

فإن يكن قد علا رأسي وغيره ... صرف الزمان، وتغييرٌ من الشعر فقد أروح للذات الفتى جذلاً ... وقد أصيد بها أعيناً من البقر عني إليك فإني لا توافقني ... غور الكلام، ولا شربٌ على الكدر قال: وقال الحجاج لابن القرية: «ما تقول في التزويج» ؟ قال: «وجدت أسعد الناس في الدنيا، وأقرهم عيناً، وأطيبهم عيشاً، وأبقاهم سروراً، وأرخاهم بالاً، وأشبهم شباباً، من رزقه الله زوجة مسلمة أمينة عفيفة حسنة لطيفة نظيفة مطيعة، إن ائتمنها زوجها وجدها أمينة، وإن قتر عليها وجدها قانعة، وإن غاب عنها كانت له حافظة، تجد زوجها أبداً ناعماً، وجارها سالماً، ومملوكها آمناً، وصبيها طاهراً، قد ستر حلمها جهلها، وزين دينها عقلها، فتلك كالريحانة والنخلة لمن يجتنيها، وكاللؤلؤة التي لم تثقب، والمسكة التي لم تفتق قوامه صوامة ضاحكة بسامة، إن أيسرت شكرت، وإن أعسرت صبرت، فأفلح وأنجح من رزقه الله مثل هذه، وإنما مثل المرأة السوء كالحمل الثقيل على الشيخ الضعيف، يجره في الأرض جراً، فبعلها مشغول، وجارها مقبول، وصبيها مرذول، وقطها مهزول» . قال: «يا ابن القرية، قم الآن فاخطب لي هند بنت أسماء، ولا تزد على ثلاث كلمات» . فأتاهم، فقال: «جئت من عند من تعلمون، والأمير يعطيكم ما تسألون، أفتنكحون أم تدعون» ؟ قالوا: «أنكحنا وغنمنا» . فرجع إلى الحجاج، فقال: «أصلح الله الأمير، صلاح من رضي عمله، ومد في الخيرات أجله، وبلغ به أمله، جمع الله شملك، وأدام طولك، وأقر عينك، ووقاك حينك، وأعلى كعبك، وذلل صعبك، وحسن حالك على الرفاء والبنين والبنات، والتيسير والبركة، وأسعد السعود وأيمن الجدود، وجعلها الله ودوداً ولوداً، وجمع بينكما على الخير والبركة، فتزوجها الحجاج، ثم إنه دخل ذات يوم عليها وهي تقول: وما هند إلا مهرةٌ عربيةٌ ... سليلة أفراس تجللها بغل

فإن نتجت مهراً كريماً فبالحرى ... وإن يك أقرافٌ فما أنجب الفحل فخرج من عندها مغضباً، ودعا ابن القرية، فدفع إليه مائة ألف درهم وقال: «أدخل إلى هند وطلقها عني، ولا تزد على كلمتين، وادفع إليها المال» ، فحمل ابن القرية المال، ودخل عليها فقال: «إن الأمير يقول: (كنت فبنت) ، وهذه المائة ألف صداقك» . فقالت: «يابن القرية ما سررت به إذ كان، ولا جزعت عليه إذ بان، وهذا المال بشارة لك لما جئتنا به» ، فكان القول أشد على الحجاج من فراقها» . وذكروا أن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه كانت عنده عاتكة بنت زيد بن نفيل فأحبها حبا شديدا فأمره أبوها بفراقها وأن يطلقها تطليقة واحدة، ففعل ثم ندم على فعله فقال: فلم أر مثلي طلق اليوم مثلها ... ولا مثلها في غير جرمٍ تطلق لها خلقٌ سهلٌ وحسنٌ ومنصبٌ ... وخلقٌ سويٌ ما يعاب ومنطق أعاتك قلبي كل يومٍ وليلةٍ ... إليك بما تخفي القلوب معلق أعاتك ما أنساك ماذر شارقٌ ... وما لاح نجمٌ في السماء محلق فسمع أبو بكر ذلك فرق له، وأمره بمراجعتها. وعن علي بن دعبل قال: «حدثني أبي قال: خرجت ومعي إعرابي ونبطي إلى موضع يقال له بطياثا من أمصار دجلة، متنزهين، فأكلنا وشربنا، فقال الأعرابي: قل بيت شعر فقلت: نلنا لذيذ العيش في بطياثا فقال الأعرابي: لما حثثنا أقدحاً ثلاثا فقال النبطي: وامرأتي طالق ثلاثا

وما زال يبكي حتى الصباح فقلت له: «ما يبكيك» ؟ فقال ذهبت امرأتي بقافية. قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: كنت أنا والحسين بن الضحاك يوماً عند المعتصم، وحضرت قينة تعرض عليه، فأعجب بها فقال للمدنيين: «كيف ترونها» ؟ فقال أحدهم: «امرأته طالق أن كان رأى مثلها» ، وقال آخر: «امرأته طالق إن لم..» ، وسكت، فقال المعتصم: «إن لم ... » ، قال «لا شيء» ، فضحك وقال له: «ويحك ما دعاك إلى طلاق أهلك بلا سبب» ، فقال: «يا أمير المؤمنين كلنا قد طلق امرأته بلا سبب» . ومما قيل في ذلك من الشعر: رحلت أمية بالطلاق ... ونجوت من رق الوثاق بانت فلم يجزع لها ... قلبي ولم تدمع مآقي لو لم أرح بفراقها ... لأرحت نفسي بالإباق وخصيت نفسي لا أري ... د حليلةً حتى التلاقي وقال آخر: رأيت أثاثها فطمعت فيها ... وقد نصبت لعيرك بالأثاث فطلقها وعد النفس عنها ... سريعاً، إن نفسك في التواث «1» وإلا فالسلام عليك إني ... سآخذ من غدٍ لك في المراثي

محاسن وفاء النساء

محاسن وفاء النساء قال الكسروي: كتب بلاش بن فيروز إلى ملك الهند يخطب ابنته، فلم ينعم له، ورد رسوله خائباً، فتجشم، وسار إليه في خيله ورجله، فلما اصطفت الخيلان، دعاه بلاش إلى المبارزة، وقال: «إنه عار على الملوك أن يوردوا جنودهم الهلاك، ويفوزوا بأنفسهم» . فبرز إليه ملك الهند، فاختلفت بينهما ضربتان، فمنعت «بلاشاً» حصانه درعه، وضرب بلاش الهندي على عاتقه، فقطع حبله، حتى انتهى السيف إلى ثندؤته، فخر ميتاً، وانهزمت خيله، فافتتح بلاش مدينته، وأمر ثقاته، فأحدقوا بقصر ابنة الملك، فلما احتوى على أمواله، بعث إلى ابنة الملك أن تأتيه، فقالت للرسول، وهي تبكي «قل للملك المزين بالحلم، المحبب في رعيته، السعيد بالظفر، إنك قد ملكتني، وصرت ممن يستحق عطفك ورأفتك، فإن رأيت أن تطيب نفساً عن النظر إلي، حتى ترجع إلى دار مملكتك فافعل» . فانصرف الرسول إلى بلاش، فأخبره فأجابها إلى ما سألت، وسار وحملها حتى قدم دار المملكة، فهيأ لها مقصورة مفردة عن سائر حرمه، فأنزلها فيها، وأمر لها بعتيق الديباج، وفاخر الجوهر، وإسفاط من الذهب، والصلات والجوائز والأثاث، ما لم يأمر لغيرها من نسائه؛ واستأذنها في الدخول عليها، فأذنت له، فدخل عليها، وأقام عندها سبعة أيام ولياليها عجبا منه بها، لا يحير إليها جواباً، ولا يخف عن صدر مجلسها؛ فخرج من عندها، اليوم الثامن، وقد وقع في قلبه ما أظهرت من خفة مجلسه عليها، ولبثت أشهراً لا يدخل عليها، فقالت يوماً لحاضنتها: «ما أعجب أمر الملك! بذل دمه في طلبي، حتى إذا ظفر سلا؟؟؟؟ انطلقى حتى تسألي

عن عدة نسائه، وأيهن أكرم عليه، وأتيني بعلم ذلك» . فانطلقت حتى عرفت ذلك، وانصرفت فقالت: «إني وجدت له أربعمائة امرأة ما بين أمة وحرة، وليس فيهن أكرم عليه من ابنه سائس من سواسه، أعجبته، فتزوج بها» . فقالت: «انطلقي إليها، وأقرئيها مني السلام، وأعلميها أني أريد مؤاخاتها، والانقطاع إليها» . فانطلقت الحاضنة إلى ابنة السائس، فأبلغتها رسالة مولاتها، فقالت لها: «أقرئيها مني السلام، وأعلميها أني قد أحببتها وأجبتها إلى ما سألت، فتصير إليّ» . فانصرفت، فأخبرتها بما قالت؛ فتهيأت بأحسن هيئة، وأقبلت إليها، ودخلت عليها، فرفعت مجلسها وأقبلت عليها، فذكرت حبها لها، ورغبتها في مواصلتها، فردت عليها ابنة السائس أحسن الرد، وأعلمتها سرورها بذلك، ثم تحدثتا ساعة؛ وانصرفت، وجعلت الهندية تأتيها غباً، وتظهر الأنس؛ فلما أنست بها، قالت لها: «إنك قد استلبت قلب الملك، وقهرت جميعنا بفضلك، وليس لواحدة منا نصيب، فأعلمينا الأمر الذي فضلتنا به لنزداد سروراً بما أوتيت، ومحبة لك، والانقطاع إليك» . قالت: «إني لما عرفت ضعف نسبي، وقلة جمالي، علمت أنه لا يرجع الملك مني إلى شيء أحظى به عنده مثل المؤاتاة في الخلوة، وأن أبسطه إذا هم بالحركة، وأستميل قلبه باللطف وفضل الخدمة. فلما رآني على ذلك مستمرة، ورأى من سائر نسائه أنفة الأكفاء، وزهو الجمال، وخيلاء الملك، وعلمت أني إن أخذت ما أخذته، مع خمول نسبي، وقلة جمالي، ودقة خطري، لا يليق بي مثل الذي يليق بهن، ففضلني على جميع نسائه بذلك» . فلما سمعت ابنة الملك ذلك، علمت أن قلوب الرجال لا تستمال إلا بالمؤاتاة، وسرعة الإجابة في الباه عند المشغلة؛ فعزمت أن تجعل ذلك عدّة لاستعطاف قلب الملك. فانصرفت إلى قصرها، وقالت لبعض جواريها: «اذهبي إلى فلانة (تعني ابنة السائس) ، فإن رأيت الملك عندها فأعلميها أني عليلة من وجع عرض لي» . فانطلقت الجارية، فإذا الملك عندها،

فأخبرتها بذلك، فرق الملك لها، وذكر غربتها، وقتله أباها، فقال لابنة السائس: «ما ترين في إتيانها» ؟ فقالت: «أيها الملك؟ إنه ليس في نسائك من لها عندي مثل منزلتها فصر إليها، فإنها غريبة قد فارقت أهلها، وهي في موضع رحمة» . فقام الملك، حتى دخل عليها، وانتهى إلى باب مجلسها، فقامت إليه تمشي بأحسن هيئتها، متكسرة في حليها، وزينتها عبقةٌ بطيبها وعطرها، فقبلت بين عينيه، وأخذت بيده حتى أجلسته في صدر فراشها، وجعلت تقبل يديه ورجليه، ضاحكةً إليه، مظهرةً السرورو به. فجذبها إلى نفسه ودعاها إلى المضاجعة، فأتته؛ ولم يرد في الخلوة شيئاً إلا أجابته إليه؛ فلما قضى حاجته نازعها إلى المحادثة، فقال: «أين ما ذكر رسولك من وجعك» ؟ قالت: «يا سيدي، كنت متوجعة لفراقك حتى شفاني لقاؤك، وقلت ذلك لما نالني من تباريح الشوق إليك وطول صدودك وسلوتك» . ثم أخذ معها في المداعبة، وأقام عندها سبعة أيام، فبينما هما يتلاعبان ويتذاكران ويتعانقان، إذ دخلت جارية لابنة السائس، فحيت الملك بتحية الملوك، ثم قالت للهندية: «إن سيدتي (تعني ابنة السائس) تقول: قد اجتمع فيك ثلاث خصال: الأولى الغدر بمعلمتك، والثانية فضل تطاولك، والثالثة كفران النعمة للمنعم، وإني عن قريب رادتك من الملك إلى غصص الغيظ» . فأفحمتها، وهملت «1» عيناها، ونظرت إلى الملك كالمستغيثة به فقال لها الملك: «يا حبيبتي؟ ما تنكرين من أمتك؟ قد وهبتها لك وجميع ما تملك» . فتجلي عنها غمها، فقالت لرسولتها: «انطلقي فأعلميها إن الملك قد وهبها وما تملك لي، وقولي لها: أرجعك فحش نفسك إلى لؤم حسبك، وإهمال أدبك. ائتيني، الساعة، بصغار المذلة، ورقة العبودية» . فلما أبلغتها الرسول ذلك، أقبلت فدخلت عليها فحيت الملك وقامت

بين يديه؛ فقالت لها الهندية: «ما كان أعظم زهوك في رسالتك» ؟ قالت: «يا سيدتي، أتأذنين لي في الكلام» ؟ قالت: «تكلمي» ، قالت: «أيتها السيدة، لست متوجهة إليك بشيء هو أملك بك من حلمك، ولا أعطف علي من فضلك؛ ولم يظلم من رفع فوقي من هو أفضل مني، وكل فرع يرجع إلى أصله، وكل زهر ينسب إلى سنخه» فقالت: «صدقت، فدعي عنك كلام الأدب، فقد ملكتك على رغم أنفك، وأنا مزوجتك من فلان خادمي، فليس لك فضل عليه» . قالت ابنة السائس: «من اعتاد معالي الأمور، لم تطب نفسه بأسافلها، ومن صاحب العظماء، أبت غريزته الأدنياء؛ وإنما ترقبت عطفك، ورجوت حسن نظرك؛ فأما إذا عزمت على هذا، فقد طاب الموت، وما الذي استبقي منك» ؟ ثم قالت: «أيها الملك، إن جذل المسرة منك لا يستقر ويقع موقعه إلا بعد المخالفة عندك. فاحترس من هذه الهندية، فإنها لا تؤمن عليك، لأنها ليست من جنسك فيعطفها عليك الرحم، ولا من أهل مملكتك، فتعرف تطولك عليها. وإنما هي شبيهة بموتورةٍ قد قتلت أباها، وهدمت عزها، فاحترس منها، ولا يلهينك موقعها من قلبك، فإنها متى احتالت في قتلك، لم يكن في أيدينا من الظفر إلا قتلها، كما كان من أمر الثعلب وعظيم الطير، فقال الملك: وما كان من حديثهما؟ قالت: يقال إن ثعلباً جاع في ليلة، فرقي شجرة ليأكل منها، فسال الوادي الذي فيه تلك الشجرة بسيل شديد، فاقتلعها والثعلب عليها، ثم رفعها ووضعها، حتى ألقى الثعلب إلى أرض بعيدة من أرضه؛ فأصبح، وقد ألقاه السيل، إلى سفح جبل كثير الأشجار، مثمر الأغصان، وعلى تلك الأشجار جنس من الطير لا يحصى عدداً؛ فأقعى إلى شجرة قصياً، مقشعراً، لا يعرف أرضه، ولا يقدر على مؤالفة الدواب. فمر به عظيم الطير، فقال له: «ما أنت» ؟ فقال: «أنا دابة سال بي السيل، فألقاني في جبلكم، وقد أصبحت غريباً» . فقال له عظيم الطير: «فهل لك حرفة» ؟ قال: «نعم. أعرف الثمار إذا بلغت حد بلوغها، وأصنع للطير أكنافاً في الأرض، تكن فيها فراخها من الحر والبرد» ،

فقال له عظيم الطير: «قد أدركت عندنا بغيتك، فأقم عندنا نواسك، ونعرف حق مجاورتك» . فأقام الثعلب عند ملك الطير؛ فكان يعرفهم الثمار المدركة، ويحفر لهن بمخاليبه قبوراً في الأرض يفرخن فيها؛ وكان الثعلب، إذا جن عليه الليل، وقرم إلى اللحم، أدخل يده في جحر من تلك الأجحرة، فأخرج طيراً أو فراخاً، فأكله ودفن ريشه، وجعلت الطير تتفقد ما كان يأكل واحداً بعد واحد، فقال بعهضا لبعض: «ما فقدنا أفاضلنا إلا منذ صارت هذه الدابة بين أظهرنا، وكانت هذه الطير تطيل الغيبة، وما تدري ما دهاها» . فقال عظيمها: إن هذا حسدٌ منكن لهذه الدابة، فلا تغفلن ما أصبحتن فيه من فضل المطعم، وما فيه فراخكن من هذه الأكفان التي لا يخاف عليها برد فيها ولا حر» ، فقالت الطير: «أنت سيدنا؛ وأبصر بالأمور منا» . قال: «وعلي أن اقطع هذا القول، وأبين حق ذلك من باطله بنفسي» . فلما أظلم الليل نزل من الشجرة، فدخل بعض تلك الأكفان وأقبل الثعلب على العادة التي أعتادها إلى الكن، فأدخل يده، فقبض على رأس الملك، فقال الملك للثعلب: «لقد نصحتني الطير لو قبلت نصحها» . قال الثعلب: «أنت هو» ؟ قال: «نعم» ، قال: «ما ظننت أن يبلغ حمقك كل هذا» ؟ قال ملك الطير: «دعني أردك في منزلتك بحسب ما رأيت من فضل علمك، ولطيف حيلتك» . قال له الثعلب: «إن أبوي أدباني أن لا أعلق أنيابي بشيء، وأتركه، إذ ليس من جهلك أن لا تتجزأ من الثمار، ومن الأكفان، بما كان آباؤك يكتفون به؛ ولم ترض حتى اختبرت أمري بنفسك، ولم تجعل التغرير في ذلك بغيرك» . ثم أكله، ودفن ريشه، وفقدت الطير عظيمها، فاستوحشت، وضربت وضربت الثعلب ضرباً بمخاليبها ومناقيرها حتى قتلته، ولم يصلن في عظيم خطر ملكهن إلى أكثر من قتل الثعلب» . فاحترس من هذه الهندية. قالت الهندية: «إنما تقرعين المرأة بأربعة رجال: بأبيها وأخيها وولدها وبعلها، وأفضل النساء المختارة بعلها على جميع أهلها، والمؤثرة له على

نفسها، فكيف بمن ذهب أبوها وأخوها، فبقي بعلها؟ أفتحب أن تهلكه؟ على أن مثلك، في رداءة همتك، وخبث نيتك، مثل الغراب والحمامة. قال الملك: وما كان من حديثهما؟ قالت: «زعموا أن غراباً ألف مطبخاً لبعض الملوك، فأخذ من أطيب اللحمان التي قد صارت فيه شيئاً، فظنوا أن الغراب أخذه لقلة وفائه، ولؤم جوهره، فطردوه عن مطبخهم، وقالوا: ما نرجو من هذا الغراب، وهو من الطيور التي تعاف، ويتطير منها؟؟ فأفشى ذلك الغراب أمره إلى حمامة قد كان بينهما معرفة، وفزع إلى رأيها، وأخبرها ما كان فيه من نعيم المأكل والمشرب. فقالت له الحمامة: انطلق بي حتى تريني هذا المطبخ. فانطلق حتى أتى سطح المطبخ، فقالت الحمامة: إني أرى هذا البيت ليس فيه موضع مدخل، فاحفر لي بمنقارك قدر ما أدخل، فإن منقاري يضعف عن ذلك. فحفر الغراب في سقف البيت بمنقاره، فجعل لها خازن المطبخ موضعاً تأوي إليه، فلبثت في ذلك البيت قريرة عين، فنادها الغراب: «ما هكذا قدرت فيك» . فقالت الحمامة: «لو وفيت لك، حل بي غدرك، وإن القوم عرفوا وفائي، وحسن جواري، وعرفوا غدرك، وقلة وفائك، ونكث عهدك» . فهذا مثلي ومثلك، يا ابنة السائس! إني لو وفيت لك، أرداني غدرك، وقتلني مكرك» ! قالت ابنة السائس: «أيتها السيدة! إن الذي سمعت مني، كان لشدة الأنفة، فأردت أن أنفي عن نفسي الذي أردت من إنكاحي خادمك فلاناً» . قالت الهندية: «لا بدّ من ذلك» . فقالت ابنة السائس: «من اعتاد معالي الأمور، لم تطب نفسه بأسافلها، الآن استعذبت الموت» ، فعمدت إلى سم كان معها، فقذفته في فيها، فخرت ميتة، ووفت الهندية لزوجها، فأفلحا. ومنهن «شيرين» ، امرأة أبرويز، فإن شيرويه بن أبرويز، لما قتل أباه، وتوطد له الملك، بعث إلى شيرين يدعوها إلى نفسه، فامتنعت عليه،

وأبت أن تجيبه إلى ذلك، فغصبها ضياعها، وعقارها، وذخائرها، وأموالها، مع ما رماها به، فبعثت إليه، وقالت: «آيها الرجل! إن لم يكن مما سألت بد، فاقض لي ثلاث حوائج حتى أتابعك على ما تريد» . فقال: «وما هذه الحوائج» ؟ قالت: «إحداها أن ترد علي ضياعي وأموالي، والثانية أن تصعد منبرك بمحضر من مرازبتك، وأساورتك، وعظماء أهل مملكتك، وتتبرأ مما قذفتني به، والثالثة أن أباك أودعني وديعة، فتأمر أن يفتح لي باب الناووس............... ............. لها ومعها خاتم، وفيه سم ساعة، فنثرته في فيها، وعانقت قبر زوجها، فماتت.

غدر النساء

غدر النساء وضده، قيل: كان لكسرى أبرويز خال يقال له «بسطام» ، فخاف من كسرى، وجمع جمعاً كثيراً، وواقع أبرويز. فلما أعيت أبرويز الحيلة فيه، دعا بكردي، أخي بهرام جور، (ويقال أن كردياً كان غلاماً له، رباه، وبلغ منه مبلغ الرجال، وكان من خاصته، والناصحين له) ، فقال له: «قد ترى ما نزل بنا من هذا العدو بسطام، وقد رأيت رأياً، إن طابقتني عليه، رجوت الظفر» . قال كردي: «وما ذاك، أيها الملك؟ أخبرني، فما شيء يزيدك الله به عزّ، ويزيد أعداءك به ذلاً، إلا بادرت إليه بنصحٍ وصدقٍ، لعظيم حقك، ووجوب طاعتك» . قال له كسرى: «قد عرفت حال كردية، أختك، امرأة بسطام، وجراءة قلبها، وبسطام يأوي إليها كل ليلة، إذا انصرف عن الحرب، وأنا جاعل لها عهد الله، وميثاقه، وذمة أنبيائه، إن هي أراحتني من بسطام، واحتالت لي في قتله، أن أتزوجها، وأجعلها سيدة نسائي، وأبلغ في إكرامها والسموّ بها، أفضل ما بلغ ملك بإمرأته» . قال كردي: «يأيها الملك! ما أشك في قدرتها عليه، فاكتب إليها بخطك بما رأيت لأوجهه في الكتاب إليها، مع امرأتي «أرجية» ، فإن لها عقلاً ورفقاً وبصيرة» . فكتب كسرى بخطه: «بسم الله الرحمن الرحيم «1» . هذا كتابٌ لكردية

بنت بهرام جستاسب، كتبه لها كسرى أبرويز بن هرمز، إن لك عندي عهد الله، وذمته، وذمة أنبيائه ورسله، إن أنت قتلت بسطام، وأرحتني منه، أن أتزوج بك، وأجعلك سيدة نسائي، وأبلغ من كرامتك ما لا يبلغ ملك من الملوك لأحد، وأشهد الله على ذلك، وكفى بالله شهيداً» . وكتب كسرى بخطه، وختمه بخاتمه يوم كذا من شهر كذا. فسارت «أرجية» ، حتى دخلت عسكر بسطام كهيئة الزائرة لكردية بالنظر إليها، وكان بينهما قرابة، فلما جلست وسكنت، دفعت إليها كتاب كسرى، وقالت لها: «يا ابنة العم، أجيبي الملك إلى ما سألك، واغنمي بذلك الرجوع إلى وطنك» . فرغبت لشدة شوقها إلى أهلها، فأجابتها إلى ذلك. وانصرفت أرجية إلى عسكر كسرى، وعرفت زوجها ما كان بينها وبين كردية، فمضى كردي إلى كسرى فأعلمه. ثم أن بسطام دخل على كردية، فأتته بعشاء، فتناول منه، ثم أتته بشراب فسقته، وجعلت تحدثه، وتظهر له المحبة، حيت مضى ثلث الليل؛ فنام بسطام، فلما استثقل نوماً، قامت إليه كردية بسيفها، فوضعته على ثندوءته، ثم اتكأت فأخرجته من ظهره فمات؛ وعمدت من ساعتها إلى دوابّها، فحملت حشمها وأثقالها على البغال، وخرجت نحو عسكر كسرى؛ وقد كانت وجهت مع «أرجية» إلى أخيها أن يجلس لها على الطريق، فلما وافته، سار معها حتى أدخلها على كسرى، ففرح بذلك فرحاً شديداً. فلما أصبح أصحاب بسطام، ورأوه قتيلاً، ولوا هاربين على وجوههم؛ فانصرف كسرى إلى المدائن، فاتخذ لكردية تاجاً مكللاً بالدرر وصنوف الجوهر، وأعد لها وليمة عظيمة دعا فيها جنوده، فطعموا وشربوا، ثم دعا كردياً أخاها، فزوجه إياها، ومهرها، وأعطاها خاتماً، فصّه من الكبريت الأحمر، يضيء في الليلة الظلماء كما يضيء السراج. فلما دخل بها كسرى، ونظر إلى جمالها وعقلها، سر بها، وأعطاها الأموال، وأقطعها الضياع، وأكرم أخاها كردياً، وولاه أرض فارس، وبلغ

بها من رفعه إياها، وتشريفه لها، ما لم تبلغه امرأة قبلها ولا بعدها. ثم إن كردية قالت لكسرى: «يا سيدي، أخرج بنا إلى الميدان لألعب، بين يديك، بالكرة والصولجان» . فخرج معها إلى الميدان، وخرجت امرأته شيرين، وخواص نسائه، ودعا بخيل، فأسرجت، وركبت وركب هو، وجعلت تلاعبه بالصوالج، وتناولت السيف، وركضت في الميدان، ولعبت بالسيف لعباً معجباً، ثم أخذت الرمح فلعبت به. فقالت شيرين: «أيها الملك! ما يؤمنك من هذه الشيطانة» ؟ قال: «هيهات! إنها أعرف بحقنا، وأشد حباً لنا من أن نخافها على أنفسنا» . فلما نزلت، قال كسرى: «لنا في كل ربع من أرباع مملكتنا قائدٌ في اثني ألف رجل؛ وفي قصري أثنا عشرة آلاف امرأة، وقد جعلتك قائداً عليهن» . قالت: «يا سيدي، ما للنساء والفروسية؛ وإنما علينا أن نتزين لك، ونتطيب ونسرك بأنفسنا؛ وأردت، بما كان مني، سرورك وتسليه همومك» . فأمر كسرى بحمل طعامه وشرابه إلى منزلها، وبقي عندها أسبوعاً، لم يخرج إلى الناس، ولم يأذن لأحدٍ بالدخول عليه، ثم خرج من عندها إلى منزل شيرين، فأتاه صياد بسمكة عظيمة، فأعجب بها، وأمر له بأربعة آلاف درهم. فقالت له شرين: «أمرت لصياد بأربعة آلاف درهم، فإن أمرت بها لرجل من الوجوه» ، قال: «إنما أمر لي بمثل ما أمر للصياد» . فقال: «كيف أصنع، وقد أمرت له» ؟ قالت: «إذا أتاك، فقل له: أخبرني عن السمكة، أذكرٌ هي أم أنثى؟ فإن قال: «أنثى» ، فقل: لا تقع عيني عليك حتى تأتيني بالذكر. وإن قال: «ذكر» ، فقل مثل ذلك. فلما غدا الصياد على الملك، قال له: «أخبرني عن السمكة، أذكرٌ هي أم أنثى» ؟ قال: «بل أنثى» . قال: فاتني بذكرها» فقال: عمر الله الملك؟ إنها كانت بكراً لم تتزوج بعد» . قال الملك: «زه، زه» وأمر بأربعة آلاف درهم؛ وأمر أن يكتب في يكتب في ديوان الحكمة: «إن الغدر ومطاوعة النساء يورثان الغرم» . وقال: وكان الموبذان إذا دخل على كسرى، قال: «عشت، أيها

الملك، بسعادة الجدّ، ورزقت على أعدائك الظفر، وأعطيت الخير، وجنبت طاعة النساء» . فغاظ ذلك شيرين، وكانت أجمل نساء عصرها، وأتمهن عقلاً، فقالت لكسرى: «أيها الملك! إن هذا الموبذان قد طعن في السن، ولست مستغنياً عن رأيه ومشورته. وقد رأيت لحاجتك إليه أن أهب له «مسكدانة» ، جاريتي؛ وقد عرفت عقلها وجمالها، فإن رأيت أن تسأله قبولها، فافعل» . فكلم كسرى الموبذان في ذلك، فهش للجارية لمعرفته بجمالها وفضلها، فقال: «قد قبلتها أيها الملك، لا يثارها إياي بأفضل جواريها» . فقالت شيرين لمسكدانة: «إني أريد أن تأتي هذا الشيخ، فتبدي له محاسنك، وتجيدي خدمته، فإذا هش لمضاجعتك، فامتنعي عليه حتى توكفيه وتركبيه، وتعلميني الوقت الذي يتهيأ لك ذلك حتى لا يعود أن يزيد في تحية الملك: «ووقيت طاعة النساء» فقالت مسكدانة: «أفعل يا سيدتي» . ثم انطلقت إلى الشيخ، فصارت عنده في داره التي يحتلها من قصر الملك؛ فجعلت تخدمه، وتبره، وتظهر له الكرامة، وهي مع ذلك تبرز له محاسنها، وتشف له عن صدرها ونحرها، وتبدي له ساقيها وفخذيها، فارتاح الموبذان إليها، وشرح صدره لمضاجعتها، فجععلت تمتنع عليه، فيزداد في ذلك حرصاً. فلما ألح عليها، قالت له: «أيها القاضي! ما أنا بمجيبتك إلى ما سألت، حتى أو كفك وأركبك؛ فإن أجبتني إلى ذلك، صرت طوع يدك فيما تريد وتدعو إليه من مسرتك» . فامتنع عليها أياماً، وبقيت تتزين له بزينتها، وتكشف له عن محاسنها، حتى عيل صبره، فقال لها: «أفعلي ما أجببت» . فهيأت له برذعة صغيرة، وإكافاً صغيراً، وحزاماً وثفراً، وأقامته عرياناً على أربع، ووضعت على ظهره البرذعة، والأكاف، وجعلت الثفر تحت خصيتيه، وهي قائمة، وركبته وهي تقول: «خر خر» . وأرسلت إلى سيدتها شيرين تعلمها بذلك، فقالت شيرين للملك:

«أصعد بنا إلى ظهر بيت الموبذان، للننظر من الروزنة ما يكون بينه وبين الجارية» . فصعدا. ونظرا، فإذا هي قد ركبته فوق الأكاف، فناداه كسرى: «ويحك! أي شيء هذا» ؟ فرفع الموبذان رأسه، ونظر إلى الروزنة، ورأى الملك فقال: «هو ما كنت أقول لك في اجتناب طاعة النساء» . فضحك كسرى وقال: «قبحك الله من شيخ، وقبح مستشيرك بعد هذا» .

حديث الزباء

حديث الزباء ومنهن الزباء «1» ، واسمها هند، وملكت الشام بعد عمها المنصور، وكان جذيمة الأبرش قتل عمها، فبعث إليها جذيمة يخطبها، فأظهرت البشر والسرور لرسوله، وكتبت إليه بالقدوم عليها لتزوجه نفسها، فاستشار نصحاءه، فقالوا: «أيها الملك، إن تزوجت بها، جمعت ملك الشام، وملك الجزيرة إلى ملكك» . فاستخلف ابن أخيه عمرو بن عدي، وسار في ألف فارس من خاصته؛ فلما انتهى إلى مكان يسمى «بقة» ، وهو حد مملكتها ومملكته، نزل في ذلك المكان، واستشار أصحابه أيضاً في المصير إليها بالانصراف، فزينوا له الإلمام بها وقالوا: «إنك، إن انصرفت من ههنا، أنزله الناس منك على جبنٍ ووهن» . فدنا منه مولى يقال له قصير بن سعد، فقال له: «أيها الملك، لا تقبل مشورة هؤلاء؛ وانصرف إلى مملكتك حتى يتبين لك أمرها، فإنها امرأة موتورة، ومن شأن النساء الغدر» . فلم يحفل بقوله، ومضى حتى اقتحم مملكتها، فقال قصير: «ببقةٍ صرم الأمر» ، ثم أرسلها مثلاً. فلما بلغ المرأة قدومه عليها، أمرت جنودها، فاستقبلوا الملك؛ فقال قصير: «أيها الملك! إني رأيت جنودها لم يترجلوا لك، كما يترجل للملوك، ولست آمن عليك، فاركب

«العصا» ، وانج بنفسك» (والعصا كانت فرساً لجذيمة، لا يشق غبارها) ؛ فلم يعبأ جذيمة بقوله؛ وسار حتى دخل المدينة، وأمرت هند الزباء بأصحابه أن ينزلوا فأنزلوا، وأخذت منهم أسلحتهم ودوابهم؛ وأذنت لجذيمة، فدخل عليها، وهي في قصر لها، ولم يكن معها في قصرها إلا الجواري، فأومأت إليهن أن يأخذنه؛ واجتمعن عليه ليكتفنه، فامتنع عليهن، فلم يزلن يضربنه بالأعمدة حتى أثخنه وكتفنه. ثم دعت بنطع، فأجلسته فيه، وكشفت عن عورتها؛ فنظر جذيمة، فإذا لها شعرة وافية. فقالت: «كيف ترى عروسك؟ أشوار عروس أم ما ترى؟ «أرى بظرا ناتئاً، ونبتاً فاشياً، ولا أعلم ما وراء ذلك» ؟ قالت: «أما إنه ليس من عدم المواسي أو لقلة الأواسي، ولكنه شمةٌ من أناسي» . ثم أمرت به، فقطعت عروقه، فجعلت دماؤه تشخب في النطع، فقالت: «لا يحزنك ما ترى. فإنه دم هراقه أهله» ، فأرسلتها مثلاً. واحتال «قصير» للعصا حتى وصل إليها وركبها، ثم دفعها، فجعلت تهوي به كأنها الريح. وكان المكان الذي قصد فيه جذيمة مشرفاً على الطريق، فنظر جذيمة إليه وقد دفع الفرس، فقال: «لله حزم على رأس العصا» ، فلم تزل دماؤه تشخب حت مات. ثم أمرت بأصحابه، فقتلوا بأجمعهم. وكان عمرو بن عدي يركب كل يوم من الحيرة، فياتي طريق الشام، يتجسس عن خبره وحاله، فلم يبلغه أحد خبره. فبينا هو ذات يوم في ذلك، إذ نظر إلى فرس مقبل على الطريق، فلما دنا منه، عرف الفرس، وقال: «يا خير ما جاءت به العصا» ، فذهبت مثلاً. فلما دنا منه قصير، قال له: «ما وراءك» ؟ قال: «قتل خالك وجنوده جميعاً، فاطلب بثأرك» . قال: «وكيف لي بها، وهي أمنع من عقاب الجو» ؟ فذهبت مثلاً. ثم إن قصيراً أمر بأنف نفسه فجدع، ثم ركب وسار نحو الزباء، فاستأذن علهيا، فقيل لها: «إن مولى لجذيمة وقرهمانه وأكرم الناس عليه قد أتاك مجدوعاً» . فأذنت له، فدخل عليها.

قالت: «من صنع بك هذا» ؟ قال: «أيتها الملكة! هذا فعل عمرو بن عدي، اتهمني وتجنى علي الذنوب، وزعم إني أشرت على خاله بالمصير إليك، حتى فعل بي ما ترين، ولم آمنه أن يقتلني، فخرجت هارباً إليك، وقد أتيتك لأكون معك، وفي خدمتك؛ ولي جداء وعندي غناء» . قالت: «نعم أقم، فعندي لك ما تحب» ، وولته نفقتها، فخف لها، ورأت منه الرشاقة، فيما أسندته إليه، فأقام عندها حولاً، ثم قال لها: «أيتها الملكة! إنه لي بالعراق مالاً كثيراً، فإذا أذنت لي في الخروج لحمله، فافعلي» . فدفعت إليه مالاً كثيراً، وأمرته أن يشتري له ثيابا من الخز والوشي ولآليء وياقوتاً ومسكاً وعنبراً وألنجوجاً. فانطلق حتى أتى عمراً فأخبره، فأخذ منه ضعفي مالها، وانصرف نحوها، فاسترخصت ما جاء به، وردته الثانية والثالثة، فكان يأخذ في كل مرة مثل أضعاف مالها، فيشتري لها جميع ما تريد، فتسترخصه. ووقع قصير بقلبها، فاستخلفته، ثم بعثته في الدفعة الرابعة بمال عظيم، وأمرته أن يشتري أثاثاً ومتاعاً وفرشاً وآنية، فانطلق إلى عمرو، فقال: «قد قضيت ما علي، وبقي ما عليك» ، فقال: «وما الذي تريد» ؟ قال «أخرج معي في ألفي فارس من خدمك، وكونوا في أجواف الجواليق، على كل بعير رجلان» . فانتخب عمرو ألفي فارس من أصحابه، فخرج، وخرجوا معه في الجواليق، كل رجل بسيف، وكان يسير النهار، فإذا أمسى الليل، فتح الجواليق ليخرجوا ويطعموا ويشربوا ويقضوا حوائجهم، حتى إذا كان بينه وبين مدينتها مقدار ميل، تقدم «قصير» حتى دخل عليها، وقال: «أيتها الملكة! اصعدي على القصر لتنظري ما أتيتك به» ، فصعدت فنظرت إلى ثقل الأحمال على الجمال، فقالت: ما للجمال مشيها وئيدا ... أجندلاً يحملن أم حديدا أم صرفاناً بارداً شديدا «1»

فأجابها قصير سراً: «بل الرجال جثما قعودا» فقال: «لما عليها من المتاع الثقيل النفيس» . فأمرت بالأحمال، فأدخلت قصرها، وكان وقت المساء، فقالت: «إذا كان غداً نظرنا إلى ما أتيتنا به» . فلما جن عليهم الليل، فتحوا الجواليق، وخرجوا، فقتلوا جميع من في القصر. وكان لها سربٌ قد أعدته للفزع والهرب، إن حل بها روع، تخرج إلى الصحراء؛ وقد كان قصير عرف ذلك المكان، ووصفه لعمرو، فبادر عمرو إلى السرب، فاستقبلته الزباء، فولت هاربة نحو السرب، فاستقبلها بالسيف، فمصت فصّها، وكان مسموما، وقالت: «بيدي لا بيدك يا عمرو، ولا بيدي العبد» ، فقال عمرو: «يده ويدي سواء، وفي كليهما شفاء» ، وضربها بسيفه حتى قتلها؛ وأقبل قصير حتى وقف عليها، فجعل يدخل سيفه في فرجها ويقول: ولو رأوني وسيفي يوم أدخله ... في جوف زباء ماتوا كلهم فرحا وغنم عمرو وأصحابه من مدينتها أموالاً جليلة، وانصرفوا إلى الحيرة، فكان الملك، بعد خاله جذيمة، وعمرو هذا هو جد النعمان بن المنذر بن عمرو بن عدي. ومنهن صاحبة الجعد بن الحسين أبي صخر بن الجعد، وكان جعد قد طعن في السن، وكان يكنى أبا الصموت، وكانت له وليدة سوداء، فقالت: «يا أبا الصموت! زعم بنوك أن يقتلوني إذا أنت مت» ، قال: «ولم ذاك» ؟ قالت: «ما لي إليهم ذنب غير حبك، فأعتقني» ، فأعتقها، فبقيت يسيراً، ثم قالت: «يا أبا الصموت! هذا عرابة من أهل عدن يخطبني» ! قال: «ما كان هذا ظني بك» ، قالت: «إنما أريد ما له لك» ، فقال: «ائتيني به» ، فجاءت به، فزوجها منه، فولدت منه، وقربته من مال جعد، وكانت تأتي الجعد، فتخضب رأسه، ثم قطعته، فقال الجعد:

أبلغ لديك بني عمرٍ مغلغلةً ... عوفاً وعمراً، فما قولي بمردود بأن بيتي أمسى فوق داهيةٍ ... سوداء قد وعدتني شر موعود تعطى عرابة بالكفين مختضباً ... من الخلوق، وتعطيني على العود أمسى عرابة ذا مالٍ وذا ولدٍ ... من مال جعدٍ، وجعدٌ غير محمود ومنهن امرأة مروان بن الحكم، وكانت أم خالد بن يزيد بن معاوية، وهي ابنة هشام بن عتبة، فأراد مروان الخروج إلى مصر، فقال لخالد: «أعرني سلاحك» ، فأعاره، فلما رجع، قال له خالد: «رد علي سلاحي» ، فأبى عليه. وكان مروان فحّاشا، فقال له: «يابن الربوخ الرطبة» ، فجاء خالد إلى أمه، فقال: «هذا ما صنعت بي. سبني على رؤوس الملأ، وقال لي كيت وكيت، قالت: «اسكت، فإني أكفيك أمره» . فجاء مروان، فرقد عندها، فأمرت جواريها، فطرحن عليه الشوادكين (يعني الملاحف) ، ثم غططنه حتى قتلنه، وخرجن يصحن: «وا أمير المؤمنيناه» !! فدعا عبد الله بامرأة أبيه ليقتلها، فقالت: «إن الذي يبقى عليك من العار أعظم من قتل أبيك» ؛ قال: «وما ذاك» ؟ قالت: «يقول الناس: إن أباك قتلته امرأة» فأمسك عنها.

محاسن مكر النساء

محاسن مكر النساء ذكروا أن الحجاج بن يوسف أرق، ذات ليلة، فبعث إلى ابن القرية، فقال: (أرقت، فحدثني حديثاً يقصر على طول ليلي، ولكن من مكر النساء وفعالهن) . فقال: أصلح الله الأمير! ذكروا أن رجلاً يقال له عمرو بن عامر من أهل البصرة، كان معروفاً بالنسك والسخاء. وكانت له زوجة يقال لها جميلة، وله صديق من النساك. فاستودعه عمرو ألف دينار، وقال: إن حدثت بي حادثة، ورأيت أهلي محتاجين، فأعطهم هذا المال. فعاش ما عاش، ثم دعي فأجاب، فمكثت جميلة بعده حيناً، ثم ساءت حالها، وأمرت خادمتها يوما ببيع خاتمها لغداء يوم أو عشاء ليلة. فبينا الخادمة تعرض الخاتم على البيع، إذ لقيها الناسك صديق عمرو، فقال: فلانة؟ قالت: نعم. قال حاجتك؟ فأخبرته بسوء الحال، وما اضطرت إليه مولاتها من بيع خاتمها، فهملت عيناه دموعاً، ثم قال إن لعمرو قبلي ألف دينار، فأعلمي بذلك صاحبتك. فأقبلت الجارية ضاحكة مستبشرة، وهي تقول: رزق حلال عاجل من كد مولاي الكريم الفاضل. فلما سمعت مولاتها ذلك، سألتها عن القصة، فأخبرتها، فخرت ساجدة، وحمدت ربها، وبعثت بالجارية إلى الناسك، فأقبل الناسك ومعه المال، فلما دخل الدار، كره أن يدفع المال إلى أحد سواها؛ فخرجت، فلما نظر إلى جمالها وكمالها، أخذت مجامع قلبه، وفارقه النهى، وذهب عنه الحياء، وأنشأ يقول: قد سلبت الجسم والقلب معاً ... وبريت العظم مما تلحظين

فارددي قلب عميدٍ واقبلي ... صلة الضعفين مما ترتجين «1» فأطرقت جميلة لقوله طويلاً، ثم قالت: ويحك، ألست المعروف بالنسك المنسوب إلى الورع؟ قال: بلى. ولكن نور وجهك سل جسمي، فتداركيني بكلمة تقيمين بها أودي. فهذا مقام اللائذ بك! قالت: أيها المرائي المخادع! أخرج عني مذموماً مدحوراً. فخرج عنها، وقد هام قلبه، وأضحت جميلة تعمل الحيلة في استخراج حقها، فأتت الملك ترفع إليه ظلامتها، فلم تصل إليه، فأتت الحاجب، فشكت إليه، فأعجب بها إعجاباً شديداً، وقالت: إن لوجهك صورة أدفعها عن هذا، ولا يجمل بمثلك الخصومة فهل لك في ضعفي مالك في ستر ورفق؟ فقالت: سوءة لامرأة حرة تميل إلى ريبة. فانصرفت إلى صاحب الشرطة، فأنهت ظلامتها إليه، فأعجب بها وقال: إن حجتك على الناسك لا تقبل إلا بشاهدين عدلين، وأنا مشترٍ خصومتك، إن أنت نزلت عند مسرتي. فانصرفت عنه إلى القاضي، فشكت إليه، فأخذت بقلبه، وكاد القاضي يجن إعجاباً بها، وقال: يا قرة العين! إنه لا يزهد في أمثالك، فهل لك في مواصلتي وغناء الدهر؟ فانصرفت، وباتت تحتال في استخراج حقها، فبعثت الجارية إلى نجار، فعمل لها تابوتاً بثلاثة أبواب، كل منها مفرد؛ ثم بعثت الجارية إلى الحاجب أن يأتيها إذا أصبح، وإلى صاحب الشرطة أن يأتيها ضحوة، وإلى القاضي أن يأتيها إذا تعالى النهار، وإلى الناسك أن يأتيها إذا انتصف النهار. فأتاها الحاجب، فأقبلت عليه تحدثه، فما فرغت من حديثها حتى قالت لها الجارية: صاحب الشرطة بالباب، فقالت للحاجب: ليس في البيت ملجأ إلا هذا التابوت، فأدخل أي بيت شئت منه. فدخل الحاجب بيتاً من التابوت فأقفلت عليه. ودخل صاحب الشرطة، فأقبلت جميلة عليه تضاحكه وتلاطفه، فما كان بأسرع من أن قالت الجارية: القاضي بالباب؛ فقال

صاحب الشرطة: أين اختبيء؟ فقالت: لا ملجأ إلا هذا التابوت، وفيه بيتان، فادخل أيهما شئت، فدخل، فأقفلت عليه، فلما دخل القاضي، قالت: مرحباً وأهلاً، وأقبلت عليه بالترحيب والتلطيف. فبينا هي كذلك، إذ قالت الجارية: الناسك بالباب، فقال القاضي: ماذا ترين في ردّه؟ فقالت ما لي إلى رده سبيل. قال: فكيف الحيلة؟ قالت: إني مدخلتك هذا التابوت، ومخاصمته، فاشهد لي بما تسمع، واحكم بيني وبينه بالحق. قال نعم، فدخل البيت الثالث، فأقفلت عليه. ودخل الناسك، فقالت له: «مرحباً بالزائر الجاني، كيف بدا لك في زيارتنا» ؟ قال: «شوقاً إلى رؤيتك، وحنيناً إلى قربك» . قالت: «فالمال، ما تقول فيه: أشهد الله على نفسك برده، اتبع رأيك.. قال: «اللهم إنني أشهدك الله لجميلة عندي ألف دينار وديعة زوجها» . فلما سمعت ذلك هتفت بجاريتها، وخرجت مبادرة نحو باب الملك، فأنهت ظلامتها إليه، فأرسل الملك إلى الحاجب، وصاحب الشرطة، والقاضي، فلم يقدر على واحد منهم؛ فقعد لها، وسألها البينة، فقالت: «يشهد تابوت عندي فضحك الملك وقال: «يحتمل ذلك لجمالك» . فبعث بالعجلة فوضع التابوت فيها، وحمل إلى بين يدي الملك، فقامت وضربت بيدها التابوت وقالت: «أعطي الله عهداً لتنطقن بالحق، وتشهدن بما سمعت، أو لأضر منك ناراً، فإذا ثلاثة أصوات من جوف التابوت تشهد على إقرار الناسك لجميلة بألف دينار. فكبر ذلك على الملك، فقالت جميلة: «لم أجد في المملكة قوماً أوفى ولا أقوم بالحق من هؤلاء الثلاثة فأشهدتهم على غريمي» ، ثم فتحت التابوت وأخرجت ثلاثة النفر، وسألها الملك عن قصتها فأخبرته، وأخذت حقها من الناسك، فقال الحجاج: «لله درها ما أحسن ما احتالت لاستخراج حقها» . قال: وكان يعقوب بن يحيى المدائني، ويحيى الكاتب، كاتب سهل بن رستم، يتحدثان إلى مهدية، جارية سليمان بن الساحر، فقال يعقوب يوماً ليحيى: «أنا أشتهي أن أرى بطن مهدية» ، فقال يحيى: «ما تجعل لي إن

أنا احتلت لك بحيلة حتى تراه» ؟ قال: «ما شئت» قال: «برذونك هذا» قال: «نعم» . قال: فتوثق منه، وأتى مهدية فقال لها: «كان لي برذون موافق فاره فنفق، وأنت لو شئت لحملتني على برذون فاره» ، قالت: «أنا أفعل وأشتريه لك بما بلغ الثمن» ، قال: «أنت قادرة عليه بغير الثمن» ، قالت: «كيف ذلك» ؟ فأخبرها بالقصة فقالت: «قد حملك الله على البرذون، وأربحك النظر إلى بطن حسن، فإذا كان غداً فتعال أنت ويعقوب فاجلسا، فإن سليمان يعبث بوصيفته فلانة كثيراً، فإذا فعل ذلك وجئت أنا، فقل: «أنت يا مهدية لو علمت ما صنع فلان لقتلته» ، قال: «نعم» ، فلما جاءت مهدية، قال لها: «إن أمر سليمان مع وصيفته أشنع مما تقدرينه» ، فوثبت مستشيطة غضبا وقالت: «مثلك يابن الساحر يفعل هذا مرة بعد أخرى» ، وشقت جيبها إلى أن جاوزت أسفل البطن وهي قائمة، فنظر إلى بطنها فتأملناها ساعة وهي تشتم ابن الساحر، فقام إليها يترضاها ويسكنها، ويعقوب يقول «وابرذوناه» فأخذه منه يحيى. وعن المساور قال: كان عندنا بالأهواز رجل متأهل، وكانت له أرض بالبصرة، وكان في السنة يأتيها مرة أو مرتين، فتزوج بها امرأة ليس لها إلا عم في الدار؛ وكان يكثر الانحدار بعد ذلك إلى البصرة، فأنكرت الأهوازية حاله فدست من يعرف خبره، ثم احتالت وبعثت من أورد خطاً لعم المرأة البصرية، وسألت من كتب كتاباً من عم البصرية إلى زوجها على خطه بأن ابنة أخيه توفيت، ويسأله القدوم لأخذ ما خلفت، ودست الكتاب مع إنسان شبيه بالملاح. فلما أتى بالكتاب خرج إليه فدفع الكتاب، ولم يشك أن امرأته البصرية ماتت، فقال لامرأته: «اجعلي لي سفرة» ، قالت: «ولم» ؟ قال: «أريد الخروج إلى البصرة» ، قالت: «وكم هذه البصرة؟ قد رابني أمرك، وما أشك أن هنالك لك امرأة» ، فأنكر ذلك، فقالت: «إن كنت صادقاً فاحلف بطلاق كل امرأة لك غيري» ، فقال في نفسه: «تلك قد ماتت، وليس علي أن أحلف بطلاقها فأرضي هذه» ، فحلف لها بطلاق كل امرأة له سوى الأهوازية، فقالت الأهوازية: «يا جارية هات السفرة، فقد أغناه الله عن الخروج» ، قال: «وما ذلك» ؟ قالت: «قد طلقت الفاسقة» ، وقصت عليه القصة، فعرف مكرها، وأقام.

مساويء مكر النساء وذكروا أن لقمان بن عاد «1» صاحب لبد، خرج يجول في قبائل العرب، فنزل بحي من العماليق، فبينا هو كذلك إذ ظعن القوم، فظعن معهم، فسمع بامرأة تقول لزوجها: «فلان لو حملت سفطي هذا حتى تجاوز به الثنية، فإن فيه من متاع النساء ما لابد لهن منه، ولعل البعير يقع فيتكسر» وذلك من لقمان بمنظر ومسمع، فقال: «أفعل» . فاحتمله على عاتقه، فلما انحدر، وجد بللاً في صدره فشمه، فإذا هو ريح بول قد جاء من السفط الذي على رأسه ففتح السفط فإذا هو بغلام قد خرج منه يعدو، فلما نظر لقمان قال: يا إحدى بنات طبق» ، - وبنات الطبق أن أن تأتي الحية السلحفاة، فتلتوي عليها، فتبيض بيضة واحدة، فتخرج منها حية شبراً أو نحوه، لا تضرب شيئاً إلا أهلكته- فتبعه لقمان حتى لحقه، فجاء به يحمله، واجتمع الناس إليه، وقالوا: «يا لقمان أحكم فيما ترى» فقال: «ردوا الغلام في السفط يكون له مثوى حتى يرى ويعلم أن العقاب فيما أتى وتحمله المرأة بفعلها، حملوها ما حملت زوجها، ثم شدوا عليها، فإن ذلك جزاء مثلها» . فعمدوا إلى الغلام، فشدوه في السفط، ثم شدوه في عنق المرأة، ثم تركوهما حتى ماتا. ثم فارقهم لقمان، فأتى قبيلة أخرى فنزل بهم، فبينا هو كذلك، إذ

بصر بامرأة قد قامت عن بنات لها، فسألت إحداهن: (أين تذهبين) ؟ قالت: إلى الخلاء، ثم خرجت إلى بيوت الحي فعارضها رجل فمضيا جميعاً، ولقمان ينظر، فوقع الرجل عليها، وقضى حاجته منها، فقالت المرأة: هل لك أن أتماوت على أهلي، فإنما هو ثلاثة أيام أكون في رجمي، ثم تجيء: فتستخرجني فنتمتع، فقال الرجل افعلي؛ وكان اسمه الخلي، وزوج المرأة اسمه الشجي فقال لقمان: ويل للشجي من الخلي فذهبت مثلاً، فلم تلبث المرأة إلا أياما حتى تماوتت على أهلها، وكان الميت منهم إذا مات تجعل فوقه الحجارة ولم تكن إذ ذاك قبور، فلما كان اليوم الثالث، جاءها خليلها فأخرجها، وانطلق بها إلى منزله، وتحول الحي من ذلك المكان، وخافت المرأة أن تعرف فجزت شعرها، وتركت لنفسها جمة، فبينا هم كذلك، إذ خرج بنات المرأة فإذا هن بامرأة جالسة ذات جمة، فقالت الصغرى: (أمي والله) ، قالت الوسطى: (صدقت والله) ، قالت المرأة: كذبتما ما أنا لكما بأم، قالت الكبرى: صدقت! والله لقد دفنا أمنا غير ذات جمة، ما كان لأمنا إلا لمة قالت الصغرى: هبك أنكرت أعلاها، أما تعرفين أخراها فتعلقت به، فقالت: صغراهن مراهن، فذهبت مثلاً. واجتمع الناس، وجاء زوج المرأة، فارتفعوا إلى لقمان فقالوا: أحكم بيننا، فقال لقمان: عند جهينة الخبر اليقين فذهبت مثلاً. وكان يلقب بجهينة، فقال لقمان للمرأة: أخبرك أم تخبريني؟ قالت: بل قل، قال: إنك قلت لهذا إني متماوتة على أهلي، فإذا دفنوني في رجمي، جئت فاستخرجتني، وأتنكر لهم فلا يعرفونني، فنتنعم ما بقينا، فاعترفت المرأة فقيل للقمان: أحكم بيننا، قال: ارجموها كما رجمت نفسها، فحفر لها حفرة وألقوها، فيها ورجموها، وكانت أول مرجومة في العرب، ثم إن زوجها تعلق بالخلي فقال: يا لقمان هذا فراق بيني وبين أهلي، فقال لقمان: لكل ذكر أنثى، ولكل أول آخر، فرق بينك وبين أنثاك، ونفرق بين ذكره وبين أنثييه، فقطع ذكره، فمات.

محاسن الغيرة والحجاب

محاسن الغيرة والحجاب روي أنه إذا أغير الرجل في أهله، أو في بعض مناكحه، أو مملوكته فلم يغر، بعث الله، جل اسمه، إليه طيراً يقال له: (القرقفنة) حتى يسقط على عارضة بابه، ثم يمهله أربعين صباحاً يهتف به: (إن الله غيور يحب كل غيور) ، فإن هو تغير وأنكر ذلك، وإلا طار حتى يسقط على رأسه، فيخفق بجناحيه على عينيه، ثم يطير عنه، فينزع الله منه روح الإيمان، وتسميه الملائكة: الديوث. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: باعدوا بين أنفاس الرجال والنساء فإن كانت المعاينة واللقاء كان الداء الذي لا دواء له. وروي أن امرأة ذات عقل ورأي حملت من فاجر، فقيل لها في ذلك، فقالت: قرب الوساد وطول السهاد، تريد قرب مضجعه منها وطول مسارته إياها. وقال صلى الله عليه وسلم: النساء حبائل الشيطان، وقال سعيد بن مسلم: «لأن يرى حرمتي آلف رجل على حال تكشف وهي لا تراهم، أحب إلي من أن ترى حرمتي رجلاً مواجهة» وقيل لعقيل بن علفة: ألا تزوج بناتك؟ فقال: أجيعهن فلا يأشرن، وأعريهن فلا يظهرن، فوافق إحدى كلمتيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: الصوم وجاء السيئة، والأخرى قول عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: استعينوا عليهن بالعري. وغاية أموال الرجال وكسبهم وهمهم وما يملكون، إنما هو مصروف إلى النساء، فلو لم يكن إلا ما يعد لهن من الطيب والحلى، والكساء والفرش والآنية، كان في ذلك ما كفى، ولو لم يكن إلا الاهتمام بالحفظ والحراسة وخوف العار من خيانتهن، والجناية عليهن، لكان في ذلك المئونة العظيمة، والمشقة الشديدة، غير أن أولى الأشياء بالرجال حفظهن

وحراستهن، فليس شيء لهن أصلح من مباعدتهن عن الرجال، وقمعهن بالعري والجوع، ومن حق الملوك أن لا يرفع أحد من خاصتها وبطانتها، رأسه إلى حرمة لها، صغرت أم كبرت، فكم من قيل وطيء هامة عظيم، وبطنه حتى بدت أمعاؤه؟ وكم من شريف وعزيز قوم، قد مزقته السباع ونهشته؟ وكم من جارية كريمة على قومها عزيزة في أهلها، وقد أكلها حيتان البحر وطير الماء؟ وكم من جمجمة كانت تصان، وتعل بالمسك والبان قد ألقيت بالعراء، وغيبت جثتها في الثرى، بسبب الرم والخدم والغلمان، ولم يأت الشيطان أحداً قط من باب حتى يراه بحيث أن من يهوى مستقيم اللحم والأعضاء، هو أبلغ من مكيدته، وأخرى أن يرى فيه أمنية من هذا الباب إذ كان من ألطف مكايده، وأدق وساوسه، وأجل تزايينه. وقيل لابنة الخس «1» : لم زنيت بعبدك ولم تزن بحر؟ قالت: طول السهاد وقرب الوساد. وقيل: لو أن أقبح الناس وجهاً، وأنتنهم رائحة، وأظهرهم فقرا، وأسقطهم نفساً، وأوضعهم حسباً قال لامرأة تمكن من كلامها، ومكنته من سمعها: والله يا مولاتي قد اسهرت ليلي، وأرقت عيني، وشغلتني عن مهم أمري، فما أعقل أهلاً ولا ولداً، ولو كانت أبرع الناس جمالاً، وأكملهم كمالاً، وأملحهم ملاحة، وإن كانت عينه تدمع بذلك، ثم كانت تكون مثل أم الدرداء، أو معاذة العدوية، أو رابعة القيسية لمالت إليه وأحبته. ومنها قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اضربوهن بالعري، فإن النساء يخرجن إلى الأعراس، ويقمن في المناحات، ويظهرن في الأعياد، ومتى كثر خروجهن لم يعد بد أن يرين من هو شكلهن، ولو كان بعلهن أتم حسناً، وأحسن وجهاً، والذي رأت أنقص حسنا، ولكان ما لا تملكه أظرف عندها مما تملكه، ولكان ما لم تملكه أو تستكثر منه أشد لها اشتغالاً واجتذاباً. قال الشاعر:

وللعين ملهى بالنساء ولم يقد ... هوى النفس شيء كإقتياد الطّرائف وكانت الأكاسرة إذا امتحنت الخاصة من أصحابها، وخف الواحد عنهم على قلب الملك، وكان الرجل عالماً بالحكمة، موضعاً للأمانة في الدماء والفروج والأموال على ظاهره، فيأمره أن يتحول إلى منزله، وأن تفرغ إليه حجرة، وأن لا يتحول إليه بامرأة ولا جارية، ولا حرمة، ويقول له: أريد بك الأنس في ليلي ونهاري، وإن كان معك بعض حرمك قطعك عني فاجعل منصرفك إلى منزلك في كل خمس ليال، فإذا تحول الرجل أنس به، وخلا معه، وكان آخر من ينصرف من عنده، فيتركه على هذه الحالة أشهراً. امتحن أبرويز رجلاً من خاصته بهذه المحنة، ثم دس إليه جارية من بعض جواريه، ووجه معها إليه بألطاف وهدايا، وأمرها أن لا تقعد عنده في أول مرة، فأتته بألطاف الملك، وقامت بين يديه، ولم تلبث أن انصرفت حتى إذا كانت المرة الثانية، أمرها أن تقعد هنيهة، وأن تبدي عن محانسها حتى يتأملها ففعلت، ولا حظها الرجل وتأملها، وجعل الرجل يحد النظر إليها، ويسر بمحادثتها، ومن شأن النفس أن تطلب بعد ذلك الغرض من هذه المطايبة، فلما أبدى ما عنده، قالت: أخاف أن يعثر علينا ولكن دعني حتى أدبر في هذا ما يتم به الأمر بيننا، ثم انصرفت فأخبرت الملك بذلك، وبكل شيء جرى بينهما، فلما كانت المرة الثالثة أمرها أن تطيل القعود عنده، وأن تحدثه، وإن أرادها على الزيادة في المحادثة أجابته إليه ففعلت، ووجه إليه أخرى من خواص جواريه، وثقافتهن بألطافه وهداياه، فلما جاءت قال لها: ما فعلت فلانة؟ قالت: اعتلت فار بدّ لون الرجل، ثم لم تطل القعود عنده كما فعلت الأولى، ثم عاودته فقعدت أكثر من المقدار الأول، وأبدت بعض محاسنها، حتى تأملها، وعاودته في المرة الثالثة، وأطالت القعود والمضاحكة والمهازلة، فدعاها إلى ما في تركيب النفس من الشهوة، فقالت: أنا من الملك على خطى يسيرة، ومعه في دار واحدة، ولكن الملك يمضي بعد ثلاثٍ إلى بستانه الذي بموضع كذا، فيقيم هناك، فإن أرادك على الذهاب معه، فأظهر أنك عليل وتمارض، فإن خيرك بين

الانصراف إلى نسائك أو المقام هنا، فاختر المقام، وأخبره أنك لا تقدر على الحركة، فإن أجابك إلى ذلك، جئت من أول الليل، فأكون معك إلى آخره. فسكن الرقيع إلى قولها، وانصرفت الجارية، فأخبرت الملك بكل ما دار بينهما؛ فلما كان الوقت الذي وعدته أن يخرج الملك فيه، دعاه الملك فقال للرسول: «أخبره أني عليل» ، فلما جاءه الرسول وأخبره، تبسم وقال: «هذا أول الشر» . فوجه إليه محفة يحمل فيها، فأتاه وهو معصب، فلما بصر به، قال: «والمحفة الشر الثاني» ، فتبين العصابة فقال: «والعصابة الشر الثالث» . فلما دنا من الملك، سجد، فقال له: «متى حدثت بك هذه العلة» ؟ قال: «هذه الليلة» . قال: «فأي الأمرين أحب إليك: الانصراف إلى نسائك لتمريضك، أم المقام هنا لوقت رجوعي» ؟ قال: «المقام ههنا، أيها الملك، أوفق لقلة الحركة» . فتبسم أبرويز وقال: «حركتك ههنا، إن تركت، أكثر من حركتك في منزلك» . ثم أمر له بعصا الزناة التي كان يوسم بها من زنى، فأيقن الرجل بالشر، وأمر أن يكتب ما كان من أمره حرفاً حرفاً، فيقرأ على الناس إذا حضروا، وأن ينفى إلى أقصى مملكته، وتجعل العصا في رأس رمح يكون معه حيث كان، ليحذر من يعرفه منه. فلما خرج الرجل من المدائن، متوجهاً به نحو فارس، أخذ مدية كانت مع بعض الموكلين به، فجب بها ذكره، وقال: «من أطاع عضواً صغيراً من أعضائه أفسد عليه جميع أعضائه» ، فمات من ساعته. وفيما يذكر عن أنوشروان أنه اتهم رجلاً من خاصته في بعض حرمه، فلم يدر كيف يقتله؟ لا هو وجد أمراً ظاهراً يحكم بمثله الحاكم فيسفك به دمه، ولا قدر على كشف ذنبه لما في ذلك من الهوان على الملك والمملكة، ولا وجد عذراً لنفسه في قتله غيلة، إذ لم يكن في شرائع دينهم، ووارثة سلفهم، فدعا الرجل بعد جنايته بسنة في خلوة، فقال: «قد حزبني أمر من أسرار ملك الروم، وبي حاجة إلى علمها. وما أجدني

أسكن إلى سكوني إليك، إذ حللت من قلبي المحل الذي أنت به، وقد رأيت أن تحمل لي مالاً إلى هناك للتجارة، وتدخل بلاد الروم فتقيم بها، فإذا بعت ما معك، حملت مما في بلادهم من تجاراتهم، وأقبلت إلي، وفي خلال ذلك تصغي إلى أخبارهم، وتطلع إلي ما بنا الحاجة إلى معرفته من أمورهم وأسرارهم» . فقال: «أفعل أيها الملك، وأرجو أن أبلغ في ذلك محبة الملك ورضاه» . فأمر له بمال، وتجهز الرجل وخرج بتجارته، فأقام في بلاد الروم حتى باع واشترى، وفهم من كلامهم ولغاتهم ما عرف به مخاطباتهم، وبعض أسرار ملكهم. وانصرف إلى أنوشروان بذلك، فأراه الإيثار به، وزاد في بره، ورده إلى بلادهم، وأمره بالمقام والتربص بتجارته، ففعل حت عرف، واستفاض ذكره، فلم تزل تلك حاله ست سنين، حتى إذا كانت السنة السابعة أمر الملك أن تصور صورة الرجل في جام من جاماته التي يشرب فيها، وتجعل صورته بإزاء صورة أنوشروان، ويجعل مخاطبا لأنوشروان، ومشيراً عليه وإليه، ويدني رأسه من رأس الملك في تلك الصورة، كأنه يساره، ثم وهب ذلك الجام لبعض خدمه، وقال: «إن الملوك يرغبون في مثل هذا الجام، فإذا أردت بيعه فادفعه إلى فلان إذا خرج نحو بلاد الروم بتجارته وقل له، يبيعه من الملك نفسه فإنه ينفعك، فإن لم يمكنه بيعه من الملك، باعه من وزيره أو بعض خاصته» . فجاء غلام الملك بالجام، وقد وضع الرجل رجله في الركاب، فسأله أن يبيع جامه من الملك، وأن يتخذ عنده بذلك يداً. وكان الملك يعز ذلك الغلام، وكان من خاصة غلمانه، وصاحب شرابه، فأجابه إلى ذلك، وأمر بدفع الجام إلى صاحب خزانته، وقال: «احفظه، فإذا صرت إلى باب الملك فليكن مما أعرضه عليه» . فلما صار إلى باب الملك، دفع صاحب الخزانة إليه الجام، فعرضه على الملك فيما عرض عليه، فلما وقع الجام في يد الملك، نظر إليه،

ونظر إلى صورة أنوشروان فيه، وإلى صورة الرجل وتركيبه عضوا عضوا، وجارحة وجارحة، فقال للرجل: «أخبرني هل يصور مع صورة الملك رجل خسيس» ؟ قال: «لا» ، قال: «فهل في دار الملك اثنان يتشابهان في صورة واحدة حتى يكون هذا كأنه ذاك في الصورة وكلاهما نديماً الملك» ؟ قال: «لا أعرفه» ، قال له: «قم قائماً» ، فقام، فوجد صورته في الجام، فقال له: «أدبر» ، فأدبر، فتأمل صورته في الجام فوجدهما بحكاية واحدة، فضحك، ولم يجسر الرجل أن يسأله عن سبب ضحكه، إجلالاً له وإعظاماً، فقال ملك الروم: «الشاة أعقل من الإنسان إذ كانت تخفي مديتها وتدفنها، وإنما أهديت إلينا مديتك بيدك» . فقال للرجل: «تعديت» ؟ قال: «لا» ، قال: «قربوا له طعاماً» ، قال: «أيها الملك أنا عبد، والعبد لا يأكل بحضرة الملك» ، قال الملك: «أنت عبد ما دمت عند ملك الروم، مطلعاً على أموره، متتبعاً لأسراره، وملك إذا قدمت بلاد فارس، ونديم ملكها. أطعموه» ، فأطعم وسقى الخمر حتى إذا ثمل، قال: «من سير ملوكنا أن لا نقتل الجاسوس إلا في أعلى موضع نقدر عليه، ولا نقتله جائعاً، ولا عطشاناً. فأمر به، فأصعد إلى سطح كان يشرف منه على كل من كان في المدينة إذا صعد، فضربت عنقه هناك، وألقيت جثته من ذلك السطح، ونصب رأسه للناس؛ فلما بلغ ذلك كسرى، أمر صاحب الجرس أن يضرب بأجراس الذهب، ويمر على دور نساء الملك وجواريه، ويقول: «كل نفس ذائقة الموت، كل أحد إذا وجب عليه القتل ففي الأرض يقتل، إلا من تعرض لحرمة الملك، فإنه يقتل في السماء» ، فلم يدر أحد من أهل المملكة ما أراد به حتى مات. ومثله من أخبار العرب: ذكروا أنه كان لطسم وجديس ملك يقال له «عمليق» «1» ظلوم غشوم، وكانت لا تزف جارية إلى زوجها إلّا بدأوه بها،

فافترعها، وردها إلى بعلها، ثم إن رجلاً من جديس تزوج غفيرة بنت غفار، عظيم جديس ورئيسها، فلما أرادوا أن يهدوها إليه، بدأوا بها عمليق فأدخلوها عليه والقيان معها يتغنين ويضربن بالدفوف ويقلن: ابدي بعمليق ومعه فاركبي ... وبادري الصبح بأمرٍ معجب فسوف تلقين الذي لم تطلبي ... ولم يكن من دونه من مذهب فجعلت تقول وهي تزف: ما أحدٌ أذل من جديس ... أهكذا يفعل بالعروس يرضى بهذا يا لقومي حر ... من بعد ما أهدى وسيق المهر لأن يلاقي المرء موت نفسه ... خيرٌ له من فعل ذا بعرسه فلما دخلت عليه افترعها، ثم خلى سبيلها، فخرجت ووقفت على أخيها الأسود بن غفار، وهو قاعد في نادي قومه، وقد رفعت ثوبها عن عورتها وأنشأت تقول: أيصلح ما يؤتى إلى فتياتكم ... وأنتم رجالٌ كثرةً عدد الرمل وترضون هذا يا لقومي لأختكم ... عشية زفت في النساء إلى البعل فإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه ... فكونوا نساءً في المنازل والحجل ودونكم طيب النساء وإنما ... خلقتم جميعاً للتزين والكحل فلو أننا كنا رجالاً وكنتم ... نساءً لكنا لا نقيم على ذحل «1» فقبحاً لبعلٍ ليس فيه حميةٌ ... ويختال يمشي بيننا مشية الفحل فموتوا كراما أو أصيبوا عدوكم ... بداهيةٍ توري ضراماً من الجزل وإلا فخلوا داركم وترحلوا ... إلى بلدٍ قفرٍ خلاءٍ من الأهل ولا تخرجوا للحرب يا قوم إنها ... تقوم بأقوامٍ شدادٍ على رجل فيهلك فيها كل وغدٍ مواكلٍ ... ويسلم فيها ذو الطعان وذو القتل

فلما سمعت جديس شعرها، أنفت أنفاً شديداً، وأخذتهم الحمية، فتآمروا بينهم وعزموا على اغتيال الملك، وجنوده فقالوا: «إن نحن بادهناهم بالحرب لم نقو عليهم لكثرة جندهم وأنصارهم» ، فاتفقوا على ذلك، ثم إن الأسود أتى الملك فقال: «إني أحب أن تجعل غداءك عندي أنت وجنودك» ، فقال عمليق: «إن عدد القوم كثير، وأحسب أن البيوت لا تسعهم» ، فقال الأسود: «فنخرج لهم الطعام إلى بطن الوادي» ، فقال لقومه: «إذا اشتغل القوم بالأكل فسلوا سيوفكم، واعملوا على أن تحملو حملة رجل واحد واقتلوهم عن آخرهم» ، وهيأ الأسود ما احتاج إليه من الطعام، وجاء الملك، فلما أكب القوم على الأكل، بادرت جديس إلى سيوفهم، ثم حملت على الملك وعلى جنوده والأسود يرتجز ويقول: يا صبحةً يا صبحة العروس ... حتى تمشت بدمٍ جميس يا طسم ما لقيت من جديس ... هلكت يا طسم فهيسي هيسي فقتلوه وجنوده جميعاً. ومثله الفطيون «1» ملك تهامة والحجاز، فإنه سلك مسلك عمليق في ملك طسم وجديس في أمر الناس، فأمر أن لا تزف من اليهود في مملكته امرأة إلّا بدأوه بها، فلبث على ذلك عدة أحوال حتى زوجت امرأة من اليهود من ابن عم لها، وكانت ذات جمال رائع، وكانت أخت مالك بن عجلان من الرضاعة، فلما أراد أن يهدوها إلى زوجها، خرجت إلى نادي الأوس والخزرج، رافعة ثوبها إلى سرتها، فقام إليها مالك بن العجلان فقال: «ويحك وما دهاك» ؟ فقالت: «وما يكون من الداهية أعظم من أن ينطلق بي إلى غير بعلي بعد ساعة» ؟ فأنف من ذلك أنفاً شديداً، فدعا ببزة امرأة فلبسها، فلما انطلقوا بالمرأة إلى الفطيون صار كواحدة من نسائها اللواتي ينطلقن بها متشبها بامرأة، وقد أعد سكيناً في خفه، فلما دخلت المرأة على

الفطيون، مال مالك إلى خزانة في ذلك البيت، فدخلها، فلما خرج النساء ودخلت المرأة قام إليها ليفترعها، فخرج إليه مالك بالسكين فوجأه فقتله، ثم قال لليهود: «دونكم جنوده فاقتلوهم» . فاجتمعت عليهم فقتلوهم عن آخرهم. ومنه أخبار وأمثال: ذكروا أن أول من قال العجب كل العجب بين جمادى ورجب عاصم بن المقشعر الضبي، وذلك أن الخنيفس بن خشرم كان أغير أهل زمانه وأشجعهم، وكان لعاصم أخ يقال له عبيدة، عزيز في قومه، فهوي امرأة كانت تأتي الخنيفس، فبلغ الخنيفس ذلك، فتواعده عبيدة وركب الخنيفس فرسه وأخذ رمحه وانطلق يتربص عبيدة، حتى وقف على ممره فأقبل عبيدة وقد قضى من المرأة وطراً، وهو يقول: ألا إن الخنيفس فاعلموه ... كما سماه والده لعين بهيم اللون محتقرٌ ضئيلٌ ... لئيماتٌ خلائقه ضنين أيوعدني الخنيفس من بعيدٍ ... ولما يلق مأبضه الوتين لهوت بجارتيه وحاد عني ... ويزعم أنه أنفٌ شفون فعارضه الخنيفس وهو يقول: أيا أبن المقشعر لقيت ليثاً ... له في جوف أيكته عرين تقول له صددت حذار حينٍ ... وأنك نشو أبطالٍ مبين وأنك قد لهوت بجارتينا ... فهاك عبيد لاقاك القرين ستعلم أينا أحمى ذماراً ... إذا قصرت شمالك واليمين لهوت بها لقد أبدلت قبراً ... وباكيةً عليك لها رنين فقال عبيدة: «أذكرك الله وحرمة خشرم» ، فقال: «والله لأقتلنك» ، فقتله، فلما بلغ أخاه عاصماً، خرج إليه، ولبس أطماراً، وركب فرسه، وكان في آخر يوم من جمادى، فأقبل يبادر دخول رجب، لأنهم كانوا لا يقتلون في رجب أحداً، فانطلق حتى وقف بباب خنيفس ليلا، وقال:

«أجب المرهوق» ، قال: «وما ذاك» ؟ قال: «العجب كل العجب بين جمادى ورجب، وإني رجل من ضبة غصب أخ لي امرأة فخرج يستنقذها، فقتل، وقد عجزت عن قاتله» ، فخرج الخنيفس مغضباً، وأخذ رمحه، وركب معه، فلما نحا به عن قومه، دنا منه، فقنعه بالسيف، فأبان رأسه. ويقال أن أول من قال: «سبق السيف العذل» ضمضم ابن عمرو اللخمي، كان يهوى امرأة فطلبها بكل حيلة، فأبت عليه، وطلبها عزيز بن عبيد بن ضمضمة، فأتته وتأبت على ضمضم، وكان ضمضم من أشد قومه بأساً، فاغتاظ لذلك ليلة، وهو متقلد سيفه حتى صار بمكان يراهما إذا اجتمعا ولا يريانه، فلما نام الناس، وطال هدو ضمضم إذ العزيز قد أقبل على فرسه، وهو يقول: أمام توليني وتأبى بنفسها ... على ضمضم تعساً ورغماً لضمضم وضمضم يسمع، فنزل وربط فرسه، ومشى إلى ناحية خبائها، فصدح صدوح الهام، وكان آية ما بينهما، فخرجت إليه، فعانقها وضمضم ينظر ثم واقعها، فلما رآها مشى إليهما بالسيف وهو يقول: ستعلم أني لست أعشق مبغضاً ... فكان بنا عنها وعنك عزاء وقتله، فعلم القوم بضمضم فأخذوه. فلما أصبح، أبرز إلى النادي ليقتل، فجعلوا يلومونه على قتله ابن عمه فقال: «سبق السيف العذل» . ويقال أن أول من قال: «خير قليل وفضحت نفسي» فائرة امرأة مرة الأسدي، وكانت من أكمل النساء في زمانها، وكان زوجها غاب عنها أعواماً، فهويت عبداً له حبشياً يرعى إبلها، فأمرته أن يحضر مضجعها، وكان زوجها منصرفاً قد نزل تلك الليلة منها على مسيرة يوم، فبينا هو يطعم ومعه أصحابه، إذ نعق غراب، فأخبره أن امرأته لم تعهر قط، ولا تعهر إلا تلك الليلة، فركب فرسه ومر مسرعاً، وهو يرجو إن هو منعها تلك الليلة أمنها فيما بقي، فانتهى إليها حين قام العبد عنها، وندمت وهي تقول: «خير قليل وفضحت نفسي» ، فسمعها زوجها وهو يرعد لما به من الغيظ، فقالت له:

«ما يرعدك» ، فقال يعلمها أنه قد علم: «خير قليل وفضحت نفسي» ، فشهقت شهقة خرت ميتة، فقتل زوجها العبد، وجعل يقول: لعمرك ما تعتادني منك لوعةٌ ... ولا أنا من وجدٍ بذكراك أسهد قيل: وكانت هند بنت عتبة تحت الفاكه بن المغيرة المخزومي، وكان الفاكه من فتيان قريش، وكان له بيت ضيافة يغشاه الناس من غير إذن، فخلا ذلك البيت يوماً، فضجع الفاكه، وهند فيه، فخرج الفاكه لبعض حوائجه، وأقبل رجل ممن كان يغشى ذلك البيت فولجه، فلما رأى المرأة ولى هارباً، فرآه الفاكه وهو خارج من البيت، فأقبل إلى هند فضربها برجله، وقال: «من هذا الرجل الذي خرج من عندك» ؟ قالت: «ما رأيت أحداً ولا انتبهت حتى نبهتني» فقال لها: «الحقي بأهلك» ، فتكلم الناس فيها، فقال لها أبوها: «يا بنية إن الناس قد أكثروا فيك فاصدقيني، فإن كان الرجل في قوله صادقاً، سببت له من يقتله فتنقطع عنك القالة، وإن كان كاذباً حاكمته إلى بعض كهان اليمن» ، فحلفت له بما يحلفون به في الجاهلية إنه لكاذب، فقال عتبة للفاكه: «يا هذا إنك قد رميت ابنتي بأمر عظيم فحاكمني إلى بعض كهان اليمن» ، فخرج عتبة في جماعة من بني عبد مناف، وخرج فاكه في جماعة من بني مخزوم. وأخرجوا معهم هنداً ونسوة معها، فلما شارفوا البلاد قالوا: «غداً نرد على الكاهن» فتغير لون هند، فقال لها أبوها: «إني أرى ما بك، فهلا كان هذا قبل خروجنا» ، قالت: لا والله يا أبتاه ما ذلك لمكروه، ولكن سنأتي بشرا يخطىء ويصيب فلا نأمن أن يسومني مما يكون فيه سبة على باقي عمري» ، قال: «إني سوف أختبره قبل أن ينظر في أمرك، فأخذ حبة من حنطة، فأدخلها في إحليل فرسه، وأوكى عليها بسير، فلما دخلوا على الكاهن قال له عتبة: «ما كان مني في طريقي» ؟ قال: «ثمرة في كمرة» ، قال: «احتاج إلى أبين من هذا» ، قال: «حبة في إحليل مهر» ، قال: «صدقت، فما بال هؤلاء النسوة» ؟ فجعل يدنو من إحداهن فيضرب بمنكبها، حتى أتى إلى هند فضرب بمنكبها، وقال: «انهضي غير رسحاء، ولا فاحشة، ولتلدين ملكاً يقال له معاوية» ، فوثب

إليها الفاكه، فأخذ بيدها، فنزعت يدها من يده، وقالت: «إليك عني! والله لأجهدن أن يكون ذلك من غيرك» . فتزوجها أبو سفيان بن حرب فجاءت بمعاوية. قيل: وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعس بنفسه، فسمع امرأة تقول: ألا سبيل خمرٍ فأشربها ... أم هل سبيلٌ إلى نصر بن حجاج إلى فتى ماجد الأخلاق ذي كرمٍ ... سهل المحيا كريمٍ غير ملجاج فقال عمر: «أما ما دام عمر إماماً فلا» ، فلما أصبح قال: «علي بنصر بن الحجاج» ، فأتي به، فإذا هو رجل جميل، فقال: «اخرج من المدينة» قال: «ولم وما ذنبي» ؟ قال: «اخرج فو الله ما تساكنني» ، فخرج حتى أتى البصرة وكتب إلى عمر رضي الله عنه: لعمري لئن سيرتني وحرمتني ... ولم آت اثما إنّ ذا لحرام وما لي ذنبٌ غير ظنٍ ظننته ... وبعض تصاديق الظنون إثام وإن غنت الذلفاء يوماً بمنيةٍ ... فبعض أماني النساء غرام «1» فظن بي الظن الذي لو أتيته ... لما كان لي في الصالحين مقام ويمنعها مما تمنت حفيظتي ... وآباء صدقٍ سالفون كرام ويمنعها مما تمنت صلاتها ... وبيتٌ لها في قومها وصيام فهذان حالانا فهل أنت مرجعي ... فقد جب مني غاربٌ وسنام قال: فرده عمر بعد ذلك لما وصف من عفته. ويروى أيضاً أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، كان يعس بالمدينة ذات ليلة، إذا سمع امرأة تهتف وتقول: تطاول هذا الليل واسود جانبه ... وأرقني إذ لا خليل ألاعبه

فو الله لولا الله لا رب غيره ... لزعزع من هذا السرير جوانبه ولكن ربي والحياء يكفني ... وأكرم بعلي إن توطأ مراكبه قال: فرجع عمر إلى منزله، فسأل عن المرأة، فإذا زوجها غائب، فسأل ابنته حفصة: «كم تصبر المرأة عن الرجل» ؟ فسكتت، واستحيت، وأطرقت فقال: «أربعة أشهر، خمسة أشهر، ستة أشهر» ؟ فرفعت طرفها تعلم أنها لا تصبر أكثر من ستة أشهر، فكتب إلى صاحب الجيش أن يقفل من الغزو الرجل إذا أتت ستة أشهر إلى أهاليهم. وغزا من الأنصار وله جار يهودي، فأتى امرأته، واستلقى ذات ليلة على ظهره، وأنشأ يقول: وأشعث غره الإسلام مني ... خلوت بعرسه ليل التمام أبيت على ترائبها ويضحي ... على جرداء لاحقة الحزام فسمع ذلك جار له، فضربه بالسيف حتى قطعه، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: «أنشد الله رجلاً كان عنده من هذا علم إلا قام» . فقام الرجل فحدثه، فقال: «أحسنت أحسنت» ، وتمام الأبيات: كأن مجامع الزبلات منها ... فئامٌ قد جمعن إلى فئام ومنه أخبار العرب، قيل: لما خرج امرؤ القيس بن حجر إلى قيصر ملك الروم ليسأله النصرة على بني أسد لقتلهم أباه حجر بن الحارث راسل بنت قيصر، وأراد أن يختدعها عن نفسها، وبلغ ذلك قيصر، وأراد أن يقتله، فتذمم من ذلك، وأمر بقميص فغمس في السم، وقال لامريء القيس: «البس هذا القميص فإني أحببت أن أوثرك به على نفسي لحسنه وبهائه» ، فعمل السم، في جسمه، وكثرت فيه القروح، فمات منها، فسمي ذا القروح، وقد كان قيل لقيصر قبل ذلك أنه هجاه فعندها يقول: ظلمت له نفسي بأن جئت راغباً ... إليه وقد سيرت فيه القوافيا فإن أك مظلوماً فقدماً ظلمته ... وبالصاع يجزي مثل ما قد جزاينا

قيل: «وكان النابغة يشبب بالمتجردة امرأة النعمان بن المنذر» ، وكانت أكمل أهل عصرها جمالاً، فبلغ ذلك النعمان، فهم بقتل النابغة فهرب منه، وسار حتى أتى الشام، والملك بها جبلة بن الأيهم الغساني، فنزل عليه وأقام عنده، وكتب إلى النعمان: حلفت فلم أترك لنفسك ريبةً ... وليس وراء الله للمرء مذهب لئن كنت قد بلغت عني خيانة ... لمبلغك الواشي أغش وأكذب قيل: وكانت امرأة شداد أبي عنترة ذكرت له أن عنترة أرادها عن نفسها، فأخذه أبوه فضربه ضرب التلف، فقامت المرأة فألقت نفسها عليه لما رأت ما به من الجراحات، وبكته، وكان اسمها سمية، فقال عنترة: أمن سمية دمع العين مذروف ... لو كان ذا منك قبل اليوم معروف كأنها يوم صدت ما تكلمنا ... ظبيٌ بعسفان ساجي العين مطروف قامت تجللني لما هوى قبلي ... كأنها صنمٌ يعتاد معكوف المال مالكم والعبد عبدكم ... فهل عذابك عني اليوم مصروف قيل: ولما أنشد عبد الحسحاس عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قصيدته التي يقول فيها: توسدني كفاً وتمضي بمعصمٍ ... علي وتنحو رجلها من ورائيا فما زال بردي طيباً من ثيابها ... إلى الحول حتى أنهج البرد باليا وهبت لنا ريح الشمال بقوةٍ ... ولا برد إلا درعها وردائيا أميل بها ميل الرديف وأتقي ... بها الريح والشفان من عن شماليا رأت قتباً رثاً وأخلاق شملةٍ ... وأسود مما يلبس الناس عاريا تجمعن شتى من ثلاثٍ وأربع ... وواحدةٍ حتى كملن ثمانيا سليمى وسلمى والرباب وتربها ... وأروى وريا والمنى وقطاميا وأقبلن من أقصى البلاد يعدنني ... ألا إنما بعض العوائد دائيا

قال عمر رضي الله عنه: «أنت مقتول» ، فلما قال: ولقد تحدر من كريمة معشرٍ ... عرقٌ على متن الفراش وطيب وجدوه شارباً ثملاً، فعرضوا عليه نسوة حتى مرت به التي يطلبونها، فأهوى إليها، فقتلوه. حكى عن سليمان بن عبد الملك أنه كان في بعض أسفاره، فسمر معه قوم، فلما تفرقوا عنه، دعا بوضوء، فجاءت به جارية، فبينا هي تصب الماء على يده، إذ استمدها، وأشار إليها مرتين أو ثلاثاً فلم تصب عليه، فأنكر ذلك، ورفع رأسه، فإذا هي مصغية بسمعها، مائلة بجسدها إلى صوت غناء من ناحية العسكر، فأمرها فتنحت، فسمع الصوت فإذا رجل يغني، فأنصت له حتى فهم ما غنى، فدعا بجارية غيرها فتوضأ، فلما أصبح، أذن الناس، فأجرى ذكر الغناء، فلم يزل يخوض فيه حتى ظن القوم أنه يشتهيه؛ فأفاضوا فيه وذكروا ما جاء في الغناء، والتسهيل لمن سمعه، وذكروا من كان يسمعه من سروات الناس، فقال: «هل بقي أحد يسمع منه» ؟ فقال رجل من القوم: «عندي رجلان من أهل الأبلة محكمان» ، قال: «فأين منزلك من العسكر» ؟ فأومأ إلى ناحية الغناء، فقال سليمان: «ابعث إليهما» ، ففعل، فوجد الرسول أحدهما وأقبل به، وكان اسمه سمير، فسأله عن الغناء، وكيف هو فيه، قال: «محكم» ، قال: «متى عهدك به» ؟ قال: «البارحة» ، قال: «وفي أي النواحي كنت» ؟ فذكر الناحية التي سمع منها الصوت قال: «وما اسم صاحبك» ؟ قال: «سنان» . قال: فأقبل سليمان على القوم فقال: «هدر الفحل فضبعت الناقة، ونب التيس فشكرت الشاة، وهدل الحمام فزافت الحمامة، وغنى الرجل فطربت المرأة» ، ثم أمر به فخصي، وسأل عن الغناء أين أصله؟ قالوا: «بالمدينة وهم المخنثون» ، فكتب إلى عامله أن أخص من قبلك من المخنثين. وحدث الأصمعي أن الشعر الذي سمعه سليمان يتغنى به هو:

محجوبة سمعت صوتي فأرّقها ... من آخر اليّل لما بلها السحر تدني على الخد منها من معصفرةٍ ... والحلي باد على لباتها خصر في ليلة البدر ما يدري مضاجعها ... أوجهها عنده أبهى أم القمر لم يمنع الصوت أبوابٌ ولا حرسٌ ... فدمعها لطروق اللحن ينحدر لو تستطيع مشت نحوي على قدمٍ ... تكاد من رقةٍ للمشي تنفطر ثم دخل سليمان مضرب الخدم، فوجد جارية على هذه الصفة، قاعدة تبكي، فوجه إلى سنان فأحضره، ووجهت الجارية رسولاً إلى سنان يحذره، وجعلت للرسول عشرة آلاف درهم إن سبق رسول سليمان، فلما حضر أنشأ يقول: استبقني إلى الصباح أعتذر ... إن لساني بالشراب منكسر فأرسل المعروف في قومٍ نكر فأمر به فخصي، وكان بعد ذلك يمسى الخصي. وعن علي بن يقطين، قال: كنت عند موسى الهادي، ذات ليلة، مع جماعة من أصحابه، إذ أتاه خادم فساره بشيء، فنهض سريعاً فقال: «لا تبرحوا» ؛ فمضى فأبطأ، ثم جاء وهو يتنفس ساعة، حتى استراح ومعه خادم يحمل طبقاً مغطى بمنديل، فقام بين يده، فأقبل يرعد، وعجبنا من ذلك، ثم جلس، وقال للخادم: «ضع ما معك» فوضع الطبق، وقال: «ارفع المنديل» فرفعه فإذا على الطبق رأسا جاريتين لم أر، والله، أحسن من وجهيهما قط، ولا من شعورهما، فإذا على رأسيهما الجوهر منظوم على الشعر، وإذا رائحة طيبة تفوح فأعظمنا ذلك، فقال: «أتدرون ما شأنهما» ؟ قلنا: «لا» قال: «بلغني إنهما تحابا، فوكلت هذا الخادم بهما لينهي إلي أخبارهما، فجاءني وأخبرني إنهما قد اجتمعا، فجئت فوجدتهما كذلك في لحاف، فقتلتهما» ثم قال: «يا غلام! ارفع» ورجع في حديثه، كأنه لم يصنع شيئاً. وحدثنا إبراهيم بن إسماعيل عن ابن القداح، قال: كانت للربيع جارية

يقال لها «أمة العزيز» ، فأهداها للمهدي، فلما رأى حسنها وجمالها وهيئتها قال: «هذه لموسى أصلح» ، فوهبها له، فكانت أحب الخلق إليه، وولدت له بنيه الأكابر. ثم إن بعض أعداء الربيع قال لموسى إنه سمع الربيع يقول: «ما وضعت بيني وبين الأرض مثل أمة العزيز» فغار موسى، فدعا الربيع، فتغدى معه، وناوله كأساً فيه شراب؛ فقال الربيع: «فعلمت أن نفسي فيها وإني أن رددته من يدي ضرب عنقي، فشربتها وانصرفت» ، فجمع ولده وقال: «إني ميت» ، فقال الفضل ابنه: «ولم تقول ذلك، جعلت فداك» ؟ قال: «إن موسى سقاني شربة فأنا أجد عملها في بدني» ، ثم أوصى بماله ومات في يومه. قيل: وطرب الرشيد إلى الغناء متنكراً، ومعه خادمه مسرور، حتى انتهى إلى باب إسحق بن إبراهيم الموصلي «1» ، فقال: «يا مسرور! اقرع الباب» ، فخرج إسحق، فلما رأى الرشيد انكب على رجله، فقبلها، ثم قال: «إن رأى أمير المؤمنين أن يدخل منزل عبده» ، فنزل الرشيد. فدخل فرأى أثر الدعوة، فقال: «يا إسحق إني أرى موضع الشرب من كان عندك» ؟ قال: «ما كان عندي يا أمير المؤمنين سوى جاريتي كنت أطارحهما» ، قال: «فهما حاضرتان» ؟ قال: «نعم» ، قال: «فأحضرهما» ، فدعا الجاريتين، فخرجتا، مع إحداهما عود، حتى جلستا، فأمر الرشيد صاحبة العود أن تغني فغنت: بني الحب على الجور فلو ... أنصف المعشوق فيه لسمج ليس يستحسن في وصف الهوى ... عاشقٌ يكثر تأليف الحجج فقليل الحب صرفاً خالصاً ... هو خيرٌ من كثيرٍ قد مزج فقال الرشيد: «يا إسحق لمن الشعر والغناء فيه» ؟ قال: «لا علم لي

به يا أمير المؤمنين» ، فنكس رأسه ساعة، ينكث في الأرض، ثم رفع رأسه، وأخذ العود من حجر هذه فوضعه في حجر الأخرى، ثم قال لها: «غني» ، فغنت: إن يمس حبلك بعد طول تواصلٍ ... خلقاً، وأصبح بيتكم مهجوراً فلقد أراني والجديد إلى بلىً ... زمنا بوصلك راضياً مسروراً كنت الهوى وأعز من وطيء الحصى ... عندي وكنت بذاك منك جديراً فقال: «يا إسحق لمن الشعر والغناء فيه» ؟ قال: «لا علم لي يا سيدي» ، فرد المسألة على الجارية، فقالت: «لستي» ، قال: «ومن ستك» ؟ قالت: «علية، أخت أمير المؤمنين» ، فنكس رأسه ساعة، ثم وثب وقال لمسرور خادمه: «امض بنا إلى منزل علية» ، فلما وقف بالباب، قال: «استأذن يا مسرور» ، فخرجت جارية، فلما رأت الخليفة، رجعت تبادر تعلم ستها، فخرجت تستقبله وتفديه فقال: «يا علية هل عندك ما نأكل» ؟ قالت: «نعم يا سيدي» ، قال: «وما نشرب» ؟ قالت: «نعم» ، فدخل وجلس، فقدمت إليه الطعام، فأكل حاراً، وبارداً، ورطباً، ويابساً، ثم رفع الطعام، ووضع الشراب والطيب وأنواع الرياحين، ودعت جواريها وكان عندها ثلاثون جارية يغنين، فألبستهن أنواع الثياب، وصفتهن في الإيوان، وتناول الرشيد الشراب، فأمر الجواري أن يغنين، ثم سقى أخته حتى أخذ الشراب منها، واحمرت وجنتاها، وفترت أجفانها، وكانت من أجمل النساء. فضرب الرشيد إلى حجر بعض الجواري في أخذ العود وقال: يا علية بحياتي غني: بني الحب على الجور فلو فعلمت إنها داهية، فبكت، فصاح الرشيد، فخرج الجواري وبقي هو وهي، فدفعها وأخذ وسادة فجعلها على وجهها، وجلس عليها فاضطربت اضطرابا شديداً، ثم بردت فنحى الوسادة عنها، وقد قضت نحبها، فخرج وقال للخادم: «إذا كان غداً فادخل وعزني» ، وركب متوجهاً إلى قصره، فلما كان الغد، عزاه مسرور فبكى، فقال:

قبرٌ عزيزٌ علينا ... لو أن من فيه يفدى أسكنت قرة عيني ... ومهجة النفس لحدا ما إن أرى لي عليها ... من التوجع بدا ومنه ما حكي عن البهائم: قال شيخ من بني قشير: كنا في نتاج، فامتنع فرس من حجرة، فشددنا عينه، فنزا عليها، فلما فرغ فتحنا العصلة فرأى الحجرة وكانت أمه، فعمد إلى ذكره بأسنانه فقطعه. ومنه في خفة الغيرة، قال سليمان بن داود الهاشمي لابنه: «لا تكثر الغيرة على أهلك فترمى بالشر من أجلك، وإن كانت برئية، ولا تكثر الضحك، فيستخفك فؤاد الرجل الحليم، وعليك بخشية الله، فإنها غلبت كل شيء» . وقال عبد الله بن جعفر لابنته: «إياك والغيرة، فإنها مفتاح الطلاق، وإياك وكثرة العتب، فإنه يورث البغضاء، وعليك بالكحل فإنه أزين الزينة، وأطيب الطيب الماء» . قيل: وكان كسرى أبرويز يتعشق امرأة رجل كان من مرازبته، يقال له البارجان، وكانت تأتيه سراً، فبلغ زوجها ذلك فأمسك عن امرأته، واجتنبها، ودخل إلى كسرى ذات يوم، فقال كسرى: «بلغني أن لك عين ماء عذبة، وأنك قد اجتنبتها فلا تقربها» ، ففطن، فقال له: «أيها الملك بلغني أن الأسد ينتاب تلك العين، فاجتنبها خوفاً منه» ، فأعجب كسرى بمقالته وأمر أن يتخذ له تاج لا قيمة له، ثم دخل كسرى دار نسائه فقاسمهن نصف حليهن، فاجتمع من الجوهر ما لا يحصى فبعث به إلى امرأة البارجان بالقادسية، ووقع ذلك الجوهر إلى السائب بن الأقرع، وكان على المقسم، فباعه وجعل للمسلمين بكتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقال بعضهم: «كنت أغار على امرأتي فأشرفت علي يوماً وأنا مع جارية لي، فلقيت منها أذى حتى حلفت أن أبيع الجارية، فخرجت أريد شراء حوائج لي ومعي الجارية، فأتيت دكان خلّال أشري الخل، فوجدته خالياً

فقلت له: «يا هذا تأذن لي في ملامسة جاريتي هذه في دكانك فإني أريد بيعها» . قال: «نعم! جعلت فداك ادخل حيث شئت» ، فأصبت منه الجارية، فلما خرجت إذا الخلال قد كمن ناحية وهو في قميص قد أنعظ «1» فقال: «فرغت» ، قلت: «نعم» ، قال: «بسم الله، أتأذن لي جعلت فداك» ، قلت: «ويلك ما تريد» ! قال: «أقضي وطري منها» ، قلت: «يابن الفاعلة حرمتي» ، قال: «لا يضرك شيئاً، فإني أسرع» ، ثم وثب كأنه السبع، فضاربته حتى تخلصت الجارية بعد كل جهد. قال: ودخل رجل من بني زهرة من أهل المدينة على قينة، فسمع غناءها عند مولاها، فخرج مولاها في حاجة ثم رجع، فإذا جاريته على بطن الزهري، فقامت مذعورة، فقعدت تبكي، فقال: «ما يبكيك» ؟ قالت: «لأنك لا تقبل لأجله عذراً» ، قال: «يا زانية لو رأيتك على قفاك لقلت: صريع مغلوب، ولو رأيتك على وجهك لقلت: وعاء مكبوب، إنما رأيتك فارساً مصلوباً» . وحكي عن ثمامة إنه قال للمهدي: إن النساء شققن شقاً، وإن هشيمة نقبت نقباً» ، وكانت هشيمة امرأة ثمامة، فسأله المهدي أن ينزل عنها ففعل، وأقام المهدي حتى انقضت عدتها ثم تزوجها، وبنى بها ثم طلقها، وخرج إلى بيت المقدس، فلما انقضت عدتها راجعها زوجها. وقال أبو طاهر أنشدني بعض الشعراء يهجو بني القعقاع: بني القعقاع أكرمكم لئيمٌ ... وأعظم مجدكم ركبٌ حليق وأنتم في نسائكم اتساعٌ ... وفي أخلاقكم نكدٌ وضيق وعن عبد الله بن ياسين قال: كان في المهدي غزل، وشدة حب للخلوة بالنساء، فبلغه عن ابنة لأبي عبيد الله كاتبه، جمال، فقال

للخيزران «1» : «استزيريها» ، فزارتها، وجاءت إليها، فقالت لها: «هل لك في الحمام» ؟ قالت: «نعم» ، فلما دخلت الحمام، وافاها المهدي، فبرزت له، ولم تستتر عنه، فقال لها المهدي: «إنا وليك فزوجيني نفسك» ، فقالت «أنا أمتك» ، فتزوجها ونال منها، فلما انصرفت أخبرت أخوتها بما كان، فقالوا: «أمسكي عنه» ، فلما كان بعد مدة، قالوا لها: «استزيري الخيزران» ، فاستزارتها، فلما صارت إليها قالت: «هل لك في الحمام» ؟ قالت: «نعم» ، فلما دخلتا معاً ما شعرت الخيزران إلا ببني أبي عبيد الله قد عمدوا عليها فاستترت عنهم، فقالوا: «لو أردنا أن نفعل كما فعلتم بحرمتنا لفعلنا، ولكنا لا نستحل» ، فقالت لهم: «والله لو رمتم ذلك لأمرت الخدم بقتلكم» ، فانصرفوا، فلما رجعت الخيزران، أخبرت المهدي بذلك، فكان السبب في قتل المهدي محمد بن أبي عبيد على الزندقة. وبلغه أيضاً عن عونة بنت أبي عون، جمال وهيئة، فقال للخيزران: «استزيريها» فاستزارتها، فقالت لها الخيزران: «هل لك في الحمام» ؟ قالت: «نعم» ، فلما دخلتا ما شعرت إلا بالمهدي قد وافاها، فاستترت بالخيزران وقالت: والله لئن دنوت مني لأضربن بالكرنيب وجهك» ، فقال: «ويلك إنما أردت أن أتزوجك» ، قالت: «لا سبيل إلى ذلك» ، فانصرف عنها، فأخبرت أباها، فقال: «لا حسنت في فعلك» .

محاسن القيادة

محاسن القيادة قال الحسن الجرجاني: حدثني سهم بن عبد الحميد الحنفي قال: خرجت من الكوفة أريد بغداد، فلما نزلت، بسط غلماننا وهيأوا غداءنا، فإذا نحن برجل حسن الوجه والهيئة، على برذون فاره، فصحت بالغلمان فأخذوا دابته، فدعوت بالغداء، فبسط يده غير محتشم، وما أكرمته بشيء إلا قبله، وكنا كذلك إذ جاء غلمانه بثقل كثير، وهيئة جميلة، فتناسبنا فإذا هو طريح بن إسماعيل الثقفي، فارتحلنا في قافلة منا لا يدرك طرفاها، فقال طريح: «ما حاجتنا إلى هذا الزحام، وليست بنا إليهم وحشة، ولا علينا خوف، فإذا خلونا بالخانات والطرق كان أروح لأبداننا» ، قلت: «ذلك إليك» ، فنزلنا من الغد الخان، وتغدينا وإلى جانبنا نهر ظليل بالشجر، فقال: «هل لك أن تستنقع فيه» ؟ فمررنا إليه، فلما نزع ثيابه إذا بين جنبيه آثار ضرب كثير، فوقع في نفسي منه شر، فنظر إلي ففطن وتبسم، وقال: «قد رأينا ذعرك بما ترى، وحديث ذلك يجري إذا سرنا بالعشية» فلما سرنا قلت له: «الحديث» قال: «نعم، قدمت من عند الوليد بن يزيد بالغناء واليسار، وكتب إلى يوسف بن عمر، فلما أتيته ملأ يدي خيراً، فخرجت مبادرا إلى الطائف، فلما امتد بي الطريق وليس يصحبني فيه أحد، عن لي إعرابي على قعود له، فحدث أحسن الحديث، وروى الشعر، فإذا هو راوية، فأنشد فإذا هو شاعر، فقلت: «من أين أقبلت» ؟ قال: «لا أدري» ، قلت: «وما القصة» ؟ قال: «أنا عاشق لامرأة قد أفسدت علي عيشي، وقد حذرني أهلها، وجفاني لها أهلي، وإنما أستريح بأن أنحدر إلى الطريق مع منحدر، وأصعد مع مصعد» ، قلت: «فأين هي» ؟ قال: «تنزل غداً بازائها» ،

فلما نزلنا أراني طريقاً عن يسار الطريق، فقال: «ترى ذلك الطريق» ؟ فقلت: «أراه» ، قال: «فترى الخيم التي هناك» ؟ قلت: «نعم» ! قال: «فإنها في الخيمة الحمراء» ، فأدركتني أريحية الحدث، فقلت: «والله إني آتيها برسالتك» ، فمضيت حتى انتهيت إلى الخيم، فإذا امرأة ظريفة جميلة كأنها مهرة عربية، فذكرته لها، فزفرت زفرة كادت تنتقض أضلاعها، وقالت: «أو حي هو» ! قلت: «نعم، تركته في رحلي وراء هذا الطريق» ! قالت: «بأبي أنت وأمي، أرى لك وجهاً حسناً يدل على الخير، فهل لك في أمر» ؟ قلت: «فقير إليه» ! قالت: «البس ثيابي، فأقم مكاني، ودعني حتى آتيه وذلك عند مغيربان الشمس، فإنك إذا أظلم الليل أتاك زوجي» ، فقال لك: «يا فاجرة، ويا هنة ابنة الهنة» ، فيوسعك شتماً فأوسعه صمتاً. ثم يقول في آخر كلامه: «اقمعي سقاءك، يا عدوة الله، فضع القمع في هذا السقاء، وإياك وهذا السقاء الآخر فإنه واه» ! قلت: «نعم» ، فأجبتها إلى ما سألت، فجاء الزوج على ما وصفت، وقال: «اقمعي سقاءك» فحيرني الله إن تركت الصحيح، وقمعت الواهي، فما شعر إلا باللبن يتسبب بين رجليه، فعدا إلى كسر الخيمة، وحل متاعه، وتناول رشاء من قد مدبوغ ثم ثناه باثنتين، فجعل لا يتقي رأساً ولا وجهاً ولا رجلاً، حتى خشيت أن يبدو له وجهي، فتكون الأخرى، فألزمت وجهي الأرض، فعمل بظهري ما ترى، فلما تغيب عني، جاءت المرأة باكية، فرأت ما بي من الشر، واعتذرت وأخذت ثيابي وانصرفت» . قال وحدث بهذا الحديث محمد بن صالح بن عبد الله ابن الحسن بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليه «بسر من رأى» ، سنة أربعين ومائتين، وكان حمل من البادية إلى المتوكل فأطلقه، وكان إعرابياً فصيحاً، فعجب منه، وكان حسن الوجه نجيباً، قلما رأيت في الفتيان مثله، قال: كان منا فتى يقال له الأشتر بن عبد الله، وكان سيد بني هلال، وأحسنهم وجهاً، وأسخاهم كفاً، وكان معجباً بجارية يقال لها «جيداء» ، بارعة الجمال، فلما اشتهر أمرهما، وظهر خبرهما، وقع الشر بين أهل بيتيهما، حتى قتل بينهما

القتلى، فافترقوا فريقين، فلما طال على الأشتر البلاء، جاءني يوما وقال: «هل فيك خير» ؟ قلت: «عندي ما أحببت» ، قال: «تساعدني على زيارة جيداء» قلت: «بالحب والكرامة» ، فانهض إذا شئت» . قال: فركبنا وسرنا يوماً وليلة والغداة حتى المساء، فنظرنا إلى أدني سرب لهم، فأنخنا رواحلنا في شعب وقعدنا هنا، وقال: «يا نمير، اذهب وأنشد واذكر لمن يلقاك إنك طالب ضالة، ولا تعرض بذكرى بشفة ولا لسان، إلى أن تلقى جاريتها فلانة، راعية الضأن، فتقرئها مني السلام، وتسألها عن الخبر، وتعلمها بمكاني» . قال: فخرجت لا أتعدى ما أمرني به، حتى لقيت الجارية، فأبلغتها الرسالة، وأعلمتها بمكانة وسألتها عن الخبر، فقالت: «هي مشدد عليها، محتفظ بها، وعلى ذلك فموعد كما عند الشجرات اللواتي عند أعقاب البيوت، مع صلاة العشاء» ، فانصرفت فأخبرته، ثم قدنا رواحلنا حتى أتينا الموعد في الوقت الذي وعدتنا فيه، فلم نلبث إلا قليلاً حتى إذا جيداء تمشي، فدنت منا، فوثب إليها الأشتر، فتصافحا وسلم عليها، ووثبت مولياً عنهما فقالا: «أقسمنا عليك إلا رجعت، فو الله ما بيننا من ريبة ولا قبيح نخلو به دونك» ، فانصرفت إليهما، وجلست معهما، فقال الأشتر: «ما فيك حيلة يا جيداء فنتزود منك الليلة» ؟ قالت: «لا، والله، ما إلى ذلك سبيل إلا أن أرجع إلى الذي تعلم من البلاء والشر» ! فقال: «لا بد من ذلك ولو وقعت السماء على الأرض» ، قالت: «فهل بصاحبك خير» ؟ قلت: «بلى، وهل الخير إلا عندي؟ فاسألي ما بدا لك، فإني منته إليه، ولو كان في ذلك كله ذهاب نفسي» ، فألبستني ثيابها، وأخذت ثيابي ثم قالت: «اذهب إلى خبائي فادخل في ستري، فإن زوجي يأتيك مع العتمة، فيطلب منك القدح ليحلب فيه، فلا تأخذه منه حتى يطيل عليك نكدك، ثم خذه أو ذره حتى يضعه ثم يستبد بردائه، ولست تراه حتى يصبح» ، فذهبت ففعلت ما أمرتني به حتى جاء بالقدح فيه اللبن فأطلت نكدي عليه، ثم أهويت لآخذه فاختلفت يدي ويده، وانكفأ القدح، فانفق منه اللبن، فقال: «إن هذا

الطماح مفرط» ، وضرب يده إل جانب الخباء فاستخرج سوطاً، فضربني مقدار ثلاثين سوطاً حتى جاءت أمه وأخواته فانتزعوني منه، ولا والله ما فعلوا ذلك حتى زايلتني روحي، وهممت أن أوجره بالسكين، فلما خرجوا عني وهو معهم، قعدت كما كتب الله، فما لبثت إن جاءت أم جيداء، فحدثتني وهي تحسبني ابنتها فألقيتها بالسكوت، وتغطيت بثوبي دونها، فقالت: «يا بنية اتقي الله، ولا تتعرضي للمكروه من زوجك، فذلك أولى بك» ، ثم خرجت من عندي فقالت: «سأرسل إليك أختك تؤنسك وتبيت الليلة عندك، فلم ألبث أن جاءت الجارية تبكي، وتدعو على من ضربني، وأنا لا أكلمها ثم اضطجعت إلى جانبي فلما استمكنت منها، شددت يدي على فمها، وقلت: «يا هذه تلك أختك مع الأشتر، وقد قطع ظهري بسببها، وأنت أولى من ستر عليها فاختاري لنفسك ولها فو الله لئن تكلمت لتكونن فضيحة شاملة» ثم رفعت يدي عن فيها، فاهتزت مثل القصبة من الروع، وباتت معي ونلت منها الشهوة التامة، ورافقتني أصلح رفيق رافقته، ولم أذق شيئاً إلذ مما ذقت منها قط، فلم نزل نتحدث وتضحك مني ومما بليت به، حتى برق النور، وجاءت جيداء فلما رأتنا ارتاعت وقالت: «من هذا عندك» ؟ قلت: «أختك» ، قالت: «وما، السبب» ؟ قلت: «هي تخبرك فإنها عالمة به» وأخذت ثيابي، وأتيت صاحبي فأخبرته بما أصابني، وكشفت له عن ظهري، فإذا فيه ما الله به عليم» ، فقال: «لقد عظمت منتك عندي، ووجب شكرك، وخاطرت بنفسك، فلا حرمني الله مكافأتك» . وعن رجل من بني عامر أنه خرج وهو غلام ما بقل «1» وجهه، وكان ذا جمال وهيئة، صاحب غزل، فهجم على قوم يتحملون، وقد شدوا أثقالهم وبرزوا، وإذا امرأة جميلة قد تخلفت على جمل لها لإصلاح شأنها، قال: فوقفت عليها، فإذا هي أحسن خلق الله وجهاً، وأغزله وأملحه، فتلاقينا كلاماً غير كثير، فقالت: «أسألك شيئاً فهل لك به علم» ؟ قلت: «سلي» ، قالت «أيهما أحسن جردة الرجل أم المرأة» ، قلت: «الرجل» ،

قالت: «بل المرأة، فإن أحببت أن تعلم ذلك علمته» ، قلت: «وكيف أعلمه» ؟ قالت: «أتجرد لك من ثيابي وأرميها عني ثم أمشي حتى أبلغ الأكمة، ثم أقبل حتى آتيك فتعطيني عهد الله وميثاقه لتفعلن كما فعلت» ، فقلت: «لك عهد الله إن فعلت لأفعلنه» ، قال: «فألقت ثيابها عن أحسن ما نظرت إليه قط، بياضاً ونظافة وحسناً، فلما انتهت إلي قالت: «الوفاء» ، قلت: «الوفاء، ونعمة عيني» ، فخلعت ثيابي وأنا كأبهى الفتيان وأهيأهم حتى مضيت بعد الغاية، فلما انتصف بي المدى سمعت خرخرة جملي، فإذا هي قد جالت على ظهره لابسة ثيابي، متنكبة قوسي، قد لزمت المحجة، فناديتها فلم تعرج علي، ولبست ثيابها وتخمرت بخمارها، وركبت بعييرها وزجرته، فانبعث بي أثر الحي وأخذت شق الوحشي، حتى ما أراها وجعلت أكف عن الجمل، إذ خشيت أن الحق الظعن حتى رأوني من بعيد، وجعلوا ينادون: «ويحك أقبلي» ! وأنا صامت لا أتكلم ولا أتقدم، فلما طال عليهم أمري، بعثوا بجارية لهم مولدة، فأقبلت تعدو حتى أتتني ونشطت خطام «1» الجمل من يدي، وأنا متبرقع أحسن الناس وجهاً وعيناً. فنظرت الجارية في وجهي ساعة، ثم قالت: «لقد أمسيت حديدة الطرف» ، وقادت الجمل حتى أتت الحي، فقالت أم الجارية: «يا بنية لقد استحيت من الناس مما دعوتك العشية» ، ثم تأملت ونظرت وسائر النساء. وقالت إحداهن: «والله إنه لرجل فطن» ، وأنزلتني العجوز وأدخلتني الستر؛ وقالت: «من أنت لا أفلحت» ؟ قلت: «بل ابنتك لا أفلحت، ولا أنجحت» ، وقصصت عليها قصتها، فقالت: نشدتك الله ألا أعرتني نفسك هزيعاً من الليل فإنا كنا على أن نبني بابنتي صاحبة الجمل الليلة وما في الحي رجل غير زوجها، وهو إنسان فيه لوثة ولا بد من أن أدخلك عليه فإنك غلام أمرد، فلا ينكرك ولا أراه أقوى منك إن اعتركتما فلك عندي يد بيضاء» . وأقبلت وأخت لابنتها وخالتها فألبسنني ثوب العروس وطينني، ثم دلفن

بي نحو الرجل، بعيد العتمة، وقالت أمها: «أنا لك الفداء، تجلد ساعة بالامتناع، فإنه منصرف عنك. وستأتيك الكافرة» . فأدخلتني على مثل الأسد إلا أن به لوثة كما قالت فاعتركنا حتى أعيا، وكف عني، وطال بي الليل حت سمعت خرخرة جملي، فلم ألبث إلا هنيهة حتى جاءت أمها وخالتها وهي معهما، فجعلتها مكاني، وفتشت عن سرها فإذا هي قد ظلت مع إنسان كانت تهواه. وأتيت ثيابي، فنهضت مبادرا لا ألوي على شيء حذراً مما لقيت. قال: وملك النعمان بن المنذر أربعين سنة، فلم تر منه سقطة غير هذه، وهو أنه ركب يوماً فبصر بجارية قد خرجت من الكنيسة، فأعجبته لجمالها، فدعا بعدي بن زيد، وكان نديمه ووزيره، فقال له: «يا عدي! لقد رأيت جارية لئن لم أظفر بها أنه الموت، ولا بد من أن أتلطف أو تتلطف لي حتى تجمع بيني وبينها» ، قال: «ومن هي» ؟ قال: «سألت عنها فقيل: هي امرأة حكم بن عمرو رجل من أشراف الحيرة» . قال: «فهل أعلمت أحداً» ! قال: «لا» ، قال: «فاكتمه فإذا أصبحت، فجدد الحكم كرامة وبراً» . فلما أذن للناس بدأ به فأجلسه معه على سريره وكساه، فاستعظم الناس ذلك، فلما أصبح بدأ أيضأ بالأذن له وجمله فأنكر الناس ذلك. فقالوا: «ما هذا إلا لأمر» . فصنع به ذلك أياماً؛ ثم قال له عدي: «أيها الملك، عندك عشر نسوة، فطلق إحداهن، ثم قل له فليتزوجها» ففعل، فلما دخل عليه، قال: «يا حكم ما كانت نفسي تسمح بهذا لولد فتزوج فلانة، فقد طلقتها» ، فخرج حكم إلى عدي فقال: «يا أبا عويمر، ما صنع الملك بأحد ما صنع بي، وما أدري بما أكافيه» . قال له عدي: «طلق امرأتك كما طلق لك امرأته» ، ففعل وحظي بها عدي عنده، وعلم حكم أنه قد مكر به في امرأته. وفيه يقول الشاعر: ما في البرية من أنثى تعادلها ... إلا الذي أخذ النعمان من حكم وحدث الفضل بن العباس عن الزبير بن بكار، عن محمد بن بشير

الخارجي قال: «قدم علينا رجلان من أهل المدينة يصيدان ومعهما نسوة، والفساطيط مضروبة. وكان سليمان بن عبد الله الأسلمي وابن أخ له مقيمين بناحية الروحاء. فأرسل النسوة إلى سليمان وابن أخيه: «أما لكما حاجة في الحديث» ؟ فرد الرسول: «إن يكن لنا فيه حاجة، فكيف لنا بذلك مع أزواجكن» ؟ فقلن: «إنما خرج أزواجنا للصيد وقد بلغنا إن لكما صاحباً يعرف من طلب الصيد ما لا يعرفه غيره فلو طرح لهم شيئاً من ذكره لا سرعوا إليه، وتخلفتم وتحدثتم ما شئتم» ، يعنين به محمداً بن بشير، فمضى إليه سليمان وابن أخيه فقال: «يا أبا محمد! أرسل إلينا النسوة بكذا وكذا، وسألنني أن أخرجك إلى الصيد، فقلت: «لا والله لا أفعل ولا أتعب ولا أنصب وأنتم تتلهون وتتحدثون أنا لذا أشد حباً، وأكثر صبابة وشوقاً فأرسلا إلى النسوة بمقالتي، فأرسلن إليّ رسولا وعاهدنني لئن أخرجتهم ليحتلن لي حتى أخلو معهن ليلة حتى الصبح» ، فصرت إليهم، وذكرت لهم الصيد فخرجوا معي، فما زلت أحدثهم بالصدق حتى أخذت في الكذب مما يضارع الصدق حتى أفنيته، فأقمت معهم ثلاثة أيام ولياليها، ثم انصرفوا من غير أن اصطدنا شيئاً، فقلت في ذلك: إني انطلقت معي قومٌ ذوو حسبٍ ... ما في خلائقهم زهوٌ ولا حمق إني لأعجب منهم كيف أخدعهم ... أم كيف آفك قوماً ما بهم رهق «1» أظلّ في الأرض ألهيهم وأخبرهم ... أخبار قومٍ وما كانوا ولا خلقوا ولو صدقت لقلت القوم قد دخلوا ... حين انطلقنا وإني ساعة انطلقوا فلو أجاهد ما جاهدت دونكم ... في المشركين لأدركت الأولى سبقوا إن كنت أبداً جاري من حلائلكم ... والدهر ذو عنفٍ أيامه طرق فإن كل جديدٍ عائدٌ خلقاً ... فلن يعود جديداً ذلك الخلق قال: فظفر أصحابي بالحديث والمغازلة، وأنا بالجهد والخيبة مع أتم القيادة «2» والتعب وكذب المحادثة. وحدثنا وهب بن سليمان عن عمه الحسن

بن وهب قال: خرج محمد بن عبد الملك الزيات من عند الواثق ومزيد بن محمد بن أبي الفرج الهاروني وكيل عبد الله بن طاهر، فإذا بجارية حسناء في منظرة لها، فلما بصرت به ورأت موكبه، وكان جميلا طريفا، أو مأت إليه السلام وأو مأت بيدها إلى صدرها، فأعجب بها فلما صار إلى منزله، دخلت إليه، فرأيته بخلاف ما عهدت، وكان لا يكتمني شيئا فقلت: «ما لي أراك مدلهاً يا أبا الحسن» ؟ قال: «رأيت شيئاً أنا فيه مفكر» ، ثم أنشأ يقول: وابأبي مخضبٌ ... أومى إلينا بيده أومى بها يخبرني ... راحته في كبده أن الضنى في جسدي ... يخبرني عن جسده فليس للحاسد إلا ... خصلةٌ من حسده ثم شرح لي القصة، ثم انصرفت من عنده، ووافيت مولى الجارية، فسألته أن يبيعها، فقال: «اشتريتها للأمير عبد الله بن طاهر، وليس إلى بيعها من سبيل» ، فلم أزل به حتى اشتريتها بخمسين ألف درهم، ووجهت بها إليه، وكتبت إليه: هذا محبك مطويٌ على كمده ... عبرى مدامعه تجري على جسده له يدٌ تسأل الرحمن راحتها ... مما به، ويدٌ أخرى على كبده فقبلها، وحسن موقعها عنده، فولاني خراج ديار ربيعة، فأصبت فيها [ألف] آلف درهم. قال السجستاني «1» : أرق الرشيد ذات ليلة، فوجه إلى عبد الملك الأصمعي، وإلى الحسين الخليع، فأحضر هما، وشكا إليهما مدافعة نومه، وشدة أرقه، وقال لهما: «عللاني بأحاديثكما، وابدأ أنت يا حسين» . قال: «نعم يا أمير المؤمنين! خرجت في بعض السنين منحدرا إلى البصرة،

وممتدحاً لآل سليمان، فقصدت محمد بن سليمان بقصيدتي، فقبلها وأمرني بالمقام، فخرجت ذات يوم إلى المربد، وجعلت المهالبة طريقي، فأصابني حر وعطش، فدنوت من باب دار كبير لأستسقي، فإذا أنا بجارية أحسن ما يكون كأنها قضيب يتثنى، وسناء العينين، زجاء الحاجبين، مهفهفة الخصر، حاسرة الرأس، مفتوحة الجرب؟؟؟؟، عليها قميص لاذجلناري، ورداء عدني، قد علت شدة بياض بدنها حمرة قميصها، تتلألأ من تحت القميص بثديين كرمانتين، وبطن كطي القباطي، وعكن مثل القراطيس، لهما جمة جعدة، بالمسك محشوة، وهي، يا أمير المؤمنين متقلدة خرزاً من ذهب، والجوهر يزهو بين ترائبها، وعلى صحن جبينها طرة كالسبج، وحاجبان مقرونان، وعينان كحلاوان، وخدان أسيلان، وأنف أقنى، تحته ثغر كاللؤلؤ وأسنان كالدر، وقد غلب جربانها سواد السمك والغالية ودابر العود الهندي، على لبتها عبق الخلوق وهي والهة حيرى، واقفة في الدهليز، وجائية تخطر في مشيتها، قد خالط صرير نعلها أصوات خلخالها كأنها تخطر على أكباد محبيها، فهي كما قال الأفوه الأودي: ليس منه ما يقال لها ... كملت لو أن ذا كملا كل جزءٍ من محاسنها ... كائنٌ من حسنها مثلا لو تمنت في براعتها ... لم نجد في حسنها بدلا فهبتها، والله، يا أمير المؤمنين، ثم دنوت منها لأسلم عليها، فإذا الدار والدهليز والشارع قد عبقت بالمسك. فسلمت عليها، فردت السلام بلسان منكسر، وقلب حزين محرقٍ، فقلت لها: «يا سيدتي! إني شيخ غريب أصابني عطش، فأمري لي بشربةٍ من ماءٍ، تؤجري» . قالت: «إليك عني، يا شيخ، فإني مشغولة عن سقي الماء وادخار الأجر» ! فقلت لها: «يا سيدتي، لأية علة» ؟ قالت: «لأني عاشقة من لا ينصفني، وأريد من لا يريدني، ومع ذلك فإني ممتحنة برقباء فوق رقباء» . قلت لها: «يا سيدتي، هل على بسيط الأرض من تريدينه ولا يريدك» ؟ قالت: «إنه لعمري على ذلك الفضل الذي ركب الله فيه من الجمال والدلال» . قلت لها: «يا

سيدتي، فما وقوفك في الدهليز» ؟ قالت: «هو طريقه، وهذا أوان اجتيازه» . قلت لها: «يا سيدتي، هل اجتمعتما في خلوة في وقت من الأوقات، أم حب مستحدث» ! فتنفست الصعداء، وأرخت دموعها على خديها كطل على ورد، وأنشأت تقول: وكنا كغصني بانةٍ وسط وردةٍ ... نشم جنى اللذات في عيشةٍ رغد فأفرد هذا الغصن من ذاك قاطعٌ ... فيا من رأى فرداً يحن إلى فرد قلت لها: «يا هذه، ما بلغ من عشقك هذا الفتى» ؟ قالت: «أرى الشمس على حائطهم أحسن منها على حائط غيرهم؛ وربما أراه بغتة، فأبهت وتهرب الروح عن جسدي، وأبقى الأسبوع والأسبوعين بغير عقل» ؛ قلت لها: «عزيز علي، وأنت على ما بك من الضنى وشغل القلب بالهوى، وانحلال الجسم وضعف القوى، ما أرى من صفاء اللون، ورقة البشر، فكيف لو لم يكن بك من الهوى شيء، أراك كنت مفتنة في أرض البصرة» . قالت: «كنت، والله، يا شيخ، قبل محبتي لهذا الغلام، تحفه الدلال والجمال والكمال، ولقد فتنت جميع ملوك البصرة، وفتنني هذا الغلام» . فقلت: «يا هذه، ما الذي فرق بينكما» قالت: «نوائب الدهر، وأوابد الحدثان، ولحديثي وحديثه شأنٌ من الشان، وأنبيك أمري: إني كنت أفصدت، في بعض أيام النيروز، فأمرت، فزين لي وله مجلس بأنواع الفرش، وأواني الذهب؛ ونضدنا الرياحين والشقائق والمنثور وأنواع البهار، وكنت دعوت لحبيبي عدة من متظرفات البصرة، فيهن من الجواري، جارية «شهران» ، وكان شراؤها عليه من مدينة عمان ثمانمائة ألف درهم؛ وكانت الجارية ولعت بي، وكانت أول من أجابت الدعوة، وجاءتني منهن؛ فلما حصلت عندي، رمت بنفسها علي، تقطعني عضاً وقرصاً. ثم خلونا نتمزز القهوة إلى أن يدرك طعامنا، ويجتمع من دعونا، فتارة هي فوقي، وتارةً أنا فوقها، فحلمها السكر على أن ضربت يدها على تكتي فحلتها، ونزعت هي سراويلها، وصارت بين فخذي كمصير الرجال من النساء. فبينا نحن كذلك، إذ دخل علي حبيبي، وقد التزق قرطي

بخلخالي؛ فلما نظر إلينا، اشمأز لذلك، وصدف عني وعنها صدوف المهرة العربية إذا سمعت صلاصل اللجم، وعض على أنامله، وولى خارجاً. فأنا، يا شيخ، منذ ثلاث سنين، اسل سخيمته، وأستعطفه فلا ينظر إلي بعين، ولا يكتب إلى بحرف، ولا يكلم لي رسولاً. قلت لها: «يا هذه، أفمن العرب هو أم من العجم» ؟ قالت: «هو من جلة ملوك البصرة» . قلت: «من أولاد نيابها أو من أولاد تجارها» . قالت: «من عظيم ملوكها» . قلت لها: «أشيخ هو أم شاب» ؟ فنظرت إلي شزراً وقالت: «إنك لأحمق. أقول: هو مثل القمر ليلة البدر، أمرد أجرد، وطرة رقعاء كحنك الغراب، تعلوه شقرة في بياض، عطر لباس، ضارب بالسيف، طاعن بالرمح، لاعب بالنرد والشطرنج، ضارب بالعود والطنبور، يغني وينقر على أعدل وزن، لا يعيبه شيء إلا انحرافه عني، لا نقصاً لي منه بل حقداً لما رآني عليه» . قلت: «يا هذه، وكيف صبرك عنه» ؟ فأنشأت تقول: أما النهار، فمستهامٌ والهٌ ... وجفون عيني ساجفاتٌ تدمع والليل، قد أرعى النجوم مفكراً ... حتى الصباح، ومقلتي لا تهجع كيف اصطباري عن غزالٍ شادن ... في لحظ عينيه سهامٌ تصدع وجهٌ يضيء، وحاجبان تقوسا ... وكأن جبهته سراجٌ يلمع وبياض وجهٍ قد أشيب بحمرة ... في وجنتيه كأنه مستجمع والقد منه كالقضيب إذا زها ... والغصن في قنوائه يترعرع تمت خلائقه، وأكمل حسنه ... كمثال بدرٍ، بعد عشرٍ، أربع قلت لها: «يا سيدتي، ما اسمه، وأين يكون» ؟ قالت: «تصنع به ماذا» ؟ قلت: «أجهد في لقائه، وأتعرف الفضل بينكما في الحال» ، قالت: «على شريطة» قلت: «وما هي» ؟ قالت: «تلقانا إذا لقيته، وتحمل لنا إليه رقعة» . قلت: «لا أكره ذاك» . قالت: «هو ضمرة بن المغيرة بن المهلب بن أبي صفرة، يكنى بأبي شجاع، وقصره في المربد

الأعلى، وهو أشهر من أن يخفى» . ثم صاحت في الدار: «يا جواري، دواةً وقرطاساً» ! وشمرت عن ساعدين كأنهما طومارا فضة، ثم حملت القلم وكتبت: «بسم الله الرحمن الرحيم، سيدي: تركي الدعاء في صدر رقعتي، ينبيء عن تقصيري، ودعائي، إن دعوت، يكون هجنة. فلولا أن بلوغ المجهود يخرج عن حد التقصير، لما كان لما تكلفته خادمتك من كتب هذه الرقعة معنى، مع إياسها منك، وعلمها بتركك الجواب. سيدي، فجد بنظرة، وقت اجتيازك في الشارع إلى الدهليز، تحي بها أنفساً ميتةً أسرى؛ واخطط بخط يدك، بسطها الله بكل فضيلة، رقعة فأجعلها عوضاً من تلك الخلوات التي كانت بيننا في الليالي الخاليات التي أنا ذاكرتها. سيدي، ألست لك محبة، وبك مدنفة؟ فإن رجعت، مولاي، إلى الأشبه بك، وأنقذتني من عوارض التلف، كنت لك خادمة، ولك شاكرة» . فلما فرغت من الكتاب، يا أمير المؤمنين، ناولتني إياه، فقلت لها: «يا سيدتي، قد وجب حقك علي، ولزمتك حرمتي لطول وقوفي عليك. وكنت قد سألت شربة ماء» . قالت: «استغفر الله، ما فهمنا عنك» . ثم صاحت في الدار: «أخرجن إلينا شراباً من ماء وغير ماء» . فما كان إلا أن أقبل ثلاثون وصيفة، بأيديهن الطاسات والجامات والأقداح، مملؤة ماء وثلجاً وفقاعاً وشراباً، فشربت الماء ثم قلت: «يا سيدتي، مع قدرتك على هذا من استواء الحال، وكثرة الخدم والعبيد والجواري، فلم لا تأمرين إحدى الجواري أن تقف مراعية للغلام، حتى إذا مر أعلمتك، فتخرجين إليه» ؟ قالت: «لا تغلط يا شيخ» ، فتمثلت: عبالة عنق الليث من أجل أنه ... إذا رام أمراً قام فيه بنفسه ثم انصرفت عنها، يا أمير المؤمنين؛ فلما أصبحت غدوت على محمد بن سليمان فوجدت مجلسه محتفلاً بالملوك وأبناء الملوك، ورأيت غلاماً قد

زان المجلس، وفاق من فيه حسناً وجمالاً، قد رفعه الأمير فوقه، فسألت عنه، فقيل: «ضمرة بن المغيرة» ، فقلت في نفسي: «بالحقيقة حل بالمسكينة ما حل، هو، والله، قاتلها فيما أرى» . ثم قمت فقصدت المربد، ووقفت على باب داره، فإذا هو قد ورد في موكب جليل، فوثبت إليه، وبالغت في الدعاء والثناء؛ ثم دنوت منه، وفاوضته في الذي بيني وبينها، وناولته الرقعة، فلما قرأها ضحك، ثم قال: «يا شيخ قد استبدلنا بها، فهل لك في أن تنظر إلى البديل» ؟ قلت: «نعم» . فصاح في الدار: «يا جواري، أخرجن إلينا لذيذاً» . فما كان إلا أن طلعت جارية وضيئة الكمين، ناهدة الثديين، تمشي مشية مستوحل، ترتج من دقة خصرها على كبر عجزها ذات فخذين وعجيزتين تختطفان الأنفس اختطافاً، على رأسها بطيخة من الكافور، مكتوب علي جبينها: آه «1» من الحب آه ... ما أقتل الحب وأضناه ودون ذلك مكتوب: عيارةٌ قياسةٌ في الخطى ... رخيمة الدل، صيودٌ للرجال وقد كتبت بالغالية على عصابتها ثلاث أسطر، وهي: إذا غضبت رأيت الناس قتلى ... وإن رضيت فأرواحٌ تعود لها في عينها لحظات سحرٍ، ... تميت بها، وتحيي من تريد وتسبي العالمين بمقلتيها ... فكل العالمين لها عبيد!! فناولها الرقعة، وقال: «اقرئي وأجيبي صاحبتك» . فلما قرأت الرقعة، اصفرت، وعرقت، ومزقتها، وضربت بها في وجه الغلام، وغابت في الستر. فقال لي: «أما أنت، يا شيخ، فاستغفر الله مما مشيت فيه» . قلت: «بل أنت استغفر الله من هجرانك إياها، وتركك إتيانها. والله ما أرى لها في البشر نظيراً» . قال: «لا أفعل، ولو أنها في حسن يوسف وكمال حواء» .

فخرجت، يا أمير المؤمنين، وأنا أجر ذيلي حتى وردت عليها؛ فاستأذنت ودخلت، فبدأت بي، فقالت: «ما وراء الشيخ» ؟ قلت: «البؤس واليأس» . قالت: «لا عليك. فأين الله والقدر» ؟ ثم أمرت لي بخمسمائة دينار، وعشرة أثواب، وخرجت من عندها وأنا ممتدح لآل سليمان. فلم يكن لي، والله، إلا معرفة خبرها في العام الذي عدت فيه إلى البصرة، فوردت عليها، فوجدت على بابها أمراً، ونهياً، وأسباباً لا تكون إلا على باب الخلفاء. فاستأذنت، فدخلت، فإذا فوق رأسها ثلاثون رجلاً من شيوخ وشبان وخدم، وقوف بسيوفهم، فلما نظرت إلي، عرفتني، ووثبت إلي، وقبلت رأسي، وقالت: «يا شيخ! الحمد لله الذي جعل العبيد بالصبر ملوكاً، وجعل الملوك بالتيه عبيداً، إن الذين تراهم وقوفاً، أصحاب «ضمرة» ، يسلون سخيمتي، ويسألونني الرجوع له، والله، لا نظرت إليه في وجه، ولو أنه في حسن يوسف وكمال حواء» . فسجدت، يا أمير المؤمينين شماتة بضمرة، وتقرباً إلى الجارية. فقال بعض حجاب ضمرة: مهلاً يا شيخ، فمن طاب محضره، طاب مولده» . ثم انصرفوا. فناولتني خريطة «1» فيها أوراق، فقالت: «هذا أول ما ورد علينا منه، فإذا ثوب خزّ أبيض يقق، مكتوب فيه بماء الذهب: «بسم الله الرحمن الرحيم. لولا تغاضي عليك، أدام الله حياتك، لو صفت شطراً من غدرك، ولبسطت سوط عتبي عليك، وحكمت سيف ظلامتي فيك، إذ كنت الجانية على نفسك، والمظهرة لسوء العهد وقلة الوفاء، المؤثرة علينا غيرنا، فخالفت هواي، وفرشت نفسك لها، على حالتي جد وهزل، وصحو وسكر، والمستعان الله على ما كان من سوء اختيارك. وقد ضمنت رقعتي هذه، أبيات شعر، أنت المتفضلة بالنظر إليها، وهي: قطع قلبي فراقكم قطعا ... وكدت أقضي بينكم جزعا

ما تكحل العين بالرقاد ولا ... ينام جنبي في الليل مضطجعا لا عيش لي مذ نأت ولا وجدت ... عيناي في الأرض قط متسعا قلت لها: «أفلا تحدثينني كيف سليت عنه، وابتلى» ؟ قالت: «كيف لا أحدثك» ؟ افتصدت «تفاحة» ، جارية محمد بن سليمان، فدعينا إلى خورنق لمحمد بن سليمان، فلما طعمنا، دعت لنا بالشراب، فبينا نحن كذلك، إذا بحراقة سلطانية قد وردت، وفيها عدة من أبناء الملوك، وفيهم هذا العيار، ولا علم لي بمكانه، وكنت حملت العود وغنيت: أبلى فؤادي وشفني الأرق ... والدمع من مقلتي يستبق من حب ظبيٍ أغن ذي دعجٍ ... وقلبه للشفاء منطبق فلما وجبت العتمة انصرفنا، وأبطأت الجارية، وأتاني هؤلاء القوم من عنده يسلون سخيمتي، ويستعطفونني عليه. ثم انصرفت عنها، يا أمير المؤمنين، ودخلت الحمام من ساعتي، فما كان إلّا أن دخلت، حتى أتاني غلامي، فقال: «جماعة من جلة الناس قد طرقوا دارك يطلبونك» . فلبست ثيابي، وخرجت مسرعاً، فإذا بضمرة قد كبس داري في عدة من الرؤساء، فقال: «والله لا برحنا، حتى تنفق علينا الخمسمائة دينار التي أخذتها من الجارية، سيدتي» . قلت: «أي والله، بالسمع والطاعة» . ثم جذبني إلى نفسه، فلم يزل يناظرني في أمرها حتى أقبل المساء، ثم انصرف إلى رحله. فلما كان من الغد، وردت له رقعة مع خادم، وكيس فيه الف دينار، واستزارني، فقبلت ذلك، وصرت معه إليه. فلما نظر إلي، تنحى عن مقعده، وأقعدني، ثم قال: «هذا قد أعددته، للنيروز، لسيدتي هدية، وأنت أولى من تجشم مع الخادم إليها» . قلت: «السمع والطاعة» . ثم صاح في الدار: «هاتوا الهدية» . فإذا مائة تخت من ثياب، وصندوق من ذهب مقفل عليه، فقال لي: «في التخت والصندوق مبلغ ثلاثين ألف دينار، وأنت أولى من تفضل بالإيصال» .

فصرنا إليها، واستأذنا، فلما مثلنا بين يديها، أنكرتني وقالت: «من الشيخ» ؟ قلت: «الخليع، شاعر العراق؛ ومعي هدية عبدك ضمرة» . فصاحت في الدار: «تملك» ! فإذا جارية كأنها الظبية المنفلتة من الشبكة، قالت لها: «خذي هذه الهدايا، وفرقيها على جواري الدار» ، ثم قالت: «أيطمع الخنوص أن يجتمع معي، بعد قبولي الهدية، في ثلاثين سنة» ؟ قلت لها: «العفو عند المقدرة يعدل عتق رقبة» ، قالت: «ففي خمس عشرة سنة» ؟ قلت لها: «أنقصيها، أولى بك» . قالت: «ففي ثلاث سنين» ، قلت لها: «حطة أخرى، وقد اجتمعنا» ، قالت: «لا، والله، لا آكل ولا أشرب حتى آتيه» . وأمرت أن يسرج؛ وبادرت إلى باب ضمرة مبشراً، فما وصلت أو سمعت صلاصل اللجم، فإذا هي قد سبقتني في جواريها وخدمها. فدخلت، فإذا هما يتعانقان ويتعاتبان، فقلت: يا سيدتي، ما أنتما إلى شيء أحوج منكما إلى خلوة. قالا: هو ذاك! فانصرفت عنهما، ثم بكرت عليهما، فإذا هي في المرقد الأول جالسة، عليها جبّة وشيء مطير، وهي تعصر الماء عن ذوائبها، وتصلح قرونها، فاستحيتني وقالت: لا تفكرن في ريبة، فو الله ما صلينا البارحة، حتى بعثت إلى عبد الرحمن بن أبي ليلى القاضي، فزوجت نفسي سيدي، ولكن صر إليه في المرقد الثاني. فصعدت إليه، فلما نظر إلي، وثب إلي، وقبل بين عيني وقال: يا شيخ، قد جمع الله بيني وبين سيدتي بك. ثم دعا بدواة وقرطاس، وكتب إلى ابن نوح الصير في ثلاثة آلاف دينار؛ فرجعت إليها، فقالت: بماذا برك سيدي؟ فأقرأتها الرقعة، فقالت: نعجل إليك مثلها، فدعت بمال وطيار ووزنت ثلاثة آلاف دينار، ودعت بعشرة أثواب من ثياب مصر، وقالت: هذه وظيفتك علينا كل عام، فخرجت من عندي، وأخذت مرفوعي من آل سليمان، وانصرفت إلى العراق. وكان الرشيد متكئاً، فاستوى جالساً وقال: أوه يا حسين، لولا أن ضمرة سبقني إليها، لكان لي ولها شأن من الشأن.

أخبار الشعراء

أخبار الشعراء ومنه مع الشعراء، قال: (استأذنت بنت لعبد الملك بن مروان في الحج فأذن لها، وكتب إلى الحجاج يأمره بالتقدم إلى عمر بن أبي ربيعة أن لا يذكرها في شعره، فلما بلغ عمر مقدمها، لم يكن له همة إلا أن يتهيأ بأجمل ما يقدر عليه من الحلل والثياب. وضربت لها قبة في المسجد الحرام، فكانت تكون فيها نهاراً، فإذا أمست، تحولت إلى منزلها لتنظر إليه وتجلس بازاء القبة، وقد خبر عمر بشأنها، فإذا أرادت الطواف، أمرت جواريها فيسترنها بالمطاريف، فكانت تتطلع إلى عمر كثيراً، وكانت تسأل من دخل عليها عنه، رجاء أن يكون قد قال شيئاً، فلم يفعل، حتى قضت الحج، ورحلت، ونزلت من مكة على أميال، فأقبل راكب من مكة، فسألته: من أين أقبلت؟ قال: من مكة، قالت: عليك وعليّ قرية أنت منها، لعنة الله. قال: ولم يا ابنة عبد الملك؟ قالت: قدمنا مكة فأقمنا أشهراً، فما استطاع الفاسق عمر بن أبي ربيعة أن يزودنا من شعره أبياتاً، كنا نلهو بها في سفرنا هذا. قال: فلعله قد فعل، قالت: فاذهب إليه واسأله، ولك في كل بيت يأتني به منه عشرة دنانير. فأقبل الرجل، وأتى عمر بن أبي ربيعة، فأخبره الخبر، فقال له: قد فعلت، ولكن أحب أن تكتم علي. قال: أفعل، ثم أنشده راع الفؤاد تفرق الأحباب ... يوم الرحيل فهاج لي أطرابي فظللت مكتئباً أكفكف عبرةً ... سحاً يفيض كوابل الأسراب لما تنادوا للرحيل وقربوا ... بزل الجمال لطيةٍ وذهاب كاد الأسى يقضي عليك صبابةً ... والوجه منك لبين إلفك كابي

قالت سعيدة، والدموع ذوارفٌ ... منها على الخدين والجلباب ليت المغيريّ الذي لم نجزه ... فيما أطال تصيدي وطلابي كانت تردّ لنا المنى أيّامنا ... إذا لا نلام على هوى وتصابي أيام نكتم ودنا ونوده ... سراً، مخافة منطق المغتاب أخبرت ما قالت، فبت كأنما ... يرمى الحشا ينوافذ النشاب فبعثت جاريتي وقلت لها: اذهبي ... قولي لها في خفيةٍ وقراب أسعيد، ما ماء الفرات وطيبه ... مني على ظمأ وطيب شراب بألذ منك، وإن نأيت وقلما ... ترعى النساء أمانة الغياب إن تبذلي لي نائلاً أشفي به ... سقم الفؤاد، فقد أطلت عذابي وعصيت فيك أقاربي، فتقطعت ... بيني وبينهم عرى الأسباب فبقيت كالمهريق فضله مائه ... في حر هاجرةٍ للمع سراب ثم أتى إليها بالأبيات، فأعجبت بها، وأمرت جواريها بحفظها؛ ثم وفت له بما وعدت، وسلمت إليه في كل بيت عشرة دنانير» . وقال: أخبرنا محمد بن خلف، قال: أخبرني أبوبكر العامري، قال: حدثني موسى بن أفلح، مولى فاطمة بنت الوليد بن عبد شمس بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، قال: حدثني بلال، مولى ابن أبي عتيق، قال: «قام الحارث بن عبد الله بن عباس بن أبي ربيعة من الحج، فأتاه ابن أبي عتيق، فقال: «كيف تركت أبا الخطاب» ؟ فقال: هجرت الثريا عمر، فقال: من رسولي إلى الثريا، فإني ... ضقت ذرعاً بهجرها، والكتاب سلبتني مجاجة المسك عقلي ... فسلوها بما يحل اغتصابي أبرزوها مثل المهاة، تهادى ... بين خمس كواعبٍ أتراب وهي ممكورةٌ، تحير منها ... في أديم الخدّين ماء الشباب وتكنّفنها كواعب بيضٌ ... واضحات الخدود والأقراب

في سخاب من القرنفل والدر ... نفيسٍ، واهاً له من سخاب قلت لما ضربن بالسجف دوني ... ليس هذا لودنا بثواب فتبدت، حتى إذا جن قلبي ... حال دوني ولائدٌ بالثياب حين شب القتول والعنق منها ... حسن لونٍ يرف كالزرياب ذكرتني ببهجة الشمس لما ... طلعت في دجنةٍ وسحاب دميةٌ عند راهبٍ وقسيسٍ ... صوروها في مذبح المحراب فارجحنت في حسن خلقٍ عميمٍ ... تتهادى في مشيها كالحباب ثم قالوا: تحبها؟ قلت، بهراً ... عدد الرمل، والحصى، والتراب وقال لغلامه: «انطلق بكتابي هذا إلى ابن أبي عتيق بالمدينة، فادفعه إليه، فأقبل الغلام بالكتاب، حتى دفعه إليه» . فلما قرأه، قال: «والله أنا رسوله إليها» . فسار، حيث قدم مكة لا يعلم به أهله؛ فأتى منزله، فوجده غائبا، فانطلق غلام إلى عمر، فقال: «إن رجلاً قدم وهو يطلبك، من شأنه وهيئته كذا» ، قال: «ويحك، ذاك ابن أبي عتيق، اذهب إليه فقل له: إن مولاي يأتيك الآن» . وكان عمر على فرسخين، بل على رأس ثلاثة أميال من مكة، فأتاه الغلام فأخبره، فقال: «اسرج لي أنت برذون عمر، فإن دابتي قد تعبت وكلت» . فاسرجه له، فركب وأتى الحمى، فصهل البرذون، وسمعت الثريا صهيله، فقالت لجواريها: «هذا هو بذرون الخبيث عمر» . ثم دعت ببغلةٍ لها، فوضعت عليها رحلها، فخرجت، فإذا هي بابن عتيق، فقالت: «مرحباً بعمي. ما جاء بك يا عم» قال: «أنت والفاسق جئتما بي» قالت: «أما والله لو بغيرك تحمل علينا، ما أجبناه؛ ولكن ليس لك مدفع أمر ربنا نحوه» ؛ فأقبل حتى انتهى إلى عمر، فخرج عمر إليه، وقبل يده، ثم قال: «انزل، جعلني الله فداك» . فقال: «ماء مكة حرام علي حتى أخرج منها» . ثم دعا ببغلته فركبها، وانصرف إلى المدينة، وخلا عمر بالثريا» . وحدث الزبير بن بكار عن أبي محرم عن إبراهيم بن قدامة، قال: قال عمر بن أبي ربيعة: «ألا أحدثك حديثاً حلواً» ؟ قال: قلت: «نعم» قال:

«بينا أنا جالسٌ، إذ جاءني خالد الخريت «1» ، فقال: يا أبا الخطاب! هل لك في هند وصواحبها، فقد خرجن إلى نزهة» ؟ قلت: «وكيف لي بذلك» ؟ قال: «تلبس لبسة أعرابي، وتعتم عمامة، وتركب مركبة كأنك ناشدٌ ضالةً» . قال: ففعلت وجئت، حتى وقفت عليهن أنشد ضالتي، فقلن: «انزل» ، فنزلت، وقعدت أحادثهن وأغازلهن؛ فلما رمت النهوض، قالت لي هند: «اجلس، لا جلست أنت. ألا ترى أنك وقفت علينا غريباً؛ ونحن، والله، وقفنا على غربتك. نحن بعثنا خالدا وخدعناه وأطعمناه في أنفسنا، حتى جاء بك» . فقال خالد: «صدقن والله خدعنني وخدعنك» . فجلست وتحدثنا، فأنشدتهن فقالت هند: يا سيدي، لقد رأيتني منذ أيام، وقد أصبحت عند أهلي، فأدخلت رأسي في حبيبي، ونظرت إلى هني، فإذا هو ملء الكف ومنية المتمني فناديت: (يا عمراه، يا عمراه) ! قال عمر: فقلت: يا لبيك، يا لبيك، يا لبيك، ثلاثاً، ومددت في الثالثة صوتي، فضحكت؛ وحادثتهن ساعة، ثم ودعتهن وانصرفت، فذلك قولي: عرفت مصيف الحي والمتربعا ... ببطن حليّات دوارس بلقعا إلى السفح من وادي المغمس بدلت ... معالمه وبلاً، ونكباء زعزعا لهندٍ وأتراب لهند إذ الهوى ... جميع، وإذا لم نخش أن يتصدعا وإذ نحن مثل الماء كان مزاجه ... إذا صفق الساقي الرحيق المتشعشعا وإذ لا نطيع الكاشحين ولا نرى ... لواش لدينا يطلب الصرم مطمعا وقال عمر: ما رأيت يوماً غابت عواذله، وحضرت عواذره، بأحسن من يومنا، ولا صبوة كصبوتنا، ولا قيادة كقيادة خالد، ولا أملح؛ ولقد وصفت ذلك في شعر، فقلت في تمام ما تقدم: أتاني رسولٌ من ثلاث حرائرٍ ... ورابعةً يزكو لها الحسن أجمعا فقلت لمطريهن في الحسن إنما ... ضررت، فهل تسطيع نفعاً فتنفعا

لئن كان ما حدّثت حقاً لما أرى ... كمثل الألى أطريت في الناس أربعا وهيّجت قلباً كان قد ودع الصبا ... وأشياعه، فاشفع عسى أن تشفعا فقال: تعال انظر فقلت: فكيف لي ... أخاف مقاماً أن يشيع ويشنعا فقال: اكتفل، ثم التثم وأت باغياً ... فسلم ولا تكثر بأن تتورعا فإني سأخفي العين عنك ولا ترى ... مخافة أن يفشو الحديث فيسمعا فأقبلت أهوي مثل ما قال صاحبي ... لموعده أزجي قعوداً موقعا فلما توافقنا، وسلمت، أشرقت ... وجوهٌ زهاها الحسن أن تتقنعا تبالهن بالعرفان لما عرفنني ... فقلن امرؤٌ باغٍ أضل وأوضعا فلما تنازعن الأحاديث قلن لي: ... أخفت علينا أن نغر ونخدعا فما جئتنا إلا على وفق موعد ... على ملاء منا خرجنا له معا رأينا خلاء من عيونٍ ومجلساً ... دميث الثرى سهل المحلة ممرعا وقلن: كريمٌ نال وصل كرائمٍ ... وحقٌ له في اليوم أن يتمتعا وفيهن هندٌ تكمل الهم والمنى ... وإخداع عيني كلما رمت مهجعا قال: ولما أنشد عمر بن أبي ربيعة، ابن أبي عتيق، قصيدته التي فيها يقول: فأتتها طبةٌ عالمةٌ ... تخلط الجد مراراً باللعب ترفع الصوت إذا لانت لها ... وتراخي عند سورات الغضب قال ابن أبي عتيق: امرأتي طالقٌ إن لم يكن الناس في طلب مثل هذه، منذ قتل عثمان، يجعلونها خليفة، فلم يقدروا عليها، وأنت تريدها قواده. قال: ولما هجا كثيرٌ بني ضمرة، فقال: ويحشر نور المسلمين أمامهم ... ويحشر في أستاه ضمرة نورها اشتدت بنو ضمرة عليه وعلى عزة، وأرادوا قتله، ووضعوا له العيون، فمكث شهراً لا يصل إليها، فالتقى جميل وكثير، فشكى أحدهما إلى صاحبه ما يلقى، فقال جميل: أنا رسولك إلى عزة، فأخبرني بما كان بينكما.

قال: آخر ما لقيتها بالطلحة، مع أتراب لها. قال: فأتاهم جميل، وهو ينشد ذوداً له، ففطنت عزة، فقالت: تحت الطلحة التمس ذوداً هناك. فانصرف جميل، فأخبر كثيراً؛ فلما كان في بعض الليل، أتيا الطلحة، وأقبلت عزة وصاحبة لها، فتحدثا ملياً، وجعل كثير يرى عزة تنظر إلى جميل، وكان جميلاً، وكثير دميماً، فغضب كثير، وغار عليها، وقال لجميل: انطلق بنا قبل أن يصبح علينا الصبح فانطلق، فعند ذلك يقول: رأيت ابنة الشبلي عزة أصبحت كمحتطب ما يلق بالليل يحطب «1» وكانت تمنينا، وتزعم أننا ... كبيض الأنوق في الصّفا المتغيّب ثم قال كثير لجميل: متى عهدك ببثينة؟ قال: في أول الصف بوادي الدم، ومعها جواريها يغسلن ثياباً. فخرج كثير حتى أناخ بهم، وهو يقول: وقلت لها يا عز أرسل صاحبي ... على بعد دارٍ، والرسول موكل بأن تجعلي بيني وبينك موعداً ... وأن تأمريني بالذي فيه أفعل أما تذكرين العهد يوم لقيتكم ... بأسفل وادي الدم، والثّوب يغسل فعلمت بثينة ما أراد، فصاحت: اخسأ، اخسأ، فقال عمها: ما دهاك، يا بثينة؟ قالت: إن كلباً يأتينا من وراء هذا التل، فيأكل ما يجد، ثم يرجع. فرجع كثير، وقال لجميل: قد وعدتك التل، فدونك. فخرج جميل وكثير حتى انتهيا إلى الدومات، وقد جاءت بثينة، فلم تزل معه حتى برق الصبح، وكان كثير يقول: «ما رأيت مجلساً قط أحسن منه» . قال عمر بن شبة عن إسحق بن إبراهيم الموصلي: حدثني شيخ من خزاعة، قال: ذكرنا ذا الرمة، وعندنا عصمة بن مالك الفزاري، وهو يومئذ

ابن عشرين ومائة سنة، فقال: إياي فاسألوا عنه. كان من أظرف الناس، خفيف العارضين، آدم حلو المضحك، إذا أنشد اختصر، وأتاني يوماً فقال: «إن مية منقرية، وإن بني منقر أخبث حي، وأعلمه بأثر، فهل عندك من ناقة نزورها عليها» ؟ فقلت: «إي والله، عندي اثنتان» ، قال: فسرنا، فخرجنا حتى أشرفنا على الحي وهم خلوف، فعرف النساء ذا الرمة، فعدلن بنا إلى بيت مي، وأنخنا عندها، فقلن لذي الرمة: «أنشدنا يا أبا الحارث» ، فقال: «أنشدهن» ، فأنشدتهن قوله: نظرت إلى أظعان مي كأنها ... ذرى النخل أو أثلٌ تميد ذوائبه فأشعلت النيران والصدر كاتمٌ ... بمغرورقٍ تمت عليه سواكبه بكى وامقٌ جاء الفراق ولم تجل ... جوائلها أسراره؟ ومعاتبه فقالت ظريفة منهن: «ابكي اليوم» ، فمررت فيها حتى انتهيت إلى قوله: إذا سرحت من حب مي سوارحٌ ... على القلب، آبته جميعاً عوازبه فقالت الظريفة: «قتلته، قتلك الله» ! فقالت: «ما أصحه، وهنيئاً له» . فتنفس ذو الرمة تنفساً كادت حرارته تساقط لحمي، ثم مررت فيها حتى انتهيت إلى قوله: وقد حلفت بالله مية، ما الذي ... أقول لها إلا الذي أنا كاذبه إذاً، فرماني الله من حيث لا أرى ... ولا زال في أرضي عدوٌ أحاربه فالتفتت مي إلى ذي الرمة، فقالت: «ويحك! خف عواقب الله» ، ثم أنشدت إلى أن انتهيت إلى قوله: إذا نازعتك القول مية، أو بدا ... لك الوجه منها، أونضا الدرع سالبه فيا لك من خد أسيلٍ ومنطقٍ ... رخيمٍ، ومن خلقٍ يعلل جاذبه فقالت تلك الظريفة: «أما القول، فقد نازعتك، والوجه فقد بدا لك. فمن لنا بأن ينضو الدرع سالبه؟ فقالت لها مي: «قاتلك الله! ما أنكر

ما تجيئين به اليوم» . فتحادثنا ساعة، ثم قالت تلك الظريفة: «ما أحوج هذين إلى الخلوة، فنهضت وسائر النساء، فصرت إلى بيت قريب منهما حيث أراهما، فما ارتبت بشيء، ولا رأيت أمراً كرهته، فلبث ساعة، ثم أتاني، ومعه قارورة وثلاث قلائد، فقال: «هذا طيب زودتناه مي، وقلائد أتحفتك بها ابنة الجودي» . فكنا نختلف إليها حتى انقضى المربع، ودعانا الصيف، فرحلوا قبلنا، وأتاني ذو الرمة فقال: «قد ظعنت مي، فلم يبق إلا الديار، والنظر إلى الآثار، فاخرج بنا إلى دارها، فخرجت معه، حتى إذا وقفنا عليها، أنشأ يقول: ألا فاسلمي يا دار مي على البلى ... ولا زال منهلاً بجرعائك القطر حتى أتى على آخرها، ثم انهملت عيناه بصبره. فقلت له: «ما هذا» ؟ فقال: «إني لجليد، وإن كان مني ما ترى» . فما رأيت أحداً أحسن شوقاً وصبابة وعزاء منه. وعن سليمان، رواية أبي نواس، قال: كنت مع أبي نواس أسير حتى انتهينا إلى درب القراطيس، فخرج من الدرب شيخ نصراني، وخلفه غلامٌ كأنه غصن بانٍ يتثنى كأحسن ما رأيت، فقال: «يا سليمان، أما ترى الدرة خلف البصرة» ؟ ثم قال: «هل لك أن تأخذ مني رقعة فتوصلها إليه» ؟ قلت: «بلى» . فكتبها، ودفعها إلي، فأوصلتها إليه، فإذا أملح غلام وأخفه روحاً، فقال: «من صاحب الرقعة» ؟ قلت: «أبو نواس» ، قال: «أين هو» ؟ قلت: «على باب درب القراطيس» . قال: «فليقف مكانه حتى أروح» ، وكان في الرقعة: تمر فأستحييك أن أتكلما ... ويثنيك زهو الحسن عن أن تسلما ويهتز في ثوبيك كل عشيةٍ ... قضيبٌ من الريحان أضحى منعما! فحسبك أن الجسم قد شفه الهوى ... وأن جفوني فيك قد ذرفت دما أليس عجيباً عند كل موحدٍ ... غزالٌ مسيحي يعذّب مسلما

فلولا دخول النار بعد تنصرٍ ... عبدت مكان الله عيسى بن مريما وحدثنا الجماز، قال: كنت يوماً على باب عدي الدراع، فمر بي أبو نواس شبيهاً بالمجنون، فإذا خلفه غلام كأنه مهر عربي، فقلت له: «مالك» ؟ فقال: إن الرزية لا رزية مثلها ... عوز المكان وقد تهيا المركب فعدلت به وبالغلام، فأقاما سائر يومهما. قال: «وكان عبيد الله بن يحيى يتعشق غلاماً من دار المتوكل، يقال له (رشيق) ، فلا يصل إليه حتى طال ذلك عليه، وكان أبو الأخطل يخلفه في المركب، وينبسط إليه، فقال له أبو عبيد الله يوماً: «يا أبا الأخطل من لي برشيق» ؟ فقال: «الصفر الصفار، والبيض الصحاح» . وجعل عبيد الله يلقى رشيقاً في الدار، فيخلو به ويساره، ويعطيه مائة دينار في كل لقية، إلى أن علم رشيق بما في نفس عبيد الله، وكان يتعذر عليهما الإجتماع لقضاء الوطر واللذة، فركب أمير المؤمنين يوماً، ومعه أبو الأخطل، فطلب عبيد الله، وتعمد أبو الأخطل رشيقاً، فرده إليه؛ فلما ظفر به في منزله خالياً، قضى حاجته منه، وركب يريد أمير المؤمنين مسرعاً، فوصل إلى الموكب، وقد تصبب عرقاً، فقال أبو الأخطل: لا خير عندي في الخلي ... ل، ينام عن سهر الخليل قولوا لأكفر من رأي ... ت لكلّ معروف جليل هل تشكرنّ لي الغدا ... ة تلطفي لك في الرسول إذ نحن في صيد الجبا ... ل، وأنت في صيد السهول ما قيل فيه من الشعر: وتمشيت في الجميل فأسرعت ... وإن كنت لست تأتي جميلا إن من مد للقيادة رجلاً ... لحريٌ بأن يكون نبيلا وقال آخر:

لهواه لإتلاف ... وملاه لاختلاف ليس يقرا من كتاب ... الله إلا لإيلاف وقال آخر: إن الرقاشي من تكرمه ... بلغه الله منتهى هممه يبلغ من بره ورأفته ... حملان أضيافه على حرمه ومن محاسن ذلك، حدثنا علي بن الحسين بن علي بن عثمان بن علي بن الحسن، قال: كانت «ضمير» جارية مولدة لميمونة بنت الحسن بن علي بن زيد؛ فأدبتها، وعلمتها الغناء فبرعت فيه؛ وكانت من أحسن الناس وجهاً وبدناً، وأبرعهم غناء وضرباً، فأعطيت بها مولاتها عشرة آلاف دينار؛ فلما أرادت أن تبيعها، وأحضر المال، بكت وقالت: «يا سيدتي، ربيتني واتخذتني ولداً، ثم تريدين بيعي، فأتغرب عنك ولا أرى وجهك» ، قالت: «أشهد الله ومن حضر أنك حرة لوجه الله» ! فلما ماتت ميمونة، خطبها آل أبي طالب وغيرهم، فغلب عليها جعفر بن حسن بن حسين، فتزوجها وأحبها حباً شديداً، فقدم بها البصرة، فقال علي بن الحسين، وكان يجالسها ويسمع غناءها؛ فأردت الخروج إلى الرضي بخراسان، فودعت جعفراً وخرجت، فأقمت بالأهواز أياماً أتهيأ للخروج على طريق فارس، فورد علي كتاب جعفر أنه قد وقع بينه وبين «ضمير» شر، وإنها قد أغلظت له حتى تناولها ضرباً، وأنها على مفارقته، وسألني القدوم لأصلح بينهما، فقال علي بن الحسين: وكانت لي حاجة بالرضي، وكنت أرجو لذلك في وجهي منه ومن المأمون الغنى؛ فلما قرأت كتابه، لم أعط صبراً حتى انصرفت راجعاً إلى البصرة، فجئت إلى جعفر، فأوقعت به شتماً وعذلاً، ثم أرسلت إليها: أقسمت عليك بحقي ألا رجعت؛ فخرجت مرهاء، شعثة، وسخة الثياب، حتى جلست بينهما، فأقبل جعفر يعطيني من نفسها لها كل ما أريد وهي ساكتة، ثم قلت: «يا جارية، هاتي العود» ؛ فأخذته، فأصلحت منه حتى تغنت وهي تبكي، ودموعها تكف:

أرتجي خالقي وأعلم حقاً ... أنه ما يشاء ربي كفاني لا تلمني، وارفق خليلي بشأني ... إنه ما عناك يوماً عناني قال علي بن الحسين: فو الله ما رأيت أحسن منها، ولا أرق من غنائها بهذا الصوت، فما برحت حتى اصطلحا، وألهتني، والله، عن الغنى؛ فأقمت بالبصرة. وعن الكلبي «1» ، قال: بينا عمر بن أبي ربيعة يطوف بالبيت في حال نسكه، فإذا هو بشاب قد دنا من شابة ظاهرة الجمال؛ فألقى إليها كلاماً، فقال له عمر: «يا عدو الله، في بلد الله الحرام، وعند بيته تصنع هذا» ؟ فقال: «يا عماه، إنها ابنة عمي، وأحب الناس إلي، وإني عندها لكذلك، وما كان بيني وبينها من سوء قط أكثر مما رأيت» . قال: «ومن أنت» ؟ قال: «أنا فلان بن فلان» ، قال: «أفلا تتزوجها» ؟ قال: «أبى علي أبوها» ، قال: «ولم» ؟ قال: «يقول ليس لك مال» ، فقال: «انصرف، والقني» ، فلقيه بعد ذلك، فدعا ببغلته فركبها، ثم أتى عم الفتى في منزله، فخرج إليه فرحاً بمجيئه، ورحب وقرب، فقال: «ما حاجتك، يا أبا الخطاب» ؟ قال: لم أرك منذ أيام فاشتقت إليك، قال: «فانزل» ، فأنزله وألطفه، فقال له عمر في بعض حديثه: «إني رأيت ابن أخيك، فأعجبني تحركه، وما رأيت من جماله وشبابه» ، قال له: «أجل! ما يغيب عنك أفضل مما رأيت» ، قال: «فهل لك من ولد» ؟ قال: «لا، إلا فلانة» . قال: «فما يمنعك أن تزوجه إياها» ؟ قال: «إنه لا مال له» قال: «فإن لم يكن له مال، فلك مال» ، قال: فإني أضن به عنه، قال: لكني لا أضن به عنه، فزوجه واحتكم، قال: مائة دينار، قال: نعم. فدفعها عنه، وتزوجها الفتى، وانصرف عمر إلى منزله، فقامت إليه جارية من جواريه، فأخذت رداءه، وألقى نفسه على فراشها وجعل يتقلب؛ فأتته بطعام، فلم يتعرض له، فقالت: أظنك، والله، قد وجدت

بعض ما كان يعرض لك من حكم النساء، فلا تكتمها) ، فقال: هاتي الدواة، فكتب: تقول وليدتي لما رأتني ... طربت، وكنت قد أقصرت حينا أراك اليوم قد أحدثت شوقاً ... وهاج لك الهوى داء دفينا وكنت زعمت أنك ذو عزاء ... إذا ما شئت فارقت القرينا بعيشك هل أتاك لها رسولٌ ... يسرك أم لقيت لها خدينا فقلت شكا إلي أخٌ محبٌ ... كبعض زماننا إذ تعلمينا وذو القلب المصاب ولو تعزى ... مشوقٌ حين يلقى العاشقينا فقص علي ما يلقى بهندٍ ... وأشبه ذاك ما كنا لقينا فكم من خلةٍ أعرضت عنها ... وكنت بودها دهراً ضنينا أردت فراقها، فصبرت عنها ... ولو جن الفؤاد بها جنونا قال: وقال عمر بن أبي ربيعة: بينا أنا خارج محرماً، إذ أتتني جارية كأنها دمية في صفاء اللجين، في ثوب قصب كقضيب على كثيب، فسلمت علي، وقالت: أنت عمر بن أبي ربيعة، فتى قريش وشاعرها؟ قلت: أنا، والله، ذاك. قالت: فهل لك أن أريك أحسن الناس وجهاً؟ قلت: ومن لي بذلك؟ قالت: أنا والله بذلك، على شريطة، قلت: وما هي؟ قالت: أعصبك وأربط عينيك وأقودك ليلاً، قلت: لك ذاك. قال: فاستخرجت معجراً من قصب عجرتني به، وقادتني حتى أتت مضرباً، فلما توسطته، فتحت العجارة عن عيني، فإذا أنا بمضرب ديباج أبيض مزرر بحمرة مفروش بوشي كوفي، وفي المضرب ستارة مضروبة من الديباج الأحمر، عليها تماثيل ذهب، ومن ورائها وجه لم أحسب أن الشمس وقعت على مثله حسنا وجمالاً، فقامت كالخجلة، وقعدت قبالتي، وسلمت عليّ، فخيّل بي أن الشمس تطلع من جبينها، وتغرب في شقائق خدها، قالت: أنت عمر ابن أبي ربيعة، فتى قريش وشاعرها؟ قلت: أنا ذلك، يا منتهى الجمال، قالت: أنت القائل:

بينما ينعتنني، أبصرنني ... دون قيد الميل، يعدو بي الأغر قالت الكبرى: أتعرفن الفتى؟ ... قالت الوسطى: نعم، هذا عمر قالت الصغرى، وقد تيمتها: ... قد عرفناه، وهل يخفى القمر؟ قلت: أنا، والله، قائلها يا سيدتي، قالت: ومن هؤلاء؟ قلت: يا سيدتي، ما هو عن قصد مني، ولا في جارية بعينها، ولكني رجل شاعر أحب الغزل وأقول في النساء قالت: يا عدو الله، يا فاضح الحرائر. أنت قد فشا شعرك بالحجاز، وأنشده الخليفة والأمراء، ولم يكن في جارية بعينها؟ يا جواري، أخرجنه. فخرجت الوصائف، فأخرجنني، ودفعنني إلى الجارية، فعجرتني، وقادتني إلى مضربي، فبت بليلة كانت أطول من سنة، فلما أصبحت بقيت هائماً لا أعقل ما أصنع، فما زلت أرقب الوقت؛ فلما كان وقت المساء، جاءتني الجارية، وسلمت علي، وقالت: يا عمر هل رأيت ذلك الوجه! قلت: أي والله. قالت: فتحب أن أريكه ثانية؟ قلت: إذا تكرمت، فتكونين أعظم الناس علي منه، فقالت: على الشريطة؛ فاستخرجت المعجر، وعجرتني وقادتني، فلما توسطت المضرب، فتحت العصابة، عن وجهي، فإذا أنا بمضرب ديباج أحمر مدثر ببياض مفروش بفرش ارمني، فقعدت على نمرقة «1» من تلك النمارق، فإذا أنا بالشمس الضاحية قد أقبلت من وراء الستر تتمايل من غير سكر، فقعدت كالخجلة، فسلمت علي، وقالت: أنت عمر بن أبي ربيعة، فتى قريش وشاعرها؟ قلت: أنا ذاك، قالت: أنت القائل: وناهدة الثديين قلت لها: اتكي ... على الرمل في ديمومةٍ لم توسد فقالت: على اسم الله أمرك طاعةٌ ... وإن كنت قد كلفت ما لم أعود فما زلت في ليلٍ طويلٍ ملثماً ... لذيذ رضاب المسك كالمتشهد فلما دنا الإصباح قالت فضحتني، ... فقم غير مطرودٍ، وإن شئت فازدد فما ازددت منها، واتشحت بمرطها ... وقلت لعيني: اسفحا الدمع من غد فقامت تعفى بالرداء مكانها ... وتطلب شذراً من جمان مبدد

قلت: أنا قائلها. قالت: فمن الناهدة الثديين؟ قلت: يا سيدتي، قد سبق في الليلة الأولى؛ والله، ما هو مني قصد، ولا في جارية بعينها، ولكني رجل شاعر أحب الغزل وأقول في النساء. قالت: يا عدو الله، أنت قد فشا شعرك بالحجاز، ورواه الخليفة، وتزعم أنه لم يكن في جارية بعينها؟ يا جواري، ادفعنه» . فوثبت الجواري، فأخرجنني ودفعنني إلى الجارية، فعجرتني، وقادتني إلى مضربي، فبت في ليلة كانت أطول من الليلة الأولى. فلما أصبحت، أمرت بخلوق، فضرب لي، وبقيت ارقب الوقت هائما؛ فلما كان وقت المساء، جاءتني الجارية، فسلمت علي وقالت: «يا عمر! هل رأيت ذلك الوجه» ؟ قلت: «أي والله» ، قالت: «أفتحب أن أريكه الثالثة» ؟ قلت: «إذن تكونين أعظم الناس علي منة» . قالت: «على الشريطة» ؟ قلت: «نعم» . فاستخرجت المعجر، وعجرتني به، وقادتني حتى أتت بي المضرب، فلما توسطته، فتحت العصابة عن عيني، فإذا أنا في مضرب ديباج أخضر مدثر بحمرة، مفروش بخز أحمر، وإذا أنا بالشمس الضاحية قد أقبلت من وراء الستر كحور الجنان، فسلمت علي وقالت: «أنت عمر بن أبي ربيعة، فتى قريش، وشاعرها» ؟ قلت: «أنا ذاك» ! قالت: أنت القائل: نعب الغراب ببين ذات الدملج ... ليت الغراب ببينها لم يشحج «1» ما زلت أتبعهم وأتبع عيسهم ... حتى دفعت إلى ربيبة هودج قالت: وعيش أخي، وحرمة والدي ... لأنبهن الحي إن لم تخرج فلثمت فاها آخذاً بقرونها ... شرب النزيف ببرد ماء الحشرج فتناولت كفي لتعرف مسها ... بمخضب الأطراف غير مشنج قلت: «أنا قائلها» ، قالت: «يا عدو الله، أنت الذي فضحتها ونفسك، وجهي من وجهك حرام، إن عدت إلي. يا جواري أخرجنه» ! فوثب إلي الوصائف، وأخرجنني، ودفعنني إلى الجارية، فعجرتني

وقادتني، وقد كنت عند خروجي من مضربي ضربت يدي بالخلوق، وأسدلت عليها ردائي؛ فلما صرت إلى باب مضربها، أخرجت يدي، ووضعتها على جانب المضرب وضعاً بيناً، فلما أصبحت، صحت بغلماني وعبيدي، ولي ألف عبد: «من أتاني بخبر المضرب الذي ضرب فيه بكذا وكذا، فهو حر لوجه الله» . فلما كان في وقت المساء، أتتني وليدة سوداء، فقالت: «قد عرفت المضرب، وهو لرملة أخت عبد الملك بن مروان» . فأعتقتها، وأمرت لها بمائتي دينار، وأمرت بمضربي، فقلع، وضرب بحذاء مضربها، وكتب بالخبر إلى عبد الملك بن مروان، فكتب إليها بالرحيل؛ فركبت هودجها، وركبت فرسي، فزاحمتها في بعض الطريق، فأشرفت علي من هودجها، فقالت: «إليك عني، أيها الرجل» ! قلت: «خاتم أو قميص أذكرك به» . فقالت لبعض جواريها: «ألقي إليه قميصاً من قمصي» . فأخذته وأنا أقول: فلا وأبيك ما صوت الغواني ... ولا شرب التي هي كالفصوص أردت برحلتي وأريد خطاً ... ولا أكل الدجاج، ولا الخبيص قميصٌ ما يفارقني حياتي ... أنيسٌ في المقام وفي الشخوص وجعلت أنزل بنزولها، وأركب بركوبها، حتى كنا من الشام على ثلاث مراحل؛ فاستقبلها عبد الملك في خاصته، فدخل إليها ثم قال: «يا رملة، ألم أنهك أن تطوفي بالبيت إلا ليلاً، يحفك الجواري، ويحف الجواري الخدم، ويحف الخدم الوكلاء لئلا يراك عمر بن أبي ربيعة» ؟ قالت: «والله، وحياة أمير المؤمنين ما رآني ساعة قط» ، فخرج من عندها، فبصر بمضربي، فقال: «لمن المضرب» ؟ قيل: «لعمر بن أبي ربيعة» . قال: «علي به» . فأتيته بلا رداء، ولا حذاء، فدخلت عليه وسلمت عليه؛ قال: «يا عمر، ما حملك على الخروج من الحجاز من غير إذني» ؟ قلت: «شوقاً إليك، يا أمير المؤمنين، وصبابة إلى رؤيتك» . فأطرق ملياً، ينكت في الأرض بيده، ثم رفع رأسه فقال: «يا عمر، هل لك في واحدة» ؟ قلت: «وما هي، يا أمير المؤمنين» ؟ قال: «رملة أزوجكها» ، قلت: «يا

أمير المؤمنين، وإن هذا لكائن» ، قال: «أي، ورب السماء» ، ثم قال: «قد زوجتك، فادخل عليها من غير أن تعلم» ، فدخلت عليها، فقالت: «من أنت؟ هبلتك أمك» . فقلت: «يا سيدتي، أنا المعذب في الثلاث» ، فارتحلت وأنا عديلها، فأنشأت أقول: لعمري، لقد نلت الذي كنت أرتجي ... وأصبحت لا أخشى الذي كنت أحذر فليس كمثلي اليوم كسرى وهرمزٌ ... ولا الملك النعمان مثلي، وقيصر فلم أزل معها بأحسن عيشة وغبطة.

أحاديث الجنس

أحاديث الجنس الدبيب «1» : قال الأصمعي: «أخبرني رجل من بني أسد أنه خرج في طلب إبل قد ضلت؛ فبينا هو يسير في بلاء وتعب، وقد أمسى في عشية باردة، إذ رفعت له أعلام، قال: فقصدت بيتاً منها، فإذا أنا بامرأة جميلة ذات جزالة، فسلمت فردت علي السلام، ثم قالت: أدخل، فدخلت، فبسطت لي، ومهدت، وإذا في حرجها صبي أطيب ما يكون من الولدان. فبينا هي تقبّله، إذا أقبل رجل أمام الإبل، دميم المنظر، ضئيل الجسم، كأنه بعرةٌ دمامةً واحتقاراً، فلما بصر به الصبي، هش إليه وعدا في تلقائه، فاحتمله وجعل يقبله ويفديه، فقلت في نفسي: أظنه عبداً لها. فجاءني ووقف بباب الخيمة وسلم، فرددت عليه السلام؛ فقال: «من ضيفكم هذا» ؟ فأخبرته، فجلس إلى جانبها، وجعل يداعبها، فطفقت أنظر إليها تارةً، وإليه أخرى، أتعجب من اختلافهما، كأنها الشمس حسناً، وكأنه القرد قبحا، ففطن لنظري، وقال: «يا أخا بن أسدٍ، أترى عجباً» ؟ قال: «تقول أحسن الناس وجهاً، وأقبح الناس وجهاً، فليت شعري كيف جمع بينهما؟ أخبرك كيف كان ذلك» ؟! قلت: «ما أحوجني إلى ذلك» ! قال: «كنت سابع أخوتي كلهم، لو رأيتني معهم ظننتني عبداً لهم وكان أبي وأخوتي كلهم أصحاب إبل وخيل، وكنت من

بينهم مطروحاً لكل عمل دنيء، للعبودية تارة، ولرعي الإبل أخرى؛ فبينا أنا ذات يوم تعب مكتئب، إذا ضل لنا بعير، فتوجه أخوتي كلهم في بغائه، فلم يقدروا عليه، فأتوا أبي وقالوا: «ابعث فلاناً ينشد لنا هذا البعير» ، فدعاني أبي وقال: «أخرج فانشد هذا البعير» . فقلت: «والله ما أنصفتني ولا بنوك. أما إذا الإبل درت ألبانها، وطارت ركوبها، فأنتم جماعة أهل البيت أربابها، وإذا ندت ضلالها فأنا باغيها» . فقال: «قم، يا لكع، فإني أراه آخر يومك» . فغدوت مقهوراً، خلق «1» الثياب، حتى أتيت بلاداً لا أنيس بها، فطفقت يومي ذلك أجول في القفر، فلما أمسيت، رفعت لي أبيات، فقصدت أعظم بيت منها، فإذا امرأة جميلة مخيلة للسؤدد والجزالة، فبدأتني بالتحية وقالت: «انزل عن الفرس، وأرح نفسك» . فأتتني بعشاء، فتعشيت، وأقبلت هذه تسخر مني وتقول: «ما رأيت كالعشية أطيب ريحاً منك، ولا أنظف ثوباً، ولا أجمل وجهاً» . فقلت: «يا هذه دعيني وما أنا فيه، فإني عنك في شغل شاغل» ، فأبت علي وقالت: «هل لك أن تلج على السجف إذا نام الناس» ؟ فأغراني- والله- الشيطان؛ فلما شبعت من القرى، وجاء أبوها وأخوتها، فضجعوا أمام الخيمة، قمت ووكزته برجلي. قالت: «ومن أنت» ؟ قلت: «الضيف» . قالت: «لا حياك الله، أخرج، عليك لعنة الله» ؛ فعلمت أني لست في شيء من أمرها؛ فوليت راجعاً، فواثبني كلب كأنه السبع لا يطاق، فأراد أكلي، فأنشب أنيابه في مدرعة صوف كانت علي، وجعل يمزقني، فردني القهقرى، وتعذر علي الخلاص، فأهويت أنا والكلب من قبل عقبي في بئر أحسن الله إليّ أنه لا ماء فيه؛ فلما سمعت المرأة الواغية، أتت بحبلٍ فأدلته، وقالت: «إرتق، لعنك الله؛ فو الله لولا أنه يقتص أثري غداً، لوددت أنها قبرك» .

فاعتنقت الحبل، فلما كدت أن أتناول يدها، قضي أن تهور ما تحت قدميها، فإذا أنا، وهي، والكلب في قرارة البئر؛ بئر أيما بئر؟ إنما هي حفرة لا طي لها، ولا مرقاة، كأشد بلية بنا عضاً: الكلب ينبح من ناحية، وهي تدعي بالويل والثبور من ناحية، وأنا منقبع قد برد جلدي على القتل من ناحية. فلما أصبحت أمها، فقدتها، فلما لم ترها، أتت أباها، فقالت: «يا شيخ، أتعلم أن ابنتك ليس لها أثر يحس» ؟ وكأن ابوها عالماً بالآثار، فلما وقف على شفير البئر، ولى راجعاً، فقال لولده: «يا بني! أتعلمون أن أختكم وضيفكم وكلبكم في البئر» ؟ فبادروا كالسباع، فمن بين آخذٍ حجراً، وآخذٍ سيفاً أو عصاً، وهم يومئذ يريدون أن يجعلوا البئر قبري وقبرها؛ فلما وقفوا على شفير البئر، قال أبوهم: «إن قتلتم هذا الرجل، طولبتم بدمه، وإن تركتموه افتضحتم. وقد رأيت أن أزوجها إياه، فو الله ما يقدح لها في نسب ولا في حسب» . ثم قال لي: «أفيك خير» ؟ فلما شممت روح الحياة، وثاب إلي عقلي، قلت: «وهل الخير كله إلا في؟ فهات أحتكم» . فقال: «مائة بكرة وبكرة، وجارية وعبد» ، فقلت: «لك ذلك، وإن شئت فازدد» . فأخرجت أولاً، والكلب ثانياً، وأخرجت ثالثاً، فأتيت أبي، فقال: «لا أفلحت، فأين البعير» ؟ قلت: «أربع عليك، أيها الشيخ، فإنه كان من القصة كيت وكيت» قال: «أفعل، والله، ولا أخذلك» . فدعا بالإبل، فعد منها مائة بكرة وبكرة، وسقناها مع جارية وعبد وأخذت منه هذه غرة نفسها. قال: «والله كذلك، وجعلت تصدف عن حديث زوجها صدوف المهرة العربية سمعت لجامها، وربما قالت: «لا أطاب الله خبرك» . وضده، قال: وقيل لخراش الأعرابي: حدثنا ببعض هناتك. قال خرجت في بغاء ذود لي، فدفعت في عشية شاتية إلى أخبية كثيرة، فضافوا وحيوا ورحبوا، فلما أدرت النوم، أقاموا فتاة لهم من موضع مبيتها،

وجعلوني مكانها لئلاً أتأذى بالغنم. وإني لمضطجع، إذا أنا بيد إنسان يجامشني، ويريد في الظلمة مؤاتاتي؛ فقعدت، فإذا أنا برجل يمد يده، ومعه علبة فيها أرنب مشوية، فأخذتها وجعلتها في شيء كان معي. ثم مد يده ثانياً، فناولته يدي، فأقتبضني على غرمول كمثل الوتد، فلم أنفر منه، ولم أره وحشة؛ وجررت ما عندي، وتناولت يده، فأقبضته على مثل ما أقبضني عليه، ففطن، ورمى بملحفة خز كانت عليه، ووثب مذعوراً، فنفرت الإبل، وهاجت الغنم، وكدت أغشى لما بي من الضحك، وأخفيت ما بي وكتمته. فلما أصبحت، ركبت راحلتي، ومعي الملحفة والأرنب. امتد الضحى، إذا أنا بإبل فأخذت نحوها، فإذا شابٌ حسن الهيئة؛ فسلمت عليه، فرد السلام ثم قال: «إن كان معك ما نأكل مصب من هذا الوطب» . فأخرجت العلبة، فلما رآها عرفها، وقال: «إنك هو» ؟ قلت: «وما هو» ؟ قال: «صاحب البارحة» ؟ قلت: «نعم، إن كنت إياه» قال: «الحمد لله الذي أتى بك، لو لم تأت لظننت أني أوسوس وذلك أني لصاحبة الستر عاشق؛ وتعلم ما فعلت وما فعلت البارحة، ولا تطيّق حتى ابتلاني الله بك البارحة، وجعلت أقول حين أقبضتني عليه: أتراها تحولت رجلاً؟ وإني لفي شك من أمري حتى أتاني الله بك» . فأكلت أنا وهو، الأرنب، وشربنا من اللبن، وصرنا أصدقاء. قال الأصمعي: أتى خالد بن عبد الله أعرابي، فأضافه وأحسن إليه وبذل له صحن الدار؛ فلما كان في بعض الليل، اشرف عليه يتعاهد منه ما كان يتعاهد من ضيفه، فإذا هو قد دب على جارية، وهو على بطنها، فأعرض عنه؛ فما لبث الإعرابي أن فرغ وقام يمسح فيشلته، فضربته عقرب، فصاح واستغاث، وأشرف خالد عليه وهو يقول: وداري إذا نام سكانها ... تقيم الحدود بها العقرب إذا غفل الناس عن دينهم ... فإن عقاربنا تغضب!!

قال: وكان أعرابي ضيفاً لقومٍ، فنظر إلى جارية جميلة، فدب إليها، فإذا عجوز في صحن الدار تصلي، فعاد إلى فراشه، ثم عاودها فنبح الكلب، ثم عاد إليها، فإذا القمر قد طلع، فأنشأ يقول: لم يخلق الله خلقاً كنت أكرهه ... إلا العجوز وعين الكلب والقمر هذا يصيح وهذا يستضاء به ... وهذه شيخةٌ قوامة السحر وقال: وشرب سعيد بن حميد البصري عند راشد، فدب على غلامه، فكتب إليه سعيد: ما سمعنا من قبلها بأديبٍ ... بارع الظرف، ماجدٍ، قمقام «1» ضل عنه، وهو المهذب علماً ... فتكات الكؤوس بالأحلام أين ما جاء من حديث رسول ال ... له مولاي سيد الأحكام ما على مثقلٍ من النوم، والسك ... ران عيبٌ فيما أتى من أثام ثم أين الذي به حكم المأ ... مون في الظرف منه، والإسلام أيما ماجد أراد سروراً ... باجتماعٍ من معشر الندام، فعليه طي البساط بما قد ... سنة السكر من قبيحٍ وذام حلت بيني وبين عقلي بأرطا ... لك، والمترعات من كل جام ثم وكلت في العسوف رشيقاً ... فسقاني بظرفه والمدام، ثم باكرتني بعتبك واللو ... م، لقد حدت عن سبيل الكرام وتغضبت أنني قدت عمراً ... ثم ثنيت، بعده، بغرام هل رأيت الإله يأخذ مجنو ... ناً بسكرٍ، أو حالما في منام لن تراني معاشراً لك ما عش ... ت، ولو دمت عائشاً ألف عام أو ترى تائا، وتستغفر الل ... هـ، لما كان من شنيع الكلام

فأجابه راشد، فقال: يا أبا جعفرٍ، سليل المعالي ... ونجيب الأخوال والأعمام إن يكن قد أتاك عني مزح ... لم يكن عن حقيقةٍ في الكلام أو أكن فيه كالذي كان يغدو ... بملامٍ عليك في اللوام إنني عالمٌ بأنك لم تأ ... ت قبيحاً ولا ارتكاب الأثام هو ذنب المدام لا ذنب خلٍ ... لم يزل حافظاً لعهد الذّمام ثم ذنب العيون يابن حميدٍ ... فله الذنب بعد إست غرام قعدا في طريق أيرك حتى ... عرضاه للظن والإتهام فتغمد أخاك بالصفح فالصف ... ح دليلٌ على سجايا الكرام إنّني تائب واستغفر الّ ... هـ لما كان من شنيع الكلام ما قيل في ذلك من الشعر: فما أعينٌ عشر على ساق نرجسٍ ... تضاحك عين الشمس بالمقل الصفر بأحسن ممن زارني بعد هجعةٍ ... يميس هوينا في الظلام على ذعر قال: ودب رجل على قينةٍ في مجلس، فغنت: ماذا يشوش طرتي ... يا قوم في وقت السحر ماذا يعالج تكتي ... ويلاه عذبني السهر وقال علي بن حمزة: متورد الخدين من خجل ... متخاذل الأعضاء من كسل خاض الدجى، والشوق يحمله ... وأتاك يمشي غير منتعل ما راعني إلا تدافعه ... كالغصن بين الصدر والكفل وقال عمر بن أبي ربيعة المخزومي: قالت، وأبثثتها سري وبحت به: ... «قد كنت عندي تحب السّتر، فاستتر

ألست تبصر من حولي؟» فقلت لها: ... «غطى هواك، وما ألقى، على بصري الباه: حكي عن عالج، جارية مكشوح، أنها حدثت مولاتها أنها كانت تغتسل كل يوم. فسألتها عن ذلك، فقالت: «يا هذه! إنه يجب على المرأة ما يجب على الرجل بعد احتلامه» . قالت: «أو تحتلمين» ؟ قالت: «إنه لا تأتي علي ليلة لا أجامع فيها إلا وأحتلم» . قالت: «فكيف يكون ذلك» ؟ قالت: «أرى كأن رجلاً يجامعني. ولقد رأيت ليلة كأني مررت بد كان أبي مالك الطحان وبغل له واقف قد أدلى، ورماني تحته، وأولجه، فاحتلمت؛ ثم انتبهت، وأنا أجد معكة في مراق بطني، ولذة في سويداء قلبي. وكان هذا البغل إذا أدلى، حك الأرض برأس أيره، وضرب به في بطنه، فترى الغبار يتطاير عن يمينه وشماله» . قال: وكانت مهدية بنت جبير التغلبية تقول: «ما في بطن الرجل بضعة أحب إلى المرأة من بضعة تناط بعقد الحالبين، ومنفرج الرجلين» . حدثني جهمٌ قال. قلت لامرأة من كلب: «ما أحب الأشياء من الرجال إلى النساء» ؟ قالت: «ما يكثر الأعداد، ويزيد في الأولاد، حربة في غلاف تناط بحقوي رجل جاف، إذا غامس أوهى، وإذا جامع أنجى» . قال: وقال أبو ثمامة لامرأة من زبيد، وهي تبكي عند قبر من الميت: لم تبكين؟ قالت: كان يجمع بين حاجبي والساق، ويهزني هز الصارم الأعناق، والله لولا ما ذكرته لك، ما استهلت بالدموع عيناي، وقد كذبتك امرأة تبكي على زوجها لغير ما أعلمتك» . قال: وركب الرشيد حماراً مصرياً، وطاف على جواريه، فقالت له واحدة: «يا مولاي، ما أكثر ما تركب هذا الحمار» ! قال: «لأنه يسب طيغور» ، قالت: «فمن يسب طيغور يركب» ؟ قال: نعم. قالت: «ففي حر أم طيغور» . قال: فنزل ووقعها. وأنشد في مثله: نظرت إليها حين مرت كأنها ... على ظهر عادي فتاةٌ من الجن ولي نظرٌ لو كان يحبل، ناظرٌ ... بنظرته أنثى، لقد حبلت مني

العنين «1» : قال بعضهم: تزوج العجاج امرأة يقال لها الدهناء بنت مسحل، فلم يقدر عليها، فشكت ذلك إلى أهلها، فسألوه فراقها، فأبى، وقال لأبيها، «تطلب لابنتك الباه» ؟ قال: «نعم، عسى أن ترزق ولداً، فإن مات كان فرطاً، وإن عاش كان قرة عين» . فقدموه إلى السلطان، فأجله شهراً ثم قال: قد ظنّت الدّهنا وظنّ مسحل ... الأمير بالقضاء يعجل عن كسلاتي والحصان يكسل ... عن السفاد وهو طرفٌ هيكل ثم أقبل على امرأته، فضمها إلى صدره، فقالت: تنح لن تملكني بضم ... ولا بتقبيل ولا بشم إلّا بزعزاع يسلّي همّي ... يقط منه فتحي في كمي يطير منه حزني وغمي (وروى) ابن أبي الدنيا أن إعرابياً أخبره أن امرأة منهم زفت إلى رجل، فعجز عنها، فتذاكر الحي أمر الضعفاء من الأزواج عن الباه، وامرأة الأعرابي تسمع. فتكلمت بكلام ليس في الأرض أعف منه، ولا أدل على عجز الرجل عن النساء، فقالت متمثلة: تبيت المطايا حائداتٍ عن الهدى ... إذا ما المطايا لم تجد من يقيمها قال الرقاشي: حدثني أبو عبيدة، قال: سمعت ناساً من الحجاز يقولون: تزوج رجل منا امرأة، فعجز عنها، إلا أنه إذا لامسها، ابتأر فيها، فقضي أن حملت، وما مكثت إلا أن رأس ولدها، فجلس في المجلس، فقال له قائل: «لقد جئت من بلل قليل» ، قال: «جئت من بلل لو أصاب مغيض أمك لكان كما قال الشاعر:

رطب الطباع إذا حركت جوهره ... وجدت أعضاءه غرقى من البلل ولم أهجنه إلا أنه رجلٌ ... قلت سلامته من جانب الكفل قال الهلالي» : رأيت وافر بن عصام يساير المهدي، فحدثه بحديث فضحك، فقلت له: «ما لهن عندي إلا حديث ابن حرم» ، قال: «وما حديثه» ؟ قلت: «عمر حتى بلغ الثمانين، فتزوج ابنة عم له، فلما أهديت إليه، قعد بين شقيها، فأكسل، وأراق على بطنها، فأقبل عليها كالمعتذر، فقال: «هذا خير من الزناء» ، قالت: «كل ذلك لا خير فيه» . قال: وشكت امرأة زوجها، وأخبرت عن عجزه إنه إذا سقط عليها انطبق، والنساء يكرهن وقوع الرجل على صدورهن، فقالت: «زوجي عياياء، طباقاء، وكل داء له دواء» . وقيل في ذلك: جزاك الله شراً من رفيقٍ ... إذ بلغت من ركب النساء رماك الله من عرق بأفعى ... ولا عافاك من جهد البلاء أجبنا في الكريهة حين تلقى ... ونفطا حين تغبر في الخلاء؟!

النيروز والمهرجان

النيروز والمهرجان قال الكسروي «1» : «كان أول من أبدع النيروز، وأسس منازل الملوك، وشيد معالم السلطان، واستخرج الفضة والذهب والمعدن، واتخذ من الحديد آلات، وذلل الخيل وسائر الدواب، واستخرج الدر وجلب المسك والعنبر وسائر الطيب، وبنى القصور واتخذ المصانع، وأجرى الأنهار «كيا خسرو بن أبرويز جهان» وتفسيره: حافظ الدنيا بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام. وكان الأصل فيه أنه، في النيروز، ملك الدنيا، وعمر أقاليم إيران شهر، وهي أرض بابل، فيكون النيروز في أول ما اجتمع ملكه، واستوت أسبابه، فصارت سنة، وكان في ملكه ألف سنة وخمسين سنة، ثم قتله البيوراسف، وملك بعده ألف سنة إلى أفريدون بن أثفيان، وفيه يقول حبيب: وكأنه الضحاك في فتكاته ... بالعالمين، وأنت أفريدون فطلب البيوراسف، وملك بعده ألف سنة وخمسين سنة، وأسره بأرض المغرب، وكبله وسجنه بحبل دنياوند، واستوفى عدة ما كتب الله له من عمره، واتفق لأفريدون سجن البيوراسف يوم النصف من مهر ماه ومهر روز، فسمى ذلك اليوم «المهرجان» ؛ فالنيروز لحم، والمهرجان لا فريدون. والنيروز أقدم من المهرجان بألفي وخمسين سنة. وقسم «جمه» أيام الشهر،

وجعل الخمسة الأيام الأولى للأشراف، وبعد خمسة أيام نيروز الملك، يهب فيها ويصل، ثم بعدها خمسة أيام لخدم الملك، وخمسة أيام لخواص الملك، وخمسة أيام لجنده، وبعدها خمسة أيام للرعاع، فذلك ثلاثون يوماً. وابتدع المهرجان أفريدون لما أسر البيوراسف روز مهر، وكان الملك إذا لبس زينته، ولزم مجلسه في هذين اليومين، أتاه رجل رضي الإسم، مختبر باليمن، طلق الوجه، ذلق اللسان، فيقوم قبالة الملك، ويقول: «أئذن لي بالدخول» فسأله: «من أنت؟ ومن أين جئت؟ وأين تريد؟ ومن سار بك؟ ومع من قدمت؟ وما الذي معك» ؟ فيقول: «جئت من عند الأيمنين، وأريد الأسعدين، وسار بي كل منصور، واسمي خجسته، أقبلت معي السنة الجديدة، وأوردت إلى الملك بشارة، وسلاماً، ورسالة» . فيقول الملك: «ائذنوا له» ، فيقول له الملك: «ادخل» ، ويضع بين يديه كوباً من فضة، قد جمع في نواحيه أرغفة قد خبزت من أنواع الحبوب من البر والشعير والدخن والذرة والحمص والعدس والأرز والسمسم والباقلي واللوبيا، وجمع من كل صنف من هذا الحبوب سبع حبات، فجعل في جوانب الخوان، ووضع في وسطه سبعة من قضبان الشجر التي يتفاءل بها وباسمها، ويتبرك بالنظر إليها كالخلاف والزيتون والسفرجل والرمان، منها ما يقطع على عقدة، ومنها على عقدتين، ومنها على ثلاثة، ويجعل كل قضيب باسم كورة من الكور، ويكتب في مواضع «ابزود وابزائد وابزون وبروار وفراخى وفراهيه» تأويله «زاد ويزيد وزيادة ورزق وفرح وسعة» ، ويوضع سبع سكرجات بيض، ودراهم بيض من ضرب سنته، وديناره جديد، وضغث من أسبند، ويتناول ذلك كله، ويدعو له بالخلود وداوم الملك والسعادة والعز، ولا يؤامر يومه في شيء، إشفاقا من أن يبدو منه ما يكره، فجرى على سنته، وكان أول ما يقدم إليه صينية ذهب أو فضة، عليها سكر أبيض، وجوز هندي مقشر رطب، وجامات فضة أو ذهب، ويبتديء باللبن الحليب الطري منه، قد أنقع فيه تمر طري، فيتناول بالنارجيل تميرات، ويتحف من أحب منه، ويذوق ما أحب من الحلوى، وكان يرفع في كل يوم من أيام النيروز بازا أبيض، وكان ممن يتيمن بابتدائه في هذا اليوم، لقمة من اللبن الصرف

الطري والجبن الطري، وكان جميع ملوك فارس يتبركون بذلك، وكان يسرق له في كل يوم نيروز ماء في جرة من حديد أو فضة، ويقول: «استرق هذا الأسعدين، ويتحمل الأيمنين» ، وجعل في عنق الجرة قلادة من يواقيت خضر منظمة في سلك الذهب ممدود، فيها خرز من زبرجد أخضر، ولم يكن يسرق ذلك الماء إلا الأبكار من أسافل دارات الأرحاء، وصنائع الغنى، فكان متى اجتمع النيروز في يوم السبت، أمر الملك لرأس الجالوت بأربعة آلاف درهم، ولم يعرف له سبب أكثر من أن السنة جرت منهم بذلك، فصارت كالجزية، فكان يبنى قبل النيروز بخمسة وعشرين يوماً، في صحن دار الملك، اثنتا عشرة اسطوانة من لبن، تزرع اسطوانة منها براً، واسطوانة شعيراً، وأخرى أرزاً، وأخرى عدساً، وأخرى باقلى، وأخرى دخناً، وأخرى، ذرة وأخرى لوبياء، وأخرى حمصاً، وأخرى سمسماً، وأخرى ماشاً؛ ولم يكن يحصد ذلك إلا بغناء وترنم ولهو. وكان يوم السادس من يوم النيروز، وإذا حصد بثر في المجلس، ولم يكسر إلى روز مهر من ماه فروردين، وإنما كانوا يزرعون هذه الحبوب للتفاؤل بها، ويقال: أجودها نباتاً، وأشدها استواءً، دليل على جودة نبات ما زرع منها في تلك السنة. فكان الملك يتبرك بالنظر إلى نبات الشعير خاصة، وكان مؤدب الرماة يناول الملك يوم النيروز قوساً وخمس نشابات، ويناول الملك قيمه على دار المملكة أترجه، فكان فيما يغني بين يدي الملك، غناء المخاطبة، وأغاني الربيع، وأغاني يذكر فيها أبناء الجبابرة، وتوصف الأنواء، وأغاني أفرين، والخسرواني، والماذراستاني، والفهليد. وكان أكثر ما يغني العجم، الفهليد مع أيام كسرى أبرويز، وكان من أهل مرو، وكان من أغانيه مديح الملك، وذكر أيامه ومجالسه وفتوحه، وذلك بمنزلة الشعر في كلام العرب، يصوغ له الألحان، ولا يمضي يوم إلا وله فيه شعر جديد، وضربٌ بديع. وكان يذكر الأغاني التي يستعطف بها الملك، ويستميحه لمرازبته وقواده، ويستشفع لمذنب، وإن حدثت حادثة، أو ورد خبره كرهوا إنهاءه

إليه، قال فيه شعراً، وصاغ له لحناً، كما كان فعل حين نفق مركوبه شبديز، ولم يجسروا على إنهاء ذلك، فغنى بها وذكر أنه ممدود في آرية، ماد قوائمه لا يعتلف ولا يتحرك، فقال الملك: «هذا قد نفق إذن» . قال: «أنت قلت ذلك أيها الملك» ، وكان يضطره بأشعاره أن يتكلم بالذي يكره عما له أن يستقبلوه به. ذكروا أن العلة في صب الماء، أنه كان أول من تكلم في المهد، قبل المسيح، زو بن طهماسب «1» ، وكان مات أبوه على قحط شديد قد شمل الأقاليم، فتكلم، ودعا الله تبارك وتعالى، فسقي الناس الغيث، وأخصبت أرضهم، وعاشت مواشيهم، فجعلوا صب الماء فيه سنة. وقد حكي أيضاً عن أبي جعفر بن محمد بن علي بن الحسن، عليهم السلام، أنه قال في ذلك: إن أناساً من بني إسرائيل أصابهم الطاعون، فخرجوا من مدينتهم هاربين إلى أرض العراق، فبلغ كسرى خبرهم، فأمر أن تبنى لهم حظيرة يجعلون فيها، لترجع أنفسهم إليهم؛ فلما صاروا في الحظيرة ماتوا، وكانوا أربعة آلاف نفس. ثم أن الله تعالى أوحى إلى بني ذلك الزمان: «إن رأيت محاربة بلاد كذا، فحاربهم ببني فلان» . فقال: «يا رب، كيف أحاربهم، وقد ماتوا» ؟ فأوحى الله إليه: إني أحييهم لتحارب بهم، وتظفر بعدوك، فأمطر الله عز وجل ليلة صب الماء، فأصبحوا أحياء، فهم الذين قال الله تعالى فيهم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ. قال: «هؤلاء قوم أصابتهم محنة من الأزل، قحطوا زماناً فهزلوا، وأجدب بلدهم، فغيثوا في هذا اليوم برشة من مطر، فعاشوا وأخصبت بلادهم، فجعله الفرس سنّة.

وقال كسرى: «يوم الريح للنوم، ويوم الغيم للصيد، ويوم المطر للهو والشراب» . وقال غيره: «يوم السبت يوم مكر وخديعة، والأحد يوم غرس وبناء، ويم الإثنين يوم سفر وطلب رزق، والثلاثاء يوم حجامة، والاربعاء يوم ضنك ونحس، والخمسين يوم الحج، والجمعة يوم مسجد ونساء وكساء» . سئل بعض الحكماء عن البرد، أيه أشد؟ فقال: «إذا أصبحت السماء نقية، والأرض ندية، والريح شاميّة» .

محاسن الهدايا

محاسن الهدايا قال: وكتب الناس في الهدايا، فأكثروا من الكلام المنثور، والشعر الموزون، وكل يكتب ويقول يمقدار عقله وعلمه، حتى قالوا: إنها قرابة وصلة كالرحم الماسة، والقرابة القريبة، وكلحمة النسب؛ وأكثروا من الشفيع، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «تهادوا وتحابوا» ، وقيل: «الهدية تفتح الباب المصمت، وتسل سخيمة القلب» . وروي عن عائشة أنها قالت: «اللطفة عطفة، وتزرع في القلوب المحبة» . قال: كان رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، يقبل الهدية، ويثيب عليها ما هو خير منها» . وقال عليه الصلاة والسلام: «لو أهدي إلي ذراع لقبلت، ولو دعيت إلى كراع لأجبت» . وقال عليه الصلاة والسلام: «الهدية رزق من الله عز وجل، فمن أهدي إليه شيء فليقبله» . وقال صلى الله عليه وسلم: «نعم الشيء الهدية أمام الحاجة، ما أرضي الغضبان، ولا استعطف ولا أستميل الهاجر، ولا توقي المحذور بمثل الهدية والبر» . وقال الله عز وجل: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ، فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ: أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ. وروي أن عاملاً لعلي، رضي الله عنه، قدم من بعض الأطراف، فأهدى إلى الحسن والحسين، سلام الله عليهما، ولم يهد إلى ابن الحنفية، فقال متمثلا:

وما شرّ الثلاثة، أمّ عمروٍ ... بصاحبك الذي لا تصحبينا فأهدى العامل إليه كما أهدى إلى أخويه. وروي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام، أن قوماً من الدهاقين أهدوا إليه جامات فضة، فيها الأخبصة، فقال: «ما هذا» ؟ فقالوا: «يوم نيروز» ! فقال: «نيروزنا كل يوم» ، فأكل الخبيص، وأطعم جلساءه، وقسم الجامات بين المسلمين، وحسبها لهم في خراجهم. وقيل: «إن جلساء المهدي إليه شركاؤه في الهدية، والهدية، تجلب المودة، وتزرع المحبة، وتنفي الضغينة؛ وتركها يورث الوحشة، ويدعوا إلى القطيعة. والهدية تصير البعيد قريباً، والعدو صديقاً، والبغيض ولياً، والثقيل خفيفاً، والعبد حراً، والحرّ عبدا. وفيها قول الشاعر: ما من صديقٍ، وإن أبدى مودته ... يوما يأنجح في الحاجات من طبق إذا تقنّع بالمنديل منطلقاً، ... لم يخش نبوة بوابٍ ولا غلق لا تكثرن، فإن الناس مذ خلقوا ... لرغبةٍ كل ما يعطون أو فرق! وقال آخر: إذا أردت قضاء الحاج من أحدٍ ... قدم لنجواك ما أحببت من سبب إن الهدايا لها حظٌ إذا وردت ... أحظى من الابن عند الوالد الحدب وقد قيل: «كل يهدي على قدره» . وذكروا أن سليمان بن داود، عليه السلام، بينا هو يسير بالريح، إذ أتى على عش قنبرة، فيها فراخ لها، فأمر الريح، فعدلت عن العش، فلما نزل، وافق يومه ذلك النيروز، فجاءت تلك القنبرة، حتى رفرفت على رأس سليمان، وألقت في جحره جرادة، فقيل له في ذلك، فقال: «كل يهدي على قدره» . وكان مما تهديه ملوك الأمم إلى ملوك فارس، طرائف ما في بلدهم، فمن الهند الفيلة والسيوف والمسك والجلود، ومن تبت والصين المسك والحرير والسك والأواني، ومن السند الطواويس والببغاء، ومن الروم الديباج والبسط. وكان القواد والمرازبة والأساورة يهدون النشاب والأعمدة

المصمتة من الذهب والفضة، والوزراء والكتاب والخاصة من قرابانهم جامات الذهب والفضة المرصعة بالجوهر، وجامات الفضة الملونة بالذهب، والعظماء والشراف، البزاة والعقبان والصقور والشواهين والفهود والسروج وآلاتها؛ وربما أهدي الرجل الشريف سوطاً فقبله. وكان الحكماء يهدون الحكمة، والشعراء الشعر، وأصحاب الجوهر الجوهر، وأصحاب الديباج نتاج الدواب، الفرس الفاره، والشهري النادر، والحمار المصري، والبغال الهماليج؛ والظرفاء، قرب الحرير الصيني مملوءة ما ورد؛ والمقلقلة القسي والرماح والنشاب؛ والصياقلة والزرادون، نصول السيوف والدروع والجواشن والبيض والأنسة؛ وكانت نسوة الملك تهدي إحداهن الجارية الناهدة، والوصيفة الرائعة، والأخرى الدرة النفيسة، والجوهرة المثمنة، وفص خاتم، وما لطف وخف؛ وأصحاب البز، الثوب المرتفع من الخز والوشي والديباج وغير ذلك، والصيارفة نقر الذهب والفضة، وجامات الفضة مملوءة دنانير، وأوساط الناس دنانير ودراهم من ضرب سنتهم، مودعة أترجة أو سفرجلة أو تفاحة، والكاتب واقف يكتب كل مهدٍ، وجائزة كل من يجيز الملك على هديته ليودع ذلك ديوان النيروز. ومن الهدايا التي لم يسمع السامعون بمثلها، هدية أبرويز إلى ملك الروم، بعقب محاربة بهرام جوبين، وقد شارف الروم، فأنفذ رسولاً يستنجده، وبعث إليه مائة غلام من أبناء الأتراك مختارين في صورهم ونفوسهم، في آذانهم أقرطة الذهب، معلق فيها حب الدر على مراكب بسروج الذهب، منظمة باليواقيت والزمرد، وبعث معه بمائدة من عنبر، فتحها ثلاثة أذرع، مكللة المستدار بالدر، لها ثلاث قوائم من ذهب: إحداها ساعد أسد مع كفه، والأخرى ساق وعل مع ظلفه، والثالثة كف عقاب. في كف الأسد ياقوتة خضراء، وبين ظلفي الوعل ياقوتة حمراء، وفي كف العقاب قبجة من اللازورد، عيناها ياقوتتان حمراوان تتوقدان حمرة، وفي وسط المائدة جام من جزع يماني فاخر، فتحة شبر في شبر، مملوء يواقيت حمراً، وسفط ذهب فيه مائة درة، كل درة مثقال، ومائة لؤلؤة، كل لؤلؤة

مثقال:، ومائة خاتم من ذهب مرصع بالجوهر، مشبك الأعلى، حشوه مسك وعنبر، ووصل رسل أبرويز إلى ملك الروم بهذه الهدية، فأنجده، وأرسل إليه عشرين ألف فارس بالسلاح الشاك، وبعث إليه بألفي ألف دينار لأرزاق جنده، وألف ثوب منسوج، وعشرين جارية من بنات ملوك الصقالبة بأقبية الديباج المطير. في آذانهن أقرطة الذهب المزينة بالدر والياقوت وعلى رؤوسهن، أكلة الجوهر. وأنفذ إليه عشرين مركباً، على كل مركب صليب، تحت كل صليب ألف فارس وألف برذون وألف شهري وألف بغلة وألف نجيب، بسروج مذهبة، وأكف مذهبة، ولجم من ذهب مصبوب، وبرادع مذهبة، وجلال وبراقع ديباج منسوج بالذهب واللؤلؤ، وأوقر البغال، من السندس والأستبرق والذهب واللؤلؤ. وبعث إليه مساحة جريب أرض من ذهب، فيه نخلٌ من ذهب، سعفه الزمرد، وطلعه اللؤلؤ، وشماريخه الياقوت الأحمر، وكربه الجزع. إليه بعث ألف ألف «لؤلؤة، كل لؤلؤة ألف دينار، وبعث إليه ألف ألف درهم، مثاقيله ألف ألف دينار خسرواني، وأتى به، واعتذر إليه من التقصير، فقابله ملك الروم عامه المقبل يوم النيروز، بفارس من ذهب على شهري من فضة، عينا الشهري جزع أبيض، محدق بسواد، وناصيته وعرفه وذنبه شعر أسود، بيد الفارس صولجان من ذهب، وإلى جانبه ميدان من فضة، في وسط الميدان كرة عقيق أحمر، يحمل الميدان ثوران من فضة، والشهري يبول الماء، فإذا بال، انحط الصولجان على الكرة، فمر بها إلى أقصى الميدان، فتحرك بحركاتها الثوران والميدان، ويركض الفارس على عجل تحت حوافر الشهري. فأما أهل الإسلام، فلم يسمع بمثل هدية حسان النبطي إلى هشام بن عبد الملك، فإنه أهدى إليه وإلى أمهات أولاده هدايا كثيرة من الكساء والعطر والجوهر وغيرها، فاستكثرها هشام، وقال: «بيت المال أحق بهذا» ثم أمر

فنودي عليها، فبلغت مائة ألف دينار، فبعث حسان أثمانها، وقال: «يا أمير المؤمنين، قد طابت الآن، هذه مائة ألف دينار تحمل إلى بيت المال، فأقبل هديتي» ؛ فقبلها، ونادى على مناديه حسان، سيد موالي أمير المؤمنين: «قد طابت الآن هذه» . واستملح المأمون من أبي سلمة ذكر هدية لطيفة، قال: أهدي إلى أمير المؤمنين خوانا من جزع، ميلاً في ميل، فقال المأمون: «أو قبضت الهدية» ؟ قال: «نعم» . قال: «أفهي في داري أم داري فيها» ؟ قال: «بل هي في منديل» . فدعا بهديته، فإذا خوان من جزع عليه ميل من ذهب، وقد صنع من مائة مثقال بطول الخوان وعرضه، فاستملحه وقبله. وأهدت أسماء بنت داود إلى أسماء بنت المنصور مائة مركن من فضة، فيها أنواع اللخالخ والريحان المطيب، ومائة جفنة مطيبة، وأنواع من الأطعمة والأشربة، وعشراً من الوصائف في قد واحد، فقومت هديتها، فبلغت خمسين ألف دينار. وبعث الحسن بن وهب إلى المتوكل بجام من ذهب، فيه ألف مثقال من العنبر، وكتب إليه: يا إمام الهدى، سعدت من ال ... دّهر بركن من الإله، عزيز وبظلٍ من النعيم مديد، ... ويحرز من الليالي، حريز لا تزل ألف حجةٍ مهرجانٍ ... أنت تفضي به إلى النيروز ونعيمٍ ألذ من نظر المعشو ... ق، من بعد نبوةٍ ونشوز قال خالد المهلبي: «أهديت إلى المتوكل في يوم نيروز ثوب وشيٍ منسوج بالذهب، ومشمة عنبر، عليها فصوص جوهر مشبك بالذهب، ودرعاً مضاعفة، وخشبة بخور نحو القامة، وثوباً بغدادياً يقطع ثوباً. فأعجبه حسنه، ثم دعا به، فلبسه، وقال: «يا مهلبي، إنما لبسته لأسرك به» ، فقلت: «يا أمير المؤمنين، لو كنت سوقة لوجب على الفتيان تعلم الفتوة منك، فكيف وأنت سيد الناس، وأحسن من جميع ما تقدم ذكره، قول عبد

الله العباسي، والي الحرمين، فإنه قال: «هذا يوم يهدى فيه إلى السادة والعظماء، والواجب أن أهدي سيدي الأكبر» . ثم دعا بعشرة آلاف دينار، فقسمها على أهل الحرمين، فكانت فكرته في هذا، أحسن من فعله. كتب سعيد بن حميد إلى بعضهم: «النفس لك، والمال منك. غير أني كرهت أن أخلي هذا اليوم من سنة، فأكون من المقصرين، أو أدعي أن في ملكي ما يفي بحقك، فأكون من الكاذبين. وقد وجهت إليك بالسفرجل لجلالته، والسكر لحلاوته، والدرهم لنفاقه، والدينار لعزه؛ فلا زلت جليلاً في العيون، مهيباً في القلوب، حلواً لأخوانك كحلاوة السكر، عزيزا بعد الملوك، لا تحسن أمنيتهم إلا بك، ولا زلت نافقاً كنفاق الدرهم» . وأهدى أحمد بن يوسف إلى إبراهيم بن المهدي، وكتب إليه: «الأمراء، أعزك الله، تسهل سبيل الملاطفة في البر، فأهديت هدية من لا يحتشم إلى من لا يغتنم مالاً، فلا أكثره تبجحاً، ولا أقله ترفعا» . وقال: كتب الحسن بن وهب إلى المتوكل في يوم نيروز بهذه الرقعة: «أسعدك الله، يا أمير المؤمنين، بكر الدهور، وتكامل السرور، وبارك لك في إقبال الزمان، وبسط بين خلافتك الآمال، وخصك بالمزيد، وأبهجك بكل عيد، وشد بك أزر التوحيد، ووصل لك بشاشة أزهار الربيع المونق، بطيب أيام الخريف المغدق، وقرب لك التمتع بالمهرجان والنيروز، بدوام بهجة أيلول وتموز، وبمواقع تمكين لا يجاوزه الأمل، وغبطة إليها نهاية ضارب المثل؛ وعمر ببلائك الإسلام، وفسح لك في القدرة والمدة، وأمتع برأفتك وعدلك الأمة، وسر بلك العافية، ورداك السلامة، ودرعك العز والكرامة، وجعل الشهور لك بالإقبال متصدية، والأزمنة إليك راغبة متشوقة، والقلوب نحوك سامية، تلاحظك عشقاً، وترفرف نحوك طرباً وشوقاً» . وكتب في آخره: فداك الزمان، وأهل الزمان ... إمام الهدى بك مستبشرينا وقد ألقوا إليك مقاليدهم ... جميعاً مطيعين، مستوثقينا

ولا زلت زيناً لأعيادنا ... وللدين كهفاً وحصناً حصينا يعز بدولتك الصالحون ... ويشقى بك الشرك والمشركونا فيا رب مشكلةٍ أبرقت ... فجللتها السيف حقّا يقينا وسمت النصارى بشيطانها ... وذللت منها الأغر البطينا «1» وكم فعلةٍ لك في المشركين ... أقرت عيوناً، وأبكت عيونا! وكتب آخر: المهرجان لنا يومٌ نسر به ... يومٌ تعظمه الأشراف والعجم وأنت فيه لنا بدر يضيء كما ... أن السماء ببدر الليل تبتسم وكتب آخر: عيدٌ جديدٌ، وأنت جدته ... يا من به للزمان تجديد لا زال طول الزمان يرجعه ... وظل ملكٍ عليك ممدود وقيل للمازني: أي هؤلاء أظرف في شعره الذي يقول: جعلت فداك، للنيروز حقٌ ... فأنت علي أعظم منه حقاً ولو أهديت فيه جميع ملكي ... لكان جليله لك مستدقا فأهديت الثناء بنظم شعرٍ ... وكنت لذاك مني مستحقا! أم الذي يقول: دخلت السوق أبتاع ... وأستطرف ما أهدي فما استطرفت للإهدا ... ء إلا طرف الحمد إذا نحن مدحناك ... رعينا حرمة المجد! أم الذي يقول:

وكم من مرسل لك قد أتاني ... بما يهدي الخليل إلى الخليل فأظهرت السرور وقلت: أهلاً ... وسهلاً بالهدية والرسول فقال: أشعرهم جميعهم، وأظرفهم الذي يقول: فو الله لا أنفك أهدي شوارداً ... إليك يحملن الثناء المبجلا ألذ من السلوى، وأطيب نفحة ... من المسك مفتوتاً، وأيسر محملا وبعث سعيد بن حميد إلى أحمد بن أبي طاهر قارورة ماورد، وكتب إليه: وزائرةٍ حوريةٍ فارسيةٍ ... كنشر حبيبٍ حاد يوماً عن الصد ترد ربيعاً في مصيفٍ بنفحةٍ ... إذا فقدت ورداً تنوب عن الورد حكى نشرها منه خلائق نشره ... كنشر نسيم الروض في جنة الخلد وشبهتها في صفوها بصفائه ... لإخوانه في القرب منه وفي البعد وأهدت لنا منه النسيم نسيمةٌ ... وإن كان إن حالت، يدوم على عهد وعن إسحق بن إبراهيم الموصلي، قال: دار كلام بين الأمين، وبين إبراهيم بن المهدي؛ قال: فوجد عليه الأمين، فهجره، فوجه إليه إبراهيم بوصيفة مغنية مع عبد هندي، فأبى الأمين أن يقبلهما، فكتب إليه: هتكت الضمير برد اللطف ... وكشفت هجرك لي فانكشف فإن كنت تحقد شيئاً مضى ... فهب للخلافة ما قد سلف وجد لي بعفوك عن زلتي ... فبالفضل تأخذ أهل الشّرف فرضي عنه، ودعاه للمنادمة!! قال ابن حمدون النديم: افتصد المأمون، فأهدى إليه إبراهيم بن المهدي جارية، معها عود ورقعة فيها: عفوت وكان العفو منك سجيةً ... كما كان معقوداً بمفرقك الملك فإن أنت أتممت الرضى فهو المنى ... وإن أنت جازيت المسيء فذا الهلك

فقال المأمون: خرف الشيخ. يوم مثل هذا، يذكر الثواب والآخرة، فلا يقبل الوصيفة؛ واغتم إبراهيم، وكتب إليه مع الوصيفة: لا والذي تسجد الجباه له ... ما لي بما دون ثوبها خبر ولا بفيها، ولا هممت بها، ... ما كان إلا الحديث والنظر «1» فقال المأمون: «نعم الآن أقبلها» ، فقبلها. قال أبو القاسم بن أبي داود: كنت عند أحمد بن محمد العلوي، وقد افتصد، فخرج بعض الخدم، ومعه طبق من فضة، عليه تفاح طيب مكتوب حواليه بالذهب: سر، الغداة، بوجهك اللغب، ... وجرى بيمن فصادك الطرب وتداعت العيدان في زجلٍ ... وتناولت راحاتها النخب فأشرب بهذا الجام يا ملكي ... شرباً حثيثاً، إنه عجب واجعل لمن قد خف في لطفٍ ... من زوره يخشى ويرتقب! فقال للخادم: «أخرجها إلى الستارة» ، فخرجت، وخلا ليلته بها. وقيل: افتصد المعتصم، وأهديت إليه «شمائل» صينية عقيق، عليها قدح أسبل عليها منديل مطيب مكتوب عليه بالعنبر، في كل ربع منه بيت شعر: خضب الخليفة كفه من فصده ... بدمٍ يحاكي عبرة المشتاق تاه الفصاد فما يقام لتيهه ... إذ صار مفتصداً أبو إسحاق وتوافت العيدان عند حضوره ... قب البطون، ذوابل الأعناق ملكٌ إذا خطر الشراب بباله ... لبس السرور غلائل الإشراق فلما قرأه أمر بإحضار إسحاق بن إبراهيم الموصلي، وأمره أن يجعل له

لحناً، وأمر مسروراً بإخراجها من وراء الستارة؛ ثم لم يزل إسحاق يردد هذه الأبيات حتى احكمتها شمائل، وغنت، فكأن سقط الدر يتناثر من فيها؛ وأمر لإسحق بمال، وللجارية بخمس وصائف، وخمسة آلاف دينار. قال المبرد: أهدى اليزيدي «1» إلى الرشيد، يوم فصد، جام بلور، وشمامات غالية، وكتب إليه: يا أمير المؤمنين؛ تفاءلت في الشرب في الحمام بجمام النفس، ودوام الأنس، والغالية للغلو في السرور، ولا زدياد من الخير والحبور، وقلت: دم الفصد من يدك العاليه ... يداعي لجسمك بالعافية كسا الدهر ثوباً من الأرجوان ... بديع الطرازين والحاشية وعصفر صفحة وجه الرّبيع، ... بصبع من أسراره الجارية فكم روضةٍ نشرت وشيها، ... وزهرة روضٍ غدت زاهيه إمامٌ أسال دم المكرمات ... فشجج أقتالها الحاميه فلا زال في عيشةٍ راضيه ... ودامت له النعمة الكافيه قال اليزيدي: افتصد المأمون، فأهدت إليه: «رباح» أترجة عنبر عليه مكتوب بماء الذهب: تعالج من هويت بفصد عرقٍ ... فأضحى السقم في خلع الخضوع وجاءت تحفة الأحباب تسعى ... بوردٍ فائضٍ فيض الدموع! فقال المأمون لليزيدي: «ويحك، ما تقول فيمن كتب هذين البيتين» ؟ قال: «يكافأ بالدنيا وما استدق منها» ، فأمر لها بمال كثير، ووصلني ببعضه.

قال: وافتصد عبد الله بن طاهر، فأهدى له «أبو دلف» جميع ما أصاب في السوق من الورد، وكتب إليه: تضاحك الورد في وجهي، فقلت له: ... لم ذا؟ فقال: أبو العباس مفتصد؟ فقمت أطلب ما أهديه من طرف ... للفصد في السّوق، حيت خانني الجلد يوم الفصاد له أزرٌ مطيبةٌ ... محجوبةٌ لا يراها الجرد والزرد فاشرب على الورد مسرورا بطلعته ... يابن الكرام، فأنت السيد النجد قال عمرو بن بانة: اعتل المعتصم، فأشار عليه بختيشوع بالفصد، وأنا عنده، فأخرجت إليه هدايا الفصد، وكان فيما أخرج، طبق صندل مكتوب عليه بجزع، كما يدور عليه شمامات مسك وعنبر، فأمر بقراءة ما عليه، فإذا هو: فصد الإمام لعلةٍ في جسمه ... فشفى الإله السقم بالفصد وجرى إلى الطشت السقام مبادراً ... وجرى الشفاء إليه بالسعد يا مالكاً ملك العباد بجوده ... إسلم، سلمت، بعيشة رغد! فقال: يا عمرو! من يلومني على حب هذه الجارية، والله ما أراها إلا تزايدت في عيني، وخليقٌ أن تنجب، فإن لها همة» . فولدت غلاماً، وكانت آثر جواريه عنده، وأحظاهن لديه. وأخبرنا إبراهيم القارىء قال: كنت عند المأمون، فأحتاج إلى الفصد، فقال الأطباء: «البلد بارد» ، فقال: «لا بد لي منه» ؛ ففصدوه، فلما كان وقت الظهر، حضروا، فراموا فجر العرق؛ فإذا هو قد التحم، فشدوا الرباط، وفيهم (متحا) يدق، فما ظهر الدم، فقال لهم المأمون: «عقرتموني» ، فحلوا الرباط، وعلى رأسه بختيشوع وابن ماساويه، فقال: ما تقولون» ؟ قالوا: «ما ندري ما نقول» ؟ قال: فأشاروا هناك إن جلالة الخليفة، ربما أدهشت الحاذق بالصناعة، والمتقدم في الرياسة؛ فاعتزلوا ناحية، وأبطأوا عليه، فقال لأسودٍ كان على رأسه: «أدن، فمص الجرح» ففعل، فثار الدم فقال: «أدع

هؤلاء الحاكة» ، فجاؤوا، وشهدوا خروج الدم؛ قال: «أين كنتم» ؟ قال ابن ماسويه: «لو فعل جالينوس، ما زاد عليه» . قال: وافتصد أحمد بن عيسى بالري، وهو أميرها، فكتب إليه جعفر الشيباني: فصدت بأرض الري، طاب لك الفصد ... وفارق نجم النحس طالعك السعد فأعقبك الحسنى التي لا مدى لها، ... ولا زال برديك الجلالة والحمد توردت الدنيا بفصدك مثل ما ... بفصدك يابن المصطفى صحك الورد فلا أبصرت عيناك ما عشت شانياً ... ومن كل ما تهواه، لا خانك العهد وفي مثله: يا فاصداً من يدٍ جلت أياديها ... ونال منه الذي يرجوه راجيها يد الندى هي، فارفق لا ترق دمها ... فإن آمال طلاب الندى فيها قال: وكتب الحمدوني إلى الفضل بن جعفر، وقد افتصد: ألا يا طبيب الفصد، هل أنت عالمٌ ... بما صنعت كفاك في كف ذي المجد أسلت دماً من ساعدٍ ينثني بها ... حياءٌ ندى فاقصد بذرعك في الفصد فداويت كفاً تعلم النّاس أنها ... دواء من اللأمحال في الزمن النكد ولما أتانا المخبرون بفصده ... أردت بأن أهدي على قدر ما عندي وشاورت فاستصحبت آلي وجيرتي ... فلم أر أمرى من ثناءٍ ومن حمد! وقال آخر: تؤنق من ثنائك في الهدايا ... غداة أردت فضل الباسليق فلم أر كالدعاء أتم نفعاً ... وأجمل في مكافأة الصديق وأكثرت الدعاء، وقلت: ربي ... يقيك شرور آفات العروق وقال آخر: على طيب أيام التمتع بالورد ... فصدت، فأصبحت السلامة في الفصد

ولا زلت، لا زالت من الله أنعمٌ ... عليك قرير العين، مغتبط الحسد لقد رمت جهدي طرفةً وهديةً ... إليك، فكان الشكر أكثر ما عندي وقال آخر: أيها الفاصد العليل الصحيح ... بأبي ذلك الجراح الجريح، إن من علق الدراع من الفص ... د إلى الجيد ذاك شيء مليح أيها الفاصد المهنا له الورد ... وفي وجنتيه وردٌ يلوح وقال آخر: أيها السيد الذي فصد العرق ... وأرخى دوني ذيول السرور كم تمنيت أن أكون طبيباً ... ومنى الصب ترهات الغرور وقال آخر: أجمل، جعلت فداك، بالجلد ... وامنن علي بأجمل الرد لو عاينت عيناك مضطربي ... وتفردي بالمد والشد وتخشعي عند الطبيب كأنه ... مولى يريد عقوبة العبد كالنار مبضعه يقلبه ... ويدير مقلة حازمٍ جلد حتى اعتزمت على محاجزةٍ ... وصددت عنه أيما صد ما كان من ألمٍ شعرت به ... إلا كموقع شرطة الجلد إذ سال منبعثاً سوابقه ... كالنار خارجةً من الزند فسلمت والرحمن سلمني ... ذو المن والآلاء والحمد ما بعد طباخي لمفتخر ... فخر لمن قبلي ومن بعدي فأجاد صنعتها وعجلها ... من غير ما تعبٍ ولا جهد ونبيذنا صافٍ ومجلسنا ... في الطيب يحكي جنة الخلد فهلم واحضر غير محتشمٍ ... واجعل غذاءك، سيدي، عندي لا تجمعن علي محتسبا ... ضعف العليل، ووحشة الفرد

القيان

القيان قال الأصمعي بعث إليّ هارون الرشيد، وهو بالرقة فحملت إليه، فأنزلني الفضل بن الربيع، ثم أدخلني عليه وقت الغروب، فاستدناني، وقال: يا عبد الملك، وجهت إليك بسبب جاريتين أهديتا إليّ، وقد أخذنا طرفاً من الأدب أحببت إن تبرز ما عندهما، وتسير على الصواب فيهما، ثم أمر بإحضار هما فحضرت جاريتان ما رأيت مثلهما قط، قلت لإحداهما، «ما عندك من العلم» ؟ قالت: «ما أمر الله في كتابه، ثم ما ينظر فيه الناس من الأشعار والأخبار» . فسألتها عن حروف القرآن، فأجابتني كأنها تقرأ في كتاب الله. ثم سألتها عن الأشعار والأخبار والنحو والعروض، فما قصرت عن جوابي في كل من أخذت فيه. فقلت لها: فأنشدينا شيئاً فأنشدت: يا غياث البلاد في كل محل ... ما يريد العباد إلا رضاكا لا ومن شرف الإمام، وأغلى ... ما أطاع الإله عبدٌ عصاكا فقلت: يا أمير المؤمنين! ما رأيت امرأة في نسك رجل مثلها، وخبرت الأخرى، فوجدتها دونها، فأمر أن تصنع تلك الجارية لتحمل إليه في تلك الليلة، ثم قال لي: «يا عبد الملك، أنا ضجرٌ، وأحب أن تسمعني حديثاً مما سمعت من أعاجيب الزمان نفرح به» . فقلت: يا أمير المؤمنين! كان لي صاحب في بدو بني فلان، وكنت أغشاه، وأتحدث معه، وقد أتت عليه ست وتسعون سنة، وهو اصح الناس ذهناً، وأقواهم بدناً، فغبت عنه، ثم أتيته، فوجدته ناحل البدن، كاسف البال، فسألته عن سبب تغيره، فقال: قصدت بعض القرابة، فألفيت عندهم جارية قد طلت بالورس بدنها، وفي عنقها طبل تنشد عليه: محاسنها سهامٌ للمنايا ... مريشةٌ بأنواع الطيوب ترى ريب المنون بهن سهماً ... تصيب بنصله مخ القلوب فقلت: قفي شفتي من موضع الطبل ترتعي ... كما قد أبحت الطبل في جيدك الحسن

فهبني عوداً جوفه تحت متنه ... يمتعني ما بين نحرك والذقن!! فلما سمعت شعري رمت بالطبل في وجهي، ودخلت الخيمة، فوقفت حتى حميت الشمس على مفرقي ولم تخرج، فانصرفت قريح القلب، فهذا التغير من عشقي لها» . فضحك الرشيد حتى استلقى، وقال: «ويلك، يا عبد الملك! ابن ستٍ وتسعين وتعشق» ؟! فقلت: «قد كان هذا» ! فقال: «يا عباس، أعط عبد الملك مائة ألف درهم، ورده إلى مدينة السلام» . فانصرفت، ثم أتاني خادم، فقال: «أنا رسول ابنتك يعني الجارية، تقول لك: إن أمير المؤمنين قد أمر لها بمال، وهذا نصيبك» ، فدفع إلي ألف دينار، ولم تزل تواصلني بالبر الواصل حتى كانت فتنة محمد، وانقطع خبرها، وأمر الفضل لي بعشرة آلاف درهم. وعن علي بن الجهم لما أفضت الخلافة إلى المتوكل، أهدى إليه الناس على أقدارهم، فأهدى إليه ابن طاهر جارية أديبة تسمى «قبيحة» ، تقول الشعر وتلحنه، وتحسن من كل علم أحسنه، فحلت من قلب المتوكل محلاً جليلاً، فدخلت يوماً للمنادمة، وخرج المتوكل وهو يضحك، وقال: يا علي، دخلت فرأيت «قبيحة» كتبت على خدها بالمسك «جعفر» ، فما رأيت أحسن منه، فقل فيه شيئاً، فسبقتني محبوبة، وأخذت عودها فغنت: وكاتبةٍ بالمسك في الخد جعفرا ... بنفسي خط المسك من حيث أثرا لئن أودعت سطراً من المسك خدها ... لقد أودعت قلبي من الوجد أسطرا فيا من لمملوكٍ يظل مليكه ... مطيعاً له فيما أسر وأجهرا ويا من لعيني من رأى مثل جعفرٍ ... سقى الله صوب المسكرات لجعفرا قال: فنقلت خواطري، حتى كأني ما أحسن حرفاً من الشعر، وقلت للمتوكل: «أقل، فقد، والله، غرب عني ذهني» ، فلم يزل يعيرني به، ثم دخلت عليه للمنادمة، بعد ذلك، فقال: «يا علي، أعلمت أني قد غاضبت «محبوبة» ، وأمرتها بلزوم مقصورتها، ومنعت أهل القصر من

كلامها» ؟ فقلت: «يا سيدي، إن غاضبتها اليوم، فصالحها غداً» ، فدخلت عليه من الغد، فقال: ويحك، يا علي، رأيت البارحة في النوم كأني صالحت محبوبة، فقالت جاريته: شاطر يا سيدي، لقد سمعت الآن في مقصورتها هينمة، فقال: ننظر ما هي، فقام حافياً حتى وصلنا مقصورتها، فإذا هي تغني: أدور في القصر كي أرى أحداً ... أشكو إليه فلا يكلمني فمن شفيعٌ لنا إلى ملكٍ ... قد زارني في الكرى يعاتبني حتى إذا ما الصباح عاد لنا، ... عاد إلى هجره ففارقني فصفق المتوكل طرباً، فلما سمعته، خرجت تقبل رجليه، وتمرغ خدها في التراب، حتى أخذ بيدها، راضياً عنها. حدث أبو علي بن الأسكري المصري، «وأسكر هي القرية التي ولد فيها موسى عليه السلام» ، قال: كنت من جلاس تميم بن تميم، وممن يخف عليه، فأتى من بغداد بجارية رائعة فائقة الغناء، فدعا بجلسائه، وقدمت الستارة، فغنت: وبدا له، من بعد ما اندمل الهوى ... برقٌ تألق موهناً لمعانه يبدو كحاشية الرداء، ودونه ... صعب الزرى، متمنعٌ أركانه وبدا لينظر كيف لاح، ولم يطق ... نظراً إليه، وهده هيجانه فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه ... والماء ما سحت به أجفانه قال: فأحسنت ما شاءت، فطرب تميم ومن حضر، ثم غنت: سيسليك مما دون دولة مفضلٍ ... أوائله محمودةٌ وأواخره ثنى الله عطفيه، وألف شخصه ... على البر مذ شدت عليه مآزره فطرب تميم ومن حضر، ثم غنت: استودع الله في بغداد لي قمراً ... بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه

فأفرط تميم في الطرب جداً، وقال لها: «تمني ما شئت، فلك مناك» ، قالت: «أتمنى أيها الأمير، عافيته وسلامته» ، فقال: «والله لا بدّ أن تتمني» ! فقالت: على الوفاء، أتمنى أن أغني هذه النوبة ببغداد» . فتغير وجه تميم، وتكدر المجلس، وقمنا، فلحقني بعض خدمه، فردني، فلما وقفت بين يديه، قال: «ويحكم، أرأيت ما امتحنا به، ولا بدّ لنا من الوفاء، ولم أثق في هذا بغيرك، فتأهب لحملها إلى بغداد، فإذا غنت هناك، فاصرفها» ، فقلت: «سمعاً وطاعة» . ثم أصحبها جارية سوداء تخدمها وتعدلها، وأمر بناقة لي، فحمل عليها هودج، وأدخلت فيه، وسرنا مع القافلة إلى مكة، فقضينا حجنا، ثم لما وردنا «القادسية» ، أتتني السوداء فقالت: «تقول لك سيدتي أين نحن» ؟ فقلت: «نحن الآن بالقادسية» . فأخبرتها، فسمعت صوتاً قد ارتفع منشداً: لما رأينا القادسية ... حيث مجتمع الرفاق وشممت من أرض الحجاز ... نسيم أنفاس العراق أيقنت لي ولمن أحب ... بجمع شملٍ واتفاق وضحكت من فرح اللقا ... ء، كما بكيت من الفراق فصاح الناس من أقطار القافلة: أعيدي بالله، فلم يمسع لها كلمة. فلما نزلنا «الناصرية» ، على خمسة أميال من بغداد، في بساتين متصلة، تبيت الناس فيها، ثم يبكرون ببغداد، فلما قرب الصباح، إذ السوداء قد أتتني مذعورة، فقالت: «إن سيدتي ليست بحاضرة» ، فلم أجدها، ولا وجدت لها ببغداد خبراً، فقضيت حوائجي، وانصرفت إلى تميم، وأخبرته خبرها، فلم يزل واجماً عليها. وأخبار القينات كثيرة، فنقتصر منها على هذا القدر. قيل: كان يقال: من أراد قلة المؤونة، وخفة النفقة، وحسن الخدمة، وارتفاع الحشمة، فعليه بالإماء دون الحرائر» . وكان مسلمة بن مسلمة يقول: «عجبت لمن استمتع بالسراري، كيف يتزوج المهائر» ؟

وقال: «السرور باتخاذ السراري» ، أهل المدينة يكرهون اتخاذ الإماء أمهات أولادهم، حتى نشأ فيهم علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم، وفاق أهل المدينة فقهاً وعلماً وورعاً، فرغب الناس في اتخاذ السراري، قال: وليس من خلفاء بني العباس من أبناء الحرائر إلا ثلاثة: السفاح، والمنصور، والأمين، والباقون كلهم أبناء الجواري، وقد علقت الجواري لأنهن يجمعن عز العرب، ودهاء العجم. وضده: إذا لم يكن في منزل المرء حرةٌ ... رأى خللاً فيما تولى الولائد فلا يتخذ منهن حرٌ قعيدةٌ ... فهن لعمر الله، شر القعائد وكان يقال: «الجواري كخبز السوق، والحرائر كخبز الدور» . ومن أمثال العرب: «لا تمازح أمة، ولا تبك على أكمة» «1» ، وقال بعضهم: «لا تفترس من تداولتها أيدي النخاسين ووقع ثمنها في الموازين» ، وقال: «لا خير في بنات الكفر، وقد نودي عليهن في الأسواق، ومرت عليهن أيدي الفساق» .

محاسن الموت

محاسن الموت في الحديث المرفوع: «الموت راحة» . وقال بعض السلف: ما من مؤمن إلا والموت خير له من الحياة، لأنه إن كان محسناً فالله يقول: وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ. وإن كان مسيئاً، فالله تعالى جده يقول أيضاً: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً» . وقال ميمون بن مهران: «أتيت عمر بن العزيز، فكثر بكاؤه، ومسألته الله الموت. فقلت: «يا أمير المؤمنين! تسأل ربك الموت، وقد صنع الله على يدك خيراً كثيراً، أحييت سنناً، وأمت بدعاً، وفعلت وصنعت، ولبقاؤك رحمة للمؤمنين» ، فقال: «ألا أكون كالعبد الصالح حين أقر الله عينه، وجمع له أمره، قال: «رب قد آتيتني من الملك، وعلمتني من تأويل الأحاديث» إلى قوله: «وألحقني بالصالحين» . فما دار عليه أسبوع حتى مات، رحمه الله» . قالت الفلاسفة: «لا يستكمل الإنسان حد الإنسانية إلا بالموت، لأن حد الإنسانية إنه حي ناطق ميت» . وقال بعض السلف: «الصالح إذا مات استراح، والطالح، إذا مات، استريح منه» . قال الشاعر: وما الموت إلا راحةٌ غير أنه ... أبر بنا من كل بر وأرأف وقال آخر: جزى الله عنا الموت خيراً، فإنه ... أبر بنا من كل بر وأرأف يعجل تخليص النفوس من الأذى ... ويدني من الدار التي هي أشرف

وقال منصور الفقيه: قد قلت، إن مدحوا الحياة، فأسرفوا ... في الموت ألف فضيلةٍ لا تعرف منها أمان بقائه بلقائه ... وفراق كل معاشرٍ لا ينصف وقال أحمد بن أبي بكر الكاتب: من كان يرجو أن يعيش فإنني ... أصبحت أرجو أن أموت فأعتقا في الموت ألف فضيلةٍ لو أنها ... عرفت لكان سبيله أن يعشقا وقال لنكك البصري «1» : نحن، والله، في زمانٍ غشوم ... لو رأيناه في المنام فزعنا أصبح الناس فيه من سوء حالٍ ... حق من مات منهم أن يهنأ وضده، في الحديث المرفوع: «أكثر (؟) وأذكرها ذم اللذات (يعني الموت) » . قال الشاعر: يا موت ما أجفاك من نازلٍ ... تنزل بالمرء على رغمه تستلب العذراء من خدرها ... وتأخذ الواحد من أمه وقال: وكل ذي غيبةٍ له إيابٌ ... وغائب الموت لا يؤوب وقال بعضهم: «الناس في الدنيا أغراض تنتضل «2» فيها سهام المنايا» . وقال ابن المعتز: «الموت كسهم مرسل إليك، وعمرك بقدر سفره نحوك» .

وقال بعضهم: «الموت أشد مما قبله، وأهون مما بعده» . ونظر الحسن رضي الله عنه إلى ميت يدفن، فقال: «إن شيئاً أوله هذا لحقيق أن يخاف آخره، وإن شيئاً هذا آخره لحقيقٌ أن يزهد في أوله» . وسئل بعض الفلاسفة عن الموت، فقال: «مفازة، من ركبها ضل خبره، وعفى أثره» «1» . والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. انتهى كتاب «المحاسن والأضداد» لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ

فهرس الكتاب

فهرس الكتاب الموضوع الضفحة مقدمة الكتاب 5 مقدمة 17 محاسن الكتابة والكتب 19 مساويء اللحن في اللغة 25 محاسن المخاطبات 27 محاسن المكاتبات 33 محاسن الجواب 37 محاسن حفظ اللسان 41 محاسن كتمان السر 45 محاسن المشورة 51 محاسن الشكر 53 محاسن الصدق 59 محاسن العفو 65 محاسن الصبر على الحبس 69 محاسن المودة 73 محاسن الولايات 76

الموضوع الصفحة محاسن الصحبة 79 محاسن التطير 81 محاسن الوفاء 83 محاسن السخاء 87 مساوىء البخل 95 محاسن الشجاعة 105 محاسن حب الوطن 117 محاسن الدهاء والحيل 125 محاسن المفاخرة 131 محاسن الثقة بالله 153 محاسن طلب الرزق 155 محاسن المواعظ 159 محاسن الدنيا ومساوئها 161 محاسن الزهد 167 محاسن النساء الشاعرات 171 النساء الماجنات 177 الأعرابيات 185 محاسن المتكلمات 187 صفة النساء الحسان 193 صفة الزوجة الصالحة 199 أمثال في التزويج 205 رأى المرأة بالرجل 209 نساء الخلفاء 213 المطلّقات 217 محاسن وفاء النساء 223 غدر النساء 231

الموضوع الصفحة حديث الزباء 237 محاسن مكر النساء 243 مساويء مكر النساء 247 محاسن الغيرة والحجاب 249 محاسن القيادة 271 أخبار الشعراء 287 أحاديث الجنس 303 النيروز والمهرجان 313 محاسن الهدايا 318 محاسن الموت 337

فهرس الأعلام

فهرس الأعلام - أ- آدم 150. ابان، عبد الرحمن بن 125. إبراهيم، المغيرة بن 60. إبراهيم 149، 150. الأنلبق ألفرد 19. إبليس 87. الأحنف 30. أحمد، الخليل بن 17، 103. أخطب، صفية بنت 60. الأخطل، 209. الأخيلية، ليلى 173، 174. أدهم، إبراهيم بن 164. ارسطو 88، 97. أروى، الطيب بن 205، 206. ازدشير 19. إسحق 149، 150. الإسكندر 88. الأشعث، جعفر بن محمد بن 35. الأشعث، عبد الرحمن 127. اصطخر 19. الأصمعي 29، 60، 187، 206، 332. الأعشى 38، 84. افريدون 313، 314. الأفشين 99. امامة، كعب بن 90. امرؤ القيس 83، 84. الأمين 325، 335. أنوشروان 155، 252، 253. الأهشم، عمرو بن 38. - ب- البارقي، 183. باقل، 129. البحتري 91، 147. بختيشوع، 328.

بدر، الزبرقان بن 38. بزر جمهر 54، 88. بسطام 231. بشار 56. بشر المريسي 25. بشير، محمد بن 277. البصرة 37، 88، 278، 281، 284، 296. بغداد 36، 213، 271. البغل، ابن أبي 103. بقراط، 117. بكر، أبو 132، 133، 250. بكر، أحمد بن أبي 338. بكر، عبد الرحمن بن أبي 220. بلال، 150. بهرام جور 231. بنيوراسيف 231. - ت- تمام، أبو 91، 100، 155. تميم، تميم بن 333، 334. تميم، عماره بن 127، 128. توبة، 173. التوراة، 53. - ث- ثابت، حسان بن 100. ثعلب، 185. ثمامة، 268. الثوري، سفيان 55، 168. - ج- الجاحظ 17، 21، 36. جالينوس، 117. جبريل، 59. جحدر، 105، 106. جدعان، عبد الله بن 150. جديث 254- 256. جذيمة (الأبرش) 237. الجرجاني، الحسن 271. جرير، العباس بن 73. جعفر، الأحوص بن 126. جعفر (ذو الجناحين) 145. جعفر، عبد الله بن 33، 71، 144، 267. جميل (ثينة) 291، 292. الجهم، علي بن 69، 183، 332. الجهم، محمد بن 20.

- ح- حازم، أبو 161. حباحب، أبو 96. الحبشة، 150. الحجاج 37، 52، 67، 68، 76، 105، 106، 109، 209، 115، 127، 128، 153، 160، 217، 219، 243. الحجاز، 125. حرقة، شهاب بن 109. الحسن، الحسن بن 67، 68. الحسن، عبد الله بن 35. الحسن (البصري) 67، 148، 166، 339. الحسين، علي بن 335. الحسين (الخليع) 178، 179، 166، 339. الجطيئة، 53. حفصة، مروان بن أبي 148. الحكم، مروان بن 133، 134، 241، حكيم، الجحاف بن 67. الحنفية، محمد بن 189. - خ- خاقان، الفتح بن 185. خالد، يحيى بن 17، 28، 36، 65. خراسان 61، 86. الخراساني، أبو مسلم 43، 45، 47. خرقاء، 187. الخريث، خالد 291، 292. الخس، الخنيفس بن 257. الخلال، الحسين 214. خلف، أمية بن 150. خليفة (الشاعر) 38. الخنساء 171، 172. الجنولاني، أبو مسلم 167. الخياط، أبو مسلم 167. الخياط، الحسين 171، 180. خيبر، 60. الخيزران 213، 214، 319. - د- داود، ابن 20. الدرداء، أبو 164. داود، سليمان بن 164، 319. داحة، ابن 20. دعبل، علي بن 220.

دغة، 129. دلف، أبو 36، 70، 91، 92. الدنيا، ابن أبي 310. دؤاد، ابن أبي 79، 93. الدؤلي، أبو الأسود 97. دينار، مالك بن 151. - ذ- الذبياني، النابغة 262. ذر، أبو 59. ذو الرمة 54، 292، 293. - ر- الربيع، الفضل بن 210. ربيعة، عمر بن أبي 283، 288، 289، 297- 302، 308. رزين، محكم بن 178، 179. رستم، 61. رسول الله 42، 45، 46، 68، 87 رسول الله 42، 45، 46، 54، 59، 60، 66، 67، 68، 87، 93، 118، 121، 131، 134، 148، 145، 150، 155، 199، 200، 249، 250، 318، 337. الرشيد 27، 28، 65، 214، 265، 278، 327. الرضي 147، 148. الرقاشي، الفضل 178. الرمة، الفضل 168. الرضا، 19. الروم 150، 319، 310. الريحاني، ابن عبيدة 42. - ز- زائدة، معن بن 127. الزباء، 237. زبيد، أبو 113. الزبير 215. الزبير، عبد الله بن 37، 135، 140، 142. الزبير، عروة بن 33. الزبير، مصعب بن 23، 37، 65، 202. زكريا، يحيى بن 87. الزهري 23. زهير، قسامة بن 41. الزيات، ابن 19، 79، 278. زياد (ابن أبيه) 25، 67، 133، 134. زياد، عبيد الله بن 209.

زياد (النبطي) 26. - س- السدير 19. سراقة 125، 126. السرح، ابن أبي 119. السجستاني 278. السفاح 335. سفيان، أبو 15. سفيان سلام، عبد الله بن 67. سلكة، نجيح بن 96. السلكة، السليك بن 83. سليمان 150. السماك، ابن 59، 156. سمرقند 19، 28. السموأل 83، 84. سنمار 56. سنيح 125. سهل، الخليل بن 61. سيابة، إبراهيم بن 98. - ش- شاكر، إسماعيل بن أبي 35. الشام 38. شداد، عنترة بن 262. شراحبيل، شريك بن 85. شعبة، المغيرة بن 200، 217. الشعبي 45، 52، 59، 87. شعوب 19. شماس، خزام بن 96. شهرام المروزي 43، 44. الشيباني، جعفر 329. شيرين 228، 233، 234. - ص- صفرة، ضمرة بن أبي 286، 286. صفوان، خالد بن 39. صهيب 150. الصواعق، أبو 193. صيفي، اكثم بن 41. الصين 42، 123. - ط- طالب، أبو 145، 150. طاهر، عبد الله بن 155. طسم 254- 256. طلحة، عثمان بن 150. - ع- عائشة 54، 171، 318. عائم، عائمة بنت 145، 147.

العاص، عمرو بن 99، 133، 134، 202. عباد، الحارث بن 84. العباس (بن عبد المطلب) 37، 59، 121. عباس، ابن 81، 142، 149، 149. عبد الحسحاس 262. عبد الله، عيسى بن طلحة بن 76، 94. عبد العزيز، عمر بن 25، 34، 166، 337. عبد المطلب 145. عبد المطلب، العباس بن 145. عبد المطلب، هند بنت 87. عبد الملك 27، 45، 76. عبد الملك، سليمان بن 34، 76، 153، 263. عبد الملك، مسلمة بن 37، 38. عبد الملك، اهشام بن 37. عبد الملك، الوليد بن 25، 33، 153. عبيدة، أبو 310. العتابي 17، 29، 34. العتاهية، أبو 48، 165. عتبة، عمرو بن 155. عتبة، هند بنت 134، 259. العتبي 48 58، 211. عثمان 113. العجاج 310. عجل 128. عجلان، مالك بن 137. العدوي 166. عدي، عمرو بن 237، 298، 239، 240. العراق 38، 76. العريان، العيثم بن 31. عريب، 281. عقبة، الوليد بن 38. عقيل (بن أبي طالب) 38. عكرمة 81. علاط، الحجاج بن 60. العلاء عمرو بن 66. عمار، الهيثم بن الحسن بن 125. عمر (بن الخطاب) 53، 117. 174، 200، 210، 260، 261، 262. علي (بن أبي طالب) 45، 47، 54، 73، 87، 93، 122، 131، 133، 163، 164،

189، 200، 318، 319. علي، الحسن بن 133- 149. علية (أخت الرشيد) 265. عمرو، ضمضم بن 258. عمكليق 254. عنان 177، 178، 170، 181. عوف، عبد الرحمن بن 150. - غ- غاضرة 191. غمدان 19 - ف- الفاكه 259. الفرزدق 199، 182، 188. الفرس 150، 310، 319. فروة، أبو 53. فزارة 95. فضل 181. الفطيون 256. الفهليد 315. فيروز، بلاش بن 223. - ق- قاسم التمار 26. القرشي، أبو عبد الله 167. القرشي، ابن 219، 220، 243، 270. قريش 35، 78، 131، 132، 146، 147، 150. القسري، خالد بن عبد الله 26. قيصر 237، 238. قطام 189. قيس، ابن قيس الرقيات 65. قيس، عامر بن 149. قيس، الضحاك بن 150. قيصر 261. - ك- كثير (غرة) 188، 189، 190، 191، 291، 292. كسرى (أبرويز) 37، 42، 53، 88، 160، 163، 228، 231، 232، 239، 251، 267، 315، 316، 320. الكسروي 69، 223، 313. كعب الأحبار 53. كلوة، الحارث بن 199. الكوفة 125. 271. كيا خسرو بن البرويز 313.

- ل- لقمان 23. لقمان بن عاد، 247، 248. لنكك 338. ليث، علقمة بن 79. - م- مأرب 19. مارد 19. مأسر جويه 26. مالك، انس بن 153. المأمون 23، 28، 29، 34، 35، 37، 66، 73، 86، 89، 151، 322، 325، 326، 327. المبرد 47. محكم، عوف بن 84. المختار (الثقفي) 65، 125. المدائن 19. المدائني 149. المدنية 76، 277، 335. المتوكل 43، 69، 92، 147، 185، 213، 295، 322، 323، 332. المراكبي، ابن 36. المربد 281، 283. مرة، سعيد بن 37. مرو 151. مريم، عيسى بن 153، 316. مسعدة، عمر بن 34، 35. مسلم، قتيبة 60، 210. مسلمة، مسلمة بن 37. مسيلمة 61. مصر 286. معاوية، إياس بن 89. معاوية (بن أبي سفيان) 46، 122، 133، 143، 137، 259. معاوية، عبد الرحمن بن يزيد بن 89. المعتز 43. المعتز، ابن 72، 76. المعتز، عبد الله بن 164، 193، 338. المعتصم 22، 326، 328. معيط، عقبة بن أبي 150. مكرم، ربيع بن 127. المغيرة، الوليد بن 150. المقشعر 19. المقفع، ابن 17، 97، 98 مكة 35، 213، 289.

المنصور 47، 153، 213، 335. المهرجان 313، 317، 320- 324. المهدي 37، 48، 62، 63، 213، 265، 268، 269. المهدي، إبراهيم بم 324، 325،. المهلب 29، 37، 46، 43، 49. موسى 156، 333. الموصلي، إسحق 27، 36، 221، 265. - ن- نافع 87. نجران 19. النديم، ابن يحيى 92. النطاح، بكر بن 91. النعمان، حرقة بن 162. نواس، أبو 47، 100، 101، 168، 178، 179. النيروز 280، 313- 317، 320، 321، 322، 323، 324. - هـ- الهادي 214، 215، 264. هاشم 145. هبنقة 128، 129. هجر 105. هزمة، ابن 187. هشام، العاص بن 150. هفان، أبو 91. هلال، بنو 95. الهلالي 311. الهند 42. هند، أسماء بنت 219. الهول، أبو 56. - ووائل، العاص بن 150. الوراق، عمرو بن 178، 179. وجزة، أبو وجزة السعدي 150. وقاص، سعد بن أبي 150. وهب، الحسن بن 322، 323. - ي- ياسر، عمار بن 79. يثرب 29. يزيد، خالد بن 241. يزيد، مسلم بن 163. يزيد، شبيب بن 126. اليزيدي 45، 327. يعقوب 149، 150. يقطين، علي بن 62، 264.

§1/1