المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر ت محيي الدين عبد الحميد

ابن الأثير، ضياء الدين

الجزء الأول

الجزء الأول بسم الله الرحمن الرحيم* المقدمة الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلّم. أمّا بعد؛ فإنّ بي من حبّ العربيّة والشغف بها ما يدفعني إلى احتمال المصاعب والرّضا بركوب المخاطر والأهوال، وبذل النفيسين الوقت والراحة. وإني لأجد من السرور بهذا ما لا يبلغ معشاره غريب ألقى بين أهله عصا الترحال، أو محبّ لقي حبيبه بعد طول افتراق، وواصله بعد طول تجنّ وجهود. وقد أخذت على عاتقي أن أقوم لهذه اللغة بما يسعه جهدي من خدمة، فلم أجد أنبل مقصدا، ولا أسمى غرضا، ولا أقرب عند الله قبولا؛ من أن أتوفّر على كتب أسلافنا من علماء هذه اللغة، فأحققها وأحاول ردّها إلى الصورة التي خرجت عليها من أيدي مؤلّفيها قبل أن يصيبها تحريف النسّاخ وتصحيف الناشرين، أو مسحهم. وأردت أن أجمع بذلك بين خلال أربع: أولاها: أن أبتعد عن الغرور بالنفس والتفاخر بالتأليف. وثانيتها: أن أظهر شباب هذه الأمة على تراثنا الذي ورثناه عن آباء لنا كانوا قادة العالم وأهل الرأي فيه يوم كان الناس كلهم يتيهون في بيداوات الجهالة ويعيشون عيش السائمة والأنعام، وأنا أعلم أنّ شبابنا اليوم ليس لهم الصبر والجلد على قراءة هذه الذخائر في منظرها الذي يختاره لهم الورّاقون وتجار الكتب، وأن من حسن الرأي أن نضع بين أيديهم كتبا بهيجة المنظر بديعة الرّواية؛ ليقلبوا عليها، وينتفعوا بما فيها من علم.

وثالثتها: أن أثبت لهؤلاء الذين ينتقصون من قدر آبائنا وينالون منهم أنّ لأولئك الآباء من المجد والمنزلة ما يفاخر به الأبناء؛ وليس يضير الغادة الهيفاء ضنانة أهلها وبخلهم ولؤم أنفسهم، ولا يغض من جمالها أن تظهر في أطمار مهلهلة ولكنّ على من تكون من نصيبه أن ينفض عنها غبار الإهمال، ويجلوها في فاخر الديباج؛ ليظهر له بديع ما أنعمها الله من فتنة وجمال. ورابعتها: أن أنفي عن نفسي تهمة التقصير في وقت نحن أحوج ما نكون إلى التساند والتضافر على إعادة رسومنا الدارسة إلى ما كانت عليه يوم كنا قادة الشعوب وسادة هذا العالم؛ وليس للبلاد العربية كلها من بدّ أن تسلك لوحدتها طريق الاتحاد في المشاعر والمعارف، وأقرب ما يصل بنا إلى هذه الغاية معاودة معارفنا القديمة مع اختيار أقربها إلى أنفسنا وقلوبنا في فروع العلم كلها. ولا يسعني في هذا المقام إلا أن أنبّهك إلى حقيقة قد تغفلها أو تتشكك فيها إذا عرضت لك؛ أحبّ أن تعلم أن الجهد الذي يبذله من يحقق كتابا من كتب أسلافنا لا يقل عن الجهد الذي يبذله مؤلف كتاب حديث، بل أنا أجاهر بأن جهد الأول فوق جهد الثاني، وفرق بين من يعمد إلى المعارف فيختار منها ما يشاء ويدع منها ما يشاء، ثم يعبر عما اختاره بالأسلوب الذي يرضاه، وبين آخر لا يسعه إلّا إثبات ما بين يديه بالأسلوب الذي اختاره صاحبه منذ مئات السنين، وهو بين عبارات شوّهها التحريف وغيّر الكثير منها تعاقب أيدي الكتاب والصفافين، وأكثرهم ممن لا يتصل بالعلم من قريب أو بعيد. والكتاب الذي أضعه اليوم بين يديك هو كتاب «المثل السائر، في أدب الكاتب والشاعر» الذي صنّفه في علم البلاغة الأديب الكاتب أبو الفتح نصر الله ضياء الدين بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني، المعروف بابن الأثير؛ وهو كتاب «جمع فيه فأوعى. ولم يترك شيئا يتعلق بفن الكتابة إلا ذكره» «1» وهو كتاب امرىء:

أطاعته أنواع البلاغة فاهتدى ... إلى الشّعر من نهج إليه قويم «1» وستقف على رأينا في هذا الكتاب عند الكلام على ترجمة المؤلف، ولكنا نذكر لك ههنا عملنا في هذا الكتاب لتدرك مقدار الجهد المضني الذي بذلناه في إخراجه على هذه الصورة التي نتمنى أن تخرج عليها كتب العربية، بل كتب الثقافة الإسلامية عامة؛ لتنقطع ألسنة الأفاكين الذين يتهمون آباءنا بقلة الإنتاج الصحيح، وإذا اعترف أحدهم لهم ذكر في جانب اعترافه هذا أن الإنتاج محدود لا أثر فيه لشخصية المنتج، ولا برهان فيه على الاستقلال والحرية الفكرية، في الوقت يسطو هو على إنتاجهم وعصارة أذهانهم فينتحلها وينسبها لنفسه، وهو بمأمن من أن يعرف ذلك سواد الناس ودهماؤهم؛ لأنهم لا يقرءون هذه الكتب. لم يكن من رأيي أن أعمل على نشر هذا الكتاب الآن: فقد كنت أرى أنّ غيره من كتب العربية أحق بالتقديم وأكثر عائدة؛ ذلك لأن الكتاب قد طبع من قبل مرارا في بولاق وفي غير بولاق، ولأن الذين ينتفعون به عدد قليل من قرّاء العربية، وهم- أو أكثرهم- مستطيعون أن ينتفعوا منه على حاله التي كان عليها. ولكن بعض الإخوان رجاني أن يكون هذا الكتاب في مقدمة ما أخرجه من كتب العربية، وذكر لي أنه وكثيرا من المشتغلين بتحصيل العلم يجدون العنت والمشقة في تقويم عبارته التي عدت عليها عوادي المسخ والتشويه؛ فوعدته بأن أقبل؛ وكنت أظن الأمر هينا حين قطعت على نفسي ذلك العهد؛ ولكني حينما شرعت في مراجعة أصول الكتاب وجدت العجب العاجب؛ فمن عبارات مشوهة، إلى أعلام محرّفة تحريفا أبعدها كثيرا عن أصلها؛ إلى نصوص من الحديث النبويّ والشعر العربيّ قد بدّلتها الأيدي التي تناولت الكتاب، إلى غير ذلك بما ستراه في أثناء قراءتك؛ فلما رأيت ذلك هالني الأمر وترددت كثيرا في المضي فيه، ولكني لم أشأ أن أنقض ما قطعته من عهد، أو لم أشأ أن تضعف عزيمتي عن إتمام ما شرعت فيه.

الكتاب إذا كثير التحريف برغم أنه طبع مرارا، فما من بدّ لي من مراجعة أصوله على عدة نسخ، وما من بدّ لي من مراجعة جميع ما ورد فيه من النصوص على مصادرها الأولى، ثم ما من بدّ لي من الأناة والرويّة في تفهم عبارات المؤلف والوقوف عند كل جملة منها؛ وذلك أمر شاق يورث الضنى والكلال، ولكنه- مع ذلك- ميسور لمن لا يبالي بما يجد في هذا السبيل؛ ولما لم يكن بد من ذلك كله أقدمت عليه وثابرت فيه مثابرة الحريص على إدراك الغاية والوصول إلى النتيجة؛ وأعتقد أنني أدركت- بمعونة الله وتوفيقه- ما أردت، وبلغت ما أملت. في دار الكتب المصرية جزء من نسخة خطية كتبها أبو المكارم بن منصور الباوشناي الموصلي، وفرغ من كتابته في يوم السبت الحادي والعشرين من شهر جمادى الأولى سنة (622) اثنتين وعشرين وستمائة من الهجرة، وفي أول هذا الجزء إجازة بخط المؤلف كتبها بالموصل في شهر شعبان من عام كتابته أجاز بها الشيخ أبا محمد المظفر عضد الدين بن محمد بن علي بن جعفر بن زهير الدمشقي. وفي الدار نسخة كاملة مكتوبة بقلم معتاد، ولم أعرف عن زمن كتابتها ولا عن قيمتها الأثرية شيئا؛ فراجعت نسختي على هاتين النسختين، وهما المرموز لهما في الحواشي بحرف د. وعند صديقي الأستاذ الفاضل الشيخ أحمد محمد شاكر القاضي الشرعي نسخة خطية تمت كتابتها في نهار الأربعاء الموافق اليوم الخامس والعشرين من شهر جمادى الثانية في عام (1093) ثلاث وتسعين بعد الألف، وكاتبها محيي الدين بن ناصر الدين الصفوري، وهذه النسخة منقولة عن نسخة كتبها أحمد بن علي بن محمد بن علي بن محمد بن علي بن مهران القويسني وفرغ من كتابتها في مستهل جمادى الأولى من سنة سبع وعشرين وستمائة، ويقول محيي الدين بن ناصر الدين الصفوري في شأن النسخة التي نقل عنها نسخته: «وهي نسخة صحيحة، رحم الله مؤلفها وكاتبها رحمة واسعة، وهي على هذا التاريخ مكتوبة قبل موت المؤلف بعشر سنين أو ما يقرب منها» اه، ثم كتب على حاشية آخر ورقة: «بلغ مقابلة على

أصله الذي كتب منه والله الموفق» اه. وقد تفضل الأستاذ الشيخ أحمد محمد شاكر- حين علم قيامي على تحقيق الكتاب- فأعارني هذه النسخة فراجعت عليها نسختي هذه، وهي المرموز إليها في حواشي الكتاب بحرف أ. والكتاب مطبوع بمطبعة بولاق عام (1282) اثنين وثمانين ومائتين وألف من الهجرة، بتصحيح الشيخ محمد الصباغ، وهذه النسخة هي المرموز إليها في حواشي الكتاب بحرف ب. والنسخ المطبوعة- عدا نسخة بولاق- هي المرموز إليها في الحواشي بحرف ج. راجعت نسختي على هذه النسخ كلها، وراجعت جميع النصوص التي اشتمل عليها الكتاب في مظانها الأولى، فراجعت الحديث على أمهات كتب الحديث، وراجعت الشعر على دواوين الشعراء وكتب التراجم والشعر، مثل كتاب «الأغاني» وكتاب «ديوان الحماسة» وشرحه الذي صنّفه أبو زكرياء يحيى بن علي الخطيب التبريزي، وكتاب «طبقات الشعراء» لابن قتيبة، وكتاب «وفيات الأعيان» لابن خلكان وغيرها، ودللتك في أكثر الأحوال على مكان النص لترجع إليه إن شئت. وبيّنت لك اختلاف النسخ في الكثير الغالب مع بيان النسخة التي اعتمدتها في إثبات العبارة التي أثبتها في صلب الكتاب. وضبطت جميع النصوص، وهي كثيرة جدا، وفسّرت غريبها تفسيرا بقدر ما تمس له الحاجة. ولم أشأ أن أناقش المؤلف في آرائه، كما لم أشأ أن أترجم للأعلام التي ذكرها المؤلف؛ لأن ذلك يخرج بنا عن الغرض الأصلي من تحقيق الكتاب وإخراج صورة صحيحة منه بقدر ما وسعه الجهد، ثم إن الأعلام التي وردت فيه ليست مما يعسر على المتأدبين معرفتها والوصول إلى تراجمها إن كانت بهم حاجة إلى معرفة ذلك. ولا أدّعي أنني بلغت بالكتاب درجة الكمال التي تتوق إليها نفسي،

ولكني أدّعي غير متحرّج أنني بذلت فيه جهدا ليس بالقليل، وأدّعي- مع ذلك- أنّ هذه المطبوعة أدقّ ما يتداوله الناس من نسخ الكتاب، وأقر بها إلى الصورة التي أرادها المؤلف منه، وأصحّ ما يعوّل عليه أهل العلم. فإن حاز عملي هذا قبول إخوان في الأقطار العربية فذلك من نعمة الله تعالى وتوفيقه وفضله، وإن كانت الأخرى فمعذرتي أنني بذلت المستطاع، ولم أترك جهدا كان من الممكن أن أبذله؛ وبحسب المرء من عمله أن تحسن نيته، وأن يقوم فيه بالأسباب التي تبلّغ القصد عادة، وليس عليه أن يدرك النجح أو تتم له المطالب. ربّ إني أبرأ من الحول إلا بك، وأسألك أن تبلغ بي من خير الدنيا والآخرة ما لا سلطان عليه إلا لك، ربّ اغفر لي ولوالديّ، ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا. القاهرة 26 من رجب الفرد 1358 هـ- 10 من سبتمبر 1939 م كتبه المعتز بالله تعالى أبو رجاء محمد محيي الدين عبد الحميد

ترجمة ابن الأثير

ترجمة ابن الأثير صاحب كتاب المثل السائر، في أدب الكاتب والشاعر (558- 637 هـ) نسبه: هو أبو الفتح نصر الله ضياء الدين بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشّيباني، المعروف بابن الأثير، الجزريّ، الموصليّ. مولده: ولد نصر الله بن الأثير في يوم الخميس العشرين من شعبان عام ثمان وخمسين وخمسمائة؛ بجزيرة ابن عمر. وجزيرة ابن عمر- على ما يقول ياقوت الحموي معاصر أبناء الأثير الثلاثة-: «بلدة فوق الموصل، بينهما ثلاثة أيام، ولها رستاق مخصب واسع الخيرات، وأحسب أن أول من عمرها الحسن بن عمر بن خطاب التغلبي، وكانت له إمرة بالجزيرة وذكر، قرابة سنة 250 هـ، وهذه الجزيرة تحيط بها دجلة إلا من ناحية واحدة شبه الهلال؛ ثم عمل هناك خندق أجري فيه الماء، ونصبت عليه رحى فأحاط بها الماء من جميع جوانبها بهذا الخندق» «1» ويقول ابن خلكان «2» : «أكثر الناس يقولون إنها جزيرة ابن عمر، ولا أدري من ابن عمر، وقيل إنها منسوبة إلى يوسف بن عمر الثقفي أمير العراقين؛ ثم إني

نشأته وحياته:

ظفرت بالصواب في ذلك، وهو أن رجلا من أهل برقعيد من أعمال الموصل بناها وهو عبد العزيز بن عمر، فأضيفت إليه، ورأيت في بعض التواريخ أنها جزيرة ابني عمر أوس وكامل، ولا أدري أيضا من هما، ثم رأيت في تاريخ ابن المستوفي في ترجمة أبي السعادات المبارك بن محمد (هو أخو نصر الله بن الأثير الذي نترجمه) أنه من جزيرة أوس وكامل ابني عمر بن أوس الثعلبي» . فالجزريّ في نسب ابن الأثير نسبة إلى جزيرة ابن عمر هذه. نشأته وحياته: نشأ أبو الفتح نصر الله بن الأثير بجزيرة ابن عمر، ثم انتقل مع والده إلى الموصل، وبها اشتغل بحفظ القرآن الكريم وتحصيل العلوم، فحفظ القرآن، وكثيرا من الأحاديث النبوية، وطرفا صالحا من النحو واللغة وعلم البيان، وشيئا كثيرا من الشعر قديمه وحديثه. ولما كملت له الأدوات قصد في شهر ربيع الأول من عام سبع وثمانين وخمسمائة جناب السلطان الملك الناصر أبي المظفر صلاح الدين يوسف ابن الأمير نجم الدين أيّوب بن شادي بن مروان؛ فاستعان بالقاضي الفاضل أبي علي عبد الرحيم بن علي بن محمد بن حسن اللخميّ البيسانيّ «1» ، وهو يومئذ آثر الناس عند صلاح الدين؛ فوصله القاضي بخدمة صلاح الدين في جمادى الآخرة من العام نفسه، ولم تطل به الإقامة في خدمة صلاح الدين، حتى أرسل الملك الأفضل نور الدين علي بن صلاح الدين يوسف بن أيوب، إلى أبيه صلاح الدين، يطلب أن يرسل إليه ابن الأثير، فخيّره صلاح الدين بين أن يقيم في خدمته وأن ينتقل إلى خدمة ولده نور الدين؛ فاختار أن ينتقل إلى خدمة نور الدين، فمضى إليه في شوال من العام نفسه، وهو يومئذ شاب لم يكمل العقد الثالث من عمره؛ فاستوزره الملك الأفضل، وحسنت حالته عنده.

ولما خلص للملك الأفضل ملك دمشق بعد وفاة أبيه: «استقلّ ضياء الدين بن الأثير بالوزراة، وردّت أمور الناس إليه، وصار الاعتماد في جميع الأحوال عليه» «1» فأساء ضياء الدين السيرة ويقول ابن تغري بردي في النجوم الزاهرة «2» . إنه: «شغف قلوب الجند إلى مصر حتى ساروا إليها فلقيهم الملك العزيز عماد الدين عثمان بن صلاح الدين، وأكرم مثواهم» : «ولما انفصل الجند عن دمشق فوّض الملك الأفضل أمر الدولة إلى وزيره ابن الأثير وحاجبه الجمال محاسن ابن العجمي، ولم يكن أحدهما أحسن سياسة من الآخر، فأفسدا عليه الأحوال وكانا سببا في زوال دولته» «3» ، ويقال «4» : «إن أهل البلاد حينما خرج الأفضل هموا بقتل ضياء الدين بن الأثير، وإن الحاجب ابن العجمي أخرجه مستخفيا في صندوق مقفل عليه، ثم صار إليه وصحبه إلى مصر» ؛ ويقال: «إن الملك الأفضل حينما عاد إلى البلاد الشرقية طلب إلى ضياء الدين أن يخرج معه ليعود إلى خدمته، فلم يقبل ذلك لأنه خاف على نفسه من جماعة كانوا يقصدونه» . ولما استقرّ الملك الأفضل في سميساط عاد إلى خدمته، ولكنه لم يطل مقامه عنده، وما عتم أن فارقه، واتصل بخدمة الملك الظاهر غازي صاحب حلب، وهو أخو الملك الأفضل، ولم يطل مقامه عنده أيضا، ولا انتظم أمره، فعاد إلى الموصل، فلم يستقم حاله أيضا، فترك الموصل إلى إربل، ثم فارقها إلى سنجار، ثم عاد إلى الموصل واتخذها دار إقامته وكتب الإنشاء لصاحبها ناصر الدين محمود ابن الملك القاهر عزّ الدين مسعود بن نور الدين أرسلان شاه. ويقول تقيّ الدين أحمد بن علي المقريزي في كتاب السلوك «5» : «واستوزر الأفضل الوزير ضياء الدين نصر الله بن محمد بن الأثير، وفوض إليه أموره كلها؛ فحسّن له طرد أمراء أبيه وأكابر أصحابه، وأن يستجدّ أمراء غيرهم؛ ففارقه جماعة منهم الأمير فخر الدين جهاركس، وفارس الدين ميمون القصري،

وشمس الدين سنقر الكبير، وكانوا عظماء الدولة. فصاروا إلى الملك العزيز بالقاهرة فأكرمهم، وولي فخر الدين أستا داره وفوّض إليه أمره؛ وجعل فارس الدين وشمس الدين على صيداء وأعمالها، وكان ذلك لهما، وزادهما نابلس وبلادها؛ وسار القاضي الفاضل أيضا من دمشق ولحق بالقاهرة، فخرج العزيز إلى لقائه، وأجلّ قدومه وأكرمه، فشرع القوم في تقرير قواعد ملك العزيز، والأفضل في شغل عنهم» ، ويقول أيضا: إنه في سنة 590 تسعين وخمسمائة قويت الوحشة بين العزيز وأخيه الأفضل، وتنافرت القلوب، واضطربت أحوال الأفضل، وخرج العزيز من القاهرة بعساكر مصر يريد الشام لينتزعها من أخيه الأفضل، «وهمّ الأفضل بمراسلة أخيه العزيز واستعطافه؛ فمنعه من ذلك وزيره ابن الأثير وعدة من أصحابه، وحسّنوا له محاربته» «1» ، ويقول أيضا «2» : «وفي سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة وصل الملك الأفضل إلى دمشق، وتفرقت العساكر إلى بلادها، ولزم الأفضل الزهد، وأقبل على العبادة. وصارت أمور الدولة بأسرها مفوضة إلى وزيره ضياء الدين بن الأثير، فاختلت به الأحوال غاية الاختلال، وكثر شاكوه» . ومؤرخو هذا العصر مجمعون على أن ضياء الدين بن الأثير كان في وزارته سيىء السيرة مع رجال الدولة، وأن أحوال السلطنة كانت تسوء بسببه، ونحن نأخذ عليه أمرين: أحدهما: أنه كان يحاول الإيقاع بين الملك الأفضل وأخيه العزيز صاحب مصر، وكلما هم الأفضل بالاتّفاق مع أخيه وإعادة الصفاء بينهما اجتهد ضياء الدين في تنفيره وإبقاء الجفاء، مع ما كانت تتطلبه حال المسلمين في ذلك الوقت من اتحاد الكلمة واجتماع الشمل؛ إذ كان الصليبيون في نزاع دائم معهم وكانوا يهتبلون فرصة انقسامهم واختلافهم ليغيروا على البلاد وينتقصوها من أطرافها؛ والأمر الثاني: أنه كان سببا في إغضاب القاضي الفاضل وخروجه من دمشق إلى مصر، مع أن القاضي هو الذي قرّبه من الملوك وفتح له باب الاتّصال بصلاح الدين على ما سبق بيانه.

مؤلفات ابن الأثير:

ولسنا ندري أكان ذلك راجعا إلى المحيط الذي كان يعيش فيه ضياء الدين، وهو محيط مضطرب دائم الاصطخاب كثير المنازعات والمشاكل، أم كان يرجع إلى خلق فيه؛ فإنا نلمح في كتابته آثار الكبرياء والصلف والاعتداد بالنفس، وهذا خلق ينأى بصاحبه كثيرا عن الحكمة والاتزان والنظر إلى الأمور بعين الإنصاف ووزنها بميزان الروية والعقل. مؤلفات ابن الأثير: ذكر ابن خلكان لابن الأثير عدة مؤلفات، وصدّر كلامه عليها بقوله «1» : «ولضياء الدين من التصانيف الدالة على غزارة فضله وتحقيق نبله» . ونحن نذكر لك ما ذكره ابن خلكان وغيره من مصنفاته؛ فنقول: 1- أشهر هذه المؤلفات هو كتاب «المثل السائر، في أدب الكاتب والشاعر» ، وهو كتابنا هذا الذي نقدمه الآن؛ ويقول عنه ابن خلكان «2» : «وهو في مجلدين جمع فيه فأوعى، ولم يترك شيئا يتعلق بفن الكتاب إلا ذكره» . 2- ومن مؤلفاته كتاب «الوشي المرقوم، في حل المنظوم» ، ويقول عنه ابن خلكان «3» : «وهو مع وجازته في غاية الحسن والإفادة» ، وقد طبع هذا الكتاب في عام 1298 من الهجرة بمطبعة ثمرات الفنون بمدينة بيروت؛ ويقول المؤلف في أوله: «ولما ألفت كتاب المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر قصرت فصلا منه على ذكر هذه الطريقة «4» وأتيت فيها بالمعاني الجليلة التي تفتقر إلى الفهم الدقيق، غير أني أحلت في مواضع منه على هذا الكتاب؛ وجعلت لذلك رمز الاختصار ولهذا مكاشفة الإسهاب ... وبنيته على مقدمة وثلاثة فصول: الفصل الأول، في حل الشعر؛ الفصل الثاني، في حل آيات القرآن؛ الفصل الثالث، في حل الأخبار النبوية» اه.

3- ومن مؤلفاته كتاب «المعاني المخترعة، في صناعة الإنشاء» ، يقول عنه ابن خلكان «1» : «وهو أيضا نهاية في بابه» . 4- ومن مؤلفاته مجموع اختار فيه شعر أبي تمام والبحتري وديك الجن والمتنبي؛ ويقول عنه ابن خلكان: وهو في مجلد واحد كبير، وحفظه مفيد؛ وقال أبو البركات ابن المستوفي في تاريخ إربل: نقلت من خطه في آخر كتابه المختار ما مثاله: تمتّع به علقا نفيسا فإنّه اخ- ... - تيار بصير بالأمور حكيم أطاعته أنواع البلاغة فاهتدى ... إلى الشّعر من نهج إليه قويم 5- ومن مؤلفاته «ديوان ترسّل» ويقول عنه ابن خلكان: وهو في عدة مجلدات؛ وذكر المؤلف نفسه في كتاب المثل السائر أنّ رسائله تبلغ كثيرا من المجلدات. 6- ومن مؤلفاته «المختار من ديوان الترسّل» ويقول عنه ابن خلكان: «وهو في مجلد واحد» . هذا ما ذكره ابن خلكان من مؤلفاته، وابن خلكان معاصر لابن الأثير، وإن لم يقابله، وهو يقول في شأنه «2» : «ولقد ترددت إلى الموصل من إربل أكثر من عشر مرات، وهو مقيم بها، وكنت أود الاجتماع به لآخذ عنه شيئا لما كان بينه وبين الوالد رحمه الله تعالى من المودة الأكيدة، فلم يتفق ذلك، ثم فارقت بلاد المشرق، وانتقلت إلى الشام، وأقمت به مقدار عشر سنين، ثم انتقلت إلى الديار المصرية، وهو في قيد الحياة، ثم بلغني بعد ذلك خبر وفاته وأنا بالقاهرة» اه. ومن مؤلفاته التي لم يذكرها ابن خلكان، ووقفنا عليها ما نذكره لك: 7- منها كتاب «الجامع الكبير، في صناعة المنظوم والمنثور» وهو

يقول في مفتتحه: «أما بعد فلما كان تأليف الكلام مما لا يوقف على غوره، ولا يعرف كنه أمره، إلا بالاطّلاع على علم البيان، الذي هو لهذه الصناعة بمنزلة الميزان؛ احتجت حين سدوت نبذة من الكلام المنثور، إلى معرفة هذا العلم المذكور، لشرعت عند ذلك في تطلبه، والبحث عن تصانيفه وكتبه، فلم أترك في تحصيله سبيلا إلا نهجته، ولا غادرت في إدراكه بابا إلا ولجته، حتى اتّضح عندي باديه وخافيه، وانكشفت لي أقوال الأئمة المشهورين فيه؛ كأبي الحسن علي بن عيسى الرماني، وأبي القاسم الحسن بن بشر الآمدي، وأبي عثمان الجاحظ، وقدامة بن جعفر الكاتب، وأبي هلال العسكري، وأبي العلاء محمد بن غانم المعروف بالغانمي، وأبي محمد عبد الله بن سنان الخفاجي، وغيرهم ممن له كتاب يشار إليه، وقول تعقد الخناصر عليه؛ ثم لما مضى على ذلك ملاوة من الدهر، وانقضى دونه برهة من العمر، لمحت في أثناء القرآن الكريم من هذا النحو أشياء ظريفة، ووجدت في مطاويه من هذا النوع نكتا دقيقة لطيفة، فعرضتها عند ذلك على الأقسام التي ذكرها هؤلاء العلماء وشرحوها، والأصناف التي بينوها في تصانيفهم وأوضحوها؛ فألفيتهم قد غفلوا عنها، ولم ينبهوا على شيء منها، فكان ذلك باعثا لي على تصفح آيات القرآن العزيز والكشف عن سره المكنون؛ فاستخرجت منه حينئذ ثلاثين ضربا من علم البيان، لم يأت به أحد من أولئك العلماء الأعيان، وكان ما ظفرت به أصل هذا الفن وعمدته، وخلاصة هذا العلم وزبدته» . وفي دار الكتب المصرية نسختان خطيتان من هذا الكتاب: إحداهما: مكتوبة في عام 1314 من الهجرة، وهي تحت رقم (370 بلاغة) ، والثانية مكتوبة في عام 1205 من الهجرة، وهي تحت رقم (166 مجاميع م) ؛ وفي مكتبتي الخاصة قطعة من هذا الكتاب. وفي دار الكتب نسخة من كتاب «البديع» منسوبة إلى المبارك أبي السعادات مجد الدين بن محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري؛ وهو أخو ضياء الدين نصر الله بن الأثير صاحب المثل السائر؛ وأبو السعادات المبارك هو مؤلف كتاب «النهاية، في غريب الحديث

نقد المثل السائر وشروحه:

والأثر» ومؤلف كتاب «جامع الأصول، في أحاديث الرسول» ولم يعرف عنه أن له في البلاغة كتابا، فإذا صحّ أن هذا الكتاب لأحد أبناء الأثير فالغالب أنه لضياء الدين نصر الله الذي نترجمه. نقد المثل السائر وشروحه: ولم يكد كتاب «المثل السائر، في أدب الكاتب والشاعر» يظهر حتى تداوله الناس وكتبوه، وأخذوا في التقريظ له، والانتفاع به، وذاع أمره في البلاد، حتى نقله الناس إلى بغداد، وفيها الفقيه الأديب الشيخ عز الدين أبو حامد عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن الحسين، المعروف بابن أبي الحديد، وهو شديد الاتصال بالوزير مؤيد الدين محمد أبي طالب بن أحمد بن محمد العلقمي، فلما رأى تقريظ الناس للكتاب واشتغالهم بدراسته وتهافتهم على انتساخه تصدّى لمؤاخذته والرد عليه، وعنته، وجمع هذه المؤاخذات في كتاب سماه: «الفلك الدائر، على المثل السائر» ، وهو يقول في مفتتح هذا الكتاب: «وبعد؛ فقد وقفت على كتاب نصر الدين «1» بن محمد الموصلي المعروف بابن الأثير الجزري المسمّى كتاب «المثل السائر، في أدب الكاتب والشاعر» ؛ فوجدت فيه المحمود والمقبول، والمردود والمرذول؛ أما المحمود منه فإنشاؤه وصناعته، فإنه لا بأس بذلك؛ إلا في الأقل النادر، وأما المردود منه فنظره وجدله واحتجاجه واعتراضه؛ فإنه لم يأت في ذلك في الأكثر الأغلب بما يلتفت إليه، ولا بما يعتمد عليه؛ فحداني على تتبعه ومناقضته في هذه المواضع النظرية أمور: منها إزراؤه «2» على الفضلاء؛ وغضه منهم، وعيبه لهم، وطعنه عليهم؛ فإن في ذلك ما يدعو إلى الغيرة عليهم، والانتصار لهم ومنها إفراطه في الإعجاب بنفسه، والتبجح برأيه،

والتقريظ لمعرفته وصناعته، وهذا عيب قبيح يحبط عمل الإنسان، ويوجب المقت من الله والعباد؛ ومنها أنه قد أومأ مرارا في كتابه إلى عتاب دهره، إذ لم يعطه على قدر استحقاقه، فأردنا أن نعرّفه أن الأرزاق ليست على مقادير الاستحقاق، وأن الرزق مقسوم لا يجلبه الفضل، ولا يرده النقص؛ ومنها أن جماعة من أكابر الموصل قد حسن ظنهم في هذا الكتاب جدا، وتعصبوا له حتى فضلوه على أكثر الكتب المصنفة في هذا الفن، وأوصلوا منه نسخا معدودة إلى مدينة السلام (بغداد) وأشاعوه، وتداوله كثير من أهلها؛ فاعترضت عليه بهذا الكتاب، وتقربت به إلى الخزانة الشريفة المقدسة النبوية الإمامية المستنصرية، عمر الله تعالى بعمارتها أندية الفضل ورباعه وأطال بطول بقاء مالكها يد العلم وباعه، وجعل ملائكة السماء أنصاره وأشياعه، كما جعل ملوك الأرض أعوانه وأتباعه؛ وكان أكثر قصدي في ذلك أن يعلم مصنف هذا الكتاب ورؤساء بلدته أن من أصاغر خدم هذه الدولة الشريفة- ولا أعني نفسي فالعجب مبير، ولا أنبىء عني فمثلي كثير (ثم أخذ في مديح رجال مملكته بما يطول) - وهذا الكتاب وقع إليّ في غرة ذي الحجة من سنة ثلاث وثلاثين وستمائة؛ فتصفحته أوّلا أولا في ضمن الأشغال الديوانية التي أنا بصددها، وعلقت هذا الكتاب في أثناء تصفحه على المواضع المستدركة فيه إلى نصف الشهر المذكور فكان مجموع مطالعتي له واعتراضي عليه خمسة عشر يوما، ولم أعاود النظر فيه دفعة ثانية، وربما يسنح لي عند المعاودة نكت أخرى، وإن وقع ذلك ألحقتها، وقد سميت هذا الكتاب «الفلك الدائر، على المثل السائر» ؛ لأنه شاع في كلامهم وكثر في استعمالهم أن يقولوا لما باد ودثر: قد دار عليه الفلك، كأنهم يريدون أنه قد طحنه ومحا صورته، ومن ذلك قول أبي العتاهية: إن كنت تنشدهم فإنّهم ... همدوا ودار عليهم الفلك وأنا أسأل الله المعونة والتوفيق، وأستمنحه الهداية إلى سواء الطريق؛ بمنّه وكرمه» اه كلامه بحروفه.

ولا أحبّ أن أعلّق على هذا الكلام، ولكني أقول: إني لما قرأت الكتاب- وكنت أفكر في نشره بأسفل صفحات هذا الكتاب عند مواطن النقد- لم أجد فيه ما يبعث على تحقيقه وبذل الجهد فيه. ولم يكتف ابن أبي الحديد بهذا الكتاب، بل هو ينتهز الفرصة في شرحه على نهج البلاغة؛ فينقل كلام ابن الأثير ويعترض عليه، أسمع إليه يقول فيه (1- 441) : «وأنا أحكي ههنا كلام نصر الله بن محمد بن الأثير الجزري في كتابه المسمى بالمثل السائر في الكناية والتعريض، وأذكر ما عندي فيه» اه، ثم هو ينقل كلاما طويلا يقع في نسخة المثل السائر التي نقدمها لك اليوم في الجزء الثاني (من 180 إلى 203) ثم يأخذ بعد ذلك في نقد كلامه نقدا يرجع إلى العبارة وإلى طريق عرضها، ولا يرجع إلى لبابها وحقيقتها، مثل أن يقول: «إنه (يعني ابن الأثير) اختار حد الكناية، وشرع يبرهن على التحديد، والحدود لا يبرهن عليها، ولا هي من باب الدعاوى التي تحتاج إلى الدولة؛ لأن من وضع لفظ الكناية لمفهوم مخصوص لا يحتاج إلى دليل، كمن وضع لفظ الجدار للحائط لا يحتاج إلى دليل» اه، وأنت- أيها القارئ- لو رجعت إلى كلام ابن الأثير وجدت كلامه يتلخص في أن القوم الذين صنفوا في علم البيان من قبله قد عرّفوا الكناية بتعريف، وأنه لا يرتضي هذا التعريف، وهو يرى تعريفها بتعريف آخر، ويرى تعريفه خيرا من تعريف السابقين؛ وهو يبين أولا ما ينطبق عليه تعريف السابقين، وما ينطبق عليه تعريفه هو؛ ثم يبرهن في أثناء ذلك على دعواه أن تعريفه خير من تعريف غيره؛ فهذا البرهان- إن صحّ أن يكون برهانا بالمعنى المعروف في علم الجدل- ليس على الحد كما زعم ابن أبي الحديد، ولكنه على دعوى ادّعاها، إن صراحة وإن ضمنا، وهي أن ما ارتضاه من التعريف خير مما ذكره المتقدمون؛ والواقع أن كتاب «الفلك الدائر» يبدو لمن يتصفحه وهو منصف أن روح التحامل هي التي أملته على مؤلفه، وأنه كتب مع رغبة ملحّة في النّيل من ابن الأثير والغضّ من عمله. وليس معنى هذا الكلام أن ابن الأثير قد أصاب في الكتاب كله، وأنه لا مطعن عليه، ولكن الذي نريد أن نقرره في

طمأنينة هو أن ابن أبي الحديد قد تعرض في الغالب لما لا ينبغي أن يتعرض له أديب يؤثر اللباب على القشور، وترك أشياء هي أولى بالنظر والرعاية، وعذره أنه قرأ الكتاب وكتب نقده عليه في خمسة عشر يوما هو مشتغل في أثنائها بعمله في الدولة؛ فهو- فيما نرى اليوم- أشبه بتقرير من تقريرات حضرات «الموظفين» في أمر من الأمور التي يكلفون مباشرة تنفيذها؛ إذ يكتبونه وهم يعلمون أنه لن يقرأ، وإن قرئ فلن يعمل بما فيه؛ ومن قرأ كتاب «الفلك الدائر» ثم قرأ عشرة أوراق من شرح ابن أبي الحديد على نهج البلاغة في مكان أي مكان منه يتبين له الفرق بين الكتابين، ويدرك تمام الإدراك قيمة رأينا هذا في هذا الكتاب. قال صاحب كشف الظنون (2- 222 بولاق مصر) : «وشرحه أبو منصور موهوب بن أبي طاهر الجواليقي «1» المتوفى في عام ... هـ، وصنّف بعضهم كتابا سماه «الروض الزاهر، في محاسن المثل السائر» وصنّف عز الدين بن أبي الحديد كتابا سماه «الفلك الدائر، على المثل السائر» وصنف أبو القاسم محمود بن الحسين الركن السنجاري المتوفى في عام 640 هـ كتابا يرد فيه عليه وسماه «نشر المثل السائر، وطي الفلك الدائر» وصنّف صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي المتوفى في عام 764 هـ- كتابا سماه «نصرة الثائر، على المثل السائر» ، وصنف عبد العزيز بن عيسى كتابا سماه «قطع الدابر، عن الفلك الدائر» اه. ربّ اجعلني من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. ربّ ولا تخزني يوم القيامة؛ واجعلني عندك من المقبولين؛ آمين. كتبه المعتز بالله تعالى أبو رجاء محمد محيي الدين عبد الحميد

مقدمة الكتاب

[مقدمة الكتاب] (بسم الله الرّحمن الرّحيم) نسأل الله ربّنا أن يبلغ بنا من الحمد ما هو أهله، وأن يعلّمنا من البيان ما يقصر عنه مزيّة الفضل «1» وأصله، وحكمة الخطاب وفضله؛ ونرغب إليه أن يوفقنا للصلاة على نبينا ومولانا محمد رسوله الذي هو أفصح من نطق بالضاد، ونسخ هديه شريعة كل هاد، وعلى آله وصحبه الذي منهم من سبق وبدر، ومنهم من صابر وصبر، ومنهم من آوى ونصر «2» . وبعد؛ فإن علم البيان لتأليف النظم والنثر بمنزلة أصول الفقه للأحكام وأدلة الأحكام؛ وقد ألّف الناس فيه كتبا، وجلبوا ذهبا وحطبا، وما من تأليف إلّا وقد تصفّحت شينه وسينه «3» ، وعلمت غثّه وسمينه؛ فلم أجد ما ينتفع به في ذلك إلّا كتاب الموازنة لأبي القاسم الحسن بن بشر الآمديّ، وكتاب سر الفصاحة لأبي محمد عبد الله بن سنان الخفاجيّ، غير أن كتاب الموازنة أجمع أصولا، وأجدى

محصولا، وكتاب سر الفصاحة- وإن نبّه فيه على نكت منيرة- فإنه قد أكثر، مما قلّ به مقدار كتابه، من ذكر الأصوات والحروف والكلام عليها، ومن الكلام على اللفظة المفردة وصفاتها مما لا حاجة إلى أكثره، ومن الكلام في مواضع شذّ عنه الصواب فيها، وسيرد بيان ذلك كله في مواضع من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. على أن كلا الكتابين قد أهملا «1» من هذا العلم أبوابا، ولربما ذكرا في بعض المواضع قشورا وتركا لبابا، وكنت عثرت على ضروب كثيرة منه في غضون القرآن الكريم، ولم أجد أحدا ممن تقدّمني تعرّض لذكر شيء منها، وهي إذا عدّت كانت في هذا العلم بمقدار شطره، وإذا نظر إلى فوائدها وجدت محتوية عليه بأسره، وقد أوردتها ههنا، وشفعتها بضروب أخر مدوّنة في الكتب المتقدمة، بعد أن حذفت منها ما حذفته، وأضفت إليها ما أضفته، وهداني الله لابتداع أشياء لم تكن من قبلي مبتدعة، ومنحني درجة الاجتهاد التي لا تكون أقوالها تابعة وإنما هي متّبعة، وكل ذلك يظهر عند الوقوف على كتابي هذا وعلى غيره من الكتب. وقد بنيته على مقدمة ومقالتين؛ فالمقدمة تشتمل على أصول علم البيان؛ ولا أدّعي فيما ألفته من ذلك فضيلة الإحسان، ولا السلامة من سلق «2» اللسان؛ فإن الفاضل من تعدّ سقطاته، وتحصى غلطاته. ويسيء بالإحسان ظنّا، لا كمن ... هو بابنه وبشعره مقتون «3»

وإذا تركت الهوى قلت: إن هذا الكتاب بديع في إغرابه، وليس له صاحب في الكتب فيقال: إنه من أخدانه أو من أترابه، مفرد بين أصحابه، ومع هذا فإني أتيت بظاهر هذا العلم دون خافيه، وحمت حول حماه ولم أقع فيه؛ إذ الغرض إنما هو الحصول على تعليم الكلم التي بها تنظم العقود وترصّع، وتخلب العقول فتخدع، وذلك شيء تحيل عليه الخواطر، لا تنطق به الدفاتر. واعلم- أيها الناظر في كتابي- أن مدار علم البيان على حاكم الذوق السليم، الذي هو أنفع من ذوق التعليم، وهذا الكتاب- وإن كان فيما يلقيه إليك أستاذا، وإذا سألت عما ينتفع به في فنه قيل لك هذا- فإن الدربة والإدمان أجدى عليك نفعا، وأهدى بصرا وسمعا، وهما يريانك الخبر عيانا، ويجعلان عسرك من القول إمكانا، وكلّ جارحة منك قلبا ولسانا، فخذ من هذا الكتاب ما أعطاك، واستنبط بإدمانك ما أخطاك، وما مثلي فيما مهّدته لك من هذه الطريق إلا كمن طبع سيفا ووضعه في يمينك لتقاتل به، وليس عليه أن يخلق لك قلبا، فإن حمل النصال، غير مباشرة القتال. وإنّما يبلغ الإنسان غايته ... ما كلّ ماشية بالرّحل شملال «1» ولنرجع إلى ما نحن بصدده، فنقول: أما مقدمة الكتاب، فإنها تشتمل على عشرة فصول:

الفصل الاول في موضوع علم البيان

الفصل الاول في موضوع علم البيان موضوع كل علم: هو الشيء الذي يسأل فيه عن أحواله التي تعرض لذاته؛ فموضوع الفقه هو أفعال المكلفين، والفقيه يسأل عن أحوالها التي تعرض لها: من الفرض والنّفل والحلال والحرام والندب والمباح، وغير ذلك، وموضوع الطبّ هو بدن الإنسان، والطبيب يسأل عن أحواله التي تعرض له من صحته وسقمه، وموضوع الحساب هو الأعداد، والحاسب يسأل عن أحوالها التي تعرض لها من الضرب والقسمة والنسبة، وغير ذلك، وموضوع النحو هو الألفاظ والمعاني، والنحوي يسأل عن أحوالهما في الدلالة من جهة الأوضاع اللغوية، وكذلك يجري الحكم في كل علم من العلوم، وبهذا الضابط انفرد كل علم برأسه، ولم يختلط بغيره، وعلى هذا فموضوع علم البيان هو الفصاحة والبلاغة، وصاحبه يسأل عن أحوالهما اللفظية والمعنوية، وهو والنحوي يشتركان في أن النحويّ ينظر في دلالة الألفاظ على المعاني من جهة الوضع اللغوي، وتلك دلالة عامة، وصاحب علم البيان ينظر في فضيلة تلك الدلالة، وهي دلالة خاصة، والمراد بها أن يكون على هيئة مخصوصة من الحسن، وذلك أمر وراء النحو والإعراب، ألا ترى أن النحوي يفهم معنى الكلام المنظوم والمنثور ويعلم مواقع إعرابه، ومع ذلك فإنه لا يفهم ما فيه من الفصاحة والبلاغة، ومن ههنا غلط مفسّر والأشعار في اقتصارهم على شرح المعنى وما فيها من الكلمات اللغوية، وتبيين مواضع الإعراب منها، دون شرح ما تضمنته من أسرار الفصاحة والبلاغة.

الفصل الثاني في آلات علم البيان وأدواته

الفصل الثاني في آلات علم البيان وأدواته اعلم أن صناعة تأليف الكلام من المنظوم والمنثور تفتقر إلى آلات كثيرة، وقد قيل: ينبغي للكاتب أن يتعلق بكل علم، حتى قيل: كلّ ذي علم يسوغ له أن ينسب نفسه إليه فيقول: فلان النحوي، وفلان الفقيه، وفلان المتكلم، ولا يسوغ له أن ينسب نفسه إلى الكتابة فيقول: فلان الكاتب، وذلك لما يفتقر إليه من الخوض في كل فن. وملاك هذا كلّه الطبع «1» ؛ فإنه إذا لم يكن ثمّ طبع فإنه لا تغني تلك الآلات شيئا؛ ومثال ذلك كمثل النار الكامنة في الزناد والحديدة التي يقدح بها؛ ألا ترى أنه إذا لم يكن في الزناد نار لا تفيد تلك الحديدة شيئا؟. وكثيرا ما رأينا وسمعنا من غرائب الطباع في تعلّم العلوم، حتى إن بعض الناس يكون له نفاذ في تعلم علم مشكل المسلك صعب المأخذ، فإذا كلّف تعلم ما هو دونه من سهل العلوم نكص على عقبيه، ولم يكن له فيه نفاذ. وأغرب من ذلك أن صاحب الطبع في المنظوم يجيد في المديح دون الهجاء، أو في الهجاء دون المديح، أو يجيد في المراثي دون التهاني، أو في التهاني دون المراثي، وكذلك صاحب الطبع في المنثور؛ هذا ابن الحريري صاحب المقامات؛ قد كان- على ما ظهر عنه من تنميق المقامات- واحدا في فنّه، فلما حضر ببغداد ووقف على مقاماته قيل: هذا يستصلح لكتابة الإنشاء في ديوان الخلافة، ويحسن أثره فيه، فأحضر، وكلّف كتابة كتاب، فأفحم، ولم يجر لسانه في طويلة ولا قصيرة، فقال فيه بعضهم:

شيخ لنا من ربيعة الفرس ... ينتف عثنونه من الهوس أنطقه الله بالمشان وقد ... ألجمه في بغداد بالخرس وهذا مما يعجب منه. وسئلت عن ذلك فقلت: لا عجب؛ لأن المقامات مدارها جميعها على حكاية تخرج إلى مخلص. وأما المكاتبات فإنها بحر لا ساحل له؛ لأن المعاني تتجدّد فيها بتجدّد حوادث الأيام، وهي متجددة على عدد الأنفاس، ألا ترى أنه إذا خطب الكاتب المفلق عن دولة من الدّول الواسعة التي يكون لسلطانها سيف مشهور، وسعي مذكور، ومكث على ذلك برهة يسيرة لا تبلغ عشر سنين، فإنه يدوّن عنه من المكاتبات ما يزيد على عشرة أجزاء، كل جزء منها أكبر من مقامات الحريري حجما؛ لأنه إذا كتب في كل يوم كتابا واحدا اجتمع من كتبه أكثر من هذه العدة المشار إليها، وإذا نخلت وغربلت واختير الأجود منها إذ تكون كلها جيدة فيخلص منها النصف، وهو خمسة أجزاء، والله يعلم ما اشتملت عليه من الغرائب والعجائب، وما حصل في ضمنها من المعاني المبتدعة، على أن الحريري قد كتب في أثناء مقاماته رقاعا في مواضع عدة، فجاء بها منحطّة عن كلامه في حكاية المقامات، لا، بل جاء بالغثّ البارد الذي لا نسبة له إلى باقي كلامه فيها، وله أيضا كتابة أشياء خارجة عن المقامات، وإذا وقف عليها أقسم أن قائل هذه ليس قائل هذه؛ لما بينهما من التفاوت البعيد. وبلغني عن الشيخ أبي محمد [عبد الله بن أحمد] بن الخشاب النحوي رحمه الله أنه كان يقول: ابن الحريريّ رجل مقامات: أي أنه لم يحسن من الكلام المنثور سواها، وإن أتى بغيرها لا يقول شيئا. فانظر أيها المتأمل إلى هذا التفاوت في الصناعة الواحدة من الكلام المنثور؛ ومن أجل ذلك قيل: شيئان لا نهاية لهما: البيان، والجمال. وعلى هذا فإذا ركب الله تعالى في الإنسان طبعا قابلا لهذا الفن فيفتقر حينئذ إلى ثمانية أنواع من الآلات.

النوع الأول:

النوع الأول: معرفة علم العربية من النحو والتصريف. النوع الثاني: معرفة ما يحتاج إليه من اللغة، وهو المتداول المألوف استعماله في فصيح الكلام غير الوحشيّ الغريب ولا المستكره المعيب. النوع الثالث: معرفة أمثال العرب وأيامهم، ومعرفة الوقائع التي جاءت في حوادث خاصة بأقوام؛ فإن ذلك جرى مجرى الأمثال أيضا. النوع الرابع: الاطّلاع على تأليفات من تقدمه من أرباب هذه الصناعة المنظومة منه والمنثورة، والتحفظ للكثير منه. النوع الخامس: معرفة الأحكام السلطانية: الإمامة، والإمارة، والقضاء، والحسبة، وغير ذلك. النوع السادس: حفظ القرآن الكريم، والتدرّب باستعماله وإدراجه في مطاوي كلامه. النوع السابع: حفظ ما يحتاج إليه من الأخبار الواردة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، والسلوك بها مسلك القرآن الكريم في الاستعمال. النوع الثامن: وهو مختص بالناظم دون الناثر- وذلك علم العروض والقوافي الذي يقام به ميزان الشعر. ولنذكر بعد ذلك فائدة كل نوع من هذه الأنواع؛ ليعلم أن معرفته مما تمسّ الحاجة إليه، فنقول: النوع الأول: أما علم النحو فإنه في علم البيان من المنظوم والمنثور بمنزلة أبجد في تعليم الخط وهو أول ما ينبغي إتقان معرفته لكل أحد ينطق باللسان العربي، ليأمن معرّة اللحن، ومع هذا فإنه، وإن احتيج إليه في بعض الكلام دون بعض لضرورة الإفهام، فإن الواضع لم يخص منه شيئا بالوضع، بل جعل الوضع عاما، وإلا فإذا نظرنا إلى ضرورته وأقسامه المدوّنة وجدنا أكثرها غير محتاج إليه في إفهام المعاني، ألا ترى أنك لو أمرت رجلا بالقيام فقلت له: قوم، بإثبات الواو ولم

تجزم، لما اختل من فهم ذلك شيء، وكذلك الشرط لو قلت: إن تقوم أقوم، ولم تجزم، لكان المعنى مفهوما، والفضلات كلها تجري هذا المجرى، كالحال والتمييز والاستثناء، فإذا قلت: جاء زيد راكب، وما في السماء قدر راحة سحاب، وقام القوم إلا زيد، فلزمت السكون في ذلك كله، ولم تبين إعرابا؛ لما توقّف الفهم على نصب الراكب والسحاب، ولا على نصب زيد، وهكذا يقال في المجرورات، وفي المفعول فيه، والمفعول له، والمفعول معه، وفي المبتدإ والخبر، وغير ذلك من أقسام أخر لا حاجة إلى ذكرها. لكن قد خرج عن هذه الأمثلة ما لا يفهم إلا بقيود تقيّده، وإنما يقع ذلك في الذي تدل صيغته الواحدة على معان مختلفة، ولنضرب لذلك مثالا يوضحه فنقول: اعلم أن من أقسام الفاعل والمفعول ما لا يفهم إلا بعلامة كتقديم المفعول على الفاعل؛ فإنه إذا لم يكن ثم علامة تبين أحدهما من الآخر وإلا أشكل الأمر كقولك: ضرب زيد عمرو، ويكون زيد هو المضروب؛ فإنك إذا لم تنصب زيدا وترفع عمرا، وإلا لا يفهم ما أردت؛ وعلى هذا ورد قوله تعالى: إنما يخشى الله من عباده العلماء. وكذلك لو قال قائل: ما أحسن زيد، ولم يبين الإعراب في ذلك، لما علمنا غرضه منه؛ إذ يحتمل أن يريد به التعجب من حسنة، أو يريد به الاستفهام عن أي شيء منه أحسن، ويحتمل أن يريد به الإخبار بنفي الإحسان عنه، ولو بيّن الإعراب في ذلك فقال: ما أحسن زيدا، وما أحسن زيد، وما أحسن زيد؛ علمنا غرضه، وفهمنا مغزى كلامه؛ لانفراد كل قسم من هذه الأقسام الثلاثة بما يعرف به من الإعراب؛ فوجب حينئذ بذلك معرفة النحو؛ إذ كان ضابطا لمعاني الكلام، حافظا لها من الاختلاف. وأول من تكلم في النحو أبو الأسود الدّؤلي، وسبب ذلك أنه دخل على ابنة له بالبصرة فقالت له: يا أبت ما أشدّ الحر، متعجبة، ورفعت أشد، فظنها مستفهمة، فقال: شهر ناجر؛ فقالت: يا أبت إنما أخبرتك ولم أسألك! فأتى عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين، ذهبت لغة العرب،

ويوشك إن تطاول عليها زمان أن تضمحلّ، فقال له: وما ذاك؟ فأخبره خبر ابنته، فقال: هلمّ صحيفة، ثم أملى عليه «الكلام لا يخرج عن اسم وفعل وحرف جاء لمعنى» ثم رسم له رسوما فنقلها النحويون في كتبهم. وقيل: «إن أبا الأسود دخل على زياد ابن أبيه بالبصرة فقال: إني أرى العرب قد خالطت العجم، وتغيرت ألسنتها، أفتأذن لي أن أصنع ما يقيمون به كلامهم؟ فقال: لا، فقام من عنده، ودخل عليه رجل فقال: أيها الأمير، مات أبانا، وخلّف بنون، فقال زياد: مات أبانا وخلف بنون!! مه، ردّوا عليّ أبا الأسود. فردّوه، فقال له: اصنع ما كنت نهيتك عنه، فوضع شيئا. ثم جاء بعده ميمون الأقران فزاد عليه، ثم جاء بعده عنبسة بن معدان المهري، فزاد عليه، ثم جاء بعده عبد الله بن أبي إسحق الحضرمي، وأبو عمرو بن العلاء، فزادا عليه، ثم جاء بعدهما الخليل بن أحمد الأزديّ، وتتابع الناس، واختلف البصريون والكوفيون في بعض ذلك. فهذا ما بلغني من أمر النحو في أول وضعه، وكذلك العلوم كلها: يوضع منها في مبادي أمرها شيء يسير، ثم يزاد بالتدريج إلى أن يستكمل آخرا. فإن قيل: أما علم النحو فمسلّم إليك أنه تجب معرفته، لكن التصريف لا حاجة إليه؛ لأن التصريف إنما هو معرفة أصل الكلمة وزيادتها وحذفها وإبدالها، وهذا لا يضرّ جهله، ولا تنفع معرفته، ولنضرب لذلك مثالا كيف اتفق، فنقول: إذا قال القائل: رأيت سرداحا «1» ، لا يلزمه أن يعرف الألف في هذه الكلمة زائدة هي أم أصليه؛ لأن العرب لم تنطق بها إلا كذلك، ولو قالت سردحا، بغير ألف، لما جاز لأحد أن يزيد الألف فيها من عنده فيقول سرداحا، فعلم بهذا أنه إنما ينطق الألفاظ

كما سمعت عن العرب، من غير زيادة فيها ولا نقص، وليس يلزم بعد ذلك أن يعلم أصلها ولا زيادتها؛ لأن ذلك أمر خارج تقتضيه صناعة تأليف الكلام. فالجواب عن ذلك أنّا نقول: اعلم أنا لم نجعل معرفة التصريف كمعرفة النحو؛ لأن الكاتب أو الشاعر إذا كان عارفا بالمعاني، مختارا لها، قادرا على الألفاظ، مجيدا فيها، ولم يكن عارفا بعلم النحو؛ فإنه يفسد ما يصوغه من الكلام ويختلّ عليه ما يقصده من المعاني، كما أريناك في ذلك المثال المتقدم، وأما التصريف فإنه إذا لم يكن عارفا به لم تفسد عليه معاني كلامه، وإنما تفسد عليه الأوضاع، وإن كانت المعاني صحيحة، وسيأتي بيان ذلك في تحرير الجواب، فنقول: أما قولك إن التصريف لا حاجة إليه، واستدلالك بما ذكرته من المثال المضروب؛ فإن ذلك لا يستمرّ لك الكلام فيه، ألا ترى أنك مثّلت كلامك في لفظة سرداح، وقلت: إنه لا يحتاج إلى معرفة الألف زائدة هي أم أصلية لأنها إنما نقلت عن العرب على ما هي عليه من غير زيادة ولا نقص، وهذا لا يطرد إلا فيما هذا سبيله من نقل الألفاظ على هيئتها من غير تصرف فيها بحال، فأما إذا أريد تصغيرها أو جمعها والنسبة إليها فإنه إذا لم يعرف الأصل في حروف الكلمة وزيادتها وحذفها وإبدالها يضلّ حينئذ عن السبيل، وينشأ من ذلك مجال للعائب والطاعن، ألا ترى أنه إذا قيل للنحوي وكان جاهلا بعلم التصريف كيف تصغير لفظة اضطراب فإنه يقول: ضطيرب، ولا يلام على جهله بذلك، لأن الذي تقتضيه صناعة النحو قد أتى به، وذلك أن النحاة يقولون: إذا كانت الكلمة على خمسة أحرف وفيها حرف زائد أو لم يكن حذفته «1» نحو قولهم في منطلق: مطيلق، وفي جحمرش: جحيمر؛

فلفظة منطلق على خمسة أحرف، وفيها حرفان زائدان هما الميم والنون إلا أن الميم زيدت فيها لمعنى؛ فلذلك لم تحذف، وحذفت النون، وأما لفظة جحمرش فخماسية لا زيادة فيها وحذف منها حرف أيضا، ولم يعلم النحوي أن علماء النحو إنما قالوا ذلك مهملا اتكالا منهم على تحقيقه من علم الصرف؛ لأنه لا يلزمهم أن يقولوا في كتب النحو أكثر مما قالوا، وليس عليهم أن يذكروا في باب من أبواب النحو شيئا من التصريف؛ لأن كلا من النحو والتصريف علم منفرد برأسه، غير أن أحدهما مرتبط بالآخر، ومحتاج إليه. وإنما قلت: إن النحوي إذا سئل عن تصغير لفظة اضطراب يقول: ضطيرب؛ لأنه لا يخلو إما أن يحذف من لفظة اضطراب الألف أو الضاد أو الطاء أو الراء أو الباء، وهذه الحروف المذكورة غير الألف ليست من حروف الزيادة؛ فلا تحذف، بل الأولى أن يحذف الحرف الزائد ويترك الحرف الذي ليس بزائد؛ فلذلك قلنا: إن النحوي يصغر لفظة اضطراب على ضطيرب؛ فيحذف الألف التي هي حرف زائد، دون غيرها مما ليس من حروف الزيادة، وأما أن يعلم أن الطاء في اضطراب مبدلة من تاء، وأنه إذا أريد تصغيرها تعاد إلى الأصل الذي كانت عليه، وهو التاء، فيقال: ضتيرب؛ فإن هذا لا يعلمه إلا التصريفي، وتكليف النحوي الجاهل بعلم التصريف معرفة ذلك كتكليفه علم ما لا يعلمه؛ فثبت بما ذكرناه أنه يحتاج إلى علم التصريف؛ لئلا يغلط في مثل هذا. ومن العجب أن يقال: إنه لا يحتاج إلى معرفة التصريف، ألم تعلم أن نافع ابن أبي نعيم، وهو من أكبر القراء السبعة قدرا، وأفخمهم شأنا، قال في معايش: معائش، بالهمز» ، ولم يعلم الأصل في ذلك؛ فأوخذ عليه، وعيب من أجله، ومن

جملة من عابه أبو عثمان المازني؛ فقال في كتابه في التصريف: إن نافعا لم يدر ما العربيّة، وكثيرا ما يقع أولو العلم في مثل هذه المواضع، فكيف الجهال الذين لا معرفة لهم بها ولا اطّلاع لهم عليها؟ وإذا علم حقيقة الأمر في ذلك لم يغلط فيما يوجب قدحا ولا طعنا، وهذه لفظة معايش لا يجوز همزها بإجماع من علماء العربية، لأن الياء فيها ليست مبدلة من همزة، وإنما الياء التي تبدل من الهمزة في هذا الموضع تكون بعد ألف الجمع المانع من الصرف، ويكون بعدها حرف واحد، ولا تكون عينا، نحو سفائن، وفي هذا الموضع غلط نافع رحمة الله عليه، لأنه لا شك اعتقد أن معيشة بوزن فعيلة وجمع فعيلة هو على فعائل، ولم ينظر إلى أن الأصل في معيشة معيشة على وزن مفعلة، وذلك لأن أصل هذه الكلمة من عاش التي أصلها عيش على وزن فعل، ويلزم مضارع فعل المعتل العين يفعل لتصح الياء، نحو يعيش، ثم تنقل حركة العين إلى الفاء فتصير يعيش، ثم يبني من يعيش مفعول فيقال: معيوش به، كما يقال: مسيور به، ثم يخفف ذلك بحذف الواو؛ فيقال: معيش به، كما يقال: مسير به، ثم تؤنث هذه اللفظة فتصير معيشة. ومع هذا فلا ينبغي لصاحب هذه الصناعة من النظم والنثر أن يهمل من علم العربية ما يخفى عليه بإهماله اللحن الخفي؛ فإن اللحن الظاهر قد كثرت مفاوضات الناس فيه حتى صار يعلمه غير النحوي، ولا شك أن قلة المبالاة بالأمر واستشعار القدرة عليه توقع صاحبه فيما لا يشعر أنه وقع فيه؛ فيجهل بما يكون عالما به. ألا ترى أن أبا نواس كان معدودا في طبقات العلماء مع تقدمه في طبقات الشعراء، وقد غلط فيما لا يغلط مثله فيه، فقال في صفة الخمر: كأنّ صغرى وكبرى من فواقعها ... حصباء درّ على أرض من الذّهب

وهذا لا يخفى على مثل أبي نواس؛ فإنه من ظواهر علم العربية، وليس من غوامضه في شيء؛ لأنه أمر نقليّ يحمل ناقله فيه على النقل من غير تصرف، وقول أبي نواس «صغرى وكبرى» غير جائز، فإن فعلى أفعل لا يجوز حذف الألف واللام منها، وإنما يجوز حذفها من فعلى التي لا أفعل لها، نحو حبلى؛ إلا أن تكون فعلى أفعل مضافة، وههنا قد عريت عن الإضافة وعن الألف واللام، فانظر كيف وقع أبو نواس في مثل هذا الموضع مع قربه وسهولته؟. وقد غلط أبو تمام في قوله: بالقائم الثّامن المستخلف اطأدت ... قواعد الملك ممتدّا لها الطّول ألا ترى أنه قال: اطّأدت، والصواب اتّطدت؛ لأن التاء تبدل من الواو في موضعين: أحدهما مقيس عليه، كهذا الموضع، لأنك إذا بنيت افتعل من الوعد قلت: اتّعد، ومثله ما ورد في هذا البيت؛ فإنه من وطد يطد، كما يقال: وعد يعد؛ فإذا بني منه افتعل قيل: اتّطد، ولا يقال اطّأد، وأما غير المقيس فقولهم في وجاه: تجاه، وقالوا: تكلان، وأصله الواو؛ لأنه من وكل يكل؛ فأبدلت الواو تاء للاستسحان، فهذه الأمثلة قد أشرت إليها ليعلم مكان الفائدة في أمثالها وتتوقّى. على أني لم أجد أحدا من الشعراء المفلقين سلم من مثل ذلك؛ فإما أن يكون لحن لحنا يدل على جهله مواقع الإعراب، وإما أن يكون أخطأ في تصريف الكلمة، ولا أعني بالشعراء من هو قريب عهد بزماننا، بل أعني بالشعراء من تقدم زمانه، كالمتنبي «1» ، ومن كان قبله، كالبحتري «2» ، ومن تقدمه، كأبي تمام «3» ، ومن سبقه، كأبي نواس، والمعصوم من عصمه الله تعالى.

على أن المخطىء في التصريف أندر «1» وقوعا من المخطىء في النحو؛ لأنه قلما يقع له كلمة يحتاج في استعمالها إلى الإبدال والنقل في حروفها، وأما النحو فإنه يقع الخطأ فيه كثيرا حتى إنه ليشذ في ظاهره في بعض الأحوال، فكيف خافيه؟ كقول أبي نواس في الأمين «2» محمد رحمه الله: يا خير من كان ومن يكون ... إلّا النّبيّ الطّاهر الميمون فرفع في الاستثناء من الموجب، وهذا من ظواهر النحو، وليس من خافيه في شيء، وكذلك قال أبو الطيب المتنبي: أرأيت همّة ناقتي في ناقة ... نقلت يدا سرحا وخفّا مجمرا «3» تركت دخان الرّمث في أوطانها ... طلبا لقوم يوقدون العنبرا «4» وتكرّمت ركباتها عن مبرك ... تقعان فيه وليس مسكا أذفرا «5» فجمع في حال التثنية؛ لأن الناقة ليس لها إلا ركبتان، فقال: ركبات، وهذا من أظهر ظواهر النحو، وقد خفي على مثل المتنبي.

النوع الثاني:

ومع هذا فينبغي لك أن تعلم أن الجهل بالنحو لا يقدح في فصاحة ولا بلاغة، ولكنه يقدح في الجاهل به نفسه؛ لأنه رسوم قوم تواضعوا عليه، وهم الناطقون باللغة، فوجب اتّباعهم؛ والدليل على ذلك أن الشاعر لم ينظم شعره وغرضه منه رفع الفاعل ونصب المفعول أو ما جرى مجراهما، وإنما غرضه إيراد المعنى الحسن في اللفظ الحسن المتّصفين بصفة الفصاحة والبلاغة، ولهذا لم يكن اللحن قادحا في حسن الكلام؛ لأنه إذا قيل: جاء زيد راكب، إن لم يكن حسنا إلا بأن يقال: جاء راكبا- بالنصب- لكان النحو شرطا في حسن الكلام، وليس كذلك. فتبين بهذا أنه ليس الغرض من نظم الشعر إقامة إعراب كلماته، وإنما الغرض أمر وراء ذلك، وهكذا يجري الحكم في الخطب والرسائل من الكلام المنثور. وأما الإدغام فلا حاجة إليه لكاتب، لكن الشاعر ربما احتاج إليه؛ لأنه قد يضطر في بعض الأحوال إلى إدغام حرف، وإلى فك إدغام؛ من أجل إقامة الميزان الشعري. النوع الثاني: وهو قولنا: «إنه يحتاج إلى معرفة اللغة مما تداول استعماله» فسيرد بيانه عند ذكر اللفظة الواحدة، والكلام على جيدها ورديئها في المقالة المختصة بالصناعة اللفظية. ويفتقر أيضا مؤلّف الكلام إلى معرفة عدة أسماء لما يقع استعماله في النظم والنثر؛ ليجد إذا ضاق به موضع في كلامه بإيراد بعض الألفاظ [سعة في] العدول عنه إلى غيره، مما هو في معناه، وهذه الأسماء تسمى المترادفة، وهي اتحاد المسمّى واختلاف أسمائه، كقولنا: الخمر، والراح، والمدام؛ فإن المسمّى بهذه الأسماء شيء واحد، وأسماؤه كثيرة. وكذلك يحتاج إلى معرفة الأسماء المشتركة ليستعين بها على استعمال التجنيس في كلامه، وهي اتحاد الاسم واختلاف المسميات، كالعين؛ فإنها تطلق على العين الناظرة، وعلى ينبوع الماء، وعلى المطر، وغيره، إلا أن المشتركة تفتقر

في الاستعمال إلى قرينة تخصّصّها؛ كي لا تكون مبهمة، لأنا إذا قلنا: عين؛ ثم سكتنا، وقع ذلك على محتملات كثيرة من العين الناظرة والعين النابعة والمطر وغيره مما هو موضوع بإزاء هذا الاسم، وإذا قرنّا إليه قرينة تخصه زال ذلك الإبهام؛ بأن نقول: عين حسناء، أو عين نضّاخة «1» ، أو ملثّة «2» ، أو غير ذلك. وهذا موضع للعلماء فيه مجاذبات جدلية: فمنهم من ينكر أن يكون اللفظ المشترك حقيقة في المعنيين جميعا، ويقول: إن ذلك يخلّ بفائدة وضع اللغة؛ لأن اللغة إنما هي وضع الألفاظ في دلالتها «3» على المعاني: أي وضع الأسماء على المسميات لتكون منبئة عنها عند إطلاق اللفظ، والاشتراك لا بيان فيه، وإنما هو ضدّ البيان، لكن طريق البيان أن يجعل أحد المعنيين في اللفظ المشترك حقيقة والآخر مجازا؛ فإذا قلنا «هذه كلمة» ، وأطلقنا القول؛ فهم منه اللفظة الواحدة، وإذا قيدنا اللفظ فقلنا «هذه كلمة شاعرة» فهم منه القصيدة المقصدة من الشعر، وهي مجموع كلمات كثيرة، ولو أطلقنا من غير تقييد وأردنا القصيدة من الشعر لما فهم مرادنا ألبتة. هذا خلاصة ما ذهب إليه من ينكر وقوع اللفظ المشترك في المعنيين حقيقة، وفي ذلك ما فيه، وسأبين ما يدخله من الخلل؛ فأقول في الجواب عن ذلك ما استخرجته بفكري، ولم يكن لأحد فيه قول من قبلي. وهو أمّا قولك «إن فائدة وضع اللغة إنما هو البيان عند إطلاق اللفظ، واللفظ المشترك يخل بهذه الفائدة» ، فهذا غير مسلّم، بل فائدة وضع اللغة هو البيان والتحسين. أما البيان فقد وفى [به] الأسماء المتباينة التي هي كل اسم واحد دلّ على

مسمى واحد، فإذا أطلق اللفظ في هذه الأسماء كان بينا مفهوما لا يحتاج إلى قرينة، ولو لم يضع الواضع من الأسماء شيئا غيرها لكان كافيا في البيان. وأما التحسين فإن الواضع لهذه اللغة العربية التي هي أحسن اللغات نظر إلى ما يحتاج إليه أرباب الفصاحة والبلاغة فيما يصوغونه من نظم ونثر، ورأى أنّ من مهمات ذلك التّجنيس، ولا يقوم به إلا الأسماء المشتركة التي هي كل اسم واحد دلّ على مسميين فصاعدا، فوضعها من أجل ذلك، وهذا الموضع يتجاذبه جانبان يترجح أحدهما على الآخر، وبيانه أن التحسين يقضي بوضع الأسماء المشتركة، ووضعها يذهب بفائدة البيان عند إطلاق اللفظ، وعلى هذا فإن وضعها الواضع ذهب بفائدة البيان، وإن لم يضع ذهب بفائدة التحسين، لكنه إن وضع استدرك ما ذهب من فائدة البيان بالقرينة، وإن لم يضع لم يستدرك ما ذهب من فائدة التحسين، فترجّح حينئذ جانب الوضع؛ فوضع. فإن قيل: فلم لا تنسب الأسماء المشتركة إلى اختلاف القبائل لا إلى واضع واحد؟. قلت في الجواب «1» : هذا تعسف لا حاجة إليه، وهو مدفوع من وجهين: أحدهما: ما قدمت القول فيه من الترجيح الذي سوّغ للواضع أن يضع. الآخر: أنّا نرى أنه قد ورد من الجموع ما يقع على مسمّيين اثنين، كقولهم: كعاب، جمع كعب الذي هو كعب الرجل، وجمع كعبة وهي البنيّة المعروفة، وإذا أطلقنا اللفظ فقلنا «كعاب» من غير قرينة لا يدرى ما المراد بذلك: أكعب الرجل أم البنيّة المعروفة؟ وكذلك ورد واحد وجمع على وزن واحد، كقولهم: راح، اسم للخمر، وراح جمع راحة وهي الكف؛ وكقولهم: عقاب، وهو الجزاء على الذنب، وجمع عقبة أيضا؛ وفي اللغة من هذا شيء كثير، وهو بالإجماع من علماء العربية أنه لم يجر فيه خلاف بين القبائل، فاتضح بهذا أن الأسماء المشتركة من واضع واحد.

وأما النوع الثالث:

فإن قلت: إن الواضع إنما وضع المفرد من الألفاظ والجمع وضعه غيره. قلت في الجواب: إن الذي وضع المفرد هو الذي وضع الجمع؛ لأن من قواعد وضع اللغة أن يوضع المفرد، والجمع، والمذكر، والمؤنث، والمصغر، والمكبر، والمصادر، وأسماء الفاعلين، وما جرى هذا المجرى، وإذا أخلّ بشيء من ذلك كان قد أخلّ بقاعدة من قواعد وضع اللغة، ثم لو سلمت إليك أن واضع الجمع غير واضع المفرد لكان ذلك قدحا في الواضع الثاني؛ إذ جاء بالإبهام عند إطلاق اللفظ، لأنه جمع كعبة التي هي البنيّة وكعب الرجل، على كعاب؛ وهذا لفظ مشترك مبهم عند الإطلاق، ولا فرق بين أن يضعه الواضع الأول أو واضع ثان؛ فإن الإبهام حاصل منه. وكان فاوضني بعض الفقهاء في قوله تعالى في سورة البقرة: صفراء فاقع لونها تسر الناظرين وقال: إن لون البقرة كان أسود، والأصفر هو الأسود، فأنكرت عليه هذا القول، فأخذ يجادل مجادلة غير عارف، ويعزو ذلك إلى تفسير النقاش، وتفسير البلاذري، فقلت له: اعلم أن هذا الاسم الذي هو الأصفر لا يخلو في دلالته على الأسود من وجهين: إما أنه من الأسماء المتباينة التي يدل كل اسم منها على مسمّى واحد كالإنسان والأسد والفرس وغير ذلك، وإما أنه من الأسماء المشتركة التي يدل الاسم منها على مسمّيين فصاعدا، ولا يجوز أن يكون من الأسماء المتباينة؛ لأنا نراه متجاذبا بين لونين: أحدهما: هذا اللون الزعفراني الشكل، والآخر: اللون المظلم الشكل، وعلى هذا فإنه يكون من الأسماء المشتركة، وإذا كان من الأسماء المشتركة فلا بدّ له من قرينة تخصصه باللون الزعفراني دون اللون المظلم؛ لأن الله تعالى قال: صفراء فاقع لونها والفاقع من صفات اللون الزعفراني خاصة؛ لأنه قد ورد للألوان صفات متعددة لكل لون منها صفة، فقيل: أبيض يقق، وأسود حالك، وأحمر قان، وأصفر فاقع، ولم يقل أسود فاقع، ولا أصفر حالك، فعلم حينئذ أن لون البقرة لم يكن أسود، وإنما كان أصفر، فلما تحقّق عند ذلك الفقيه ما أشرت إليه أذعن بالتسليم. وأما النوع الثالث: فهو معرفة أمثال العرب وأيامهم، ومعرفة الوقائع التي

وردت في حوادث خاصة بأقوام، وقولي هذا لا يقتضي كل الأمثال الواردة عنهم؛ فإنّ منها ما لا يحسن استعماله، كما أن من ألفاظهم أيضا ما لا يحسن استعماله، وكنت جردت من كتاب الأمثال للميداني أوراقا خفيفة تشتمل على الحسن من الأمثال الذي يدخل في باب الاستعمال؛ وسبيل المتصدّي لهذا الفن أن يسلك ما سلكته، وليعلم أن الحاجة إليها شديدة، وذلك أن العرب لم تضع الأمثال إلا لأسباب أوجبتها، وحوادث اقتضتها، فصار المثل المضروب لأمر من الأمور عندهم كالعلامة التي يعرف بها الشيء، وليس في كلامهم أوجز منها، ولا أشد اختصارا. وسبب ذلك ما أذكره لك لتكون من معرفته على يقين، فأقول: قد جاء عن العرب من جملة أمثاله «إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر» وهو مثل يضرب للأمر الظاهر المشهور، والأصل فيه كما قال المفضل بن محمد «1» : أنه بلغنا أن بني ثعلبة بن سعد بن ضبّة في الجاهلية تراهنوا على الشمس والقمر ليلة أربع عشرة من الشهر؛ فقالت طائفة: تطلع الشمس والقمر يرى، وقالت طائفة: يغيب القمر قبل أن تطلع الشمس، فتراضوا برجل جعلوه حكما، فقال واحد منهم: إن قومي يبغون علي، فقال الحكم: إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر» . فذهبت مثلا، ومن المعلوم أن قول القائل: «إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر» إذا أخذ على حقيقته من غير نظر إلى القرائن المنوطة به والأسباب التي قيل من أجلها لا يعطي من المعنى ما قد أعطاه المثل، وذلك أن المثل له مقدمات وأسباب قد عرفت، وصارت مشهورة بين الناس معلومة عندهم، وحيث كان الأمر كذلك جاز إيراد هذه اللفظات في التعبير عن المعنى المراد، ولولا تلك المقدمات المعلومة والأسباب المعروفة، لما فهم من قول القائل: «إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر» ما ذكرناه من المعنى المقصود، بل ما كان يفهم من هذا القول معنى مفيد، لأن البغي هو الظلم، والقمر ليس من شأنه أن يظلم أحدا، فكان يصير معنى المثل: إن كان يظلمك قومك لا يظلمك القمر، وهذا كلام مختل المعنى، ليس بمستقيم، فلما كانت الأمثال كالرموز والإشارات التي يلوّح بها على المعاني تلويحا

صارت من أوجز الكلام، وأكثره اختصارا، ومن أجل ذلك قيل في حدّ المثل: إنه القول الوجيز المرسل ليعمل عليه، وحيث هي بهذه المثابة فلا ينبغي الإخلال بمعرفتها. وأما أيام العرب فإنها تتنوّع وتتشعب، فمنها أيام فخار، ومنها أيام محاربة، ومنها أيام منافرة، ومنها غير ذلك، ولا يخلو الناظم والناثر من الانتصاب لوصف يوم يمر به في بعض الأحوال شبيها بيوم من تلك الأيام، ومماثلا له؛ فإذا جاء بذكر بعض تلك الأيام المناسبة لمراده الموافقة له، وقاس عليه يومه؛ فإنه يكون في غاية الحسن والرّونق؛ هذا لا خفاء به. وأما الوقائع التي وردت في حوادث خاصة بأقوام، فإنها كالأمثال في الاستشهاد بها، وسأبين لك نبذة منها حتى تعلم مقدار الفائدة بها: فمن ذلك أنه ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم حديث بيعة الحديبية تحت الشّجرة، وكان أرسل عثمان رضي الله عنه إلى مكة في حاجة عرضت له، ولم يحضر البيعة، فضرب رسول الله بيده الشمال على اليمين وقال: «هذه عن عثمان، وشمالي خير من يمينه» . وقد استعلمت أنا هذا في جملة كتاب فقلت: ولا يعدّ البر برّا حتى يلحق الغيث بالحصور، ويصل من لم يصله بجزاء ولا شكور؛ فزنة الغائب بالشاهد من كرم الإحسان، ولهذا نابت شمال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن يمين عثمان. ومن ذلك أنه ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه استدعى أبا موسى الأشعري ومن يليه من العمّال، وكان منهم الرّبيع بن زياد الحارثي، فمضى إلى يرفأ مولى عمر «1» ، وسأله عما يروج عنده، وينفق عليه، فأشار إلى خشونة العيش، فمضى ولبس جبة صوف، وعمامة دسماء، وخفا مطابقا، وحضر بين يديه في جملة

العمال، فصوب عمر نظره وصعّده، فلم يقع إلا عليه، فأدناه وسأله عن حاله، ثم أوصى أبا موسى الأشعري به. وقد استعملت أنا هذا في جملة تقليد لبعض الملوك من ديوان الخلافة، فقلت: وإذا استعنت بأحد على عملك فاضرب عليه بالأرصاد، ولا ترض بما عرفته من مبدأ حاله؛ فإن الأحوال تتنقل تنقّل الأجساد، وإياك أن تخدع بصلاح الظاهر كما خدع عمر بن الخطاب بالربيع بن زياد. فانظر كيف فعلت في هاتين القصّتين؟ وكيف أوردتهما في الغرض الذي قصدته؟ وامض أنت على هذا النّهج، فإنه من محاسن هذه الصنعة. وعرض عليّ كتاب كتبه عبد الرحيم بن علي البيساني «1» رحمه الله عن الملك صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه الله إلى ديوان الخلافة ببغداد في سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، وضمّنه ما أبلاه في خدمة الدولة من فتح الديار المصرية، ومحو الدولة العلوية، وإقامة الدعوى العباسية، وشرح فيه ما قاساه في الفتح من الأهوال، ولما تأملته وجدته كتابا حسنا قد وفّى فيه الخطابة حقّها؛ إلا أنه أخل بشيء واحد، وهو أن مصر لم تفتح إلا بعد أن قصدت من الشام ثلاث مرات، وكان الفتح في المرة الثالثة، وهذا له نظير في فتح النبي صلّى الله عليه وسلّم مكة، فإنه قصدها عام الحديبية، ثم سار إليها في عمرة القضاء، ثم سار إليها عام الفتح ففتحها. وقد سألني بعض الإخوان أن أنشىء في ذلك كتابا إلى ديوان الخلافة معارضا للكتاب الذي أنشأه عبد الرحيم بن علي رحمه الله، فأجبته إلى سؤاله، وعددت مساعي صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه الله، فقلت: ومن جملتها ما فعله الخادم في الدولة المصرية وقد قام بها منبر وسرير، وقالت: منا أمير ومنكم أمير، فرد الدعوة العباسية إلى معادها، وأذكر المنابر ما نسيته بها من زهو أعوادها، وكانت أخرجت منها إخراج النبي صلّى الله عليه وسلّم من قريته، وقذف

الشيطان على حقها بباطله وعلى صدقها بغويته «1» ، ثم طوتها الليالي طيّ السجل للكتاب، وكثر عليها مرور الدهر حتى نسي لها عدد السنين والحساب، ولم يعدها إلى وطنها حتى تغربت لها الأرواح عن أوطانها، وسهرت لها أجفان السيوف سهر العيون عن أجفانها، وتطاردت الآراء في تسهيل أمرها قبل مطاردة أقرانها، وحتى تقدمتها غربات ثلاث كلها ذوات غروب «2» ، وكل خطب من خطوبها ذو خطوب، إلى أن تمخض ليلها عن صبحه، وأصبحت في الإسلام في الإسلام كعام حديبيته وعمرة قضائه وعام فتحه، وفي ذكر أخبارها ما يطبع الأسنّة في رءوس الأقلام، ويرهب سامعها، ولم ينله شيء من مكروهها سوى الكلام، ويومها للدولة هو اليوم الذي أرّخ فيه معاد «3» نصرها، وميعاد بشرها، فإذا عدّت لياليها السالفة كانت كسائر الليالي وهذه ليلة قدرها. فهذا فصل من فصول الكتاب؛ فانظر كيف ماثلت بين الفتح المصري وفتح مكة؟ وذكرت أيضا حديث الحباب بن المنذر الأنصاري حيث قال بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم: منّا أمير ومنكم أمير؛ وذلك لما حضر أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم في سقيفة بني ساعدة، والقصة مشهورة، فقال الحباب بن المنذر: منا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر رضي الله عنه: بل نحن الأمراء وأنتم الوزراء، وهذا الذي ذكرته هو نكتة هذا الفتح التي عليها المعول، ومركزه الذي عليه يدور، وعجبت من عبد الرحيم بن علي البيساني- مع تقدمه في فن الكتابة- كيف فاته أن يأتي به في الكتاب الذي كتبه. وكذلك وجدت لابن زياد البغدادي كتابا كتبه إلى الملك الناصر صلاح الدين يوسف المقدم ذكره في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، وضمنه فصولا تشتمل على أمور أنكرت عليه من ديوان الخلافة، فمن تلك الأمور التي أنكرت عليه أنه تلقب بالملك الناصر، وذلك اللقب هو لأمير المؤمنين خاصة، فإنه الإمام الناصر

لدين الله، فلما وقفت على ذلك الكتاب وجدته كتابا حسنا قد أجاد فيه كل الإجادة، ولم أجد فيه مغمزا إلا في هذا الفصل الذي يتضمن حديث اللقب، فإنه لم يأت بكلام يناسب باقي الفصول المذكورة، بل أتى فيه بكلام فيه غثاثة، كقوله: ما يستصلحه المولى فهو على عبده حرام، وشيئا من هذا النّسق، وكان الأليق والأحسن أن يحتجّ بحجة فيها روح، ويذكر كلاما فيه ذلاقة ورشاقة. وحضر عندي في بعض الأيام بعض إخواني، وجرى حديث ذلك، فسألني عما كان ينبغي أن يكتب في هذا الفصل، فذكرت ما عندي، وهو: قد علم أن للأنبياء والخلفاء خصائص يختصون بها على حكم الانفراد، وليس لأحد من الناس أن يشاركهم فيها مشاركة الأنداد، وقد أجرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك في أشياء نصّ عليها بحكمه، ومن جملتها أنه نهى غيره أن يجتمع بين كنيته وبين اسمه، وهذا مسوغ لأمير المؤمنين أن يختص بأمر يكون به مشهورا، وعلى غيره محظورا، وقد وسم نفسه بسمة نزلت عليه من السماء، وتميزت به من بين المسميات والأسماء، ثم استمرت عليها الأيام حتى خوطب بها من الحاضر والباد، ورفعها الخطباء على المنابر في أيام الجمع ومواسم الأعياد، وقد شاركته أنت فيها غير مراقب لمزية التعظيم، ولا فارق بين فسحة التحليل «1» وحرج التحريم «2» ، والشرع والأدب يحكمان عليك بأن تلقى ما فرط منك بالمتاب، ولا تحوج فيه إلى التقريع الذي هو أشد العتاب، ومثلك من عرف الحق فأمسكه بيده، ونسخ إغفال أمسه باستئناف التيقظ في غده، والله قد رفع المؤاخذة عمن أتى الشيء خطأ لا عمدا، وقبل التوبة ممن أخذ على نفسه بالإخلاص عهدا. فانظر أيها المتأمل كيف جئت بالخبر النبوي، وجعلته شاهدا على هذا الموضع؟ ولا يمكن أن يحتج في مثل ذلك إلا بمثل هذا الاحتجاج، وما أعلم كيف شذ عن ابن زياد أن يأتي به مع أنه كان كاتبا مفلقا أرتضي كتابته، ولم أجد في متأخري العراقيين من يماثله في هذا الفن.

وأما النوع الرابع:

وأما النوع الرابع: - وهو الاطلاع على كلام المتقدمين من المنظوم والمنثور- فإن في ذلك فوائد جمة؛ لأنه يعلم منه أغراض الناس، ونتائج أفكارهم، ويعرف به مقاصد كل فريق منهم، وإلى أين ترامت به صنعته في ذلك، فإن هذه الأشياء مما تشحذ القريحة، وتذكي الفطنة، وإذا كان صاحب هذه الصناعة عارفا بها تصير المعاني التي ذكرت وتعب في استخراجها كالشيء الملقى بين يديه يأخذ منه ما أراد ويترك ما أراد، وأيضا فإنه إذا كان مطلعا على المعاني المسبوق إليها قد ينقدح له من بينها معنى غريب لم يسبق إليه، ومن المعلوم أن خواطر الناس وإن كانت متفاوتة في الجودة والرداءة فإن بعضها لا يكون عاليا على بعض أو منحطا عنه إلا بشيء يسير، وكثيرا ما تتساوى القرائح والأفكار في الإتيان بالمعاني، حتى إن بعض الناس قد يأتي بمعنى موضوع بلفظ، ثم يأتي الآخر بعده بذلك المعنى واللفظ بعينهما من غير علم منه بما جاء به الأول، وهذا الذي يسميه أرباب هذه الصناعة وقوع الحافر على الحافر، وسيأتي لذلك باب مفرد في آخر كتابنا هذا؛ إن شاء الله تعالى. وأما النوع الخامس: - وهو معرفة الأحكام السلطانية من الإمامة والإمارة والقضاء والحسبة وغير ذلك- فإنما أوجبنا معرفتها والإحاطة بها لما يحتاج إليه الكاتب في تقليدات الملوك والأمراء والقضاة والمحتسبين ومن يجري مجراهم، وأيضا فإنه قد يحدث في الإمامة حادث في بعض الأوقات: بأن يموت الإمام القائم بأمر المسلمين، ثم يتولى من بعده من لم تكمل فيه شرائط الإمامة، أو يكون كامل الشرائط غير أن الإمام الذي كان قبله عهد بها إلى آخر غيره وهو ناقص الشرائط، أو يكون قد تنازع الإمامة اثنان، أو يكون أرباب الحل والعقد قد اختاروا إماما وهم غير كاملي الشرائط التي تجب أن توجد فيهم، أو يكون أمر غير ما ذكرناه، فتختلف الأطراف في ذلك، وينتصب ملك من الملوك له عناية بالإمام الذي قد قام للمسلمين، فيأمر كاتبه أن يكتب كتابا في أمره إلى الأطراف المخالفة له، وإذا لم يكن الكاتب عند ذلك عارفا بالحكم في هذه الحوادث، واختلاف أقوال العلماء فيها، وما هو رخصة في ذلك وما ليس برخصة؛ لا يكتب كتابا ينتفع به، ولسنا نعني بهذا القول أن يكون الكتاب مقصورا على فقه محض فقط؛ لأنا لو أردنا ذلك لما

وأما النوع السادس: -

كنا نحتاج فيه إلى كتب كتاب بلاغي، بل كنا نقتصر على إرسال مصنف من مصنفات الفقه عوضا عن الكتاب، وإنما قصدنا أن يكون الكاتب الذي يكتب في هذا المعنى مشتملا على الترغيب والترهيب، والمسامحة في موضع والمحاقة «1» في موضع، مشحونا ذلك بالنكت الشرعية المبرزة في قوالب البلاغة والفصاحة، كما فعل الكاتب الصابي في الكتاب الذي كتبه عن عز الدولة بختيار بن معز الدولة ابن بويه إلى الإمام الطائع لما خلع المطيع؛ فإنه من محاسن الكتب التي تكتب في هذا الفن. وأما النوع السادس:- وهو حفظ القرآن الكريم- فإن صاحب هذه الصناعة ينبغي له أن يكون عارفا بذلك؛ لأن فيه فوائد كثيرة، منها أنه يضمّن كلامه بالآيات في أماكنها اللائقة بها ومواضعها المناسبة لها، ولا شبهة فيما يصير للكلام بذلك من الفخامة والجزالة والرّونق؛ ومنها أنه إذا عرف مواقع البلاغة وأسرار الفصاحة المودعة في تأليف القرآن اتّخذه بحرا يستخرج منه الدرر والجواهر ويودعها مطاوي كلامه، كما فعلته أنا فيما أنشأته من المكاتبات، وكفى بالقرآن الكريم وحده آلة وأداة في استعمال أفانين الكلام؛ فعليك أيها المتوشح لهذه الصناعة بحفظه والفحص عن سره وغامض رموزه وإشاراته؛ فإنه تجارة لن تبور، ومنبع لا يغور، وكنز يرجع إليه، وذخر يعوّل عليه. وأما النوع السابع: - وهو حفظ الأخبار النبوية مما يحتاج إلى استعماله- فإن الأمر في ذلك يجري مجرى القرآن الكريم، وقد تقدم القول عليه، فاعرفه. وأما النوع الثامن: - وهو ما يختص بالناظم دون الناثر، وذلك معرفة العروض وما يجوز فيه من الزحاف وما لا يجوز- فإن الشاعر محتاج إليه، ولسنا نوجب عليه المعرفة بذلك لينظم بعلمه؛ فإن النظم مبني على الذوق، ولو نظم بتقطيع الأفاعيل لجاء شعره متكلفا غير مرضي، وإنما أريد للشاعر معرفة العروض لأن الذوق قد ينبو

عن بعض الزحافات، ويكون ذلك جائزا في العروض، وقد ورد للعرب مثله، فإذا كان الشاعر غير عالم به لم يفرق بين ما يجوز من ذلك وما لا يجوز، وكذلك أيضا يحتاج الشاعر إلى العلم بالقوافي والحركات؛ ليعلم الروي والردف وما يصح من ذلك وما لا يصح. فإذا أكمل صاحب هذه الصناعة معرفة هذه الآلات، وكان ذا طبع مجيب وقريحة مواتية، فعليه بالنظر في كتابنا هذا، والتصفح لما أودعناه من حقائق علم البيان، ونبهنا عليه من أصول ذلك وفروعه، على أن الذي ذكرناه من هذه الآلات الثمان هو كالأصل لما يحتاج إليه الخطيب والشاعر، ومعرفته ضرورية لا بد منها، وههنا أشياء أخر هي كالتوابع والروادف. وبالجملة فإن صاحب هذه الصناعة يحتاج إلى التشبث بكل فن من الفنون؛ حتى إنه يحتاج إلى معرفة ما تقوله النادبة بين النساء، والماشطة عند جلوة العروس، وإلى ما يقوله المنادي في السوق على السلعة، فما ظنك بما فوق هذا، والسبب في ذلك أنه مؤهل لأن يهيم في كل واد؛ فيحتاج أن يتعلق بكل فن.

الفصل الثالث في الحكم على المعاني

الفصل الثالث في الحكم على المعاني وفائدة هذا الفصل الإحاطة بأساليب المعاني على اختلافها وتباينها، وصاحب هذه الصناعة مفتقر إلى هذا الفصل والذي يليه، بخلاف غيرهما من هذه الفصول المذكورة، لا سيما مفسري الأشعار؛ فإنهم به أعنى. واعلم أن الأصل في المعنى أن يحمل على ظاهره لفظه، ومن يذهب إلى التأويل يفتقر إلى دليل، كقوله تعالى: «وثيابك فطهر» فالظاهر من لفظ الثياب هو ما يلبس، ومن تأول ذهب إلى أن المراد هو القلب، لا الملبوس، وهذا لا بد له من دليل؛ لأنه عدول عن ظاهر اللفظ، وكذلك ورد عن عيسى بن مريم عليه السلام أنه قال: إذا أردت أن تصلي فادخل بيتك وأغلق بابك، فالظاهر من هذا هو البيت والباب، ومن تأول ذهب إلى أنه أراد أنك تجمع عليك همّ قلبك وتمنع أن يخطر به سوى أمر الصلاة، فعبّر عن القلب بالبيت، وعن منع الخواطر التي تخطر له بإغلاق الباب، وهذا يحتاج إلى دليل؛ لأنه عدول عن ظاهر اللفظ؛ فالمعنى المحمول على ظاهره لا يقع في تفسيره خلاف، والمعنى المعدول عن ظاهره إلى التأويل يقع فيه الخلاف؛ إذ باب التأويل غير محصور، والعلماء متفاوتون في هذا، فإنه قد يأخذ بعضهم وجها ضعيفا من التأويل فيكسوه بعبارته قوة تميزه على غيره من الوجود القوية؛ فإن السيف بضاربه: إنّ السّيوف مع الّذين قلوبهم ... كقلوبهنّ إذا التقى الجمعان تلقى الحسام على جراءة حدّه ... مثل الجبان بكفّ كلّ جبان وذهب بعضهم في الفرق بين التفسير والتأويل إلى شيء غير مرضيّ، فقال: التفسير: بيان وضع اللفظ حقيقة، كتفسير الصراط بالطريق، والتأويل: إظهار باطن

اللفظ، كقوله تعالى: «إن ربك لبالمرصاد» فتفسيره من الرّصد، يقال: رصدته؛ إذا رقبته، وتأويله تحذير العباد من تعدّي حدود الله ومخالفة أوامره، والذي عندي في ذلك أنه أصاب في الآخر، ولم يصب في الأول؛ لأن قوله: «التفسير بيان وضع اللفظ حقيقة» لا مستند لجوازه، بل التفسير يطلق على بيان وضع اللفظ حقيقة ومجازا؛ لأنه من الفسر، وهو الكشف، كتفسير الرصد في الآية المشار إليها بالرّقبة وتفسيره بالتحذير من تعدّي حدود الله ومخالفة أوامره. وأما التأويل فإنه أحد قسمي التفسير، وذاك أنه رجوع عن ظاهر اللفظ، وهو مشتق من الأوّل، وهو الرجوع، يقال: آل يؤل، إذا رجع، وعلى هذا فإن التأويل خاص والتفسير عام؛ فكل تأويل تفسير، وليس كل تفسير تأويلا، ولهذا يقال: تفسير القرآن، ومن تفسيره ظاهر وباطن، وهذا الفصل الذي نحن بصدد ذكره ههنا يرجع أكثره إلى التأويل؛ لأنه أدق. ولا يخلو تأويل المعنى من ثلاثة أقسام: إما أن يفهم منه شيء واحد لا يحتمل غيره، وإما أن يفهم منه الشيء وغيره، وتلك الغيرية: إما أن تكون ضدا، أو لا تكون ضدا، وليس لنا قسم رابع. فالأوّل: يقع عليه أكثر الأشعار، ولا يجري في الدقة واللطافة مجرى القسمين الآخرين. وأما القسم الثاني: فإنه قليل الوقوع جدا، وهو من أظرف التأويلات المعنوية؛ لأن دلالة اللفظ على المعنى وضده أغرب من دلالته على المعنى وغيره مما ليس بضده، فمما جاء منه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة في غيره من المساجد إلّا المسجد الحرام» ؛ فهذا الحديث يستخرج منه معنيان ضدان: أحدهما: أن المسجد الحرام أفضل من مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والآخر: أن مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أفضل من المسجد الحرام: أي أن صلاة واحدة فيه لا تفضل ألف صلاة في المسجد الحرام، بل تفضل ما دونها، بخلاف المساجد الباقية فإن ألف صلاة فيها تقصر عن صلاة واحدة فيه.

وكذلك جاء قول النبي صلّى الله عليه وسلّم أيضا: «من كلام النّبوّة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت» وهذا يشتمل على معنيين ضدين: أحدهما: أن المراد به إذا لم تفعل فعلا تستحي منه فافعل ما شئت، والآخر: أن المراد به إذا لم يكن لك حياء يزعك «1» عن فعل ما يستحى منه فافعل ما شئت، وهذان معنيان ضدان أحدهما مدح والآخر ذم. ومثله ورد في الحديث النبوي أيضا، وذلك أنه ذكر شريح الحضرمي عند النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «لا يتوسّد القرآن» وهذا يحتمل مدحا وذما؛ أما المدح فالمراد به أنه لا ينام الليل عن القرآن فيكون القرآن متوسدا معه لم يتهجد به، وأما الذم فالمراد به أنه لا يحفظ من القرآن شيئا، فإذا نام لم يتوسد معه القرآن، وهذان التأويلان من الأضداد. وكثيرا ما يرد أمثال ذلك في الأحاديث النبوية. ويجري على هذا النهج من الشعر قول أبي الطيب في قصيدة يمدح بها كافورا: وأظلم أهل الظّلم من بات حاسدا ... لمن بات في نعمائه يتقلّب وهذا البيت يستخرج منه معنيان ضدان: أحدهما: أن المنعم عليه يحسد المنعم، والآخر: أن المنعم يحسد المنعم عليه. وكذلك ورد قوله أيضا من قصيدة يمدحه: فإن نلت ما أمّلت منك فربّما ... شربت بماء يعجز الطّير ورده فإن هذا البيت يحتمل مدحا وذما، وإذا أخذ بمفرده من غير نظر إلى ما قبله فإنه يكون بالذم أولى منه بالمدح؛ لأنه يتضمن وصف نواله بالبعد والشذوذ، وصدر البيت مفتتح بإن الشرطية، وقد أجيب بلفظة رب التي معناها التقليل: أي لست من

نوالك على يقين، فإن نلته فربما وصلت إلى مورد لا يصل إليه الطير لبعده، وإذا نظر إلى ما قبل هذا البيت دلّ على المدح خاصة؛ لارتباطه بالمعنى الذي قبله. وكثيرا ما كان يقصد المتنبي هذا القسم في شعره، كقوله من قصيدة أولها: عدوّك مذموم بكل لسان ... ولو كان من أعدائك القمران ولله سرّ في علاك وإنّما ... كلام العدا ضرب من الهذيان ثم قال: فما لك تعنى بالأسنّة والقنا ... وجدّك طعّان بغير سنان!؟ فإن هذا بالذم أشبه منه بالمدح؛ لأنه يقول: لم تبلغ ما بلغته بسعيك واهتمامك، بل بجد وسعادة، وهذا لا فضل فيه؛ لأن السعادة تنال الخامل والجاهد، ومن لا يستحقها، وأكثر ما كان المتنبي يستعمل هذا القسم في قصائده الكافوريات. وحكى أبو الفتح بن جني قال: قرأت على أبي الطيب ديوانه، إلى أن وصلت إلى قصيدته التي أولها: أغالب فيك الشّوق والشّوق أغلب فأتيت منها على هذا البيت، وهو: وما طربي لمّا رأيتك بدعة ... لقد كنت أرجو أن أراك فأطرب فقلت له: يا أبا الطيب، لم تزد على أن جعلته أبا رنة، فضحك لقولي. وهذا القسم من الكلام يسمى الموجّه: أي له وجهان، وهو مما يدل على براعة الشاعر وحسن تأتّيه. وأما القسم الثالث: فإنه يكون أكثر وقوعا من القسم الثاني، وهو واسطة بين طرفين؛ لأن القسم الأول كثير الوقوع، والقسم الثاني قليل الوقوع، وهذا القسم الثالث وسط بينهما.

فمما جاء منه قوله تعالى: «ولا تقتلوا أنفسكم» فإن هذا له وجهان من التأويل: أحدهما: القتل الحقيقي الذي هو معروف، والآخر: هو القتل المجازي، وهو الإكباب على المعاصي، فإن الإنسان إذا أكبّ على المعاصي قتل نفسه في الآخرة. ومن ذلك ما ورد في قصة إبراهيم وذبح ولده عليهما السلام، فقال الله تعالى حكاية عنه: «وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين. رب هب لي من الصالحين. فبشرناه بغلام حليم. فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين. فلما أسلما وتله للجبين. وناديناه أن يا إبراهيم. قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين. إن هذا لهو البلاء المبين. وفديناه بذبح عظيم. وتركنا عليه في الآخرين. سلام على إبراهيم. كذلك نجزي المحسنين. إنه من عبادنا المؤمنين. وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين» فقوله تعالى: «وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين» قد يكون بشارة بنبوته بعد البشارة بميلاده، وقد يكون استئنافا بذكره بعد ذكر إسمعيل عليه السلام وذبحه، والتأويل متجاذب بين هذين الأمرين، ولا دليل على الاختصاص بأحدهما، ولم يرد في القرآن ما يدل على أن الذبيح إسمعيل ولا إسحق عليهما السلام، وكذلك لم يرد في الأخبار التي صحّت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وأمّا ما يروى عنه أنه قال: «أنا ابن الذّبيحين» فخارج عن الأخبار الصحيحة، وفي التوراة أن إسحق عليه السلام هو الذبيح. ومن ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لأزواجه: «أطولكنّ يدا أسرعكنّ لحوقا بي» فلما مات صلوات الله عليه جعلن يطاولن بين أيديهن حتى ينظرن أيتهن أطول يدا، ثم كانت زينب أسرعهن لحوقا به، وكانت كثيرة الصدقة، فعلمن حينئذ أنه لم يرد الجارحة، وإنما أراد الصدقة؛ فهذا القول يدل على المعنيين المشار إليهما. ومن ذلك ما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: خدمت

رسول الله عشر سنين فلم يقل لشيء فعلته لم فعلته ولا لشيء لم أفعله لم لا فعلته، وهذا القول يحتمل وجهين من التأويل: أحدهما: وصف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالصبر على خلق من يصحبه، والآخر: أنه وصف نفسه بالفطنة والذكاء فيما يقصده من الأعمال، كأنه متفطن لما في نفس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فيفعله من غير حاجة إلى استئذانه. ومن ذلك ما ورد في الأدعية النبويّة؛ فإنه صلّى الله عليه وسلّم دعا على رجل من المشركين فقال: «اللهمّ اقطع أثره» وهذا يحتمل ثلاثة أوجه من التأويل: الأول: أنه دعا عليه بالزمانة، لأنه إذا زمن لا يستطيع أن يمشي على الأرض، فينقطع حينئذ أثره؛ الوجه الثاني: أنه دعا عليه بأن لا يكون له نسل من بعده ولا عقب؛ الوجه الثالث: أنه دعا عليه بأن لا يكون له أثر من الآثار مطلقا وهو أن لا يفعل فعلا يبقى أثره من بعده كائنا ما كان من عقب أو بناء أو غراس أو غير ذلك. وظفرت الحرورية برجل فقالوا له: ابرأ من علي وعثمان، فقال: أنا من علي ومن عثمان أبرأ، فهذا يدل على معنيين: أحدهما: أنه بريء من عثمان وحده، والآخر: أنه بريء منهما جميعا، والرجل لم يرد إلا الوجه الأول. ومن ذلك ما يحكي عن عبد المسيح بن بقيلة لما نزل بهم خالد بن الوليد على الحيرة، وذاك أنه خرج إليه عبد المسيح بن بقيلة، فلما مثل بين يديه قال: انعم صباحا أيها الملك، فقال له خالد: قد أغنانا الله عن تحيتك هذه بسلام عليكم، ثم قال له: من أين أقصي أثرك؟ قال: من ظهر أبي، قال: فمن أين خرجت؟ قالت: من بطن أمي، قال: فعلام أنت؟ قال: على الأرض، قال: ففيم أنت؟ قال: في ثيابي، قال: ابن كم أنت؟ قال: ابن رجل واحد، قال خالد: ما رأيت كاليوم قط، أنا أسأله عن الشيء وهو ينحو في غيره، وهذا من توجيه الكلام على نمط حسن، وهو يصلح أن يكون جوابا لخالد عما سأل، ويصلح أن يكون جوابا لغيره مما ذكره عبد المسيح بن بقيلة. وقد ورد في التوراة أن لا يؤكل الجدي بلبن أمه، وهذا يحتمل التحريم في

وجهين: أحدهما: ما دل عليه ظاهر لفظه، وهو تحريم لحم الجدي بلبن أمه خاصة، وإذا أكل بلبن غير لبن أمه جاز ذلك، ولم يكن حراما، وهذا لا يأخذ به أحد من اليهود، والوجه الآخر- وهو الذي يؤخذ به عند اليهود جميعهم-: أن أكل اللحم باللبن حرام، كائنا ما كان من اللحوم، إلا طائفة منهم يسمون القرائين؛ فإنهم تأولوا فأكلوا لحم الطير باللبن، وقالوا: إنما حرم اللحم باللبن من اللحوم ذوات الألبان، والطير من ذوات البيض لا من ذوات الألبان. ومما يجري على هذا النهج ما يحكى عن أفلاطون أنه قال: ترك الدواء دواء؛ فذهب بعض الأطباء أنه أراد: إن لطف المزاج، وانتهى إلى غاية لا يحتمل الدواء، فتركه حينئذ والإضراب عنه دواء، وذهب آخرون إلى أنه أراد بالترك الوضع: أي وضع الدواء على الداء دواء، يشير بذلك إلى حذق الطبيب في أوقات علاجه. ومثله في الشعر قول الفرزدق: إذا جعفر مرّت على هضبة الحمى ... فقد أخزت الأحياء منها قبورها وهذا يدل على معنيين: أحدهما: ذم الأحياء، والآخر: ذم الأموات؛ أما ذم الأحياء فهو أنهم خذلوا الأموات، يريد أنهم تلاقوا في قتالهم وقوما آخرين ففر الأحياء عنهم وأسلموهم، أو أنهم استنجدوهم فلم ينجدوهم، وأما ذم الأموات فهو أن لهم مخازي وفضائح توجب عارا وشنارا، فهم يعيرون بها الأحياء ويلصقونها بهم. وعلى هذا ورد قول أبي تمام: بالشّعر طول إذا اصطكّت قصائده ... في معشر، وبه عن معشر قصر فهذا البيت يحتمل تأولين: أحدهما: أن الشعر يتسع مجاله بمدحك ويضيق بمدح غيرك، يريد بذلك أن مآثره كثيرة، ومآثر غيره قليلة؛ والآخر: أنّ الشعر يكون ذا فخر ونباهة بمدحك، وذا خمول بمدح غيرك، فلفظة الطول يفهم منها ضد القصر، ويفهم منها الفخر، من قولنا: «طال فلان على فلان» أي فخر عليه.

ومما ينتظم بهذا السلك قول أبي كبير الهذلي: عجبت لسعي الدّهر بيني وبينها ... فلمّا انقضى ما بيننا سكن الدّهر وهذا يحتمل وجهين من التأويل: أحدهما: أنه أراد بسعي الدهر سرعة تقضّي الأوقات مدّة الوصال، فلما انقضى الوصل عاد الدهر إلى حالته في السكون والبطء؛ والآخر: أنه أراد بسعي الدهر سعي أهل الدهر بالنمائم والوشايات، فلما انقضى ما كان بينهما من الوصل سكنوا وتركوا السعاية، وهذا من باب وضع المضاف إليه مكان المضاف، كقوله تعالى: «وسئل القرية» أي أهل القرية. ومن الدقيق المعني في هذا الباب قول أبي الطيب المتنبي في عضد الدولة من جملة قصيدته التي أولها: أوه بديل من قولتي واها فقال: لو فطنت خيله لنائله ... لم يرضها أن تراه يرضاها وهذا يستنبط منه معنيان غيران: أحدهما: أن خيله لو علمت مقدار عطاياه؛ لأن عطاياه أنفس منها، والآخر: أن خيله لو علمت أنه يهبها من جملة عطاياه لما رضيت ذلك؛ إذ تكره خروجها عن ملكه، وهذان الوجهان أنا ذكرتهما وإنما المذكور منهما أحدهما. وهذا الذي أشرت إليه من الكلام على المعاني وتأويلاتها كاف لمن عنده ذوق وله قوة على حملها على أشباهها ونظائرها.

الفصل الرابع في الترجيح بين المعاني

الفصل الرابع في الترجيح بين المعاني وهذا الفصل هو ميزان الخواطر الذي يوزن به نقد درهمها ودينارها، بل المحكّ الذي يعلم منه مقدار عيارها، ولا يزن به إلا ذو فكرة متّقدة، ولمحة منتقدة، فليس كل من حمل ميزانا سمّي صرّافا، ولا كل من وزن به سمّي عرّافا، والفرق بين هذا الترجيح الفقهي أن هناك يرجّح بين دليلي الخصمين في حكم شرعي، وههنا يرجح بين جانبي فصاحة وبلاغة في ألفاظ ومعان خطابية؛ وبيان ذلك أن صاحب الترجيح الفقهي يرجع بين خبر التواتر مثلا وبين خبر الآحاد، أو بين المسند والمرسل، أو ما جرى هذا المجرى، وهذا لا يعرض إليه صاحب علم البيان؛ لأنه ليس من شأنه، ولكن الذي هو من شأنه أن يرجع بين حقيقة ومجاز، أو بين حقيقتين، أو بين مجازين، ويكون ناظرا في ذلك كله إلى الصناعة الخطابية، ولربما اتفق هو وصاحب الترجيح الفقهي في بعض المواضع؛ كالترجيح بين عام وخاص، أو ما شابه ذلك. وكنا قد قدمنا القول في الحكم على المعاني وانقسامها، ولنبين في هذا الفصل مواضع الترجيح بين وجوه تأويلاتها؛ فنقول: أما القسم الأول من المعاني فلا تعلق للترجيح به، إذا ما دلّ عليه ظاهر لفظه ولا يحتمل إلا وجها واحدا فليس من هذا الباب في شيء، والترجيح إنما يقع بين معنيين يدل عليهما لفظ واحد. ولا يخلو الترجيح بينهما من ثلاثة أقسام: إما أن يكون اللفظ حقيقة في أحدهما مجازا في الآخر، أو حقيقة فيهما جميعا، أو مجازا فيهما جميعا، وليس لنا قسم رابع، والترجيح بين الحقيقتين أو بين المجازين يحتاج إلى نظر، وأما الترجيح بين

الحقيقة والمجاز، فإنه يعلم ببديهة النظر؛ لمكان الاختلاف بينهما، والشيئان المختلفان يظهر الفرق بينهما، بخلاف ما يظهر بين الشيئين المشتبهين. فمثال الحقيقة والمجاز قوله تعالى: «ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون، حتى إذا ما جاوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون» فالجلود ههنا تفسّر حقيقة ومجازا: أما الحقيقة فيراد بها الجلود مطلقا، وأما المجاز فيراد بها الفروج خاصة، وهذا هو الجانب البلاغي الذي يرجح جانب المجاز على الحقيقة؛ لما فيه من لطف الكناية عن المكنّى عنه، وقد يسأل ههنا في الترجيح بين الحقيقة والمجاز عن غير الجانب البلاغي، ويقال: ما بيان هذا الترجيح؟ فيقال: طريقه لفظ الجلود عام فلا يخلو إما أن يراد به الجلود مطلقا أو يراد به الجوارح التي هي أدوات الأعمال خاصة، ولا يجوز أن يراد به الجلود على الإطلاق؛ لأن شهادة غير الجوارح التي هي الفاعلة شهادة باطلة؛ إذ هي شهادة غير شاهد، والشهادة غير شاهد، والشهادة هنا يراد بها الإقرار، فتقول اليد: أنا فعلت كذا وكذا، وتقول الرّجل: أنا مشيت إلى كذا وكذا، وكذلك الجوارح الباقية تنطق مقرّة بأعمالها، فترجح بهذا أن يكون المراد به شهادة الجوارح، وإذا أريد به الجوارح فلا يخلو إما أن يراد به الكل أو البعض؛ فإن أريد به الكل دخل تحته السمع والبصر، ولم يكن لتخصيصهما بالذكر فائدة، وإن أريد به البعض فهو بالفرج أخص منه بغيره من الجوارح؛ لأمرين: أحدهما: أن الجوارح كلها قد ذكرت في القرآن الكريم شاهدة على صاحبها بالمعصية ما عدا الفرج، فكان حمل الجلد عليه أولى؛ ليستكمل ذكر الجميع؛ الآخر: أنه ليس في الجوارح ما يكره التصريح بذكره إلّا الفرج، فكني عنه بالجلد؛ لأنه موضع يكره التصريح فيه بالمسمّى على حقيقته. فإن قيل: إن تخصيص السمع والبصر بالذكر من باب التفصيل، كقوله تعالى: «فاكهة ونخل ورمان» والنخل والرمان من الفاكهة. قلت في الجواب: هذا القول عليك لا لك؛ لأن النخل والرمان إنما ذكر التفضيل لهما في الشكل أو في الطعم، والفضيلة ههنا في ذكر الشهادة إنما هي

تعظيم لأمر المعصية، وغير السمع والبصر أعظم في المعصية؛ لأن معصية السمع إنما تكون في سماع غيبة، أو في سماع صوت مزمار أو وتر، أو ما جرى هذا المجرى، ومعصية البصر إنما تكون في النظر إلى محرم، وكلتا المعصيتين لا حدّ فيهما، وأما المعاصي التي توجد من غير السمع والبصر فأعظم؛ لأن معصية اليد توجب القطع، ومعصية الفرج توجب جلد مائة أو الرجم، وهذا أعظم، فكان ينبغي أن تخصّ بالذكر دون السمع والبصر، وإذا ثبت فساد ما ذهبت إليه فلم يكن المراد بالجلود إلا الفروج خاصة. وأما مثال المعنيين إذا كانا حقيقيين فقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «التمسوا الرّزق في خبايا الأرض» والخبايا: جمع خبيئة، وهو كل ما يخبأ كائنا ما كان، وهذا يدل على معنيين حقيقيين: أحدهما: الكنوز المخبوأة في بطون الأرض، والآخر: الحرث والغراس؛ وجانب الحرث والغراس أرجح؛ لأن مواضع الكنوز لا تعلم حتى تلتمس، والنبي صلّى الله عليه وسلّم لا يأمر بذلك؛ لأنه شيء مجهول غير معلوم، فبقي المراد بخبايا الأرض ما يحرث ويغرس. وكذلك ورد قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا ابتلّت النّعال فالصّلاة في الرّحال» وهذا الحديث مرخّص في ترك صلاة الجماعة بسبب المطر، وله تأويلان: أحدهما: أنه أراد نعال الأرض، وهو ما غلظ منها، والآخر: أنه أراد الأحذية، والوجه هو الثاني؛ لظهوره في الدلالة على المعنى، وأكثر العلماء عليه، ولو كان المراد به غلظ من الأرض لخرج عن هذا الحكم كل بلد تكون أرضه سهلة لا غلظ فيها. وأما مثال المعنيين المجازيين فقول أبي تمام: قد بلونا أبا سعيد حديثا ... وبلونا أبا سعيد قديما ووردناه ساحلا وقليبا ... ورعيناه بارضا وجميما «1»

فعلمنا أن ليس إلّا بشقّ النّ ... فس صار الكريم يدعى كريما فالساحل والقليب يستخرج منهما تأويلان مجازيان: أحدهما: أنه أراد بهما الكثير والقليل بالنسبة إلى الساحل والقليب، والآخر: أنه أراد بهما السبب وغير السبب؛ فإن الساحل لا يحتاج في ورده إلى سبب، والقليب يحتاج في ورده إلى سبب، وكلا هذين المعنيين مجاز؛ فإن حقيقة الساحل والقليب غيرهما، والوجه هو الثاني؛ لأنه أدل على بلاغه القائل ومدح المقول فيه، أما بلاغة القائل فالسلامة من هجنة التكرير بالمخالفة بين صدر البيت وعجزه، فإن عجزه يدلّ على القليل والكثير، لأن البارض هو أول النبت حين يبدو، فإذا كثر وتكاثف سمي جميما «1» ، فكأنه قال: أخذنا منه تبرعا ومسألة، وقليلا وكثيرا، وأما مدح المقول فيه فلتعداد حالاته الأربع في تبرعه وسؤاله وإكثاره وإقلاله، وما في معاناة هذه الأحوال من المشاقّ. فهذا ما يتعلق بالترجيح البلاغي بين الحقيقة والحقيقة، وبين المجاز والمجاز، وبين الحقيقة والمجاز. وههنا ترجيح آخر لا يتعلق بما أشرنا إليه؛ إذ هو خارج عما تقتضيه المعاني الخطابية من جهة الفصاحة أو البلاغة، وذلك أن يرجح بين معنيين: أحدهما: تام، والآخر: مقدّر، أو يكون أحدهما: مناسبا لمعنى تقدّمه أو تأخر عنه، والآخر: غير مناسب، أو بأن ينظر في الترجيح بينهما إلى شيء خارج عن اللفظ؛ فمثال المعنيين المشار إليهما أن المعنى التام هو الذي يدل عليه لفظه ولا يتعداه، وأما المقدر فهو الذي لا يدل عليه لفظه بل يستدل عليه بقرينة أخرى، وتلك القرينة قد تكون من توابعه وقد لا تكون.

فمما جاء من ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «في سائمة «1» الغنم زكاة» ؛ فهذا اللفظ يستخرج منه معنيان: أحدهما: تام، والآخر: مقدر، فالتام دلالته على وجوب الزكاة في السائمة لا غير، والمقدّر دلالته على سقوط الزكاة عن المعلوفة، إلا أنه ليس مفهوما من نفس اللفظ، بل من قرينة أخرى هي كالتابعة له، وهي أنه لما خصت السائمة بالذكر دون المعلوفة علم من مفهوم ذلك أن المعلوفة لا زكاة فيها، وللفقهاء في ذلك مجاذبات جدلية يطول الكلام فيها، وليس هذا موضعها، والذي يترجح عندي هو القول بفحوى المعنى المقدر، وهو الذي يسميه الفقهاء مفهوم الخطاب. وله في الشعر أشباه ونظائر: فمما ورد من ذلك شعرا قول جزء بن كليب الفقعسي «2» من شعراء الحماسة، وقد خطب إليه ابن كوز ابنته فرده: تبغّى ابن كوز والسّفاهة كاسمها ... ليستاد منّا أن سنونا لياليا «3» فلا تطلبنها يا ابن كوز فإنّه ... غذا النّاس مذ قام النّبيّ الجواريا «4»

وهذا البيت الثاني يشتمل على المعنيين التام والمقدر، أما التام فإن ابن كوز سأل أبا هذه الجارية أن يزوجه إياها في سنة، والسنة: الجدب؛ فرده وقال: قد غذا الناس البنات مذ قام النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأنا أيضا أغذو هذه، ولولا ذلك لوأدتها كما كانت الجاهلية تفعل، وفيه وجه آخر، وهو أنهم كانوا يئدون البنات قبل الإسلام، فلما جاء النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن ذلك، فقوله: «غذا الناس مذ قام النبي الجواريا» أي في النساء كثرة، فتزوج بعضهنّ وخلّ ابنتي، وهذان المعنيان هما اللذان دلّ عليهما ظاهر اللفظ، وأما المعنى المقدر الذي يعلم من مفهوم الكلام، فإنه يقول: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بإحياء البنات، ونهى عن الوأد، ولو أنكحتكها لكنت قد وأدتها؛ إذ لا فرق بين إنكاحك إياها وبين وأدها، وهذا ذم للمخاطب، وهو معنى دقيق، ومجيء المعاني المستخرجة من المفهومة قليل من الشعر. وأما ما يستدل عليه بقرينة ليست من توابعه فإن ذلك أدق من الأول، وألطف مأخذا. فمما ورد منه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من جعل قاضيا بين النّاس فقد ذبح بغير سكّين» فهذا يستخرج منه المعنيان المشار إليهما، فالتام منهما يدل على أنه من جعل قاضيا فقد عرض نفسه لخطر عظيم كالذبح بغير سكين، وأما المقدر فإنه يدل على أنه من جعل قاضيا فقد أمر بمفارقة هواه، وهذا لا يدل عليه اللفظ بنفسه، بل يستدل عليه بقرينة أخرى، ولكنها ليست من توابعه، ووجه ذلك أن لفظ الحديث عام يشتمل القضاة على الإطلاق، ولا يخلو إما أن يراد به عذاب الآخرة أو عذاب الدنيا، ولا يجوز أن يكون المراد به عذاب الآخرة؛ لأنه ليس كل قاض معذبا في الآخرة، بل المعذب منهم قضاة السوء، فوضع بهذا أن المراد بالحديث عذاب الدنيا، وعلى هذا فلا يخلو إما أن يكون العذاب صورة أو معنى، ولا يجوز أن يكون صورة؛ لأنا نرى الإنسان إذا جعل قاضيا لا يذبح ولا يناله شيء من ذلك، فبقي أن يكون المراد به عذابا معنويا، وهو الذبح المجازي غير الحقيقي، وفحوى ذلك أن نفس الإنسان مركبة على حبّ هواها، فإذا جعل قاضيا فقد أمر بترك ما جبل على حبه: من الامتناع عن الرّشوة، والحكم لصديقه على عدوّه، ورفع

الحجاب بينه وبين الناس، والجلوس للحكم في أوقات راحته، وغير ذلك من الأشياء المكروهة التي تشق على النفس وتجدد لها ألما مبرّحا، والذبح هو قطع الحلقوم، والألم حاصل به، وهو كالذبح الحقيقي، بل أشد منه؛ لأن ألم الذبح الحقيقي يكون لحظة واحدة ثم ينقضي ويزول، وألم قطع النفس عن هواها يدوم ولا ينقضي، وهو أشد العذاب. قال الله في عذاب أهل النار: «وحيل بينهم وبين ما يشتهون» وقال في نعيم أهل الجنة: «وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين» . وكثيرا ما رأينا وسمعنا من حمله حب الشيء على إتلاف نفسه في طلبه، وركوب الأهوال من أجله، فإذا امتنع عنه مع حبه إياه فقد ذبح نفسه: أي قطعها عنه كما يقطع الذابح حلق الذبيحة؛ ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «انتقلنا عن الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» فسمّى جهاد الكفار الجهاد الأصغر وجهاد النفس الجهاد الأكبر، فكما أن مجاهدة النفس عن هواها قتال بغير سيف فكذلك قطعها عن هواها ذبح بغير سكين، وهذا موضع غامض، والترجيح فيه مختص بالوجه الآخر؛ لاشتماله على المعنى المقصود، وهو المراد من القضاة على الإطلاق. وأما مثال المعنيين إذا كان أحدهما مناسبا لمعنى تقدمه أو لمعنى تأخر عنه والآخر غير مناسب: فالأول: هو ما كان مناسبا لمعنى تقدمه كقوله تعالى: «لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا» فالدعاء ههنا يدل على معنيين: أحدهما: النهي أن يدعى الرسول باسمه؛ فيقال: يا محمد، كما يدعو بعضهم بعضا بأسمائهم، وإنما يقال له: يا رسول الله، أو يا نبي الله؛ الآخر: النهي أن يجعلوا حضورهم عنده إذا دعاهم لأمر من الأمور كحضور بعضهم عند بعض، بل يتأدبون معه؛ بأن لا يفارقوا مجلسه إلا بإذنه، وهذا الوجه هو المراد؛ لمناسبة معنى الآبة التي قبله وهو قوله تعالى: «إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه» وأما الثاني: وهو ما كان مناسبا لمعنى تأخر عنه فكقوله تعالى: «والتين والزيتون. وطور سينين» فالتين والزيتون هما هذا الشجر المعروف، وهما اسما جبلين أيضا، وتأويلهما بالجبلين أولى؛

للمناسبة بينهما وبين ما أتى بعدهما من ذكر الجبل الذي هو الطور. وعلى هذا ورد قول الشاعر في أبيات الحماسة «1» : ولو كنت مولى قيس عيلان لم تجد ... عليّ لإنسان من النّاس درهما ولكنّني مولى قضاعة كلّها ... فلست أبالي أن أدين وتغرما فإذا نظرنا إلى البيت الأول وجدناه يحتمل مدحا وذما: أي أنهم كانوا يغنونه بعطائهم أن يدين، أو أنه كان يخاف الدّين حذر أن لا يقوموا عنه بوفائه، لكن البيت الثاني حقق أن الأول ذم وليس بمدح «2» ؛ فهذا المعنى لا يتحقق فهمه إلا بآخره. وأما الذي يكون الترجيح فيه بسبب شيء خارج عن مفهوم اللفظ فقوله تعالى: «وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم» ؛ فهذا مستنبط منه معنيان: أحدهما: أن الله يعلم السر والجهر في السموات والأرض، وفي ذلك تقديم وتأخير: أي يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض؛ والآخر: أنه في السموات، وأنه يعلم السر والجهر في الأرض من بني آدم؛ لأن الوقف يكون على السموات ثم يستأنف الكلام، فيقول: يعلم سركم وجهركم في الأرض، إلا أن هذا يمنع منه اعتقاد التجسيم، وذلك شيء خارج عن مفهوم اللفظ.

الفصل الخامس في جوامع الكلم

الفصل الخامس في جوامع الكلم قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أوتيت جوامع الكلم» فالكلم: جمع كلمة، والجوامع: جمع جامعة، والجامعة: اسم فاعلة من جمعت فهي جامعة، كما يقال في المذكر: جمع فهو جامع، والمراد بذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم أوتي الكلم الجوامع للمعاني، وهو عندي ينقسم قسمين: القسم الأول منهما هو ما استخرجته ونبهت عليه، ولم يكن لأحد فيه قول سابق، وهو أن لنا ألفاظا تتضمن من المعنى ما لا تتضمنه أخواتها مما يجوز أن يستعمل في مكانها؛ فمن ذلك ما يأتي على حكم المجاز، ومنه ما يأتي على حكم الحقيقة: أما ما يأتي على حكم المجاز فقوله صلّى الله عليه وسلّم يوم حنين: «الآن حمي الوطيس» ؛ وهذا لم يسمع من أحد قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولو أتينا بمجاز غير ذلك في معناه فقلنا: «استعرت الحرب» لما كان مؤديا من المعنى ما يؤديه «حمي الوطيس» والفرق بينهما أن الوطيس هو التّنّور، وهو موطن الوقود ومجتمع النار، وذلك يخيل إلى السامع أن هناك صورة شبيهة بصورته في حميها وتوقّدها، وهذا لا يوجد في قولنا: «استعرت الحرب» أو ما جرى مجراه. وكذلك قال صلّى الله عليه وسلّم: «بعثت في نفس السّاعة» فقوله: «نفس الساعة» من العبارة العجيبة التي لا يقوم غيرها مقامها؛ لأن المراد بذلك أنه بعث والساعة قريبة منه، لكن قربها منه لا يدل على ما دل عليه النّفس، وذاك أن النفس يدل على أن الساعة منه بحيث يحس بها كما يحس الإنسان بنفس من هو إلى جانبه، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم في موضع آخر: «بعثت أنا والسّاعة كهاتين» وجمع بين أصبعيه السّبّابة والوسطى، ولو قال بعثت على قرب من الساعة أو والساعة قريبة مني لما دلّ ذلك على ما دلّ عليه نفس الساعة، وهذا لا يحتاج إلى الإطالة في بيانه؛ لأنه بيّن واضح. وقد ورد شيء من ذلك في أقوال الشعراء المفلقين، ولقد تصفحت الأشعار

قديمها وحديثها، وحفظت ما حفظت منها، وكنت إذا مررت بنظري في ديوان من الدواوين ويلوح لي فيه مثل هذه الألفاظ أجد لها نشوة كنشوة الخمر، وطربا كطرب الألحان، وكثير من الناظمين والناثرين يمر على ذلك ولا يتفطن له، سوى أنه يستحسنه من غير نظر فيما نظرت أنا فيه، ويظنه كغيره من الألفاظ المستحسنة. فمما جاء من ذلك قول أبي تمام «1» : كم صارم عضب أناف على فتى ... منهم لأعباء الوغى حمّال «2» سبق المشيب إليه حتّى ابتزّه ... وطن النّهى من مفرق وقذال «3» فقوله: «وطن النّهى» من الكلمات الجامعة، وهي عبارة عن الرأس، ولا يجاء بمثلها في معناها مما يسدّ «4» مسدّها: وكذلك ورد قول البحتري: قلب يطلّ على أفكاره، ويد ... تمضي الأمور، ونفس لهوها التّعب فقوله: «قلب يطلّ على أفكاره» من الكلمات الجوامع، ومراده بذلك أن قلبه لا تملؤه الأفكار، ولا تحيط به، وإنما هو عال عليها، يصف بذلك عدم احتفاله

بالقوادح، وقلّة مبالاته بالخطوب التي تحدث أفكارا تستغرق القلوب، وهذه عبارة عجيبة لا يؤمن بمثلها مما يسدّ مسدها. وأما ما يأتي على حكم الحقيقة فكقول ابن الرومي: سقى الله أوطارا لنا ومآربا ... تقطّع من أقرانها ما تقطّعا ليال تنسّيني اللّيالي حسابها ... بلهنية أقضي بها الحول أجمعا سوى غرّة لا أعرف اليوم باسمه ... وأعمل فيه اللهو مرأى ومسمعا «1» فقوله: «لا أعرف اليوم باسمه» من الكلمات الجامعة: أي أني قد شغلت باللذات عن معرفة الليالي والأيام، ولو وصف اشتغاله باللذات مهما وصف لم يأت بمثل قوله: «لا أعرف اليوم باسمه» . وأما القسم الثاني من جوامع الكلم، فالمراد به الإيجاز الذي يدلّ به بالألفاظ «2» القليلة على المعاني الكثيرة: أي أن ألفاظه صلوات الله عليه جامعة للمعاني المقصودة على إيجازها واختصارها، وجلّ كلامه جار هذا المجرى؛ فلا يحتاج إلى ضرب الأمثلة به، وسيأتي في باب الإيجاز منه ما فيه كفاية ومقنع. فإن قيل: فما الفرق بين هذين القسمين اللذين ذكرتهما؛ فإنهما في النظر سواء؟. قلت في الجواب: إن الإيجاز هو أن يؤتى بألفاظ دالة على معنى من غير أن تزيد على ذلك المعنى، ولا يشترط في تلك الألفاظ أنها لا نظير لها؛ فإنها تكون قد اتّصفت بوصف آخر خارج عن وصف الإيجاز، وحينئذ يكون إيجازا وزيادة. وأما

هذا القسم الآخر فإنه ألفاظ أفراد في حسنها لا نظير لها «1» ، فتارة تكون موجزة، وتارة لا تكون موجزة، وليس الغرض منها الإيجاز، وإنما الغرض مكانها من الحسن الذي لا نظير لها فيه، ألا ترى إلى قول أبي تمام «وطن النهي» فإن ذلك عبارة عن الرأس، ولا شك أن الرأس أوجز؛ لأن الرأس لفظة واحدة، و «وطن النهي» لفظتان، إلا أن «وطن النهي» أحسن في التعبير عن الرأس من الرأس، فبان بهذا أن أحد هذين القسمين غير الآخر.

الفصل السادس في الحكمة التي هي ضالة المؤمن

الفصل السادس في الحكمة التي هي ضالة المؤمن قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الحكمة «1» ضالّة المؤمن فهو أحقّ بها إذا وجدها» ؛ والمراد بذلك أن الحكمة قد يستفيدها أهلها من غير أهلها، كما يقال: ربّ رمية من غير رام، وهذا لا يخص علما واحدا من العلوم، بل يقع في كل علم، والمطلوب منه ههنا هو ما يخص علم البيان من الفصاحة والبلاغة، دون غيره، ومذ سمعت هذا الخبر النبوي جعلت كدّي في تتبع أقوال الناس في مفاوضاتهم ومحاوراتهم، فإنه قد تصدر الأقوال البليغة والحكم والأمثال ممن لا يعلم مقدار ما يقوله، فاستفدت بذلك فوائد كثيرة لا أحصرها عددا، وأنا أذكر منها طرفا يستدل به على أشباهه ونظائره. فمن ذلك أني سرت في بعض الطرق وفي صحبتي رجل بدويّ من الأنباط لا يعتدّ بقوله، فكان يقول: غدا ندخل البلد وتشتغل عني، وكان الأمر كما قال، فدخلت مدينة حلب وشغلت عنه أياما، ثم لقيني فقال لي: من تروّى فترت عظامه، وهذا القول من الأقوال البليغة، وهي من الحكمة التي هي الضالة المطلوبة عند مؤمني الفصاحة والبلاغة. ثم إني سمعت منه بعد ذلك شيئا يناسب قوله الأول، فإني سفرت له إلى صاحب في حلب في شيء أخذته منه، فاستقله، وقال: الماء أروى لشدوق النّيب «2» وهذا أيضا من الحكمة في بابها. وسافرت مرة أخرى على طريق المناظر، وكان في صحبتي رجل بدوي،

فسألته عن مسافة ما بين تدمر وأراك، فقال: إذا خرج سرحاهما تلاقيا «1» ، فعبر عن قرب المسافة بينهما بأوجز عبارة وأبلغها. ثم سألته ليلة من الليالي عن الصبح لنرتحل من موضعنا، فقال: قد ظهر الصبح إلا أنه لم يملك الإنسان بصره، وهذا القول من الحكمة أيضا. وكان تزوج غلام من غلماني بدمشق، فوقعت المرأة منه بموقع، وشغف بها، ثم إني سافرت عن دمشق لمهم عرض لي، وسافر ذلك الغلام في صحبتي، فلما عدنا من السفر شغل بامرأته والمقام عندها، فسألته عن حاله، فقال: إنها قد طالت وحسنت، وهي كذا وكذا، وأخذ يصفها؛ فقال أخ له كان حاضرا: يا مولاي، هي تلك لم تزد شيئا، وإنما هي في عينه جبّار من الجبابرة «2» ، وهذا القول قد ورد في بعض أبيات الحماسة، وهو معدود من أبيات المعاني: أهابك إجلالا وما بك قدرة ... عليّ ولكن ملء عين حبيبها فكثيرا ما يصدر مثل هذه الأقوال عن ألسنة الجهال. وسمعت ما يجري هذا المجرى من بعض العبيد الأحابيش الذين لا يستطيعون تقويم صيغ الألفاظ، فضلا عما وراء ذلك، وذاك أنه رأى صبيا في يده طاقة ريحان، فقال: هذه طاقة آس تحمل طاقة ريحان، فلما سمعت ذلك منه أخذتني هزة التعجب، وذكرت شعر أبي نواس الذي تواصفه الناس في هذا المعنى، وهو قوله: ووردة جاء بها شادن ... في كفّه اليمنى فحيّانا سبّحت ربّي حين أبصرتها ... ريحانة تحمل ريحانا وحضر عندي في بعض الأيام رجل نصراني موسوم بالطبّ، وكان لا يحسن

أن يقول كلمة واحدة، وهو أقلف اللسان «1» ، يسيء العبارة، فسألته عن زيارة شخص وهل يتردد إليه أم لا، فقال: ظلام الليل يهديني إلى باب من أودّه، وضوء النهار يضلّ بي عن باب من لا أوده، وهذا من ألطف المعاني وأحسنها، وهو من الحكمة المطلوبة. وكنت قصدت زيارة بعض الإخوان من الأجناد وهو من الأغتام «2» الأعجام، فسألته عن حاله، وكان توالت عليه نكبات طالت أيامها، وعظمت آلامها، فقال لي في الجواب ما معناه: إنه لم يبق عندي ارتياع لوقوع نائبة من النوائب؛ وهذا معنى لو أتى به شاعر مفلق، أو كاتب بليغ؛ لاستحسن منه غاية الاستحسان. وكنت في سنة ثمان وثمانين وخمسمائة بأرض فلسطين في الجيش الذي كان قبالة العدو الكافر من الفرنج لعنهم الله، وتقابل الفريقان على مدينة يافا، وكان إلى جانبي ثلاثة فرسان من المسلمين، فتعاقدوا على الحملة إلى نحو العدو، فلما حملوا صدق منهم اثنان وتلكأ واحد، فقيل له في ذلك، فقال: الموت طعام لا تجشّه المعدة «3» فلما سمعت هذه الكلمة استحسنتها، وإذا هي صادرة عن رجل من أهل بصرى فدم من الأفدام «4» . ولو أخذت في ذكر ما سمعته من هذا لأطلت، وإنما دللت بيسير ما ذكرته على المراد، وهو أنه يجب على المتصدّي للشعر والخطابة أن يتتبع أقوال الناس

في محاوراتهم؛ فإنه لا يعدم مما يسمعه منهم حكما كثيرة، ولو أراد استخراج ذلك بفكره لأعجزه. ويحكى عن أبي تمام أنه لما نظم قصيدته البائية التي أولها: على مثلها من أربع وملاعب «1» انتهى منها إلى قوله: يرى أقبح الأشياء أوبة آمل ... كسته يد المأمول حلّة خائب ثم قال: وأحسن من نور يفتّحه الصّبا ووقف عند صدر هذا البيت يردّده، وإذا سائل يسأل على الباب، وهو يقول: من بياض عطاياكم في سواد مطالبنا، فقال أبو تمام: بياض العطايا في سواد المطالب فأتمّ صدر البيت الذي كان يردده من كلام السائل. وسمعت امرأة قد توفي لها ولد، وهو بكرها الذي هو أول أولادها، فقالت: كيف لا أحزن لذهابه وهو أوّل درهم وقع في الكيس، فأخذت أنا هذا المعنى وأودعته كتابا من كتبي في التعازي، وهو كتاب كتبته إلى بعض الإخوان وقد توفي بكره من الأولاد؛ فقلت: وهو أول درهم ادّخرته في كيس الادّخار، وأعددته لحوادث الليل والنهار.

وبلغني عن الشيخ أبي محمد بن أحمد المعروف «1» بابن الخشاب البغدادي، وكان إماما في علم العربية وغيره؛ فقيل: إنه كان كثيرا ما يقف على حلق القصاص والمشعبذين، فإذا أتاه طلبة العلم لا يجدونه في أكثر أوقاته إلا هناك، فليم على ذلك، وقيل له: أنت إمام الناس في العلم، وما الذي يبعثك على الوقوف بهذه المواقف الرذيلة؛ فقال: لو علمتم ما أعلم لما لمتم، ولطالما استفدت من هؤلاء الجهال فوائد كثيرة [فإنه] «2» تجري في ضمن هذيانهم معان غريبة لطيفة، ولو أردت أنا وغيري أن نأتي بمثلها لما استطعنا ذلك، ولا شك أن هذا الرجل رأى ما رأيته، ونظر إلى ما نظرت إليه.

الفصل السابع في الحقيقة والمجاز

الفصل السابع في الحقيقة والمجاز وهذا الفصل مهم كبير من مهمات علم البيان، لا، بل هو علم البيان بأجمعه؛ فإن في تصريف العبارات على الأسلوب المجازي فوائد كثيرة، وسيرد بيانها في مواضعها من هذا الكتاب، إن شاء الله تعالى، وقد نبهنا في هذا الموضع على جملتها دون تفصيلها. فأما الحقيقة فهي: اللفظ الدالّ على موضوعه الأصلي. وأما المجاز فهو ما أريد به غير المعنى الموضوع له في أصل اللغة، وهو مأخوذ من جاز من هذا الموضع إلى هذا الموضع؛ إذا تخطّاه إليه؛ فالمجاز إذا اسم للمكان الذي يجاز فيه كالمعاج والمزار وأشباههما، وحقيقته هي الانتقال من مكان إلى مكان، فجعل ذلك لنقل الألفاظ من محلّ إلى محل، كقولنا: زيد أسد؛ فإن زيدا إنسان، والأسد هو هذا الحيوان المعروف، وقد جزنا من الإنسانية إلى الأسدية: أي عبرنا من هذه إلى هذه لوصلة بينهما، وتلك الوصلة هي صفة الشجاعة، وقد يكون العبور لغير وصلة، وذلك هو الاتّساع، كقولهم في كتاب كليلة ودمنة: قال الأسد، وقال الثعلب؛ فإن القول لا وصلة بينه وبين هذين بحال من الأحوال، وإنما أجرى عليهما اتّساعا محضا لا غير، ولهذا مثال في المجاز الحقيقي الذي هو المكان المجاز فيه، فإنه لا يخلو إما أن يجاز من سهل إلى سهل، أو من وعر إلى وعر، أو من سهل إلى وعر؛ فالجواز من سهل إلى سهل أو من وعر إلى وعر هو كقولنا: زيد أسد؛ فالمشابهة الحاصلة «1» في ذات بينهما كالمشابهة الحاصلة في المكان، والجواز من سهل إلى وعر كقولهم: قال الأسد، وقال

الثعلب، فكما أنه لا مشابهة بين القول وبين هذين، فكذلك لا مشابهة بين السهل والوعر، وسيأتي كشف الغطاء عن ذلك وإشباع القول في تحقيقه في باب الاستعارة، فليؤخذ من هناك. وقد ذهب قوم إلى أن الكلام كله حقيقة لا مجاز فيه، وذهب آخرون إلى أنه كله مجاز لا حقيقة فيه، وكلا هذين المذهبين فاسد عندي. وسأجيب الخصم عما ادّعاه فيهما، فأقول: محل النزاع هو أن اللغة كلها حقيقة أو أنها كلها مجاز، ولا فرق عندي بين قولك إنها كلها حقيقة أو إنها كلها مجاز، فإن كلا الطرفين عندي سواء؛ لأن منكرهما غير مسلّم لهما، وأنا بصدد أن أبين أن في اللغة حقيقة ومجازا، والحقيقة اللغوية هي حقيقة الألفاظ في دلالتها على المعاني، وليست بالحقيقة التي هي ذات الشيء أي نفسه وعينه؛ فالحقيقة اللفظية إذا هي دلالة اللفظ على المعنى الموضوع له في أصل اللغة، والمجاز هو نقل المعنى عن اللفظ الموضوع له إلى لفظ آخر غيره. وتقرير ذلك بأن أقول: المخلوقات كلها تفتقر إلى أسماء يستدل بها عليها؛ ليعرف كل منها باسمه، من أجل التفاهم بين الناس، وهذا يقع ضرورة لا بدّ منها؛ فالاسم الموضوع بإزاء المسمى هو حقيقة له، فإذا نقل إلى غيره صار مجازا، ومثال ذلك: أنا إذا قلنا شمس أردنا به هذا الكوكب العظيم الكثير الضوء، وهذا الاسم له حقيقة؛ لأنه وضع بإزائه، وكذلك إذا قلنا بحر أردنا به هذا الماء العظيم المجتمع الذي طعمه ملح، وهذا الاسم له حقيقة؛ لأنه وضع بإزائه، فإذا نقلنا الشمس إلى الوجه المليح استعارة كان ذلك له مجازا لا حقيقة، وكذلك إذا نقلنا البحر إلى الرجل الجواد استعارة كان ذلك له مجازا لا حقيقة. فإن قيل: إن الوجه المليح يقال له شمس، وهو حقيقة فيه، وكذلك البحر يقال للرجل الجواد، وهو حقيقة فيه.

فالجواب عن ذلك من وجهين: أحدهما: نظريّ، والآخر: وضعيّ. أما النظري: فهو أن الألفاظ إنما جعلت أدلة على إفهام المعاني» ولو كان ما ذهبت إليه صحيحا لكان البحر يطلق على هذا الماء العظيم الملح، وعلى الرجل الجواد، بالاشتراك، وكذلك الشمس أيضا؛ فإنها كانت تطلق على هذا الكوكب العظيم الكثير الضوء، وعلى الوجه المليح، بالاشتراك، وحينئذ فإذا ورد أحد هذين اللفظين مطلقا بغير قرينة تخصّصه فلا يفهم المراد به ما هو من أحد المعنيين المشتركين المندرجين تحته، ونحن نرى الأمر بخلاف ذلك؛ فإنا إذا قلنا شمس أو بحر وأطلقنا القول لا يفهم من ذلك وجه مليح ولا رجل جواد، وإنما يفهم منه ذلك الكوكب المعلوم وذلك الماء المعلوم، لا غير، فبطل إذا ما ذهبت إليه بما بيّناه وأوضحناه. فإن قلت: إن العرف يخالف ما ذهبت إليه؛ فإن من الألفاظ ما إذا أطلق لم يذهب الفهم منه إلا إلى المجاز دون الحقيقة، كقولهم الغائط، فإن العرب خصّص ذلك بقضاء الحاجة دون غيره من المطمئن من الأرض. قلت في الجواب: هذا شيء ذهب إليه الفقهاء، وليس الأمر كما ذهبوا إليه؛ لأنه إن كان إطلاق اللفظ فيه بين عامة الناس من إسكاف وحدّاد ونجار وخباز ومن جرى مجراهم فهؤلاء لا يفهمون من الغائط إلا قضاء الحاجة؛ لأنهم لم يعلموا أصل وضع هذه الكلمة وأنها مطمئن من الأرض، وأما خاصة الناس الذين يعلمون أصل الوضع فإنهم لا يفهمون عند إطلاق اللفظ إلى الحقيقة لا غير، ألا ترى أن هذه اللفظة لما وردت في القرآن الكريم وأريد بها قضاء الحاجة قرنت بألفاظ تدل على ذلك، كقوله تعالى: أو جاء أحد منكم من الغائط* فإن قوله: أو جاء أحد منكم من الغائط* دليل على أنه أراد قضاء الحاجة دون المطمئن من الأرض، فالكلام في هذا وأمثاله إنما هو مع علم أصل الوضع حقيقة والنقل عنه مجازا، وأما الجهال فلا اعتبار بهم، ولا اعتداد بأقوالهم. والعجب عندي من الفقهاء الذين دوّنوا ذلك على ما دوّنوه، وذهبوا إلى ما ذهبوا إليه.

وأما الوجه الوضعي: فهو أن المرجع في هذا وما يجري مجراه إلى أصل اللغة التي هي وضع الأسماء على المسميات، ولم يوجد فيها أن الوجه المليح يسمى شمسا، ولا أن الرجل الجواد يسمى بحرا، وإنما أهل الخطابة والشعر توسعوا في الأساليب المعنوية، فنقلوا الحقيقة إلى المجاز، ولم يكن ذلك من واضع اللغة في أصل الوضع، ولهذا اختص كل منهم بشيء اخترعه في التوسعات المجازية. هذا امرؤ القيس قد اخترع شيئا لم يكن قبله؛ فمن ذلك أنه أول من عبّر عن الفرس بقوله: «قيد الأوابد» «1» ولم يسمع ذلك لأحد من قبله. وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال يوم حنين: «الآن حمي الوطيس» وأراد بذلك شدة الحرب؛ فإن الوطيس في أصل الوضع هو التّنّور، فنقل إلى الحرب استعارة، ولم يسمع هذا اللفظ على هذا الوجه من غير النبي صلّى الله عليه وسلّم. وواضع اللغة ما ذكر شيئا من ذلك؛ فعلمنا حينئذ أن من اللغة حقيقة بوضعه، ومجازا بتوسعات أهل الخطابة والشعر. وفي زماننا هذا قد يخترعون أشياء من المجاز على حكم الاستعارة لم تكن من قبل، ولو كان هذا موقوفا من جهة واضع اللغة لما اخترعه أحد من بعده، ولا زيد فيه، ولا نقص منه. وأما الفرق بينه وبين الحقيقة فهو أن الحقيقة جارية على العموم في نظائر؛ ألا ترى أنا إذا قلنا: «فلان عالم» صدق على كل ذي علم، بخلاف وسئل القرية لأنه لا يصح إلا في بعض الجمادات دون بعض؛ إذ المراد أهل القرية،

لأنهم ممن يصح السؤال لهم، ولا يجوز أن يقال: واسأل الحجر والتراب، وقد يحسن أن يقال: واسأل الربع والطلل «1» . واعلم أن كل مجاز فله حقيقة؛ لأنه لم يصح أن يطلق عليه اسم المجاز إلا لنقله عن حقيقة موضوعة له؛ إذ المجاز هو اسم للموضع الذي ينتقل فيه من مكان إلى مكان، فجعل ذلك لنقل الألفاظ من الحقيقة إلى غيرها. وإذا كان كل مجاز لا بد له من حقيقة نقل عنها إلى حالته المجازية فكذلك ليس من ضرورة كل حقيقة أن يكون لها مجاز، فإن من الأسماء ما لا مجاز له، كأسماء الأعلام؛ لأنها وضعت للفرق بين الذوات لا للفرق بين الصفات. وكذلك فاعلم أن المجاز أولى بالاستعمال من الحقيقة في باب الفصاحة والبلاغة؛ لأنه لو لم يكن كذلك لكانت الحقيقة التي هي الأصل أولى منه حيث هو فرع عليها، وليس الأمر كذلك؛ لأنه قد ثبت وتحقق أن فائدة الكلام الخطابي هو إثبات الغرض المقصود في نفس السامع بالتخييل والتصوير حتى يكاد ينظر إليه عيانا، ألا ترى أن حقيقة قولنا: «زيد أسد» هي قولنا: «زيد شجاع» لكن فرق بين القولين في التصوير والتخييل وإثبات الغرض المقصود في نفس السماع؛ لأن قولنا:

«زيد شجاع» لا يتخيل منه السامع سوى أنه رجل جريء مقدام، فإذا قلنا: «زيد أسد» يخيّل عند ذلك صورة الأسد وهيئته وما عنده من البطش والقوة، ودق الفرائس، وهذا لا نزاع فيه. وأعجب ما في العبارة المجازية أنها تنقل السامع عن خلقه الطبيعي في بعض الأحوال؛ حتى إنها ليسمح بها البخيل، ويشجع بها الجبان، ويحكم بها الطائش المتسرع، ويجد المخاطب بها عند سماعها نشوة كنشوة الخمر، حتى إذا قطع عنه ذلك الكلام أفاق وندم على ما كان منه من بذل مال أو ترك عقوبة أو إقدام على أمر مهول، وهذا هو فحوى السحر الحلال، المستغني عن إلقاء العصا والحبال. واعلم أنه إذا ورد عليك كلام يجوز أن يحمل معناه على طريق الحقيقة وعلى طريق المجاز باختلاف لفظه؛ فانظر: فإن كان لا مزية لمعناه في حمله على طريق المجاز فلا ينبغي أن يحمل إلا على طريق الحقيقة؛ لأنها هي الأصل والمجاز هو الفرع، ولا يعدل عن الأصل إلى الفرع إلا لفائدة. مثال ذلك قول البحتري: مهيب كحدّ السّيف لو ضربت به ... ذرى أجإ ظلّت وأعلامها وهد «1» ويروى أيضا: «لو ضربت به طلى أجإ» جمع طلية، وهي العنق، فهذا البيت لا يجوز حمله على المجاز؛ لأن الحقيقة أولى به، ألا ترى أن الذرى جمع ذروة، وهو أعلى الشيء، يقال: ذروة الجبل، أعلاه، والطّلى: جمع طلية، وهي العنق، والعنق: أعلى الجسد، ولا فرق بينهما في صفة العلو هنا، فلا يعدل إذا إلى المجاز؛ إذ لا مزية له على الحقيقة. وهكذا كل ما يجيء من الكلام الجاري هذا المجرى؛ فإنه إن لم يكن في المجاز زيادة فائدة على الحقيقة لا يعدل إليه.

الفصل الثامن في الفصاحة والبلاغة

الفصل الثامن في الفصاحة والبلاغة اعلم أن هذا باب متعذر على الوالج، ومسلك متوعر على الناهج، ولم يزل العلماء من قديم الوقت وحديثه يكثرون القول فيه والبحث عنه، ولم أجد من ذلك ما يعول عليه إلا القليل. وغاية ما يقال في هذا الباب: إن الفصاحة هي الظهور والبيان في أصل الوضع اللغوي، يقال: أفصح الصّبح، إذا ظهر، ثم إنهم يقفون عند ذلك، ولا يكشفون عن السر فيه. وبهذا القول لا تتبين حقيقة الفصاحة؛ لأنه يعترض عليه بوجوه من الاعتراضات: أحدها: أنه إذا لم يكن اللفظ ظاهرا بيّنا لم يكن فصيحا، ثم إذا ظهر وتبين صار فصيحا. الوجه الآخر: أنه إذا كان اللفظ الفصيح هو الظاهر البين فقد صار ذلك بالنّسب والإضافات إلى الأشخاص؛ فإن اللفظ قد يكون ظاهرا لزيد، ولا يكون ظاهرا لعمرو، فهو إذا فصيح عند هذا وغير فصيح عند هذا، وليس كذلك، بل الفصيح هو فصيح عند الجميع، لا خلاف فيه بحال من الأحوال؛ لأنه إذا تحقق حد الفصاحة وعرف ما هي لم يبق في اللفظ الذي يختص به خلاف. الوجه الآخر: أنه إذا جيء بلفظ قبيح ينبو عنه السمع، وهو مع ذلك ظاهر بين، ينبغي أن يكون فصيحا، وليس كذلك؛ لأن الفصاحة وصف حسن اللفظ، لا وصف قبح. فهذه الاعتراضات الثلاثة واردة على قول القائل: «إن اللفظ الفصيح هو الظاهر البين» من غير تفصيل.

ولما وقفت على أقوال الناس في هذا الباب ملكتني الحيرة فيها، ولم يثبت عندي منها ما أعوّل عليه، ولكثرة ملابستي هذا الفن ومعاركتي إياه انكشف لي السر فيه، وسأوضحه في كتابي هذا، وأحقق القول فيه؛ فأقول: إن الكلام الفصيح هو الظاهر البين، وأعني بالظاهر البين أن تكون ألفاظه مفهومة لا يحتاج في فهمها إلى استخراج من كتاب لغة، وإنما كانت بهذه الصفة لأنها تكون مألوفة الاستعمال بين أرباب النظم والنثر دائرة في كلامهم، وإنما كانت مألوفة الاستعمال دائرة في الكلام دون غيرها من الألفاظ لمكان حسنها، وذلك أن أرباب النظم والنثر غربلوا اللغة باعتبار ألفاظها، وسبروا وقسموا، فاختاروا الحسن من الألفاظ فاستعملوه، ونفووا القبيح منها فلم يستعملوه، فحسن الألفاظ «1» سبب استعمالها دون غيرها، واستعمالها دون غيرها سبب ظهورها وبيانها؛ فالفصيح إذا من الألفاظ هو الحسن. فإن قيل: من أي وجه علم أرباب النظم والنثر الحسن من الألفاظ حتى استعملوه، وعلموا القبيح منها حتى نفوه ولم يستعملوه؟. قلت في الجواب: إن هذا من الأمور المحسوسة التي شاهدها من نفسها؛ لأن الألفاظ داخلة في حيّز الأصوات؛ فالذي يستلذه السمع منها ويميل إليه هو الحسن، والذي يكرهه وينفر عنه هو القبيح؛ ألا ترى أن السمع يستلذ صوت البلبل من الطير وصوت الشّحرور، ويميل إليهما، ويكره صوت الغراب، وينفر عنه، وكذلك يكره نهيق الحمار، ولا يجد ذلك في صهيل الفرس، والألفاظ جارية هذا المجرى؛ فإنه لا خلاف في أن لفظة المزنة والدّيمة حسنة يستلذها السمع، وأن لفظة البعاق «2» قبيحة يكرهها السمع، وهذه اللّفظات الثلاثة من صفة المطر، وهي تدل على معنى واحد، ومع هذا فإنك ترى لفظتي المزنة والدّيمة وما جرى مجراهما مألوفة الاستعمال، وترى لفظ البعاق وما جرى مجراه متروكا لا يستعمل؛ وإن استعمل فإنما يستعمله جاهل بحقيقة الفصاحة أو من ذوقه غير ذوق سليم، لا جرم

أنه ذم وقدح فيه، ولم يلتفت إليه، وإن كان عربيّا محضا من الجاهلية الأقدمين؛ فإن حقيقة الشيء إذا علمت وجب الوقوف عندها، ولم يعرّج على ما خرج عنها. وإذن ثبت أن الفصيح من الألفاظ هو الظاهر البين، وإنما كان ظاهرا بيّنا لأنه مألوف الاستعمال، وإنما كان مألوف الاستعمال لمكان حسنه، وحسنه مدرك بالسمع، والذي يدرك بالسمع إنما هو اللفظ؛ لأنه صوت يأتلف عن مخارج الحروف، فما استلذه السمع منه فهو الحسن، وما كرهه فهو القبيح، والحسن هو الموصوف بالفصاحة، والقبيح غير موصوف بفصاحة؛ لأنه ضدها لمكان قبحه، وقد مثلت ذلك في المثال المتقدم بلفظة المزنة والدّيمة ولفظة البعاق، ولو كانت الفصاحة لأمر يرجع إلى المعنى لكانت هذه الألفاظ في الدلالة عليه سواء: ليس منها حسن ومنها قبيح، ولما لم يكن كذلك علمنا أنها تخص اللفظ دون المعنى. وليس لقائل ههنا أن يقول: لا لفظ إلا بمعنى، فكيف فصلت أنت بين اللفظ والمعنى؟ فإن لم أفصل بينهما، وإنما خصصت اللفظ بصفة هي له، والمعنى يجيء فيه ضمنا وتبعا. الوجه الثاني: أن وزن فعيل هو اسم فاعل من فعل- بفتح الفاء وضم العين- نحو كرم فهو كريم، وشرف فهو شريف، ولطف فهو لطيف، وهذا مطّرد في بابه، وعلى هذا فإن اللفظ الفصيح هو اسم فاعل من فصح فهو فصيح، واللفظ هو الفاعل للإبانة عن المعنى، فكانت الفصاحة مختصة به. فإن قيل: إنك قلت: «إن الفصيح من الألفاظ هو الظاهر البيّن، أي المفهوم» ، ونرى من آيات القرآن ما لا يفهم ما تضمنه من المعنى إلا باستنباط وتفسير، وتلك الآيات فصيحة لا محالة، وهذا بخلاف ما ذكرته. قلت: لأن الآيات التي تستنبط وتحتاج إلى تفسير ليس شيء منها إلا ومفردات ألفاظه كلها ظاهرة واضحة؛ وإنما التفسير يقع في غموض المعنى من جهة التركيب، لا من جهة ألفاظه المفردة، لأن معنى المفردة يتداخل بالتركيب، ويصير له هيئة تخصه، وهذا ليس قدحا في فصاحة تلك الألفاظ؛ لأنها إذا اعتبرت لفظة لفظة وجدت كلها فصيحة: أي ظاهرة واضحة.

وأعجب ما في ذلك أن تكون الألفاظ المفردة التي تركبت منها المركبة واضحة كلها، وإذا نظر إليها مع التركيب احتاجت إلى استنباط وتفسير، وهذا لا يختص به القرآن وحده، بل في الأخبار النبوية والأشعار والخطب والمكاتبات كثير من ذلك. وسأورد ههنا منه شيئا؛ فأقول: قد ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحّون» وهذا الكلام مفهومة مفردات ألفاظه، لأن الصوم والفطر والأضحى مفهوم كله، وإذا سمع هذا الخبر من غير فكرة قيل: علمنا أن صومنا يوم نصوم، وفطرنا يوم نفطر، وأضحانا يوم نضحّي، فما الذي أعلمنا به مما لم نعلمه؟ وإذا أمعن الناظر نظره فيه علم أن معناه يحتاج إلى استنباط، والمراد به أن إذا اجتمع الناس على أن أول شهر رمضان يوم كذا، ولم يكن ذلك اليوم أوله، فإن الصوم صحيح، وأوله هو ذلك اليوم الذي اجتمع الناس إليه، وكذا يقال في يوم الفطر، ويوم الأضحى. ولهذا الخبر المشار إليه أشباه كثيرة تفهم معاني ألفاظها المفردة، وإذا تركبت تحتاج في فهمها إلى استنباط. وأما ما ورد من ذلك شعرا فكقول أبي تمام: ولهت فأظلم كلّ شيء دونها ... وأضاء منها كلّ شيء مظلم «1» فإن الوله والظلمة والإضاءة كل ذلك مفهوم المعنى، لكن البيت بجملته يحتاج في فهمه إلى استنباط، والمراد به أنها ولهت فأظلم ما بيني وبينها، لما نالني من الجزع لولهها؛ كما يقول الجازع: أظلمت الأرض علي: أي أني صرت كالأعمى الذي لا يبصر، وأما قوله: «وأضاء منها كل شيء مظلم» أي وضح لي منها ما كان مستترا عني من حبها إياي.

وكذلك ورد قول أبي عبادة البحتري في منهزم: إذا سار سهبا عاد ظهرا عدوّه ... وكان الصّديق بكرة ذلك السّهب «1» فإن السّير والسّهب والظهر والعدو والصّديق كل ذلك مفهوم المعنى، لكن البيت بمجموعه يحتاج معناه إلى استنباط، والمراد أن هذا المنهزم يرى ما بين يديه محبوبا إليه، وما خلفه مكروها عنده؛ لأنه يطلب النجاة فيؤثر البعد مما خلفه والقرب مما أمامه، فإذا قطع سهبا وخلّفه وراءه صار عنده كالعدو، وقبل أن يقطعه كان له صديقا: أي يطلب لقاءه ويحبّ الدنو منه. فانظر أيها المتأمل إلى ما ذكرته من هذه الأمثلة حتى يثبت عندك ما أردت بيانه. وأما البلاغة فإن أصلها في وضع اللغة من الوصول والانتهاء، يقال: بلغت المكان، إذا انتهيت إليه، ومبلغ الشيء: منتهاه، وسمي الكلام بليغا من ذلك؛ أي أنه قد بلغ الأوصاف اللفظية والمعنوية. والبلاغة شاملة للألفاظ والمعاني، وهي أخص من الفصاحة، كالإنسان من الحيوان، فكل إنسان حيوان، وليس كل حيوان إنسانا، وكذلك يقال: كل كلام بليغ فصيح، وليس كل كلام فصيح بليغا. ويفرق بينها وبين الفصاحة من وجه آخر غير الخاص والعام، وهو أنها لا تكون

إلا في اللفظ والمعنى بشرط التركيب؛ فإن اللفظة الواحدة لا يطلق عليها اسم البلاغة، ويطلق عليها اسم الفصاحة؛ إذ يوجد فيها الوصف المختص بالفصاحة، وهو الحسن. وأما وصف البلاغة فلا يوجد فيها؛ لخلوها من المعنى المفيد الذي ينتظم كلاما. مسألة تتعلق بهذا الفصل: هل أخذ علم البيان من ضروب الفصاحة والبلاغة بالاستقراء من أشعار العرب أم بالنظر وقضية العقل؟. الجواب عن ذلك أنا نقول؛ لم يؤخذ علم البيان بالاستقراء، فإن العرب الذين ألفوا الشعر والخطب لا يخلو أمرهم من حالين: إما أنهم ابتدعوا ما أتوا به من ضروب الفصاحة والبلاغة بالنظر وقضية العقل، أو أخذوه بالاستقراء ممن كان قبلهم. فإن كانوا ابتدعوه عند وقوفهم على أسرار اللغة، ومعرفة جيدها من رديئها، وحسنها من قبيحها، فذلك هو الذي أذهب إليه. وإن كانوا أخذوه بالاستقراء ممن كان قبلهم، فهذا يتسلسل إلى أول من ابتدعه ولم يستقره، فإن كل لغة من اللغات لا تخلو من وصفي الفصاحة والبلاغة المختصين بالألفاظ والمعاني، إلا أن للغة العربية مزية على غيرها؛ لما فيها من التوسعات التي لا توجد في لغة أخرى سواها. مسألة أخرى تتعلق بهذا الفصل أيضا: هل علم البيان من الفصاحة والبلاغة جار مجرى علم النحو أم لا؟. الجواب عن ذلك أنا نقول: الفرق بينهما ظاهر، وذاك أن أقسام النحو أخذت من واضعها بالتقليد، حتى لو عكس القضية فيها لجاز له ذلك، ولما كان العقل يأباه ولا ينكره؛ فإنه لو جعل الفاعل منصوبا والمفعول مرفوعا قلّد في ذلك كما قلد في رفع الفاعل ونصب المفعول؛ وأما علم البيان من الفصاحة والبلاغة فليس كذلك؛ لأنه استنبط بالنظر وقضية العقل، من غير واضح اللغة، ولم يفتقر فيه إلى التوقيف

منه، بل أخذت ألفاظ ومعان على هيئة مخصوصة، وحكم لها العقل بمزية من الحسن لا يشاركها فيها غيرها، فإن كل عارف بأسرار الكلام من أي لغة كانت من اللغات يعلم أن إخراج المعاني في ألفاظ حسنة رائقة يلذها السمع ولا ينبو عنها الطبع، خير من إخراجها في ألفاظ قبيحة مستكرهة ينبو عنها السمع، ولو أراد واضع اللغة خلاف ذلك لما قلدناه. فإن قيل: لو أخذت أقسام النحو بالتقليد من واضعها لما أقيمت الأدلة عليها وعلم بقضية النظر أن الفاعل يكون مرفوعا والمفعول منصوبا؟. فالجواب عن ذلك أنا نقول: هذه الأدلة واهية «1» لا تثبت على محكّ الجدل؛ فإن هؤلاء الذين تصدّوا لإقامتها سمعوا عن واضع اللغة رفع الفاعل ونصب المفعول من غير دليل أبداه لهم، فاستخرجوا لذلك أدلة وعللا، وإلا فمن أين علم هؤلاء أن الحكمة التي دعت الواضع إلى رفع الفاعل ونصب المفعول هي التي ذكروها.

الفصل التاسع في أركان الكتابة

الفصل التاسع في أركان الكتابة اعلم أن للكتابة شرائط وأركانا: أما شرائطها فكثيرة، وهذا التأليف موضوع لمجموعها، وللقسم الآخر من الكلام المنظوم، وليس يلزم الكاتب أن يأتي بالجميع في كتاب واحد، بل يأتي بكل نوع من أنواعها في موضعه الذي يليق به، كما أريناه فيما يأتي من هذا التأليف. وأما الأركان التي لا بدّ من إيداعها في كل كتاب بلاغي ذي شأن فخمسة: الأول: أن يكون مطلع الكتاب عليه جدة ورشاقة؛ فإن الكاتب من أجاد المطلع والمقطع، أو يكون مبنيا على مقصد الكتاب، ولهذا باب يسمى باب المبادي والافتتاحات فليحذ حذوه، وهذا الركن يشترك فيه الكاتب والشاعر. الركن الثاني: أن يكون الدعاء المودع في صدر الكتاب مشتقا من المعنى الذي بني عليه الكتاب. وقد نبّهنا على طرف من ذلك في باب يخصه أيضا، فليطلب من هناك، وهو مما يدل على حذاقة الكاتب وفطانته، وكثيرا ما تجده في مكاتباتي التي أنشأتها؛ فإني قصدته فيها وتوخّيته، بخلاف غيري من الكتاب؛ لأنه ربما يوجد في كتابة غيري قليلا، وتجده في كتابتي كثيرا. الركن الثالث: أن يكون خروج الكاتب من معنى إلى معنى برابطة؛ لتكون رقاب المعاني آخذة بعضها ببعض، ولا تكون مقتضبة، ولذلك باب مفرد أيضا يسمى باب التخلص والاقتضاب، وهذا الركن أيضا يشترك فيه الكاتب والشاعر. الركن الرابع: أن تكون ألفاظ الكتاب غير مخلولقة بكثرة الاستعمال، ولا

أريد بذلك أن تكون ألفاظا غريبة؛ فإن ذلك عيب فاحش، بل أريد أن تكون الألفاظ المستعملة مسبوكة سبكا غريبا، يظن السامع أنها غير ما في أيدي الناس، وهي مما في أيدي الناس، وهناك معترك الفصاحة التي تظهر فيه الخواطر براعتها، والأقلام شجاعتها، كما قال البحتري: باللّفظ يقرب فهمه في بعده ... عنّا ويبعد نيله في قربه «1» وهذا الموضع بعيد المنال، كثير الإشكال، يحتاج إلى لطف ذوق وشهامة خاطر، وهو شبيه بالشيء الذي يقال: إنه لا داخل العالم ولا خارج العالم، فلفظه هو الذي يستعمل، وليس بالذي يستعمل: أي أن مفردات ألفاظه هي المستعملة المألوفة، ولكن سبكه وتركيبه هو الغريب العجيب. وإذا سموت أيها الكاتب إلى هذه الدرجة، واستطعمت طعم هذا الكلام المشار إليه؛ علمت حينئذ أنه كالروح الساكنة في بدنك التي قال الله فيها: قل الروح من أمر ربي وليس كل خاطر براق إلى هذه الدرجة، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. ومع هذا فلا تظن أيها الناظر في كتابي أني أردت بهذا القول إهمال جانب المعاني، بحيث يؤتى باللفظ الموصوف بصفات الحسن والملاحة ولا تكون تحته من المعنى ما يماثله ويساويه، فإنه إذا كان كذلك كان كصورة حسنة بديعة في حسنها إلا أن صاحبها بليد أبله، والمراد أن تكون هذه الألفاظ المشار إليها جسما لمعنى شريف، على أن تحصيل المعاني الشريفة على الوجه الذي أشرت إليه أيسر من تحصيل الألفاظ المشار إليها. ويحكى عن المبرد رحمه الله تعالى أنه قال: ليس أحد في زماني إلا وهو يسألني عن مشكل من معاني القرآن، أو مشكل من معاني الحديث النبوي، أو غير

ذلك من مشكلات علم العربية، فأنا إمام الناس في زماني هذا، وإذا عرضت لي حاجة إلى بعض إخواني وأردت أن أكتب إليه شيئا في أمرها أحجم عن ذلك؛ لأني أرتّب المعنى ثم أحاول أن أصوغه بألفاظ مرضية فلا أستطيع ذلك. ولقد صدق في قوله هذا، وأنصف غاية الإنصاف. ولقد رأيت كثيرا من الجهال الذين هم من السوقة أرباب الحرف والصنائع، وما منهم إلا من يقع له المعنى الشريف، ويظهر من خاطره المعنى الدقيق، ولكنه لا يحسن أن يزاوج بين لفظتين. فالعبارة عن المعاني هي التي تخلب بها العقول، وعلى هذا فالناس كلهم مشتركون في استخراج المعاني؛ فإنه لا يمنع الجاهل الذي لا يعرف علما من العلوم أن يكون ذكيا بالفطرة، واستخراج المعاني إنما هو بالذكاء لا بتعلّم العلم. وبلغني أن قوما ببغداد من رعاع العامة يطوفون بالليل في شهر رمضان على الحارات، وينادون بالسحور، ويخرجون ذلك في كلام موزون على هيئة الشعر وإن لم يكن من بحار الشعر المنقولة عن العرب، وسمعت شيئا منه فوجدت فيه معاني حسنة مليحة، ومعاني غريبة، وإن لم تكن الألفاظ التي صيغت به فصيحة «1» . وهذا الركن أيضا يشترك فيه الكاتب والشاعر. الركن الخامس: أن لا يخلو الكتاب من معنى من معاني القرآن الكريم والأخبار النبوية؛ فإنها معدن الفصاحة والبلاغة، وإيراد ذلك على الوجه الذي أشرت إليه في الفصل الذي يلي هذا الفصل من حلّ معاني القرآن الكريم والأخبار النبوية أحسن من إيراده على وجه التضمين، وتوخّي ذلك في كل كتاب عسر جدا، وأنا انفردت بذلك دون غيري من الكتاب، فإني استعملته في كل كتاب، حتى إنه ليأتي في الكتاب الواحد في عدة مواضع منه، ولقد أنشأت تقليدا لبعض الملوك مما يكتب من ديوان الخلافة، ثم إني اعتبرت ما ورد فيه من معاني الآيات والأخبار

النبوية، فكان ما يزيد على الخمسين، وهذا لا أتكلفه تكلفا، وإنما يأتي على حسب ما يقتضيه الموضع الذي يذكر فيه، وقد عرفتك أيها الكاتب كيف تستعمل ما تستعمله من ذلك في الفصل الذي يأتي بعد هذا الفصل، فخذه من هناك. وهذا الركن يختص بالكاتب دون الشاعر؛ لأن الشاعر لا يلزمه ذلك؛ إذ الشعر أكثره مدائح، وأيضا فإنه لا يتمكن من صوغ معاني القرآن والأخبار في المنظوم كما يتمكن منه في المنثور، ولربما أمكن ذلك في الشيء اليسير في بعض الأحيان. وإذا استكملت معرفة هذه الأركان الخمسة وأتيت بها في كل كتاب بلاغي ذي شأن فقد استحققت حينئذ فضيلة التقدم، ووجب لك أن تسمي نفسك كاتبا.

الفصل العاشر في الطريق إلى تعلم الكتابة

الفصل العاشر في الطريق إلى تعلم الكتابة هذا الفصل هو كنز الكتابة ومنبعها، وما رأيت أحدا تكلم فيه بشيء، ولما حبّبت إليّ هذه الفضيلة، وبلّغني الله منها ما بلّغني؛ وجدت الطريق ينقسم فيها إلى ثلاث شعب: الأولى: أن يتصفح الكاتب كتابة المتقدمين، ويطلع على أوضاعهم في استعمال الألفاظ والمعاني، ثم يحذو حذوهم، وهذه أدنى الطبقات عندي. الثانية: أن يمزج كتابة المتقدمين بما يستجيده لنفسه من زيادة حسنة: إما في تحسين ألفاظ، أو في تحسين معان، وهذه هي الطبقة الوسطى، وهي أعلى من التي قبلها. الثالثة: أن لا يتصفح كتابة المتقدمين، ولا يطلع على شيء منها، بل يصرف همه إلى حفظ القرآن الكريم وكثير من الأخبار النبوية وعدة من دواوين فحول الشعراء ممن غلب على شعره الإجادة في المعاني والألفاظ، ثم يأخذ في الاقتباس من هذه الثلاثة، أعني القرآن والأخبار النبوية والأشعار، فيقوم ويقع، ويخطىء ويصيب، ويضل ويهتدي، حتى يستقيم على طريقة يفتتحها لنفسه، وأخلق بتلك الطريق أن تكون مبتدعة غريبة لا شركة لأحد من المتقدمين فيها، وهذه الطريق هي طريق الاجتهاد، وصاحبها يعد إماما في فنّ الكتابة، كما يعد الشافعيّ وأبو حنيفة ومالك رضي الله تعالى عنهم وغيرهم من الأئمة المجتهدين في علم الفقه، إلا أنها مستوعرة جدا، ولا يستطيعها إلا من رزقه الله تعالى لسانا هجاما، وخاطرا رقاما، وقد سهّلت لك صعابها، وذلّلت محاجّها» ، وكنت أشحّ «2» بإظهار ذلك لما عانيت

في نيله من العناء؛ فإني سلكت إليه كل طريق حتى بلغته آخرا، وإنما تكون نفاسة الأشياء لعزة حصولها ومشقة وصولها: ليس حلوا وجودك الشّيء تبغي ... هـ طلابا حتّى يعزّ طلابه «1» ولقد مارست الكتابة ممارسة كشفت لي عن أسرارها، وأظفرتني بكنوز جواهرها؛ إذ لم يظفر غيري بأحجارها؛ فما وجدت أعون الأشياء عليها إلا حل آيات القرآن الكريم والأخبار النبوية، وحل الأبيات الشعرية، وقد قصرت هذا الفصل على ذكر وجوهها، وتقسيمها، وتمهيد الطريق إلى تعليمها، فمن وقف على ما ذكرته علم أنّي لم آت شيئا فريّا، وأن الله قد جعل تحت خواطري من بنات الأفكار سريّا، وهذه الطريق يجهلها كثير من متعاطي هذه الصناعة، والّذي يعلمها منهم يرضى بالحواشي والأطراف، ويقنع من لآلئها بمعرفة ما في الأصداف، ولو استخرج منها ما استخرجت، واستنتج ما استنتجت؛ لهام بها في كل واد، وتزوّد إلى سلوك طريقها كل زاد: لو يسمعون كما سمعت كلامها ... خرّوا لعزّة ركّعا وسجودا «2» ولا أريد بهذه الطريق أن يكون الكاتب مرتبطا في كتابته بما يستخرجه من القرآن الكريم، والأخبار النبوية، والشعر، بحيث إنه لا ينشىء كتابا إلا من ذلك، بل أريد أنه إذا حفظ القرآن الكريم وأكثر من حفظ الأخبار النبوية والأشعار، ثم نقّب عن ذلك تنقيب مطّلع على معانيه، مفتّش عن دفائنه، وقلّبه ظهرا لبطن؛ عرف

حينئذ من أين تؤكل الكتف فيما ينشئه من ذات نفسه، واستعان بالمحفوظ على الغريزة الطبيعية، ألا ترى أن صاحب الاجتهاد من الفقهاء يفتقر إلى معرفة آيات الأحكام، وأخبار الأحكام، وإلى معرفة الناسخ والمنسوخ من الكتاب والسنّة، وإلى معرفة علم العربية، وإلى معرفة الفرائض والحساب من المعلوم والمجهول من أجل مسائل الدور والوصايا وغيرها، وإلى معرفة إجماع الصحابة، فهذه أدوات الاجتهاد، فإذا عرفها استخرج بفكرته حينئذ ما يؤديه إليه اجتهاده، كما فعل أبو حنيفة والشافعي ومالك وغيرهم من أئمة الاجتهاد، وكذلك يجري الحكم في الكتاب إذا أحب الترقي إلى درجة الاجتهاد في الكتابة؛ فإنه يحتاج إلى أشياء كثيرة قد ذكرتها في صدر كتابي هذا، إلا أن رأسها وعمودها وذروة سنامها ثلاثة أشياء: هي حفظ القرآن الكريم، والإكثار من حفظ الأخبار النبوية، والأشعار. وحيث انتهى بنا القول إلى هذا الموضع فأول ما أبدأ به على عقب ذلك أن أقول: حل الأبيات الشعرية ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: منها، وهو أدناها مرتبة، أن يأخذ الناثر بيتا من الشعر فينثره بلفظه من غير زيادة؛ وهذا عيب فاحش، ومثاله كمن أخذ عقدا قد أتقن نظمه وأحسن تأليفه فأوهاه وبدّده، وكان يقوم عذره في ذلك أن لو نقله عن كونه عقدا إلى صورة أخرى مثله أو أحسن منه وأيضا فإنه إذا نثر الشعر بلفظه كان صاحبه مشهور السرقة، فيقال: هذا شعر فلان بعينه، لكون ألفاظه باقية لم يتغير منها شيء، وقد سلك هذا المسلك بعض العراقيين فجاء مستهجنا لا مستحسنا. كقوله في بعض أبيات الحماسة: وألدّ ذي حنق عليّ كأنّما ... تغلي عداوة صدره في مرجل أرجيته عنّي فأبصر قصده ... وكويته فوق النّواظر من عل فقال في نثر هذين البيتين: فكم لقي ألدّ ذي حنق كأنه ينظر إلى الكواكب من عل، وتغلي عداوة صدره في مرجل، فكواه فوق ناظريه، وأكبّه لفمه ويديه. فلم يزد هذا الناثر على أن أزال رونق الوزن وطلاوة النظم لا غير.

ومن هذا القسم ضرب محمود لا عيب فيه، وهو أن يكون البيت من الشعر قد تضمن شيئا لا يمكن تغيير لفظه، فحينئذ يعذر ناثره إذا أتى بذلك اللفظ، ومثاله قول الشاعر في أول الحماسة: لو كنت من مازن لم تستبح إبلي ... بنو اللّقيطة من ذهل بن شيبانا وقد نثرت ذلك فقلت: لست ممن تستبيح إبله بنو اللقيطة، ولا الذي إذا همّ بأمر كانت الآمال إليه وسيطة، ولكني أحمل الهمل، وأقرب الأمل، وأقول: سبق السّيف العذل؛ فذكر بني اللقيطة ههنا لا بد منه على حسب ما ذكره الشاعر، وكذلك الأمثال السائرة؛ فإنه لا بد من ذكرها على ما جاءت في الشعر. وأما القسم الثاني: وهو وسط بين الأول والثالث في المرتبة، وهو أن ينثر المعنى المنظوم ببعض ألفاظه، ويعزم «1» عن البعض بألفاظ أخر، وهناك تظهر الصنعة في المماثلة والمشابهة ومؤاخاة الألفاظ الباقية بالألفاظ المرتجلة؛ فإنه إذا أخذ لفظا لشاعر مجيد قد نقحه وصححه فقرنه بما لا يلائمه كان كمن جمع بين لؤلؤة وحصاة، ولا خفاء بما في ذلك من الانتصاب للقدح، والاستهداف للطعن. والطريق المسلوك إلى هذا القسم أن تأخذ بعض بيت من الأبيات الشعرية هو أحسن ما فيه ثم تماثله. وسأورد ههنا مثالا واحدا ليكون قدوة للمتعلم، فأقول: قد ورد هذا البيت من شعر أبي تمام في وصف قصيدة له: حذّاء تملأ كلّ أذن حكمة ... وبلاغة وتدرّ كلّ وريد «2»

فقوله: «تملأ كل أذن حكمة» من الكلام الحسن، وهو أحسن ما في البيت، فإذا أردت أن تنثر هذا المعنى فلا بد من استعمال لفظه بعينه؛ لأنه في الغاية القصوى من الفصاحة والبلاغة، فعليك حينئذ أن تؤاخذه بمثله، وهذا عسر جدا وهو عندي أصعب منالا من ناثر الشعر بغير لفظه؛ لأنه مسلك مضيق؛ لما فيه من التعرض لمماثلة ما هو في غاية الحسن والجودة، وأما نثر الشعر بغير لفظه؛ فذلك يتصرف فيه ناثره على حسب ما يراه، ولا يكون مقيدا فيه بمثال يضطر إلى مؤاخاته. وقد نثرت هذه الكلمات المشار إليها وأتيت بها في جملة كتاب فقلت: وكلامي قد عرف بين الناس واشتهر، وفاق مسير الشمس والقمر، وإذا عوف الكلام صارت المعرفة له علامة، وأمن من سرقته إذ لو سرق لدلت عليه الوسامة، ومن خصائص صفاته أن يملأ كل أذن حكمة، ويجعل فصاحة كل لسان عجمة، وإذا جرت نفثاته في الأفهام قالت: أهذه بنت فكرة أم بنت كرمة. فانظر كيف فعلت في هذا الموضع؟ فإني لما أخذت تلك الكلمات من البيت الشعري التزمت بأن أؤاخيها بما هو مثلها أو أحسن منها، فجئت بهذا الفصل كما تراه، وكذلك ينبغي أن يفعل فيما هذا سبيله. وأما القسم الثالث: وهو أعلى من القسمين الأولين، فهو أن يؤخذ المعنى فيصاغ بألفاظ غير ألفاظه، وثمّ يتبين حذق الصائغ في صياغته، ويعلم مقدار تصرفه في صناعته؛ فإن استطاع الزيادة على المعنى فتلك الدرجة العالية، وإلا أحسن التصرف، وأتقن التأليف؛ ليكون أولى بذلك المعنى من صاحبه الأول. واعلم أن من أبيات الشعر ما يتسع المجال لناثره، فيورده بضروب من العبارات، وذلك عندي شبيه بالمسائل السيالة في الحساب التي يجاب عنها بعدة من الأجوبة، ومن الأبيات ما يضيق فيه المجال حتى يكاد الماهر في هذه الصناعة ألّا يخرج عن ذلك اللفظ، وإنما يكون هذا لعدم النظير. فأما ما يتسع المجال في نثره فكقول أبي الطيب المتنبي:

لا تعذل المشتاق في أشواقه ... حتّى يكون حشاك في أحشائه «1» وقد نثرت هذا المعنى، فمن ذلك قولي: لا تعذل المحبّ فيما يهواه، حتى تطوي القلب على ما طواه؛ ومن ذلك وجه آخر، وهو: إذا اختلفت العينان في النظر، فالعذل ضرب من الهذر. ومن هذا الباب قول أبي الطيب المتنبي أيضا: إنّ القتيل مضرّجا بدموعه ... مثل القتيل مضرّجا بدمائه «2» أخذت هذا المعنى فنثرته؛ فمن ذلك قولي: القتيل بسيف العيون، كالقتيل بسيف المنون، غير أن ذلك لا يجرّد من غمده، ولا يقاد صاحبه بعمده؛ فزدت على المعنى الذي تضمّنه البيت، وغيرت اللفظ؛ ومن ذلك وجه آخر، وهو: دمع المحبّ ودم القتيل، متّفقان في التشبيه والتمثيل، ولا تجد بينهما بونا، إلا أنهما يختلفان لونا. وهذا أحسن من الأول. وأما ما يضيق فيه المجال فيعسر على الناثر تبديل ألفاظه؛ فكقول أبي تمام: تردّى ثياب الموت حمرا فما أتى ... لها اللّيل إلّا وهي من سندس خضر «3»

وقول أبي الطيب المتنبي: وكان بها مثل الجنون فأصبحت ... ومن جثث القتلى عليها تمائم وأمثال هذا لا تأتي إلا قليلا؛ وسببه أن المعنى ينحصر في مقصد من المقاصد حتى لا يكاد يأتي إلا قدا، كهذين البيتين، ألا ترى أن أبا تمام قصد المؤاخاة في ذكر لوني الثياب من الأحمر والأخضر وجاء ذلك واقعا على المعنى الذي أراده من لون ثياب القتلى وثياب الجنة، فإذا فك نظم هذا البيت وأريد صوغه بغير لفظه لا يمكن ذلك، وبيت أبي الطيب جار هذا المجرى؛ فإنه بناه على واقعة من الوقائع، وذاك أن حصنا من حصون سيف الدولة قصده الروم وانتزعوه وأخربوه فنهد «1» سيف الدولة إليه واسترجعه، وجدّد بناءه، وهزم الروم، ونصب من جثث القتلى على السور، فنظم المتنبي في هذا قصيدا أوله: على قدر أهل العزم تأتي العزائم «2» فلما انتهى إلى ذكر الحصن جاء بهذا البيت في جملة أبيات؛ فشرح صورة الحال في إزعاج الحصن بالقتال، وتعليق القتلى عليه، وأبرز ذلك في معنى التمثيل بالجنون والتمائم، وهذا لا يمكن تبديل لفظه؛ وهو وأمثاله مما يجب على الناثر أن يحسن الصنعة في فكّ نظامه؛ لأنه يتصدى لنثره بألفاظه؛ فإن كان عنده قوّة تصرف وبسطة عبارة فإنه يأتي به حسنا رائقا. وقد نثرت هذين البيتين: أما بيت أبي تمام فإني قلت في نثره: لم تكسه المنايا نسج شفارها، حتى كسته الجنة نسج شعارها؛ فبدّل أحمر ثوبه بأخضره، وكأس حمامه بكأس كوثره؛ وهذا من الحسن على غاية يكون كمد حسودها، من جملة شهودها؛ وأما بيت أبي الطيب المتنبي فإني قلت في نثره: سرى إلى حصن

كذا مستعيدا منه سبيّة نزعها العدو اختلاسا، وأخذها مخادعة لا افتراسا، فما نزلها حتى استقادها، ولا نزلها حتى استعادها، وكأنما كان بها جنون فبعث لها من عزائمه عزائم، وعلّق عليها من رءوس القتلى تمائم. وفي هذا من الحسن ما لا خفاء به؛ فمن شاء أن ينثر شعرا فلينثر هكذا، وإلّا فليترك. وقد جئت بهذا المعنى على وجه آخر، وأبرزته في صورة أخرى، وذاك أني أضفت إلى هذا البيت البيت الذي قبله، وهو: بناها فأعلى والقنا تقرع القنا ... وموج المنايا حولها متلاطم ولما نثرت هذين البيتين قلت في نثرهما ما أذكره، وهو: بناها والأسنّة في بنائها متخاصمة، وأمواج المنايا فوق أيدي البانين متلاطمة، وما أحلت الحرب عنها «1» حتى زلزلت أقطارها بركض الجياد، وأصيبت بمثل الجنون فعلّقت عليها تمائم من الرءوس والأجساد، ولا شك أن الحرب تعرّد «2» عمن عزّ جانبه، وتقول: ألا هكذا فليكسب المجد كاسبه. وهذا أحسن من الأول وأتم معنى. وقد تصرفت في هذا الموضع بزيادة في معناه، ونثرته على أسلوب أحسن من هذا الأسلوب، فقلت: بناها ودون ذلك البناء شوك الأسل، وطوفان المنايا الذي لا يقال سآوي منه إلى جبل، ولم يكن بناؤها إلا بعد أن هدّمت رءوس عن أعناق، وكأنما أصيبت بجنون فعلقت القتلى عليها مكان التمائم أو شينت بعطل فعلّقت مكان الأطواق.

وهذا الفصل فيه زيادة على الفصل الذي قبله. وإذا انتهى بنا الكلام إلى ههنا في التنبيه على نثر الشعر، وكيفية نثره، وذكر ما يسهل منه وما يعسر؛ فلنتبع ذلك بقول كلّيّ في هذا الباب؛ فنقول: من أحبّ أن يكون كاتبا، أو كان عنده طبع مجيب؛ فعليه بحفظ الدواوين ذوات العدد، ولا يقنع بالقليل من ذلك، ثم يأخذ في نثر الشعر من محفوظاته، وطريقه أن يبتدىء فيأخذ قصيدا من القصائد؛ فينثره بيتا بيتا على التوالي، ولا يستنكف في الابتداء أن ينثر الشعر بألفاظه أو بأكثرها؛ فإنه لا يستطيع إلا ذلك، وإذا مرنت نفسه، وتدرّب خاطره؛ ارتفع عن هذه الدرجة، وصار يأخذ المعنى ويكسوه عبارة من عنده، ثم يرتفع عن ذلك حتى يكسوه ضروبا من العبارات المختلفة، وحينئذ يحصل لخاطره بمباشرة المعاني لقاح فيستنتج منها معاني غير تلك المعاني، وسبيله أن يكثر الإدمان ليلا ونهارا، ولا يزال على ذلك مدة طويلة، حتى يصير له ملكة، فإذا كتب كتابا أو خطب خطبة تدفّقت المعاني في أثناء كلامه، وجاءت ألفاظه معسولة لا مغسولة، وكان عليها حدّة حتى تكاد ترقص رقصا، وهذا شيء خبرته بالتجربة، ولا ينبئك مثل خبير. فإن قيل: الكلام قسمان: منظوم، ومنثور؛ فلم حضضت على حفظ المنظوم وجعلته مادة للمنثور، وهلا كان الأمر بالعكس؟. قلت في الجواب: إن الأشعار أكثر، والمعاني فيها أغزر، وسبب ذلك أن العرب الذين هم أصل الفصاحة جل كلامهم شعر، ولا نجد الكلام المنثور في كلامهم إلا يسيرا، ولو كثر فإنه لم ينقل عنهم، بل المنقول عنهم هو الشعر، فأودعوا أشعارهم كل المعاني، كما قال الله تعالى: ألم تر أنهم في كل واد يهيمون ثم جاء الطراز الأول من المخضرمين فلم يكن لهم إلا الشعر، ثم استمرت الحال على ذلك، فكان الشعر هو الأكثر، والكلام المنثور بالنسبة إليه قطرة من بحر، ولهذا صارت المعاني كلها مودعة في الأشعار، وحيث كانت بهذه الصورة، فكان حثّي على حفظها واستعمال معانيها في الخطب والمكاتبات لهذا السبب.

وقد نثرت في هذا الموضع أبياتا تكون قدوة للمتعلم: فمن ذلك قولي في فصل من فصول الكلام يتضمن ذكر السيادة، وهو: الشريف من شرف بنفسه، لا بما دفن مع أبيه في رمسه؛ فإن تلك مكارم أتت فتجمّل الزمان بمأتاها، ثم مات أربابها فدفنت مع موتاها، ولو ساد الناس بآبائهم لكانت السيادة للطينة الأولى، ولقد خلق الأبناء من الآباء مجبولا، وهذا المعنى مأخوذ من قول الشاعر: وما الفخر بالعظم الرّميم، وإنّما ... فخار الّذي يبغي الفخار بنفسه غير أن الفصل الذي ذكرته يتضمن من المعنى زيادة على ما تضمنه هذا البيت. ومن ذلك ما كتبته في فصل من كتاب يتضمن معاتبة أخ لإخوته وتنصّله إليهم، فقلت: جرحوا قلبي وحبهم يذهب بألم الجراحة، وطرفوا عيني وهم يزيدون في نظرها ملاحة، وإذا صدرت الإساءة عن الأحباب لم يكن وقرها وقرا، وأصبحت وهي منسيّة إذا تجدّدت الإساءة بالذكرى، وما منهم إلا من سيط دمي بدمه ولحمي بلحمه، ولو أن الأسماء معارف الأشخاص لكان اسمي واردا على اسمه، وكيف أخشن عليهم وقد جبلني الله لهم على اللين، أم كيف أذود النفس عنهم وهي مشتقة منهم وآدم بين الماء والطين، ومتى أؤمل من شجرتي أغصانا كهذه الأغصان، وقد أصيبت جرثومتها بالجداد، ولهذا قيل: إن الإخوة يتعذر الاعتياض عنهم ولا يتعذر الاعتياض عن الأولاد. آخر هذا الفصل مأخوذ من شعر ابن الرومي، وهو قوله: تعزّيت عمّن أثمرتك حياته ... ووشك التّعزّي عن ثمارك أجدر تعذّر أن نعتاض عن أمّهاتنا ... وأبنائنا والنّسل لا يتعذّر غير أن ابن الرومي ذكر ذلك في تعزية إنسان بابنه، فتصرفت أنا في هذا المعنى ونقلته إلى هذا الفصل في تضمنه معاتبه أخ لإخوته.

ومن ذلك ما ذكرته في فصل من كتاب يتضمن ذم المشيب، فقلت: والعيش كل العيش في سن الحداثة، وما يأتي بعدها فلا يدعى إلا بسن الغثاثة، وليس بعد الأربعين من مصيف للذة ولا مربع، وهي نهاية القوة الصالحة من الطبائع الأربع، فإذا تجاوزها المرء أشفت ثمار عمره على خرصها، وصارت زيادته كزيادة التصغير التي هي زيادة تدل على نقصها، وأصبح بعد ذلك يدعى أبا بعد أن كان يدعى ابنا، وتقمّص ثوبا من المشيب لا يجر ثوبه خيلاء ولا يزهى به حسنا، وإن قيل إن أحسن الثياب شعار البياض قيل إلا هذا الثوب فإنه مستثنى، ويكفيه من الفظاظة أن ينظر الأحباب إليه نظر القتال، ولولا أن الخمود بعده لما استعير له لفظة الاشتمال، ومن الناس من يدلّس لونه بصبغة الخضاب، وليس ذلك إلا حدادا على فقد الشباب، وهو في فعله هذا كاذب ولا يخفى أنس الصادق من وحشة الكذاب، وخداع النفس أن تسلو عن بئره المعطّلة وقصره المشيد، ويحسّن لها الخروج في ثوب مرقّع وهي تراه بعين الثوب الجديد. وبعض هذا مأخوذ من شعر ابن الرومي، وهو قوله: رأيت خضاب المرء بعد مشيبه ... حدادا على شرخ الشّبيبة يلبس غير أن في هذا الفصل معاني كثيرة لطيفة لا توجد في كلام آخر. ومن ذلك قولي في وصف الجود والسخاء، وهذا الفصل يشتمل على معان متعددة؛ فمنها قولي في العطاء، وهو: شافهتني أسباب الغنى برؤيته حتى كادت تنطق، واخضرّت أكنان منزلي بعطائه حتى كادت تورق، ومن فضيلة بره أنه لا يأتي به على أعين الناس، وإذا غرسه عند إنسان ربّ ذلك الغراس؛ فلا يستكثر ما جادت به سحاب يده، ولا يمنعه عطاء يومه عن عطاء غده. وبعض هذا المعنى مأخوذ من شعر أبي نواس: كانوا إذا غرسوا سقوا وإذا بنوا ... لم يهدموا لبنائهم أسسا ومن هذا المعنى أيضا قولي، وهو: أخذ المكارم من سمائها وأرضها، وقام بنفلها في الناس وفرضها، وتحلى ببعض أسماء الشهور حتى أصبح بعضها حاسدا

لبعضها، فالمحرّم للعائذ بحرمه، وصفر للطامع في سعادة قدمه، وربيع لرائد نواله، ورجب لأقوال عذّاله. وهذا مأخوذ من قول الفرزدق: يداك بد ربيع النّاس فيها ... وفي الأخرى الشهور من المحرم وقد قال الشعراء في ذلك كثيرا، إلا أني أنا تصرّفت في هذا المعنى تصرفا لم يتصرف فيه أحد غيري. ومن هذا المعنى ما ذكرته في فصل من كتاب، وهو: ولقد سوّى بين أعدائه في البغض وبين أمواله؛ فهذه معنيّة بوقع نصاله، وهذه معنيّة «1» بصنائع نواله، ولو أحبّ المال لكان أحبّه إليه ما يبذله، كما أن أحبّ الناس إليه منح يسأله، ومن أحسن ما سنّه من الكرم أنه جاد حتى بدّل رغب العافين «2» زهدا، ورأى الحمد عوضا من الصنيعة فأبى أن يعتاض من صنائعه حمدا. وبعض هذا المعنى مأخوذ من شعر أبي نواس، وهو: ليت أعدائي كانوا ... لأبي إسحق مالا ومن ذلك قولي في وصف القتال وموطن الحرب ووصف الشجاعة والأنجاد، وما يتعلق بذلك ويجري معه، وهذا الفصل يشتمل على معاني مختلفة: فمن ذلك ما ذكرته في وصف العسكر، وهو: فسرنا في غمامة من الكتائب، تظلّها غمامة من الطيور الأشائب، فهذه يضمّها بحر من حديد، وهذه يضمها بر من صعيد «3» وما مرّت ببلد إلا أزالت أرضه من سمائه، وألبست نهاره ثوب ظلمائه،

وبدّلت أحراره بعبيده وحرائره بإمائه، وكذلك فعلت بمدينة فلانة وقد ضرب الأمن عليها أسوارا، وبعد عهدها بالنوائب فلم تدخل لها ديارا، فهي تخبر عن بلهنية الخفض ولم ترع عنه بالانتقال، ولا رأت السيف وقد ألقى لونه في ذوائب الأطفال «1» ، فما شعر أهلها إلا وقد رجمها الجيش بكاهله، ورماها بوابله قبل طلّه وطلّ السحاب قبل وابله، وبرزت خيل القوم ولها زيّ فرسانها، وهي مستبقة إلى طرادها كاستباقها إلى ميدانها، إلا من تتأوّد القناة من يده بين لهذمين، وتستقلّ السرج منه ومن جواده بين مطهّمين، فجرت المغاوير إلى المغاوير، وتلاقت الرياح بالأعاصير، وكان الطعن بينهم عناقا، واللبث وفاقا، وسبق ألم الموت ألم الجراح، ونفذت غير مخضّبة لسرعتها أسنّة الرماح، وحصل القوم [في] القبضة، وذمّوا عقبى النّهضة، وجيء بالأسرى مقرنين في الأصفاد، موقنين أن رءوسهم عواريّ على تلك الأجساد، ولو استطاع رأس أحدهم أن ينكر عنقه لأنكره، ولا يود وهو المعظم أن يقال ما أعظمه بل يقال ما أحقره، وتصرفت أيدي المسلمين في القتل والنهاب، وكان للسيف رقاب وللسبي رقاب. في هذا الفصل معان كثيرة مستحسنة، ومنها ما أخذ من شعر المتنبي، كقوله: سحاب من العقبان ترجف تحتها ... سحاب إذ استسقت سقتها صوارمه «2» وكقوله: واستعار الحديد لونا وألقى ... لونه في ذوائب الأطفال «3»

ومن ذلك ما ذكرته في وصف المسلوبين في فصل من جملة كتاب يتضمن البشرى بهزيمة الكفار، وهو: فسلبوا وعاضتهم الدماء عن اللباس، فهم في صورة عار وزيّهم زيّ كاس، وما أسرع ما خيط لهم لباسها المحمر، غير أنه لم يجب عليهم ولم يزر، وما لبسوه حتى لبس الإسلام شعار النصر، الباقي على الدهر، وهو شعار نسجه السّنان الخارق، لا الصّنع الحاذق، ولم يغب عن لابسه إلا ريثما غابت البيض في الطّلى والهام، وألّف الطعن بين ألف الخط واللام. وهذه معان حسنة رائقة، ومنها معنى واحد مأخوذ من شعر البحتري؛ وهو: سلبوا وأشرقت الدّماء عليهم ... محمرّة فكأنّهم لم يسلبوا «1» ومن ذلك ما ذكرته في صدر كتاب يتضمن فتحا، وهو: أصدر هذا الكتاب والفتح غضّ طريّ لم تنصل حمرة يومه، ولا أغمدت سيوف قومه، فسطوره مترّبة بمثار عجاجه، ممتلئة بخط ضربه وإعجام زجاجه. وهذا المعنى ينظر إلى قول أبي تمام: كتّبت أوجههم مشقا ونمنمة ... ضربا وطعنا يقات الهام والصّلفا «2» كتابة ما تني مقروءة أبدا ... وما خططت بها لاما ولا ألفا «3» إن أن أبا تمام مثل آثار الضرب والطعان في الوجوه بالكتابة، وأنا مثلت الكتابة

وإعجامه بالضرب والطعن، فكأنني عكست المعنى الذي ذكره أبو تمام، وهذا مقصد في حل الأبيات الشعرية حسن، فإن استخراج المعنى من عكسه أدقّ من استخراجه من نفسه، وقد نبهت على ذلك في مواضع أخر من هذا الباب. ومن ذلك ما ذكرته في فصل من كتاب يتضمن فتحا من فتوح الكفار، وهو: وأقبلت أحزاب الكفر وهي معتصمة بصليبها، ورفعته على أعواد عالية كهيئة خطيبها، ولم تعلم أن الله كتب عليه الهوان بعد تلك الكرامة، وأنه ذو شعب أربع والتربيع نحس في حكم النّجامة «1» وكيف ترجو بكفرها ظهورا ولها منه معنى الاختفاء وللإسلام معنى السلامة؛ ولما التقى الجمعان اصطفقت يمين وشمال، وزحفت جبال إلى جبال، وكثرت النفوس على المنايا حتى كادت لا تفي بالآجال، وأقدمت الخيل إقدام فرسانها، وأظلم النقع فلا تبصر إلا بآذانها، ونالت النحور ثأرها من كعوب الرماح، واشتكت الأسنّة فلا طريق بينها لمهبّ الرياح، واستؤصلت شجرة الكافرين بالقطع لا بالجداد، وحال حدّ السيف دون حديد الأصفاد، ونقلوا إلى جهنم يصلونها وبئس المهاد، وانقلب المسلمون وقد ملئوا الأغماد نصرا، والصحائف أجرا، والأيدي وقرأ، والقلوب جذلا والألسنة شكرا، وكان ذلك اليوم في الأيام علما، وفي الأقسام قسما، ولم يره الزمان منسوبا إليه إلا راجع شبابا بعد أن ناهز هرما. في هذا الفصل شيء من معاني الشعر، وذلك من قول أبي الطيب المتنبي «2» :

أتاهم بأوسع من أرضهم ... طوال السّبيب قصار العسب «1» تغيب الشّواهق في جيشه ... وتبدو صغارا إذا لم تغب «2» ولا تعبر الرّيح في جوّه ... إذا لم تخطّ القنا أو تثب «3» ومن قوله أيضا «4» : في جحفل ستر العيون غباره ... فكأنّما يبصرن بالآذان» ومن ذلك ما ذكرته في الإنجاد وإجابة الصّريخ، وهو: إذا استصرخ بعزم غذته صحبة الجيش، عن لذة العيش، فهو يستعذب حرّ الثّغور، على برد «6» الثغور، ويلهو بالبيض الذكور، عن بيض الخدور «7» ، ولا طيب عنده إلا ريح

العجاج «1» . ولاعناق إلا أطراف الزّجاج «2» ، ولا أرب له في الرقاد إلا على صهوات الجياد، فعسكر قلبه أمضى في الوغى من عسكر، ونجدة بأسه تأبى لقاء الأقران في درع أو مغفر. وهذه المعاني مأخوذة من أبيات الحماسة، ومن شعر مسلم بن الوليد. ومن ذلك ما ذكرته في وصف المخبر دون المنظر، وهو: إذا سموت لأمر فكن واحدا في مكانك، ولا ترض بكثرة الشركاء فيقال فلان من أقرانك، ألم تر إلى الحرباء الذي هو دويبة حقيرة الشأن، ضعيفة الأركان، فإنه ارتفع في هواه عن الأرض وأنسها، إلى السماء وشمسها، وقال: لا أحبّ من تفسد الأيام من حسنه، ولا من أحد بسمة خلّه ولا خدنه، والهمم ليست منوطة بجهارة المناظر، والتعويل على الخبر المستتر في الأفئدة الباطنة لا على الظواهر، ومن ههنا قيل: إنّ وضاءة النفوس أنضر من وضاءة الأجساد، ورقم الشّيم أحسن من رقم الأبراد. وآخر هذا الفصل ينظر إلى قوم سحيم عبد بني الحسحاس. إن كنت عبدا فنفسي حرّة كرما ... أو أسود اللّون إنّي أبيض الخلق إلا أن الفصل يتضمّن معنى غريبا لم يسبقني إليه أحد. ومن ذلك ما ذكرته في الحسد في فصل من كتاب، وهو: حاسد سيّدنا ينظر إلى زهرة دنياه ولا ينظر إلى استحقاقه، وهو كالناظر إلى الاطواق الموضوعة في الحيد ولا يدري أن الجيد أحسن من أطواقه، ولو قاس الدنيا بالاستحقاق لذهب الحسد من صدره، وقال: ما لي أحسد من لم ينته قدر دنياه إلى معشار قدره. ومن ذلك ما ذكرته في صدر كتاب يتضمن الأعذار عن تواتر المكاتبات، وهو: إذا اعتذر من انقطاع الكتب اعتذار الخادم من اتصالها، ولو كانت واردة على

غير ذلك الباب الكريم لخاف من إملالها، وقد عد احتمال تثقيلها من جملة الأيادي التي أثقلته، وأراد أن يجري معها بسوابق شكره فأعجلته وما أمهلته، وهو الآن مرتهن بين قديم وجديد، وأصبح كخراش إذ تكاثرت عليه الظباء فلم يدر لكثرتها ما يصيد، فإن أمسك سيّدنا من أياديه وإلا فليتفضل على الشكر بالإنظار، وليعلم أن ذمة وفائه كذمة ديوان المال في الإعسار. هذا فصل في هذا المعنى قلّما يؤتى بمثله، وفيه معنى واحد من قول الشاعر: تكاثرت الظّباء على خراش ... فما يدري خراش ما يصيد ومن ذلك ما ذكرته في استصلاح مودة، فقلت: كنت عنده بالمنزلة التي آمن بها ما أجنيه فصرت أخاف ما لم أجنه، وكان لا يقبل عليّ شهادة عينه فأصبح الآن يقبل على شهادة أذنه، لكن لم يجعل الله القلوب بين أصبعين من أصابعه إلا ليذهب بها كلّ واد، ومن ههنا كانت تنتقل من وداد إلى قلّى ومن قلّى إلى وداد، ولا شك أن لها بين الحالتين عمرا تنتهي إليه كما تنتهي أعمار الأجساد، والصبر خير ما استعمل في جفاء الإخوان، والماء إذا جرى في مكان ثم انحرف عنه فلا بد أن يعود إلى ذلك المكان. وبعض هذا مأخوذ من شعر ابن الرومي [وهو قوله] : عهدتك لا تعتدّ بالعين شاهدا ... عليّ فلم أصبحت تعتدّ بالأذن ومن ذلك ما ذكرته في فصل من كتاب إلى بعض الملوك على يد بعض العفاة، وهو: الشّيم الكريمة للإنسان بمنزلة المسك في سرر الغزلان، غير أن طيب هذه يعبق بالأنوف وطيب هذه يعبق بالآذان، وقد جعل تفاوت المزية بين هذين الطيبين فرقا، فأحدهما يبقى دائما ولا يذهب والآخر يذهب ولا يبقى، ونصيب مولانا من الطيب الباقي نصيب زكت معادنه، وكثرت خزائنه، وسارت في الأرض محاسنه، ورفعه الله به إلى محل يبعد شأوه على الطالب، ولا يرى إلا في لسان شاعر أو لسان خاطب، وهو مما استثني من خلق الناس الذي هو من طين لازب،

ومن أجل ذلك يرون أشباها ما عداه، وما منهم إلا من يقر بفضله ولو كان من حساده أو عداه، وقد أصبحوا وهم يقلون لديه حين يكثرون، ويقول كل منهم لصاحبه أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون. هذا الفصل وإن تضمن شيئا من القرآن الكريم فليس المراد ههنا القرآن الكريم، بل منه شيء مأخوذ من الشعر، وهو قول المتنبي: النّاس ما لم يروك أشباه ... والدّهر لفظ وأنت معناه ومن ذلك ما ذكر في وصف الخمر، وهو: الخمر لا تفي لذة إسكارها، بتنغيص خمارها، فهي خرقاء البيان، بذيّة اللسان، وتأنيثها يدلك أنها من ناقصات العقول والأديان، وقد عرف منها سنّة الجور في أحكامها، ولولا ذلك لما استأثرت من الرءوس بجناية أقدامها. وهذا أحسن من قول الشاعر وأغرب وألطف، لأنه قال: ذكرت حقائدها القديمة إذ غدت ... وهنا تداس بأرجل العصّار لانت لهم حتّى انتشوا فتحكّمت ... فيهم فنادت فيهم بالثّار وكذلك قلت في وصفها أيضا، وهو: مدامة تنفي خواطر الهموم، وتسري مسرى الأرواح في الجسوم، وتشهد بأن الكرم مستمد من ماء الكروم، ويتمثل حببها «1» نجوما إلا أنها مضلّة والهداية للنجوم. وبعض هذا مأخوذ من قول أبي نواس: إذا هي حلّت في اللهاة من الفتى ... دعا همّه من صدره برحيل وما زال الشعراء يتواردون على هذا المعنى حتى سمج، لكن الذي ذكرته بعد هذا المعنى من محاسن المعاني في وصفها، وكذلك ما ذكرته في وصفها، وهو: الخمر كالعذراء في نفورها، وملازمة خدورها، ولهذا تشمئز من نكاح المزاج،

وتصخب لمسّ الماء صخب الأبكار لمس الأزواج، ومن شأنها أن تلبس عند الزفاف إكليلا على رأسها، وكذلك شأن العرائس عند زفافها إلى أعراسها. وهذه المماثلة بين الخمر وبين البكر على هذا النسق لم يأت بها أحد غيري، وإنما وصفت بأنها بكر، كقول أبي نواس: فقلت لشيخ منهم متكلّم ... له دين قسّيس وفي نطقه كفر أعندك بكر مرّة الطّعم قرقف ... صنيعة دهقان تراخى له العمر فقال عروس كان كسرى ربيبها ... معتّقة من دونها الباب والسّتر ووصفت بالنكاح والزواج، كقوله أيضا: وقهوة كالعقيق صافية ... يطير من كأسها لها شرر زوّجتها الماء كي تذلّ له ... فامتعضت حين مسّها الذّكر ومن ذلك ما ذكرته في الحزم، وهو: لا ينبغي للحازم أن يساور المورد المؤذن بمضيقه وإن أفضى الصّدر إلى رحيبه، فإنّ توقّي الداء خير من التعرض له مع وجود طبيبه، ولندع قول من يقعد على تلّ السلامة ثم يلبس الكتائب بالكتائب، ويقول: ليس للعزم إلا تمام الصدور وليس عليه تمام العواقب. بعض هذا مأخوذ من شعر أبي تمام «1» : وركب كأطراف الأسنّة عرّسوا ... على مثلها واللّيل تسطو غياهبه لأمر عليهم أن تتمّ صدوره ... وليس عليهم أن تتمّ عواقبه ومن ذلك ما ذكرته في وصف الرأي والكيد، وهو: أخفى على العدوّ كيده

حتى لم يدع كائدا، وأعمى عليه سلوك الطريق حتى ظنه حائدا، فسيوفه تسطو على بعدها، ولا تقطع إلا وهي في غمدها. وبعض هذا المعنى أخذته من شعر أبي تمام «1» ، وهو: سكن الكيد فيهم إنّ من أع ... ظم كيد أن لا يسمّى أريبا وكذلك قولي في هذا المعنى، وهو: أخذ بسمع العدو وبصره، وسدّ مطلع ورده وصدره، فيداه مغلولة مع أنها مطلقة السّراح، ومقاتله بادية على أنها شاكية السّلاح. وهذا المعنى ينظر إلى المعنى الذي قبله. وكذلك قولي أيضا، وهو: يبيّت برأيه العدو قبل جيشه، وتلقاه يطيش قلمه الذي كلّ الحلم في طيشه، فإذا أطلّت وجوه الآراء كان رأيه لها صباحا، وإذا جهزت الجحافل لحرب كان قلمه لها سلاحا. وبعض هذا المعنى مأخوذ من شعر البحتري «2» : وهو المرء ما غزا بلدا بال- ... - رأي إلّا كفاه غزو الجنود ومن ذلك ما ذكرته في وصف السير والركاب والخيل والقفار وما يتعلق بها.

فمنه ما يتعلق بالسير، وهو: ركب ظهر الليل يباري مسير شهبه بمسير أشهبه «1» ، ويستقرب بعد المدى في نيل مطلبه، غير أن تلك تفري أديم الغياهب، وهذا يفري أديم السّباسب «2» : وهذا مأخوذ من قول المتنبي «3» : يباري نجوم القذف في كلّ ليلة ... نجوم له منهنّ ورد وأدهم ومن هذا المعنى أيضا قولي، وهو: اتّخذ الليل ظهرا، واستلان خشونة المسرى، فلم يزل يقذف صبغة سواده، بصبغة جواده، حتى بدت في أديم الليل شيات صباحه، وشابه الأدهم في غرّته وأوضاحه، فعند ذلك أخذ أحدهما في رحيله، وأخذ الآخر في نزوله. وهذا المعنى ينظر إلى الذي قبله، وفيه من شرف الصنعة ما لا خفاء به. ومن ذلك ما ذكرته أيضا في فصل من كتاب، وهو: سرت وتحتي بنت قفرة لا يذهب السّرى بجماحها، ولا تستزيد الحادي من مراحها، فهي طموح بأثناء الزّمام، وإذا سارت بين الآكاد قيل هذه واحدة من الآكام، ولم تسمّ جسرة إلا لأنها تقطع عرض الفلاة كما يقطع الجسر عرض الماء، ولا سميت حرفا إلا لأنها جاءت لمعنى في العزائم لا لمعنى في الأفعال والأسماء، وخلفها جنيب من الخيل يقبل بجذع ويدبر بصخره، وينظر من عين جحظة ويسمع بأذن حشره، ويجري مع

الريح الزّعزع فيذرها وقد ظهر فيها أثر القتره، وما قيد خلفها إلا وهو يهتدي بها في المسالك المضلّة، ويطأ على أثرها فيرقم وجوه البدور بأشكال الأهلة، هذا والليل قد ألقى جرانه فلم يبرح، والكواكب قد ركدت فيه فلم تسبح، وأنا أودّ لو زاد طوله، ولم تظهر غرة أدهمه ولا حجوله، فقد قيل: إنه أدنى للبعد وأكتم للأسرار، ودل عليه القول النبويّ بأن الأرض تطوى فيه ما لا تطوى في النهار، وما زلت أسير بريدها تنوء به حتى كاد ينضولون السواد، وظهر لون السرحان فأغار على سرح السماء كما يغير السرحان على سرح النقاد، فعند ذلك نهلت العين من الكرى نهلة الطائر، ولم يكن ذلك على ظهر الأرض المطمئنة وإنما كان على الظهر السائر. في هذا الفصل كل مليحة من المعاني، ولو لم يكن في هذا الكتاب سواه لكان كافيا، وبعضه مأخوذ من الشعر، كقول أبي تمام «1» : طموح بأثناء الزّمام كأنّما ... يخال بها من عدوها طيف جنّة «2» وكقوله «3» : بالشّذقميّات العتاق كأنّما ... أشباحها بين الأكام أكام «4» ومن ذلك ما ذكرته في النسب في فضل من كتاب، وهو: لهم نسب لا تدخله لام التعريف، وهو موضوع لا يجري على سنن التوقيف، فإذا ذكر أوله وقفت من عرفانه على طلل، ووجدته مهملا في جملة الهمل، وإن قيل إنه من نجوم السماء قلت لكنه لا يخرج عن الثور أو الحمل، فما أرهف لوصفه لسان إلا نبا، ولا اقتدح له زناد خاطر إلا كبا، وهم منه كآوى الذي يرى الناس له ابنا ولا يرون لابنه أبا.

وهذا من أغرب ما يؤتى به في ذم النسب، وهو من باب توليد المعاني الذي يسمى الكيمياء، وبعضه مستولد من قول أبي نواس في هجاء الخصيب «1» : وما خبزه إلّا كآوى يرى ابنه ... ولم يرآوى في حزون ولا سهل «2» فأبو نواس ذم خبز الخصيب في عدم رؤيته، وأنا نقلت ذلك إلى النسب، فجاء ألطف وأحسن وأليق وأدخل في باب الصنعة، وإذا حقق النظر فيما ذكره أبو نواس في هذا المعنى لم يوجد مناسبا، فإن الخبز في عدم رؤيته لا يحمل على ابن آوى، وإنما المناسبة تقع في النسب من أجل ذكر الابن والأب. ومن ذلك ما ذكرته في ذم قوم، وهو فصل من كتاب، فقلت: تركت قوما لم ينقعوا صدى، ولم يجروا إلى مدى، فأعراضهم نكرة العارف، وأموالهم حنظلة الناقف، لا تمطر سحبهم على كثرة مائها، ولا تزكو الذريعة بأرضهم على نمائها. وبعض هذا المعنى مأخوذ من شعر الشريف الرضي «3» : تركت أناسا لم يهشّوا لمنّة ... ولم ينقعوا غلّ الظّماء الخوامس على القرب فيهم إنّني غير طامع ... ومنك على بعد المدى غير آيس «4»

ومن هذا الباب أيضا قولي، وهو: تركت قوما يسلون الحبيب، ويملّون القريب، ولا يرعون من يرعاهم، ولا يدرّ اللبن على مرعاهم، فنوالهم تحايا، وأعراضهم ضحايا، ومن أحسن صفاتهم أنهم يعاقبون على الظنة، ولا يرتاحون لمنة، فالذرائع لديهم مدفونة، والصنائع غير مسنونة. وبعض هذه المعاني مأخوذ من شعر أبي الطيب «1» المتنبي: رأيتكم لا يصون العرض جاركم ... ولا يدرّ على مرعاكم اللّبن جزاء كلّ قريب منكم ملل ... وحظّ كلّ محبّ منكم ضغن ومن ذلك ما ذكرته على الحث على الاغتراب، وهو: لولا التغرب لما ارتقت بنات الأصداف إلى شرف الأعناق، ولا ارتقى تراب الأحجار إلى نور الأحداق. وكذلك قولي في هذا المعنى، وهو: في الانتقال تنويه لخامل الأقدار، ولولا ذلك لم يكس الهلال حلة الأبدار، والمندل الرطب حطب في أوطانه، والمسك دم في سرر غزلانه، ولولا فراق السهم وتره لم يحظ بفضل الإصابة، ولولا فراق الوشيج منبته لم يتحلّ بعز السّنان ولا شرف الذّؤابة. وهذا الفصل فصل من القول في معناه، ومما لم ينبش للخواطر ابتناء مبناه؛ فمنه ما هو مأخوذ من الشعر، ومنه ما منح به الخاطر على غير مثال، وهو يشهد لنفسه. ومن ذلك ما ذكرته في وصف الأيام، وهو: أيام تعدّ بأعوام «2» لقصر أعمارها، وشهور لا يشعر بأنصافها ولا سرارها؛ فالأوقات بها أصائل، والمحاسن فيها

شمائل، والمآرب في ساعاتها رياض في خمائل؛ فما أدري أهي خيالات أحلام غرت، أم أحاديث أمان مرت. وبعض هذا المعنى مأخوذ من أبيات الحماسة «1» : شهور ينقضين وما شعرنا ... بأنصاف لهنّ ولا سرار «2» ومن ذلك ما ذكرته في وصف الإخوان، وهو: ليس الصّديق من عدّ سقطات قرينه، وجازاه بغثّه وسمينه، بل الصديق من ماشى أخاه على عرجه، واستقام له على عوجه، فذلك الذي إن رأى سيئة وطئها بالقدم، وإن رأى حسنة رفعها على علم. وبعض هذا المعنى مأخوذ من أبيات الحماسة «3» :

إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا ... عنّي، وما سمعوا من صالح دفنوا «1» إلا أن الذي ذكرته ضدّ هذا المعنى، وقد يستخرج المعنى من ضده. وهو أحسن مما يستخرج من نفسه. ومن هذا قولي أيضا، وهو: ليس الصديق من صرّى أخلاف ودّه «2» وغشّ في صفقة عهده بل الصديق من لا ترد سلعة وده بإقالة ولا عيب، ولا تخص محافظة إخائه بشهادة دون غيب «3» فذلك أخي من غير نسب، وكنزي من غير نشب. وهذا مأخوذ من الفقه في تصرية ضرع الشاة عند البيع، وذلك يوجب الرد. ومما ينتظم بهذا السلك قولي، وهو: الانتقال عن خلة الوداد، كالانتقال عن نسب الميلاد، وكما يحرم هذا في نص الحكم المشروع، فكذا يحرم هذا في خلق الكرم المطبوع، على أن نسب الخلة الذي ينميه القلب إلى القلب، أوصل من نسب الرحم الذي ينميه الابن إلى الأب، ولهذا كانت مودة سلمان قربى، ونسب أبي لهب سبّا وتبّا. وبعض هذا مأخوذ من شعر أبي نواس، وهو: كانت مودّة سلمان له نسبا ... ولم يكن بين نوح وابنه رحم ومن ذلك ما ذكرته في وصف الديار، وهو: دار كانت مقاصر جنة، فأصبحت وهي ملاعب جنّة، ولقد عميت أخبار قطّانها، وأنشاز أوطانها، حتى شابهت إحداهما في الخفاء، الأخرى في العفاء، وكنت أظن أنها لا تسقى بعدهم بغمام، ولا يرفع عنها جلباب ظلام، غير أن السحاب بكاهم فجرت بها سوافح دموعه، والليل شق عليهم ثوبه فظهر الصباح من خلال صدوعه.

وهذه معان لطيفة جدا، وبعضها مأخوذ من شعر الشريف الرضي رحمه الله تعالى «1» : أمرابع الغزلان غيّرك البلى ... حتّى غدوت مراتعع الغزلان «2» ومما يلتئم بهذا المعنى قولي أيضا، وهو: دار أصبحت مراتع أذواد، بعد أن كانت مناجع روّاد، فلو تصورت الآمال التي مثلت بفنائها، كما تصورت الآثار المماثلة من بنائها؛ لرأيت رسومها مع رسوم القباب. وعلمت كم غار بها من بحر ونضب من سحاب. وهذا معنى حسن له من نفسه مثن وحامد، ومن سامعه يمين وشاهد، وهو من معانيّ المستخرجة. ومن ذلك قولي أيضا، وهو: النقص موكّل بكمال النعماء، ولذلك كان الوخم مقترنا بالمرعى والماء وقلّما ترى ثمرة إلا ومعها زنبور، ولا لذة إلا وإلى جانبها شيء محذور. وكذلك قولي أيضا، وهو: لا يظفر الرجل بمطالبه شفعا، ولا تؤتيه من كل جهة نفعا، بل يرى مرعى بلا ماء وماء بلا مرعى، ولذلك كانت النحلة مع الشهدة، والشوكة مع الوردة.

وبعض هذه المعاني مأخوذ من قول أبي تمام «1» : أرض بها عشب زاك وليس بها ... ماء وأخرى بها ماء ولا عشب «2» إلا أن في الكلام المنثور زيادة على ما تضمنه الشعر، وكأنه ينظر إليه نظرا بعيدا. ومن سبيل المتصدّي لهذا الفن أن يأخذ المعنى من الشعر فيجعله مثل الإكسير في صناعة الكيمياء، ثم يخرج منه ألوانا مختلفة من جوهر وذهب وفضة، كما فعلت في هذا الموضع؛ فإني أخذت معنى هذا البيت من الشعر فاستخرجت منه ما ليس منه، وهذا أعلى الدرجات في نثر المعاني الشعرية. وقد بسطت القول في هذا الموضع، وكشفت عن دفائنه، في الكتاب الذي وسمته ب «الوشي المرقوم في حلّ المنظوم» وهو كتاب مفرد [في] هذا الفن خاصة. ومن هذا الضرب الذي هو الكيمياء في توليد المعاني ما ذكرته في وصف الربيع فقلت: فصل الربيع هو أحد ميزاني عامه، والمستقيد لسامه من حامه، وقد وصف بأنه ميعاد نطق الأطيار، وميلاد أجنّة الأزهار، والذي تستوفي به حولها سلافة العقار، فإذا سلّت السحب فيه سيوفها كان ذلك للرضا لا للغضب، وإذا خلعت على الأرض غلالتها الدّكناء لبست منها ديباجة منسوجة بالذهب. وهذا المعنى مستولد من قول أبي تمام في وصف السحاب «3» :

سلبته الجنوب والدّين والدّنيا وصافي الحياة في سلبه «1» إلا أن في الذي ذكرته معنيين غريبين إذا أمعن الناظر نظره فهمهما. ومن ذلك ما ذكرته في لين القول وإعادته، وما يجري مجراه، كقولي في فصل من كتاب، وهو: لم أعد عليه القول لأنه لا يبلغ مدى ميدانه، إلا بتحريك سوطه وعنانه، بل أخذا بأدب الله في اذكار القرآن، واتباعا لسنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم في تثويب الأذان. وبعض هذا مأخوذ من شعر أبي تمام «2» : لو رأينا التّأكيد خطّة عجز ... ما شفعنا الأذان بالتّثويب «3» وكذلك قولي أيضا، وهو: وقد علم أن لين القول أنجع قبولا، وهو من أدب كليم الله إذ بعثه إلى فرعون رسولا، ألا ترى أن الحداء يبلغ من المطايا بلطفه، ما لا يبلغه السوط على عنفه. وبعض هذا المعنى مأخوذ من شعر أبي تمام «4» :

وخذهم بالرّقى إنّ المهارى ... يهيّجها على السّير الحداء «1» ومن ذلك ما ذكرته في ذم الدنيا، وهو: أنكاد الدنيا مشوبة بالأشياء التي جبلت النفوس على حبّها، وكل ما تستلذه الأبدان من مأكلها فإنه يضرها من جهة طبها، ولهذا يذمم من منفعة الهليلج، ومضرة اللوزينج. وأعجب من ذلك أنه لا ينتفع الإنسان بشيء من لذاتها إلا ضره من جهة ثوابه، وهو كالذي ينتفع باصطلاء النار وهي محرقة لأثوابه، وقد ضرب لذلك مثل من الأمثال، وقيل: إن كل ما ينفع الكبد مضرّ بالطحال. وهذا مأخوذ من الأمثال العربية والمولدة. ومن ذلك ما ذكرته في الزهد، وهو: الناس في الدنيا أبناء الساعة الراهنة، وكما أن النفوس ليست فيها بقاطنة فكذلك الأحوال ليست بقاطنة، ولهذا كانت المآتم بها كالأعراس يتفرق نديّ جمعها، فهذه تنسي ما مضى من لذة سرورها وهذه تنسي ما مضى من ألم فجعها، ولا شبيه لها على ذلك إلا الأحلام التي يتلاشى خيالها عاجلا، وتجعل اليقظة حقها باطلا، وما ينبغي حينئذ أن يفرح بها مقبلة ولا يؤسى عليها مدبرة، وكل ما تراه العين منها ثم يذهب فكأنها لم تره، وغاية مطلوب الإنسان منها أن يمدّ له في مدة عمره، ويملى له في امتداد كثره، أما تعميره فيعترضه المشيب الذي هو عدم في وجود، وهو أخو الموت في كل شيء إلا في سكنى اللحود، فالجوارح التي يدرك بها الشهوات ترى وكل منها قد تحول، وأصبح كالطلل الدارس الذي ليس عنده من «2» معوّل، فلا ليلى بليلى ولا النّوار بالنوار، ولا الأسماع أسماع ولا الأبصار أبصار، وأما ماله فإن أمسكه فهو عرضة لوارث يأكله، أو

لحادث يستأصله، وإن أنفقه كان عليه في الحلال حسابا، وفي الحرام عقابا، فهذه زهرة الدنيا الناضرة، وهذه عقباها الخاسرة. وبعض هذا المعنى مأخوذ من شعر صالح بن عبد القدّوس: وإذا الجنازة والعروس تلاقيا ... ألفيت جمعا كلّه يتفرّق ومن قول أبي العتاهية: أنّما أنت طول عمرك ما عمّرت في السّاعة الّتي أنت فيها ومن ذلك ما ذكرته في فصل من كتاب يتضمن تعزية، وهو: كيف يظلم ذلك اللّحد وبه من أعمال ساكنه أنوار؟ أم كيف يجدب وبه من فيض يمينه سحاب مدرار؟ أم كيف توحش أقطاره والملائكة داخلة عليه من تلك الأقطار؟ أم كيف يخفيه طول العهد على زوّاره وطيب ترابه هاد للزوار، وما أعلم ما أقوله في هذا الخطب الجليل، الذي دقّ فيه الحزن الجليل، وسمحت له النفوس بالفدية على حب الحياة وذلك من الفداء القليل، وقد قيل: إنه لم يخلق الدمع إلا إنذارا بأن نوائب الزمان ستنوب، وقد جعله الله ذخرا للقائها وإنما يذخر السلاح للقاء الحروب، والذي ذخرته منه لم يغن عني في هذه النائبة، وأيّ جنّة تقوم في وجه سهامها الصائبة، لا جرم أني أصبحت بين يديها هدفا للرماء، ولم يبق مني إلا ذماء الحشاشة ومن العجب بقاء الذّماء. وشيء من هذا الفصل مأخوذ من شعر ابن الرومي: لم يخلق الدّمع لامرئ عبثا ... الله أدرى بلوعة الحزن وكذلك ذكرت فصلا في كتاب آخر يتضمن تعزية، وهو: فيا ويح أيد أسلمته إلى الثرى وما كان يسلمها إلى الإعدام، وألبسته ظلمة اللحد وطالما جلا عنها غيابة الظّلم والإظلام، وغادرته بوحدته مستوحشا وقد كان يؤنسها بنوافل الإنعام، ومثله لا يوارى القبر منه إلا صورة يدركها النفاد، وتبلى كما يبلى غيرها من الأجساد، ولكنه لا يستطيع مواراة الذكر الخالد الذي يذهب بشماتة الحساد، ويتمثل في السماء بصورة الكواكب وفي الأرض بصورة الأطواد.

وبعض هذا مأخوذ من قول بعض شعراء الحماسة «1» : فإن تدفنوا البكريّ لا تدفنوا اسمه ... ولا تدفنوا معروفه في القبائل «2» ومن ذلك ما ذكرته في وصف كلام بالفصاحة، وهو فصل من كتاب؛ فقلت: وله البيان الذي يغض من نسق الفريد، ولا يخلق نضرة لباسه الجديد، وهو فرق كلام المجيد ودون القرآن المجيد، وإذا اختصروا صفته قيل: إنه يستميل سمع الطروب، ويستحق وقار القلوب، ويتمثل آيات بيضاء من غير ضمّ إلى الجيوب، ويرى في الأرض غير لاغب إذا مسّ غيره فترة اللّغوب، ولا تزال الناس في عشق معانيه ضربا واحدا والعاشقون ضروب، ولما وقفت عليه قلت: سبحان من أعطى سيدنا فلم يبخل، وخصّه بنبوّة البيان إلا أنه لم يرسل، ولولا أن الوحي قد سدّ بابه لقيل: هذا كتاب منزل، ولقد خار الله لأولي الفصاحة إذ لم يحيوا إلى عصره، ولم يبتلوا فيه بداء الحسد الذي يصليهم بتوقّد جمره، ولئن سلموا من ذلك فما سلمت أقوالهم من أقواله التي محتها محو المداد، وقد كانت باقية بعدهم فلما أتى صارت كما صاروا إلى الألحاد. وفي هذا الفصل شيء من المعاني الشعرية كقول البحتري «3» :

مستميل سمع الطّروب المعنّى ... عن أغانيّ معبد وعقيد «1» وقول الشريف الرضي رحمه الله «2» : عشقت ومالي يعلم الله حاجة ... سوى نظري، والعاشقون ضروب وفيه أيضا شيء من معاني القرآن الكريم، إلا أنها جاءت ضمنا وتبعا، وموضعها يأتي بعد الأبيات الشعرية. وكذلك ذكرت فصلا آخر من هذا الأسلوب، وهو: إن للكلمة طعما يعرف مذاقه من بين الكلام، وخفّة الأرواح معلومة من بين ثقل الأجسام، فلو لم نعرفه بطعمه، عرفناه بوسمه، والصباح لا يتمارى في إسفاره، ولا يفتقر إلى دليل على إشراق أنواره، وقد علم أن العرف يعرف بغصنه، وأن القول يعرف بلحنه، ونفائس هذه العقود لا يبرزها إلا أنفاسه، فدررها لفظه وسلوكها قرطاسه. ومن هذا الباب قولي أيضا، وهو: ألفاظ كخفق البنود، أو زأر الأسود، ومعان تدل بإرهافها أنها هي السيوف وأن قلوبا نمتها هي العمود، فيخالها المتأمل حومة طعان، أو حلبة رهان. وبعض هذا مأخوذ من شعر البحتري «3» : يقظان ينتخب الكلام كأنّه ... جيش لديه يريد أن يلقى به

ومن ذلك ما ذكرته في فصل من كتاب إلى بعض الإخوان من أهل الكتابة كان اعتدى عليه شخص يدّعي الكتابة وليس من أهلها، فقلت: وقد نيط بسيدنا قلما الخطّ اللذان ينسب أحدهما إلى المداد وينسب الآخر إلى الصّعاد «1» ، فهو يدير هذا في معركة المقال وهذا في معركة الطّراد، ولربما صهل أحد قلميه من فوق صفحات الدروج، كما تصهل الجياد من تحت أعواد السّروج، فله احتفال المواطن والمجالس، وإليه غناء أصحاب العمائم والقلانس، لا كمن لا يجاوز همّه طرفي ردائه، وإذا نودي لفضيلة قيل: إنما يسمع الحيّ بندائه، وكم في الناس من صور لا تجد لمعناها أثرا، وإذا رأيتها قلت أرى خالا ولا أرى مطرا، وأيّ جمال عند من ليس له إلا جمال ثيابه، وهل ينفع السيف الكهام أن تجعل من الذهب حلية قرابه، وكل من هؤلاء ذنب يسعى بغير رأس، ولا له همّ إلا في عيشة الطاعم الكاس «2» وإذا اعتبر حاله وجد من البهائم وإن كان منسوبا إلى الناس، والسيادة ليست في وشي الثياب، ولا في طيب الطعام والشراب، وإنما هي في شيئين: إما شهامة قلم تفرق لها قلوب الغمود، أو شهامة رمح تفرق لها قلوب الأسود، وكأني بقوم يسمعون هذا وكلهم يمتعض امتعاض المغضب، وتتابع نفسه تتابع المتعب، ويعترض الشّجى في حلقه حتى يغصّ من غير أن يشرب، ولم يزل بالحساد من سيدنا داء يورثهم أرقا، ويوسعهم شرقا، وكثيرا ما تعرق له جباههم وكذا الميت يندى جبينه عرقا، وما أرى لهؤلاء دواء إلا أن يطرحوا عن مناكبهم ثقل المساجلة، والحسد إنما يكون ممن يجري مع صاحبه في مضمار المماثلة، وكنت أحبّ أن يقام على الكتابة

محتسب حتى يتفلس منها خلق كثير، وتستريح جياد كثيرة من ركوب حمير، وفي مثل هذا السوق يظهر أهل الخلابة والنجش، وما منهم إلا من هو في الحضيض الأسفل وقد أجلس نفسه قائمة العرش، ونار الآلة العمرية تميز خالص النقود من زيفها، ولا حيف في هذا المقام على من أسرفت دعواه الكاذبة في حتفها. وبعض هذا الفصل مأخوذ من شعر عبد السلام بن رغبان عرف بديك الجن «1» : يزهى به القلمان إلّا أنّ ذا ... لدن المجسّ وأنّ ذا بكعوب «2» عودان: يقضب ذا الطّلى بلعابه، ... ويجوب ذا المهجات بالتّركيب ويكفيك أيها المتوشح لنثر الشعر أن تنظر إلى هذا الفصل، وتتأمل الموضع الذي أخذت معنى هذين البيتين ووضعته فيه؛ فإن فيه غناء ومقنعا. وأما حلّ آيات القرآن العزيز فليس كنثر المعاني الشعرية؛ لأن ألفاظه ينبغي أن يحافظ عليها، لمكان فصاحتها، إلا أنه لا ينبغي أن يؤخذ لفظ الآية بجملته؛ فإن ذلك من باب التضمين، وإنما يؤخذ بعضه، فإما أن يجعل أولا لكلام أو آخرا، على حسب ما يقتضيه موضعه، وكذلك تفعل بالأخبار النبوية. على أنه قد يؤخذ معنى الآية والخبر فيكسى لفظا غير لفظه، وليس لذلك من الحسن ما للقسم الأول؛ للفائدة التي أشرنا إليها. وقد سلكت في ذلك طريقا اخترعتها، وكنت أبا ابن عذرتها، وعند تأمل ما أوردته منها في هذا الكتاب يظهر للمتأمل صحة دعاويّ، ولئن كان من تقدّمني أتى بشيء من ذلك فإني ركبت فيه جوادا وركب جملا، ونال من مورده نهلة واحدة ونلت منه نهلا وعللا، ومن آتاه الله في القرآن بصيرة فإنه يسبك ألفاظه ومعانيه في كلامه، ويستغني به عن غيره، إلا أنه ينبغي أن يكون فيه صوّاغا يخرج منه ضروب

المصوغات، أو صرّافا يتجهبذ في نقوده المختلفة من الذهب المختلف الألوان، ولا أقول من الفضة؛ فإنه ليس فيه من الفضة شيء، وهو أعلى من ذلك، أو يكون فيه تاجرا يديره على يده، ويتصرّف في أرباحه، ويخرج من الأمتعة المجلوبة من مناسجه كلّ غريبة عجيبة، وكل هذا يفهمه من عرف فلزم، وحكم بما علم. وما كلّ من قال القريض بشاعر ... ولا كلّ من عانى الهوى بمتيّم واعلم أن المتصدّي لحل معاني القرآن يحتاج إلى كثرة الدرس؛ فإنه كلما ديم على درسه ظهر من معانيه ما لم يظهر من قبل، وهذا شيء جرّبته وخبرته؛ فإني كنت آخذ سورة من السور وأتلوها، وكلما مر بي معنى أثبتّه في ورقة مفردة، حتى أنتهي إلى آخرها؛ ثم آخذ في حل تلك المعاني التي أثبّتها واحدا بعد واحد، ولا أقنع بذلك حتى أعاود تلاوة تلك السورة، وأفعل مثل ما فعلته أولا، وكلما صقلتها التلاوة مرّة بعد مرة، ظهر في كل مرة من المعاني ما لم يظهر لي في المرة التي قبلها. وسأورد في هذا الموضع سورة من السور، ثم أردفها بآيات أخرى من سور متفرقة، حتى يتبين لك أيها المتعلم ما فعلته فتحذو حذوه، وقد بدأت بالسورة أولا، وهي سورة يوسف عليه السلام؛ لأنها قصة مفردة برأسها، وفيها معان كثيرة: فالأول: ما ذكرته في دعاء كتاب من الكتب، وهو: وصل كتاب الحضرة السامية أحسن الله أثرها، وأعلى خطرها، وقضى من العلياء وطرها، وأظهر على يدها آيات المكارم وسورها، وأسجد لها كواكب السيادة وشمسها وقمرها. وهذا أول معنى في السورة، وقد نقلته عن قصة المنام إلى الدعاء. ثم أبرزت هذا المعنى في صورة أخرى، وهو: أكرم النّعم ما كان فيها ذكرى للعابدين، وتقدمه إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ، فهذه النعمة هي التي تأتي بتيسير العسير، وتجلو ظلمة الخطب بالصباح المنير؛ فانظر إلى أثر رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها، إنّ ذلك لمحيي الموتى وهو على كلّ شيء قدير.

ثم تصرّفت في هذا المعنى فأخرجته في معرض آخر، وهو فصل من جملة تقليد يكتب من ديوان الخلافة لبعض الوزراء، فقلت: وقد علمه أمير المؤمنين فأدنى مجلسه من سمائه، وآنسه على وحدة الانفراد بحفل نعمائه، وذلك مقام لا تستطيع الجدود أن ترقى إلى رتبته، ولا الآمال أن تطوف حول كعبته، ولا الشفاه أن تتشرف بتقبيل تربته، فليزد إعحابا بما نالته مواطىء أقدامه، ولينظر إلى سجود الكواكب له في يقظته لا في منامه. ومن ذلك ما ذكرته في ذم بخيل، وهو: لم أر كمواهب فلان ملأت أملي بطمع وعودها، وفرغت يدي من نيل جودها، فلم أحظ إلا بلامع سرابها، وكانت كدم القميص في كذابها. ومن ذلك ما ذكرته في تزكية إنسان مما رمي به، وهو: لم ترم بذنب إلا نابت البراءة له مناب الشهود، وجيء من أهلها بشهادة القميص المقدود. ومن ذلك ما ذكرته في عذر الهوى، وهو: لم يهو حبيبا إلا كان لأهل التقى فيه أسوة، ولا ليم من أجله إلا اعتذر عذر امرأة العزيز إلى النسوة. ومن ذلك ما ذكرته في فصل من جواب كتاب إلى بعض الإخوان، وهو: إن كان الكلام كما قيل ذكرا والجواب أنثى فجوابي هذا عروس تجلى في حللها المحبّرة، وعقودها المشذرة، وتزهي بما آتاها الله من الحسن الذي ليس بالمجلوب، ولا ترضى بتقطيع الأيدي دون تقطيع القلوب، وها قد أرسلتها إلى سيدنا حتى يعلم أن نتائج خاطري على الفطرة، وأنها معشوقة الصور فكل الناس في هواها بنو عذرة. وفي هذا الفصل معنى الآية والخبر النبوي والبيت من الشعر. ومن ذلك ما ذكرت في تقلب الأيام، وهو: لقينا أياما ضاحكات، وليتها أيام عابسات، فكانت كسبع سنبلات خضر وأخر يابسات. ومن ذلك ما ذكرته في وصف كريم، وهو: ليس ممن يرقب عجف الزمان

فيذر الحب في سنبله، ولكنه يستأنف الصبر في آخره ويستهلك المال في أوله، فلا يبقي من يومه لغده، ولا يتّهم ربه فيما بيده. ومن ذلك ما ذكرته في حب الرشوة، وهو: الرّشوة تحلّ عقد القلوب، وتهوّن فراق المحبوب، ألا ترى أن ردّ البضاعة، حكم على أخي يوسف بالإضاعة. ومن ذلك ما ذكرته في الاستسلام لحكم الأقدار، وهو: لا تحترس من جنود الأقدار بالآراء المتعمقة، وسواء عندها الباب الواحد والأبواب المتفرقة. ومن ذلك ما ذكرته في تتابع الإساءة، وهو: لم يزل يرشقني بقوارصه حتى تكاثر النّبل واستحكم التّبل، ولم يكفه الإلقاء في غيابة الحبّ حتى قال: إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل. ومن ذلك ما ذكرته في التوكل، وهو: إذا طلب أمرا أجمل في المطلوب، ووكله إلى الذي بيده مفاتيح الغيوب، وتأسى في حاجته منه بالحاجة التي كانت في نفس يعقوب. ومن ذلك ما ذكرته في وصف الكيد، وهو: لم يأت أمرا إلا أخفى أسباب أواخيه، وبدأ فيه بالأوعية قبل وعاء أخيه. وهذه ثلاثة عشر معنى من سورة يوسف عليه السلام. وأما الآيات التي هي من سور متفرقة فأولها ما كتبته في صدر كتاب إلى بعض الإخوان جوابا عن كتابه، وهو: ورد كتابه عشية يوم كذا فعرض علي عرض الجياد على سليمان، وتساوينا في الاشتغال منه ومنها بالاستحسان، غير أن الجياد وإن حسنت فإنها لا تبلغ في الحسن مبلغ الكتاب، لكن قلت كما قال إنّي أحببت حبّ الخير عن ذكر ربي حتّى توارت بالحجاب، ولئن قضي الاشتغال هناك بمسح سوق وأعناق، فإنه لم يقض ههنا بمسح سطور ولا أوراق، وإنما اشتغلت عن عبادة بعبادة، ولو شئت لقلت عن إفادة بإفادة. وهذا مأخوذ من قصة سليمان عليه السلام في سورة ص، وهي قوله تعالى: ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب. إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد.

فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب. ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق ، فانظر كيف أخذت هذه القصة وقابلت بينها وبين الكتاب، ثم إني تصرفت فيها بالموافقة بينهما تارة والمخالفة بينهما أخرى، وهكذا ينبغي أن يفعل فيما هذا سبيله. ومن ذلك ما كتبته عن الملك الأفضل علي بن يوسف إلى الديوان العزيز النبوي ببغداد في فصل من كتاب، وهو: وقد علم أن المال الذي يختزن، كالماء الذي يحتقن، فكما أن هذا يأجن بتعطيل الأيدي عن امتياح مشاربه، فكذلك يأجن هذا بتعطيل الأيدي عن امتياح مواهبه، وأيّ فرق بين وجوده وعدمه لولا أن تملك به القلوب، وتقلّ به الخطوب، ويركب به ظهر العزم الذي ليس بركوب، ومن بسط الله يده فيه ثم قبضها بحله فإنه يقف دون الرجال مغمورا، ويقعد عن نيل المعالي ملوما محسورا، وإذا أدركته منية مضى وكأنه لم يكن شيئا مذكورا، ومذ ناط الله بيد الخادم ما ناطه من أمر بلاده لم يدخر منها إلا مربط أشقره، ومركز أسمره، وما عداهما فإنه مصروف إلى قوة الإسلام في سد ثغوره وتكثير جنوده، وإيقاد حرب عدوه بعد خمودها واستباحة جمرها عند وقوده، وما يفضل عن ذلك فإنه للناس يشتركون في وشله وغمره، والمسلم أخو المسلم يساويه في حقه من بيت المال وإن خالفه في مزية قدره، ولا سبيل على الخادم وهو يفعل ما يفعله أن يدلس من هذا المال بتبعة المطلوب، أو يلتحق بالقوم الذين يكنزونه فيجزي عليه بكيّ الجباه والظهور والجنوب، ولم يأت به الله على فترة من مثله إلا ليمحو به سيئات الدين ويعيد به الإسلام إلى وطنه بعد أن طال عهده بمفارقة الوطن، ولا يكون حسنة من حسنات أمير المؤمنين، ترقمها الدنيا في ديوانه، وتثقل بها في الآخرة كفّة ميزانه. وفي هذا الفصل معنى آيتين: إحداهما: في سورة هل أتى، والأخرى: في سورة براءة. ومن ذلك ما كتبته عنه إلىّ عمه الملك العادل أبي بكر بن أيوب من كتاب يتضمن استعطافه والتنصّل إليه، وهو من شيمة الأقدار أن تذهب ببصائر ذوي الألباب، ويمثل لهم الخطأ في مثال الصواب، ولولا ذلك لما زلّ الحكيم واعوجّ

المستقيم، والمملوك يقبّل اليد الكريمة المولوية الملكية العادلية لا زال عرفها مأمولا، وإحسانها عند الله مقبولا، وفعلها في المكرمات مبتدعا إذا كان فعل الأيادي مفعولا، ونستغيث إلى عفوها الذي يكفي فيه لفظة الاعتذار، ولا ينفد بمواظبة الآصار، ولو عرف ذنبه باديا لقرع له سن الندامة، وعاد على نفسه بالملامة. ولما كان عجيبا أن يكون مليما، وأن يكون مولانا كريما، لكنه حمل آصرة الذنب وهو بريء من حملها، وخاف أن تكون هذه كأخواتها التي سلفت من قبلها، والأمور المتشابهة يقاس البعض منها على البعض، والملسوع لا يستطيع أن يرى مجرّ حبل على الأرض، ولم يجترم الملوك الآن جريمة سوى أن فر إلى الاعتصام، وألقى بيده إلى أقوام لم يكونوا له بأقوام، وإذا ضاق على المرء أقربه كان الأبعد له من ذوي الأرحام. وليس بأوّل من ذهب هذا المذهب، ولا بأول من حمل نفسه على ركوب هذا المركب، ولئن قال بعض الناس إنه عجّل في اعتصامه وفراره، وإنه لو صبر ابتلي بما ابتلي به من قوارص مولانا مرة بعد أخرى، ولقد تكاثرت عليه هذه الأقوال المؤنبة حتى ملأت طرفه كحل السّهاد، وجنبه شوك القتاد، وأصبح وهو يرى أنه زلق في خطيئته زلقا، وغص بندمه من أجلها شرقا، وبدت له سوأته حتى طفق يخصف عليها ورقا، ومع هذا فإنه واثق أن حلم مولانا لا يؤتى من الزلل، وأن حصاة الذنوب لا تخف بوزن ذلك الجبل، وها هو قد جاء نازعا وللنازع العتبى، وعاد مستشفعا ولا شفيع أكرم من القربى. ثم مضيت على هذا النهج إلى آخر الكتاب. وفي الذي أوردته من هذا الفصل معنى آية من القرآن في سورة الأعراف، وهي قوله تعالى: فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة. ومن ذلك ما كتبته عن الملك القاهر عز الدين مسعود بن أرسلان بن مسعود صاحب الموصل إلى الديوان العزيز ببغداد بعد وفاة والده يسأل في التقليد، وكان عمره إذ ذاك ستّ عشرة سنة؛ فمما جاء في صدر الكتاب بعد الدعاء قولي، وهو: إذا توفّي وليّ من أولياء الدولة فمن السّنّة أن يعزى بفقده، ويستخرج إذنها في سليله

القائم من بعده، حتى لا تخلو أرضها من رواسي الجبال، ولا سماؤها من مطالع الكواكب التي تجلو ظلمة الليال، وقد مضى والد العبد إلى رحمة الله وهو متزود من الطاعة خير زاد، غير خائف من إحصاء الرقيب العتيد إذ جعلها له من العتاد، وما عليه وقد ثقلت كفّة ميزانه ما كان في الكفة الأخرى من السجلات الكثيرة الأعداد، ومضمون وصيته التي عهدتها أن نمشي في الطاعة على أثره، ونهتدي بالأوامر الشريفة في مورد الأمر ومصدره، وقد جعلها العبد نجيّ فكره إذا قام وإذا قعد، وسبحة صلاته إذا ركع وإذا سجد، وهو يرى أنه لم يمض والده حتى أبقى للدولة من يثبت قدمه موضع قدمه، وعند ذلك يقال: إن غصن الشجرة كالشجرة في ثبات أصله وقوة معجمه، وهذا مقام لا تمتاز فيه الآباء عن الأبناء، وليست المزية لاكتهال السن إنما هي لشبيبة الغناء، وقد أوتي يحيى الحكم قبل أن يجري القلم في كتابه، وشهد له بالتزكية قبل أن ينتصب في محرابه، وكذلك قد أمّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسامة على فتاء عمره، وشهد أنه خليق بما أسند إليه من أمره، والعبد وإن بسط الاستحقاق لسانه فإن الأدب يحكم بانقباضه، ويريه أن التفويض إلى إنعام الديوان العزيز أسرع في نجح أغراضه، ولا شك أن منتهى الآمال لا يبلغ أدنى تلك المواهب، ولو جمعت في صعيد واحد ثم سألت مطالبها لما نقصت خزائن العطايا من تلك المطالب. وهذا الفصل من أول الكتاب، وفيه معنى آيتين من سورة مريم عليها السلام: أما الأول: فقوله تعالى عند ذكر يحيى عليه السلام: وآتيناه الحكم صبيا وأما الثانية: فقوله تعالى: وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا وفي هذا الفصل أيضا معاني ثلاثة من الأخبار النبوية، وليس هذا موضعها، وإنما جاءت ضمنا وتبعا. ومن ذلك ما ذكرته في وصف الغبار في الحرب، وهو: وعقد العجاج شفقا فانعقد، وأرانا كيف رفع السماء بغير عمد، غير أنها سماء بنيت بسنابك الجياد، وزيّنت بنجوم الصّعاد، ففيها مما يوعد من المنايا لا ما يوعد من الأرزاق، ومنها تقذف شياطين الحرب لا شياطين الاستراق. وهذه المعاني مأخوذة من سورة الرعد، وسورة الصافات، وسورة الذاريات.

ومن ذلك ما ذكرته في وصف طعام، وهو فصل من كتاب، فقلت: طعام لا يملّ إذا شينت الأطعمة بمللها، وكأنما تولّته يد الخلقة ولم تباشره الأيدي بعملها، فهو من بقايا المائدة التي نزلت من السماء، وقد طاب حتى لا يحتاج من بعده إلى استعمال الماء، وما رآه ذو شبع إلا رأى تركه غبنا، وودّ لو زيد إلى بطنه بطنا. وبعض هذا مأخوذ من سورة المائدة. ومن ذلك ما ذكرته في فصل من كتاب إلى ديوان الخلافة، وهو: قد تكاثرت وسائل الخادم حتى لا يدري ما يجعله لطلابه سفيرا، وما منها إلا ما يقال: إنه أول وليس فيها ما يجعل أخيرا، غير أنه لا يذكر منها إلا ما هو توأم إيمانه، والذي لا ينظر الله من ابن آدم إلا إلى مكانه، وفي ذلك كاف عن الوسائل التليدة والطريفة، وقول لا إله إلّا الله لا يعدله شيء من الحسنات المودعة في الصحيفة، وقد تجدّد الآن للخادم مطلب هو بالنسبة إلى مواهب الديوان العزيز يسير، ولو قامت مطالب الناس في صعيد واحد لأعطي كلا منها مرامه ولم يقل ذلك كثير، وكتابه هذا سائر إلى تلك المواهب التي يضيق عنها صدر الأرض باتساعه، وليس الذي يسأله ممنّعا فيحال على النظر إلى الجبل في امتناعه، وكما أن عبيد الديوان العزيز أطوار فكذلك مطالبهم أطوار، وقد جعل الله الأشياء متفاوتة في مراتبها وكلّ شيء عنده بمقدار. وهذا الفصل من أحسن ما يكتب في استنجاز مطلوب، وفيه معاني ثلاثة: أخبار نبوية، ومعنى آيتين من القرآن الكريم، وليس هذا موضع الأخبار، وإنما جاء ضمنا وتبعا؛ فالآية الأولى في سورة الأعراف، والآية الثانية في سورة الرعد. ومن ذلك ما ذكرته في وصف كاتب، وهو: إذا دجا ليل قلمه، وطلعت فيه نجوم كلمه، لم يقعد له شيطان بلاغة مقعدا، إلا وجد له شهابا مرصدا، فأسرارها مصونة عن كل خاطف، مطويّة عن كل قائف. وهذا المعنى مأخوذ من سورة الجن. ومن ذلك ما ذكرته في وصف كاتب أيضا، فقلت: له بنت فكر ما تمخّضت

بمعنى إلا أنتجته من غير ما تهمله، وأتت به قومها تحمله، ولم يعرض على ملأ من البلغاء إلا ألقوا أقلامهم أيّهم يستعيره لا أيهم يكفله. وفي هذين السطرين آيتان من القرآن الكريم: الأولى في سورة مريم، وقصتها وقصة ولدها عليهما السلام، وهي قوله تعالى: فأتت به قومها تحمله والثانية في سورة آل عمران في قوله: إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم. ومن ذلك ما ذكرته في فصل من كتاب يتضمن وصف القلم، فقلت: وقد أوحى الله تعالى إلى قلمه ما أوحاه إلى النحل، غير أنها تأوي إلى المكان الوعر وهو يأوي إلى البيان السّهل، ومن شأنه أن يجتني من ثمرات ذات أرواح لا ذات أكمام، ويخرج من نفثاته شراب مختلف طعمه فيه شفاء للأفهام، وأين ما تنبته كثافة الخشب مما تنبته لطافة المعنى، ولا تستوي نضارة هذا الثمر وهذا الثمر ولا طيب هذا المجنى وهذا المجنى، وقد أرخص الله ما يكثر وجوده فيذهب في لهوات الأفواه، وأغلى ما يعز وجوده فيبقى خالدا على ألسنة الرّواه، وكل هذه الأوصاف لا تصح إلا في قلم سيدنا الذي إذا خلا بخاطره امتلأت بحديثه المحافل، وإذا حلا كتابه وحدت الكتب الحالية من قبله وهي عواطل، فله حينئذ أن ينظر إلى غيره بعين الاحتقار، ولواصفه أن يسهب وهو قائم مقام الاختصار. هذا الفصل غريب عجيب، وقد جمع بين الأضداد، فمناله بعيد، وفهمه قريب، وهو مأخوذ من سورة النحل. ومن ذلك ما ذكرته في ذم بخيل، وهو: له شيمة في الجود لا يشام نائلها، وإذا هزّها سائلها قال: إنها كلمة هو قائلها. وهذا مأخوذ من سورة المؤمنين. ومن ذلك ما ذكرته في صدر كتاب، وهو: وصل كتابه فوقف منه على اللفظ الرخيم، والمعنى الذي هو في كل واد يهيم، وقال: يا أيّها الملأ إنّي ألقي إليّ كتاب كريم، ثم أخذ في إعلاء قدره، وتنويه ذكره، ولم يستفت الملأ في الإذعان لأمره، ولا أهدى في قبالته سوى هدية لسانه وصدره، لا جرم أنها تقبل ولا ترد،

ويعتد بها ولا تعدّ، فإنها مال لا ينفده الإنفاق، وجوهر تتحلّى به الأخلاق لا الأعناق. وهذا مأخوذ من قصة سليمان عليه السلام في كتابه إلى بلقيس، وهي مذكورة في سورة النمل، وفي هذا من شرف الصنعة أنه خولف بين معانيه ومعاني ما أتى به القرآن الكريم. ومن ذلك ما ذكرته في صدر كتاب يتضمن ذكر معركة حرب بين المسلمين والكفار، وهو: إذا خطب القلم عن الرمح الذي هو نديده قام محتفلا، وأسهب متروّيا ومرتجلا، حتى يأتي في خطابته بالمعاني الأخائر، وأصدق القول ما صدر عن شهادة الضرائر للضرائر، وكتابنا هذا يصف معركة احمرّت ضبابتها، وضاقت بالأسود غابتها، فالطعن بها محتضر، والموت محتقر، والنصر من كلا الفريقين مقتسر، وكان الإسلام هناك زجر السنيح، وفوز القدح المنيح، وليس الذي يرقب المعونة من الله الذي هو رب المسيح كمن يرقبها من المسيح، ولقد نفذت الرماح في أعداء الله تعالى حتى اعتدلت من جانبي الصدور والظهور، وتركت الناجي منهم وهو لا ينظر إلى الصليب إلا نظر الخائف المذعور، فليس لهم من بعدها جيش يجمع، ولا لواء يرفع، وقد كانت بلادهم من قبل مانعة وهي الآن لا تذب عنها ولا تمنع، وهذه معركة قلّت بها الرقاب المأسورة، وكثرت النفوس المقتولة، وقربت بها القرابين التي تأكلها النار لا لأنها مقبولة. ومعنى الآية في هذا الفصل مأخوذ من سورة آل عمران، إلا أنها تخالفه، وذاك أن القربان كان يقبل فتنزل النار تأكله وأجساد هؤلاء الكفار قربان تأكله النار لكنها لا تأكله لأنه مقبول، وباقي الفصل يتضمن معنى حسنا رقيقا. ومن ذلك ما ذكرته في فصل من كتاب يتضمن الشكوى من خلق بعض الإخوان، وهو: ولقد صبرت على أخلاقه العائثة، وعاملته بالخليقة الرائثة، وعالجته بضروب المعالجات فلم تنفع فيه رقى الراقية ولا نفث النافثة، ولما أعيا عليّ إصلاحه أخذت بمقالة الخضر لموسى في المرة الثالثة. وهذا مأخوذ من قصة موسى عليه السلام وقصة الخضر في سورة الكهف.

ومن ذلك ما ذكرته في فصل من كتاب، وهو: تجمعوا في نار الندم يعرضون عليها غدوّا وعشيّا، وصار الأمر الذي كانوا يرجونه مخشيّا، وأضحوا كأهل النار الذين صاروا أعداء وكانوا شيعا، وقال ضعفاؤهم للذين استكبروا: إنّا كنا لكم تبعا. وهذا مأخوذ من سورة حم المؤمن، ومن سورة سبأ. ومن ذلك ما ذكرته في ذم غلام أبله كنت أقاسي من بلهه نكذا فكتبت يوما من الأيام إلى بعض إخواني كتابا وعرضت فيه بذكره، فقلت: ولقد ملكه النسيان حتى كأنه يقظ في صورة نائم، وحتى حقّق قول التناسخ في نقل أرواح الأناسيّ إلى البهائم، فما أرسل في حاجة إلا ذهبت عن قلبه يمنة ويسرة، ولا طلب منه ما استحفظه إلا قال: أرأيت إذ أوينا إلى الصّخرة. وهذا فصل يشتمل على عدة معان؛ منها ما هو مأخوذ من القرآن الكريم من سورة الكهف. ومن ذلك ما ذكرته في تقليد قاض، وهو فصل منه، فقلت: والفضائل ما بقيت موجودة ولم تفقد، وهي حية وإن أودى أربابها، ولا يموت من لم يولد، ومن أكرم ما أوتيه منها فضيلة التقوى التي الكرم من شعارها، والعاقبة والحسنى كلاهما من آثارها، وما نقول إلا أنه اتخذها حارسا يمنع الخصم من تسوّر محرابه، ويؤمن قلبه من الفتنة الداعية إلى استغفاره ومتابه، وقد قرن الله له هذه الفضيلة بالعلم الذي أعلمه بعلامته، ووسمه بوسامته، وقذف في روعه ما لا يسأل معه عن السفينة وخرقها والغلام وقتله والجدار وإقامته، وعلى ما بلغه منه فإنه فيه أحد المنهومين اللّذين لا يشبعان، وإذا كان لغيره فيه نظر واحد ومسمع فله فيه نظران ومسمعان. وفي هذا الفصل المختصر معاني عدة آيات، وخبر من الأخبار النبوية؛ أما الآية الأولى: فقوله تعالى: إن أكرمكم عند الله أتقاكم وأما الآية الثانية: فقوله تعالى: والعاقبة للتقوى وأما الثالثة: فقوله تعالى: وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب وأما الآية الرابعة: فقوله تعالى: فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها وكذلك إلى آخر القصة، وهذا من أحسن ما يأتي في هذا الباب.

ومن ذلك ما ذكرته في جملة كتاب يتضمن عناية ببعض الفقراء، فقلت بعد الابتداء بصدر الكتاب: وقد علم منه أنه يعد لطالب فضله فضلا، ويرى التبرّع بمعروفه فرضا إذا رآه غيره مع المساءلة نفلا، وما ذاك إلا لمزية خلق توجد بطيب التربة، وشرف الرتبة، وأوتي من كنوز الكرم ما إنّ مفاتحه لتنوء بالعصبة، ولهذا خرج على قومه من الأخلاق في زينته، وفضل الخلق بطينة غير طينته، ومن فضله أنه يسأل عن السائلين، ويحتال في استنباط أمل الآملين. ثم مضيت على هذا النهج حتى أنهيت الكتاب. والغرض أن تعلم أيها المتعلم كيف تضع يدك في أخذ ما تأخذه من بعض الآية، ثم تضيف إليه كلاما من عندك، وتجعله مسجوعا كما قد فعلت أنا في هذا الموضع، ألا ترى أني أخذت بعض هذه الآية في قصة من سورة القصص، وهي قوله تعالى: إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوأ بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين فهذه الآية أخذت بعضها وأضفت إليه كلاما من عندي حتى جاء كما تراه مسجوعا، وكذلك فعلت بالآية الأخرى من هذه السورة أيضا، وهي قوله: فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم وهكذا ينبغي لك إذا أردت أن تسلك هذه الطريق، وقدرت على سلوكها، وهي من محاسن الصناعة البلاغية، وليس فوقها من الكلام ما هو أعلى درجة منها؛ لأنها ممزوجة بالقرآن لا على وجه التضمين بل على وجه الانتظام به، والله يختص بها من يشاء من عباده. وفيما ذكرته من نثر هذه الآيات كفاية للمتعلم. وأما الأخبار النبوية فكالقرآن العزيز في حل معانيها. فإن قلت: إن الأخبار النبوية لا يجري فيها الأمر مجرى القرآن؛ إذ القرآن له حاصر وضابط، وكل آياته تدخل في الاستعمال، كما قال بعضهم: لو ضاع مني عقال لوجدته في القرآن الكريم، وأما الأخبار فليست كذلك؛ لأنها كثيرة لا

تنحصر، ولو انحصرت لكان منها ما يدخل في الاستعمال ومنها ما لا يدخل، ولا بد من بيان يمكن الإحاطة به، والوقوف عنده. قلت في الجواب عن هذا: إنك أول ما تحفظه من الأخبار هو كتاب الشهاب؛ فإنه كتاب مختصر، وجميع ما فيه يستعمل؛ لأنه يتضمن حكما وآدابا؛ فإذا حفظته وتدرّبت باستعماله كما أريتك ههنا حصل عندك قوة على التصرف والمعرفة بما يدخل في الاستعمال وما لا يدخله، وعند ذلك تتصفح كتاب صحيح البخاري ومسلم والموطأ والترمذي وسنن أبي داود وسنن النسائي وغيرها من كتب الحديث، وتأخذ ما يحتاج إليه، وأهل مكة أخبر بشعابها، والذي تأخذه إن أمكنك حفظه والدرس عليه فهو المراد؛ لأن ما لا تحفظه فلست منه على ثقة، وإن كان لك محفوظات كثيرة كالقرآن الكريم ودواوين كثيرة من الشعر وما ورد من الأمثال السائرة وغير ذلك مما أشرنا إليه فعليك بمداومة المطالعة للأخبار والإكثار من استعمالها في كلامك حتّى ترقم على خاطرك، فتكون إذا احتجت منها إلى شيء وجدته، وسهل عليك أن تأتي به ارتجالا، فتأمّل ما أوردته عليك واعمل به. وكنت جردت من الأخبار النبوية كتابا يشتمل على ثلاثة آلاف خبر كلها تدخل في الاستعمال، وما زلت أواظب [على] مطالعته مدة تزيد على عشر سنين فكنت أنهي مطالعته في كل أسبوع مرة، حتى دار على ناظري وخاطري ما يزيد على خمسمائة مرة، وصار محفوظا لا يشذ عني منه شيء، وهذا الذي أوردته ههنا في حل معاني الأخبار هو من هناك. وسأذكر ما دار بينى وبين بعض علماء الأدب في هذا الأسلوب الذي أنا بصدده ههنا، وذاك أنه استوعره وأنكره، وقال: هذا لا يتهيأ إلا في الشيء اليسير من الأخبار النبوية، فقلت: لا، بل يتهيأ في الأكثر منها؛ فقال: قد ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه اختصم إليه في جنين فقضى على من أسقطه بغرّة عبد أو أمة، فأين يستعمل هذا؟ فأفكرت فيما ذكره، ثم أنشأت هذا الفصل من الكلام، وأودعته فيه: قد كثر الجهل حتى لا يقال فلان عالم وفلان جاهل، وضرب المثل بباقل وكم في هذه الصورة الممثلة من باقل، ولو عرف كل إنسان قدره لما مشى بدن إلا تحت رأسه ولا انتصب رأس إلا على بدنه، ولكان صاحب العمامة [أحقّ] بعمامته وصاحب

الرّسن أحقّ برسنه، وكنت سمعت بكاتب من الكتاب كلمه إلى غثاثة، وقلمه بغاثة لا يستنسر «1» وأيّ بطش لبغاثة، وإذا وجب الوضوء على غيره بالخارج من السبيلين وجب عليه من سبل ثلاثة، هذا وهو يدّعي أنه في الفصاحة أمّة وحده «2» ، ومن قسّ إياد وسحبان وائل عنده؟ وإذا كشف عن خاطره وجد بليدا لا يخرج عن العمه والكمه، وإن رام أن يستنتجه في حين من الأحيان قضى عليه بغرة عبد أو أمه، وكثيرا ما يتقدم ونقيصته هذه على الأفاضل من العلماء، وقد صار الناس إلى زمان يعلو فيه حضيض الأرض على هام السماء. فلما أوردته عليه ظهرت أمارة الحسد على صفحات وجهه وفلتات لسانه، مع إعجابه به، واستغرابه إياه، ثم قال: وقد ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم هذا الحديث، وهو: «لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة ولا تمثال» فهذا أين يستعمل من المكاتبات؟. فتروّيت في قوله تروّيا يسيرا، ثم قلت: هذا يستعمل في كتاب إلى ديوان الخلافة، وأمليت عليه الكتاب، فجاء هذا الحديث في فصل منه، وهو: إذا أفاض الخادم في وصف ولائه نكصت همم الأولياء عن مقامه، وعلموا أنه أخذ الأمر بزمامه، فقد أصبح وليس بقلبه سوء الولاء والإيمان؛ فهذا يظهر أثره في طاعة السر وهذا في طاعة الإعلان، وما عداهما فإن دخوله إلى قلبه من الأشياء المحظورة، والملائكة لا تدخل بيتا فيه تمثال ولا صورة، فليعول الديوان العزيز على سيف من سيوف الله يفري بلا ضارب ويسري بلا حامل، ولا يسلّ إلا بيد حق ولا يغمد إلا في ظهر باطل، وليعلم أنه كرشه وعيبته في تضمن الأسرار، وأنه أحد سعديه إذا عدت مواقف الأنصار.

فلما رأى هذا الفصل بهت له، وأعجب منه، ثم إني لم أقنع بإيراد ذلك الحديث حتى قرنت به حديثا آخر، وهو قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الأنصار كرشي وعيبتي» . وحيث عرفتك أيها المتعلم ما تقتدي به في هذا الموضع فقد ذكرت لك أمثلة كثيرة تتدرب بها. فمن ذلك ما ذكرته في دعاء كتاب من الكتب، وهو: أعاذ الله أيامه من الغير، وبيّن بخطر مجده نقص كل خطر، وجعل ذكره زادا لكل ركب وأنسا لكل سمر، ومنحه من فضله ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وهذا المعنى مأخوذ من الحديث في وصف نعيم الجنة فنقلته إلى الدعاء. ومن ذلك ما ذكرته في وصف الحلم، وهو: تركته حتى جال في الميدان، وامتد في الأشطان، ولم أنتصر خوفا من قيام الملك وقعود الشيطان، والحليم لا يظهر أثر حلمه إلا عند تلدّده، والكظيم هو أشد ما يخاف من تبدده. وهذا المعنى أخذته من قصة أبي بكر رضي الله عنه في خصامه، فإنه بغي عليه ثلاث مرات وهو ساكت، ففي الثالثة انتصر، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كان الملك جالسا إلى جانب أبي بكر يكذب خصمه بما يقول فلما انتصر قام الملك وقعد الشّيطان» . ومن ذلك ما ذكرته في النصرة على العدو في موطن القتال، وهو: أخذنا بسنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في النصر الذي نرجوه، ونبذنا في وجه العدو كفّا من التراب وقلنا: شاهت الوجوه، فثبّت الله ما تزلزل من أقدامنا، وأقدم حيزوم فأغنى عن إقدامنا. وهذان المعنيان أحدهما: مأخوذ من حديث غزوة حنين، وما فعله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أخذ قبضة من التراب وألقاها في وجوه الكفار وقوله: «شاهت الوجوه» ؛ والمعنى الآخر: مأخوذ من حديث غزوة بدر، وذاك أن رجلا من المسلمين لاقى رجلا من الكفار وأراد أن يضربه فخر على الأرض ميتا قبل أن يصل إليه، وسمع الرجل المسلم صوتا من فوقه، وهو يقول: «أقدم حيزوم» فجاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وأخبره، فقال: «ذاك من مدد السّماء الثّالثة» .

ومن ذلك ما ذكرته في ضيق مجال الحرب، وهو: وضاق الضرب بين الفريقين حتى اتصلت مواقع البيض الذكور، وتصافحت الفور بالفور والصدور بالصدور، واستظل حينئذ بالسيوف لاشتباك مجالها، وتبوّئت مقاعد الجنة التي هي تحت ظلالها. وهو مأخوذ من الحديث النبوي، وهو قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «الجنّة تحت ظلال السّيوف» . ومن ذلك ما ذكرته في جملة كتاب أذمّ فيه الزمان؛ فقلت: ولكنها الأيام تبدي لنا من جوهرها كل غريبة، وتسوسنا سياسة العبد المجدّع الذي كأنّ رأسه زبيبة، وليس للمرء فيما يلقاه من أحداثها نعمى كانت أو بوسى، إلا أن يكل الأمور إلى وليها فيقول: حاجّ آدم موسى. وهذا مأخوذ من الخبر النبوي في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «حاجّ آدم موسى، فقال له موسى: أنت أخرجت النّاس بخطيئتك من الجنّة وأشقيتهم، فقال له آدم: أنت الّذي اصطفاك الله تعالى برسالته وكلامه؟ أتلومني على أمر كتبه الله تعالى عليّ قبل أن يخلقني؟» قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فحجّ آدم موسى» . ومن ذلك ما ذكرته في وصف بعض الكتاب؛ وهو فصل من كتاب كتبته إليه؛ فقلت: ولقد سردت عليه أحاديث البلاغة فاستغنى عن بسط ردائه، وهدي إلى جوامع كلها فاقتدى الناس باهتدائه، فإذا اشتبهت عنده مسالك طرقها لم يملكه سلطان الحيرة، وإن أغرب في أساليبها لم يقل فيه ما قيل في رواية أبي هريرة. وهذا الفصل من أحسن ما يؤتى به في صناعة نثر المعاني، وهو مأخوذ من حديث أبي هريرة؛ قال: قلت: يا رسول الله، أسمع منك أشياء فلا أحفظها، فقال: «ابسط رداءك» فبسطته فحدّث حديثا كثيرا فما نسيت شيئا حدثني به؛ وأما رواية أبي هريرة فشكّ فيها قوم لكثرتها. وقد اجتمع في هذا الفصل معنى الحديث النبوي وغيره، ومثل هذا لا يتفطن

له عند الوقوف إلا من تبحّر في الوقوف على الأخبار النبوية؛ ومن أجل ذلك جعلته ركنا من أركان الكتاب في الفصل التاسع. ومن ذلك ما ذكرته في ذم بعض البلاد الوخمة، فقلت: ومن صفاتها أنها مدرة مستوبلة الطينة، مجموع لها بين حرّ مكة ولأواء المدينة، إلا أنها لم يأمن حرمها في الخطفة، ولا نقلت حمّاها إلى الجحفة. في هذه الكلمات القصار آية من القرآن الكريم، وخبران من الأخبار النبوية؛ فالآية من سورة العنكبوت، وهي قوله تعالى: أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم وهذا موضع يختص بالأخبار لا بالآيات، غير أن الآية جاءت ضمنا وتبعا، وأما الخبران فالأول منهما قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من صبر على حرّ مكّة ولأواء المدينة ضمنت له على الله الجنّة» وأما الثاني فقوله صلّى الله عليه وسلّم في دعائه للمدينة: «اللهمّ حبّبها إلينا كما حبّبت إلينا مكة وانقل حمّاها إلى الجحفة» . فانظر أيها المتأمل إلى هذه الكلمات حتى تعلم أن عدتها مصوغة من الآية والخبرين سواء بسواء، وهذا طريق لو ادّعيت الانفراد بسلوكه لما اختلف عليّ في الاعتراف به اثنان. ومن ذلك ما كتبته في كتاب إلى بعض الإخوان جوابا عن كتاب ورد، وكان كتابه تأخر عني زمانا طويلا، فقلت: ولما تأملته ضممته إليّ والتزمته، ثم استلمته والتثمته، وعلمت أن المعارف وإن قدمت أيامها أنساب وشيجة، وتأسّيت «1» بالخلق النبوي في العجوز التي كانت تأتي في زمن خديجة. وهذا مأخوذ من الخبر المنقول عن عائشة رضي الله عنها، وهو أنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يذبح الشاة فيعضّيها «2» أعضاء ويقسمها في أصدقاء خديجة، وكانت تأتيه عجوز فيكرمها ويبسط لها راءه، فسألته عن ذلك، فقال: «هذه كانت تأتينا في زمن خديجة وحسن العهد من الإيمان» .

ومن ذلك ما ذكرته في وصف كتاب، وهو: كل سطر منه روضة غير أنها ليل في صباح، وكل معنى منه دمية غير أن ليس على مصورّها من جناح. وهذا مأخوذ من الحديث في تحريم الصور «1» . ومن ذلك ما ذكرته في وصف كريم، وهو: فأغنى بجوده إغناء المطر، وسما إلى المعالي سموّ الشمس وسار في منازلها مسير القمر، ونتج من أبكار فضائله ما إذا ادّعاه غيره قيل: للعاهر الحجر. وهذا المعنى من قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الولد للفراش وللعاهر الحجر» . ومن ذلك ما ذكرته في وصف الفصاحة، فقلت: أفكار الخواطر لا تستولد على انفرادها، وغايتها أن يتناكح في استنتاج أولادها، وأنا أنكح فكري لفكر نكاح الأنساب، ولا أخاف أن أضوي فأميل إلى الاغتراب. وهذا مأخوذ من قول النبي صلّى الله عليه وسلّم في الأمر بنكاح البعيدة النسب فقال: «غرّبوا لا تضووا» يريد بذلك أن الإنسان إذا نكح المرأة القريبة إليه حصل بينهما حياء يمنع من قضاء الشهوة كما ينبغي فيجيء الولد ضاويا: أي هزيلا، وهذا معنى غريب لي استخرجته من الحديث النبوي. ومن ذلك ما ذكرته في فصل من كتاب إلى بعض الإخوان، جوابا عن كتاب ورد منه يتضمن الشكوى من شخص جرت بينه وبينه مخاصمة، فقلت: وصل كتابه وهو كتاب من أكثر الشكوى، وطلب العدوى، ونزل من التظلم بالعدوة الدّنيا وأنزل خصمه القصوى، والقاضي لا يحكم لأحد الخصمين حتى يحضر صاحبه، وإن فقئت عين أحدهما فربما فقئت عين الآخر وهشم جانبه، على أنه قد اعترف أن كليهما كان للحم أخيه آكلا، وعليه في حال محضره جاهلا، وسباب المؤمن معدود من فسوقه، وإطراقه عن تورد هذا المقام أولى من طروقه، ولولا تغليظ النكير لما

جعل اللسان واليد سواء فيما جرحا، ولما أخر الله المغفرة عن ألخائضين فيها حتى يصطلحا؛ فكن أنت ممن أطاع تقواه لا هواه، واتّبع من علم الحق فرآه أو سمعه فرواه، واعلم أن تهاجر الأخوين فوق الثلاثة من منهيّات الحرام، وأن الفائز بالأجر منهما هو البادئ بالسلام، ودفع السيئة بالحسنة يجعل العدو وليّا حميما، وقد جعل الله المتخلق بهذا الخلق صابرا وجعل له حظا عظيما، والشيطان إنما يحوم على آثاره مواقع الشّنآن، ولا يحمد من أعمال بنيه شيئا إلا ما زيّل بين الإخوان. في هذا الفصل معاني آيات وأخبار، وهذا الموضع مختص بذكر الأخبار دون الآيات؛ فأول المعاني المأخوذة من الأخبار قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أتاك أحد الخصمين وقد فقئت عينه فلا تحكم له، فربّما أتى خصمه وقد فقئت عيناه» ؛ وأما المعنى الثاني فقوله صلّى الله عليه وسلّم: «سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر» ؛ وأما المعنى الثالث فقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الأعمال تعرض على الله يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكلّ امرئ لا يشرك بالله شيئا إلّا امرأ كانت بينه وبين أخيه شحناء؛ فيقول: اتركوا هذين حتّى يصطلحا» ؛ وأما المعنى الرابع فقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يحل للمؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاث» ؛ وأما المعنى الخامس فقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا التقى المتهاجران فأعرض هذا وأعرض هذا فخيرهما الّذي يبدأ بالسّلام» ؛ وأما المعنى السادس فقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ إبليس له عرش على البحر فيبثّ بنيه في آفاق الأرض، فيأتي أحدهم فيقول: فعلت كذا وفعلت كذا؛ فيقول: ما فعلت شيئا، ويأتي أحدهم فيقول: زيّنت بينه وبين أخيه أو بينه وبين زوجته؛ فيقول: نعم الولد أنت» . فانظر كم في هذه الأسطر اليسيرة من معنى خبر نبوي، هذا سوى ما فيها من معاني الآيات، وإذا عددت هذه الكلمات المذكورة في هذه الأسطر وجدتها جميعا منتظمة من الآية والخبر، وهذا مما يدلك على الإكثار من المحفوظ واستحضاره عند الحاجة إليه على الفور. ومن ذلك ما ذكرته في صدر كتاب، وهو جواب عن كتاب يتضمّن تهديدا وتخويفا، فقلت: ورد الكتاب مضمّنا من الوعد والوعيد ما آنس نفس المملوك

وأوحشها، ونقع ضلوعه وأعطشها، وأقام له من الظنون السيئة جنودا تقاتله، وتأخذ عليه شعب الأفكار فلا تزاوله، وكانت كلماته طوالا وأوراقه ثقالا، وما أفلت سطر من سطوره إلا كان الآخر له عقالا، ولما استكمل الوقوف عليه ثقلت أطوار الخوف والرجاء من أطواره، وعرضت عليه الجنة والنار في قرطاسه كما عرضت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في عرض جداره، ولولا وثوقه بأناة مولانا لذهبت نفسه فرقا، وابتغى في السماء سلما وفي الأرض نفقا، لكنه قد توسّم في كرمه مخابل الصنع الوسيم، وغره منه ما غره من ربه الكريم، وعلم أن خلق حلمه يغلب خلق غضبه إذ هذا حادث وذاك قديم وفي هذا الفصل معنى خبر من الأخبار النبوية، وهو أنه كان صلوات الله عليه يخطب فمال بيده إلى الجدار، وقال: «عرضت عليّ الجنّة والنّار في عرض هذا الجدار فلم أر كاليوم في الخير والشّرّ» . ومن ذلك ما ذكرته في صدر كتاب إلى بعض الإخوان، وهو: الخادم يواصل بالدعاء الذي لا يزال لقلبه زميلا، وللسانه رسيلا، وإذا رفع أدنته الملائكة قربا إذا تباعدت من غيره ميلا، ولا اعتداد بالدعاء إلا إذا صدر عن أكرم مصدر، ووجد له فوق السماء مظهرا وإن لم يكن هناك من مظهر، ووصف باطنه بأنه الأبيض الناصع الذي هو خير من ظاهر الأشعث الأغبر، ولا يعامل الخادم أهل ودّه إلا بهذه المعاملة، ومن خلقه المجازفة في بذل المودة إذ أخذ الناس نسبة المكايلة. في هذا معنى خبرين: أحدهما: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنّه إذا كذب الكاذب تباعد الملك عنه ميلا لنتن كذبه» ، والآخر: قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ربّ أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبرّه» . ومن هذا الباب ما ذكرته في كتاب يتضمن خطبة مودة، فابتدأت الكلام فيه بعد تصدره بالدعاء، فقلت: لولا العادة لرفع الخادم كتابه هذا أن يسطر في ورقة، وليس ذلك إلا لإرساله في خطبة مودة رأى صورتها في سرقة، ولما تأملها قال: إن يكن ذلك من عند الله يمضه، وأبدى لها صفحة الرضا وإن كانت كل مودة لم ترضه، وخير المودات ما ليس لها ضرة تشاركها في وسامتها، ولا تضاهيها في درجة

كرامتها؛ فتلك التي تزدهي ذا الهمة أبوة وجمالا، ولم يغله مهرها ولو بذل فيه نفسا لا مالا، وما يظنها الخادم إلا هذه المودة التي خطبها، وقد علت أن تكون راغبة ولكن هو الذي أرغبها، على أنه لم يترشح لها إلا من هو من أكفائها، وليست الكفاءة ههنا إلا ما تبذله الضمائر من صفائها، وقد أتاح الله لها كفئا يكثر من إيناسها، ويضعها من البرّ في محلة ناسها، ويجعل كل يوم من أيامها عرسا حتى تتصل مواسم أعراسها. ثم مضيت على هذا النهج إلى آخر الكتاب، والمعنى المأخوذ فيه من الخبر النبوي في موضعين: الأول: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال لعائشة رضي الله عنها: «إنّ جبريل عليه السلام عرض عليّ صورتك في سرقة» والسرقة: حريرة بيضاء «وقال: هذه زوجتك في الدّنيا والآخرة، فقلت: إن يكن ذلك من عند الله يمضه» فأخذت أنا هذا المعنى ونقلته إلى خطبة مودة، ولا يأتي في خطبة المودات شيء أحسن منه، ولا ألطف، ولا أشد مقصدا؛ الخبر النبوي الثاني: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنّما تنكح المرأة لأربع لحسبها أو لدينها أو لمالها أو لجمالها» فقلت أنا: فتلك التي تزدهي ذا الهمة أبوة وجمالا: أي قد جمعت الحسب والجمال. ومن ذلك ما ذكرته في سبب حب المال، وهو: بين المال علاقة وكيدة وبين القلوب، وهي له بمنزلة المحب وهو لها بمنزلة المحبوب، وليس ذلك إلا لأن الله قبض قبضة من جميع الأرض فخلق آدم من تلك القبضة، ويوشك حينئذ أن صورة قلبه تكونت من معدن الذهب والفضة، ولولا أن يكون منهما عنصرا بدائه، لما جعلهما الأطباء دواءه من دائه، فلا تستغرب إذن أن تكون على حبهما مطبوعا، إذ كان منهما مصنوعا. وهذا المعنى من قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض: منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والحزن والسّهل، والخبيث والطّيّب» غير أني استنبطت أنا حبّ المال من هذا الحديث، وهو معنى غريب لم أسبق إليه. ومن ذلك ما ذكرته في وصف كلام، وهو: ليس السّحر ما أودع في جف

طلعة، بل ما أودع في صوغ معنى أو نظم سجعة، ولذلك لبيد في شعره، أسحر من لبيد في سحره «1» وكلا صنعهما من الغريب العجيب، غير أن ما يستنبط من القلب أعجب مما يدفن في القليب. وهذا المعنى مأخوذ من قصة لبيد بن الأعصم في سحره النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومن عرف القصة وصورتها علم ما قد ذكرته في نثر هذه الكلمات البديعة. ومن ذلك ما ذكرته في وصف المنجنيق في جملة كتاب، فقلت: ونصب المنجنيق فجثم بين يدي السور مناصيا، وبسط كفه إليه مواتيا، ثم تولى عقوبته بعصاه التي تفتك بأحجاره، وإذا عصى عليها بلد أخذت في تأديب أسواره، فما كان إلا أن استمرت عقوبتها عليه حتى صار قائمه حصيدا وعاصيه مستقيدا، وقال: ألم يكن نهى عن المد والتجريد فمالي لا أرى إلا مدا وتجريدا، وعند ذلك أذعن لفتح الأبواب، وتلا قوله تعالى: «لكل أجل كتاب» ، وكذلك لم نأت صعبا إلا استسهل، ولا حثثنا مطيّا إلا استعجل، ولطالما وقف غيرنا على هذا البلد فشقه طول الانتظار، ولم يحظ منه إلا بمساءلة المنصب أحجار الديار. في هذا الفصل معنى خبر من الأخبار النبوية، وهو قول النبي صلّى الله عليه وسلّم في النهي عن ضرب المحدود: «لا مدّ ولا تجريد» : أي لا يمد على الأرض ولا يجرّد عنه ثوبه.

ومن ذلك ما ذكرته في صدر كتاب إلى الديوان العزيز النبوي، وهو: خلّد الله دولة الديوان العزيز النبوي، ولا زالت أكنافها وادعة، وعلياؤها جامعة، وجدودها كالنجوم التي ترى في كل حين طالعة، وأيامها كالليالي ساكنة ولياليها كالأيام ناصعة، وأبوابها كأبواب الجنة التي يقال فيها ثامن وثامنة إذا قيل في أبواب غيرها سابع وسابعة، وهذا الدعاء قد استجابه الله قبل أن ترفع إليه يد أو ينطق به ضمير، فإذا دعا به الخادم وجد صنع الله قد سبقه أولا وجاء هو في الزمن الأخير، فليس له حينئذ إلا أن يدعو لما خوّله الدّيوان العزيز بالدوام، وأن يعيذه من النقص من التمام، ثم يستهدي ما يؤهل له من الخدم التي يعتدها من لطائف الإحسان، وإذا ندب لتكليف أوامرها قال: والحمد والشكر يسجدان، ولا شك أنّ درجات الأولياء تتفاوت في الصفات والأسماء؛ فمنها ما يكون ببطن الأرض ومنها ما يرى كالكوكب في أفق السماء، ولولا النّهي عن تزكية المرء نفسه لادّعى الخادم أن له أعلاها، وجاء بالأولياء من بعده فقال: «والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها» ، لكنه لا يمن بما يعتده عند الله من ذخره، وسرّ الولاء في هذا المقام أكرم من جهره، وليس الذي يمنّ بصلاته وصيامه كالذي يمنّ بسرّ وقر في صدره، والله لا ينظر إلى الأعمال وإنما ينظر إلى القلوب، وفرق بين المطيع بمحضر الشهادة وبين المطيع بظهر الغيوب، ولو اطّلع الديوان العزيز على ضمير الخادم في الطاعة لسرّه، وعلم أنه الأشعث الأغبر الذي لو أقسم على الله لأبرّه. في هذا الفصل من الآيات والأخبار عدة مواضع؛ وهذا الموضع مختص بالأخبار فلنذكرها دون الآيات: أما الأول منها فقوله النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنّكم ترون أهل الدّرجات العلى في الجنّة كما ترون المواكب في أفق السّماء» ؛ وأما الخبر الثاني: فقوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما فضلّكم أبو بكر بصلاة ولا صيام ولكن فضلكم بسرّ وقر في صدره» ؛ وأما الخبر الثالث: فقوله صلّى الله عليه وسلّم: «ربّ أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبرّه» . وفيما أوردته من حل المعاني الشعرية وحل آيات القرآن والأخبار النبوية طريق واضح لمن يقوى على سلوكه، والله الموفق للصواب.

المقالة الأولى في الصناعة اللفظية

المقالة الأولى في الصناعة اللفظية وهي تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: في اللفظة المفردة: إعلم أنه يحتاج صاحب هذه الصناعة في تأليفه إلى ثلاثة أشياء: الأول منها: اختيار الألفاظ المفردة، وحكم ذلك اللآلىء المبدّدة؛ فإنها تتخير وتنتقي قبل النظم؛ الثاني: نظم كل كلمة مع أختها المشاكلة «1» لها- لئلا يجيء الكلام قلقا نافرا عن مواضعه؛ وحكم ذلك حكم العقد المنظوم في اقتران كل لؤلؤة منها بأختها المشاكلة لها؛ الثالث: الغرض المقصود من ذلك الكلام على اختلاف أنواعه، وحكم ذلك حكم الموضع الذي يوضع فيه العقد المنظوم، فتارة يجعل إكليلا على الرأس، وتارة يجعل قلادة في العنق، وتارة يجعل شنفا في الأذن» ، ولكل موضع من هذه المواضع هيئة من الحسن تخصه. فهذه ثلاثة أشياء لا بدّ للخطيب والشاعر من العناية بها، وهي الأصل المعتمد عليه في تأليف الكلام من النظم والنثر؛ فالأول والثاني من هذه الثلاثة المذكورة هما المراد بالفصاحة، والثلاثة بجملتها هي المراد بالبلاغة. وهذا الموضع يضلّ في سلوك طريقه العلماء بصناعة صوغ الكلام من النظم

والنثر، فكيف الجهال الذين لم تنفحهم رائحة؟ ومن الذي يؤتيه الله فطرة ناصعة يكاد زيتها يضيء ولم لم تمسه نار حتى ينظر إلى أسرار ما يستعمله من الألفاظ فيضعها في موضعها. ومن عجيب ذلك أنك ترى لفظتين تدلان على معنى واحد، وكلاهما حسن في الاستعمال، وهما على وزن واحد وعدة واحدة، إلا أنه لا يحسن استعمال هذه في كل موضع تستعمل فيه هذه، بل يفرق بينهما في مواضع السبك، وهذا لا يدركه إلا من دقّ فهمه وجلّ نظره. فمن ذلك قوله تعالى: «ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه» وقوله تعالى: «رب إني نذرت لك ما في بطني محررا» فاستعمل الجوف في الأولى والبطن في الثانية، ولم يستعمل الجوف موضع البطن، ولا البطن موضع الجوف، واللفظتان سواء في الدلالة، وهما ثلاثيتان في عدد واحد، ووزنهما واحد أيضا، فانظر إلى سبك الألفاظ كيف تفعل؟. ومما يجري هذا المجرى قوله تعالى: «ما كذب الفؤاد ما رأى» وقوله: «إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد» فالقلب والفؤاد سواء في الدلالة، وإن كانا مختلفين في الوزن؛ ولم يستعمل في القرآن أحدهما في موضع الآخر. وعلى هذا ورد قول الأعرج من أبيات الحماسة: نحن بنو الموت إذا الموت نزل ... لا عار بالموت إذا حمّ الأجل الموت أحلى عندنا من العسل «1»

وقال أبو الطيب المتنبي «1» : إذا شئت حفّت بي على كلّ سابح ... رجال كأنّ الموت في فمها شهد «2» فهاتان لفظتان هما العسل والشهد، وكلاهما حسن مستعمل لا يشكّ في حسنه واستعماله، وقد وردت لفظة العسل في القرآن، دون لفظة الشهد؛ لأنها أحسن منها، ومع هذا فإن لفظة الشهد وردت في بيت أبي الطيب فجاءت أحسن من لفظة العسل في بيت الأعرج. وكثيرا ما نجد أمثال ذلك في أقوال الشعراء المفلقين وغيرهم، ومن بلغاء الكتاب ومصقعي الخطباء. وتحته دقائق ورموز إذا علمت وقيس عليها أشباهها ونظائرها كان صاحب الكلام في النظم والنثر قد انتهى إلى الغاية القصوى في اختيار الألفاظ ووضعها في مواضعها اللائقة بها. واعلم أن تفاوت التفاضل يقع في تركيب الألفاظ أكثر مما يقع في مفرداتها؛ لأن التركيب أعسر وأشق، ألا ترى ألفاظ القرآن الكريم من حيث انفرادها قد استعملها العرب ومن بعدهم، ومع ذلك فإنه يفوق جميع كلامهم ويعلو عليه، وليس ذلك إلا لفضيلة التركيب.

وهل تشك أيها المتأمل لكتابنا هذا إذا فكرت في قوله تعالى: وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين أنك لم تجد ما وجدته لهذه الألفاظ من المزية الظاهرة إلا لأمر يرجع إلى تركيبها، وأنه لم يعرض لها هذا الحسن إلا من حيث لاقت الأولى بالثانية، والثالثة بالرابعة، وكذلك إلى آخرها، فإن ارتبت في ذلك فتأمل هل ترى لفظة منها لو أخذت من مكانها وأفردت من بين أخواتها كانت لابسة من الحسن ما لبسته في موضعها من الآية. ومما يشهد لذلك ويؤيده أنك ترى اللفظة تروقك في كلام، ثم تراها في كلام آخر فتكرهها؛ فهذا ينكره من لم يذق طعم الفصاحة، ولا عرف أسرار الألفاظ في تركيبها وانفرادها. وسأضرب لك مثالا يشهد بصحة ما ذكرته، وهو أنه قد جاءت لفظة واحدة في آية من القرآن وبيت من الشعر؛ فجاءت في القرآن جزلة متينة، وفي الشعر ركيكة ضعيفة، فأثّر التركيب فيها هذين الوصفين الضدين؛ أما الآية فهي قوله تعالى: فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق. وأما بيت الشعر فهو قول أبي الطيب المتنبي «1» : تلذّ له المروءة وهي تؤذي ... ومن يعشق يلذّ له الغرام «2» وهذا البيت من أبيات المعاني الشريفة، إلا أن لفظة «تؤذي» قد جاءت فيه

وفي الآية من القرآن فحطّت من قدر البيت لضعف تركيبها وحسن موقعها في تركيب الآية. فأنصف أيها المتأمل لما ذكرناه، واعرضه على طبعك السليم حتى تعلم صحته، وهذا موضع غامض يحتاج إلى فضل فكرة، وإمعان نظر، وما تعرّض للتنبيه عليه أحد قبلي، وهذه اللفظة التي هي «تؤذي» إذا جاءت في الكلام فينبغي أن تكون مندرجة مع ما يأتي بعدها متعلقة به كقوله تعالى: إن ذلكم كان يؤذي النبي وقد جاءت في قول المتنبي منقطعة، ألا ترى أنه قال: «تلذ له المروءة وهي تؤذي» ثم قال: «ومن يعشق يلذ له الغرام» فجاء بكلام مستأنف، وقد جاءت هذه اللفظة بعينها في الحديث النبوي، وأضيف إليها كاف الخطاب؛ فأزال ما بها من الضعف والركة، وذاك أنه اشتكى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فجاءه جبريل عليه السلام ورقاه، فقال: بسم الله أرقيك، من كل داء يؤذيك؛ فانظر إلى السر في استعمال اللفظة الواحدة، فإنه لما زيد على هذه اللفظة حرف واحد أصلحها وحسنها، ومن ههنا تزاد الهاء في بعض المواضع، كقوله تعالى: فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرؤا كتابيه. إني ظننت أني ملاق حسابيه ثم قال: ما أغنى عني ماليه. هلك عني سلطانيه فإن الأصل في هذه الألفاظ كتابي وحسابي ومالي وسلطاني، فلما أضيفت الهاء إليها- وتسمى هاء السكت- أضافت إليها حسنا زائدا على حسنها، وكستها لطافة ولباقة. وكذلك ورد في القرآن الكريم: إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فلفظة «لي» أيضا مثل لفظة «يؤذي» وقد جاءت في الآية مندرجة متعلقة بما بعدها، وإذا جاءت منقطعة لا تجيء لائقة، كقول أبي الطيب أيضا «1» : تمسي الأمانيّ صرعى دون مبلغه ... فما يقول لشيء ليت ذلك لي

وربما وقع بعض الجهال في هذا الموضع فأدخل فيه ما ليس منه، كقول أبي الطيب «1» : ما أجدر الأيّام واللّيالي ... بأن تقول ما له وما لي فإن لفظة «لي» ههنا قد وردت بعد «ما» وقبلها «ما له» ثم قال «وما لي» فجاء الكلام على نسق واحد، ولو جاءت لفظة «لي» ههنا كما جاءت في البيت الأول لكانت منقطعة عن النظير والشبيه، فكان يعلوها الضعف والركة، وبين ورودها ههنا وورودها في البيت الأول فرق يحكم فيه الذوق السليم. وههنا من هذا النوع لفظة أخرى قد وردت في آية من القرآن الكريم، وفي بيت من شعر الفرزدق؛ فجاءت في القرآن حسنة، وفي البيت الشعر غير حسنة، وتلك اللفظة هي لفظة «القمل» أما الآية فقوله تعالى: فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات ؛ وأما البيت الشعر فقول الفرزدق: من عزه احتجرت كليب عنده ... زربا كأنّهم لديه القمّل «2» وإنما حسنت هذه اللفظة في الآية دون هذا البيت من الشعر لأنها جاءت في الآية مندرجة في ضمن الكلام، ولم ينقطع الكلام عندها، وجاءت في الشعر قافية: أي آخرا انقطع الكلام عندها. وإذا نظرنا إلى حكمة أسرار الفصاحة في القرآن الكريم غصنا منه في بحر عميق لا قرار له.

فمن ذلك هذه الآية المشار إليها؛ فإنها قد تضمنت خمسة ألفاظ، هي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، وأحسن هذه الألفاظ الخمسة هي الطوفان والجراد والدم؛ فلما وردت هذه الألفاظ الخمسة بجملتها قدم منها لفظة الطوفان والجراد، وأخّرت لفظة الدم آخرا، وجعلت لفظة القمل والضفادع في الوسط؛ ليطرق السمع أولا الحسن من الألفاظ الخمسة، وينتهي إليه آخرا؛ ثم إن لفظة الدم أحسن من لفظتي الطوفان والجراد، وأخف في الاستعمال، ومن أجل ذلك جيء بها آخرا، ومراعاة مثل هذه الأسرار والدقائق في استعمال الألفاظ ليس من القدرة البشرية. وقد ذكر من تقدّمني من علماء البيان للألفاظ المفردة خصائص وهيآت تتصف بها، واختلفوا في ذلك، واستحسن أحدهم شيئا فخولف فيه، وكذلك استقبح الآخر شيئا فخولف فيه، ولو حققوا النظر ووقفوا على السر في اتصاف بعض الألفاظ بالحسن وبعضها بالقبح لما كان بينهم خلاف في شيء منها، وقد أشرت إلى ذلك في الفصل الثامن من مقدمة كتابي هذا الذي يشتمل على ذكر الفصاحة، وفي الوقوف عليه والإحاطة به غنى عن غيره، لكن لا بد أن نذكر ههنا تفصيلا لما أجملناه هناك؛ لأنا ذكرنا في ذلك الفصل أن الألفاظ داخلة في حيّز الأصوات؛ لأنّها مركبة من مخارج الحروف؛ فما استلذه السمع منها فهو الحسن، وما كرهه ونبا عنه فهو القبيح، وإذا ثبت ذلك فلا حاجة إلى ما ذكر من تلك الخصائص والهيآت التي أوردها علماء البيان في كتبهم؛ لأنه إذا كان اللفظ لذيذا في السمع كان حسنا، وإذا كان حسنا دخلت تلك الخصائص والهيآت في ضمن حسنه. وقد رأيت جماعة من الجهال إذا قيل لأحدهم إن هذه اللفظة حسنة وهذه قبيحة أنكر ذلك، وقال: كل الألفاظ حسن، والواضع لم يضع إلا حسنا، ومن يبلغ جهله إلى أن لا يفرق بين لفظة الغصن ولفظة العسلوج وبين لفظة المدامة ولفظة الإسفنط وبين لفظة السيف ولفظة الخنشليل وبين لفظة الأسد ولفظة الفدوكس فلا ينبغي أن يخاطب بخطاب، ولا يجاوب بجواب، بل يترك وشأنه، كما قيل: اتركوا الجاهل بجهله ولو ألقى الجعر في رحله، وما مثاله في هذا المقام إلا كمن يسوّي بين صورة زنجية سوداء مظلمة السواد شوهاء الخلق ذات عين محمّرة وشفة غليظة

كأنها كلوة، وشعر قطط «1» كأنه زبيبة، وبين صورة رومية بيضاء مشربة بحمرة، ذات خد أسيل، وطرف كحيل، ومبسم كأنما نظم من أقاح، وطرّة كأنها ليل على صباح، فإذا كان بإنسان من سقم النظر أن يسوّي بين هذه الصورة وهذه فلا يبعد أن يكون به من سقم الفكر أن يسوي بين هذه الألفاظ وهذه، ولا فرق بين النظر والسمع في هذا المقام؛ فإن هذا حاسة وهذا حاسة، وقياس حاسة على حاسة مناسب. فإن عاند معاند في هذا، وقال: أغراض الناس مختلفة فيما يختارونه من هذه الأشياء، وقد يعشق الإنسان صورة الزنجية التي ذممتها ويفضلها على صورة الرومية التي وصفتها قلت في الجواب: نحن لا نحكم على الشاذ النادر الخارج عن الاعتدال، بل نحكم على الكثير الغالب، وكذلك إذا رأينا شخصا يحبّ أكل الفحم مثلا أو أكل الجصّ والتراب ويختار ذلك على ملاذّ الأطعمة، فهل نستجيد هذه الشهوة أو نحكم عليه بأنه مريض قد فسدت معدته وهو يختار إلى علاج ومداواة؟. ومن له أدنى بصيرة يعلم أن للألفاظ في الأذن نغمة لذيذة كنغمة أوتار، وصوتا منكرا كصوت حمار، وأن لها في الفم أيضا حلاوة كحلاوة العسل، ومرارة كمرارة الحنظل، وهي على ذلك تجري مجرى النغمات والطعوم. ولا يسبق وهمك أيها المتأمل إلى قول القائل الذي غلب عليه غلظ الطبع، وفجاجة الذهن «2» بأن العرب كانت تستعمل من الألفاظ كذا وكذا، فهذا دليل على أنه حسن، بل ينبغي أن تعلم أن الذي نستحسنه نحن في زماننا هذا هو الذي كان عند العرب مستحسنا، والذي نستقبحه هو الذي كان عندهم مستقبحا؛ والاستعمال

ليس بدليل على الحسن، فإنا نحن نستعمل الآن من الكلام ما ليس بحسن، وإنما نستعمله لضرورة، فليس استعمال الحسن بممكن في كل الأحوال، وهذا طريق يضل فيه غير العارف بمسالكه، ومن لم يعرف صناعة النظم والنثر وما يجده صاحبها من الكلمة في صوغ الألفاظ واختيارها فإنه معذور في أن يقول ما قال: لا يعرف الشّوق إلّا من يكابده ... ولا الصّبابة إلّا من يعانيها ومع هذا فإن قول القائل: «بأن العرب كانت تستعمل من الألفاظ كذا وكذا وهذا دليل على أنه حسن» قول فاسد لا يصدر إلا عن جاهل؛ فإن استحسان الألفاظ واستقباحها لا يؤخذ بالتقليد من العرب؛ لأنه شيء ليس للتقليد فيه مجال، وإنما هو شيء له خصائص وهيآت وعلامات إذا وجدت علم حسنه من قبحه، وقد تقدم الكلام على ذلك في باب الفصاحة والبلاغة، وأما الذي نقلد العرب فيه من الألفاظ فإنما هو الاستشهاد بأشعارها على ما ينقل من لغتها، والأخذ بأقوالها في الأوضاع النحوية في رفع الفاعل ونصب المفعول وجر المضاف إليه وجزم الشرط وأشباه ذلك، وما عداه فلا. وحسن الألفاظ وقبحها ليس إضافيا إلى زيد دون عمرو أو إلى عمرو دون زيد؛ لأنه وصف ذوويّ لا يتغير بالإضافة؛ ألا ترى أنّ لفظة المزنة مثلا حسنة عند الناس كافة من العرب وغيرهم، وهلم جرّا، لا يختلف أحد في حسنها، وكذلك لفظة البعاق «1» فإنها قبيحة عند الناس كافة من العرب وغيرهم؛ فإذا استعملتها العرب لا يكون استعمالهم إياها مخرجا لها عن القبح، ولا يلتفت إذن إلى استعمالهم إياها، بل يعاب مستعملها، ويغلظ له النكير حيث استعملها. وقد ذكر ابن سنان الخفاجي «2» ما يتعلق باللفظة الواحدة من الأوصاف، وقسمها إلى عدة أقسام: كتباعد مخارج الحروف، وأن تكون الكلمة جارية على العرف العربي غير شاذة، وأن تكون مصغّرة في موضع يعبر به عن شيء لطيف أو خفيّ أو ما جرى مجراه، وألّا تكون مبتذلة بين العامة، وغير ذلك من الأوصاف.

وفي الذي ذكره ما لا حاجة إليه: أما تباعد المخارج فإن معظم اللغة العربية دائر عليه؛ لأن الواضع قسمها في وضعه ثلاثة أقسام: ثلاثيا، ورباعيا، وخماسيا، والثلاثي من الألفاظ هو الأكثر، ولا يوجد فيه ما يكره استعماله إلا الشاذ النادر، وأما الرباعي فإنه وسط بين الثلاثي والخماسي في الكثرة عددا واستعمالا؛ وأما الخماسي فإنه الأقل، ولا يوحد فيه ما يستعمل إلا الشاذ النادر، وعلى هذا التقدير فإن أكثر اللغة مستعمل على غير مكروه، ولا تقتضي حكمة هذه اللغة الشريفة التي هي سيدة اللغات إلا ذلك، ولهذا أسقط الواضع حروفا كثيرة في تأليف بعضها مع بعض استثقال واستكراه «1» ، فلم يؤلف بين حروف الحلق كالحاء والخاء والعين، وكذلك لم يؤلف بين الجيم والقاف، ولا بين اللام والراء، ولا بين الزاء والسين، وكل هذا دليل على عنايته بتأليف المتباعد المخارج، دون المتقارب، ومن العجب أنه كان يخل بمثل هذا الأصل الكلي في تحسين اللغة، وقد اعتنى بأمور أخرى جزئية: كمماثلته بين حركات الفعل في الوجود وبين حركات المصدر في النطق، كالغليان والضّربان والنّقدان والنّزوان، وغير ذلك مما جرى مجراه، فإن حروفه جميعها متحركات، وليس فيها حرف ساكن، وهي مماثلة لحركات الفعل في الوجود، ومن نظر في حكمة وضع هذه اللغة إلى هذه الدقائق التي هي كالأطراف والحواشي فكيف كان يخلّ بالأصل المعوّل عليه في تأليف الحروف بعضها إلى بعض؟ على أنه لو أراد الناظم أو الناظر أن يعتبر مخارج الحروف عند استعمال الألفاظ وهل هي متباعدة أو متقاربة لطال الخطب في ذلك وعسر، ولما كان الشاعر ينظم قصيدا ولا الكاتب ينشئ كتابا إلا في مدة طويلة تمضي عليها أيام وليال ذوات عدد كثير، ونحن نرى الأمر بخلاف ذلك؛ فإن حاسة السمع هي الحاكمة في هذا المقام بحسن ما يحسن من الألفاظ وقبح ما يقبح. وسأضرب لك في هذا مثالا، فأقول: إذا سئلت عن لفظة من الألفاظ، وقيل لك: ما تقول في هذه اللفظة أحسنة هي أم قبيحة؟ فإني لا أراك عند ذلك إلا تفتي بحسنها أو قبحها على الفور، ولو كنت لا تفتي بذلك حتى تقول للسائل: اصبر إلى

أن أعتبر مخارج حروفها ثم أفتيك بعد ذلك بما فيها من حسن أو قبح؛ لصحّ لابن سنان ما ذهب إليه من جعل مخارج الحروف المتباعدة شرطا في اختيار الألفاظ، وإنما شذ عنه الأصل في ذلك، وهو أن الحسن من الألفاظ يكون متباعد المخارج؛ فحسن الألفاظ إذن ليس معلوما من تباعد المخارج، وإنما علم قبل العلم بتباعدها، وكل هذا راجع إلى حاسة السمع؛ فإذا استحسنت لفظا أو استقبحته وجد ما تستحسنه متباعد المخارج وما تستقبحه متقارب المخارج، واستحسانها واستقباحها إنما هو قبل اعتبار المخارج لا بعده. على أن هذه قاعدة قد شذ عنها شواذّ كثيرة؛ لأنه قد يجيء في المتقارب المخارج ما هو حسن رائق. ألا ترى أن الجيم والشين والياء مخارج متقاربة، وهي من وسط اللسان بينه وبين الحنك، وتسمى ثلاثتها الشّجرية، وإذا تركب منها شيء من الألفاظ جاء حسنا رائقا، فإن قيل جيش كانت لفظة محمودة، أو قدمت الشين على الجيم فقيل شجيّ كانت أيضا لفظة محمودة. ومما هو أقرب مخرجا من ذلك الباء والميم والفاء، وثلاثتها من الشفة، وتسمى الشّفهية، فإذا نظم منها شيء من الألفاظ كان جميلا حسنا، كقولنا: فم، فهذه اللفظة من حرفين هما الفاء والميم، وكقولنا: ذقته بفمي، وهذه اللفظة مؤلفة من الثلاثة بجملتها، وكلاهما حسن لا عيب فيه. وقد ورد من المتباعد المخارج شيء قبيح أيضا، ولو كان التباعد سببا للحسن لما كان سببا للقبح؛ إذ هما ضدان لا يجتمعان. فمن ذلك أنه يقال: ملع؛ إذا عدا، فالميم من الشفة، والعين من حروف الحلق، واللام من وسط اللسان، وكل ذلك متباعد، ومع هذا فإن هذه اللفظة مكروهة الاستعمال، ينبو عنها الذوق السليم، ولا يستعملها من عنده معرفة بفن الفصاحة. وههنا نكتة غريبة، وهو أنا إذا عكسنا حروف هذه اللفظة صارت علم، وعند

ذلك تكون حسنة لا مزيد على حسنها، وما ندري كيف صار القبح حسنا؛ لأنه لم يتغير من مخارجها شيء، وذاك أن اللام لم تزل وسطا والميم والعين يكتنفانها من جانبيها، ولو كان مخارج الحروف معتبرا في الحسن والقبح لما تغيرت هذه اللفظة في ملع وعلم. فإن قيل: إن إخراج الحروف من الحلق إلى الشفة أيسر من إدخالها من الشفة إلى الحلق؛ فإن ذلك انحدار وهذا صعود، والانحدار أسهل. فالجواب عن ذلك أني أقول: لو استمرّ لك هذا لصح ما ذهبت إليه، لكنّا نرى من الألفاظ ما إذا عكسنا حروفه من الشفة إلى الحلق أو من وسط اللسان أو من آخره إلى الحلق لا يتغير، كقولنا غلب؛ فإن الغين من حروف الحلق، واللام من وسط اللسان، والباء من الشفة، وإذا عكسنا ذلك صار بلغ، وكلاهما حسن مليح، وكذلك تقول: حلم من الحلم، وهو الأناة، وإذا عكسنا هذه الكلمة صارت ملح، على وزن فعل- بفتح الفاء وضم العين- وكلاهما أيضا حسن مليح، وكذلك تقول: عقر ورقع، وعرف وفرع، وحلف وفلح، وقلم وملق، وكلم وملك، ولو شئت لأوردت من ذلك شيئا كثيرا تضيق عنه هذه الأوراق، ولو كان ما ذكرته مطردا لكنا إذا عكسنا هذه الألفاظ صار حسنها قبحا، وليس الأمر كذلك. وأما ما ذكره ابن سنان من جريان اللفظة على العرف العربي فليس ذلك مما يوجب لها حسنا ولا قبحا، وإنما يقدح في معرفة مستعملها بما ينقله من الألفاظ فكيف يعدّ ذلك من جملة الأوصاف الحسنة؟. وأما تصغير اللفظة فيما يعبر به عن شيء لطيف أو خفيّ أو ما جرى مجراه فهذا مما لا حاجة إلى ذكره؛ فإن المعنى يسوق إليه، وليست معاني التصغير من الأشياء الغامضة التي يفتقر إلى التنبيه عليها؛ فإنها مدوّنة في كتب النحو، وما من كتاب نحو إلا والتصغير باب من أبوابه، ومع هذا فإنّ صاحب هذه الصناعة مخير في ذلك: إن شاء أن يورده بلفظ التصغير، وإن شاء بمعناه، كقول بعضهم: لو كان يخفى على الرّحمن خافية ... من خلقه خفيت عنه بنو لبد

فهل كان يمكن هذا الشاعر أن يصغر من هؤلاء القوم ويحقر من شأنهم بألفاظ التصغير ويجيء هكذا كما جاء بيته هذا؟ فالوصية به إذن ملغاة لا حاجة إليها. وأما الأوصاف الباقية التي ذكرت فهي التي ينبغي أن ينبه عليها؛ فمنها ألّا تكون الكلمة وحشيّة، وقد خفي الوحشي على جماعة من المنتمين إلى صناعة النظم والنثر، وظنوه المستقبح من الألفاظ، وليس كذلك، بل الوحشيّ ينقسم قسمين: أحدهما: غريب حسن، والآخر: غريب قبيح، وذلك أنه منسوب إلى اسم الوحش الذي يسكن القفار، وليس بأنيس، وكذلك الألفاظ التي لم تكن مأنوسة الاستعمال، وليس من شرط الوحش أن يكون مستقبحا، بل أن يكون نافرا لا يألف الإنس؛ فتارة يكون حسنا، وتارة يكون قبيحا، وعلى هذا فإن أحد قسمي الوحشي- وهو الغريب الحسن- يختلف باختلاف النّسب والإضافات؛ وأما القسم الآخر من الوحشي الذي هو قبيح فإن الناس في استقباحه سواء، ولا يختلف فيه عربي باد ولا قروي متحضّر، وأحسن الألفاظ ما كان مألوفا متداولا إلا لمكان حسنه، وقد تقدم الكلام على ذلك في باب الفصاحة؛ فإن أرباب الخطابة والشعر نظروا إلى الألفاظ ونقّبوا عنها، ثم عدلوا إلى الأحسن منها فاستعملوه، وتركوا ما سواه، وهو أيضا يتفاوت في درجات حسنه؛ فالألفاظ إذن تنقسم ثلاثة أقسام: قسمان حسنان، وقسم قبيح؛ فالقسمان الحسنان أحدهما: ما تداول استعماله الأول والآخر، من الزمن القديم إلى زماننا هذا، ولا يطلق عليه أنه وحشي، والآخر: ما تداول استعماله الأول دون الآخر، ويختلف في استعماله بالنسبة إلى الزمن وأهله، وهذا هو الذي لا يعاب استعماله عند العرب؛ لأنه لم يكن عندهم وحشيّا، وهو عندنا وحشي، وقد تضمن القرآن الكريم منه كلمات معدودة، وهي التي تطلق عليها غريب القرآن، وكذلك تضمن الحديث النبوي منه شيئا، وهو الذي يطلق عليه غريب الحديث. وحضر عندي في بعض الأيّام رجل متفلسف فجرى ذكر القرآن الكريم، فأخذت في وصفه، وذكر ما اشتملت عليه ألفاظه ومعانيه من الفصاحة والبلاغة، فقال ذلك الرجل: وأيّ فصاحة هناك وهو يقول: تلك إذا قسمة ضيزى ؟ فهل في لفظة (ضيزى) من الحسن ما يوصف؟ فقلت له: اعلم أن لاستعمال الألفاظ

أسرارا لم تقف عليها أنت ولا أئمتك، مثل ابن سينا والفارابي، ولا من أضلهم مثل أرسطاليس وأفلاطون، وهذه اللفظة التي أنكرتها في القرآن، وهي لفظة (ضيزى) فإنها في موضعها لا يسدّ غيرها مسدّها؛ ألا ترى أن السورة كلها التي هي سورة النجم مسجوعة على حرف الياء، فقال تعالى: والنجم إذا هوى. ما ضل صاحبكم وما غوى وكذلك إلى آخر السورة، فلما ذكر الأصنام وقسمة الأولاد وما كان يزعمه الكفار قال: ألكم الذكر وله الأنثى. تلك إذا قسمة ضيزى فجاءت اللفظة على الحرف المسجوع الذي جاءت السورة جميعها عليه، وغيرها لا يسدّ مسدها في مكانها، وإذا نزلنا معك أيها المعاند على ما تريد قلنا: إن غير هذه اللفظة أحسن منها، ولكنها في هذا الموضع لا ترد ملائمة لأخواتها، ولا مناسبة؛ لأنها تكون خارجة عن حرف السورة، وسأبين ذلك فأقول: إذا جئنا بلفظة في معنى هذه اللفظة قلنا: قسمة جائرة أو ظالمة ولا شك أن جائرة أو ظالمة أحسن من ضيزى، إلا أنا إذا نظمنا الكلام قلنا: ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ظالمة لم يكن النظم كالنظم الأول وصار الكلام كالشيء المعوز الذي يحتاج إلى تمام، وهذا لا يخفى على من له ذوق ومعرفة بنظم الكلام، فلما سمع ذلك الرجل ما أوردته عليه ربا لسانه في فمه إفحاما، ولم يكن عنده في ذلك شيء سوى العناد الذي مستنده تقليد بعض الزنادقة الذين يكفرون تشهيّا، ويقولون ما يقولونه جهلا وإذا حوققوا عليه ظهر عجزهم وقصورهم. وحيث انتهى القول إلى ههنا فإني أرجع إلى ما كنت بصدد ذكره فأقول: وأما القبيح من الألفاظ الذي يعاب استعماله فلا يسمى وحشيّا فقط، بل يسمى الوحشي الغليظ، وسيأتي ذكره، وإذا نظرنا إلى كتاب الله تعالى الذي هو أفصح الكلام وجدناه سهلا سلسا، وما تضمنه من الكلمات الغريبة يسير جدا، هذا، وقد أنزل في زمن العرب العرباء وألفاظه كلها من أسهل الألفاظ، وأقربها استعمالا، وكفى به قدوة في هذا الباب، قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «ما أنزل الله في التّوراة ولا في الإنجيل مثل أمّ القرآن، وهي السّبع المثاني» ، يريد بذلك فاتحة الكتاب؛ وإذا نظرنا إلى ما اشتملت عليه من الألفاظ وجدناها سهلة قريبة المأخذ يفهمها كل

أحد حتى صبيان المكاتب وعوامّ السوقة، وإن لم يفهموا ما تحتها من أسرار الفصاحة والبلاغة؛ فإن أحسن الكلام ما عرف الخاصة فضله، وفهم العامة معناه، وهكذا فلتكن الألفاظ المستعملة في سهولة فهمها وقرب متناولها، والمقتدي بألفاظ القرآن يكتفي بها عن غيرها من جميع الألفاظ المنثورة والمنظومة. وأما ما ورد من اللفظ الوحشي في الأخبار النبوية فمن جملة ذلك حديث طهفة بن أبي زهير النهدي، وذاك أنه لما قدمت وفود العرب على النبي صلّى الله عليه وسلّم قام طهفة بن أبي زهير فقال: أتيناك يا رسول الله من غوريّ تهامة على أكوار الميس «1» ، ترتمي بنا العيس «2» ، نستجلب الصّبير «3» ، ونستخلب الخبير «4» ، ونستعضد البرير «5» ، ونستخيل الرّهام «6» ، ونستخيل الجهام «7» ، في أرض غائلة

النّطاء «1» ، غليظة الوطاءة، قد نشف المدهن «2» ، ويبس الجعثن «3» ، وسقط الأملوج «4» ، ومات العسلوج «5» ، وهلك الهديّ «6» وفاد الوديّ «7» ، برئنا إليك يا رسول الله من الوثن والفتن، وما يحدث الزمن، لنا دعوة السّلام، وشريعة الإسلام، ما طمى البحر وقام تعار «8» ، ولنا نعم همل أغفال «9» ما تبضّ ببلال «10» ،

ووقير «1» كثير الرّسل، قليل الرّسل «2» ، أصابتنا سنيّة حمراء مؤزلة «3» ليس لها علل ولا نهل، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهمّ بارك لهم في محضها «4» ومخضها «5» ومذقها «6» وفرقها «7» ، وابعث راعيها في الدّثر «8» بيانع الثمر، وافجر له الثّمد «9» ، وبارك له في المال والولد، ومن أقام الصلاة كان مسلما، ومن آتى الزكاة كان محسنا، ومن شهد أن لا إله إلّا الله كان مخلصا، لكم يا بني نهد ودائع الشرك «10» ، ووضائع «11» الملك، لا تلطط في الزكاة «12» ، ولا تلحد في الحياة «13» ، ولا تثتاقل عن الصّلاة.

وكتب معه كتابا إلى بني نهد: «من محمد رسول الله إلى بني نهد، السلام على من آمن بالله ورسوله، لكم يا بني نهد في الوظيفة الفريضة «1» ، ولكم الفارض والفريش «2» وذو العنان الركوب والفلوّ الضّبيس «3» ، لا يمنع سرحكم «4» ، ولا يعضد طلحكم «5» ، ولا يحبس درّكم، ولا يؤكل أكلكم، ما لم تضمروا الإمآق «6» ، وتأكلوا الرباق «7» ، من أقرّ بما في هذا الكتاب فله من رسول الله الوفاء بالعهد والذمة، ومن أبى فعليه الرّبوة» «8» .

وفصاحة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا تقتضي استعمال هذه الألفاظ، ولا تكاد توجد في كلامه، إلا جوابا لمن يخاطبه بمثلها، كهذا الحديث وما جرى مجراه، على أنه قد كان في زمنه متداولا بين العرب، ولكنه صلّى الله عليه وسلّم لم يستعمله إلا يسيرا؛ لأنه أعلم بالفصيح والأفصح. وهذا الكلام هو الذي نعدّه نحن في زماننا وحشيا لعدم الاستعمال، فلا تظن أن الوحشي من الألفاظ ما يكرهه سمعك، ويثقل عليك النطق به، وإنما هو الغريب الذي يقل استعماله، فتارة يخفّ على سمعك ولا تجد به كراهة، وتارة يثقل على سمعك وتجد منه الكراهة، وذلك في اللفظ عيبان: أحدهما: أنه غريب الاستعمال، والآخر: أنه ثقيل على السمع كريه على الذوق، وإذا كان اللفظ بهذه الصفة فلا مزيد على فظاظته وغلاظته، وهو الذي يسمى الوحشي الغليظ، ويسمى أيضا المتوعّر، وليس وراءه في القبح درجة أخرى، ولا يستعمله إلا أجهل الناس ممن لم يخطر بباله معرفة هذا الفن أصلا. فإن قيل: فما هذا النوع من الألفاظ؟. قلت: قد ثبت لك أنه ما كرهه سمعك، وثقل على لسانك النطق به، وسأضرب لك في ذلك مثالا؛ فمنه ما ورد لتأبط شرا في كتاب الحماسة «1» : يظلّ بموماة ويمسي بغيرها ... جحيشا ويعروري ظهور المسالك «2»

فإن لفظة «جحيش» من الألفاظ المنكرة القبيحة، ويا لله العجب: أليس أنها بمعنى فريد، وفريد لفظة حسنة رائقة، ولو وضعت في هذا البيت موضع جحيش لما اختلّ شيء من وزنه، فتأبط شرا ملوم من وجهين في هذا الموضع: أحدهما: أنه استعمل القبيح، والآخر: أنه كانت له مندوحة عن استعماله فلم يعدل عنها. ومما هو أقبح منها ما ورد لأبي تمام [من] قوله «1» : قد قلت لمّا اطلخمّ الأمر وانبعثت ... عشواء تالية غبسا دهاريسا «2» فلفظة «اطلخمّ» من الألفاظ المنكرة التي جمعت الوصفين القبيحين في أنها غريبة وأنها غليظة في السمع كريهة على الذوق، وكذلك لفظة «دهاريس» أيضا، وعلى هذا ورد قوله من أبيات يصف فرسا من جملتها «3» : نعم متاع الدّنيا حباك به ... أروع لا حيدر ولا جبس «4» فلفظة «حيدر» غليظة، وأغلظ منها قول أبي الطيب المتنبي «5» : جفخت وهم لا يجفخون بها بهم ... شيم على الحسب الأغرّ دلائل «6»

فإن لفظة «جفخ» مرّة الطعم، وإذا مرت على السمع أقشعرّ منها، وأبو الطيب في استعمالها كاستعمال تأبط شرا لفظة جحيش؛ فإن تأبط شرا كانت له مندوحة عن استعمال تلك اللفظة، كما أشرنا إليها فيما تقدم، وكذلك أبو الطيب في استعمال هذه اللفظة التي هي جفخت؛ فإن معناها فخرت، والجفخ: الفخر، يقال: جفخ فلان؛ إذا فخر، ولو استعمل عوضا عن جفخت فخرت لاستقام وزن البيت وحظي في استعماله بالأحسن، وما أعلم كيف يذهب هذا وأمثاله على مثل هؤلاء الفحول من الشعراء؟. وهذا الذي ذكرته وما يجري مجراه من الألفاظ هو الوحشي اللفظ الغليظ الذي ليس له ما يدانيه في قبحه وكراهته، وهذه الأمثلة دليل على ما أوردناه، والعرب إذن لا تلام على استعمال الغريب الحسن من الألفاظ، وإنما تلام على الغريب القبيح، وأما الحضري فإنه يلام على استعمال القسمين معا، وهو في أحدهما أشد ملامة من الآخر. على أن هذا الموضع يحتاج إلى قيد آخر، وذلك شيء استخرجته أنا دون غيري؛ فإن وجدت الغريب الحسن يسوغ استعماله في الشعر، ولا يسوغ في الخطب والمكاتبات، وهذا ينكره من يسمعه حتى ينتهي إلى ما أوردته من الأمثلة، ولربما أنكره بعد ذلك إما عنادا وإما جهلا؛ لعدم الذوق السليم عنده. فمن ذلك قول الفرزدق «1» : ولولا حياء زدت رأسك شجّة ... إذا سبرت ظلّت جوانبها تغلي «2» شرنبثة شمطاء من يرتمي بها ... تشبه ولو بين الخماسيّ والطّفل «3»

فقوله «شرنبثة» من الألفاظ الغريبة التي يسوغ استعمالها في الشعر، وهي ههنا غير مستكرهة، إلّا أنها لو وردت في كلام منثور من كتاب أو خطبة لعيبت على مستعملها. وكذلك وردت لفظة «مشمخر» فإن بشرا «1» قد استعملها في أبياته التي يصف فيها لقاءه الأسد، فقال: وأطلقت المهنّد عن يميني ... فقدّ له من الأضلاع عشرا فخرّ مضرّجا بدم كأنّي ... هدمت به بناء مشمخرّا وعلى هذا ورد قول البحتري في قصيدته التي يصف فيها إيوان كسرى «2» ، فقال: مشمخرّ تعلو له شرفات ... رفعت فهي رءوس رضوى وقدس فإن لفظة «مشمخر» لا يحسن استعمالها في الخطب والمكاتبات، ولا بأس بها ههنا في الشعر، وقد وردت في خطب الشيخ الخطيب ابن نباته، كقوله في خطبة يذكر فيها أهوال يوم القيامة، فقال: «اقمطر وبالها، واشمخر نكالها» فما طابت ولا ساغت. ومن هذا الأسلوب لفظة «الكنهور» في وصف السحاب، كقول أبي الطيب «3» : يا ليت باكية شجاني دمعها ... نظرت إليك كما نظرت فتعذرا

وترى الفضيلة لا تردّ فضيلة ... الشّمس تشرق والسّحاب كنهورا «1» فلفظة «الكنهور» لا تعاب نظما، وتعاب نثرا، وكذلك يجري الأمر في لفظة «العرمس» وهي اسم الناقة الشديدة؛ فإن هذه اللفظة يسوغ استعمالها في الشعر، ولا يعاب مستعملها، كقول أبي الطيب أيضا «2» : ومهمه جبته على قدمي ... تعجز عنه العرامس الذّلل «3» فإنه جمع هذه اللفظة، ولا بأس بها، ولو استعملت في الكلام المنثور لما طابت ولا ساغت، وقد جاءت موحدة في شعر أبي تمام، كقوله «4» : هي العرمس الوجناء وابن ملمة ... وجأش على ما يحدث الدّهر خافض «5» وكذلك ورد قوله أيضا: يا موضع الشّدنية الوجناء «6»

فإن «الشدنية» لا تعاب شعرا، وتعاب شعرا، وتعاب لو وردت في كتاب أو خطبة، وهكذا يجري الحكم في أمثال هذه الألفاظ المشار إليها. وعلى هذا فاعلم أن كل ما يسوغ استعماله في الكلام المنثور من الألفاظ يسوغ استعماله في الكلام المنظوم، وليس كل ما يسوغ استعماله في الكلام المنظوم يسوغ استعماله في الكلام المنثور، وذلك شيء استنبطته، واطلعت عليه؛ لكثرة ممارستي لهذا الفن، ولأن الذوق الذي عندي دلّني عليه؛ فمن شاء فليقلدني فيه، وإلا فليدمن النظر حتى يطّلع على ما اطّلعت عليه، والأذهان في مثل هذا المقام تتفاوت. وقد رأيت جماعة من مدّعي هذه الصناعة يعتقدون أن الكلام الفصيح هو الذي يعزّ فهمه، ويبعد متناوله، وإذا رأوا كلاما وحشيّا غامض الألفاظ يعجبون به ويصفونه بالفصاحة، وهو بالضد من ذلك؛ لأن الفصاحة هي الظهور والبيان؛ لا الغموض والخفاء. وسأبين لك ما تعتمد عليه في هذا الموضع؛ فأقول: الألفاظ تنقسم في الاستعمال إلى جزلة ورقيقة، ولكل منهما موضع يحسن استعماله فيه. فالجزل منها يستعمل في وصف مواقف الحروب، وفي قوارع التهديد والتخويف، وأشباه ذلك. وأما الرقيق منها فإنه يستعمل في وصف الأشواق وذكر أيام البعاد، وفي استجلاب المودّات، وملاينات الاستعطاف، وأشباه ذلك. ولست أعني بالجزل من الألفاظ أن يكون وحشيا متوعّرا عليه عنجهية البداوة، بل أعني بالجزل أن يكون متينا على عذوبته في الفم ولذاذته في السمع، وكذلك لست أعني بالرقيق أن يكون ركيكا سفسفا، وإنما هو اللطيف الرقيق الحاشية الناعم الملمس، كقول أبي تمام «1» :

ناعمات الأطراف لو أنّها تلبس ... أغنت عن الملاء الرّقاق «1» وسأضرب لك مثالا للجزل من الألفاظ والرقيق، فأقول: انظر إلى قوارع القرآن عند ذكر الحساب والعذاب والميزان والصراط، وعند ذكر الموت ومفارقة الدنيا، وما جرى هذا المجرى؛ فإنك لا ترى شيئا من ذلك وحشيّ الألفاظ، ولا متوعرا، ثم انظر إلى ذكر الرحمة والرأفة والمغفرة، والملاطفات في خطاب الأنبياء، وخطاب المنيبين والتائبين من العباد، وما جرى هذا المجرى؛ فإنك لا ترى شيئا من ذلك ضعيف الألفاظ ولا سفسفا. فمثال الأول:- وهو الجزل من الألفاظ- قوله تعالى: ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون، ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون، وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين، قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين، وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين، وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين.

فتأمل هذه الايات المضمنة ذكر الحشر على تفاصيل أحواله وذكر النار والجنة. وانظر هل فيها لفظة إلا وهي سهلة مستعذبة على ما بها من الجزالة. وكذلك ورد قوله تعالى: ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون. وأما مثال الثاني:- وهو الرقيق الألفاظ- فقوله تعالى في مخاطبة النبي صلّى الله عليه وسلّم: والضحى. والليل إذا سجى. ما ودعك ربك وما قلى إلى آخر السورة، وكذلك قوله تعالى في ترغيب المسألة: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان. وهكذا ترى سبيل القرآن الكريم في كلا هذين الحالين من الجزالة والرقة، وكذلك كلام العرب الأول في الزمن القديم مما ورد عنها نثرا، ويكفي من ذلك كلام قبيصة بن نعيم لما قدم على امرئ القيس في أشياخ بني أسد يسألونه العفو عن دم «1» أبيه، فقال: إنك في المحل والقدر من المعرفة «2» بتصرف الدهر وما تحدثه أيامه وتنتقل به أحواله بحيث لا تحتاج لا تذكير من واعظ، ولا تبصير من مجرّب «3» ولك من سؤدد منصبك وشرف أعراقك وكرم أصلك في العرب محتد «4» يحتمل ما حمل عليه من إقالة العثرة ورجوع عن الهفوة «5» ، ولا تتجاوز الهمم إلى غاية إلا رجعت إليك فوجدت عندك من فضيلة الرأي وبصيرة الفهم وكرم الصفح «6»

ما يطول رغباتها ويستغرق طلباتها، وقد كان الذي كان من الخطب الجليل الذي عمّت رزيّته نزارا واليمن ولم تخصص بذلك كندة دوننا للشرف البارع الذي كان لحجر «1» ، ولو كان يفدي هالك بالأنفس الباقية بعده لما بخلت كرائمنا بها على مثله «2» ، ولكنه مضى به سبيل لا يرجع أخراه على أولاه، ولا يلحق أقصاه أدناه، فأحمد الحالات في ذلك أن تعرف الواجب عليك في إحدى خلال ثلاث: إما أن اخترت من بني أسد أشرفها بيتا، وأعلاها في بناء المكرمات صوتا، فقدناه إليك بنسعة تذهب مع شفرات حسامك بباقي قصرته «3» ، فنقول: رجل امتحن بها لك عزيز فلم يستلّ سخيمته إلا بمكنته «4» من الانتقام، أو فداء بما يروح على بني أسد من نعمها فهي ألوف تجاوز الحسبة «5» ، فكان ذلك فداء رجعت به القضب إلى أجفانها لم يرددها تسليط الإحن على البرآء، وإما أن وادعتنا إلى أن تضع الحوال، فتسدل الأزر، وتعقد الخمر فوق الرايات، قال: فبكى ساعة ثم رفع رأسه، فقال: لقد علمت العرب أنه لا كفء لحجر في دم، وإني لن أعتاض [به] جملا ولا ناقة فأكتسب به سبّة الأبد، وفتّ العضد، وأما النّظرة فقد أوجبتها الأجنّة في بطون أمهاتها، ولن أكون لعطبها سببا، وستعرفون طلائع كندة من بعد ذلك تحمل في القلوب حنقا، وفوق الأسنة علقا: إذا جالت الحرب في مأزق ... تصافح فيه المنايا النّفوسا «6» أتقيمون أم تنصرفون؟ قالوا: بل ننصرف بأسوأ الاختيار، وأبلى الاجترار، بمكروه وأذيّة، وحرب وبليّة، ثم نهضوا عنه وقبيصة يتمثل:

لعلّك أن تستوخم الورد إن غدت ... كتائبنا في مأزق الحرب تمطر «1» فقال امرؤ القيس: لا والله، ولكن أستعذبه، فرويدا ينفرج لك دجاها عن فرسان كندة وكتائب حمير، ولقد كان ذكر غير هذا بي أولى؛ إذ كنت نازلا بربعي، ولكنك قلت فأوجبت «2» [فقال قبيصة: ما نتوقع فوق المعاتبة والإعتاب] «3» فقال امرؤ القيس: هو ذاك. فلتنظر إلى هذا الكلام من الرجلين قبيصة وامرئ القيس، حتى يدع المتعمقون تعمقهم في استعمال الوحشي من الألفاظ؛ فإن هذا الكلام قد كان في الزمن القديم قبل الإسلام بما شاء الله، وكذلك كلام كل فصيح من العرب مشهور، وما عداه فليس بشيء، وهذا المشار إليه ههنا هو جزل كلامهم، وعلى ما تراه من السلاسة والعذوبة. وإذا تصفحت أشعارهم أيضا وجدت الوحشيّ من الألفاظ قليلا بالنسبة إلى المسلسل في الفم والسمع، ألا ترى إلى هذه الأبيات الواردة للسموأل بن عاديا، وهي: إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكلّ رداء يرتديه جميل وإن هو لم يحمل على النّفس ضيمها ... فليس إلى حسن الثّناء سبيل تعيّرنا أنّا قليل عديدنا ... فقلت لها إنّ الكرام قليل وما ضرّنا أنّا قليل وجارنا ... عزيز وجار الأكثرين ذليل يقرّب حبّ الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول وما مات منّا سيّد حتف أنفه ... ولا طلّ منّا حيث كان قتيل

علونا إلى خير الظّهور وحطّنا ... لوقت إلى خير البطون نزول فنحن كماء المزن ما في نصابنا ... كهام ولا فينا يعدّ بخيل إذا سيّد منّا خلا قام سيّد ... قؤول لما قال الكرام فعول وأيّامنا مشهورة في عدوّنا ... لها غرر مشهورة وحجول وأسيافنا في كلّ غرب ومشرق ... بها من قراع الدّارعين فلول معوّدة ألّا يسلّ نصالها ... فتغمد حتّى يستباح قبيل فإذا نظرنا إلى ما تضمنته من الجزالة خلناها زبرا من الحديد، وهي مع ذلك سهلة مستعذبة غير فظة ولا غليظة. وكذلك قد ورد للعرب في جانب الرقة من الأشعار ما يكاد يذوب لرقته، كقول عروة بن أذينة «1» : إنّ الّتي زعمت فؤادك ملّها ... خلقت هواك كما خلقت هوى لها بيضاء باكرها النّعيم فصاغها ... بلباقة فأدقّها وأجلّها حجبت تحيّتها فقلت لصاحبي ... ما كان أكثرها لنا وأقلّها وإذا وجدت لها وساوس سلوة ... شفع الضّمير إلى الفؤاد فسلّها وكذلك ورد قول الآخر «2» : أقول لصاحبي والعيس تهوي ... بنا بين المنيفة فالضّمار تمتّع من شميم عرار نجد ... فما بعد العشيّة من عرار ألا يا حبّذا نفحات نجد ... وريّا روضه غبّ القطار «3»

وأهلك إذ يحلّ الحيّ نجدا ... وأنت على زمانك غير زار شهور ينقضين وما شعرنا ... بأنصاف لهنّ ولا سرار فأمّا ليلهنّ فخير ليل ... وأطيب ما يكون من النّهار ومما ترقص الأسماع له، ويرن على صفحات القلوب، قول يزيد بن الطّثريّة في محبوبته من جرم: بنفسي من لو مرّ برد بنانه ... على كبدي كانت شفاء أنامله ومن هابني في كلّ شيء وهبته ... فلا هو يعطيني ولا أنا سائله وإذا كان هذا قول ساكن في الفلاة لا يرى إلا شيحة أو قيصومة، ولا يأكل إلا ضبّا أو يربوعا، فما بال قوم سكنوا الحضر، ووجدوا رقة العيس، يتعاطون وحشيّ الألفاظ، وشظف العبارات، ولا يخلد إلى ذلك إلا إما جاهل بأسرار الفصاحة، وإما عاجز عن سلوك طريقها؛ فإنّ كل أحد ممن شدا شيئا من علم الأدب يمكنه أن يأتي بالوحشيّ من الكلام، وذاك أنه يلتقطه من كتب اللغة، أو يتلقّفه من أربابها، وأما الفصيح المتّصف بصفة الملاحة فإنه لا يقدر عليه، ولو قدر عليه لما علم أين يضع يده في تأليفه وسبكه. فإن مارى في ذلك ممار فلينظر إلى أشعار علماء الأدب ممن كان مشارا إليه حتى يعلم صحة ما ذكرته. هذا ابن دريد، قد قيل: إنه أشعر علماء الأدب، وإذا نظرت إلى شعره وجدته بالنسبة إلى شعر الشعراء المجيدين منحطّا، مع أن أولئك الشعراء لم يعرفوا من علم الأدب عشر معشار ما علمه. هذا العباس بن الأحنف، قد كان من أوائل الشعراء المجيدين، وشعره كمرّ نسيم على عذبات أغصان، وكلؤلؤات طل على طرر ريحان، وليس فيه لفظة واحدة غريبة يحتاج إلى استخراجها من كتب اللغة، فمن ذلك قوله: وإنّي ليرضيني قليل نوالكم ... وإن كان لا أرضى لكم بقليل

بحرمة ما قد كان بيني وبينكم ... من الودّ إلّا عدتم بجميل وهكذا ورد قوله في فوز التي كان يشبّب بها في شعره: يا فوز، يا منية عبّاس ... قلبي يفدّي قلبك القاسي أسأت إذ أحسنت ظنّي بكم ... والحزم سوء الظّنّ بالنّاس يقلقني شوقي فآتيكم ... والقلب مملوء من اليأس وهل أعذب من هذه الأبيات وأعلق بالخاطر وأسرى في السمع؟ ولمثلها تخف رواجح الأوزان، وعلى مثلها تسهر الأجفان، وعن مثلها تتأخر السوابق عند الرهان، ولم أجرها بلساني يوما من الأيام إلا ذكرت قول أبي الطيب المتنبي. إذا شاء أن يلهو بلحية أحمق ... أراه غباري ثمّ قال له الحق ومن الذي يستطيع أن يسلك هذه الطريق التي هي سهلة وعرة قريبة بعيدة؟. وهذا أبو العتاهية؛ كان في عزة الدولة العباسية، وشعراء العرب إذ ذاك موجودون كثيرا، وكانت مدائحه في المهديّ بن المنصور، وإذا تأملت شعره وجدته كالماء الجاري رقّة ألفاظ ولطافة سبك، وليس بركيك ولا واه. وكذلك أبو نواس، وبهذا قدّم على شعراء عصره، وناهيك بعصره وما جمعه من فحول الشعراء، ويكفي منهم مسلم بن الوليد الذي كان فارس الشعر، وله الأسلوب الغريب العجيب، غير أنه كان يتعنجه في أكثر ألفاظه. ويحكى أن أبا نواس جلس يوما إلى بعض التجار ببغداد هو وجماعة من الشعراء، فاستسقى ماء، فلما شرب قال: عذب الماء وطابا ثم قال: أجيزوه، فأخذ أولئك الشعراء يتردّدون في إجازته، وإذا هم بأبي العتاهية، فقال: ما شأنكم مجتمعين؟ فقالوا: هو كيت وكيت، وقد قال أبو نواس: عذب الماء وطابا

فقال أبو العتاهية: حبّذا الماء شرابا فعجبوا لقوله على الفور من غير تلبّث. وكل شعر أبي العتاهية كذلك سهل الألفاظ، وسأورد منه ههنا شيئا يستدل به على سلاسة طبعه وترويق خاطره: فمن ذلك قصيدته التي يمدح فيها المهدي؛ ويشبّب فيها بجاريته عتب: ألا ما لسيّدتي ما لها ... تدلّ فأحمل إدلالها ألا إنّ جارية للإما ... م قد سكن الحسن سربالها لقد أتعب الله قلبي بها ... وأتعب في اللّوم عذّالها كأنّ بعينيّ في حيثما ... سلكت من الأرض تمثالها فلما وصل إلى المديح قال من جملته: أتته الخلافة منقادة ... إليه تجرّر أذيالها فلم تك تصلح إلّا له ... ولم يك يصلح إلّا لها ولو رامها أحد غيره ... لزلزلت الأرض زلزالها ولو لم تطعه نيات القلوب ... لما قبل الله أعمالها ويحكى أن بشّارا كان شاهدا عند إنشاد أبي العتاهية هذه الأبيات، فلما سمع المديح قال: انظروا إلى أمير المؤمنين، هل طار عن أعواده؟ يريد هل زال عن سريره طربا بهذا المديح، ولعمري إنّ الأمر كما قال بشار، وخير القول ما أسكر السامع حتى ينقله عن حالته، سواء كان في مديح أو غيره، وقد أشرت إلى ذلك فيما يأتي من هذا الكتاب عند ذكر الاستعارة؛ فليؤخذ من هناك. وأعلم أن هذه الأبيات المشار إليها ههنا من رقيق الشعر غزلا ومديحا، وقد أذعن لمديحها الشعراء من أهل ذلك العصر، ومع هذا فإنك تراها من السلاسة

واللطافة على أقصى الغايات، وهذا هو الكلام الذي يسمى السّهل الممتنع، فتراه يطمعك ثم إذا حاولت مماثلته راغ عنك كما يروغ الثّعلب، وهكذا ينبغي أن يكون من خاض في كتابة أو شعر؛ فإن خير الكلام ما دخل الأذن بغير إذن. وأما البداوة والعنجهية في الألفاظ فتلك أمة قد خلت؛ ومع أنها قد خلت وكانت في زمن العرب العاربة فإنها قد عيبت على مستعملها في ذلك الوقت، فكيف الآن وقد غلب على الناس رقة الحضر؟. وبعد هذا، فاعلم أن الألفاظ تجري من السمع مجرى الأشخاص من البصر، فالألفاظ الجزلة تتخيل في السمع كأشخاص عليها مهابة ووقار، والألفاظ الرقيقة تتخيل كأشخاص ذي دماثة ولين أخلاق ولطافة مزاج، ولهذا ترى ألفاظ أبي تمام كأنها رجال قد ركبوا خيولهم، واستلأموا «1» سلاحهم، وتأهّبوا للطّراد، وترى ألفاظ البحتري كأنّها نساء حسان عليهنّ غلائل «2» مصبّغات وقد تحلّين بأصناف الحلي، وإذا أنعمت نظرك فيما ذكرته ههنا وجدتني قد دللتك على الطريق، وضربت لك أمثالا مناسبة. واعلم أنه يجب على الناظم والناثر أن يجتنبا ما يضيق به مجال الكلام في بعض الحروف، كالثاء والذال والخاء والشين والصاد والطاء والظاء والغين؛ فإن في الحروف الباقية مندوحة عن استعمال ما لا يحسن من هذه الأحرف المشار إليها، والناظم في ذلك أشدّ ملامة؛ لأنه يتعرّض لأن ينظم قصيدة ذات أبيات متعددة فيأتي في أكثرها بالبشع الكريه الذي يمجّه السمع لعدم استعماله، كما فعل أبو تمام في قصيدته الثائية التي مطلعها. قف بالطّلول الدّارسات علاثا «3»

وكما فعل أبو الطيب المتنبي في قصيدته الشينية التي مطلعها: مبيتي من دمشق على فراش «1» وكما فعل ابن هانئ المغربي في قصيدته الخائية التي مطلعها: سرى وجناح اللّيل أقتم أفتخ «2» والناظم لا يعاب إذا لم ينظم هذه الأحرف في شعره، بل يعاب إذا نظمها وجاءت كريهة مستبشعة، وأما الناثر فإنه أقرب حالا من الناظم، لأن غاية ما يأتي به سجعتان أو ثلاث أو أربع على حرف من هذه الأحرف، وما يعدم في ذلك ما يروق إذا كان بهذه العدة اليسيرة، فإن كلفت أيها الشاعر أن تنظم شيئا على هذه الحروف فقل: هذه الحروف هي مقاتل الفصاحة، وعذري واضح في تركها، فإن واضع اللغة لم يضع عليها ألفاظا تعذب في الفم، ولا تلذ في السمع والذي هو بهذه الصفة منها فإنما هو قليل جدا، ولا يصاغ منه إلا مقاطيع أبيات من الشعر، وأما القصائد المقصّدة فلا تصاغ منه، وإن صيغت جاء أكثرها بشعا كريها، على أن هذه الحروف متفاوتة في كراهة الاستعمال، وأشدها كراهية أربعة أحرف، وهي الخاء والصاد والظاء والغين، وأما الثاء والذال والشين والطاء فإن الأمر فيهن أقرب حالا، وهذا موضع ينبغي لصاحب الصناعة أن ينعم نظره فيه، وفيما أشرنا إليه كفاية للمتعلم؛ فليعرفه وليقف عنده.

ومن أوصاف الكلمة ألّا تكون مبتذلة بين العامة، وذلك ينقسم قسمين: الأول: ما كان من الألفاظ دالّا على معنى وضع له في أصل اللغة فغيرته العامة وجعلته دالا على معنى آخر، وهو ضربان: الأول: ما يكره ذكره، كقول أبي الطيب «1» : أذاق الغواني حسنه ما أذقنني ... وعف فجازاهنّ عنّي بالصّرم «2» فإن لفظة «الصرم» في وضع اللغة هو القطع، يقال: صرمه إذا قطعه، فغيرتها العامة وجعلتها دالة على المحل المخصوص من الحيوان دون غيره، فأبدلوا السين صادا، ومن أجل ذلك استكره استعمال هذه اللفظة، وما جرى مجراها، لكن المكروه منها ما يستعمل على صيغة الاسمية، كما جاءت في هذا البيت، وأما إذا استعملت على صيغة الفعل كقولنا صرمه وصرمته وتصرمه فإنها لا تكون كريهة؛ لأن استعمال العامة لا يدخل في ذلك، وهذا الضرب المشار إليه لا يعاب البدوي على استعماله كما يعاب المحتضر؛ لأن البدويّ لم تتغير الألفاظ في زمنه، ولا تصرفت العامة فيها كما تصرفت في زمن المحتضرة من الشعراء؛ فمن أجل ذلك عيب استعمال لفظة الصرم وما جرى مجراها على الشاعر المحتضر، ولم يعب على الشاعر المتبدي «3» ، ألا ترى إلى قول أبي صخر الهذلي «4» : قد كان صرم في الممات لنا ... فعجلت قبل الموت بالصّرم

فإن هذا لا يعاب على صخر كما عيب على المتنبي قوله في البيت المقدم ذكره. وقد صنف الشيخ أبو منصور بن أحمد البغدادي المعروف بابن الجواليقي كتابا في هذا الفن، ووسمه بإصلاح ما تغلط فيه العامة؛ فمنه ما هذا سبيله، وهو الذي أنكره استعماله؛ لكراهته، ولأنه مما لم ينقل عن العرب، فهذان عيبان. وأما الضرب الثاني، وهو أنه وضع في أصل اللغة لمعنى فجعلته العامة دالا على غيره، إلا أنه ليس بمستقبح ولا مستكره، وذلك كتسميتهم الإنسان ظريفا إذا كان دمث الأخلاق حسن الصورة أو اللباس، أو ما هذا سبيله، والظّرف في أصل اللغة مختص بالنطق فقط. وقد قيل في صفات خلق الإنسان ما أذكره ههنا، وهو الصبّاحة في الوجه، الوضاءة في البشرة، الجمال في الأنف، الحلاوة في العينين، الملاحة في الفم، الظّرف في اللسان، الرّشاقة في القدّ، اللّباقة في الشمائل، كمال الحسن في الشعر؛ فالظرف إنما يتعلق بالنطق خاصة، فغيرته العامة عن بابه. وممن غلط في هذا الموضع أبو نواس حيث قال: اختصم الجود والجمال ... فيك فصارا إلى جدال فقال هذا يمينه لي ... للعرف والبذل والنّوال وقال هذاك وجهه لي ... للظّرف والحسن والكمال فافترقا فيك عن تراض ... كلاهما صادق المقال وكذلك غلط أبو تمام، فقال «1» :

لك هضبة الحلم الّتي لو وازنت ... أجأ إذن ثقلت وكان خفيفا «1» وحلاوة الشّيم الّتي لو مازجت ... خلق الزّمان الفدم عاد ظريفا فأبو نواس غلط ههنا في أنه وصف الوجه بالظرف، وهو من صفات النطق، وأبو تمام غلط في أنه وصف الخلق بالظرف، وهو من صفات النطق أيضا، إلا أن هذا غلط لا يوجب في هذه اللفظة قبحا، لكنه جهل بمعرفة أصلها في وضع اللغة. القسم الثاني مما ابتذلته العامة؛ وهو الذي لم تغيره عن وصفه، وإنما أنكر استعماله لأنه مبتذل بينهم، لا لأنه مستقبح، ولا لأنه مخالف لما وضع له، وفي هذا القسم نظر عندي؛ لأنه إن كان عبارة عما يكثر تداوله بين العامة فإنّ من الكثير المتداول بينهم ألفاظا فصيحة، كالسّماء والأرض والنار والماء والحجر والطين، وأشباه ذلك، وقد نطق بها القرآن الكريم في مواضع كثيرة منه، وجاءت في كلام الفصحاء نظما ونثرا، والذي ترجح في نظري أنّ المراد بالمبتذل من هذا القسم إنما هو الألفاظ السخيفة الضعيفة، سواء تداولتها العامة أو الخاصة. فمما جاء منه قول أبي الطيب المتنبي «2» : وملمومة سيفيّة ربعيّة ... يصيح الحصا فيها صياح اللّقالق «3» فإن لفظة «اللقالق» مبتذلة بين العامة جدا، وكذلك قوله «4» :

ومن النّاس من يجوز إليهم ... شعراء كأنّها الخازباز «1» وهذا البيت من مضحكات الأشعار، وهو من جملة البرسام الذي ذكره في شعره حيث قال «2» : إنّ بعضا من القريض هراء ... ليس شيئا وبعضه أحكام «3» فيه ما يجلب البراعة والفهم وفيه ما يجلب البرسام ومثل هذه الألفاظ إذا وردت في الكلام وضعت من قدره، ولو كان معنى شريفا. وهذا القسم من الألفاظ المبتذلة لا يكاد يخلو منه شعر شاعر، لكن منهم المقلّ ومنهم المكثر، حتى إنّ العاربة قد استعملت هذا، إلا أنه في أشعارها أقل. فمن ذلك قول النابغة الذبياني في قصيدته التي أولها: من آل ميّة رائح أو مغتدي ... أو دمية في مرمر مرفوعة بنيت بآجرّ يشاد بقرمد فلفظة «آجرّ» مبتذلة جدا، وإن شئت أن تعلم شيئا من سر الفصاحة التي تضمنها القرآن فانظر إلى هذا الموضع، فإنه لما جيء فيه بذكر الآجر لم يذكر بلفظه، ولا بلفظ القرمد أيضا، ولا بلفظ الطّوب الذي هو لغة أهل مصر؛ فإن هذه

الأسماء مبتذلة، لكن ذكر في القرآن على وجه آخر وهو قوله تعالى: وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا فعبر عن الآجر بالوقود على الطين. ومن هذا القسم المبتذل قول الفرزدق في قصيدته التي أولها: عزفت بأعشاش وما كدت تعزف «1» ... وأصبح مبيضّ الضّريب كأنّه على سروات النّيب قطن مندّف «2» فقوله «مندّف» من الألفاظ العامية. ومن هذا القسم قول البحتري «3» : وجوه حسّادك مسودّة ... أم صبغت بعدي بالزّاج فلفظة «الزاج» من أشد ألفاظ العامة ابتذالا، وقد استعمل أبو نواس هذا النوع في شعره كثيرا، كقوله: يا من جفاني وملّا ... نسيت أهلا وسهلا ومات مرحب لمّا ... رأيت مالي قلّا إنّي أظنّك فيما ... فعلت تحكي القرلّى

وكقوله: وأنمر الجلدة صيّرته ... في النّاس زاغا وشقرّاقا ما زلت أجري كلكي فوقه ... حتّى دعا من تحته قاقا وكقوله: وملحّة بالعذل تحسب أنّني ... بالجهل أترك صحبة الشّطّار وقد استعمل لفظة الشّاطر والشّاطرة والشّطّار كثيرا؛ وهي من الألفاظ التي ابتذلها العامة حتى سئمت من ابتذالها. وهذه الأمثلة تمنع الواقف عليها من استعمال أشباهها وأمثالها. ومن أوصاف الكلمة ألّا تكون مشتركة بين معنيين: أحدهما: يكره ذكره وإذا وردت وهي غير مقصود بها ذلك المعنى قبحت، وذلك إذا كانت مهملة بغير قرينة تميز معناها عن القبح، فأما إذا جاءت ومعها قرينة فإنها لا تكون معيبة، كقوله تعالى: فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ألا ترى أن لفظة التعزير مشتركة تطلق على التعظيم والإكرام وعلى الضرب الذي هو دون الحد، وذلك نوع من الهوان، وهما معنيان ضدان، فحيث وردت في هذه الآية جاء معها قرائن من قبلها ومن بعدها فخصت معناها بالحسن؛ وميزته عن القبيح، ولو وردت مهملة بغير قرينة وأريد بها المعنى الحسن لسبق إلى الوهم ما اشتملت عليه من المعنى القبيح. مثال ذلك لو قال قائل: لقيت فلانا فعزرته، لسبق إلى الفهم أنه ضربه وأهانه، ولو قال: لقيت فلانا فأكرمته وعزرته، لزال ذلك اللبس. واعلم أنه قد جاء من الكلام ما معه قرينة فأوجب قبحه، ولو لم تجيء معه لما استقبح، كقول الشريف الرضي «1» :

أعزر عليّ بأن أراك وقد خلا ... عن جانبيك مقاعد العوّاد «1» وقد ذكر ابن سنان الخفاجي هذا البيت «2» في كتابه فقال: إن إيراد هذه اللفظة في هذا الموضع صحيح، إلا أنه موافق لما يكره ذكره في مثل هذا الشعر، لا سيما وقد أضافه إلى من يحتمل إضافته إليه، وهم العواد، ولو انفرد لكان الأمر فيه سهلا، فأما الإضافة إلى من ذكره ففيها قبح لا خفاء به؛ هذا حكاية كلامه، وهو مرضيّ واقع في موقعه، ولنذكر نحن ما عندنا في ذلك فنقول: قد جاءت هذه اللفظة المعيبة في الشعر في القرآن الكريم، فجاءت حسنة مرضية، وهي قوله تعالى: وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال وكذلك قوله تعالى: وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا. وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا ألا ترى أنها في هاتين الآيتين غير مضافة إلى من تقبح إضافته إليه كما جاءت في الشعر، ولو قال الشاعر بدلا من مقاعد العوّاد: مقاعد الزيارة، أو ما جرى مجراه؛ لذهب ذلك القبح، وزالت تلك الهجنة، ولهذا جاءت هذه اللفظة في الآيتين على ما تراه من الحسن، وجاءت على ما تراه من القبح في قول الشريف الرضي. وعلى هذا ورد قول تأبط شرا «3» : أقول للحيان وقد صفرت لهم ... وطابي ويومي ضيّق الجحر معور «4» فإنه أضاف الجحر إلى اليوم فأزال عنه هجنة الاشتباه، لأن الجحر يطلق على

كل ثقب كثقب الحية واليربوع، وعلى المحل المخصوص من الحيوان، فإذا ورد مهملا بغير قرينة تخصصه سبق إلى الوهم ما يقبح ذكره؛ لاشتهاره به دون غيره، ومن ههنا ورد قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «المؤمن لا يلسع من جحر مرّتين» وحيث قال: «يلسع» زال اللبس؛ لأن اللّسع لا يكون إلا للحية وغيرها من ذوات السموم. وأما ما ورد مهملا بغير قرينة فقول أبي تمام «1» : أعطيت لي دية القتيل وليس لي ... عقل ولا حقّ عليك قديم» فقوله: «ليس لي عقل» يظن أنه من عقل الشيء إذا علمه، ولو قال ليس لي عليك عقل لزال اللبس. فيجب إذا على صاحب هذه الصناعة أن يراعي في كلامه مثل هذا الموضع، وهو من جملة الألفاظ المشتركة التي يحتاج في إيرادها إلى قرينة تخصصها ضرورة. ومن أوصاف الكلمة أن تكون مؤلفة من أقل الأوزان تركيبا، وهذا مما ذكره ابن سنان في كتابه «3» ، ثم مثله بقول أبي الطيب المتنبي «4» : إنّ الكرام بلا كرام منهم ... مثل القلوب بلا سويداواتها «5»

وقال: إن لفظة «سويداواتها» طويلة، فلهذا قبحت؛ وليس الأمر كما ذكره، فإن قبح هذه اللفظة لم يكن بسبب طولها، وإنما هو لأنها في نفسها قبيحة، وقد كانت وهي مفردة حسنة، فلما جمعت قبحت، لا بسبب الطول، والدليل على ذلك أنه قد ورد في القرآن الكريم ألفاظ طوال، وهي مع ذلك حسنة، كقوله تعالى: فسيكفيكهم الله فإن هذه اللفظة تسعة أحرف، وكقوله تعالى: ليستخلفنهم في الأرض فإن هذه اللفظة عشرة أحرف، وكلتاهما حسنة رائقة، ولو كان الطول مما يوجب قبحا لقبحت هاتان اللفظتان، وليس كذلك، ألا ترى أنه لو أسقط من لفظة «سويداواتها» الهاء والألف اللتين هما عوض عن الإضافة لبقي منها ثمانية أحرف، ومع هذا فإنها قبيحة ولفظة (ليستخلفنّهم) عشرة أحرف، وهي أطول منها بحرفين؛ ومع هذا فإنها حسنة رائقة. والأصل في هذا الباب ما أذكره، وهو أن الأصول من الألفاظ لا تحسن إلا في الثلاثي وفي بعض الرباعي، كقولنا: عذب وعسجد، فإن هاتين اللفظتين إحداهما ثلاثية والأخرى رباعية، وأما الخماسي من الأصول فإنه قبيح، ولا يكاد يوجد منه شيء حسن، كقولنا: جحمرش «1» وصهصلق «2» وما جرى مجراهما، وكان ينبغي على ما ذكره ابن سنان أن تكون هاتان اللفظتان حسنتين واللفظتان الواردتان في القرآن قبيحتين؛ لأن تلك تسعة أحرف وعشرة وهاتان خمسة وخمسة، ونرى الأمر بالضد مما ذكره، وهذا لا يعتبر فيه طول ولا قصر، وإنما يعتبر نظم تأليف الحروف بعضها مع بعض، وقد تقدم الكلام على ذلك، ولهذا لا يوجد في القرآن من الخماسي الأصول شيء، إلا ما كان من اسم نبي عرّب اسمه ولم يكن في الأصل عربيا نحو إبراهيم وإسمعيل. ومما يدخل في هذا الباب أن تجتنب الألفاظ المؤلفة من حروف يثقل النطق بها، سواء كانت طويلة أو قصيرة، ومثال ذلك قول امرئ القيس في قصيدته اللامية التي هي من جملة القصائد السبع الطوال:

غدائره مستشزرات إلى العلا ... تضلّ المدارى في مثنّى ومرسل «1» فلفظة «مستشزرات» مما يقبح استعمالها؛ لأنها تثقل على اللسان ويشق النطق بها، وإن لم تكن طويلة؛ لأنا لو قلنا «مستنكرات» أو «مستنفرات» على وزن «مستشزرات» لما كان في هاتين اللفظتين من ثقل ولا كراهة. ولربما اعترض بعض الجهال في هذا الموضع، وقال: إن كراهة هذه اللفظة إنما هو لطولها، وليس الأمر كذلك؛ فإنا لو حذفنا منها الألف والتاء وقلنا: «مستشزر» لكان ذلك ثقيلا أيضا، وسببه أن الشين قبلها تاء، وبعدها زاي، فثقل النطق بها، وإلا فلو جعلنا عوضا من الزاي راء ومن الراء فاء، فقلنا: «مستشرف» لزال ذلك الثقل. ولقد رآني بعض الناس وأنا أعيب على امرئ القيس هذه اللفظة المشار إليها، فأكبر ذلك؛ لوقوفه مع شهرة التقليد في أن امرئ القيس أشعر الشعراء، فعجبت من ارتباطه بمثل هذه الشبهة الضعيفة، وقلت له: لا يمنع إحسان امرئ

القيس من استقباح ما له من القبح، ومثال هذا كمثال غزال المسك فإنه يخرج منه المسك والبعر، ولا يمنع طيب ما يخرج من مسكه من خبث ما يخرج من بعره، ولا تكون لذاذة ذلك الطيب حامية للخبث من الاستكراه، فأسكت الرجل عند ذلك. وحضر عندي في بعض الأيام رجل من اليهود، وكنت إذ ذاك بالديار المصرية، وكان لليهود في هذا الرجل اعتقاد؛ لمكان علمه في دينهم وغيره، وكان لعمري كذلك، فجرى ذكر اللغات، وأن اللغة العربية هي سيدة اللغات، وأنها أشرفهن مكانا، وأحسنهن وضعا؛ فقال ذلك الرجل: كيف لا تكون كذلك، وقد جاءت آخرا فنفت القبيح من اللغات قبلها وأخذت الحسن؟ ثم إن واضعها تصرّف في جميع اللغات السالفة؛ فاختصر ما اختصر، وخفف ما خفف، فمن ذلك اسم الجمل؛ فإنه عندنا في اللسان العبراني «كوميل» ممالا على وزن فوعيل، فجاء واضع اللغة العربية وحذف منها الثقيل المستبشع، وقال: جمل، فصار خفيفا حسنا، وكذلك فعل في كذا وكذا، وذكر أشياء كثيرة، ولقد صدق في الذي ذكره؛ وهو كلام عالم به. ومن أوصاف الكلمة أن تكون مبنيّة من حركات خفيفة، ليخف النطق بها، وهذا الوصف يترتب على ما قبله من تأليف الكلمة، ولهذا إذا توالى حركتان خفيفتان في كلمة واحدة لم تستثقل، وبخلاف ذلك الحركات الثقيلة، فإنه إذا توالى منها حركتان في كلمة واحدة استثقلت، ومن أجل ذلك استثقلت الضمة على الواو والكسرة على الياء؛ لأن الضمة من جنس الواو، والكسرة من جنس الياء، فتكون عند ذلك كأنها حركتان ثقيلتان. ولنمثل لك مثالا لتهتدي به في هذا الموضع، وهو أنا نقول: إذا أتينا بلفظة مؤلفة من ثلاثة أحرف، وهي «ج ز ع» فإذا جعلنا الجيم مفتوحة فقلنا: الجزع أو مكسورة فقلنا: الجزع كان ذلك أحسن من أن لو جعلنا الجيم مضمومة فقلنا: الجزع، وكذلك إذا والينا حركة الفتح فقلنا: الجزع كان ذلك أحسن من موالاة حركة الضم عند قولنا: الجزع، ومن المعلوم أن هذه اللفظة لم يكن اختلاف حركاتها مغيّرا لمخارج حروفها، حتى ينسب ذلك إلى اختلاف تأليف المخارج، بل

القسم الثاني: الألفاظ المركبة:

وجدناها تارة تكتسى حسنا، وتارة يسلب ذلك الحسن عنها، فعلمنا أن ذلك حادث عن اختلاف تأليف حركاتها. واعلم أنه قد توالت حركة الضم في بعض الألفاظ، ولم يحدث فيها كراهة ولا ثقلا، كقوله تعالى: ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر وكقوله تعالى: إن المجرمين في ضلال وسعر وكقوله تعالى: وكل شيء فعلوه في الزبر فحركة الضم في هذه الألفاظ متوالية، وليس بها من ثقل ولا كراهة، وكذلك ورد قول أبي تمام «1» : نفس يحتثّه نفس ... ودموع ليس تحتبس ومغان للكرى دثر ... عطل من عهده درس شهرت ما كنت أكتمه ... ناطقات بالهوى خرس فانظر كيف جاءت هذه الألفاظ الأربعة مضمومات كلها، وهي مع ذلك حسنة لا ثقل بها، ولا ينبو السمع عنها. وهذا لا ينقض ما أشرنا إليه؛ لأن الغالب أن يكون توالي حركة الضم مستثقلا، فإذا شذ عن ذلك شيء يسير لا ينقض الأصل المقيس عليه. القسم الثاني: الألفاظ المركبة: قد قدّمنا القول في شرح أحوال اللفظ المفردة، وما يختص بها، وأما إذا صارت مركبة فإن لتركيبها حكما آخر؛ وذاك أنه يحدث عنه من فوائد التأليفات والامتزاجات ما يخيل للسامع أن هذه الألفاظ ليست تلك التي كانت مفردة، ومثال ذلك كمن أخذ لآلىء ليست من ذوات القيم الغالية فألّفها، وأحسن الوضع في تأليفها؛ فخيل للناظر بحسن تأليفه وإتقان صنعته أنها ليست تلك التي كانت منثورة مبدّدة، وفي عكس ذلك من يأخذ لآلىء من ذوات القيم الغالية فيفسد تأليفها؛ فإنه يضع من حسنها، وكذلك يجري حكم الألفاظ العالية مع فساد التأليف؛ وهذا موضع شريف ينبغي الالتفات إليه، والعناية به.

النوع الأول: السجع؛

واعلم أن صناعة تأليف الألفاظ تنقسم إلى ثمانية أنواع؛ هي السجع: ويختص بالكلام المنثور، والتصريع، ويختص بالكلام المنظوم، وهو داخل في باب السجع؛ لأنه في الكلام المنظوم كالسجع في الكلام المنثور، والتجنيس، وهو يعم القسمين جميعا، والترصيع، وهو يعم القسمين أيضا جميعا، ولزوم ما لا يلزم، وهو يعم القسمين أيضا، والموازنة، وتختص بالكلام المنثور، واختلاف صيغ الألفاظ، وهو يعم القسمين جميعا، وتكرير الحروف، وهو يعم القسمين جميعا. النوع الأول: السجع؛ وحدّه أن يقال: تواطؤ الفواصل في الكلام المنثور على حرف واحد. وقد ذمه بعض أصحابنا من أرباب هذه الصناعة، ولا أرى ذلك وجها سوى عجزهم أن يأتوا به، وإلا فلو كان مذموما لما ورد في القرآن الكريم؛ فإنه قد أتى منه بالكثير، حتى إنه ليؤتي بالسورة جميعها مسجوعة، كسورة الرحمن، وسورة القمر، وغيرهما، وبالجملة فلم تخل منه سورة من السور؛ فمن ذلك قوله تعالى: إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا، خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا وكقوله تعالى في سورة طه: طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى، إلا تذكرة لمن يخشى، تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلى، الرحمن على العرش استوى، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى، الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى وكذلك قوله تعالى في سورة ق: بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج، أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج، والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج وكقوله تعالى: والعاديات ضبحا، فالموريات قدحا، فالمغيرات صبحا، فأثرن به نقعا، فوسطن به جمعا وأمثال ذلك كثيرة. وقد ورد على هذا الأسلوب من كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم شيء كثير أيضا: فمن ذلك ما رواه ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:

«استحيوا من الله حقّ الحياء» قلنا: إنا لنستحيي من الله يا رسول الله، قال: «ليس ذلك، ولكن الاستحياء من الله أن تحفظ الرّأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدّنيا» . ومن ذلك ما رواه عبد الله بن سلام فقال: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجئت في الناس لأنظر إليه، فلما تبيّنت وجهه علمت أنه ليس بوجه كذّاب، فكان أول شيء تكلم به أن قال: «أيّها النّاس، أفشوا السّلام، وأطعموا الطّعام، وصلّوا باللّيل والنّاس نيام، تدخلوا الجنّة بسلام» . فإن قيل: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لبعضهم منكرا عليه وقد كلمه بكلام مسجوع: «أسجعا كسجع الكهّان» ولولا أن السجع مكروه لما أنكره النبي صلّى الله عليه وسلّم. فالجواب عن ذلك أنا نقول: لو كره النبي صلّى الله عليه وسلّم السجع مطلقا لقال: «أسجعا» ثم سكت، وكان المعنى يدل على إنكار هذا الفعل لم كان، فلما قال: «أسجعا كسجع الكهان» صار المعنى معلقا على أمر، وهو إنكار الفعل لم كان على هذا الوجه، فعلم أنه إنما ذم من السجع ما كان مثل سجع الكهان، لا غير، وأنه لم يذم السجع على الإطلاق، وقد ورد في القرآن الكريم، وهو صلّى الله عليه وسلّم قد نطق به في كثير من كلامه، حتى إنه غيّر الكلمة عن وجهها إتباعا لها بأخواتها من أجل السجع، فقال لابن ابنته عليهما السلام: «أعيذه من الهامّة، والسّامّة، وكلّ عين لامّة» وإنما أراد ملمة، لأن الأصل فيها من ألمّ فهو ملم، وكذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ارجعن مأزورات غير مأجورات» وإنما أراد موزورات من الوزر، فقال: «مأزورات» لمكان مأجورات، طلبا للتوازن والسجع، وهذا مما يدلك على فضيلة السجع. على أن هذا الحديث النبوي الذي يتضمن إنكار سجع الكهان عندي فيه نظر؛ فإن الوهم يسبق إلى إنكاره، يقال: فما سجع الكهّان الذي يتعلق الإنكار به ونهى عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ والجواب عن ذلك: أن النهي لم يكن عن السجع نفسه، وإنما النهي عن حكم الكاهن الوارد باللفظ المسجوع؛ ألا ترى أنه لما أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الجنين بغرة عبد أو أمة قال الرجل: «أأدي من لا شرب ولا

أكل، ولا نطق ولا استهلّ، ومثل ذلك يطلّ» فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أسجعا كسجع الكهّان» أي: أتتّبع سجعا كسجع الكهان «1» . وكذلك كان الكهنة كلهم؛ فإنهم كانوا إذا سئلوا عن أمر جاءوا بالكلام مسجوعا، كما فعل الكاهن في قصة هند بنت عتبة، فإنه قال لما امتحن قبل السؤال عن قصتها: «ثمرة في كمرة» فقيل له: نريد أبين من هذا؟ فقال: «حبّة برّ في إحليل مهو» والحكاية مشهورة، فلهذا اختصرناها ههنا. وكذلك قال سطيح؛ فإنه قال: عبد المسيح، جاء إلى سطيح، وهو موف على الضريح، لرؤيا الموبذان، وارتجاس الإيوان، وأتم الكلام إلى آخره مسجوعا؛ والحكاية مشهورة أيضا فلهذا اختصرناها. فالسجع إذا ليس بمنهي عنه، وإنما المنهيّ عنه هو الحكم المتبوع في قول الكاهن؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أسجعا كسجع الكهّان» أي: أحكما كحكم الكهان، وإلا فالسجع الذي أتى به ذلك الرجل لا بأس به؛ لأنه قال: «أأدي من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهلّ، ومثل ذلك يطل» وهذا كلام حسن من حيث السجع، وليس بمنكر لنفسه؛ وإنما المنكر هو الحكم الذي تضمنه في امتناع الكاهن أن يدي الجنين بغرة عبد أو أمة. واعلم أن الأصل في السجع إنما هو الاعتدال في مقاطع الكلام؛ والاعتدال مطلوب في جميع الأشياء، والنفس تميل إليه بالطبع، ومع هذا فليس الوقوف في السجع عند الاعتدال فقط، ولا عند تواطؤ الفواصل على حرف واحد؛ إذ لو كان ذلك هو المراد من السجع لكان كل أديب من الأدباء سجّاعا، وما من أحد منهم ولو شدا شيئا يسيرا من الأدب إلا ويمكنه أن يؤلف ألفاظا مسجوعة، ويأتي بها في كلامه، بل ينبغي أن تكون الألفاظ المسجوعة حلوة حادة طنّانة رنّانة، لا غثّة ولا باردة، وأعني بقولي غثة باردة أنّ صاحبها يصرف نظره إلى السجع نفسه من غير نظر إلى مفردات الألفاظ المسجوعة، وما يشترط لها من الحسن، ولا إلى تركيبها وما

يشترط له من الحسن، وهو في الذي يأتي به من الألفاظ المسجوعة كمن ينقش أثوابا من الكرسف «1» ، أو ينظم عقدا من الخزف الملوّن. وهذا مقام تزلّ عنه الأقدام، ولا يستطيعه إلا الواحد من أرباب هذا الفن بعد الواحد، ومن أجل ذلك كان أربابه قليلا. فإذا صفي الكلام المسجوع من الغثاثة والبرد فإن وراء ذلك مطلوبا آخر، وهو أن يكون اللفظ فيه تابعا للمعنى، لا أن يكون المعنى فيه تابعا للفظ؛ فإنه يجيء عند ذلك كظاهر مموّه، على باطن مشوّه، ويكون مثله كغمد من ذهب، على نصل من خشب، وكذلك يجري الحكم في الأنواع الباقية الآتي ذكرها من التجنيس والترصيع وغيرهما. وسأبين لك في هذا مثالا تتبعه؛ فأقول: إذا صوّرت في نفسك معنى من المعاني، ثم أردت أن تصوغه بلفظ مسجوع ولم يؤاتك ذلك إلا بزيادة في ذلك اللفظ أو نقصان منه، ولا يكون محتاجا إلى الزيادة ولا إلى النقصان، إنما تفعل ذلك لأن المعنى الذي قصدته يحتاج إلى لفظ يدل عليه، وإذا دللت عليه بذلك اللفظ لا يكون مسجوعا إلا أن تضيف إليه شيئا آخر أو تنقص منه، فإذا فعلت ذلك فإنه هو الذي يذمّ من السجع ويستقبح؛ لما فيه من التكلف والتعسف، وأما إذا كان محمولا على الطبع غير متكلّف فإنه يجيء في غاية الحسن، وهو أعلى درجات الكلام، وإذا تهيّأ للكتاب أن يأتي به في كتابته كلها على هذه الشريطة فإنه يكون قد ملك رقاب الكلم: يستعبد كرائمها، ويستولد عقائمها، وفي مثل ذلك فليتنافس، وعن مقامه فليقاعس، ولصاحبه أولى بقول أبي الطيب المتنبي «2» : أنت الوحيد إذا ركبت طريقة ... ومن الرّديف وقد ركبت غضنفرا؟ «3»

فإن قيل: فإذا كان السجع أعلى درجات الكلام على ما ذهبت إليه، فكان ينبغي أن يأتي القرآن كله مسجوعا؟ وليس الأمر كذلك، بل منه المسجوع ومنه غير المسجوع. قلت في الجواب: إن أكثر القرآن مسجوع، حتى إن السورة لتأتي جميعها مسجوعة، وما منع أن يأتي القرآن كله مسجوعا إلا أنه سلك [به] مسلك الإيجاز والاختصار، والسجع لا يؤاتي في كل موضع من الكلام على حد الإيجاز والاختصار، فترك استعماله في جميع القرآن لهذا السبب. وههنا وجه آخر هو أقوى من الأول، ولذلك ثبت أن المسجوع من الكلام أفضل من غير المسجوع، وإنما تضمن القرآن غير المسجوع لأن ورود غير المسجوع معجزا أبلغ في باب الإعجاز من ورود المسجوع، ومن أجل ذلك تضمن القرآن القسمين جميعا. واعلم أن للسجع سرا هو خلاصته المطلوبة فإن عري الكلام المسجوع منه فلا يعتدّ به أصلا، وهذا شيء لم ينبه عليه أحد غيري، وسأبينه ههنا، وأقول فيه قولا هو أبين مما تقدم، وأمثّل لك مثالا إذا حذوته أمنت الطاعن، والعائب، وقيل في كلامك: ليبلّغ الشاهد الغائب، والذي أقوله في ذلك هو أن تكون كل واحدة من السجعتين المزدوجتين مشتملة على معنى غير المعنى الذي اشتملت عليه أختها، فإن كان المعنى فيهما سواء فذاك هو التطويل بعينه؛ لأن التطويل إنما هو الدلالة على المعنى بألفاظ يمكن الدلالة عليه بدونها، وإذا وردت سجعتان يدلّان على معنى واحد كانت إحداهما كافية في الدلالة عليه، وجلّ كلام الناس المسجوع جار عليه، وإذا تأملت كتابة المفلقين ممن تقدم كالصّابي وابن العميد وابن عبّاد وفلان وفلان فإنك ترى أكثر المسجوع منه كذلك، والأقلّ منه على ما أشرت إليه. ولقد تصفحت المقامات الحريرية والخطب النّباتية، على غرام الناس بهما، وإكبابهم عليهما، فوجدت الأكثر من السجع فيهما على الأسلوب الذي أنكرته. فالكلام المسجوع إذا يحتاج إلى أربع شرائط: الأولى: اختيار مفردات الألفاظ على الوجه الذي أشرت إليه فما تقدم، الثانية: اختيار التركيب على الوجه

الذي أشرت إليه أيضا فيما تقدم، الثالثة: أن يكون اللفظ في الكلام المسجوع تابعا للمعنى، لا المعنى تابعا للفظ، الرابعة: أن تكون كل واحدة من الفقرتين المسجوعتين دالة على معنى غير المعنى الذي دلّت عليه أختها؛ فهذه أربع شرائط لابد منها. وسأورد ههنا من كلامي أمثلة تحذي حذوها، فإني لما سلكت هذه الطريق وأتيت بكلامي مسجوعا توخّيت أن تكون كل سجعة منه مختصة بمعنى غير المعنى الذي تضمنته أختها، ولم أخلّ بذلك في مكاتباتي كلها، وإذا تأملتها علمت صحة ما قد ذكرته. فمن ذلك ما كتبته في صدر كتاب عن بعض الملوك إلى دار الخلافة، وهو: الخادم واقف موقف راج هائب، لازم بكتابه هذا وقار حاضر عن شخص غائب، موجّه وجهه إلى ذلك الجناب الذي تقسم فيه أرزاق العباد، ويتأدب به الزمان تأدّب ذوي الاستعباد، وتستمد الملوك من خدمته شرف الجدود كما تستغني بنسبها إليه عن شرف الأجداد، ولو ملك الخادم نفسه لقصرها على خدمة قصره، وأحظاها من النظر إليه ببرد العيش الذي عمرها محسوب من عمره، وهذا القول يقوله وكل ما جد فيه حاسد، وبتأميله راكع ساجد، والديوان العزيز محسود الاقتراب، وهو موطن الرغبات الذي الاغتراب إليه ليس بالاغتراب، وما ينافس في القرب من أبوابه الكريمة إلا ذوو الهمم الكريمة، وقد ودّت الكواكب بأسرها أن تكون له منادمة فضلا عن ندماني جذيمة. ومن ذلك ما كتبته من كتاب يتضمن العناية ببعض الناس، وهو: الكريم من أوجب لسائله حقّا، وجعل كواذب آماله صدقا؛ وكان خرق العطايا منه خلقا، ولم ير بين ذممه وبين رحمه فرقا، وكل ذلك موجود في كرم مولانا أجراه الله من فضله على وتيرة، وجعل هممه على تمام كل نقص قديرة، وأوطأه من كل مجد سريرا كما بؤأه من كل قلب سريرة، ولا زالت يده بالمكارم جديرة، ومن الأيام مجيرة، ولضرائرها من البحار والسحاب معيرة، ولا برحت تستولد عقائم المعاني وتستجد أبنيتها حتى يشهد الناس منها في كل يوم عقيقة أو وكيرة، ومن صفات كرمه أنه

يسبك الأموال مآثر، ويتّخذها عند السؤال ذخائر، فهي تفنى لديهم بالإنفاق، وذكرها على مرور الأيام باق، ومن أربح منه صفقة وقد باع صامتا بناطق، وما هو معرّض لحوادث السرقات بما لا تصل إليه يد سارق، ومثله من عرف الدنيا فرغب عن اقتنائها، وجدّ في ابتناء المحامد بهدم بنائها، وعلم أن مالها ليس عند الضنين به إلا أحجارا، وأن غناه منها لا يزيده إلا افتقارا؛ فهو لماله عبد يخدمه ولا يستخدمه، وأم ترضعه بسعيها ولا تفطمه. ومنه ما كتبته في جواب كتاب يتضمن إباق غلام، وهو أول كتاب ورد من المكتوب عنه إلى المكتوب إليه؛ فقلت: وأما الإشارة الكريمة في أمر الغلام الآبق عن الخدمة فقد يفرّ المهر من عليقه، ويطير الفراش إلى حريقه، وغير بعيد أن ينبو مضجعه، أو يكبو به مطمعه، فيرجع وقد حمد من رجوعه ما ذمه من ذهابه، وعلم أن الغنيمة كل الغنيمة في إيابه، فما كل شجرة تحلو لذائقها، ولا كل دار ترحّب بطارقها، ومن أبق عن مولاه مغاضبا، وجانب محلّ إحسانه الذي لم يكن مجانبا، فإنه يجد من مفارقة الإحسان، ما يجده من مفارقة معاهد الأوطان، وهل أضلّ سعيا ممّن دفع في صدر العافية وغدا يسأل عن الأسقام، وألقى الثروة من يده ومضى في طلب الإعدام، ومع هذا فإن الخادم يشكره على ذنب الإباق الذي أقدم على اجتراحه، وليس ذلك إلا لأنه صار سببا لافتتاح باب المكاتبة الذي لم يطمع في افتتاحه، ولا جزاء له عنده إلا السعي في إعادته إلى الخدمة التي تقلب في إنشائها، وهي أبرّ به من أمّه التي تقلب في أحشائها، ومن فضلها أنها تلقاه من حلمها بوسيلة الشافع، ومن كرمها بالوجه الضاحك والفضل الواسع. فانظر أيها المتأمل إلى هذه الأسجاع جميعها وأعطها حقّ النظر حتى تعلم أن كل واحدة منها تختص بمعنى ليس في أختها التي تليها، وكذلك فليكن السجع، وإلا فلا. وسأورد ههنا من كلام الصابي ما ستراه: فمن ذلك تحميد في كتاب؛ فقال: «الحمد لله الذي لا تدركه الأعين

بألحاظها، ولا تحدّه الألسن بألفاظها، ولا تخلقه العصور بمرورها، ولا تهرمه الدهور بكرورها» . ثم أنتهى إلى الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ فقال: «لم ير للكفر أثرا إلا طمسه ومحاه، ولا رسما إلا أزاله وعفّاه» . ولا فرق بين مرور العصور وكرور الدهور، وكذلك لا فرق بين محو الأثر وعفاء الرسم. ومن كلامه أيضا في كتاب، وهو: «وقد علمت أنّ الدولة العباسية لم تزل على سالف الأيام، وتعاقب الأعوام «1» ، تعتلّ طورا وتصحّ أطوارا، وتلتاث مرة وتستقل مرارا، من حيث أصلها راسخ لا يتزعزع، وبنيانها ثابت لا يتضعضع» . وهذه الأسجاع كلها متساوية المعاني، فإن الاعتدال والالتياث والطّور والمرّة والرّسوخ والثّبات، كلّ ذلك سواء. وكذلك ورد له في جملة كتاب كتبه عن عز الدولة بن بويه جوابا عن كتاب وصله من الأمير عبد الكريم بن المطيع لله، فقال: «وصلني كتابه مفتتحا من الاعتزاء إلى إمارة المؤمنين، والتقلد لأمور المسلمين، بما أعراقه الزكية مجوّزة لاستمراره، وأرومته العلية مسوّغة لاستقراره، له ولكل نجيب أخذ بحظه من نسبه، وضارب بسهم في منصبه؛ إذ كان ذلك جاريا على الأصول المعهودة فيه، والأسباب العاقدة له، من إجماع المؤمنين كافة، فإن تعذر اجتماعهم مع انبساطهم في الأرض، وانتشارهم في الطول والعرض؛ فلا بد من اتفاق أشراف كل قطر وأفاضله، وأعيان كل صقع وأماثله» . وهذا الكلام كله متماثل المعاني في أسجاعه، فإن إمارة المؤمنين والتقلّد لأمور المسلمين سواء في المعنى، وكذلك الأعراق والأرومة، والتجويز والتسويغ، والأشراف والأفاضل، والأعيان والأماثل، والقطر والصّقع، كل ذلك سواء.

وعلى هذا جاء كلامه في كتاب آخر، فقال: «يسافر رأيه وهو دان لم ينزح، ويسير تدبيره وهو ثاو لم يبرح» . وكلا هذين سواء أيضا. وما أحسن هذا المعنى لو قال: يسافر رأيه وهو دان لم يبرح، ويثخن الجراح في عدوه وسيفه في الغمد لم يجرح؛ فإنه لو قال مثل هذا سلم من هجنة التكرار. وأمثال ذلك في كلام الصابي كثير. وعلى منواله نسج الصاحب ابن عبّاد. فمن ذلك ما ذكره في وصف مهزومين، فقال: «طاروا واقين بظهورهم صدورهم، وبأصلابهم نحورهم» «1» وكلا المعنيين سواء. وكذلك قوله في هذا الكتاب يصف ضيق مجال الحرب: «مكان ضنك على الفارس والراجل، ضيّق على الرّامح والنّابل» . ومن كلامه في كتاب، وهو: «لا تتوجه همّته إلى أعظم مرقوب إلا طاع ودان، ولا تمتد عزيمته إلى أفخم مطلوب إلا كان واستكان» . وكل هذا الذي ذكره شيء واحد. وله من كتاب، وهو: «وصل كتابه جامعا من الفوائد أشدّهما للشكر استحقاقا، وأتمها للحمد استغراقا، وتعرّفت من إحسان الله فيما وفره من سلامته، وهنأه من كرامته، أنفس موهوب ومطلوب، وأحمد مرقوب ومخطوب» . وهذا كله متماثل المعاني، متشابه الألفاظ. وفيما أوردته ههنا مقنع؛ فأنعم نظرك أيها الواقف على هذا الكتاب فيما بينته لك، ووضعت يدك عليه، حتى تعلم كيف تأتي بالمعاني في الألفاظ المسجوعة، والله الموفق للصواب. فإن قيل: إنك اشترطت أن تكون كل واحدة من الفقرتين في الكلام المسجوع دالة على معنى غير المعنى الذي دلت عليه أختها، وإنما اشترطت هذه

الشريطة فرارا من أن يكون المعنيان شيئا واحدا، ونرى قد ورد في القرآن الكريم لفظتان بمعنى واحد في آخر إحدى الفقرتين المسجوعتين، كقوله تعالى: واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا» وكل رسول نبي. قلت في الجواب: ليس هذا كالذي اشترطته أنا في اختصاص كل فقرة بمعنى غير المعنى الذي اختصت به أختها، وإنما هذا هو إيراد لفظتين في آخر إحدى الفقرتين بمعنى واحد، وهذا لا بأس به؛ لمكان طلب السجع، ألا ترى أن أكثر هذه السورة التي هي سورة مريم عليها السلام مسجوعة على حرف الياء، وهذا يجوز لصاحب السجع أن يأتي به، وهو بخلاف ما ذكرته أنا؛ ألا ترى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد غيّر اللفظة عن وضعها طلبا للسجع، فقال: «مأزورات» وإنما هي موزورات، وقال: «العين اللّامّة» وإنما هي الملمّة، إلا أنه ليس في ذلك زيادة معنى، بل يفهم من لفظة مأزورات أنها قائمة موزورات، وكذلك يفهم من لفظة لامّة أنها بمعنى ملمّة؛ فالسجع قد أجيز معه تغيير وضع اللفظة، وأجيز معه أن يورد لفظتان بمعنى واحد في آخر إحدى الفقرتين، ومع هذا فلم يجز في استعماله أن يورد فقرتان بمعنى واحد؛ لأنه تطويل محض لا فائدة فيه، وبين الذي ذكرته أنت وبين الذي ذكرته أنا فرق ظاهر. والذي قدمت من الأمثلة المسجوعة للصابي والصاحب ابن عباد ربما كانت يسيرة أتّهم فيها بالتعصب، ويقال: إني التقطتها التقاطا من جملة رسائلهما، وقد خرجت من عهدة هذه التهمة، وذاك أني وجدت للصابي تقليدا بنقابة الأشراف العلويين ببغداد، وكنت أنشأت تقليدا بنقابة الأشراف العلويين بالموصل؛ وقد أوردت التقليدين ههنا؛ ليتأملهما الناظر في كتابي هذا، ويحكم بينهما إن كان عارفا أو يسأل عنهما العارف إن كان مقلّدا. وقد أوردت تقليد الصابي أولا؛ لأنه المقدم زمانا وفضلا، وهو: «هذا ما عهد أمير المؤمنين إلى محمد بن الحسين بن موسى العلويّ، الموسوي، حين وصلته به الأنساب، وتأكّدت له الأسباب، وظهرت دلائل عقله ولبابته، ووضحت مخايل فضله ونجابته، ومهد له بهاء الدولة وضياء الملة أبو نصر بن عضد الدولة وتاج

الملة مولى أمير المؤمنين ما مكن له عند أمير المؤمنين من المحل المكين، ووصفه به من الحلم الرّزين، وأشاد به فيه من رفع المنزلة، وتقديم المرتبة، والتأهيل لولاية الأعمال، والحمل للأعباء الثّقال، وحيث رغبه فيه، سابقة الحسين أبيه، في الخدمة والنصيحة والمواقف المحمودة، والمقامات المشهودة، التي طابت بها أخباره، وحسنت فيها آثاره، وكان محمد متخلقا بخلائقه، وذاهبا في طرائقه، علما وديانة، وورعا وصيانة، وعفّة وأمانة، وشهامة وصرامة، بالحظ الجزيل، من الفضل الجميل، والأدب الجزل، والتوجّه في الأهل، والإيفاء بالمناقب على لداته وأترابه، والإبرار على قرائبه وأضرابه، فقلّده ما كان داخلا في أعمال أبيه من نقابة نقباء الطالبين أجمعين بمدينة السلام وسائر الأعمال والأمصار شرقا وغربا، وبعدا وقربا، واختصه ذلك جذبا بصنعه «1» ، وإنافة بقدره، وقضاء لحق رحمه، وترفيها لأبيه، وإسعافا بإيثاره فيه، إلى أمير المؤمنين واستخلافه عليه من النظر في المظالم، وتسيير الحجيج في المواسم، والله يعقب أمير المؤمنين فيما أمر ودبّر حسن العاقبة فيما قضى وأمضى، وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكل وإليه ينيب. أمره بتقوى الله التي هي شعار المؤمنين، وسنا الصالحين، وعصمة عباد الله أجمعين، وأن يعتقدها سرا وجهرا، ويعتمدها قولا وفعلا، ويأخذ بها ويعطي، ويسرّ بها وينوي، ويأتي ويذر، ويورد ويصدر؛ فإنها السّبب المتين، والمعقل الحصين، والزاد النافع يوم الحساب، والمسلك المفضي إلى دار الثواب، وقد حضّ الله أولياءه عليها، وهداهم في محكم كتابه إليها، فقال عزّ من قائل: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين. وأمره بتلاوة كتاب الله مواظبا، وتصفّحه مداوما ملازما، والرجوع إلى أحكامه فيما أحل وحرّم، ونقض وأبرم، وأثاب وعاقب، وباعد وقارب، فقد صحح الله برهانه وحجته، وأوضح منهاجه ومحجّته، وجعله نجما في الظلمات طالعا، ونورا في المشكلات ساطعا، فمن أخذ به نجا وسلم، ومن عدل عنه هوى وندم،

قال الله تعالى: وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. وأمره بتنزيه نفسه عما تدعو إليه الشبهات، وتطلع إليه التّبعات، وأن يضبطها ضبط الحليم، ويكفّها كفّ الحكيم، ويجعل عقله سلطانا عليها، وتمييزه آمرا ناهيا لها، ولا يجعل لها عذرا إلى صبوة، ولا هفوة، ولا يطلق منها عنانا عند ثورة، لا فورة، فإنها أمّارة بالسّوء، منصبة إلى الغي؛ فمن رفضها نجا، ومن اتّبعها هوى، فالحازم متهم عند تحرك وطره وأربه واهتياج غيظه، ولا يدع أن يغضها بالشّكيم، ويعركها عرك الأديم، ويقودها إلى مصالحها بالخزائم، ويفتقدها من مقارفة المآثم والمحارم «1» ، كيما يعز بتذليلها وتأديبها، ويجلّ برياضها وتقويمها، والمفرّط [في أمر] تطمح به إذا طمحت، ويجمح معها إذا جمحت، ولا يلبث أن تورده حيث لا يصدر، وتلجئه إلى أن يعتذر، وتقيمه مقام النادم الواجم، وتتنكب به سبيل الراشد السالم، وأحق من تحلّى بالمحاسن، وتصدّى لاكتساب المحامد، من ضرب بمثل سهمه في نسب أمير المؤمنين الشريف، ومنصبه المنيف، واجتمع معه في ذؤابة العترة الطاهرة، واستظلّ بأوراق الدّوحة الفاخرة، فذلك الذي تتضاعف به المآثر إن آثرها، والمثالب إن أسفّ إليها، ولا سيما من كان مندوبا بالسياسة ومرشحا للتقليد على أهله؛ إذ ليس يفي بالصلاح لمن ولي عليه، ولا يفي بإصلاح ما بين جنبيه، ومن أعظم الهجنة عليه أن يأمر ولا يأتمر، ويزجر ولا يزدجر، قال الله تعالى جلّ ذكره: أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون. وأمره أن يتصفّح أحوال من ولي عليهم: من استقراء مذاهبهم، والبحث عن بواطنهم ودخائلهم، وأن يعرف لمن تقدمت قدمه منهم وتظاهر فضله فيهم منزلته، ويوفّيه حقّه وزينته، وينتهي في إكرام جماعتهم إلى الحدود التي توجبها أنسابهم وأقدارهم، وتقتضيها مواقعهم وأخطارهم، فإنّ ذلك يلزمه لشيئين: أحدهما: يخصه، وهو النسب الذي بينه وبينهم، والآخر: يعمه والمسلمين جميعا، وهو قول الله جل ذكره: قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى فالمودة لهم

الإعظام لأكابرهم، والاشتمال على أصاغرهم؛ واجب متضاعف الوجوب عليه، متأكد اللزوم له، ومن كان منهم في دون تلك الطبقة من أحداث لم يحتنكوا عليه، وجذعان لم يقرحوا، ومجرين إلى ما يزري بأنسابهم، ويغضّ من أحسابهم، عذلهم وأنّبهم، ونهاهم ووعظهم، فإن نزعوا وأقلعوا فذاك المراد بهم، والمقصد فيهم، وإن أصرّوا وتتابعوا أنالهم من العقوبة بقدر ما يكف ويردع؛ فإن نفع وإلا تجاوزه إلى ما يلذع ويوجع، من غير تطرّق لأعراضهم، ولا امتهان لأحسابهم؛ فإن المغرض منهم الصيانة، لا الإهانة، والإدالة، لا الإذالة، وإذا وجبت عليهم الحقوق، أو تعلقت بهم دواعي الخصوم، قادهم إلى الإغفاء بما يصح منها ويجب، والخروج إلى سنن الحق فيما يشتبه ويلتبس، ومتى لزمتهم الحدود أقامها عليهم بحسب ما أمره الله تعالى فيها، بعد أن تثبت الجرائم وتصح، وتبين وتتضح، وتتجرد عن الشك، وتتجلى من الظن والتهمة، فإنّ الذي يستحب في حدود الله عز وجل أن تدرأ مع نقصان اليقين والصحة، وأن تمضى عليهم مع قيام الدليل والبينة؛ قال الله عز وجل: ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون. وأمره بحياطة أهل النسب الأطهر، والشرف الأفخر، عن أن يدّعيه الأدعياء، أو يدخل فيه الدّخلاء، ومن أنتمى إليه كاذبا، أو انتحله باطلا، ولم يوجد له بيت في الشجرة، ولا مصداق عند النسابين المهرة، أوقع به كذبه وفسقه وشهره شهرة ينكشف بها غشه ولبسه، وينزع بها غيره ممن تسوّل له ذلك نفسه، وأن يحصن الفروج عن مناكحة من ليس كفئا لها في شرفها وفخرها، حتى لا يطمع في المرأة الحسيبة النسيبة إلا من كان مثلا لها مساويا، ونظيرا موازيا، فقد قال الله تعالى: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا. وأمره بمراعاة متبتّلي أهله ومتهجديهم، وصلحائهم ومجاوريهم، وأراملهم وأصاغرهم، حتى تستد الخلّة من أحوالهم، وتدرّ المواد عليهم وتتعادل أقساطهم فيما يصل إليهم من وجوه أموالهم، وأن يزوج الأيامى، ويربي اليتامى، وليلزمهم المكاتب فيتلقنوا القرآن، ويعرفوا فرائض الإسلام والإيمان، ويتأدبوا بالآداب اللائقة بذوي الأحساب؛ فإن شرف الأعراق، محتاج إلى شرف الأخلاق، ولا حمد لمن شرفه حسبه، وسخف أدبه، إذ كان لم يكتسب الفخر الحاصل بفضل سعي ولا

طلب ولا اجتهاد، بل بصنع الله تعالى له، ومزيد المنة عليه، وبحسب ذلك لزوم ما يلزمه من شكره سبحانه على هذه العطية، والاعتداد بما فيها من المزيّة. وإعمال النفس في حيازة الفضائل والمناقب، والتّرفّع عن الرذائل والمثالب. وأمره بإجمال النيابة عن شيخه الحسين بن موسى فيما أمره أمير المؤمنين باستخلافه عليه من النظر، والأخذ للمظلوم من الظالم، وأن يجلس للمترافعين إليه جلوسا عاما، ويتأمّل كلامهم تأملا تاما؛ فما كان منها متعلقا بالحاكم رده إليه، ليحمل الخصوم عليه، وما كان من طريقة الغشم والظلم، والتغلب والغصب، قبض عنه اليد المبطلة، وثبّت فيه اليد المستحقّة، وتحرّى في قضاياه أن تكون موافقة للعدل، ومجانبة للخذل، فإن عادة الحكام وصاحب المظالم واحدة، وهي إقامة الحق ونصرته، وإبانته وإثارته، وإنما يختلف سبيلاهما في النظر، إذ كان الحاكم يعمل بما ثبت عنده وظهر، وصاحب المظالم يفحص عما غمض واستتر، وليس له مع ذلك أن يرد للحاكم حكومة، ولا يعل له قضيّة، ولا يتعقب ما ينفذه ويمضيه، ولا يتتبّع ما يحكم به ويقضيه، والله يهديه ويوفقه، ويسدّده ويرشده. وأمره أن يسير حجيج بيت الله عز وجل إلى مقصدهم، ويحميهم في بدأتهم وعودتهم، ويرتّبهم في مسيرهم ومسلكهم، ويرعاهم في ليلهم ونهارهم، حتى لا تنالهم شدّة، ولا تصل إليهم مضرّة، وأن يريحهم «1» في المنازل، ويوردهم المناهل، ويناوب بينهم في النّهل والعلل، ويمكنهم من الارتواء والاكتفاء، مجتهدا في الصيانة لهم، ومعذرا في الذّبّ عنهم، ومتلوّما على متأخرهم ومتخلفهم، ومنهضا لضعيفهم ومهيضهم، فإنهم حجّاج بيت الله الحرام، وزوّار قبر رسوله عليه الصلاة والسلام، قد هجروا الأهل والأوطان، وفارقوا الجيرة والإخوان، وتجشّموا المغارم الثّقال، وتعسّفوا السّهولة والجبال، يلبّون دعاء الله، ويطيعون أمره، ويؤدّون فرضه، ويرجون ثوابه، وحقيق على المسلم أن يحرسهم متبرّعا، ويحوطهم متطوعا، فكيف من تولى ذلك وضمنه، وتقلده واعتقبه؟ قال الله تعالى: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا.

وأمره أن يراعي أمور المساجد بمدينة السلام وأطرافها، وأقطارها وأكنافها؛ وأن يجبي أموال وقفها، ويستقصي جميع حقوقها، وأن يلمّ شعثها، ويسدّ خللها، بما يتحصل من هذه الوجوه قبله، لا يزيل رسما جرى، ولا ينقض عادة كانت لها، وأن يكتب اسم أمير المؤمنين على ما يعمره منها، ويذكر اسمه بعده بأن عمارتها جرت على يده، وصلاح أداه قول أمير المؤمنين في ذلك، تنويها باسمه، وإشادة لذكره، وأن يولّي ذلك من قبله من حسنت أمانته، وظهرت عفته وصيانته؛ فقد قال الله جل من قائل: إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين. وأمره أن يستخلف على ما يرى استخلافه عليه من هذه الأعمال في الأمصار الدانية والنائية والبلاد القريبة والبعيدة من يثق به من صلحاء الرجال، ذوي الوفاء والاستقلال، وأن يعهد إليهم مثل ما عهد إليه، ويعتمد عليهم مثل ما اعتمد عليه، ويستقصي في ذلك آثارهم، ويتعرّف أخبارهم؛ فمن وجده محمودا قرّبه، ومن وجده مذموما صرفه ولم يمهله، واعتاض من ترجى الأمانة عنده، وتكون الثقة معهودة منه، وأن يختار لكتابته وحجابته والتصرّف فيما قرب منه وبعد عنه من يزينه، ولا يشينه، وينصح له ولا يغشه، ويجمله ولا يهجّنه، من الطبقة المعروفة باللطف، المتصوّنة عن النّطف، ويجعل لهم من الأرزاق الكافية، والأجرة الوافية، ما يصدّهم عن المكاسب الذميمة، والمآكل الوخيمة؛ فليس تجب عليهم الحجة إلا مع إعطاء الحاجة، قال الله تعالى: وأن ليس للإنسان إلا ما سعى. وأن سعيه سوف يرى. ثم يجزاه الجزاء الأوفى. وأمره أن يكتب لمن تقوم بينته عنده وتنكشف له حجته إلى أصحاب المعارف بالشدّ على يده، واتصال حقه إليه، وحسم الطّمع الكاذب فيه، وقبض اليد الظالمة عنه؛ إذ هم مندوبون للتصرف بين أمره ونهيه، والوقوف عند رسمه وحدّه. هذا عهد أمير المؤمنين إليك، وحجته لك وعليك، قد أبان منه سبيلك، وأوضح دليلك، وهداك لرشدك، وجعلت على بينة من أمرك، فاعمل به ولا تخالفه، وانته إليه ولا تجاوزه، وإن عرض لك عارض يعجزك الوفاء به ويشتبه

عليك الخروج منه أنهيته إلى أمير المؤمنين مبادرا، وكنت إلى ما يأمرك به صائرا؛ إن شاء الله تعالى. وأما التقليد الذي أنشأته أنا فقد أوردته بعد هذا التقليد، وهو: أما بعد فإن كل كلام لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أجذم، وكل كتاب لا يرقم باسمه فليس بمعلم، وعلى هذا فإن حمده يتنزل من الكلام، منزلة الأعضاء من الأجسام، واسمه يتنزل من الكتاب، منزلة الرّقوم من الثياب، وقد جمعنا في كتابنا هذا بين التسمية والتحميد، وجعلنا أحدهما مفتاحا للتيمن والآخر سببا للمزيد، ثم ردفناهما بالصلاة على سيدنا محمد الذي أيّده الله بالقرآن المجيد، وجعل شهادته قبل كل شهيد، وعلى آله وصحبه الذين هدوا إلى الطّيّب من القول وهدوا إلى صراط الحميد، ومما يقترن بهذه الصلاة في ثوابها، ويجيء على أعقابها، النظر في أمر الأسرة النبوية التي وصل ودّها بوده، وجعلها إحدى الثّقلين المخلّفين من بعده، وقد تقادم الآن زمانها، وتشعبت أغصانها، ونسي مالها في الرقاب من عهدة الأمانة، ولم توضع فيما وضع الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم من المكانة، وأولى الناس بها من أضمر ولاءها حقا، وأوجب أن يرد معها الحوض حين يقال لوارده: سحقا، وكان بمن تحت يده منها بارّا رفيقا حتى لا يسأله برّا ولا رفقا، ونحن نرجو أن نفوز بفضيلة هذه الحسنة، وأن نسبق إليها سبق المتقرب في الجمعة ببدنه، ومن أهمّ أمورها أن يختار لها زعيم يرأف بها رأفة الوالد بولده، ويقوم بأمرها قيام الرأس بجسده، حتى تأتلف أصولها كلها في مغرسها، ولا يحكم عليها من ليس من أنفسها، وقد اخترنا من وفّقنا في اختياره، وأخذناه فيه ببيان الرأي وحزمه لا بشبهة الهوى واغتراره، ولو لم يكن من القوم الذين ولوها لكان استحقاقه لها بيّنا، والتعويل عليه متعيّنا، فكيف وقدمه فيها قديمة الميلاد، ووراثته إياها عن سيادة الجدود وسؤدد الأجداد، وهو أنت أيها السيد الأجل الشريف الحسيب النسيب فلان بن فلان الحسيني، ولو شئنا لأسندنا هذه النسبة كابرا عن كابر، ونضّدناها آخرا بعد أول عن أول قبل آخر، حتى وصلنا هذا الفرع بشجرته الطيبة، وهذا القطر بسحابته الصّيّبة، وشرف الأنساب أصدقه ما كان الدهر به شهيدا، وأجدّه ما كان قديما وأخلقه ما كان جديدا، وما تولى الروح الأمين مدحه قرآنا أكرم مما تولى

الشعراء مدحه قصيدا، ولا فضل للمعتزي إلى هذا النسب حتى تلحق البنوة بالأبوة، ويضيف درجة الفضيلة إلى محتد النبوة، وحينئذ يقال: ما أقرب الشّبه على قدم عهده، وهذا ماء الورد بعد ذهاب ورده، وأنت ذلك الرجل الذي تردد الشرف في مناسبه تردد القمر في منازله، وزها المجد بمناقبه زهو الروض في خمائله، فلآليء حسبك تغنيك عن سؤال من وما، وتملأ بودّك وحمدك قلبا وفما، والحسب ما حفظت أواخره أوائله، وأوضحت الليالي والأيام دلائله، وأقرّت به الأعداء فما ردّت فضائله، وهذه هي المآثر التي إذا نظمت غارت الشّعرى عليها من الشعر، وإذا نثرت وجدت في محكم الذّكر، وأنت صاحبها وابن صاحبها، ومن لم يرثها عن أباعدها بل عن أقاربها، ولو جانبت رياستها مصانعا، ومشيت بها الضّراء متواضعا؛ لدلّ عليك وصفها، وعرف منك عرفها. وقد قلّدناك أمر هذه الأسرة الطاهرة التي هي أسرتك، وأمرناك عليها وإمرتها إمرتك، فتولّها تولّي من خفض لها جناحه، وأفاض عليها سماحه، وأنضى فيها غدوّه ورواحه، حتى يقال: إنك الراعي الذي تناول ثلثه فأراح حسيرها، وجبر كسيرها، وارتاد لها خصبا، وأوردها رفها لا غبّا، وأذكى في كلاءتها عينا وقلبا. ومن حقها عليك أن تنظر إلى ذات شمالها وذات يمينها، وتتصفّح أحوالها في أمر دنياها ودينها؛ فأوّل ذلك أن تعلّمها كتاب الله تعالى الذي في تعليمه نهج الصواب، وفي تلاوته مضاعفة حسنات الثواب، وقد مثّل قارئه بالبيت العامر وتاركه بالبيت الخراب، وهو كتاب امتاز عن الكتب بنجوم التنزيل، وتولى الله حفظه من التحريف والتبديل، وافتتحه بالسبع المثاني التي لم ينزل مثلها في التوراة ولا في الإنجيل، وهو الموصوف بأنه النور المستضاء به في غيابة الظلماء، والحبل الممدود من الأرض إلى السماء، والبحر الذي لا يستخرج لؤلؤه ومرجانه إلا الراسخون من العلماء. وكذلك فخذ هذه الأسرة بتعليم الفضائل التي تتفاوت بها القيم، وسسها برياضة الآداب وتهذيب الشّيم، ولا تتركها فوضى لا يتّسم أحدها بسمة القدر المنيف، ولا يرجع إلى حسب تليد ولا إلى سعي طريف، وتكون غاية ما عنده من

الفضيلة أن يقال فلان الشريف، ومن حفظ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيها أن توفي فضل مكانها، وتخالف بين شأن غيرها من المسلمين وبين شأنها؛ فلا تبتذل بمجالس الولاة في انتزاع ظلامة، ولا في إقامة حد يسلب معه رداء الكرامة، وأنت تتولّى ذلك منها وجب عليها من حق فخذها باقتضائه، وأمض فيها حكم الله الذي أمر بإمضائه، وليكن ذلك على وجه الرفق الذي يسلس له القياد، ويتوطأ له المهاد، وإن أمكنك افتداء شيء من هذه الظلامات التي تتوجه عليها ففاد، وقد أتم الله فضلها بمنع كرائمها إلا من كفء لا دناءة في عنصره، ولا غضاضة في مخبره، وهو الذي إن فاته شرف النبوة في مغرسه فلم يفته شرف النباهة في معشره، وإذا تباينت الأقدار فلا فرق بين المناكح المخطوبة، وبين الأسلاب المسلوبة، فاحفظ لأسرتك حرمة هذه المنزلة، واجعلها في كتاب الوصايا التي وصيت بها مكان البسملة، وكما أمرناك بالنظر في صون أقدارها، فكذلك نأمرك بالنظر في حفظ مادة درهمها ودينارها، وقد علمت أن لها أوقافا وقفها قوم فحظوا بأجرها واسمها، وستحظى أنت بالعدل في قسمها، فأجر على كل منها رزقه، وأعط كل ذي حق حقه، وفي الناس طائفة أدعياء يرومون إلحاق الرأس بالذنب، والنّبع بالغرب، ويلحقون أبا لغير ابن وابنا لغير أب، كلّ ذلك رغبة في سحت يأكلونه، لا في نسب يوصلونه، فنقب عن حال هؤلاء تنقيبا، واجعل النسيب نسيبا، والغريب غريبا، حتّى تخلص السلالة من طرّاقها، وتبقى الشجرة قائمة على أعراقها، ومن علمت كذبه فازجره بأليم الازدجار، وأعلمه بأنه قد تبوّأ مقعده من النار، وأشهره في الناس حتى ينتهي وينتهي غيره بذلك الاشتهار. وههنا وصية هي أهم من هذه الوصية أمرا وأعظم أجرا، وأجدر بأن تكون هي الأولى وتكون هذه الأخرى، وهي الأخذ على ألسنة السفهاء من الخوض فيما شجر بين آل النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، وإظهار العصبيّة التي تزحزح الحق عن نصابه، وترجعه على أعقابه، وليس مستندها إلا مغالاة ذوي الجهل، وربما نشأ منها فتنة والفتنة أشد من القتل؛ فوكل بهؤلاء غربا قاطعا، ونهيا قامعا، وكن في ذلك شارعا لما كان الله شارعا، فأولئك السادات هم النجوم الذين بأيّهم كان الاقتداء كان به الاهتداء، وقصارى المحسن في هذا الزمان أن يتعلق منها سببا، ويأخذ عنهم دينا أو أدبا، ولا يبلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه ولو أنفق مثل أحد ذهبا، ونحن نعلم أنك واقف على سنن اقتصادك، وأن هذه الوصية هي محض

اعتقادك، والمنصف في هذا المقام من رمقه بنظر جلي، ووفى أبا بكر وعمر رضي الله عنهما حقهما وإن كان من نسل علي؛ فكل قد ذكره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بفضله، وهؤلاء من صحابته وهذا من أهله، ونعوذ بالله من الأهواء الزائغة، والأقوال التي ليست بسائغة، ولا حجة إلا بالحق ولله الحجة البالغة، وقد جعلنا لك في مالنا عطاء دارّا تستعين به على لوازم النفقات، وتخرج نافلته في وقاية عرضك التي هي محسوبة من الصدقات، فإنّ من ساد قوما يفتقر إلى تحمل أثقالهم، والإفاضة من حاله على أحوالهم، وهذا بر يكون منا أصله ومنك فرعه، وثواب يكون لك قصده ولنا شرعه، وصاحب الإحسان من سنّ سبيل الإحسان، ولم نرض أن أريناك مكانه حتى أمددناك فيه بالإمكان، فأعط ما لنا، وتعلم من سنة إفضالنا، ولدولتنا بذلك ثوب جمال كلما لبس زاد جدّة، وعمر ذكر كلّما مضت عليه مدد الأيام طال مدّة، ولا ملك في الدنيا لمن لم يجعل ملكه حديثا حسنا، ويشتري المحامد فيجعله لها ثمنا، ومن عرف قدر الثناء جدّ في تحصيله، ولو أنفق الكثير في قليله، فكم من دولة أعدمت منه فدرست آثار معالمها، ولو كانت منه مثرية لما ذهبت مع بقاء مكارمها، وإذ ذكرنا هذا فلنختمه بما يكون قلادة لصاحب هذا التقليد، وهو أن نجرد العناية بوجاهته حتى يلبس تقدّما بذلك التجريد، وفحوى ذلك أن يعلم الناس ما له في الدولة من منزلة الكرامة، ويعرفوا أنه فيها ابن جلا غير محتاج إلى وضع العمامة، ونحن نأمر نوابنا وولاتنا وأصحابنا أن يوفّوه حقّ أبوّته الشريفة، وفضيلته التي ردفتها فأضحت وهي لها رديفة، وأن يعطوه ما شاء من إعلاء شأنه، ويمضوا فعل يده وقول لسانه، إن شاء الله تعالى. وقد وجدت للصابي أيضا تقليدا أنشأه لفخر الدولة أبي الحسن بن ركن الدولة أبي علي بن بويه، عن الخليفة الطائع رحمه الله، وهو مثبت ههنا على صورته، وكان عرض على تقليد كتب للملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، من الخليفة المستضىء بالله رحمه الله في سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، فوجدت فيه كلاما نازلا بالمرة، وسألني بعض الإخوان بمدينة دمشق أن أعارضه، فعارضته بتقليد في معناه، وهو مثبت ههنا أيضا، وكلا التقليدين باسم ملك كبير، وفيهما يظهر ما يظهر من فصاحة وبلاغة.

فأما التقليد الذي أنشأه الصابي فهو: هذا ما عهد عبد الله عبد الكريم الطائع لله أمير المؤمنين إلى فخر الدولة أبي الحسن بن ركن الدولة أبي علي مولى أمير المؤمنين حين عرف غناه، وبلاه، واستصحّ دينه ويقينه. ورعى قديمه وحديثه، واستنجب عوده ونجاره، وأثنى عز الدولة أبو منصور بن معز الدولة أبي الحسين مولى أمير المؤمنين عليه، وأشار بالمزيد في الصنيعة إليه، وأعلم أمير المؤمنين اقتداءه به في كل مذهب ذهب فيه من الخدمة، وغرض رمى إليه من النصيحة، دخولا في زمرة الأولياء المنصورة، وخروجا عن جماعة الأعداء المدحورة، وتصرّفا على موجبات البيعة التي هي بعز الدولة أبي منصور منوطة، وعلى سائر ما يتلوه ويتبعه مأخوذة مشروطة، فقلده الصّلاة وأعمال الحرب والمعاون والأحداث والخراج والأعشار والضياع والجهبذة والصدقات والجوالي وسائر وجوه الجبايات والعرض والعطاء والنفقة في الأولياء والمظالم وأسواق الرقيق والعيار في دور الضرب والطرز والحسبة، بكور همذان واستراباذ والدّينور وقرميسين والإيعارين وأعمال أذربيجان وأزان والسحانين وموقان، واثقا منه باستقبال [النعمة] واستدامتها، والاستزادة بالشكر منها، والتّجنّب لغمطها وجحودها، والتنكب لإيحاشها وتنفيرها، والتعمد لما يمكن له الحظوة والزّلفى، ويحرس عليه الأثرة والقربى، بما يظهره ويضمره من الوفاء الصحيح، والولاء الصريح، والغيب الأمين، والصدر السليم، والمقاطعة لكل من قطع العصمة، وفارق الجملة، والمواصلة لكل من حمى البيضة، وأخلص النية، والكون تحت ظل أمير المؤمنين وذمته، ومع عز الدولة أبي منصور وفي حوزته، والله جل اسمه يعرف لأمير المؤمنين حسن العقبى فيما أبرم ونقض، وسداد الرأي فيمن رفع وخفض، ويجعل عزائمه مقرونة بالسلامة، محجوبة عن موارد الندامة، وحسب أمير المؤمنين الله ونعم الوكيل. أمره بتقوى الله التي هي العصمة المتينة، والجنة الحصينة، والطود الأرفع، والمعاذ الأمنع، والجانب الأعزّ، والملجأ الأحرز، وأن يستشعرها سرا وجهرا، ويستعملها قولا وفعلا، ويتّخذها ذخرا دافعا لنوائب القدر، وكهفا حاميا من حوادث الغير؛ فإنها أوجب الوسائل، وأقرب الذرائع، وأعودها على العبد بمصالحه، وأدعاها إلى كل مناجحه، وأولاها بالاستمرار على هدايته، والنجاة من غوايته،

والسلامة في دنياه حين توبق موبقاتها، وتردهي مردياتها، وفي آخرته حين تروع رائعاتها، وتخيف مخيفاتها، وأن يتأدّب بأدب الله في التواضع والإخبات والسكينة، وصدق اللهجة إذا نطق، وغضّ الطرف إذا رمق، وكظم الغيظ إذا أحفظ، وضبط اللسان إذا أغضب، وكفّ اليد عن المآثم، وصون النفس عن المحارم، وأن يذكر الموت الذي هو نازل به، والموقف الذي هو صائر إليه، ويعلم أنه مسئول عما اكتسب، مجزى عما تزمّل واحتقب، ويتزود من هذا الممرّ لذلك المقر، ويستكثر من أعمال البر لتنفعه، ومن مساعي الخير لتنقذه، ويأتمر بالصالحات قبل أن يأمر بها، ويزدجر عن السّيّئات قبل أن يزجر عنها، ويبتدئ بإصلاح نفسه قبل إصلاح رعيته، فلا يبعثهم على ما يأتي ضدّه، ولا ينهاهم عما يقترف مثله، ويجعل ربه رقيبا عليه في خلواته، ومروأته مانعة له من شهواته، فإن أحق من غلب سلطان الشهوة، وأولى من ضرع لغذاء «1» الحمية؛ من ملك أزمة الأمور، واقتدر على سياسة الجمهور، وكان مطاعا فيما يرى، متّبعا فيما يشاء، يلي على الناس ولا يلون عليه، ويقتصّ منهم ولا يقتصّون منه، فإذا اطلع الله منه على نقاء جيبه، وطهارة ذيله، وصحة سريرته، واستقامة سيرته، أعانه على حفظ ما استحفظه، وأنهضه بثقل ما حمّله، وجعل له مخلصا من الشّبهة، ومخرجا من الحيرة، فقد قال الله تعالى: ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب وقال عزّ من قائل: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون وقال: اتقوا الله وكونوا مع الصادقين إلى آي كثيرة حضّنا بها على أكرم الخلق، وأسلم الطرق، فالسعيد من نصبها إزاء ناظره، والشقي من نبذها وراء ظهره، وأشقى منها من بعث عليها وهو صادف عنها، وأهاب إليها وهو بعيد منها، وله ولأمثاله يقول الله تعالى ذكره: أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون. وأمره أن يتخذ كتاب الله إماما متّبعا، وطريقا متوقّعا، ويكثر من تلاوته إذا خلا بذكره، ويملأ بتأميله أرجاء صدره، فيذهب معه فيما أباح وحظر، ويقتدي به

إذا نهى وأمر، ويستبين ببيّناته إذا استغلقت دونه المعضلات، ويستضيء بمصابيحه إذا غمّ عليه في المشكلات؛ فإنه عروة الإسلام الوثقى، ومحجّته الوسطى، ودليله المقنع، وبرهانه المرشد، والكاشف لظلم الخطوب، والشافي من مرض القلوب، والهادي لمن ضلّ، والمتلافي لمن زلّ؛ فمن نجا به فقد فاز وسلم، ومن لها عنه فقد خاب وندم، قال الله تعالى: وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. وأمره أن يحافظ على الصّلوات، ويدخل فيها في حقائق الأوقات، قائما على حدودها، متبعا لرسومها، جامعا فيها بين نيته ولفظه، متوقيا لمطامح سهوه ولحظه، منقطعا إليها عن كل قاطع لها، مشغولا بها عن كل شاغل عنها، متثبتا في ركوعها وسجودها، مستوفيا عدد مفروضها ومسنونها، موفّرا عليها ذهنه، صارفا إليها همه، عالما بأنه واقف بين يدي خالقه ورازقه، ومحييه ومميته، ومعاقبه ومثيبه، لا تستر دونه خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فإذا قضاها على هذه السبيل منذ تكبيرة الإحرام إلى خاتمة التسليم أتبعها بدعاء يرتفع بارتفاعها، ويستمع باستماعها، لا يتعدّى فيه مسائل الأبرار، ورغائب الأخيار، من استصفاح واستغفار، واستقالة واسترحام، واستدعاء لمصالح الدين والدنيا، وعوائد الآخرة والأولى؛ فقد قال الله تعالى: إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا وقال تعالى: وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. وأمره بالسعي في أيام الجمع إلى المساجد الجامعة، وفي الأعياد إلى المصلّيات الضاحية، بعد التقدم في فرشها وكسوتها، وجمع القوام والمؤذنين والمكبرين فيها، واستسعاء الناس إليها، وحضّهم عليها، آخذين الأهبة، متنظفين في البزّة، مؤدّين لفريضة الطهارة، وبالغين في ذلك أقصى الاستقصاء، معتقدين خشية الله وخيفته، مدّرعين تقواه ومراقبته، مكثرين من دعائه عز وجل وسؤاله، مصلين على محمد صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله، بقلوب على اليقين موقوفة، وهمم إلى الدين مصروفة، وألسن بالتقديس والتسبيح فصيحة، وآمال في المغفرة والرحمة فسيحة؛ فإن هذه المصلّيات والمتعبّدات بيوت الله التي فضلها، ومناسكه التي شرفها، وفيها

يتلى القرآن الكريم، ويتعوذ العائذون، ويتعبد المتعبدون، ويتهجد المتهجدون، وحقيق على المسلمين أجمعين من وال ومولى عليه أن يصونها ويعمرها، ويواصلها ولا يهجرها، وأن يقيم الدعوة على منابرها لأمير المؤمنين ثم لنفسه، على الرسم الجاري فيها؛ قال الله تعالى في هذه الصلاة: يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع وقال في عمارة المساجد: إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين. وأمره أن يراعي أحوال من يليه من طبقات جند أمير المؤمنين ومواليه، ويطلق لهم الأرزاق، في أوقات الوجوب والاستحقاق، وأن يحسن في معاملتهم، ويجمل في استخدامهم، ويتصرّف في سياستهم بين رفق من غير ضعف، وخشونة في غير عنف، مثيبا لمحسنهم ما زاد بالإثابة في حسن الأثر، وسلم معها من دواعي الأشر، ومتغمدا لمسيئهم ما كان التغمد له نافعا، وفيه ناجعا، فإن تكرّرت زلّاته، وتتابعت عثراته، تناولته من عقوبته بما يكون له مصلحا، ولغيره واعظا، وأن يختص أكابرهم وأماثلهم وأهل الرأي والخطر منهم بالمشاورة في الملم، والإطلاع على بعض المهم، مستخلصا مخايل صدورهم بالبسط والإناء، ومستشحذا بصائرهم بالإكرام والاجتباء؛ فإن في مشاورة هذه الطبقة استدلالا على مواقع الصواب، وتحرّزا عن غلط الاستبداد، وأخذا بمجامع الحزامة، وأمنا من مفارقة الاستقامة، وقد حضّ الله عز وجل على الشورى حيث قال لرسوله عليه الصلاة والسلام: وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين. وأمره بأن يصمد بما يتصل «1» بنواحيه من ثغور المسلمين، ورباط المرابطين، ويقسم لها قسما وافرا من عنايته، ويصرف إليها طرفا بل شطرا من رعايته، ويختار لها أهل الجلد والشدة، وذوي البأس والنجدة، ممن عجمته الخطوب، وعركته الحروب، واكتسب دربة بخدع المتنازلين، وتجربة بمكايد المتقارعين، وأن يستظهر

بكشف عددهم، واعتبار عددهم، وانتخاب خيلهم، واستجادة أسلحتهم، غير مجمر بعثا إذا بعثه، ولا مستكرهه إذا وجّهه، بل يناوب بين رجاله مناوبة تريحهم ولا تمدهم، وترفّههم ولا تئودهم؛ فإن في ذلك من فائدة الإجمام، والعدل في الاستخدام، زينا، فليسوّبين رجال النوب فيما عاد عليهم بعز الظفر والنصر، وبعد الصيت والذكر، وإحراز النفع والأجر، ما يحق أن يكون الولاة به عاملين، وللناس عليه حاملين، وأن يكرر في أسماعهم، ويثبت في قلوبهم؛ مواعيد الله تعالى لمن صبر ورابط وسامح بالنفس من حيث لا يقدمون على تورط غرة، ولا يحجمون عن انتهاز فرصة، ولا ينكصون عن تورّد معركة، ولا يلقون بأيديهم إلى التّهلكة، فقد أخذ الله ذلك على خلقه، والمرء أمين على دينه، وأن يريح العملة فيما يحتاج إليه من راتب نفقات هذه الثغور وحادثها وبناء حصونها ومعاقلها، واستطراق طرقها ومسالكها، وإفاضة الأقوات والعلوفة فيها للمترتبين بها، والمترددين إليها، والحامين لها، وأن يبذل أمانة لمن طلبه، ويعرضه على من لم يطلبه، ويفي بالعهد إذا عاهد، وبالعقد إذا عاقد، غير مخفر ذمّة، ولا جارح أمانة، فقد أمر الله تعالى بالوفاء، فقال عز وجل: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ونهى عن النّكث؛ فقال عزّ من قائل: فمن نكث فإنما ينكث على نفسه. وأمره أن يعرض من في حبوس عمله على جرائمهم، فمن كان إقراره واجبا أقره، ومن كان إطلاقه سائغا أطلقه، وأن ينظر في الشّرطة والأحداث نظر عدل وإنصاف، ويختار لها من يخاف الله ويتقيه، ولا يجابي ولا يراقب فيه، ويتقدم إليهم بقمع الجهال، وردع الضّلّال، وتتبع الأشرار، وطلب الدّعّار، مستدلين على أماكنهم، متوغّلين إلى مكامنهم، متولجين عليهم في مظانهم، متوثقين ممن يجدونه منهم، منفذين أحكام الله تعالى فيهم، بحسب الذي يتبين من أمرهم، ويصح من فعلهم، في كبيرة ارتكبوها، وعظيمة احتقبوها، ومهجة إن أفاظوها واستهلكوها، وحرمة إن استباحوها وانتهكوها؛ فمن استحق حدا من حدود الله المعلومة أقاموه عليه غير مخفّفين منه، وأحلّوه به غير مقصرين عنه، بعد ألّا يكون عليهم في الذي يأتونه حجة، ولا يعترضهم في وجوبه مشبهة، فإن الواجب في الحدود أن تقام بالبينات، وأن تدرأ بالشبهات، فأولى ما توخّاه رعاة الرعايا فيها ألّا يقدموا عليها مع

نقصان، ولا يتوقفوا عنها مع قيام الدليل، ومن وجب عليه القتل احتاط بما يحتاط به على مثله من الحبس الحصين، والتوثق الشديد، وكتب إلى أمير المؤمنين بخبره، وشرح جنايته وثبوتها بإقرار يكون منه أو بشهادة تقع عليه، ولينتظر من جوابه ما يكون عمله بحسبه؛ فإن أمير المؤمنين لا يطلق سفك دم مسلم أو معاهد، إلا ما أحاط به علما، وأتقنه فهما، وكان ما يمضيه فيه عن بصيرة لا يخالجها شك، ولا يشوبها ريب، ومن ألمّ بصغيرة من الصغائر، ويسيرة من الجرائر، من حيث لم يعرف له مثلها، ولم يتقدم له أختها، وعظه وزجره، ونهاه وحذّره، واستتابه وأقاله، ما لم يكن عليه خصم في ذلك يطالب بقصاص منه، وجزاء له، فإن عاد تناوله من التقويم والتهذيب والتعزير والتأديب بما يرى أن قد كفى فيما اجترم، ووفى بما قدم؛ فقد قال الله تعالى: ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون. وأمره أن يعطل ما في أعماله من الحانات والمواخير، ويطهرها من القبائح والمناكير، ويمنع من يجمع أهل الخنا فيها، ويؤلف شملها بها، فإنه شمل يصلحه التشتيت، وجمع يحفظه التفريق، وما زالت هذه المواطن الذميمة، والمطارح الدنية، داعية من يأوي إليها، ويعكف عليها، إلى ترك الصلوات، وإهمال المفترضات، وركوب المنكرات، واقتراف المحظورات، وهي بيوت الشيطان التي في عمارتها لله معصية، وفي إخرابها للخير مجلبة، والله تعالى يقول لنا معشر المؤمنين: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ويقول عزّ من قائل لغيرنا من المذمومين: فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا. وأمره أن يولي الحماية في هذه الأعمال، أهل الكفاية والعناية من الرجال، وأن يضم إليهم كلّ من خفّ ركابه، وأسرع عند الصريخ، مرتّبا لهم في المسالح وسادا بهم ثغر المسالك، وأن يوصيهم بالتيقظ، ويأخذهم بالتحفظ، ويزيح عللهم في علوفة خيلهم، والمقرر من أزوادهم وميرهم، حتى لا تثقل لهم على البلاد وطأة ولا يدعوهم إلى تحنقهم «1» وثلمهم حاجة، وأن يحوطوا السابلة بادئة وعائدة،

ويبذرقوا القوافل صادرة وواردة، ويحرسوا الطريق ليلا ونهارا، ويتفصّوها رواحا وغدوّا، وينصبوا لأهل العبث الأرصاد، ويتكمنوا لهم بكل واد، ويتفرقوا عليهم حيث يكون التفرق مضيقا لفضائهم، ومؤديا إلى انفضاضهم، ويجتمعوا حيث يكون الاجتماع مطفئا لجمرتهم، وصادعا لمروتهم، ولا يخلوا هذه السبل من حماة لها، وسيارة فيها، يترددون في جوادّها، ويتعسفون في عواديها «1» ، حتى تكون الدماء محقونة، والأموال مصونة، والفتن محسومة، والغارات مأمونة، ومن حصل في أيديهم من لص خاتل، وصعلوك خارب، ومخيف لسبيل، ومنتهك لحريم؛ امتثل في أمره أمر أمير المؤمنين الموافق لقول الله عز وجل: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم. وأمره بوضع الرّصد على من يجتاز في أعماله من أبّاق العبيد، والاحتياط عليهم وعلى ما يكون معهم، والبحث عن الأماكن التي فارقوها، والطرق التي استطرقوها، ومواليهم الذين أبقوا منهم، ونشزوا عنهم، وأن يردّوهم عليهم قهرا، ويعيدوهم إليهم صغرا، وأن ينشد الضالة ما أمكن أن تنشد، ويحفظوها على ربها بما جاز أن تحفظ، ويتجنّبوا الامتطاء لظهورها، والانتفاع بأوبارها، وألبان ما يجز ويحلب، وأن يعرّفوا اللّقطة، ويتّبعوا أثرها، ويشيعوا خبرها؛ فإذا حضر صاحبها وعلم أنّه مستوجبها سلّمت إليه، ولم يعترض فيها عليه، والله عزّ وجل يقول: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ويقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ضالّة المؤمن حرق النّار» . وأمره أن يوصي عماله بالشد على يد الحكام، وتنفيذ ما يصدر عنهم من الأحكام، وأن يحضروا مجالسهم حضور الموقرين لها الذّابّين عنها المقيمين لرسوم الهيبة وحدود الطّواعية فيها، ومن خرج عن ذلك من ذي عقل ضعيف وحلم

سخيف، نالوه بما يردعه، وأحلّوا به ما يزعه، ومتى تقاعس متقاعس عن حضور مع خصم يستدعيه بأمر يوجبه الحكم إليه، أو التوى ملتو بحق يحصل عليه ودين يستقر في ذمته؛ قادوه إلى ذلك بأزمّة الصّغار وخزائم الاضطرار، وأن يحبسوا ويطلقوا بأقوالهم، ويثبتوا الأيدي في الأملاك والفروج، وينزعوا بقضاياهم؛ فإنهم أمناء الله في فصل ما يقضون، وبث ما يبثّون، وعن كتابه وسنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم يوردون ويصدرون، وقد قال الله عزّ وجل: يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب. وأن يتوخّى بمثل هذه المعاملة عمال الخراج في استيفاء حقوق ما استعملوا عليه، واستنطاف بقاياهم فيه، والرياضة لمن تسوء طاعته من معامليهم، وإحضارهم طائعين أو كارهين بين أيديهم؛ فمن آداب الله تعالى للعبد الذي يحق عليه أن يتخذها ويجعلها للرضا عنه سببا قوله تعالى: وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب. وأمره أن يجلس للرعية جلوسا عامّا، وينظر في مظالمها نظرا تامّا؛ يساوي في الحق بين خاصها وعامها، ويوازي في المجالس بين عزيزها وذليلها، وينصف المظلوم من ظالمه، والمغصوب من غاصبه، بعد الفحص والتأمل، والبحث والتبين، حتى لا يحكم إلا بعدل، ولا ينطق إلا بفصل، ولا يثبت يدا إلا فيما وجب تثبيتها فيه، ولا يقبضها إلا عما وجب قبضها عنه، وأن يسهل الإذن لجماعتهم، ويرفع الحجاب بينه وبينهم، ويوليهم من حصانة الكنف، ولين المنعطف، والاشتمال والعناية، والصون والرعاية؛ ما تتعادل به أقسامهم، وتتوازى منه أقساطهم، ولا يصل الركين منهم إلى استضامة ما تأخر عنه، ولا ذو السلطان إلى هضيمة من حل دونه، وأن يدعوهم إلى أحسن العادات والخلائق، ويحضهم على أحمد المذاهب والطرائق، ويحمل عنهم كله، ويمد عليهم ظله، ولا يسومهم عسفا، ولا يلحق بهم حيفا، ولا يكلفهم شططا، ولا يجشمهم مضلعا، ولا يثلم لهم معيشة، ولا يداخلهم في جريمة، ولا يأخذ بريئا بسقيم، ولا حاضرا بعديم؛

فإن الله عز وجل ينهى أن تزر وازرة وزر أخرى، ويرفع عن هذه الرعية ما عسى أن يكون سنّ عليها من سنة ظالمة، وسلك بها من محجة جائرة، ويستقري آثار الولاة قبله عليها، فيما أزلفوه «1» من خير أو شر إليها؛ فيقر من ذلك ما طاب وحسن، ويزيل ما خبث وقبح فإنّ من غرس الخير يحظى بمعسول ثمره، ومن زرع الشر يصلى بممرور ريعه «2» ، والله تعالى يقول: والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون. وأمره بأن يصون مال الخراج وأثمان الغلات ووجوه الجبايات موفّرا، ويزيد ذلك مثمرا، بما يستعمله من الإنصاف لأهلها، وإجرائهم على صحيح الرسوم فيها؛ فإنه مال الله لذي به قوّة عباده، وحماية بلاده، ودرور حلبه، واتصال مدده، وبه يحاط الحريم، ويدفع العظيم، ويحمي الذّمار، ويذاد الأشرار، وأن يجعل افتتاحه إياه بحسب إدراك أصنافه، وعند حضور مواقيته وأحيانه، غير متسلف شيئا قبلها، ولا مؤخر لها عنها، وأن يخصّ أهل الطاعة والسلامة بالترقية لهم، وأهل الاستصعاب والامتناع بالتشديد عليهم؛ لئلا يقع إرهاق لمذعن، أو إهمال لطامع، وعلى المتولي لذلك أن يضع كلّا من الأمرين موضعه، ويوقعه موقعه، متجنبا إحلال الغلظة بمن لا يستحقها، وإعطاء الفسحة من ليس أهلها، والله تعالى يقول: وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى، ثم يجزاه الجزاء الأوفى. وأمره أن يتخيّر عماله على الخراج والأعشار والضياع والجهبذة والصدقات والجوالي من أهل الظلف والنزاهة، والضبط والصيانة، والجزالة والشهامة، وأن يستظهر مع ذلك عليهم بوصية تعيها أسماعهم، وعهود يقلدها أعناقهم، بألّا يضيعوا حقّا، ولا يأكلوا سحتا، ولا يستعملوا ظلما، ولا يقارفوا غشما، وأن يقيموا العمارات، ويحتاطوا ويحترزوا من إتواء حق لازم، أو تعطيل رسم عادل، مؤدّين في جميع ذلك الأمانة، مجتنبين للخيانة، وأن يأخذوا جهابذتهم باستيفاء وزن المال على تمامه، واستجادة نقده على عياره، واستعمال الصحة في قبض ما يقبضوه،

وإطلاق ما يطلقون، وأن يوعزوا إلى سعاة الصدقات في أخذ الفرائض من سائمة مواشي المسلمين دون عاملتها، وكذلك الواجب فيها، وألّا يجمعوا فيها متفرقا، ولا يفرقوا مجتمعا، ولا يدخلوا فيها خارجا عنها، ولا يضيفوا إليها ما ليس منها، من فحل إبل، وأكولة راع، أو عقيلة مال؛ فإذا اجتبوها على حقها، واستوفوها على رسمها؛ أخرجوها في سبيلها، وقسموها على أهلها الذين ذكرهم الله عز وجل في كتابه العزيز: إلّا المؤلّفة قلوبهم الذين ذكرهم الله عز وجل في كتابه الكريم وسقط سهمهم؛ فإن الله تعالى يقول: إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم ؛ وإلى جباة أهل الذمة أن يأخذوا منهم الجزية في المحرم من كل سنة، بحسب منازلهم في الأحوال، وذات أيديهم في الأموال، وعلى الطبقات المطبقة فيها، والحدود المعهودة لها، وألّا يأخذوها من النساء، ولا ممن لم يبلغ الحلم من الرجال، ولا من ذي سنّ عالية، ولا ذي علّة بادية، ولا فقير معدم، ولا مترهب متبتل، وأن يراعي جماعة هؤلاء العمال مراعاة يسرّها ويظهرها، ويلاحظهم ملاحظة يخفيها ويبديها؛ لئلا يزولوا عن الحق الواجب، أو يعدلوا عن السّنن اللاحب، فقد قال الله تعالى: وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسولا. وأمره بأن يندب لعرض الرجال وإعطائهم، وحفظ جراياتهم، وأوقات إطعامهم، من يعرفه بالثقة في متصرفه، والأمانة فيما يجري على يده، والبعد عن الإسفاف إلى الدّنيّة، والاتباع للدناءة «1» ، وأن يبعثه على ضبط الرجال، وشيات الخيل، وتجديد العرض بعد الاستحقاق، وإيقاع الاحتياط في الإنفاق، فمن صحّ عرضه ولم يبق في نفسه شيء منهم من شك يعرض له أو ريبة يتوهمها أطلق أموالهم موفورة، وحصلها في أيديهم غير مثلومة، وأن يرد على بيت المال أرزاق من سقط بالوفاة والإخلال، ناسبا ذلك إلى جهته، موردا له على حقيقته، وأن يطالب الرجال بإحضار الخيل المختارة، والآلات المستكملة، على ما توجبه مبالغ أرزاقهم، وحسب منازلهم ومراتبهم، فإن أخّر أحدهم شيئا من ذلك قاصه به من

رزقه، وأغرمه مثل قيمته، فإن المقصّر فيه خائن لأمير المؤمنين، ومخالف لرب العالمين؛ إذ يقول سبحانه: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم. وأمره أن يعتمد في أسواق الرقيق ودور الضرب والطرز والحسبة على من تجتمع فيه آلات هذه الولايات من ثقة ودراية، وعلم وكتابة، ومعرفة ورواية، وتجربة وحنكة، وحصافة ومسكة، فإنها أحوال تضارع الحكم وتناسبه، وتدانيه وتقاربه، وأن يتقدم إلى ولاة أسواق الرقيق بالتحفظ فيمن يطلقون بيعه، ويمضون أمره، والتحرز من وقوع تخوّن فيه، أو إهمال له؛ إذ كان ذلك عائدا بتحصين الفروج، وتطهير الأنساب، وأن يبعدوا عنه أهل الريبة، ويقربوا أهل العفة، ولا يمضوا بيعا على شبهة، ولا عقدا على تهمة، وإلى ولاة العيار، بتخليص عين الدرهم والدينار؛ ليكونا مضروبين على البراءة من الغش، والنزاهة من المش «1» ، وبحسب الإمام المقدر بمدينة السلام، وحراسة السكك من أن تتداولها الأيدي الزغلة، وتتناقلها الجهات المنبية، وإثبات اسم أمير المؤمنين على ما يضرب ذهبا وفضة، وإجراء ذلك على الرسم والسنة؛ وإلى ولاة الطرز أن يجروا الاستعمال في جميع المناسج على أتم النيقة، وأسلم الطريقة، وأحكم الصنعة، وأفضل الصحة، وأن يكتبوا اسم أمير المؤمنين على طرر الكسا والفرش، والأعلام والبنود، وإلى ولاة الحسبة بتصفح أحوال العوام في حرفهم ومتاجرهم، ومجتمع أسواقهم ومعاملاتهم، وأن يعايروا الموازين والمكاييل، ويفرزوها على التعديل والتكميل، ومن اطلعوا منه على حيلة أو تلبيس، أو غيلة أو تدليس، أو بخس ما يوفيه، واستفضال فيما يستوفيه؛ نالوه بغليظ العقوبة وعظمها، وخصوه بوجيعها وألمها، واقفين في ذلك عند الحد الذي يرونه لذنبه مجازيا، وفي تأديبه كافيا، فقد قال الله تعالى: ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون.

هذا عهد أمير المؤمنين إليك، وحجته عليك، وقد وقفك على سواء السبيل، وأرشدك إلى واضح الدليل، وأوسعك تعليما وتحكيما، وأقنعك تعريفا وتفهيما «1» ، ولم يألك جهدا فيما عصمك وعصم على يدك، ولم يدخرك ممكنا فيما أصلح بك وأصلحك، ولا ترك لك عذرا في غلط تغلطه، ولا طريقا إلى تورط تتورطه، بالغا بك في الأوامر والزواجر إلى حيث يلزم الأئمة أن يندبوا الناس إليه، ويحثّوهم عليه، مقيما لك على منجيات المسالك، صارفا لك عن مرديات المهالك، مريدا فيك ما يسلمك في دينك ودنياك، يعود بالحظ عليك في آخرتك وأولاك، فإن اعتدلت وعدلت فقد فزت وغنمت، وإن تجانفت واعوججت فقد فسدت وندمت، والأولى بك عند أمير المؤمنين مع مغرسك الزاكي، ومنبتك النامي وعودك الأنجب، وعنصرك الأطيب، أن تكون لظنّه محقّقا، ولمخيلته فيك مصدّقا، وأن تستزيده بالأثر الجميل قربا [من رب العالمين] وثوابا يوم الدين، وزلفى عند أمير المؤمنين، وثناء حسنا من المسلمين، فخذ ما نبذ إليك أمير المؤمنين من معاذيره، وأمسك بيدك على ما أعطى من مواثيقه، واجعل عهده مثالا تحتذيه، وإماما تقتفيه، واستعن بالله يعنك، واستهده يهدك، وأخلص إليه في طاعته يخلص لك الحظ في معونتك، ومهما أشكل عليك من خطب، أو أعضل عليك من صعب، أو بهرك من باهر، أو بهظك من باهظ، فاكتب إلى أمير المؤمنين منهيا، وكن إلى ما يرد عليك [من جوابه متطلعا] إن شاء الله تعالى؛ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وأما التقليد الذي أنشأته أنا فهو هذا: أما بعد، فإن أمير المؤمنين يبدأ بحمد الله الذي يكون لكل خطبة قيادا، ولكل أمر مهادا، ويستزيده من نعمه التي جعلت التقوى له زادا، وحملته عبء الخلافة فلم يضعف عنه طوقا ولم يأل فيه اجتهادا، وصغرت لديه أمر الدنيا فما تسوّرت له محرابا ولا عرضت عليه جيادا، وحققت فيه قول الله تعالى: تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ، ثم يصلي على من أنزلت الملائكة لنصره أمدادا، وأسري به إلى السماء حتى ارتقى سبعا شدادا، وتجلى له ربه فلم يزغ منه بصرا ولا أكذب منه

فؤادا، ثم من بعده على أسرته الطاهرة التي زكت أوراقا وأعوادا، وورثت النور المتين تلادا، ووصفت بأنها أحد الثقلين هداية وإرشادا، وخصوصا عمه العباس المدعو له بأن يحفظ نفسا وأولادا، وأن تبقى كلمة الخلافة فيهم خالدة لا تخاف دركا ولا تخشى نفادا. وإذا استوفى القلم مداده من هذه الحمدلة، وأسند القول فيها عن فصاحته المرسلة، فإنه يأخذ في إنشاء هذا التقليد الذي جعله حليفا لقرطاسه، واستدام سجوده على صفحته حتى لم يكد يرفع من رأسه، وليس ذلك إلا لإفاضته في وصف المناقب التي كثرت فحسن لها مقام الإكثار، واشتبه التطويل فيها بالاختصار، وهي التي لا يفتقر واصفها إلى القول المعاد، ولا يستوعر سلوك أطوادها ومن العجب وجود السهل في سلوك الأطواد، وتلك مناقبك أيها الملك الناصر الأجل السيد الكبير العالم العادل المجاهد المرابط صلاح الدين أبو المظفر يوسف بن أيوب، والديوان العزيز يتلوها عليك تحدثا بشكرك، ويباهي بك أولياءه تنويها بذكرك، ويقول: أنت الذي تستكفي فتكون للدولة سهمها الصائب، وشهابها الثاقب، وكنزها الذي تذهب الكنوز وليس بذاهب، وما ضرها وقد حضرت في نصرتها إذا كان غيرك هو الغائب، فاشكر إذا مساعيك التي أهلتك لما أهلتك، وفضلتك على الأولياء بما فضلتك، ولئن شوركت في الولاء بعقيدة الإضمار، فلم تشارك في عزمك الذي انتصر للدولة فكان له بسطة الانتصار، وفرق بين من أمد بقلبه وبين من أمد بيده في درجات الأمداد، وما جعل الله القاعدين كالذين قالوا لو أمرتنا لضربنا أكبادها إلى برك الغماد، وقد كفاك من المساعي أنك كفيت الخلافة أمر منازعيها، وطمست على الدعوة الكاذبة التي كانت تدعيها، ولقد مضى عليها زمن ومحراب حقها محفوف من الباطل بمحرابين، ورأت ما رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من السوارين اللذين أوّلهما كذابين، فمبصر منهما واحد تاه بمجرى أنهارها من تحته، ودعا الناس إلى عبادة طاغوته وجبته، ولعب بالدين حتى لم يدر يوم جمعته من يوم أحده ولا يوم سبته، وأعانه على ذلك قوم رمى الله بصائرهم بالعمي والصمم، واتخذوه صنما بينهم ولم تكن الضلالة هناك إلا بعجل أو صنم، فقمت أنت في وجه باطله حتى قعد، وجعلت في جيده حبلا من مسد، وقلت ليده تبت فأصبح وهو

لا يسعى بقدم ولا يبطش بيد، وكذلك فعلت بالآخر الذي نجمت باليمن ناجمته، وسامت فيه سائمته، فوضع بنية موضع الكعبة اليمانية، وقال: هذا ذو الخلصة الثانية، فأي مقاميك يعترف الإسلام بسبقه؟ أم أيها يقوم بأداء حقه؟ وههنا فليصبح القلم للسيف من الحساد، وليقصر مكانته عن مكانته وقد كان له من الأنداد، ولم يحظ بهذه المزية إلا لأنه أصبح لك صاحبا، وفخر بك حتى طال فخرا عما عزّ جانبا، وقضى بولايتك فكان بها قاضيا لما كان حدّه قاضبا. وقد قلدك أمير المؤمنين البلاد المصرية واليمنية غورا ونجدا، وما اشتملت عليه رعية وجندا، وما انتهت إليه أطرافها برا وبحرا، وما يستنقذ من مجاوريها مسالمة وقهرا، وأضاف إليها بلاد الشام، وما تحتوي عليه من المدن الممدنة، والمراكز المحصنة، مستثنيا منها ما هو بيد نور الدين إسمعيل بن نور الدين محمود رحمه الله، وهو حلب وأعمالها، فقد مضى أبوه عن آثار في الإسلام ترفع ذكره في الذاكرين، وتخلفه في عقبه في الغابرين، وولده هذا قد هذّبته الفطرة في القول والعمل، وليست هذه الرّبوة إلا من ذلك الجبل، فليكن له منك جار يدنو منه ودادا كما دنا أرضا، ويصبح وهو له كالبنيان يشد بعضه بعضا. والذي قدمناه من الثناء عليك ربما تجاوز بك درجة الاقتصاد، ولفتك عن فضيلة الازدياد، فإياك أن تنظر سعيك بالإعجاب، وتقول هذه بلاد أنا فتحتها بعد أن أضرب عنها كثير من الأضراب، ولكن اعلم أن الأرض لله ولرسوله ثم لخليفته من بعده، ولا منّة للعبد بإسلامه بل المنة لله بهداية عبده، وكم سلف من قبلك من لو رام ما رمته لدنا شاسعه، وأجاب مانعه، لكن ذخره الله لك لتحظى في الآخرة بمفازه، وفي الدنيا برقم طرازه، فألق بيدك عند هذا القول إلقاء التسليم، وقل لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. وقد قرن تقليدك هذا بخلعة تكون لك في الاسم شعارا، وفي الوسم فخارا، وتناسب محل قلبك وبصرك وخير ملابس الأولياء ما ناسب قلوبا وأبصارا، ومن جملتها طوق يوضع في عنقك موضع العهد والميثاق، ويشير إليك بأن الإنعام قد أطاف بك إطافة الأطواق بالأعناق، ثم إنك خوطبت بالملك وذلك خطاب يقضي

لصدرك بالانشراح، ولأملك بالانفساح، وتؤمر معه بمد يدك إلى العليا لا بضمها إلى الجناح، وهذه الثلاثة المشار إليها هي التي تكمل بها أقسام السيادة، وهي التي لا مزيد عليها في الإحسان فيقال إنها الحسنى وزيادة، فإذا صارت إليك فانصب لها يوما يكون في الأيام كريم الأنساب، واجعله لها عيدا وقل هذا عيد الخلعة والتقليد والخطاب. هذا، ولك عند أمير المؤمنين مكانة تجعلك لديه حاضرا وأنت ناء عن الحضور، وتضنّ أن تكون مشتركة بينك وبين غيرك والضنة من شيم الغيور، وهذه المكانة قد عرفتك نفسها وما كنت تعرفها، وما تقول إلا أنها لك صاحبة وأنت يوسفها، فاحرسها عليك حراسة تقضي بتقديمها، واعمل لها فإن الأعمال بخواتيمها. واعلم أنك قد تقلدت أمرا تعين به نفي الحلوم، ولا ينفك صاحبه عن عهدة الملوم، وكثيرا ما يرى حسناته يوم القيامة وهي مقتسمة بأيدي الخصوم، ولا ينجو من ذلك إلا من أخذ أهبة الحذار، وأشفق من شهادة الأسماع والأبصار، وعلم أن الولاية ميزان إحدى كفتيه في الجنة والأخرى في النار، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا ذر، إني أحبّ لك ما أحب لنفسي، لا تأمّرنّ على اثنين، ولا تولين مال يتيم» ، فانظر إلى هذا القول النبوي نظر من لم يخدع بحديث الحرص والآمال، ومثّل الدنيا وقد سيقت إليك بحذافيرها أليس مصيرها إلى زوال، والسعيد إذا جاءته قضى بها أرب الأرواح لا أرب الجسوم، واتخذ منها وهي السم دواء وقد تتخذ الأدوية من السموم، وما الاغتباط بما يختلف على تلاشيه المساء والصباح، وهو كما أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح، والله يعصم أمير المؤمنين وولاة أمره من تباعتها التي لابستهم ولا بسوها، وأحصاها الله عليهم ونسوها، ولك أنت من هذا الدعاء حظ على قدر محلك من العناية التي جذبت بضبعك، ومحلك من الولاية التي بسطت من درعك، فخذ هذا الأمر الذي تقلدته أخذ من لم يتعقبه بالنسيان، وكن في رعايته ممن إذا نامت عيناه كان قلبه يقظان. وملاك ذلك كله في إسباغ العدل الذي جعله الله ثالث الحديث والكتاب، وأغنى بثوابه وحده عن أعمال الثواب، وقدر يوما منه بعبادة ستين عاما في

الحساب، ولم يأمر به آمر إلا زيد قوة في أمره، وتحصن به من عدوه ومن دهره، ثم يجاء به يوم القيامة وفي يديه كتابا أمان، ويجلس على منبر من نور عن يمين الرحمن، ومع هذا فإن مركبه صعب لا يستوي على ظهره إلا من أمسك عنان نفسه قبل إمساك عنانه، وغلبت لمّة ملكه على لمة شيطانه، ومن أوكد فروضه أن تمحي السنن السيئة التي طالت مدد أيامها، ويئس الرعايا من رفع ظلاماتها فلم يجعلوا أمدا لانحسار ظلامها، وتلك السنن هي المكوس التي أنشأتها الهمم الحقيرة، ولا غني للأيدي الغنية إذا كانت ذات نفوس فقيرة، وكلما زيدت الأموال الحاصلة منها قدرا زادها الله محقا، وقد استمرت عليها العوائد حتى ألحقها الظالمون بالحقوق الواجبة فسمّوها حقا، ولولا أن صاحبها أعظم الناس جرما لما أغلظ في عقابه، ومثلت توبة المرأة الغامدية بمتابه، وهل أشقى ممن يكون السواد الأعظم له خصما، ويصبح وهو مطالب بهم بما يعلم وبما لم يحط به علما؛ وأنت مأمور بأن تأتي هذه الظلامات فتنحي على أبطالها «1» ، وتلحق أسماءها في المحو بأفعالها، حتى لا يبقى لها في العيان صور منظورة، ولا في الألسنة أحاديث مذكورة، فإذا فعلت ذلك كنت قد أزلت عن الماضي سنة سوء سنتها يداه، وعن الآتي متابعة ظلم وجده نهجا مسلوكا فجرى على مداه، فبادر إلى ما أمرت به مبادرة من لم يضق ذراعا، ونظر إلى الحياة الدنيا بعينه فرآها في الآخرة متاعا، وأحمد الله تعالى على أن قيض للإمام هدى يقف بك على هداك، ويأخذ بحجزتك عن خطوات الشيطان الذي هو أعدى عداك. وهذه البلاد المنوطة بطرفك تشتمل على أطراف متباعدة، وتفتقر في سياستها إلى أيد متساعدة، ولهذا يكثر بها قضاة الأحكام، وأولو تدبيرات السيوف والأقلام، وكل من هؤلاء ينبغي أن يقف على باب الاختيار، ويسلط عليه شاهدا عدل من أمانة الدرهم والدينار، فما أضلّ الناس شيء كحب المال الذي فورقت من أجله الأديان، وهجرت بسببه الأولاد والإخوان، وكثيرا ما نرى الرجل الصائم القائم وهو عابد له عبادة الأوثان، فإذا استعنت بأحد منهم على شيء من أمرك فاضرب عليه بالأرصاد،

ولا ترض بما عرفته من مبدإ حاله فإن الأحوال تنتقل منتقل الأجساد، وإياك أن تخدع بصلاح الظاهر كما خدع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالربيع بن زياد. وكذلك اؤمر هؤلاء على اختلاف طبقاتهم بأن يأمروا بالمعروف مواظبين، وينهوا عن المنكر محاسبين، ويعلموا أن ذلك من دأب حزب الله الذين جعلهم الله الغالبين، وليبدأوا أولا بأنفسهم فيعدلوا بها عن هواها، ويأمروها بما يأمرون به سواها، ولا يكونوا ممن هدى إلى طريق البر وهو عنه حائد، وانتصب لطلب المرضى وهو محتاج إلى طبيب وعائد، فما تنزل بركات السماء إلا على من خاف مقام ربه، وألزم التقوى أعمال يده ولسانه وقلبه، وإذا صلحت الولاة صلحت الرعية بصلاحهم، وهم لهم بمنزلة المصابيح ولا يستضيء كل قوم إلا بمصباحهم، ومما يؤمرون به أن يكونوا لمن تحت أيديهم إخوانا في الاصطحاب، وجيرانا في الاقتراب، وأعوانا في توزع الحمل الذي يثقل على الرقاب، فالمسلم أخو المسلم وإن كان عليه أميرا، وأولى الناس باستعمال الرفق من كان فضل الله عليه كثيرا، وليست الولاية لمن يستجدّ بها كثرة اللفيف، ويتولاها بالوطء العنيف، ولكنها لمن يمال على جوانبه، ويؤكل من أطايبه، ولمن إذا أغضب لم ير للغضب عنده أثر، وإذا ألحف في سؤاله لم يلق الإلحاف بخلق الضجر، وإذا حضر الخصوم بين يديه عدل بينهم في قسمة القول والنظر، فذلك الذي يكون في أصحاب اليمين، والذي يدعى بالحفيظ العليم والقويّ الأمين، ومن سعادة المرء أن تكون ولاته متأدبين بآدابه، وجارين على نهج صوابه، وإذا تطايرت الكتب يوم القيامة كانوا حسنات مثبتة في كتابه. وبعد هذه الوصية فإن ههنا حسنة هي للحسنات كالأم الولود، ولطالما أغنت عن صاحبها إغناء الجنود، وتيقظت لنصره والعيون رقود، وهي التي تسبغ لها الآلاء، ولا يتخطاها البلاء، ولأمير المؤمنين بها عناية تبعثها الرحمة الموضوعة في قلبه، والرغبة في المغفرة لما تقدم وتأخر من ذنبه، وتلك هي الصّدقة التي فضل الله بها بعض عباده لمزية إفضالها، وجعلها سببا إلى التعويض عنها بعشر أمثالها، وهو يأمرك أن تتفقد أحوال الفقراء الذين قدرت عليهم مادة الأرزاق، وألبسهم التعفف ثوب الغنى وهم في ضيق من الإملاق، فأولئك أولياء الله الذين

مسّتهم الضراء فصبروا، وكثرت الدنيا في يد غيرهم فما نظروا إليها إذ نظروا، وينبغي أن يهيئ لهم من أمرهم مرفقا، ويضرب بينهم وبين الفقر موبقا، وما أطلنا لك القول في هذه الوصية إلا إعلاما بأنها من المهمّ الذي يستقبل ولا يستدبر، ويستكثر منه ولا يستكثر، وهذا يعد من جهاد النفس في بذل المال، ويتلوه جهاد العدو الكافر في مواقف القتال، وأمير المؤمنين يعرفك من ثوابه ما تجعل السيف في ملازمته أخا، وتسخو له بنفسك إن كان أحد بنفسه سخا، ومن صفاته أنه العمل المحبوّ بفضل الكرامة، الذي ينمي بعد صاحبه إلى يوم القيامة، وبه تمتحن طاعة الخالق على المخلوق، وكل الأعمال عاطلة لا خلوق لها وهو المختص دونها برتبة الخلوق، ولولا فضله لما كان محسوبا بشطر الإيمان، ولما جعل الله الجنة له ثمنا وليست لغيره من الأثمان، وقد علمت أن العدو هو جارك الأدنى، والذي يبلغك وتبلغه عينا وأذنا، ولا تكون للإسلام نعم الجار حتى تكون له بئس الجار، ولا عذر لك في ترك جهاده بنفسك ومالك إذا قامت لغيرك الأعذار، وأمير المؤمنين لا يرضى منك بأن تلقاه مكافحا، أو تطرق أرضه مماسيا أو مصابحا، بل يريد أن تقصد البلاد التي في يده قصد المستنقذ لا قصد المغير، وأن تحكم فيها بحكم الله الذي قضاه على لسان سعد في بني قريظة والنّضير، وعلى الخصوص البيت المقدس فإنه تلاد الإسلام القديم، وأخو البيت الحرام في شرف التعظيم، والذي توجّهت إليه الوجوه من قبل بالسجود والتسليم، وقد أصبح وهو يشكو طول المدة في أسر رقبته، وأصبحت كلمة التوحيد وهي تشكو طول الوحشة في غربتها عنه وغربته، فانهض إليه نهضة توغل في قرحه، وتبدّل صعب قياده بسمحه، وإن كان له عام حديبية فأتبعه بعام فتحه، وهذه الاستزادة إنما تكون بعد سداد ما في اليد من ثغر كان مهملا فحميت موارده، أو متهدما فرفعت قواعده، ومن أهمها ما كان حاضر البحر فإنه عورة مكشوفة، وخطة مخوفة، والعدو قريب منه على بعده، وكثيرا ما يأتيه فجأة حتى يسبق برقه برعده، فينبغي أن يرتب بهذه الثغور رابطة تكثر شجاعتها وتقل أقرانها، ويكون قتالها لأن تكون كلمة الله هي العليا لا لأن يرى مكانها، وحينئذ يصبح كل منها وله من الرجال أسوار، ويعلم أهله أن بناء السيف أمنع من بناء الأحجار، ومع هذا لا بد لها من أصطول يكثر عدده، ويقوي مدده، فإنه العدة التي

تستعين بها على كشف الغمّاء، والاستكثار من سبايا العبيد والإماء، وجيشه أخو الجيش السليماني فذاك يسير على متن الريح وهذا على متن الماء، ومن صفات خيله أنها جمعت بين العوم والمطار، وتساوت أقدار خلقها على اختلاف مدة الأعمار؛ فإذا أشرعت قيل جبال متعلقة بقطع من الغيوم، وإذا نظر إلى أشكالها قيل إنها أهلة غير أنها تهتدي في مسيرها بالنجوم، ومثل هذه الخيل ينبغي أن يغالى في جيادها، ويستكثر من قيادها، وليؤمر عليها أمير يلقى البحر بمثله من سعة صدره، ويسلك طرقه سلوك من لم تقتله بجهلها ولكن قتلها بخبره، وكذلك فليكن ممن أفنت الأيام تجاربه وزحمتها مناكبه، وممن يذل الصعب إذا هو ساسه وإن لان جانبه، وهذا هو الرجل يرأس على القوم فلا يجد هزة بالرياسة، وإن كان في الساقة ففي الساقة أو كان في الحراسة ففي الحراسة، ولقد أفلحت عصابة اعتصبت من ورائه وأيقنت بالنصر من رايته كما أيقنت بالنصر من رأيه. واعلم أنه قد أخل من الجهاد بركن يقدح في عمله، وهو تمامه الذي يأتي في آخره كما أن صدق النية تأتي في أوله، وذلك هو قسم الغنائم فإن الأيدي قد تداولته بالإجحاف، وخلطت جهادها فيه بغلوها فلم ترجع بالكفاف، والله قد جعل الظلم في تعدّي حدوده المحدودة، وجعل الاستئثار بالمغنم من أشراط الساعة الموعودة، ونحن نعوذ به أن يكون زماننا هذا زمانه وبأسه شرباس، ولم يستخلفنا على حفظ أركان دينه ثم نهمله إهمال مضيع ولا إهمال ناس، والذي نأمرك به أن تجري هذا الأمر المنصوص من حكمه، وتبرئ ذمتك مما يكون غيرك الفائز بفوائده وأنت المطالب بإثمه، وفي أرزاق المجاهدين بالديار المصرية والشامية ما يغنيهم عن هذه الأكلة التي تكون غدا أنكالا وجحيما، وطعاما ذا غصة وعذابا أليما. فتصفح ما سطرنا لك في هذه الأساطير التي هي عزائم مبرمات، بل آيات محكمات، وتحبب إلى الله وإلى أمير المؤمنين باقتفاء كلماتها، وابن لك منها مجدا يبقى في عقبك إذا أصيبت البيوت في أعقابها، وهذا التقليد ينطق عليك بأنه لم يأل في الوصايا التي أوصاها، وأنه لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ثم إنه قد ختم بدعوات دعا بها أمير المؤمنين عند ختامه، وسأل فيها خيرة الله التي تتنزل من كل أمر بمنزلة نظامه، ثم قال: اللهم إني أشهدك على من قلدته شهادة تكون

الأول: أن يكون الفصلان متساويين

عليه رقيبة، وله حسيبة، فإني لم آمره إلا بأوامر الحق التي فيها موعظة وذكرى، وهي لمن تبعها هدى ورحمة وبشرى، وإذا أخذ بها بلج بحجته يوم يسأل عن الحجج، ولم يختلج دون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الحوض في جملة من يختلج، وقيل لا حرج عليك ولا إثم إن نجوت من ورطات الاسم والحرج، والسلام. وهذا الذي ذكرته من كلامي وكلام الصابي في هذه التقاليد الأربعة لم أقصد به الوضع من الرجل، وإنما ذكرت ما ذكرته لبيان موضع السجع الذي يثبت على المحك، ولا شك أن هذا الوصف المشار إليه في فقر الأسجاع لم يكن مقصودا في الزمن القديم، إما لمكان عسره، أو لأنه لم يتنبه له، وكيف أضع من الصابي وعلم الكتابة قد رفعه وهو إمام هذا الفن والواحد فيه؟ ولقد اعتبرت مكاتباته فوجدته قد أجاد في السلطانيات كل الإجادة، وأحسن كل الإحسان، ولو لم يكن له سوى كتابه الذي كتبه عن عز الدولة بختيار بن بويه إلى سبكتكين عند خروجه عليه ومجاهرته إياه بالعصيان لاستحق به فضيلة التقدم، كيف وله من السلطانيات ما أتى فيه بكل عجيبة؟ لكنه في الإخوانيات مقصّر وكذلك في كتب التعازي. وعندي فيه رأي لم يره أحد غيري، ولي فيه قول لم يقله أحد سواي، وذاك أن عقل الرجل في كتابته زائد على فصاحته وبلاغته، وسأبين ذلك فأقول: لينظر الناظر في هذين التقليدين اللذين أرودتهما له، فإنه يرى وصايا وشروطا واستدراكات، وأوامر ما بين أصل وفرع وكل وجزء وقليل وكثير، ولا نرى ذلك في كلام غيره من الكتاب، إلا أنه عبّر عن تلك الوصايا والأوامر والشروط والاستدراكات بعبارة في بعضها ما فيه من الضعف والركة، وقد قيل: إن زيادة العلم على المنطق هجنة، وزيادة المنطق على علم خدعة، ومع هذا فإني أقرّ للرجل بالتقدم، وأشهد له بالفضل. وإذ فرغت مما أردت تحقيقه في هذا الموضع، فإني أرجع إلى ما كنت بصدد ذكره من الكلام على السجع، وقد تقدم من ذلك ما تقدم، وبقي ما أنا ذاكر ههنا. وهو أن السجع قد ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: أن يكون الفصلان متساويين لا يزيد أحدهما على الآخر، كقوله

القسم الثاني: أن يكون الفصل الثاني أطول من الأول،

تعالى: فأما اليتيم فلا تقهر، وأما السائل فلا تنهر وقوله تعالى: والعاديات ضبحا، فالموريات قدحا، فالمغيرات صبحا، فأثرن به نقعا، فوسطن به جمعا ألا ترى كيف جاءت هذه الفصول متساوية الأجزاء حتى كأنها أفرغت في قالب واحد، وأمثال ذلك في القرآن الكريم كثيرة، وهو أشرف السجع منزلة؛ للاعتدال الذي فيه. القسم الثاني: أن يكون الفصل الثاني أطول من الأول، لا طولا يخرج به عن الاعتدال خروجا كثيرا؛ فإنه يقبح عند ذلك ويستكره ويعد عيبا. فمما جاء من ذلك قوله تعالى: بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا، إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا، وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا ألا ترى أن الفصل الأول ثمان لفظات، والفصل الثاني والثالث تسع تسع. ومن ذلك قوله تعالى في سورة مريم: وقالوا اتخذ الرحمن ولدا، لقد جئتم شيئا إدا، تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا وأمثال هذا في القرآن كثيرة. ويستثنى من هذا القسم ما كان من السجع على ثلاثة فقر؛ فإن الفقرتين الأوليين يحسبان في عدة واحدة، ثم باقي الثلاثة فينبغي أن تكون طويلة طولا يزيد عليهما؛ فإذا كانت الأولى والثانية أربع لفظات أربع لفظات تكون الثالثة عشر لفظات أو إحدى عشرة. مثال ذلك ما ذكرته في وصف صديق فقلت: الصديق من لم يعتض عنك بخالف، ولم يعاملك معاملة حالف، وإذا بلّغته أذنه وشاية أقام عليها حد سارق أو قاذف؛ فالأولى والثانية ههنا أربع لفظات أربع لفظات لأن الأولى: «لم يعتض عنك بخالف» والثانية: «ولم يعاملك معاملة حالف» وجاءت الثالثة عشر لفظات. وهكذا ينبغي أن يستعمل ما كان من هذا القبيل؛ وإن زادت الأولى والثانية عن هذه العدة

القسم الثالث: أن يكون الفصل الآخر أقصر من الأول،

فتزاد الثالثة بالحساب، وكذلك إذا نقصت الأولى والثانية عن هذه العدة، فافهم ذلك وقس عليه. إلا أنه لا ينبغي أن تجعله قياسا مطردا في السجعات الثلاث أين وقعت من الكلام، بل تعلم أن الجواز يعم الجانبين من التساوي في السجعات الثلاث ومن زيادة السجعة الثالثة، ألا ترى أنه قد ورد ثلاث سجعات متساويات في القرآن الكريم، كقوله تعالى: وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين، في سدر مخضود، وطلح منضود، وظل ممدود فهذه السجعات كلها من لفظتين لفظتين، ولو جعلت الثالثة منها خمس لفظات أو ستا لما كان ذلك معيبها. القسم الثالث: أن يكون الفصل الآخر أقصر من الأول، وهو عندي عيب فاحش، وسبب ذلك أن السجع يكون قد استوفى أمده من الفصل الأول بحكم طوله، ثم يجيء الفصل الثاني قصيرا عن الأول، فيكون كالشيء المبتور؛ فيبقى الإنسان عند سماعه كمن يريد الانتهاء إلى غاية فيعثر دونها. وإذ انتهينا إلى ههنا وبيّنّا أقسام السجع ولبّه وقشوره فسنقول فيه قولا كلّيّا، وهو أن السجع على اختلاف أقسامه ضربان: أحدهما: يسمى السجع القصير، وهو أن تكون كل واحدة من السجعتين مؤلفة من ألفاظ قليلة، وكلما قلّت الألفاظ كان أحسن، لقرب الفواصل المسجوعة من سمع السامع، وهذا الضرب أوعر السجع مذهبا، وأبعده متناولا، ولا يكاد استعماله يقع إلا نادرا. والضرب الآخر: يسمى السجع الطويل، وهو ضد الأول؛ لأنه أسهل متناولا. وإنما القصير من السجع أوعر مسلكا من الطويل لأن المعنى إذا صيغ بألفاظ قصيرة عزّ مواتاة السجع فيه؛ لقصر تلك الألفاظ، وضيق المجال في استجلابه، وأما الطويل فإن الألفاظ تطول فيه ويستجلب له السجع من حيث وليس، كما يقال، وكان ذلك سهلا.

وكل واحد من هذين الضربين تتفاوت درجاته في عدة ألفاظ. وأما السجع القصير فأحسنه ما كان مؤلفا من لفظتين لفظتين، كقوله تعالى: والمرسلات عرفا، فالعاصفات عصفا وقوله تعالى: يا أيها المدثر، قم فأنذر، وربك فكبر، وثيابك فطهر، والرجز فاهجر ، ومنه ما يكون مؤلفا من ثلاثة ألفاظ وأربعة وخمسة، وكذلك إلى العشرة. وما زاد على ذلك فهو من السجع الطويل. فمما جاء منه قوله تعالى: والنجم إذا هوى، ما ضل صاحبكم وما غوى، وما ينطق عن الهوى وقوله تعالى: اقتربت الساعة وانشق القمر، وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر، وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر. وأما السجع الطويل فإن درجاته تتفاوت أيضا في الطول؛ فمنه ما يقرب من السجع القصير، وهو أن يكون تأليفه من إحدى عشرة إلى اثنتي عشرة لفظة، وأكثره خمس عشرة لفظة. كقوله تعالى: ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليوس كفور، ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور فالأولى إحدى عشرة لفظة، والثانية ثلاث عشرة لفظة. وكذلك قوله تعالى: لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين روف رحيم، فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم. ومن السجع الطويل ما يكون تأليفه من العشرين لفظة فما حولها؛ كقوله تعالى: إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور، وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور.

ومن السجع الطويل أيضا ما يزيد على هذه العدة المذكورة، وهو غير مضبوط. واعلم أن التصريع في الشعر بمنزلة السجع في الفصلين من الكلام المنثور، وفائدته في الشعر أنه قبل كمال البيت الأول من القصيدة تعلم قافيتها، وشبه البيت المصرّع بباب له مصراعان متشاكلان. وقد فعل ذلك القدماء والمحدثون، وفيه دلالة على سعة القدرة في أفانين الكلام؛ فأما إذا كثر التصريع في القيدة فلست أراه مختارا؛ إلا أنّ هذه الأصناف من التصريع والترصيع والتجنيس وغيرها إنما يحسن منها في الكلام ما قلّ وجرى مجرى الغرّة من الوجه، أو كان كالطراز من الثوب، فأما إذا تواترت وكثرت فإنها لا تكون مرضية؛ لما فيها من أمارات الكلفة وهو عندي ينقسم إلى سبع مراتب، وذلك شيء لم يذكره على هذا الوجه أحد غيري: فالمرتبة الأولى:- وهي أعلى التصريع درجة- أن يكون كل مصراع من البيت مستقلّا بنفسه في فهم معناه غير محتاج إلى صاحبه الذي يليه، ويسمى التصريع الكامل، وذلك كقول امرئ القيس «1» : أفاطم مهلا بعض هذا التّدلّل ... وإن كنت قد أزمعت هجرا فأجملي فإن كل مصراع من هذا البيت مفهوم المعنى بنفسه غير محتاج إلى ما يليه. وعليه ورد قول المتنبي «2» : إذا كان مدح فالنّسيب المقدّم ... أكلّ فصيح قال شعرا متيّم

المرتبة الثانية: أن يكون المصراع الأول مستقلا بنفسه غير محتاج إلى الذي يليه، فإذا جاء الذي يليه كان مرتبطا به، كقول امرئ القيس «1» : قفانبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللّوى بين الدّخول فحومل فالمصراع الأول غير محتاج إلى الثاني في فهم معناه، لكن لما جاء الثاني صار مرتبطا به. وكذلك ورد قول أبي تمام «2» : ألم يأن أن تروى الظّماء الحوائم ... وأن ينظم الشّمل المبدّد ناظم وعليه ورد قول المتنبي «3» : الرّأي قبل شجاعة الشّجعان ... هو أوّل وهي المحلّ الثّاني المرتبة الثالثة: أن يكون الشاعر مخيرا في وضع كل مصراع موضع صاحبه، ويسمى التصريع الموجّه، وذلك كقول ابن الحجاج البغدادي: من شروط الصّبوح في المهرجان ... خفّة الشّرب مع خلوّ المكان فإن هذا البيت يجعل مصراعه الأول ثانيا ومصراعه الثاني أولا؛ وهذه المرتبة كالثانية في الجودة. المرتبة الرابعة: أن يكون المصراع الأول غير مستقل بنفسه، ولا يفهم معناه إلا بالثاني، ويسمى التصريع الناقض، وليس بمرضي ولا حسن.

فمما ورد منه قول المتنبي «1» : مغاني الشّعب طيبا في المغاني ... بمنزلة الرّبيع من الزّمان فإن المصراع الأول لا يستقل بنفسه في فهم معناه دون أن يذكر المصراع الثاني. المرتبة الخامسة: أن يكون التصريع في البيت بلفظة واحدة وسطا وقافية، ويسمى التصريع المكرر، وهو ينقسم قسمين: أحدهما: أقرب حالا من الآخر، فالأول أن يكون بلفظة حقيقية لا مجاز فيها، وهو أنزل الدرجتين؛ كقول عبيد بن الأبرص «2» : فكلّ ذي غيبة يثوب ... وغائب الموت لا يثوب القسم الآخر: أن يكون التصريع بلفظة مجازية يختلف المعنى فيها؛ كقول أبي تمام «3» : فتى كان شربا للعفاة ومرتعا ... فأصبح للهنديّة البيض مرتعا المرتبة السادسة: أن يذكر المصراع الأول ويكون معلقا على صفة يأتي ذكرها

في أول المصراع الثاني، ويسمى التصريع المعلّق؛ فمما ورد منه قول امرئ القيس «1» : ألا أيّها اللّيل الطّويل ألا انجلي ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل فإن المصراع الأول معلق على قوله: «بصبح» ؛ وهذا معيب جدا. وعليه ورد قول المتنبي «2» : قد علّم البين منّا البين أجفانا ... تدمى وألّف في ذا القلب أحزانا فإن المصراع الأول معلق على قوله: «تدمى» . المرتبة السابعة: أن يكون التصريع في البيت مخالفا لقافيته، ويسمى التصريع المشطور، وهو أنزل درجات التصريع وأقبحها. فمن ذلك قول أبي نواس: أقلني قد ندمت على الذنوب ... وبالإقرار عدت عن الجحود فصرع بحرف الباء في وسط البيت، ثم قفاه بحرف الدال، وهذا لا يكاد يستعمل إلا قليلا نادرا.

النوع الثاني في التجنيس

النوع الثاني في التجنيس اعلم أن التجنيس غرّة شادخة في وجه الكلام، وقد تصرّف العلماء من أرباب هذه الصناعة فيه فغرّبوا وشرّقوا، لا سيما المحدثين منهم، وصنف الناس فيه كتبا كثيرة، وجعلوه أبوابا متعددة، واختلفوا في ذلك، وأدخلوا بعض تلك الأبواب في بعض؛ فمنهم عبد الله بن المعتز، وأبو علي الحاتمي، والقاضي أبو الحسين الجرجاني، وقدامة بن جعفر الكاتب، وغيرهم. وإنما سمي هذا النوع من الكلام مجانسا لأن حروف ألفاظه يكون تركيبها من جنس واحد. وحقيقته أن يكون اللفظ واحدا والمعنى مختلفا، وعلى هذا فإنه هو: اللفظ المشترك، وما عداه فليس من التجنيس الحقيقي في شيء، إلا أنه قد خرج من ذلك ما يسمى تجنيسا، وتلك تسمية بالمشابهة لا لأنها دالة على حقيقة المسمى بعينه. وعلى هذا فإني نظرت في التجنيس وما شبّه به فأجرى مجراه فوجدته ينقسم إلى سبعة أقسام: واحد منها يدل على حقيقة التجنيس؛ لأن لفظه واحد لا يختلف، وستة أقسام مشبهة. فأما القسم الأول فهو أن تتساوى حروف ألفاظه في تركيبها ووزنها، كقوله تعالى: ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة وليس في القرآن الكريم سوى هذه الآية، فاعرفها، ويروى في الأخبار النبوية أن الصحابة نازعوا جرير بن عبد الله البجلي زمامه فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خلّوا بين جرير والجرير» أي: دعوا زمامه.

ومما جاء منه في الشعر قول أبي تمام «1» : فأصبحت غرر الأيّام مشرقة ... بالنّصر تضحك عن أيّامك الغرر فالغرر الأولى استعارة من غرر الوجه، والغرر الثانية مأخوذة من غرة الشيء أكرمه؛ فاللفظ إذا واحد والمعنى مختلف. وكذلك قوله «2» : من القوم جعد أبيض الوجه والنّدى ... وليس بنان يجتدى منه بالجعد فالجعد: السيد، والبنان الجعد: ضد السّبط؛ فأحدهما يوصف به السخي، والآخر يوصف به البخيل. وكذلك قوله «3» : بكلّ فتى ضرب يعرّض للقنا ... محيّى محلّى حليه الطّعن والضّرب فالضّرب: الرجل الخفيف، والضّرب بالسيف في الحرب. وكذلك قوله «4» : عداك حرّ الثّغور المستضامة عن ... برد الثّغور وعن سلسالها الخصب

فالثغور: جمع ثغر، وهو واحد الأسنان، وهو أيضا البلد الذي على تخوم العدو. ثم قال في هذه القصيدة: كم أحرزت قضب الهنديّ مصلتة ... تهتزّ من قضب تهتزّ في كثب بيض إذا انتضيت من حجبها رجعت ... أحقّ بالبيض أبدانا من الحجب فالقضب: السيوف، والقضب: القدود على حكم الاستعارة، وكذلك البيض: السيوف، والبيض: النساء، وهذا من النادر الذي لا يتعلق به أحد. وكذلك قوله «1» : إذا الخيل جابت قسطل الحرب صدّعوا ... صدور العوالي في صدور الكتائب فلفظ الصدور في هذا البيت واحد، والمعنى مختلف. وكذلك قوله «2» : عامي وعام العيس بين وديقة ... مسجورة وتنوفة صيهود «3» وعداك: صرفك، والثغور الثانية: مواضع المخافة في البلاد، والثغور الأولى: جمع ثغر، وهو الفم، والخصب: وقع في بعض نسخ الديوان بالخاء المعجمة، وفي بعضها بالحاء المهملة، وفسرت تفسيرا بعيدا.

حتّى أغادر كلّ يوم بالفلا ... للطّير عيدا من بنات العيد «1» فالعيد: فحل من فحول الإبل، والعيد: اليوم المعروف من الأيام. وقد أكثر أبو تمّام من التجنيس في شعره؛ فمنه ما أغرب فيه فأحسن؛ كالذي ذكرته، ومنه ما أتى به كريها مستثقلا، كقوله «2» : ويوم أرشق والهيجاء قد رشقت ... من المنّية رشقا وابلا قصفا «3» وكقوله «4» : يا مضغنا خالدا لك الثّكل إنّ ... خلّد حقدا عليك في خلده «5» وكقوله «6» : وأهل موقان إذ ماقوا فلا وزر ... أنجاهم منك في الهيجا ولا سند «7»

وكقوله «1» : مهلا بني مالك لا تجلبنّ إلى ... حيّ الأراقم دؤلول ابنة الرّقم «2» ثم قال فيها: من الرّدينيّة اللّائي إذا عسلت ... تشمّ بوّ الصّغار الأنف ذا الشّمم «3» وكقوله «4» : قرّت بقرّان عين الدّين واشتترت ... بالأشترين عيون الشّرك فاصطلما «5» وله من هذا الغث البارد المتكلف شيء كثير لا حاجة إلى استقصائه، بل قد أوردنا منه قليلا يستدلّ به على أمثاله. ومن الحسن في هذا الباب قول أبي نواس: عبّاس عبّاس إذا احتدم الوغى ... والفضل فضل والرّبيع ربيع

وكذلك قوله: فقل لأبي العبّاس إن كنت مذنبا ... فأنت أحقّ النّاس بالأخذ بالفضل فلا تجحدوني ودّ عشرين حجّة ... ولا تفسدوا ما كان منكم من الفضل وعلى هذا النّهج ورد قول البحتري «1» : إذا العين راحت وهي عين على الهوى ... فليس بسرّ ما تسرّ الأضالع فالعين: الجاسوس؛ والعين: معروفة. وكذلك ورد قول بعضهم: وترى سوابق دمعها فتواكفت ... ساق تجاوب فوق ساق ساقا فالساق: ساق الشجرة، والساق: القمري من الطيور. وعلى هذا الأسلوب جاء قول بعض المتأخرين، وهو الشاعر المعروف بالمعرّي في قصيدة قصد بها التجنيس في كثير من أبياتها، فمن ذلك ما أورده في مطلعها: لوزارنا طيف ذات الخال أحيانا ... ونحن في حفر الأجداث أحيانا ثم قال في أبياتها: تقول: أنت امرؤ جاف مغالطة ... فقلت: لا هوّمت أجفان أجفانا «2» وكذا قال في آخرها: لم يبق غيرك إنسانا يلاذ به ... فلا برحت لعين الدّهر إنسانا

ورأيت الغانمي قد ذكر في كتابه بابا، وسماه «رد الأعجاز على الصدور» خارجا عن باب التجنيس، وهو ضرب منه، وقسم من جملة أقسامه، كالذي نحن بصدد ذكره ههنا، فمما أورده الغانمي من الأمثلة في ذلك قول بعضهم: ونشري بجميل الصّنع ... ذكرا طيّب النّشر ونفري بسيوف الهند ... من أسرف في النّفر وبحري في شرى الحمد ... على شاكلة البحر وكذلك قول بعضهم في الشيب: يا بياضا أذرى دموعي حتّى ... عاد منها سواد عيني بياضا وكذلك قول البحتري: وأغرّ في الزّمن البهيم محجّل ... قد رحت منه على أغرّ محجّل كالهيكل المبنيّ إلّا أنّه ... في الحسن جاء كصورة في هيكل وليس الأخذ على المعاني في ذلك مناقشة على الأسماء، وإنما المناقشة على أن ينصب نفسه لإيراد علم البيان وتفصيل أبوابه، ويكون أحد الأبواب التي «1» ذكرناها داخلا في الآخر؛ فيذهب عليه ذلك، ويخفى عنه، وهو أشهر من فلق الصباح. وربما جهل بعض الناس فأدخل في التجنيس ما ليس منه؛ نظرا إلى مساواة اللفظ دون اختلاف المعنى؛ فمن ذلك قول أبي تمام «2» : أظنّ الدّمع في خدّي سيبقي ... رسوما من بكائي في الرّسوم وهذا ليس من التجنيس في شيء؛ إذا حدّ التجنيس هو اتفاق اللفظ واختلاف

المعنى، وهذا البيت المشار إليه هو اتفاق اللفظ والمعنى معا، وهذا مما ينبغي أن ينبه عليه ليعرف. ومن علماء البيان من جعل له اسما سمّاه به، وهو الترديد: أي أن اللفظة الواحدة ردّدت فيه. وحيث نبهت عليه ههنا فلا أحتاج أن أعقد له بابا أفرده بالذكر فيه. وأما الأقسام الستة المشبهة بالتجنيس؛ فالقسم الأول منها: أن تكون الحروف متساوية في تركيبها مختلفة في وزنها، فمما جاء من ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اللهمّ كما حسّنت خلقي حسّن خلقي» ألا ترى أن هاتين اللفظتين متساويتان في التركيب، مختلفتان في الوزن؛ لأن تركيب الخلق والخلق من ثلاثة أحرف، وهي الخاء واللام والقاف، إلا أنهما قد اختلفا في الوزن، إذ وزن الخلق فعل بفتح الفاء، ووزن الخلق فعل بضم الفاء. ومن هذا القسم قول بعضهم: «لا تنال غرز المعالي إلّا بركوب الغرر واهتبال الغرر» . وقال البحتري «1» : وفرّ الحائن المغرور يرجو ... أمانا أيّ ساعة ما أمان «2» يهاب الإلتفات وقد تهيّا ... للحظة طرفه طرف السّنان «3» وكذلك ورد قول الآخر: قد ذبت بين حشاشة وذماء ... ما بين حرّ هوى وحرّ هواء

القسم الثاني

القسم الثاني من المشبه بالتجنيس، وهو أن تكون الألفاظ متساوية في الوزن مختلفة في التركيب بحرف واحد لا غير، وإن زاد على ذلك خرج من باب التجنيس. فمما جاء قوله تعالى: «وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة» فإن هاتين اللفظتين على وزن واحد؛ إلا أن تركيبهما مختلف في حرف واحد، وكذلك قوله تعالى: «وهم ينهون عنه وينأون عنه» وكذلك قوله تعالى: «ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون» . وعلى نحو من هذا ورد قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الخيل معقود بنواصيها الخير» وقال بعضهم: لا تنال المكارم إلّا بالمكاره. وقال أبو تمام «1» : يمدّون من أيد عواص عواصم ... تصول بأسياف قواض قواضب «2» وقال البحتري «3» : من كلّ ساجي الطّرف أغيد أجيد ... ومهفهف الكشحين أحوى أحور «4»

القسم الثالث من المشبه بالتجنيس،

وكذلك قوله «1» : شواجر أرماح تقطّع بينهم ... شواجن أرحام ملوم قطوعها القسم الثالث من المشبه بالتجنيس، وهو أن تكون الألفاظ مختلفة في الوزن والتركيب بحرف واحد، كقوله تعالى: «والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق» وقوله تعالى: «وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا» وكذلك ورد قوله صلّى الله عليه وسلّم: «المسلم من سلم النّاس من لسانه ويده» . ودخل ثعلب صاحب كتاب الفصيح على أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، ومجلسه غاصّ، فجلس إلى جانبه، ثم أقبل عليه، وقال: أخاف أن أكون ضيّقت عليك، على أنه لا يضيق مجلس بمتحابين ولا تسع الدنيا بأسرها متباغضين؛ فقال له أحمد: الصّديق لا يحاسب والعدوّ لا يحتسب له، وهذا كلام حسن من كلا الرجلين، والتجنيس في كلام أحمد رحمه الله في قوله: «يحاسب ويحتسب له» . وقد جاءني شيء من ذلك عليه خفّة الطبع؛ لا ثقل التطبع. فمنه ما ذكرته في فصل من كتاب إلى ديوان الخلافة يتضمن ذكر الجهاد فقلت: وخيل الله قد اشتاقت أن يقال لها اركبي، وسيوفه قد تطلّعت أن يقال لها اضربي، ومواطن الجهاد قد بعد عهدها باستسقاء شآبيب النحور، وإنبات ربيع الذباب والنسور، وما ذاك إلا لأن العدو إذا طلب تقمص ثوب إذلاله، وتنصّل من صحة نصاله، واعتصم بمعاقله التي لا فرق بينها وبين عقاله.

ومن ذلك ما ذكرته في وصف كريم؛ فقلت: وقد جعل الله حرمه ملقى الجفان، وملتقى الأجفان، فهو حمى لمن جنى عليه زمانه، وجار لمن بعد عنه جيرانه. ومن ذلك ما ذكرته في فصل من كتاب إلى ديوان الخلافة، وهو: ولقد استبان الخادم من بركة طاعته ما يعمى عنه غيره فما يراه، ووجد من أثره في صلاح دنياه ما استدل به على صلاح أخراه، فهو المركب المنجّي، والعمل المرجوّ لا المرجّي، والمعنى المراد بهداية الصراط المستقيم، وتأويل قوله تعالى: «فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم» . ومن ذلك ما ذكرته في أثناء كتاب إلى بعض الإخوان وذلك وصف بعض المنعمين، فقلت: نحن من حسن شيمه وفواصل إحسانه بين هند وهنيدة، ومن يمن نقيبته وأمانة غيبه بين أمّ معبد وأبي عبيدة. ومن ذلك ما ذكرته في مطلع كتاب إلى بعض الإخوان، فقلت: الكتب وإن عدّها قوم عرضا من الأعراض، وتقالوها حتى قالوا هي سواد في بياض؛ فإن لها عند الإخوان وجها وسيما، ومحلا كريما، وهي حمائم القلوب إذا فارق حميم حميما، ومن أحسنها كتاب سيدنا ... ثم مضيت على هذا النهج إلى آخر الكتاب. ومن هذا القسم قول أبي تمام «1» : أيّام تدمي عينه تلك الدّما ... فيها وتقمر لبّه الأقمار وكذلك قوله «2» :

بيض فهنّ إذا رمقن سوافرا ... صور وهنّ إذا رمقن صوار «1» وكذلك قوله «2» : بدر أطالت فيك بادرة النّوى ... ولعا وشمس أولعت بشماس «3» وكذلك قوله «4» : كادوا النّبوّة والهدى فتقطّعت ... أعناقهم في ذلك المضمار جهلوا فلم يستكثروا من طاعة ... معروفة بعمارة الأعمار وكذلك قوله «5» : إنّ الرّماح إذا غرسن بمشهد ... فجنى العوالي في ذراه معالي

وكذلك قوله «1» : إذا أحسن الأقوام أن يتطاولوا ... بلا نعمة أحسنت أن تتطوّلا «2» وكذلك قوله «3» : أيّ ربع يكذّب الدّهر عنه ... وهو ملقى على طريق اللّيالي بين حال جنت عليه وحول ... فهو نضو الأحوال والأحوال شدّ ما استنزلتك عن دمعك الأ ... ظعان حتّى استهلّ صوب العزالي أيّ حسن في الذّاهبين تولّى ... وجمال على ظهور الجمال ودلال مخيّم في ذرى الخيم ... وحجل معصّم في الحجال فالبيت الثاني والخامس هما المقصودان بالتمثيل ههنا، والأبيات الباقية جاءت تبعا.

القسم الرابع

ومما جاء من ذلك قول علي بن جبلة: وكم لك من يوم رفعت بناءه ... بذات جفون أو بذات جفان وكذلك قول محمد بن وهيب الحميري: قسمت صروف الدّهر بأسا ونائلا ... فمالك موتور وسيفك واتر وهذا من المليح النادر. ومن هذا القسم قول البحتري «1» : جدير بأن تنشقّ عن ضوء وجهه ... ضبابة نقع تحتها الموت ناقع وكذلك قوله «2» : نسيم الرّوض في ريح شمال ... وصوب المزن في راح شمول وذم أعرابي رجلا فقال: كان إذا سأل ألحف، وإذا سئل سوّف، يحسد على الفضل، ويزهد في الإفضال. القسم الرابع من المشبه بالتجنيس، ويسمى المعكوس، وذلك ضربان: أحدهما: عكس الألفاظ، والآخر عكس الحروف. فالأول كقول بعضهم: عادات السّادات سادات العادات؛ وكقول الآخر: شيم الأحرار أحرار الشيم.

ومن هذا النوع مما ورد شعرا قول الأضبط بن قريع من شعراء الجاهلية «1» : قد يجمع المال غير آكله ... ويأكل المال غير من جمعه ويقطع الثّوب غير لابسه ... ويلبس الثّوب غير من قطعه وكذلك ورد قول أبي الطيب المتنبي «2» : فلا مجد في الدّنيا لمن قلّ ماله ... ولا مال في الدّنيا لمن قلّ مجده وكذلك قول الشريف الرضي من أبيات يذم فيها الزمان: أسفّ بمن يطير إلى المعالي ... وطار بمن يسفّ إلى الدّنايا وكذلك قول الآخر: إنّ اللّيالي للأنام مناهل ... تطوى وتنشر بينها الأعمار فقصارهنّ من الهموم طويلة ... وطوالهنّ من السّرور قصار وأحسن من هذا كله وألطف قول ابن الزقاق الأندلسي: غيّرتنا يد الزّما ... ن فقد شبت والتحى فاستحال الضّحى دجا ... واستحال الدّجا ضحى وهذا الضرب من التجنيس له حلاوة، وعليه رونق، وقد سماه قدامة بن جعفر الكاتب التّبديل، وذلك اسم مناسب لمسماه؛ لأن مؤلّف الكلام يأتي بما كان مقدّما في جزء كلامه الأول مؤخّرا في الثاني، وبما كان مؤخرا في الأول مقدّما في الثاني، ومثله قدامة بقول بعضهم: اشكر لمن أنعم عليك وأنعم على من شكرك.

ومن هذا القسم قوله تعالى: «يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي» * وكذلك ورد قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «جار الدّار أحقّ بدار الجار» . وكتب علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنه كتابا؛ فقال: أما بعد فإن الإنسان يسرّه درك ما لم يكن ليفوته، ويسوءه فوت ما لم يكن ليدركه؛ فلا تكن بما نلت من دنياك فرحا، ولا بما فاتك منها ترحا، ولا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل، ويؤخر التوبة بطول أمل، وكأن قد؛ والسلام. وروي عن أبي تمام أنه لما قصد عبد الله بن طاهر بن الحسين بخراسان وامتدحه بقصيدته المشهورة التي مطلعها: أهنّ عوادي يوسف وصواحبه أنكر عليه أبو سعيد الضّرير وأبو العميثل هذا الابتداء. وقالا: لم لا يقول ما يفهم؟ فقال: لم لا يفهما ما يقال؟ فاستحسن منه هذا الجواب على الفور، وهو من التجنيس المشار إليه. وقد جاءني شيء منه، كقولي في فصل من كتاب يتضمن فتحا، وهو: فكم كان من افتراع عذرة الحصن من افتراع عذرة حصان، وكم حيز به من سنان لحظ استرقّه لحظ سنان. وكذلك قولي في صدر كتاب إلى ديوان الخلافة، وهو: الخادم يبلغ خدمته إلى ذلك الجناب التي تمطره الشفاه قبلا، وتوسعه العفاة أملا، وترى الخول به ملوكا والملوك خولا، وطاعته هي محكّ الأعمال التي أشير إليها بقوله تعالى: «ليبلوكم أيكم أحسن عملا» *. وكذلك ورد قولي أيضا، وهو فصل من تقليد وزير، فقلت: وقد صدّق الله لهجة المثني عليك أن يقول: إنك الرجل الذي تضرب به الأمثال، والمهذب الذي لا يقال معه: أيّ الرجال، وإذا وازرت مملكة فقد حظيت منك بشد أزرها، وسد ثغرها، وأصبحت وأنت صدر لقلبها وقلب لصدرها، فهي مزدانة منك بالفضل المتين، معانة بالقويّ الأمين.

القسم الخامس

وأما الضرب الثاني من هذا القسم، وهو عكس الحروف، فهو كقول بعضهم: أهديت شيئا يقلّ لولا ... أحدوثة الفال والتّبرّك كرسي تفاءلت فيه لمّا ... رأيت مقلوبه يسرّك وكذلك قول الآخر: كيف السّرور بإقبال وآخره ... إذا تأمّلته مقلوب إقبال «1» وأجود من هذا كله قول الآخر: جاذبتها والرّيح تجذب عقربا ... من فوق خد مثل قلب العقرب وطفقت ألثم ثغرها فتمنّعت ... وتحجّبت عنّي بقلب العقرب وإذا قلب لفظ عقرب صار برقعا. وهذا الضرب نادر الاستعمال «2» ؛ لأنه قلّ ما يقع كلمة تقلب حروفها فيجيء معناها صوابا. القسم الخامس من المشبه بالتجنيس، ويسمى المجنّب، وذاك أن يجمع مؤلف الكلام بين كلمتين إحداهما كالتبع للأخرى والجنيبة لها، كقول بعضهم: أبا العبّاس لا تحسب بأنّي ... لشيء من حلى الأشعار عاري فلي طبع كسلسال معين ... زلال من ذرا الأحجار جاري وهذا القسم عندي فيه نظر؛ لأنه بلزوم ما لا يلزم أولى منه بالتجنيس، ألا ترى أن التجنيس هو اتّفاق اللفظ واختلاف المعنى، وههنا لم يتفق إلا جزء من اللفظ، وهو أقله، وأما اللزوم في الكلام المنثور فهو تساوي الحروف التي قبل

القسم السادس

الفواصل المسجوعة، وهذا هو كذلك؛ لأن العين والراء تساويا في البيت الأول في قوله الأشعار وعار والجيم والراء في البيت الثاني في قوله الأحجار وجار. القسم السادس من المشبه بالتجنيس، وهو ما يساوي وزنه تركيبه غير أن حروفه تتقدم وتتأخر، وذلك كقول أبي تمام «1» : بيض الصّفائح لا سود الصّحائف في ... متونهنّ جلاء الشّكّ والرّيب فالصفائح والصحائف مما تقدمت حروفه وتأخرت. وقد ورد في الكلام المنثور، كقوله صلّى الله عليه وسلّم في فضيلة تلاوة القرآن الكريم: «يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارق ورتّل كما كنت ترتّل في الدّنيا فإنّ منزلتك عند آخر آية تقرأ» فقوله صلّى الله عليه وسلّم: «اقرأ وارق» من التجنيس المشار إليه في هذا القسم. النوع الثالث في الترصيع وهو مأخوذ من ترصيع العقد، وذاك أن يكون فى أحد جانبي العقد من اللآلئ مثل ما في الجانب الآخر، وكذلك نجعل هذا في الألفاظ المنثورة من الأسجاع، وهو أن تكون كل لفظة من ألفاظ الفصل الأول مساوية لكل لفظة من ألفاظ الفصل الثاني في الوزن والقافية، وهذا لا يوجد في كتاب الله تعالى؛ لما هو عليه من زيادة التكلف؛ فأما قول من ذهب إلى أن في كتاب الله منه شيئا ومثله بقوله تعالى: «إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم» فليس الأمر كما وقع له؛ فإن لفظه (لفي) قد وردت في الفقرتين معا، وهذا يخالف شرط الترصيع الذي شرطناه، لكنه قريب منه، وأما الشعر فإني كنت أقول: إنه لا يتّزن على هذه الشريطة، ولم أجده في أشعار العرب؛ لما فيه من تعمّق الصنعة وتعسف الكلفة، وإذا جيء به في الشعر لم يكن عليه محض الطلاوة التي تكون إذا جيء به في

الكلام المنثور، ثم إني عثرت عليه في شعر المحدثين، ولكنه قليل جدا؛ فمن ذلك قول بعضهم: فمكارم أوليتها متبرّعا ... وجرائم ألغيتها متورّعا «1» فمكارم بإزاء جرائم، وأوليتها بإزاء ألغيتها، ومتبرعا بإزاء متورعا. وقد أجاز بعضهم أن يكون أحد ألفاظ الفصل الأول مخالفا لما يقابله من الفصل الثاني، وهذا ليس بشيء؛ لمخالفته حقيقة الترصيع. فمما جاء من هذا النوع منثورا قول الحريري في مقاماته: «فهو يطبع الأسجاع بجواهر لفظه، ويقرع الأسماع بزواجر وعظه» ؛ فإنه جعل ألفاظ الفصل الأول مساوية لألفاظ الفصل الثاني وزنا وقافية؛ فجعل يطبع بإزاء يقرع، والأسجاع بإزاء الأسماع، وجواهر بإزاء زواجر، ولفظه بإزاء وعظه. ومما جاءني من هذا النوع ما ذكرته في جواب كتاب إلى بعض الإخوان، وهو: قد أعدت الجواب ولم أستعر له نظما ملفّقا، ولا جلبت إليه حسنا منمّقا، بل أخرجته على رسله، وغنيت بصقال حسنه عن صقله، فجاء كما تراه غير ممشوط ولا مخطوط، فهو يرفل في أثواب بذلته، وقد حوى الجمال بجملته، والحسن ما وشته فطرة التصوير، لا ما حشته فكرة التزوير. والترصيع في قولي: «وشته فطرة التصوير» و «حشته فكرة التزوير» . وكذلك ورد قولي في فصل من الكلام يتضمن تثقيف الأولاد؛ فقلت: من قوّم أود أولاده، ضرّم كمد حسّاده؛ فهذه الألفاظ متكافئة في ترصيعها، فقوّم بإزاء ضرّم، وأود بإزاء كمد، وأولاده بإزاء حساده. وكذلك قول بعضهم في الأمثال المولدة التي لم ترد عن العرب، وهو: من أطاع غضبه أضاع أدبه؛ فأطاع بإزاء أضاع، وغضبه بإزاء أدبه.

وقد ورد هذا الضرب كثيرا في الخطب التي أنشأها الشيخ الخطيب عبد الرحيم بن نباتة رحمه الله: فمن ذلك قوله في أول خطبة: الحمد لله عاقد أزمّة الأمور بعزائم أمره، وحاصد أئمة الغرور بقواصم مكره، وموفّق عبيده لمغانم ذكره، ومحقّق مواعيده بلوازم شكره؛ فالألفاظ التي جاءت في الفصلين الأولين متساوية وزنا وقافية، والتي جاءت في الفصلين الآخرين فيها تخالف في الوزن؛ فإن مواعيد تخالف وزن عبيد، ولا تخالف قافيتها التي هي الدال. ومن ذلك قوله أيضا في جملة خطبة: أولئك الذين أفلوا فنجمتم، ورحلوا فأقمتم، وأبادهم الموت كما علمتم، وأنتم الطامعون في البقاء بعدهم كما زعمتم، كلا! والله ما أشخصوا لتقروا، ولا نغّصوا لتسرّوا، ولا بد أن تمروا حيث مروا، فلا تثقوا بخدع الدنيا ولا تغتروا؛ وهذا الكلام فيه أيضا ما في الذي قبله من صحة الوزن والقافية وصحة القافية دون الوزن. وكذلك قوله أيضا في خطبة أخرى: أيها الناس، أسيموا القلوب في رياض الحكم، وأديموا النّحيب على ابيضاض اللّمم، وأطيلوا الاعتبار بانتقاص النعم، وأجيلوا الأفكار في انقراض الأمم. وأما ما ورد في الشعر على مخالفة بعض الألفاظ بعضا فكقول ذي الرمة «1» : كحلاء في برج صفراء في دعج ... كأنّها فضّة قد مسّها ذهب «2» وصدر هذا البيت مرصع، وعجزه خال من الترصيع؛ وعذر الشاعر في ذلك واضح؛ لأنه مقيد بالوقوف مع الوزن والقافية، ألا ترى أن ذا الرمة بنى قصيدته على

النوع الرابع في لزوم ما لا يلزم

حرف الباء؛ ولو رصع هذا البيت الترصيع الحقيقي لكان يلزمه أن يأتي بألفاظه على حرفين حرفين أحدهما الباء، أو كان يقسم البيت نصفين ويماثل بين ألفاظ هذا النصف وهذا النصف، وذلك مما يعسر وقوعه في الشعر. وأرباب هذه الصناعات قد قسموا الترصيع إلى هذين القسمين المذكورين، وهذه القسمة لا أراها صوابا؛ لأن حقيقة الترصيع موجودة في القسم الأول دون الثاني. ومما جاء من هذا القسم الثاني قول الخنساء «1» : حامي الحقيقة محمود الخليفة مه ... ديّ الطّريقة نفّاع وضرّار وكذلك قول الآخر «2» : سود ذوائبها بيض ترائبها ... محض ضرائبها صيغت من الكرم النوع الرابع في لزوم ما لا يلزم وهو من أشقّ هذه الصناعة مذهبا، وأبعدها مسلكا، وذاك لأن مؤلفه يلتزم ما لا يلزمه، فإن اللازم في هذا الموضع وما جرى مجراه إنما هو السجع الذي هو تساوي أجزاء الفواصل من الكلام المنثور في قوافيها، وهذا فيه زيادة على ذلك،

وهو أن تكون الحروف التي قبل الفاصلة حرفا واحدا، وهو في الشعر أن تتساوى الحروف التي قبل روى الأبيات الشعرية. وقد جمع أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان في ذلك كتابا، وسماه كتاب اللزوم، فأتى فيه بالجيد الذي يحمد، والرديء الذي يذم. وسأذكر في كتابي هذا في هذا الموضع أمثلة من المنثور والمنظوم يهتدى بها. فمن ذلك ما ذكرته في جملة كتاب في فصل يتضمن ذم جبان، فقلت: إذا نزل به خطب ملكه الفرق، وإذا ضلّ في أمر لم يؤمن إلا إذا أدركه الغرق. ومن ذلك ما ذكرته في مبدأ كتاب إلى بعض الإخوان، فقلت: الخادم يهدي من دعائه وثنائه ما يسلك أحدهما سماء والآخر أرضا، ويصون أحدهما نفسا والآخر عرضا، وأعجب ما فيهما أنهما تؤأمان، غير أن هذا مستنتج من ضمير القلب وهذا من نطق اللسان؛ فاللزوم ههنا في الراء والضاد. وكذلك ورد قولي في جملة كتاب إلى ديوان الخلافة، فقلت: وقد علم من شيم الديوان العزيز أنه يسرّ بامتداد الأيدي إلى بابه، وإذا أغبّ أحدها في المسألة نهاه عن إغبابه، حتى لا يخلو حرمه الكريم من المطاف، ولا يده الكريمة من الإسعاف؛ فاللزوم ههنا في لفظتي «بابه» و «إغبابه» . ومن ذلك ما كتبته في جملة كتاب إلى ديوان الخلافة أيضا، وهو: ومهما شدّ به عضد الخادم من الإنعام فإنه قوة لليد التي خوّلته، ولا يقوى تصعّد السحب إلا بكثرة غيثها الذي أنزلته، وغير خاف أن عبيد الدولة لها كالعمد من طرافها، ومركز الدائرة من أطرافها، ولا يؤيّد السيف إلا بقائمه، ولا ينهض الجناح إلا بقوادمه؛ فاللزوم في هذا الموضع في الراء والفاء في قولي «طراف» و «أطراف» . ومن ذلك ما كتبته في صدر كتاب إلى الملك الأفضل علي بن يوسف أهنئه بملك مصر في سنة خمس وتسعين وخمسمائة، فقلت: المملوك يهنئ مولانا بنعمة الله المؤذنة باستخلاصه واحتبائه، وتمكينه حتى بلغ أشدّه واستخرج كنز

آبائه، ولو أنصف لهنّأ الأرض منه بوابلها، والأمة بكافلها، وخصوصا أرض مصر التي خصت بشرف سكناه، وغدت بين بحرين من فيض البحر وفيض يمناه. وكل هذه الفصول المذكورة من هذه المكتوبات التي أنشأتها لا كلفة على كلمات اللزوم فيها. وقرأت في كتاب الأغاني لأبي الفرج: أن لقيط بن زرارة تزوج بنت قيس بن خالد بن ذي الجدين، فحظيت عنده وحظي عندها، ثم قتل فآمت بعده وتزوجت زوجا غيره، فكانت كثيرا ما تذكر لقيطا، فلامها على ذلك؛ فقالت: إنه خرج في يوم دجن وقد تطيّب وشرب، فطرد البقر فصرع منها، ثم أتاني وبه نضح دم، فضمّني ضما، وشمّني شمّة، فليتني متّ ثمّة، فلم أر منظرا كان أحسن من لقيط، فقولها: «ضمني ضمة، وشمني شمة، فليتني مت ثمة» من الكلام الحلو في باب اللزوم، ولا كلفة عليه. وهكذا فليكن؛ فإن الكلفة وحشة تذهب برونق الصنعة، وما ينبغي لمؤلف الكلام أن يستعمل هذا النوع حتى يجيء به متكلفا؛ ومثاله في هذا المقام كمن أخذ موضوعا رديئا فأجاد فيه صنعته؛ فإنه يكون عند ذلك قد راعى الفرع وأهمل الأصل، فأضاع جودة الصنعة في رداءة الموضوع. وقد سلك ذلك أبو العلاء المعري أحمد بن عبد الله بن سليمان؛ فمما جاء من ذلك قوله في حرف التاء مع الخاء: بنت عن الدّنيا ولا بنت لي ... فيها ولا عرس ولا أخت وقد تحمّلت من الوزر ما ... تعجز أن تحمله البخت إن مدحوني ساءني مدحهم ... وخلت أنّي في الثّرى سخت وله من ذلك الجيد، كقوله: لا تطلبنّ بآلة لك حاجة ... قلم البليغ بغير جد مغزل سكن السّما كان السّماء كلاهما ... هذا له رمح وهذا أعزل

وهذا بين الاسترسال وبين الكلفة. وأما ما تكلف له تكلفا ظاهرا وإن أجاد فقوله: تنازع في الدّنيا سواك وما له ... ولا لك شيء في الحقيقة فيها «1» ولكنّها ملك لربّ مقدّر ... يعير جنوب الأرض مرتد فيها ولم تحظ من ذاك النّزاع بطائل ... من الأمر إلّا أن تعدّ سفيها «2» فيا نفس لا تعظم عليك خطوبها ... فمتّفقوها مثل مختلفيها «3» تداعوا إلى النّزر القليل فجالدوا ... عليه وخلّوها لمغترفيها وما أمّ صلّ أو حليلة ضيغم ... بأظلم من دنياك فاعترفيها تلاقي الوفود القادميها بفرحة ... وتبكي على آثار منصرفيها «4» وما هي إلّا شوكة ليس عندها ... وجدّك إرطاب لمختر فيها «5» كما نبذت للطّير والوحش رازم ... فألقت شرورا بين مختطفيها تناؤت عن الإنصاف من ضيم لم ... يجد سبيلا إلى غايات منتصفيها «6»

فأطبق فما عنها وكفّا ومقلة ... وقل لغويّ النّاس فاك لفيها «1» ومن ذلك «2» : أرى الدّنيا وما وصفت ببرّ ... إذا أغنت فقيرا أرهقته «3» إذا خشيت لشر عجّلته ... وإن رجيت لخير عوّقته «4» حياة كالحبالة ذات مكر ... ونفس المرء صيد أعلقته فلا يخدع بحيلتها أريب ... وإن هي سوّرته ونطّقته «5» أذاقته شهيّا من جناها ... وصدّت فاه عمّا ذوّقته وقد ورد للعرب شيء من ذلك إلا أنه قليل؛ فمما جاء منه قول بعضهم في أبيات الحماسة «6» : إنّ الّتي زعمت فؤادك ملّها ... خلقت هواك كما خلقت هوى لها بيضاء باكرها النّعيم فصاغها ... بلباقة فأدقّها وأجلّها حجبت تحيّتها فقلت لصاحبي ... ما كان أكثرها لنا وأقلها وإذا وجدت لها وساوس سلوة ... شفع الضّمير إلى الفؤاد فسلّها وهذا من اللطافة على ما يشهد لنفسه: ومما يجري هذا المجرى قول حجر بن حيّة العبسي من شعر الحماسة أيضا «7» :

ولا أدوّم قدري بعدما نضجت ... بخلا فتمنع ما فيها أثافيها «1» حتّى تقسّم شتّى بين ما وسعت ... ولا يؤنّب تحت اللّيل عافيها ومما ورد من ذلك أيضا قول طرفة بن العبد البكري «2» : ألم تر أنّ المال يكسب أهله ... فضوحا إذا لم يعط منه نواسبه أرى كلّ مال لا محالة ذاهبا ... وأفضله ما ورّث الحمد كاسبه وكذلك قول الفرزدق «3» : وغيّر لون راحلتي ولوني ... تردّيّ الهواجر واعتمامي «4» أقول لها إذا ضجرت وعضّت ... بموركة الوراك مع الزّمام «5» علام تلفّتين وأنت تحتي ... وخير النّاس كلّهم أمامي «6» وكذلك قوله أيضا «7» :

منع الحياة من الرّجال ونفعها ... حدق تقلّبها النّساء مراض وكأنّ أفئدة الرّجال إذا رأوا ... حدق النّساء لنبلها أغراض وإذا شئت أن تعلم مقادير الكلام وكان لك ذوق صحيح فانظر إلى هذا العربي في كلامه السهل الذي كأنه ماء جار، وانظر إلى ما أوردته لأبي العلاء المعري؛ فإن أثر الكلفة عليه باد ظاهر. وممن قصد من العرب قصيدة كله من اللزوم كثيّر عزّة، وهي القصيدة التي أولها: خليليّ هذا ربع عزّة فاعقلا ... قلوصيكما ثمّ احللا حيث حلّت «1» وهذه القصيدة تزيد على عشرين بيتا، وهي مع ذلك سهلة لينة تكاد تترقرق من لينها وسهولتها، وليس عليها من أثر الكلفة شيء، ولولا خوف الإطالة لأوردتها بجملتها. وقد ذكر بعضهم من هذا النوع ما ورد في أبيات الحماسة، وهو «2» : وفيشة ليست كهذي الفيش ... قد ملئت من ترف وطيش «3» إذا بدت قلت أمير الجيش ... من ذاقها يعرف طعم العيش وهذا ليس من باب اللزوم؛ لأن اللزوم هو أن يلتزم الناظم والناثر ما لا يلزمه؛ كقولنا: شرق، وفرق؛ مثلا؛ فإنه لو قيل بدلا من ذلك شرق وحنق لجاز ذلك، وفي

هذه الأبيات لا يقع الأمر كذلك؛ لأنه لو قيل: طيش وعرش لما جاز، وهذا يقال له الردف في الشعر، وهو الياء والواو قبل حرف الروي، وإذا جيء بذلك في الشعر وفي الكلام المنثور لا يقال إنه التزام ما لا يلزم؛ لأن الملتزم ما لا يلزم له مندوحة في العدول إلى غيره، وههنا لا مندوحة. ومن لطيف ذلك ما يروى لامرأة من البصرة مجنت بأبي نواس، فقالت: إنّ جري حزنبل حزابيه ... إذا قعدت فوقه نبابيه كالأرنب الجاثم فوق الرّابيه وكذلك ورد قول أبي تمام «1» ، وهو: خدم العلا فخدمنه وهي الّتي ... لا تخدم الأقوام ما لم تخدم فإذا ارتقى في قلّة من سود ... قالت له الأخرى بلغت تقدّم وعلى هذا الأسلوب قوله أيضا «2» : ولو جرّبتني لوجدت خرقا ... يصافي الأكرمين ولا يصادي «3» جديرا أن يكرّ الطّرف شزرا ... إلى بعض الموارد وهو صادي «4» وله من أبيات تتضمن مرثية «5» :

لقد فجعت عتّابه وزهيره ... وتغلبه أخرى اللّيالي ووائله «1» ومبتدر المعروف تسري هباته ... إليهم ولا تسري إليهم غوائله طواه الرّدى طيّ الرّداء وغيّبت ... فضائله عن قومه وفواضله طوى شيما كانت تروح وتغتدي ... وسائل من أعيت عليه وسائله فيا عاضا للعرف أقلع مزنه ... ويا واديا للجود جفّت مسايله ألم ترني أنزفت عيني على أبي ... محمّد النّجم المشرّق آفله «2» وأخضلتها فيه كما لو أتيته ... طريد اللّيالي أخضلتني نوافله «3» وهذا من أحسن ما يجيء في هذا الباب، وليس بمتكلف كشعر أبي العلاء؛ فإن حسن هذا مطبوع، وحسن ذاك مصنوع، وكذلك أقول في غير اللزوم من الأنواع المذكورة أولا؛ فإن الألفاظ إذا صدرت فيها عن سهولة خاطر وسلاسة طبع وكانت غير مستجلبة ولا متكلفة جاءت غير محتاجة إلى التألف، ولا شك أن صورة الخلقة غير صورة التخلق. فإن قيل: ما الفرق بين المتكلّف من هذا الأنواع وغير المتكلف؟. قلت في الجواب: أما المتكلف فهو الذي يأتي بالفكرة والروية، وذلك أن ينضى الخاطر في طلبه، ويبعث على تتبعه واقتصاص أثره، وغير المتكلف يأتي مستريحا من ذلك كله، وهو أن يكون الشاعر في نظم قصيدته أو الخطيب أو الكاتب في إنشاء خطبته أو كتابته، فبينا هو كذلك إذا سنح له نوع من هذه الأنواع بالاتفاق لا بالسعي والطلب؛ ألا ترى أن قول أبي نواس في مثل هذا الموضع: أترك الأطلال لا تعبأ بها ... إنّها من كلّ بؤس دانيه وانعت الرّاح على تحريمها ... إنّما دنياك دار فانيه

من عقار من رآها قال لي ... صيدت الشّمس لنا في آنيه وعلى هذه السهولة واللطافة ورد قوله أيضا: كم من غلام ذي تحاسين ... أفسده ناطف ياسين وهذا ياسين كان يبيع الناطف ببغداد. وحكى إبراهيم البندنيجي قال: رأيت شيخا ضعيفا يبيع ناطفا، فقلت له: يا شيخ، أما زلت في الصناعة؟ قال: مذ كنت، ولكن الحال كانت واسعة والسلعة نافقة، وكنت ممن يشار إليّ، حتى قال أبو نواس فيّ، وأنشد هذا البيت. فانظر أيها المتأمل ما أحلى لفظ أبي نواس في لزومه، وما أعراه عن الكلفة، وكذلك فلتكن الألفاظ في اللزوم وغيره. واعلم أنه إذا صغّرت الكلمة الأخيرة من الشعر أو من فواصل الكلام المنثور فإن ذلك ملحق باللزوم، ويكون التصغير عوضا عن تساوي الحروف التي قبل روى الأبيات الشعرية والحروف التي قبل الفاصلة من النثر؛ فمن ذلك قول بعضهم: عزّ على ليلى بذي سدير ... سوء مبيتي ليلة الغمير مقضّبا نفسي في طمير ... تنتهز الرّعدة في ظهيري «1» يهفو إليّ الزّور من صديري ... ظمآن في ريح وفي مطير وازر قر ليس بالغرير ... من لد ما ظهر إلى سحير «2» حتّى بدت لي جبهة القمير ... لأربع خلون من شهير

وهذا من محاسن الصنعة في هذا الباب فاعرفه. وأحسن منه ما ورد عن أبي نواس وعن عنان جارية النطاف، وله معها حكايات كثيرة غير هذه، فقال أبو نواس: أما ترقّي لصب ... يكفيه منك نظيره «1» فقالت عنان: إيّاي تعني بهذا ... عليك فاجلد عميره فقال أبو نواس: أخاف إن رمت هذا ... على يدي منك غيره فالبيتان الأول والثاني من هذا الباب، والثالث جاء تبعا. وقد ورد في القرآن الكريم شيء من اللزوم إلا أنه يسير جدا. فمن ذلك قوله تعالى: «اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق» وقوله تعالى: «والطور وكتاب مسطور» وكذلك ورد قوله تعالى في هذه السورة: «فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون، أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون» . وربما وقع بعض الجهال في هذا الموضع؛ فأدخل فيه ما ليس منه؛ كقوله تعالى: «إن المتقين في جنات ونعيم، فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم» وهذا لا يدخل في باب اللزوم؛ لأن الأصل فيه نعم وجحم. والياء هي من حروف المد واللين، فلا يعتد بها ههنا. ومن هذا الباب قوله تعالى: «وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين، في سدر مخضود، وطلح منضود» .

النوع الخامس في الموازنة

وكذلك ورد قوله تعالى: «وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير، وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير» . وعلى هذا الأسلوب جاء قوله تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام: «يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا، قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا» . وعلى نحو هذا جاء قوله تعالى: «قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد، قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد» . ولا تجد أمثال ذلك في القرآن إلا قليلا. النوع الخامس في الموازنة وهي أن تكون ألفاظ الفواصل من الكلام المنثور متساوية في الوزن، وأن يكون صدر البيت الشعري وعجزه متساوي الألفاظ وزنا، وللكلام بذلك طلاوة ورونق، وسببه الاعتدال؛ لأنه مطلوب في جميع الأشياء، وإذا كانت مقاطع الكلام معتدلة وقعت من النفس موقع الاستحسان، وهذا لا مراء فيه لوضوحه. وهذا النوع من الكلام هو أخو السجع في المعادلة دون المماثلة؛ لأن في السجع اعتدالا وزيادة على الاعتدال، وهي تماثل أجزاء الفواصل لورودها على حرف واحد، وأما الموازنة ففيها الاعتدال الموجود في السجع، ولا تماثل في فواصلها؛ فيقال إذا: كل سجع موازنة، وليس كل موازنة سجعا، وعلى هذا فالسجع أخص من الموازنة.

فمما جاء منها قوله تعالى: «وآتيناهما الكتاب المستبين، وهديناهما الصراط المستقيم» فالمستبين والمستقيم على وزن واحد. وكذلك قوله تعالى في سورة مريم عليها السلام: «واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا، كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا، ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا، فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا» . وكذلك قوله تعالى في سورة طه: «من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا، خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا» . وكذلك ورد قوله تعالى في سورة حم عسق: «والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد، الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب، يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد، الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز، من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب، أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم، ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير» ، وهذه الآيات جميعها على وزن واحد؛ فإن «شديد» و «قريب» و «بعيد» و «عزيز» و «نصيب» و «أليم» و «كبير» كل ذلك على وزن فعيل، وإن اختلف حروف المقاطع التي هي فواصلها. وأمثال هذا في القرآن كثير، بل معظم آياته جارية على هذا النهج، حتى إنه لا تخلو منه سورة من السور، ولقد تصفّحته فوجدته لا يكاد يخرج منه شيء عن السجع والموازنة.

النوع السادس في اختلاف صيغ الألفاظ واتفاقها

وأما ما جاء من هذا النوع شعرا فقول ربيعة بن ذؤابة «1» : إن يقتلوك فقد ثلت عروشهم ... بعتيبة بن الحرث بن شهاب بأشدّهم بأسا على أصحابه ... وأعزّهم فقدا على الأصحاب «2» فالبيت الثاني هو المختص بالموازنة؛ فإن بأسا وفقدا على وزن واحد. النوع السادس في اختلاف صيغ الألفاظ واتفاقها وهو من هذه الصناعة بمنزلة علية، ومكانة شريفة، وجلّ الألفاظ اللفظية منوطة به، ولقد لقيت جماعة من مدّعي فن الفصاحة، وفاوضتهم وفاوضوني، وسألتهم وسألوني، فما وجدت أحدا منهم تيقّن معرفة هذا الموضع كما ينبغي، وقد استخرجت فيه أشياء لم أسبق إليها، وسيأتي ذكرها ههنا. أما اختلاف صيغ الألفاظ فإنها إذا نقلت من هيئة إلى هيئة؛ كنقلها مثلا من وزن من الأوزان إلى وزن آخر وإن كانت اللفظة واحدة، أو كنقلها من صيغة الاسم إلى صيغة الفعل، أو من صيغة الفعل إلى صيغة الاسم، أو كنقلها من الماضي إلى المستقبل أو من المستقبل إلى الماضي، أو من الواحد إلى التثنية أو إلى الجمع أو إلى النسب أو إلى غير ذلك؛ انتقل قبحها فصار حسنا، وحسنها صار قبحا. فمن ذلك لفظة «خود» فإنها عبارة عن المرأة الناعمة، وإذا نقلت إلى صيغة الفعل قيل خوّد على وزن فعّل- بتشديد العين- ومعناها أسرع، يقال: خوّد

البعير؛ إذا أسرع؛ فهي على صيغة الاسم حسنة رائقة، وقد وردت في النظم والنثر كثيرا، وإذا جاءت على صيغة الفعل لم تكن حسنة، كقول أبي تمام «1» : وإلى بني عبد الكريم تواهقت ... رتك النّعام رأى الظّلام فخوّدا وهذا يقال عليه أشباهه وأنظاره، إلا أن هذه اللفظة التي هي خود قد نقلت عن الحقيقة إلى المجاز، فخف عنها ذلك القبح قليلا؛ كقول بعض شعراء الحماسة «2» : أقول لنفسي حين خوّد رألها ... رويدك لمّا تشفقي حين مشفق رويدك حتّى تنظري عمّ تنجلي ... غيابة هذا البارق المتألّق «3» والرّأل: النعام، والمراد به ههنا أن نفسه فرّت وفزعت، وشبه ذلك بإسراع النعام في فراره وفزعه، ولما أورده على حكم المجاز خفّ بعض القبح الذي على لفظة خوّد، وهذا يدرك بالذوق الصحيح، ولا خفاء بما بين هذه اللفظة في إيرادها ههنا وإيرادها في بيت أبي تمام؛ فإنها وردت في بيت أبي تمام قبيحة سمحة، ووردت ههنا بين بين. ومن هذا النوع لفظة ودع وهي فعل ماض ثلاثي لا ثقل بها على اللسان، ومع ذلك فلا تستعمل على صيغتها الماضية إلا جاءت غير مستحسنة، ولكنها تستعمل مستقبلة، وعلى صيغة الأمر، فتجيء حسنة، أما الأمر فكقوله تعالى: «فذرهم يخوضوا ويلعبوا» * «4» ولم تأت في القرآن الكريم إلا على هذه الصيغة؛ وأما كونها

مستقبلة فكقول النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد واصل في شهر رمضان فواصل معه قوم: «لو مدّ لنا الشّهر لواصلنا وصالا يدع له المتعمّقون تعمّقهم» وقال أبو الطيب المتنبي «1» : تشقّكم بقناها كلّ سلهبة ... والضّرب يأخذ منكم فوق ما يدع «2» وأما الماضي من هذه اللفظة فلم يستعمل إلا شاذا ولا حسن له، كقول أبي العتاهية: أثروا فلم يدخلوا قبورهم ... شيئا من الثّروة الّتي جمعوا وكان ما قدّموا لأنفسهم ... أعظم نفعا من الّذي ودعوا وهذا غير حسن في الاستعمال، ولا عليه من الطلاوة شيء، وهذه لفظة واحدة لم يتغير من حالها شيء، سوى أنها نقلت من الماضي إلى المستقبل لا غير. وكذلك لفظة وذر، فإنها لا تستعمل ماضية، وتستعمل على صيغة الأمر، كقوله تعالى: «ذرهم يأكلوا ويتمتعوا» وتستعمل مستقبلة أيضا، كقوله تعالى: «سأصليه سقر، وما أدراك ما سقر، لا تبقى ولا تذر» فهي لم ترد في القرآن إلا على هاتين الصيغتين، وكذلك في فصيح الكلام غير القرآن، وأما إذا جاءت على صيغة الماضي فإنها لا تستعمل، وهي أقبح من لفظة ودع، لأن لفظة ودع قد استعملت ماضية، وهذه لم تستعمل. وههنا فلينعم الخائضون في هذا الفن نظرهم، ويعلموا أن في الزوايا خبايا، وإذا أنعموا الفكر في أسرار الألفاظ عند الاستعمال، وأغرقوا في الاعتبار والكشف؛ وجدوا غرائب وعجائب.

ومن هذا النوع لفظة الأخدع، فإنها وردت في بيتين من الشعر، وهي في أحدهما حسنة رائقة، وفي الآخر ثقيلة مستكرهة، كقول الصّمّة بن عبد الله من شعراء الحماسة «1» : تلفّتّ نحو الحيّ حتّى وجدتني ... وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا «2» وكقول أبي تمام «3» : يا دهر قوّم من أخدعيك فقد ... أضججت هذا الأنام من خرقك ألا ترى أنه وجد لهذه اللفظة في بيت أبي تمام من الثقل على السمع والكراهة في النفس أضعاف ما وجد لها من بيت الصمة بن عبد الله من الروح والخفة والإيناس والبهجة، وليس سبب ذلك إلا أنها جاءت موحّدة في أحدهما مثنّاة في الآخر، وكانت حسنة في حالة الإفراد، مستكرهة في حالة التثنية، وإلا فاللفظة واحدة، وإنما اختلاف صيغتها فعل بها ما ترى. ومن هذا النوع ألفاظ يعدل عن استعمالها من عير دليل يقوم على العدول عنها، ولا يستفتي في ذلك إلا الذوق السليم، وهذا موضع عجيب لا يعلم كنه سره. فمن ذلك لفظة اللب الذي هو العقل، لا لفظة اللب الذي تحت القشر، فإنها لا تحسن في الاستعمال إلا مجموعة، وكذلك وردت في القرآن الكريم في مواضع كثيرة وهي مجموعة، ولم ترد مفردة، كقوله تعالى: «وليتذكر أولوا الألباب»

و «إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب» وأشباه ذلك، وهذه اللفظة الثلاثية خفيفة على النطق، ومخارجها بعيدة، وليست بمستثقلة ولا مكروهة وقد تستعمل مفردة بشرط أن تكون مضافة أو مضافا إليها؛ أما كونها مضافا إليها فكقولنا: لا يعلم ذلك إلا ذو لب، وإن في ذلك لعبرة لذي لب، وعليه ورد قول جرير: إنّ العيون الّتي في طرفها حور ... قتلننا ثمّ لم يحيين قتلانا يصرعن ذا اللّبّ حتّى لا حراك به ... وهنّ أضعف خلق الله أركانا وأما كونها مضافة فكقول النبي صلّى الله عليه وسلّم في ذكر النساء: «ما رأيت ناقصات عقل ودين أذهب للبّ الحازم من إحداكنّ يا معشر النّساء» ؛ فإن كانت هذه اللفظة عارية عن الجمع أو الإضافة فإنها لا تأتي حسنة؛ ولا تجد دليلا على ذلك إلا مجرد الذوق الصحيح، وإذا تأملت القرآن الكريم ودققت النظر في رموزه وأسراره وجدت مثل هذه اللفظة قد روعي فيها الجمع دون الإفراد كلفظة كوب، فإنها وردت في القرآن مجموعة، ولم ترد مفردة، وهي وإن لم تكن مستقبحة في حال إفرادها فإن الجمع فيها أحسن، لكن قد ترد مفردة مع ألفاظ أخر تندرج معهن فيكسوها ذلك حسنا ليس لها؛ وذلك كقولي في جملة أبيات أصف بها الخمر وما يجري معها من آلاتها: ثلاثة تعطي الفرح ... كأس وكوب وقدح ما ذبح الذّوق بها ... إلّا وللهمّ ذبح فلما وردت لفظة الكوب مع الكأس والقدح على هذا الأسلوب حسنها، وكأنه جلاها في غير لباسها الذي كان لها إذ جاءت بمفردها. وكذلك وردت لفظة رجا بالقصر، والرّجا: الجانب، فإنها لم تستعمل موحّدة وإنما استعملت مجموعة، كقوله تعالى: «والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية» فلما وردت هذه اللفظة مجموعة ألبسها الجمع ثوبا من الحسن لم يكن لها في حال كونها موحّدة، وقد تستعمل موحدة بشرط الإضافة، كقولنا: رجا البئر.

ولربما أخطأ بعض الناس في هذا الموضع وقاس عليه ما ليس بمقيس؛ وذلك أنه وقف على ما ذكرته ههنا واقف؛ وكذلك قد وردت لفظة الصوف في القرآن الكريم، ولم ترد إلا مجموعة، كقوله تعالى: «وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين» وهذا بخلاف ما وردت عليه في شعر أبي تمام «1» : كانوا برود زمانهم فتصدّعوا ... فكأنّما لبس الزّمان الصّوفا وهذا ليس كالذي أشرت إليه؛ فإن لفظة الصوف لفظة حسنة مفردة ومجموعة، وإنما أزرى بها في قول أبي تمام أنها جاءت مجازيّة في نسبتها إلى الزمان. وعلى هذا النهج وردت لفظة خبر وأخبار؛ فإن هذه اللفظة مجموعة أحسن منها مفردة، ولم ترد في القرآن إلا مجموعة. وفي ضد ذلك ما ورد استعماله من الألفاظ مفردا ولم يرد مجموعا، كلفظة الأرض؛ فإنها لم ترد في القرآن إلا مفردة فإذا ذكرت السماء مجموعة جيء بها مفردة معها في كل موضع من القرآن، ولما أريد أن يؤتى بها مجموعة قيل: «ومن الأرض مثلهن» في قوله تعالى: «الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن» . ومما ورد من الألفاظ مفردا فكان أحسن مما يرد مجموعا لفظة البقعة، قال الله تعالى في قصة موسى عليه السلام: «فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله» والأحسن استعمالها مفردة لا مجموعة، وإن استعملت مجموعة فالأولى أن تكون مضافة كقولنا: بقاع الأرض، أو ما جرى مجراها.

وكذلك لفظة طيف، في ذكر طيف الخيال؛ فإنها لم تستعمل إلا مفردة، وقد استعملها الشعراء قديما وحديثا فلم يأتوا بها إلا مفردة، لأن جمعها جمع قبيح؛ فإذا قيل طيوف كان من أقبح الألفاظ وأشدها كراهة على السمع، ويا لله العجب من هذه اللفظة ومن أختها عدة ووزنا وهي لفظة ضيف؛ فإنها تستعمل مفردة ومجموعة، وكلاهما في الاستعمال حسن رائق، وهذا مما لا يعلم السر فيه؛ والذوق السليم هو الحاكم في الفرق بين هاتين اللفظتين وما يجري مجراهما. وأما جمع المصادر فإنه لا يجيء حسنا، والإفراد فيه هو الحسن، ومما جاء في المصادر مجموعا قول عنترة «1» : فإن يبرأ فلم أنفث عليه ... وإن يفقد فحقّ له الفقود قوله: الفقود جمع مصدر من قولنا: فقد يفقد فقدا، واستعمال مثل هذه اللفظة غير سائغ ولا لذيذ، وإن كان جائزا، ونحن في استعمال ما نستعمله من الألفاظ واقفون مع الحسن، لا مع الجواز. وهذا كله يرجع إلى حاكم الذوق السليم؛ فإن صاحب هذه الصناعة يصرف الألفاظ بضروب التصريف، فما عذب في فمه منها استعمله، وما لفظه فمه تركه، ألا ترى أنه يقال: الأمّة بالضم عبارة عن الجمع الكثير من الناس، ويقال: الإمة بالكسر وهي النعمة، فإن الأمة بالضم لفظة حسنة، وبالكسر ليست بحسنة، واستعمالها قبيح. ورأيت صاحب كتاب الفصيح قد ذكرها فيما اختاره من الألفاظ الفصيحة؛ ويا ليت شعري! ما الذي رآه من فصاحتها حتى اختارها؟ وكذلك قد اختار ألفاظا أخر ليست بفصيحة، ولا لوم عليه؛ لأن صدور مثل ذلك الكتاب عنه كثير، وأسرار الفصاحة لا تؤخذ من علماء العربية، وإنما تؤخذ منهم مسألة نحوية أو تصريفية، أو

نقل كلمة لغوية، وما جرى هذا المجرى؛ وأما أسرار الفصاحة فلها قوم مخصوصون بها. وإذا شذ عن صاحب كتاب الفصيح ألفاظ معدودة ليست بفصيحة في جملة كثيرة ذكرها من الفصيح فإن هذا منه كثير. ومما يذكر في هذا الباب أنه يقال: سهم صائب؛ فإذا جمع الجمع الحسن الذي يعذب في الفم قيل: سهام صوائب وصائبات وصيّب؛ فإذا جمع الجمع الذي يقبح قيل: سهام صيب، على وزن كتب، قال أبو نواس: ما أحلّ الله ما صنعت ... عينه تلك العشيّة بي قتلت إنسانها كبدي ... بسهام للرّدى صيب فقوله: «سهام صيب» من اللفظ الذي ينبو عنه السمع، ويحيد عنه اللسان، ومثله ورد قول عويف القوافي «1» من أبيات الحماسة: ذهب الرّقاد فما يحسّ رقاد ... ممّا شجاك ونامت العوّاد لمّا أتاني من عيينة أنّه ... أمست عليه تظاهر الأقياد «2» فقوله: «أقياد» في جمع قيد مما لا يحسن استعماله، بل الحسن أن يقال في جمعه: قيود، وكذلك قول مرة بن محكان التميمي من أبيات الحماسة، وذلك من جملة الأبيات المشهورة التي أولها «3» : يا ربّة البيت قومي غير صاغرة ... ضمّي إليك رحال القوم والقربا فقال فيها: ماذا ترين أندنيهم لأرحلنا ... في جانب البيت أم نبني لهم قببا

فإنه جمع قبّة على قبب، وذلك من المستبشع الكريه، والأحسن المستعمل هو قباب لا قبب، وكذلك يجري الأمر في غير هذا. ومن المجموع ما يختلف استعماله، وإن كان متفقا في لفظة واحدة، كالعين الناظرة وعين الناس وهو النبيه فيهم؛ فإن العين الناظرة تجمع على عيون، وعين الناس تجمع على أعيان، وهذا يرجع فيه إلى الاستحسان، لا إلى جائز الوضع اللغوي. وقد شذ هذا الموضع عن أبي الطيب المتنبي في قوله «1» : والقوم في أعيانهم خزر ... والخيل في أعيانها قبل فجمع العين الناظرة على أعيان، وكان الذوق يأبى ذلك، ولا تجد له على اللسان حلاوة وإن كان جائزا. ولولا خوف الإطالة لأوردت من هذا النوع وأمثاله أشياء كثيرة، وكشفت عن رموز وأسرار تخفى على كثير من متعاطي هذا الفن؛ لكن في الذي أشرت إليه منبّه لأهل الفطانة والذكاء أن يحملوه على أشباهه وأنظاره. وأعجب من ذلك كله أنك ترى وزنا واحدا من الألفاظ؛ فتارة تجد مفرده حسنا، وتارة تجد جمعه حسنا، وتارة تجدهما جميعا حسنين؛ فالأول نحو حبرور وهو فرخ الحبارى؛ فإن هذه اللفظة يحسن مفردها لا مجموعها؛ لأن جمعها على حبارير، وكذلك طنبور وطنابير، وعرقوب وعراقيب؛ وأما الثاني فنحو بهلول وبهاليل، ولهموم ولهاميم، وهذا ضد الأول؛ وأما الثالث فنحو جمهور وجماهير، وعرجون وعراجين، فانظر إلى الوزن الواحد كيف يختلف في أحواله مفردا ومجموعا؟ وهذا من أعجب ما يجيء في هذا الباب. وهكذا قد جاءت ألفاظ على وزن واحد ثلاثية مسكنة الوسط وجميعها حسن في الاستعمال، وإذا أردنا أن نثقل وسطها حسن منها شيء دون شيء.

فمن ذلك لفظة الثّلث والرّبع إلى العشر فإن الجميع على وزن واحد، وإذا ثقلنا أوساطها فقلنا ثلث وربع وخمس، وكذلك إلى عشر؛ فإن الحسن من ذلك جميعه ثلاثة، وهي الثّلث والخمس والسّدس، والباقي وهو الرّبع والسّبع والثّمن والتّسع والعشر، ليس كالأول في حسنه، هذا، والجميع على وزن واحد وصيغة واحدة، والجميع حسن في الاستعمال قبل أن يثقل وسطه، ولما ثقل صار بعضه حسنا وبعضه غير حسن. وكذلك تجد الأمر في أسماء الفاعلين كالثلاثي منها نحو فعل بفتح الفاء والعين وفعل بفتح الفاء وكسر العين وفعل بفتح الفاء وضم العين، فإن هذه الأوزان الثلاثة لها أسماء فاعلين، أما فعل بفتح الفاء والعين فليس له إلا اسم واحد أيضا وهو فاعل، لا غير، ولا يقع فيه اختلاف، وكذلك فعل بفتح الفاء وضم العين فليس له إلا اسم واحد أيضا، وهو فعيل، ولا يقع فيه اختلاف إلا ما شذ، لكن فعل بفتح الفاء وكسر العين يقع في اسم فاعله الاختلاف استحسانا واستقباحا، لأن له ثلاثة أوزان نحو فاعل وفعل وفعلان، تقول منه: حمد فهو حامد وحمد وحمدان، وقد جاء على وزنه فرح، تقول منه: فرح زيد فهو فرح، وهو الأحسن، ولا يحسن أن يقال: فارح، ولا فرحان، وإن كان جائزا، لكن فرحان أحسن من فارح، وقد وردت هذه اللفظة في القرآن الكريم فلا تستعمل إلا على فرح لا غير، كقوله تعالى: «كل حزب بما لديهم فرحون» * وكقوله تعالى: «إن الله لا يحب الفرحين» وقد جاءت هذه اللفظة في شعر بعض شعراء الحماسة في باب المراثي «1» : فما أنا من حزن وإن جلّ جازع ... ولا بسرور بعد موتك فارح وهذا غير حسن، وإن جاز استعماله. وعلى نحو منه يقال: غضب وهو غضبان، ولا يقال: غاضب، وإن كان

جائزا، وقد تقدم القول أنّا في تأليف الكلام بصدد استعمال الحسن والأحسن. لا بصدد استعمال الجائز وغير الجائز. ومما يجري هذا المجرى قولنا: فعل وافتعل، فإن لفظة فعل لها موضع تستعمل فيه، ألا ترى أنك تقول: قعدت إلى فلان أحدّثه، ولا تقول: اقتعدت إليه، وكذلك تقول: اقتعدت غارب الجمل، ولا تقول: قعدت على غارب الجمل، وإن جاز ذلك، لكن الأول أحسن، وهذا لا يحكم فيه غير الذوق السليم، فإنه لا يمكن أن يقام عليه دليل. وأما فعل وافعوعل فإنا نقول: أعشب المكان «1» ، فإذا كثر عشبه قلنا: اعشوشب، فلفظة افعوعل للتكثير، على أني استقريت هذه اللفظة في كثير من الألفاظ فوجدتها عذبة طيبة على تكرار حروفها، كقولنا: اخشوشن المكان، واغرورقت العين، واحلولى الطعم، وأشباهها. وأما فعلة نحو همزة ولمزة وجثمة ونومة ولكنة ولجنة، وأشباه ذلك؛ فالغالب على هذه اللفظة أن تكون حسنة، وهذا أخذته بالاستقراء، وفي اللغة مواضع كثيرة هكذا لا يمكن استقصاؤها. فانظر إلى ما يفعله اختلاف الصيغة بالألفاظ، وعليك أن تتفقّد أمثال هذه المواضع، لتعلم كيف تضع يدك في استعمالها، فكثيرا ما يقع فحول الشعراء، والخطباء في مثلها، ومؤلف الكلام من كاتب وشاعر إذا مرّت به ألفاظ عرضها على ذوقه الصحيح، فما يجد الحسن منها مجموعا جمعه، وكذلك يجري الحكم فيما سوى ذلك من الألفاظ.

النوع السابع في المعاظلة اللفظية

النوع السابع في المعاظلة اللفظية والمعاظلة معاظلتان: لفظية، ومعنوية. أما المعنوية: فسيأتي ذكرها في باب التقديم والتأخير من المقالة الثانية، فليؤخذ من هناك. وأما المعاظلة اللفظية: - وهي المخصوصة بالذكر ههنا في باب صناعة الألفاظ- وحقيقتها مأخوذة من قولهم: تعاظلت الجرادتان؛ إذا ركبت إحداهما الأخرى، فسمي الكلام المتراكب في ألفاظه أو في معانيه المعاظلة مأخوذا من ذلك، وهو اسم لائق بمسماه. ووصف عمر بن الخطاب رضي الله عنه زهير بن أبي سلمى فقال: كان لا يعاظل بين الكلام. وقد اختلف علماء البيان في حقيقة المعاظلة: فقال قدامة بن جعفر الكاتب «1» : التعاظل في الكلام هو أن يدخل بعض الكلام فيما ليس من جنسه، ولا أعرف ذلك إلا فاحش الاستعارة، كقول أوس بن حجر «2» : وذات هدم عار نواشرها ... تصمت بالماء تولبا جدعا «3»

الأول منها:

فسمي الظبي تولبا، والتولب: ولد الحمار. هذا ما ذكره قدامة بن جعفر، وهو خطأ؛ إذ لو كان ما ذهب إليه صوابا لكانت حقيقة المعاظلة دخول الكلام فيما ليس من جنسه، وليست حقيقتها هذه، بل حقيقتها ما تقدم، وهو التراكب، من قولهم: تعاظلت الجرادتان، إذا ركبت إحداهما الأخرى، وهذا المثال الذي مثل به قدامة لا تركّب في ألفاظه ولا في معانيه. وأما غير قدامة فإنه خالفه فيما ذهب إليه، إلا أنه لم يقسم المعاظلة إلى لفظية ومعنوية، ولكنه ضرب لها مثالا، كقول الفرزدق «1» : وما مثله في النّاس إلّا مملّكا ... أبو أمّه حيّ أبوه يقاربه وهذا من القسم المعنوي، لا من القسم اللفظي، ألا ترى إلى تراكب معانيه بتقديم ما كان يجب تأخيره وتأخير ما كان يجب تقديمه؛ لأن الأصل في معناه: وما مثله في الناس حيّ يقاربه إلا مملكا أبو أمه أبوه، وسيجيء شرح ذلك مستوفى في بابه من المقالة الثانية؛ إن شاء الله تعالى. وإذ حققت القول في بيان المعاظلة والكشف عن حقيقتها فإني أتبع ذلك بتقسيم القسم اللفظي منها الذي أنا بصدد ذكره ههنا، فأقول: إني تأملته بالاستقراء من الأشعار قديمها ومحدثها، ومن النظر في حقيقتها نفسها، فوجدتها تنقسم إلى خمسة أقسام: الأول منها: يختص بأدوات الكلام، نحو من وإلى وعن وعلى، وأشباهها؛ فإن منها ما يسهل النطق به إذا ورد مع أخواته، ومنها ما لا يسهل، بل يرد ثقيلا على اللسان، ولكل موضع يخصه من السبك.

فمما جاء منه قول أبي تمام «1» : إلى خالد راحت بنا أرحبيّة ... مرافقها من عن كراكرها نكب «2» فقوله: «من عن كراكرها» من الكلام المتعاظل الذي يثقل النطق به، على أنه قد وردت هاتان اللفظتان، وهما من وعن، في موضع آخر فلم يثقل النطق بهما، كقول القائل: من عن يمين الطّريق، والسبب في ذلك أنهما وردتا في بيت أبي تمام مضافتين إلى لفظة الكراكر، فثقّلت منهما، وجعلتهما مكروهتين كما ترى، وإلا فقد وردتا في شعر قطريّ بن الفجاءة فكانتا خفيفتين، كقوله «3» : ولقد أراني للرّماح دريئة ... من عن يميني مرّة وأمامي والأصل في ذلك راجع إلى السبك، فإذا سبكت هاتان اللفظتان أو ما يجري مجراهما مع ألفاظ تسهل منهما لم يكن بهما من ثقل، كما جاءتا في بيت قطري، وإذا سبكتا مع ألفاظ تثقل منهما جاءتا كما جاءتا في بيت أبي تمام. ومن هذا القسم قول أبي تمام أيضا «4» : كأنّه لاجتماع الرّوح فيه له ... في كلّ جارحة من جسمه روح فقوله في بعد قوله فيه له مما لا يحسن وروده.

القسم الثاني

وكذلك ورد قول أبي الطيب المتنبي: وتسعدني في غمرة بعد غمرة ... سبوح لها منها عليها شواهد فقوله: «لها منها عليها» من الثقيل الثقيل الثقيل. وكذلك قوله «1» : تبيت وفودهم تسري إليه ... وجدواه الّتي سألوا اغتفار فخلّفهم بردّ البيض عنهم ... وهامهم له معهم معار وقوله: «وهامهم له معهم» مما يثقل النطق به، ويتعثّر اللسان فيه، لكنه أقرب حالا من الأول. ومن الحسن في هذا الموضع قول أبي تمام «2» : دار أجلّ الهوى عن أن ألمّ بها ... في الرّكب إلّا وعيني من منائحها فقوله: «عن أن» في هذا البيت من الخفيف الحسن الذي لا بأس به. القسم الثاني من المعاظلة اللفظية، تختص بتكرير الحروف، وليس ذلك مما يتعلق بتكرير الألفاظ، ولا بتكرير المعاني، مما يأتي ذكره في باب التكرير في المقالة الثانية، وإنما هو تكرير حرف واحد أو حرفين في كل لفظة من ألفاظ الكلام المنثور أو المنظوم، فيثقل حينئذ النطق به. فمن ذلك قول بعضهم «3» :

وقبر حرب بمكان قفر ... وليس قرب قبر حرب قبر فهذه القافات والراآت كأنها في تتابعها سلسلة، ولا خفاء بما في ذلك من الثقل. وكذا ورد قول الحريري في مقاماته: وازورّ من كان له زائرا ... وعاف عافي العرف عرفانه فقوله: «وعاف عافى العرف عرفانه» من التكرير المشار إليه. وكذلك ورد قوله أيضا في رسالتيه اللتين صاغهما على حرف السين والشين، فإنه أتى في إحداهما بالسين في كل لفظة من ألفاظها وأتى في الأخرى بالشين في كل لفظة من ألفاظها، فجاءتا كأنهما رقّى العقارب، أو خذروفة العزائم، وما أعلم كيف خفي ما فيهما من القبح على مثل الحريري مع معرفته بالجيد والرديء من الكلام. ويحكى عن بعض الوعاظ أنه قال في جملة كلام أورده: جنى جنّات وجنات الحبيب، فصاح رجل من الحاضرين في المجلس وماد وتغاشى، فقال له رجل كان إلى جانبه: ما الذي سمعت حتى حدث بك هذا؟ فقال: سمعت جيما في جيم في جيم فصحت. وهذا من أقبح عيوب الألفاظ. ومما جاء منه قول أبي الطيب المتنبي في قصيدته التي مطلعها: أتراها لكثرة العشّاق «1» ... كيف ترثي الّتي ترى كلّ جفن راءها غير جفنها غير راقي «2»

وهذا وأمثاله إنما يعرض لقائله في نوبة الصرع التي تنوب في بعض الأيام. ومن هذا القسم قول الشاعر المعروف بكشاجم في قصيدته التي مطلعها: داو خماري بكأس خمر «1» ... والزّهر والقطر في رباها ما بين نظم وبين نثر «2» ... حدائق كفّ كلّ ريح حلّ بها خيط كلّ قطر «3» وهذا البيت يحتاج الناطق به إلى بركار يضعه في شدقه حتى يديره له. وعلى هذا الأسلوب ورد قول بعضهم وهو البيت المشهور الذي يتذاكره الناس: مللت مطال مولود مفدّى ... مليح مانع منّي مرادي وهذه الميمات كأنها عقد متصلة بعضها ببعض. وكان بعض أهل الأدب من أهل مصرنا هذا يستعمل هذا القسم في ألفاظه كثيرا في كلامه نثرا ونظما، وذلك لعدم معرفته بسلوك الطريق. وأنا أذكر نبذة من ذلك، كقوله في وصف رجل سخي: أنت المديح كبدا تريح، والمليح إن تجهّم المليح بالتّكليح، عند سائل تلوح، بل يفوق إذ يروق مرأى لوح، يا مغبوق كأس الحمد يا مصبوح، ضاق عن نداك اللوح، وببابك المفتوح تستريح، وتريح ذا التبريح، وترفّه الطليح.

القسم الثالث من المعاظلة:

فانظر إلى حرف الحاء كيف قد لزمه في كل لفظة من هذه الألفاظ فجاءكما تراءه من الثقل والغثاثة؟. واعلم أن العرب الذين هم الأصل في هذه اللغة قد عدلوا عن تكرير الحروف في كثير من كلامهم، وذاك أنه إذا تكرر الحرف عندهم أدغموه استحسانا فقالوا في جعل لك: جعلّك، وفي تضربونني، تضربونّي، وكذلك قالوا: استعدّ فلان للأمر؛ إذا تأهّب له، والأصل فيه استعدد، واستتبّ الأمر؛ إذا تهيأ، والأصل فيه استتبب، وأشباه ذلك كثير في كلامهم، حتى إنهم لشدة كراهتهم لتكرير الحروف أبدلوا أحد الحرفين المكررين حرفا آخر غيره، فقالوا: أمليت الكتاب، والأصل فيه أمللت، فأبدلوا اللام ياء طلبا للخفة، وفرارا من الثقل، وإذا كان قد فعلوا ذلك في اللفظة الواحدة فما ظنك بالألفاظ الكثيرة التي يتبع بعضها بعضا؟. القسم الثالث من المعاظلة: أن ترد ألفاظ على صيغة الفعل يتبع بعضها بعضا؛ فمنها ما يختلف بين ماض ومستقبل، ومنها ما لا يختلف. فالأول كقول القاضي الأرّجاني في أبيات يصف فيها الشمعة، وفيها معنى هو له مبتدع، ولم يسمع من غيره، وذلك أنه قال عن لسان الشمع: إنه ألف العسل وهو أخوه الذي ربّي معه في بيت واحد، وإن النار فرقت بينه وبينه، وإنه نذر أن يقتل نفسه بالنار أيضا من ألم الفراق، إلا أنه أساء العبارة؛ فقال «1» : بالنّار فرّقت الحوادث بيننا ... وبها نذرت أعود أقتل روحي

فقوله «نذرت أعود [أقتل] » من المعاظلة المشار إليها. وأما ما يرد على نهج واحد من الصيغة الفعلية: فكقول أبي الطيب المتنبي «1» : أقل أنل أقطع احمل علّ سلّ أعد ... زد هشّ بشّ تقضّل أدن سرّصل «2» فهذه ألفاظ جاءت على صيغة واحدة، وهي صيغة الأمر، كأنه قال: افعل افعل، هكذا إلى آخر البيت، وهذا تكرير للصيغة وإن لم يكن تكريرا للحروف، إلا أنه أخوه، ولا أقول ابن عمه، وهذه ألفاظ متراكبة متداخلة، ولو عطفها بالواو لكانت أقرب حالا، كما قال عبد السلام بن رغبان «3» : فسد النّاس فاطلب الرّزق بالسّيف وإلّا فمت شديد الهزال احل وامرر وضرّ وانفع ولن واخشن وأبرر ثمّ انتدب للمعالي.

القسم الرابع من المعاظلة:

ألا ترى أنه لما عطف ههنا بالواو لم تتراكب الألفاظ كتراكبها في بيت أبي الطيب المتقدم ذكره. فإن قيل: إنك جعلت ما كان واردا على صيغة واحدة على سبيل التكرار معاظلة، وقد ورد ذلك في القرآن الكريم، كقوله تعالى: «فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد» ولو كان معاظلة لما ورد في القرآن الكريم مثله. فالجواب عن ذلك أني أقول: هذه الآية ليست كالذي أنكرته؛ فإن هذا الموضع ينظر فيه إلى الكثير والقليل، فإذا كثر كان تعاظلا؛ لتراكبه وثقله على النطق، وقد عرّفتك أن ما يفصل بين صيغه بواو العطف يكون أقل ثقلا مما لا يفصل، والذي أنكرته من ذلك هو أن تأتي ألفاظ مكررة على صيغة واحدة كأنها عقد متصلة، فحينئذ يثقل المنطق بها، ويكره موقعها من السمع، كبيت أبي الطيب المتنبي، وأما هذه الآية المشار إليها فإنها خارجة عن هذا الحكم، ألا ترى أنها لما وردت ألفاظها على صيغة واحدة فرق بينها بواو العطف، ثم مع التفريق بينها بواو العطف لم يرد التكرير فيها إلا بين ثنتين، وهما «خذوهم واحصروهم» ، وأما الصيغة الأولى فإنها أضيف إليها كلام آخر، فقيل: «اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم» ولم يقل اقتلوا المشركين وخذوهم، ثم لما جاءت الصيغة الرابعة أضيف إليها كلام آخر أيضا فقيل: «واقعدوا لهم كل مرصد» لا جرم أن الآية جاءت غير ثقيلة على النطق مع توارد صيغة الأمر فيها أربع مرار، وهذه رموز ينبغي أن يتنبه لها في استعمال الألفاظ إذا جاءت هكذا. القسم الرابع من المعاظلة: وهو الذي يتضمن مضافات كثيرة، كقولهم: سرج فرس غلام زيد، وإن زيد على ذلك قيل: لبد سرج فرس غلام زيد، وهذا أشد قبحا وأثقل على اللسان، وعليه ورد قول ابن بابك الشاعر في مفتتح قصيدة له: حمامة جرعا حومة الجندل اسجعي ... فأنت بمرأى من سعاد ومسمع

القسم الخامس من المعاظلة:

القسم الخامس من المعاظلة: أن ترد صفات متعددة على نحو واحد، كقول أبي تمام في قصيدته التي مطلعها: ما لكثيب الحمى إلى عقده «1» فقال يصف جملا: سأخرق الخرق بابن خرقاء ... كالهيق إذا ما استحمّ من نجده «2» مقابل في الجديل صلب القرا ... لو حكّ من عجبه إلى كتده «3» تامكه نهده مداخله ... ملمومه محزئلّه أجده «4» فالبيت الثالث من المعاظلة التي قلع الأسنان دون إيرادها. وكذلك قال من هذه القصيدة يصف رمحا: ومرّ تهفو ذؤابتاه على ... أسمر متن يوم الوغى جسده «5»

مارنه لدنه مثقّفه ... عرّاصه في الأكفّ مطّرده «1» وهذا كالأول في قبحه وثقله، فقاتله الله!! ما أمتن شعره! وما أسخفه في بعض الأحوال!. وعلى هذا جاء من هذه القصيدة أيضا يصف الممدوح: إليك عن سيل عارض خضل الشّؤبوب ... يأتي الحمام من نضده «2» مسفّه ثرّه مسحسحه ... وابله مستهلّه جرده «3» ولو لم يكن لأبي تمام من القبيح الشنيع إلا هذه الأبيات لحطّت من قدره. وعلى هذا ورد قول أبي الطيب المتنبي «4» : دان بعيد محب مبغض بهج ... أغرّ حلو ممرّليّن شرس «5»

النوع الثامن في المنافرة بين الألفاظ في السبك

ند أبيّ غر واف أخي ثقة ... جعد سريّ ندب رضى ندس «1» وهذا كأنه سلسلة بلا شك، وقليلا ما يوجد في أشعار الشعراء، ولم أجده كثيرا إلا في شعر الفرزدق، وتلك معاظلة معنوية، وسيأتي بيانها في بابها، وهذه معاظلة لفظية، وهي توجد في شعر أبي الطيب كثيرا. النوع الثامن في المنافرة بين الألفاظ في السبك وهذا النوع لم يحقق أحد من علماء البيان القول فيه، وغاية ما يقال: إنه ينبغي ألّا تكون الألفاظ نافرة عن مواضعها، ثم يكتفي بها القول، من غير بيان ولا تفصيل، حتى إنه قد خلط هذا النوع بالمعاظلة، وكل منهما نوع مفرد برأسه له حقيقة تخصّه، إلا أنهما قد اشتبها على علماء البيان، فكيف على جاهل لا يعلم. وقد بيّنت هذا النوع وفصّلته عن المعاظلة، وضربت له أمثلة يستدلّ بها على أخواتها وما يجري مجراها. وجملة الأمر أن مدار سبك الألفاظ على هذا النوع والذي قبله دون غيرهما من تلك الأنواع المذكورة؛ لأن هذين النوعين أصلا سبك الألفاظ، وما عداهما فرع عليهما، وإذا لم يكن الناثر أو الناظم عارفا بهما فإن مقاتله تبدو كثيرا. وحقيقة هذا النوع الذي هو المنافرة: أن يذكر لفظ أو ألفاظ يكون غيرها مما هو في معناها أولى بالذكر.

وعلى هذا فإن الفرق بينه وبين المعاظلة أن المعاظلة هي التراكب والتداخل إما في الألفاظ أو في المعاني، على ما أشرت إليه، وهذا النوع لا تراكب فيه، وإنما هو إيراد ألفاظ غير لائقة بموضعها الذي ترد فيه. وهو ينقسم قسمين: أحدها: يوجد في اللفظة الواحدة، والآخر: في الألفاظ المتعددة. فأما الذي يوجد في اللفظة الواحد فإنه إذا أورد في الكلام أمكن تبديله بغيره مما هو في معناه، سواء كان ذلك نثرا أو نظما. وأما الذي يوجد في الألفاظ المتعددة فإنه لا يمكن تبديله بغيره في الشعر، بل يمكن ذلك في النثر خاصة؛ لأنه يعسر في الشعر من أجل الوزن. فمما جاء من القسم الأول قول أبي الطيب المتنبي «1» : فلا يبرم الأمر الّذي هو حالل ... ولا يحلل الأمر الّذي هو يبرم فلفظة «حالل» نافرة عن موضعها، وكانت له مندوحة عنها؛ لأنه لو استعمل عوضا عنها لفظة «ناقض» فقال: فلا يبرم الأمر الّذي هو ناقض ... ولا ينقض الأمر الّذي هو يبرم لجاءت اللفظة قارّة في مكانها، غير قلقة ولا نافرة. وبلغني عن أبي العلاء بن سليمان المعرّي أنه كان يتعصّب لأبي الطيب، حتى إنه كان يسميه «الشاعر» ويسمي غيره من الشعراء باسمه، وكان يقول: ليس في شعره لفظة يمكن أن يقوم عنها ما هو في معناها فيجيء حسنا مثلها؛ فيا ليت شعري أما وقف على هذا البيت المشار إليه، لكن الهوى كما يقال أعمى؛ وكان أبو العلاء أعمى العين خلقة وأعماها عصبيّة، فاجتمع له العمى من جهتين.

وهذه اللفظة التي هي «حالل» وما يجري مجراها قبيحة الاستعمال، وهي فكّ الإدغام في الفعل الثلاثي، ونقله إلى اسم الفاعل، وعلى هذا فلا يحسن أن يقال: بلّ الثوب فهو بالل، ولا سلّ السيف فهو سالل، ولا أن يقال: همّ بالأمر فهو هامم، ولا خطّ الكتاب فهو خاطط، ولا حنّ إلى كذا فهو حانن، وهذا لو عرض على من لا ذوق له لأدركه وفهمه، فكيف من له ذوق صحيح كأبي الطيب، لكن لا بد لكل جواد من كبوة. وأنشد بعض الأدباء بيتا لدعبل، وهو: شفيعك فاشكر في الحوائج إنّه ... يصونك عن مكروهها وهو يخلق فقلت له: عجز هذا البيت حسن، وأما صدره فقبيح؛ لأنه سبكه قلقا نافرا، وتلك الفاء التي في قوله: «شفيك فاشكر» كأنها ركبة البعير، وهي في زيادتها كزيادة الكرش، فقال: لهذه الفاء في كتاب الله أشباه، كقوله تعالى: «يا أيها المدثر. قم فأنذر. وربك فكبر. وثيابك فطهر» فقلت له: بين هذه الفاء وتلك الفاء فرق ظاهر يدرك بالعلم، أولا، وبالذوق ثانيا؛ أما العلم فإن الفاء في (وربك فكبر وثيابك فطهر) هي الفاء العاطفة؛ فإنها واردة بعد (قم فأنذر) وهي مثل قولك: امش فأسرع، وقل فأبلغ، وليست الفاء التي في «شفيعك فاشكر» كهذه الفاء؛ لأن تلك زائدة لا موضع لها، ولو جاءت في السورة كما جاءت دعبل- وحاش لله من ذلك- لابتدئ الكلام، فقيل: ربك فكبر وثيابك فطهر؛ لكنها لما جاءت بعد (قم فأنذر) حسن ذكرها فيما يأتي بعدها (وربك فكبر وثيابك فطهر) ؛ وأما الذوق فإنه ينبو عن الفاء الواردة في قول دعبل ويستثقلها، ولا يوجد ذلك في الفاء الواردة في السورة، فلما سمع ما ذكرته أذعن بالتسليم. ومثل هذه الدقائق التي ترد في الكلام نظما كان أو نثرا لا يتفطن لها إلا الراسخ في علم الفصاحة والبلاغة. ومن هذا القسم وصل همزة القطع، وهو محسوب من جائزات الشعر التي لا تجوز في الكلام المنثور، وكذلك قطع همزة الوصل، لكن وصل همزة القطع أقبح؛ لأنه أثقل على اللسان.

فمما ورد من ذلك قول أبي تمام «1» : قراني اللها والودّ حتّى كأنّما ... أفاد الغنى من نائلي وفوائدي فأصبح يلقاني الزّمان من اجله ... بإعظام مولود ورأفة والد «2» فقوله: «من اجله» وصل الهمزة القطع. وعليه ورد قول أبي الطيب المتنبي «3» : توسّطه المفاوز كلّ يوم ... طلاب الطّالبين لا الانتظار فقوله: «لا الانتظار» كلام نافر عن موضعه. ومن هذا القسم أن يفرق بين الموصوف والصفة بضمير من تقدم ذكره، كقول البحتري «4» : حلفت لها بالله يوم التّفرّق ... وبالوجد من قلبي بها المتعلّق تقديره: «من قلبي المتعلق بها» فلما فصل بين الموصوف الذي هو قلبي والصفة التي هي المتعلّق بالضمير الذي هو بها قبح ذلك، ولو كان قال: «من قلب بها متعلّق» لزال ذلك القبح وذهبت تلك الهجنة.

ومن هذا القسم أيضا أن تزاد الألف واللام في اسم الفاعل، ويقام الضمير فيه مقام المفعول، كقول أبي تمام «1» : فلو عاينتهم والزّائريهم ... لما مزت البعيد من الحميم «2» فقوله: «الزائري» اسم فاعل، وقوله: «هم» الذي هو الضمير في موضع المفعول، تقديره الزائرين أرضهم أو دارهم أو الزائرين إياهم؛ فاستعمال هذا مع الألف واللام قبيح جدا، وإذا حذفتا زال ذلك القبح، وقد استعملها الشعراء المتقدمون كثيرا. ومما جاء من القسم الثاني الذي يوجد في الألفاظ المتعددة قول أبي الطيب أيضا «3» : لا خلق أكرم منك إلّا عارف ... بك راء نفسك لم يقل لك هاتها «4» فإن عجز هذا البيت نافر عن مواضعه، وأمثال هذا في الأشعار كثير.

المقالة الثانية في الصناعة المعنوية

المقالة الثانية في الصناعة المعنوية وهي تنقسم إلى قسمين: الأول منها في الكلام على المعاني مجملا، والثاني في الكلام عليها مفصلا. وقبل الكلام على ذلك لا بد من توطئة تكون شاملة لما نحن بصدد ذكره ههنا، فأقول: اعلم أن المعاني الخطابية قد حصرت أصولها، وأول من تكلم في ذلك حكماء اليونان، غير أن ذلك الحصر كليّ لا جزئي، ومحال أن تحصر جزئيات المعاني وما يتفرع عليها من التفريعات التي لا نهاية لها، لا جرم أن ذلك الحصر لا يستفيد بمعرفته صاحب هذا العلم، ولا يفتقر إليه؛ فإن البدوي البادي راعي الإبل ما كان يمرّ شيء من ذلك بفهمه، ولا يخطر بباله، ومع هذا فإنه كان يأتي بالسحر الحلال إن قال شعرا أو تكلم نثرا. فإن قيل: إن ذلك البدويّ كان له ذلك طبعا وخليقة، والله فطره عليه كما فطر ضروب نوع الآدمي على فطر مختلفة هي لهم في أصل الخلقة؛ فإنه فطر الترك على الإحسان في الرمي والإصابة فيه من غير تعليم، وكذلك فطر أهل الصين على الإحسان في صنعة اليد فيما يباشرونه من مصوغ أو خشب أو فخّار أو غير ذلك، وكذلك فطر أهل المغرب على الشجاعة، وهذا لا نزاع فيه، فإنه مشاهد. فالجواب عن ذلك أني أقول: إن سلمت إليك أن الشعر والخطابة كانا للعرب بالطبع والفطرة فماذا تقول فيمن جاء بعدهم من شاعر وخطيب تحضّروا وسكنوا البلاد، ولم يروا البادية ولا خلقوا بها، وقد أجادوا في تأليف النظم والشعر، وجاءوا بمعان كثيرة ما جاءت في شعر العرب ولا نطقوا بها. فإن قلت: إن هؤلاء وقفوا على ما ذكره علماء اليونان وتعلموا منه.

قلت لك في الجواب: هذا شيء لم يكن، ولا علم أبو نواس شيئا منه، ولا مسلم بن الوليد، ولا أبو تمام، ولا البحتري، ولا أبو الطيب المتنبي، ولا غيرهم، وكذلك جرى الحكم في أهل الكتابة كعبد الحميد، وابن العميد، والصابي، وغيرهم، فإن ادعيت أن هؤلاء تعلموا ذلك من كتب علماء اليونان قلت لك في الجواب: هذا باطل بي أنا؛ فإني لم أعلم شيئا مما ذكره حكماء اليونان، ولا عرفته، ومع هذا فانظر إلى كلامي، فقد أوردت لك نبذة منه في هذا الكتاب، وإذا وقفت على رسائلي ومكاتباتي وهي عدّة مجلدات، وعرفت أني لم أتعرض لشيء مما ذكره حكماء اليونان في حصر المعاني علمت حينئذ أن صاحب هذا العلم من النظم والنثر بنجوة من ذلك كله، وأنه لا يحتاج إليه أبدا؛ وفي كتابي هذا ما يغنيك، وهو كاف. ولقد فاوضني بعض المتفلسفين في هذا، وانساق الكلام إلى شيء ذكر لأبي علي بن سنا في الخطابة والشعر، وذكر ضربا من ضروب الشعر اليوناني يسمى اللاغوذيا، وقام فأحضر كتاب الشفاء لأبي علي، ووقفني على ما ذكره، فلما وقفت عليه استجهلته؛ فإنه طوّل فيه وعرض، كأنه يخاطب بعض اليونان، وكل الذي ذكره لغو لا يستفيد به صاحب الكلام العربي شيئا، ثم مع هذا جميعه فإن معوّل القوم فيما يذكر من الكلام الخطابي أنه يورد على مقدمتين ونتيجة، وهذا مما لم يخطر لأبي علي بن سينا ببال فما صاغه من شعر أو كلام مسجوع، فإن له شيئا من ذلك في كلامه، وعند إفاضته في صوغ ما صاغه لم تخطر المقدمتان والنتيجة له ببال، ولو أنه أفكر أولا في المقدمتين والنتيجة ثم أتى بنظم أو نثر بعد ذلك لما أتى بشيء ينتفع به، ولطال الخطب عليه، بل أقول شيئا آخر، وهو: أن اليونان أنفسهم لما نظموا ما نظموه من أشعارهم لم ينظموه في وقت نظمه وعندهم فكرة في مقدمتين ولا نتيجة، وإنما هذه أوضاع توضع ويطول بها مصنفات كتبهم في الخطابة والشعر، وهي كما يقال: فقاقع ليس لها طائل، كأنها شعر الأبيوردي. وحيث أوردت هذه المقدمة قبل الخوض في تقسيم المعاني فإني راجع إلى شرح ما أجملته، فأقول:

أما القسم الأول: فإن المعاني فيه على ضربين: أحدهما: يبتدعه مؤلف الكلام من غير أن يقتدي فيه بمن سبقه، وهذا الضرب ربما يعثر عليه عند الحوادث المتجددة، ويتنبه له عند الأمور الطارئة، ولنشر في هذا الموضع إلى نبذة لتكون مثالا للمتوشح لهذه الصناعة. فمن ذلك ما ورد في شعر أبي تمام في وصف مصلبين «1» : بكروا وأسروا في متون ضوامر ... قيدت لهم من مربط النّجّار لا يبرحون ومن رآهم خالهم ... أبدا على سفر من الأسفار وهذا المعنى مما يعثر عليه عند الحوادث المتجددة، والخاطر في مثل هذا المقام ينساق إلى المعنى المخترع من غير كبير كلفة؛ لشاهد الحال الحاضرة. وكذلك قال في هذه القصيدة في صفة من أحرق بالنار: ما زال سرّ الكفر بين ضلوعه ... حتّى اصطلى سرّ الزّناد الواري نارا يساور جسمه من حرّها ... لهب كما عصفرت شقّ إزار طارت لها شعل يهدّم لفحها ... أركانه هدما بغير غبار فصّلن منه كلّ مجمع مفصل ... وفعلن فاقرة بكلّ فقار مشبوبة رفعت لأعظم مشرك ... ماكان يرفع ضوءها للسّاري صلّى لها حيّا وكان وقودها ... ميتا ويدخلها مع الفجّار وهذا مما يعين على استخراج المعاني فيه شاهد الحال. وقد ذيل البحتري على ما ذكره أبو تمام في وصف المصلبين فقال: كم عزيز أباده فغدا ير ... كب عودا مركّبا في عود

أسلمته إلى الرّقاد رجال ... لم يكونوا عن وترهم برقود تحسد الطّير فيه ضبع البوادي ... وهو في غير حالة المحسود غاب عن صحبه فلا هو موجو ... د لديهم وليس بالمفقود وكأنّ امتداد كفّيه فوق ال- ... جذع في محفل الرّدى المشهود طائر مدّ مستريحا جناحي- ... هـ استراحات متعب مكدود أخطب النّاس راكبا فإذا أر ... جل خاطبت منه عين البليد وهذه أبيات حسنة قد استوعبت أقسام هذا المعنى المقصود، إلا أن فيها مأخوذا من شعر مسلم بن الوليد الأنصاري، وهو قوله «1» : نصبته حيث ترتاب الرّياح به ... وتحسد الطّير فيه أضبع البيد «2» لكن البحتري زاد في ذلك زيادة حسنة، وهي قوله: «وهو في غير حالة المحسود» . ومن هذا الضرب ما جاء في شعر أبي الطيب المتنبي في وصفه الحمى، وهو قوله «3» : وزائرتي كأنّ بها حياء ... فليس تزور إلّا في الظّلام بذلت لها المطارف والحشايا ... فعافتها وباتت في عظامي

كأنّ الصّبح يطردها فتجري ... مدامعها بأربعة سجام أراقب وقتها من غير شوق ... مراقبة المشوق المستهام وقد شرح أبو الطيب بهذه الأبيات حاله مع الحمى. ومن بديع ما أتى به في هذا الموضع أن سيف الدولة بن حمدان كان مخيما بأرض ديار بكر على مدينة ميّافارقين، فعصفت الريح بخيمته، فتطيّر الناس لذلك، وقالوا فيه أقوالا، فمدحه أبو الطيب بقصيدة يعتذر فيها عن سقوط الخيمة أولها: أينفع في الخيمة العذّل «1» فمنه ما أحسن فيه كل الإحسان، وهو قوله: تضيق بشخصك أرجاؤها ... ويركض في الواحد الجحفل وتقصر ما كنت في جوفها ... وتركز فيها القنا الذّبّل وكيف تقوم على راحة ... كأنّ البحار لها أنمل فليت وقارك فرّقته ... وحمّلت أرضك ما تحمل فصار الأنام به سادة ... وسدتهم بالّذي يفضل رأت لون نورك في لونها ... كلون الغزالة لا يغسل وأنّ لها شرفا باذخا ... وأنّ الخيام بها تخجل فلا تنكرنّ لها صرعة ... فمن فرح النّفس ما يقتل ولو بلّغ النّاس ما بلّغت ... لخانتهم حولك الأرجل ولمّا أمرت بتطنيبها ... أشيع بأنّك لا ترحل فما اعتمد الله تقويضها ... ولكن أشار بما تفعل وعرّف أنّك من همّه ... وأنّك في نصره ترفل

فما العاندون وما أمّلوا ... وما الحاسدون وما قوّلوا هم يطلبون فمن أدركوا ... وهم يكذبون فمن يقبل وهم يتمنّون ما يشتهون ... ومن دونه جدّك المقبل هذه الأبيات قد اشتملت على معان بديعة، وكفى المتنبي فضلا أن يأتي بمثلها، وهذا مقام يظهر في مثله براعة الناظم والناثر. وقرأت في كتاب الروضة لأبي العباس المبرد، وهو كتاب جمعه واختار فيه أشعار شعراء بدأ فيه بأبي نواس، ثم بمن كان في زمانه، وانسحب على ذيله، فقال فيما أورده من شعره: وله معنى لم يسبق إليه بإجماع، وهو قوله «1» : تدار علينا الرّاح في عسجديّة ... حبتها بأنواع التّصاوير فارس قرارتها كسرى وفي جنباتها ... مها تدّريها بالقسيّ الفوارس «2» فللرّاح ما زرّت عليه جيوبها ... وللماء ما دارت عليه القلانس هـ وقد أكثر العلماء من وصف هذا المعنى وقولهم فيه: إنه معنى مبتدع. ويحكى عن الجاحظ أنه قال: ما زال الشعراء يتناقلون المعنى قديما وحديثا، إلا هذا المعنى، فإن أبا نواس انفرد بابداعه، وما أعلم أنا ما أقول لها ولأبي «3» سوى أن أقول: قد تجاوز بهم حد الإكثار، ومن الأمثال السائرة: بدون هذا يباع الحمار، وفصاحة هذا الشعر عندي هي الموصوفة، لا هذا المعنى؛ فإنه لا كبير كلفة فيه؛ لأن أبا نوس رأى كأسا من الذهب ذات تصاوير فحكاها في شعره، والذي عندي في هذا أنه من المعاني المشاهدة؛ فإن هذه الخمر لم تحمل إلا ماء

يسيرا، وكانت تستغرق صور هذا الكأس إلى مكان جيوبها، وكان الماء فيها قليلا بقدر القلانس التي على رءوسها، وهذا حكاية حال مشاهدة بالبصر. وكذلك ورد قوله في الخمر أيضا: يا شقيق النّفس من حكم ... نمت عن ليلي ولم تنم فاسقني الخمر الّتي اختمرت ... بخمار الشّيب في الرّحم وهذا معنى مخترع لم يسبق إليه، وهو دقيق يكاد لدقته أن يلتحق بالمعاني التي تستخرج من غير شاهد حال متصور. وبلغني أنه اختلف في هذا المعنى بحضرة الرشيد هرون رحمه الله، فقيل: إنه يريد بخمار الشيب في الرحم أن الخمر تكون في جوانبها ذات زبد أبيض على وجهها، فقال الأصمعي: إن أبا نواس ألطف خاطرا من هذا، وأسد غرضا، فاسألوه، فأحضر وسئل، فقال: إن الكرم أول ما يجري فيه الماء يخرج شبيها بالقطنة، وهي أصل العنقود؛ فقال الأصمعي: ألم أقل لكم إن الرجل ألطف خاطرا وأسد غرضا. وقد جاء لابن حمديس الصقلي في الهلال لآخر الشهر ما لم يأت به غيره، وهو من الحسن واللطافة في الغاية القصوى، وذلك قوله: كأنّما أدهم الظّلماء حين نجا ... من أشهب الصّبح ألقى نعل حافره وهذا حكاية حال مشاهدة بالبصر، إلا أنه أبدع في التشبيه. وأمثال هذا كثيرة في أقوال المجيدين من الشعراء. وجملة الأمر في ذلك أن الشاعر أو الكاتب ينظر إلى الحال الحاضرة ثم يستنبط لها ما يناسبها من المعاني، كما فعل النابغة في مدح النعمان وقد أتاه وفد من الوفود فمات رجل منهم قبل أن يرفدهم «1» ، فلما رفدهم جعل عطاء ذلك الميت

على قبره، حتى جاء أهله وأخذوه، فقال النابغة في ذلك «1» : حباء شقيق فوق أحجار قبره ... وما كان يحبى قبله قبر وافد وهذا بيت من جملة أبيات، فانظر كيف فعل النابغة في هذا المعنى؟. وكذلك ورد قول أخت جسّاس زوجة كليب؛ فإنه لما قتل جساس كليبا اجتمع النساء إليها وندبنه، فتحدث بعضهم إلى بعض، وقلن: هذه ليست ثاكلة، وإنما هي شامتة؛ فإنّ أخاها هو القاتل، فنمّ ذلك إليها، فقالت: يا ابنة الأقوام إن شئت فلا ... تعجلي باللّوم حتّى تسألي فإذا أنت تبيّنت الّذي ... يوجب اللّوم فلومي واعذلي إنّ أختا لامرئ ليمت على ... شفق منها عليه فافعلي «2» جلّ عندي فعل جسّاس فوا ... حسرتا عمّ انجلت أو تنجلي فعل جسّاس على وجدي به ... قاطع ظهري ومدن أجلي لو بعين فقئت عين سوى ... أختها فانفقأت لم أحفل يا قتيلا قوّض الدّهر به ... سقف بيتيّ جميعا من عل هدّم البيت الّذي استحدثته ... وانثنى في هدم بيتي الأوّل يشتفي المدرك بالثّأر وفي ... دركي ثأري ثكل مثكلي

إنّني قاتلة مقتولة ... ولعلّ الله أن يرتاح لي وهذه الأبيات لو نطق بها الفحول المعدودون من الشعراء لاستعظمت، فكيف امرأة وهي حزينة في شرح تلك الحال المشار إليها. واعلم أنه قد يستخرج من المعنى الذي ليس بمبتدع معنى مبتدع. فمن ذلك قول الشاعر المعروف بابن السراج في الفهد: تنافس اللّيل فيه والنّهار معا ... فقمّصاه بجلباب من المقل وليس هذا من المعاني الغريبة، ولكنه تشبيه حسن واقع في موقعه. وقد جاء بعده شاعر من أهل الموصل يقال له ابن مسهر فاستخرج من هذا البيت معنى غريبا، فقال: ونقّطته حباء كي يسالمها ... على المنايا نعاج الرّمل بالحدق وهذا معنى غريب لم أسمع بمثله في مقصده الذي قصد من أجله، وقليلا ما يقع هذا في الكلام المنظوم والمنثور، وهو موضع ينبغي أن توضع اليد عليه، ويتنبه له، وكذلك فلتكن سياقة ما جرى هذا المجرى. وقد جاءني شيء من ذلك في الكلام المنثور. فمن ذلك ما ذكرته في وصف نساء حسان، وهو: أقبلت ربائب الكناس، في مخضرّ اللّباس، فقيل: إنما يخترن الخضرة من الألوان، ليصح تشبيههن بالأغصان. وهذا معنى غريب، وربما يكون قد سبقت إليه، إلا أنه لم يبلغني، بل ابتدعته ابتداعا. ومن ذلك ما ذكرته في فصل من كتاب يتضمن منازلة بلد؛ فذكرت القتال بالمنجنيق، وهو: فنزلنا بمرأى منه ومسمع، واستدرنا به استدارة الخاتم بالإصبع، ونصبت المنجنيقات فأنشأت سحبا صعبة القياد، مختصّة بالرّبا دون الوهاد، فلم تزل تقذف السور بوبل من جلمودها، وتفجوّه برعودها قبل بروقها وبروق السحب قبل رعودها، حتى غادرت الحزن منه سهلا، والعامر بلقعا مخلى.

وفي هذا معنيان غريبان: أحدهما: أن هذه السحب تخصّ الربا دون الوهاد، والآخر: أن رعودها قبل بروقها، وكل ذلك يتفطن له بالمشاهدة. ومن ذلك ما ذكرته في فصل من كتاب، فقلت: إذا تخلّق المرء بخلق البأس والندى لم يخف عرضه دنسا، كما أن الماء إذا بلغ قلّتين لم يحمل نجسا. وهذا المعنى مبتدع لي، وهو مستخرج من الحديث النبوي في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا بلغ الماء قلّتين لم يحمل خبثا» . ومن ذلك ما ذكرته في وصف مفازة، فقلت: مفازة لا توطأ بأجفان ساهر، ولا تقتل باقتحام خابر، ولولا مسير الهلال من فوقها لما عرفت تمثال حافر. ومن ذلك ما ذكرته في كتاب أصف فيه نزول العدو على حصار بلد من بلاد المكتوب عنه، وكان ذلك في زمن الشتاء فسقط على العدو ثلج كثير صار به محصورا، فقلت: وقد عاجله قتال البروق قبل البوارق، وأحاط به الثلج فصار خنادق تحول بينه وبين الخنادق، والشتاء قد لقي عسكره من البرد بعسكره، والسماء قد قابلته بأغبر وجهها لا بأخضره، والأرض كأنها قرصة النّقيّ وعسى أن تكون أرض محشره. والمعنى المخترع من هذا الكلام قولي: «والأرض كأنها قرصة النّقيّ وعسى أن تكون أرض محشره» وهو مستخرج من الحديث النبوي في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّكم تحشرون على أرض بيضاء كقرصة النّقيّ» يريد الخبزة البيضاء «1» ولما كان الثلج على الأرض مماثلا لذلك ومشابها له استنبطت أنا له هذا المعنى المخترع، فجاء كما تراه، وهو من المعاني التي يدل عليها شاهد الحل. وأحسن من هذا كله ما كتبته في فصل من كتاب إلى ديوان الخلافة ببغداد، فقلت: ودولته هي الضاحكة وإن كان نسبها إلى العبّاس، وهي خير دولة أخرجت للزمن كما أن رعاياها خير أمة أخرجت للناس، ولم يجعل شعارها من لون الشّباب

إلا تفاؤلا بأنها لا تهرم، وأنها لا تزال محبوّة من أبكار السعادة بالحبّ الذي لا يسلى والوصل الذي لا يصرم، وهذا معنى استنبطه الخادم للدولة وشعارها، وهو مما لم تخطّ به الأقلام في خطها ولا أجالته الخواطر في أفكارها. وغرابة هذا المعنى ظاهرة، ولم يأت بها أحد قبلي. وبلغني من المعاني المخترعة أن عبد الملك بن مروان بنى بابا من أبواب المسجد الأقصى بالبيت المقدس، وبنى الحجاج بابا إلى جانبه، فجاءت صاعقة فأحرقت الباب الذي بناه عبد الملك، فتطير لذلك، وشقّ عليه، فبلغ ذلك الحجاج فكتب إليه كتابا: بلغني كذا وكذا، فليهن أمير المؤمنين أن الله تقبّل منه، وما مثلي ومثله إلا كابني آدم إذ قرّبا قربانا فتقبّل من أحدهما ولم يتقبّل من الآخر؛ فلما وقف عبد الملك على كتابه سرّي عنه. وهذا معنى غريب استخرجه الحجاج من القرآن الكريم، وهو من المعاني المناسبة لما ذكرت فيه؛ ويكفي الحجاج من فطانة الفكرة أن يكون عنده استعداد لاستخراج مثل ذلك. وأما المعاني التي تستخرج من غير شاهد حال متصورة فإنها أصعب مثالا مما يستخرج بشاهد الحال، ولأمر مّا كان لأبكارها سرّ لا يهجم على مكامنه إلا جنان الشّهم، ولا يفوز بمحاسنه إلا من دقّ فهمه حتى جلّ عن دقة الفهم، وللهجوم على عذارى المعاني المحميّة بحجب البواتر أيسر من الهجوم على عذارى المعاني المحمية بحجب الخواطر، وما ذلك مما يلقيه إليك الأستاذ، وليس يقوم به إلا الفذ ولا أقول الأفذاذ، وأين الذي ينشئ فيحسن فيها الإنشاء، ويبرز فيها صورا يركبها كيف يشاء؟ ومن نظر إلى هذا الموضع حق النظر، وأخذ فيه بالعين دون الأثر، علم أنه مقام يزلق بمعارف الأفهام، فكيف بمواقف الأقدام، وليست المعاني فيه إلا كالأرواح، ولا الألفاظ إلا كالأجسام، فمن شاء أن يخلق خلقا من الكلام فليأت به على صورة الأناسيّ لا على صورة الأنعام، فإن من القول الغانية التي هي أحسن من الغانية، ومنه البهيمة التي لا تشبه إلا بالسانية. فمما جاء في هذا الباب قول أبي نواس «1» :

شرابك في السّراب إذا عطشنا ... وخبزك عند منقطع التّراب وما روّحتنا لتذبّ عنّا ... ولكن خفت مرزئة الذباب فالبيت الثاني من هذين البيتين هو المشار إليه بأنه معنى مبتدع، ويحكى عن الرشيد هرون رحمه الله أنه قال: لم يهج باد ولا حاضر بمثل هذا الهجاء. ومن هذا الباب قول مسلم بن الوليد «1» : تنال بالرّفق ما تعيا الرّجال به ... كالموت مستعجلا يأتي على مهل ومن هذا الباب قول علي بن جبلة: تكفّل ساكن الدّنيا حميد ... فقد أضحت له الدّنيا عيالا كأنّ أباه آدم كان أوصى ... إليه أن يعولهم فعالا وهذا معنى دندن حوله الشعراء، وفاز علي بن جبلة بالإفصاح عنه. وقد قيل: إن أبا تمام أكثر الشعراء المتأخرين ابتداعا للمعاني، وقد عدّت معانيه المبتدعة فوجدت ما يزيد على عشرين معنى. وأهل هذه الصناعة يكبرون ذلك، وما هذا من مثل أبي تمام بكبير؛ فإني أنا عددت معانيّ المبتدعة التي وردت في مكاتباتي فوجدتها أكثر من هذه العدة، وهي مما لا أنازع فيه، ولا أدافع عنه؛ فأما ما ورد لأبي تمام فمن ذلك قوله «2» :

يأيّها الملك النّائي برؤيته ... وجوده لمراعي جوده كثب ليس الحجاب بمقص عنك لي أملا ... إنّ السّماء ترجّي حين تحتجب وكذلك قوله» : رأينا الجود فيك وما عرضنا ... لسجل منه بعد ولا ذنوب ولكن دارة القمر استتمّت ... فدلّتنا على مطر قريب وكذلك قوله في الهجاء «2» : وأنت تدير قطب رحا عليّا ... ولم نر للرّحا العلياء قطبا ترى ظفرا بكلّ صراع قرن ... إذا ما كنت أسفل منه جنبا «3» وكذلك قوله «4» : وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود لولا اشتعال النّار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود وكذلك قوله «5» : لا تنكروا ضربي له من دونه ... مثلا شرودا في النّدى والبأس

فالله قد ضرب الأقل لنوره ... مثلا من المشكاة والنّبراس وكذلك قوله «1» : لا تنكري عطل الكريم من الغنى ... فالسّيل حرب للمكان العالي وكذلك له في الشيب «2» : شعلة في المغارق استودعتني ... في صميم الفؤاد ثكلا صميما يستثير الهموم ما اكتنّ منها ... صعدا وهي تستثير الهموما فالبيت الثاني من المعاني المخترعة، وقد تفقه فيه فجعله مسألة من مسائل الدور، وهذا من إغراب أبي تمام المعروف. وهذا القدر كاف من جملة معانيه؛ فإنا لم نستقصها ههنا. ومن هذا الباب قول ابن الرومي «3» :

كلّ امرئ مدح امرأ لنواله ... وأطال فيه فقد أساء هجاءه لو لم يقدّر فيه بعد المستقى ... عند الورود لما أطال رشاءه وكذلك قوله «1» : عدوّك من صديقك مستفاد ... فلا تستكثرنّ من الصّحاب فإنّ الدّاء أكثر ما تراه ... يكون من الطّعام أو الشّراب وكذلك قوله: لما تؤذن الدّنيا به من صروفها ... يكون بكاء الطّفل ساعة يولد وإلّا فما يبكيه منها وإنّه ... لأوسع ممّا كان فيه وأرغد إذا أبصر الدّنيا استهلّ كأنه ... بما هو لاق من أذاها يهدّد

وكذلك قوله: رددت عليّ مدحي بعد مطل ... وقد دنست ملبسه الجديدا وقلت امدح به من شئت غيري ... ومن ذا يقبل المدح الرّديدا وهل للحيّ في أكفان ميت ... لبوس بعدما امتلأت صديدا وقد ورد لأبي الطيب المتنبي من ذلك كقوله «1» : أجزني إذا أنشدت مدحا فإنّما ... بشعري أتاك المادحون مردّدا ودع كلّ صوت بعد صوتي فإنّني ... أنا الصّائح المحكيّ والآخر الصّدى فالبيت الأول قد توارد على معناه الشعراء قديما وحديثا، لكن البيت الثاني في التمثيل الذي مثله ليس لأحد إلا له. وكذلك قوله «2» : بهجر سيوفك أغمادها ... تمنّى الطّلى أن تكون الغمودا «3» إلى الهام تصدر عن مثله ... ترى صدرا عن ورود ورودا «4»

وكذلك قوله في بدر بن عمار يهنيه ببرئه من مرض «1» : قصدت من شرقها ومغربها ... حتّى اشتكتك الرّكاب والسّبل لم تبق إلّا قليل عافية ... قد وفدت تجتديكها العلل وقد وقفت على ما شاء الله من أشعار الفحول من الشعراء قديما وحديثا فلم أجد لأحد منهم في ذكر المرض ما يعدّ معنى مخترعا، لا، بل لم أجد من أقوالهم شيئا مرضيا، ما عدا المتنبي؛ فإنه ذكر المرض في عدة مواضع من شعره فأجاد، وهذا البيت الثاني من هذين البيتين معنى مخترع له؛ وقد أحسن فيه كل الإحسان. ومما ابتدعه بإجماع قوله في مدح عضد الدولة في قصيدته النونية التي مطلعها: مغاني الشّعب طيبا في المغاني «2» قال عند ذكره: فعاشا عيشة القمرين يحيا ... بضوئهما ولا يتحاسدان ولا ملكا سوى ملك الأعادي ... ولا ورثا سوى من يقتلان وكان ابنا عدوّ كاثراه ... له ياءي حروف أنيسيان أي: جعل الله ابني عدو كاثراه يعني ابني عضد الدولة كياءي حروف تصغير إنسان؛ فإن ذلك زيادة، وهو نقص في المقدار، إلا أن سبك هذا البيت قد شوّهه وأذهب طلاوة المعنى المندرج تحته.

ومن معانيه المبتدعة قوله «1» : فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإنّ المسك بعض دم الغزال وأحسن من ذلك قوله «2» : صدمتهم بخميس أنت غرّته ... وسمهريّته في وجهه غمم فكان أثبت ما فيهم جسومهم ... يسقطن حولك والأرواح تنهزم وهذا من أعاجيب أبي الطيب التي برّز فيها على الشعراء. ومن الإحسان في هذا الباب قول بعضهم: وقد أشقّ الحجاب الصّعب مأربه ... دوني وآبى ولوجا فيه إن طرقا «3» كالطّيف يأبى دخول الجفن منفتحا ... وليس يدخله إلّا إذا انطبقا ورأيت ابن حمدون البغدادي صاحب كتاب التذكرة قد أورد هذين البيتين في كتابه، وقال: قد أغرب هذا الشاعر، ولكنه خلط وجرى على عادة الشعراء؛ لأن

الطيف لا يدخل الجفن، وإنما يتخيل إلى النفس؛ وهذا كلام من لم يطعم من شجرة الفصاحة والبلاغة، وليس مثله عندي إلا كما يحكى عن ملك الروم إذ أنشد عنده بيت المتنبي الذي هو «1» : كأنّ العيس كانت فوق جفني ... مناخاة فلمّا ثرن سالا فسأل عن المعنى ففسر له، فقال: ما سمعت بأعذب من هذا الشاعر: أرأيت من أناخ الجمل على عينه لا يهلكه. ومن محاسن هذا القسم قول بعضهم: تخيّره الله من آدم ... فما زال منحدرا يرتقي وكذلك قول الآخر: بأبي غزال غازلته مقلتي ... بين الغوير وبين شطّي بارق عاطيته واللّيل يسحب ذيله ... صهباء كالمسك الفتيق لناشق وضممته ضمّ الكميّ لسيفه ... وذؤابتاه حمائل في عاتقي حتّى إذا مالت به سنة الكرى ... زحزحته شيئا وكان معانقي أبعدته عن أضلع تشتاقه ... كي لا ينام على وساد خافق وهذا من الحسن والملاحة بالمكان الأقصى، ولقد خفّت معانيه على القلوب حتى كادت ترقص رقصا، والبيت الأخير منه هو الموصوف بالإبداع، وبه وبأمثاله أقرّت الأبصار بفضل الأسماع. ومن هذا الضرب قول بعض المصريين يهجو إنسانا يقال له ابن طليل احترقت داره:

انظر إلى الأيّام كيف تسوقنا ... طوعا إلى الإقرار بالأقدار ما أوقد ابن طليل قطّ بداره ... نارا وكان هلاكها بالنّار وكذلك ورد قول ابن قلاقس من شعراء مصر: زد رفعة إن قيل أنغ ... ض وانخفض إن قيل أثرى كالغصن يدنو ما اكتسى ... ثمرا وينأى ما تعرّى وهذا من المعاني الدقيقة. ومن هذا الأسلوب قول الشاعر المعروف بالحافظ في تشبيه البهار، وهو: عيون تبر كأنّما سرقت ... سواد أحداقها من الغسق فإن دجا ليلها بظلمته ... ضممن من خوفها على السّرق وهذا تشبيه بديع لم يسمع بمثله، وهو من اللطافة على ما لا خفاء به. ومن هذا القسم قول بعض المتأخرين من أهل زماننا: لا تضع من عظيم قدر وإن كن ... ت مشارا إليه بالتّعظيم فالشّريف العظيم ينقص قدرا ... بالتّعدّي على الشّريف العظيم ولع الخمر بالعقول رمى الخم ... ر بتنجيسها وبالتّحريم ومن غريب ما سمعته في هذا الباب قول بعض الشعراء المغاربة يرثي قتيلا: غدرت به زرق الأسنّة بعدما ... قد كنّ طوع يمينه وشماله فليحذر البدر المنير نجومه ... إذ بان غدر مثالها بمثاله وكذلك جاء قول بعض المغاربة في الخمر وكاساتها: ثقلت زجاجات أتتنا فرّعا ... حتّى إذا ملئت بصرف الرّاح خفّت فكادت أن تطير بما حوت ... وكذا الجسوم تخفّ بالأرواح

وهذا معنى مبتدع أشهد أنه يفعل بالعقول فعل الخمر سكرا، ويروق كما رقت لطفا، ويفوح كما فاحت نشرا. وكذلك ورد قول ابن حمديس الصقلي: يا سالبا قمر السّماء جماله ... ألبستني للحزن ثوب سمائه أضرمت قلبي فارتمى بشرارة ... وقعت بخدّك فانطفت من مائه وهذا المعنى دقيق جدا. وقد سمعت في الخال ما شاء الله أن أسمع، فلم أجد مثل هذا. وقد جاءني في الكلام المنثور من هذا الضرب شيء، وسأذكر ههنا منه نبذة. فمن ذلك ما ذكرته في وصف صورة مليحة، فقلت: ألبس من الحسن أنضر لباس، وخلق من طينة غير طينة الناس، وكما زاد حسنا فكذلك ازداد طيبا، واتفقت فيه الأهواء حتى صار إلى كل قلب حبيبا، فلو صافح الورد لتعطرت أوراقه، أو مر على النّيلوفر ليلا لتفتحت أحداقه. والمعنى الغريب ههنا أن الشمس إذا طلعت على النيلوفر تفتّح أوراقه، وإذا غربت عنه انضم، ثم إني سمعت هذا في شعر الفرس لبعض شعرائهم، فحصل عندي منه تعجب. ومن ذلك ما ذكرته في ذم الشيب، فقلت: الشيب إعدام للإيسار، وظلام للأنوار؛ وهو الموت الأول الذي يصلى نارا من الهم أشد وقودا من النار، ولئن قال قوم إنه جلالة فإنهم دقّوا به وما جلّوا، وأفتوا في وصفه بغير علم فضلّوا وأضلّوا، وما أراه إلا محراثا للعمر ولم تدخل آلة الحرث دار قوم إلا ذلّوا، ومن عجيب شأنه أنه المملول الذي يشفق من بعده، والخلق الذي يكره نزع برده، ولما فقد الشباب كان عنه عوضا ولا عوض عنه في فقده. والمعنى المخترع ههنا في قولي: «وما أراه إلا محراثا للعمر ولم تدخل آلة الحرث دار قوم إلا ذلوا» وهو مستنبط من الحديث النبوي، وذاك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رأى

آلة حرث فقال: «ما دخلت هذه دار قوم إلّا ذلّوا» فأخذت أنا هذا ونقلته إلى الشيب، فجاء كما تراه في أعلى درجات الحسن، وذلك لما بينه وبين الشيب من المناسبة الشبيهة؛ لأن الشيب يفعل في البدن ما يفعله المحراث في الأرض، وإذا نزل بالإنسان أحدث عنه ذلا. ومن هذا الباب ما ذكرته في فصل من كتاب إلى بعض الناس أعبث به، فقلت: وإذا كتبت مثالبه في كتاب اجتمع عليه بنات وردان، وحرم على أن أبدأ فيه بالبسملة لأنها من القرآن. وهذا معنى لطيف في غاية اللطافة، وهو مخترع لي. وكذلك كتبت إلى بعض الناس كتابا من هذا الجنس أهزل معه، فقلت في فصل منه ما أذكره، وهو: ينبغي له أن يشكرني على وسمه بهجائي دون امتداحي، فإني لم أسمه إلا لتحرم به الأضحية في يوم الأضاحي، ولا شك أن سيدنا معدود في جملة الأنعام، غير أنه من ذوات القرون والقرن عدوه عند الخصام. وهذا معنى ابتدعته ابتداعا، ولم أسمعه لأحد من قبلي. ومن ذلك ما ذكرته في جملة كتاب يتضمن هزيمة الكفار، وذلك فصل منه، فقلت: وكانت الوقعة يوم الأحد منتصف شهر كذا وكذا، وهذا هو اليوم الذي تخيره الكفار من أيام الأسبوع، ونصبوه موسما لشرع كفرهم المشروع، فحصل ارتيابهم به إذ تضمّن للإسلام مزيدا، وقالوا: هذا يوم قد أسلم فلا نجعله لنا عيدا، وقد أفصح لهم لسانه لو كانوا يعلمون، بأن الدين عند الله هو الإسلام وأن أولياءه هم المسلمون. وهذا معنى انفردت بابتداعه، ولم يأت به أحد ممن تقدمني. ومن ذلك ما ذكرته في فصل من كتاب إلى ديوان الخلافة ببغداد، وهو في وصف القلم، فقلت: وقلم الديوان العزيز هو الذي يخفض ويرفع، ويعطي ويمنع، وهو المطاع لجدع أنفه وسواد لباسه وقد ورد الأمر بطاعة الحبشي الأجدع، ومن أحسن صفاته أن شعاره من شعار مولاه، فهو يخلع على عبيده من الكرامة ما يخلع.

في هذه الأوصاف معان حسنة لطيفة، ومنها معنى غريب لم أسبق إليه، وهو قولي: «إنه المطاع لجدع أنفه وسواد لباسه وقد ورد الأمر بطاعة الحبشي الأجدع» فإن هذا مما ابتكرته، وهو مستخرج من الحديث النبوي في ذكر الطاعة والجماعة، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أطع ولو عبدا حبشيّا مجدّعا ما أقام عليك كتاب الله» فاستخرجت أنا للقلم معنى من ذلك، وهو أن القلم يجدع ويقمص لباس السواد فصار حبشيا أجدع، وهذا كما فعل أبو تمام حبيب بن أوس الطائي في قصيدته السينية، فإنه استخرج المعنى المخترع من القرآن الكريم، وأنا استخرجت المعنى من الخبر النبوي كما أريتك، وهذا المعنى المشار إليه في وصف القلم أوردته بعبارة أخرى على وجه آخر ونبهت عليه في كتاب «الوشي المرقوم في حل المنظوم» وهذا كتاب ألفته في صناعة حل الشعر وغيره. وبعد هذا فسأقول لك في هذا الموضع قولا لم يقله أحد غيري، وهو أن المعاني المبتدعة شبيهة بمسائل الحساب المجهول من الجبر والمقابلة، فكما أنك إذا وردت عليك مسألة من المجهولات تأخذها وتقلبها ظهرا لبطن، وتنظر إلى أوائلها وأواخرها، وتعتبر أطرافها وأوساطها، وعند ذلك تخرج بك الفكرة إلى معلوم؛ فكذلك إذا ورد عليك معنى من المعاني ينبغي لك أن تنظر فيه كنظرك في المجهولات الحسابية، إلا أن هذا لا يقع في كل معنى؛ فإن أكثر المعاني قد طرق وسبق إليه، والإبداع إنما يقع في معنى غريب لم يطرق، ولا يكون ذلك إلا في أمر غريب لم يأت مثله، وحينئذ إذا كتب فيه كتاب أو نظم فيه شعر فإن الكاتب والشاعر يعثران على مظنة الإبداع فيه، وقد لابست ذلك في مواضع كثيرة وسأورد ههنا ما يحذى حذوه لمن استطاع إليه سبيلا. ومن ذلك ما كتبته عن نفسي إلى بعض ملوك الشام، وأهديت إليه رطبا، وهو: خلّد الله دولة مولانا، وعمر لها مجدا وجنانا، وخوّلها السعادة عطاء حسابا، وأنشأ الليالي لخدمتها عربا أترابا، وأبقى شبيهتها بقاء لا يستحدث معه خضابا، ولا جعل لها في محاسن الدول السابقة أشباها ولا أضرابا، وألقى البأس بين أعدائها وحسادها حتى يبعث لهم في الأرض غرابا، إذا أراد العبيد أن يهدوا لمواليهم قصّرت بهم يد وجدهم، وعلموا أن كل ما عندهم من عندهم، لكن في الأشياء

المستطرفة ما يهدي وإن كان قدره خفيفا، ولولا اختلاف البلاد فيما يوجد بها لما كان شيء من الأشياء طريفا، وقد أهدى المملوك من الرطب ما يتجلّى في صفة الوارس، ويزهى بحسنه حتى كأنه لم يدنّس بيد لامس، وما سمي رطبا إلا لاشتقاقه من الرطب الذي هو ضد اليابس، وقد أثنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليه ثناء جما، وفضّل شجرته على الشجر بأن سمّاها أمّا، ولئن عدم عرفا لذيذا فإنه لم يعد منظرا لذيذا ولا طعما، وله أوصاف أخرى هي لفضله بمنزلة الشهود، فمنها أنه أول غذاء يفطر عليه الصائم وأول غذاء يدخل بطن المولود، وأحسن من ذلك أنه معدود من الحلواء وإن كان من ذوات الغراس، ولا فرق بينهما سوى أنه من خلق الله وتلك من خلق الناس، وإذا أنصف واصفه قال: ما من ثمرة إلا وهي عنه قاصرة، ولو تفاخرت البلاد بمحاسن ثمارها لقامت أرض العراق به فاخرة، وها قد سار إلى باب مولانا وهو مجني المنابت سار إلى مجني الكرم، وملك الفاكهة وفد على ملك الشّيم، ولما استقلّت به الطريق أنشأ الحسد لغيره من الفواكه أربا، وما منها إلا من قال: يا ليتني كنت رطبا، ولئن كان من الثمرات التي تختلف في الصور والأسماء، ويفضل بعضها على بعض ويسقي بشراب واحد من الماء، فكذلك تلك الشيم العريقة تتحد في عنصرها وهي مختلفة الوتيرة، ومن أفضلها شيمة السماح التي تقبل القليل من عبيدها، وتسمح لهم بالعطايا الكثيرة، وقد ضرب لها المملوك مثالا فقال هي: كجنّة بربوة، بل ضرب لها ما ضرب للمثل النبوي، وهي نخلة بكبوة، ولا يختم كتابه بأحسن من هذا القول الذي طاب سمعا، وزكا أصلا وفرعا، وتصرف في أساليب البلاغة فجاء به وترا وشفعا؛ والسلام. وهذا كتاب غريب في معناه، وقد اشتمل على معان كثيرة؛ فمن جملتها أن الرطب مشتق من الرطب الذي هو ضد اليابس، ومن جملتها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سمى النخلة أما فقال: «أمكم النخلة» ، ومن جملتها أنه كان صلّى الله عليه وسلّم يفطر على رطبات فإن لم يجد فتمرات، ومن جملتها أنه كان يلوك التمرة ويحنّك بها المولود عند ميلاده، ولما ولد عبد الله بن الزبير جاءت أمه أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنه ووضعته في حجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلاك تمرة ووضعها في فيه، ومن جملتها أنه والحلواء شيء واحد، إلا أنه من خلق الله وتلك من خلق الناس، ومن جملتها أن

العباس رضي الله عنه قال: يا رسول الله؛ إن قريشا تذاكرت أحسابها فضربوا لك مثالا بنخلة بكبوة، وكل هذه المعاني حسنة واردة في موضعها، ومن كتب في معنى من المعاني حسنة واردة في موضعها، ومن كتب في معنى من المعاني فليكتبه هكذا، وإلّا فليدع. ومن ذلك رقعة كتبتها إلى بعض حجّاب السلطان في حاجة عرضت لي، وأرسلت معها هدية من ثياب ودراهم، وهي: ما من صديق وإن صحّت صداقته ... يوما بأنجح في الحاجات من طبق إذا تلثّم بالمنديل منطلقا ... لم يخش نبوة بوّاب ولا غلق الهديّة مشتقة من الهدى، غير أنها ترفّ إلى القلب لا إلى الندى، وصهارتها أنفع من الصهارة، وكلما تردّدت كانت بكرا فهي لا تنفك عن البكارة، ومن خصائصها أنها تمسك بمعروف أمن من السراح، وإذا رامت فتح باب لا تفتقر في علاجه إلى مفتاح، وقد قيل: إنها الحسناء المتأنقة في عمارة بيتها، التي توصف بأن القنديل يضيء بزيتها، وقد أرسلتها إلى المولى وهي تتهادى في إعجابها، وتدلّ بكثرة دراهمها وثيابها، وتقول: أنا الكريمة في قومها الشريفة في أنسابها، وأحسن ما فيها أنها جاءت سرّا، لم تعلم بها اليد اليمنى من اليسرى؛ فخذها يا مولاي واكشف نقابها، وأمط عنها جلبابها، وقد كانت منك حرة وهي الآن في حيّز المملكة، ومن السنة في مثلها أن تؤخذ بالناصية ويدعى [لها] بالبركة، والسائر بها فلان وهو في الجهل بها حامل أسفار، وناقل لها من دار إلى دار، ولربما نطق لسان حالها الذي هو أفصح من نطق اللسان، وأذكرت بحاجة مرسلها وحاش فطانة الكريم من النسيان، وليس المطلوب إلا فضيلة من الجاه تسفر بين السائل والمسئول، وتنقل البعيد إلى درجة القريب والممنوع إلى درجة المبذول، فإذا فعل المولى ذلك كان له منة السّفارة ومنة الإنعام، وإن سمع بأن سعيا واحدا فاز بشكرين اثنين ففي مثل هذا المقام، ومن الناس من يقول: ليس على جانب السلطان ثقل في صنعه، وهل ههنا إلا كلمات تقال والكلام ماعون لا رخصة في منعه، ولم يدر أن ملاطفة الخطاب ضرب من الاحتيال، وأن نقل الخطوات فيه أثقل من نقل

الجبال، وأن صاحب الحاجة يحظى بحلاوة النجاح والحاجب يلقى مرارة السؤال. وهذا يقوله الخادم إيجابا لإحسان المولى الذي هو إحسان شامل، ولا يعلمه إلا عالم بفضله ولا يجهله إلا جاهل، والله تعالى يجعل الحاجات مغدوقة ببابه، حتى لا تنفك في الدنيا من إمداد شكره وفي الآخرة من إمداد ثوابه؛ والسلام. فتأمل أيها الناظر في كتابي هذا إلى ما اشتملت عليه هذه الرقعة من المعاني حتى تعلم كيف تضع يدك «1» فيما تكتبه. ومن ذلك رقعة أخرى كتبتها في هذا المعنى المتقدم ذكره، وأرسلت معها هدية من المسك، وهي: الهدية رسول يخاطب عن مرسله بغير لسان، ويدخل على القلوب من غير استئذان، وقد قيل: أخت السحر في ملاطفة قصدها، غير أنها لا تحتاج إلى نفثها ولا إلى عقدها، وما من قلب إلا وصورتها تجلي عليه في سرقة، ولولا شرف مكانها لما حلّلت للنبي صلّى الله عليه وسلّم مع تحريم الصدقة، ولها صفات غير هذه كريمة الأخطار، حسنة لدى الأسماع والأبصار، ومن أحسنها أنها تستجدّ ودّا، وتجعل قربا ما كان بعدا «2» . وتقول لنا الإحنة: يا نار كوني بردا، ولهذا قيل: تهادوا تحابّوا، ولا شك أنها وصلة بين المودات فإذا تواصل الناس تقاربوا، وقد أرسل الخادم منها شيئا إذا كتمه ذاع، وإذا خزنه ضاع، وقد شبّه به الجليس الصالح بعدد أسباب الانتفاع، ومما زاد مزية على مزيته أنه وشيم المولى توأمان، غير أن شيمته تنتمي إلى كرم محتدها وهو ينتمي إلى سرر الغزلان، فإذا ورد على مجلسه قيل: هذا عطر ورد على جونة عطار، وعرف له حق المشاركة فإن أدنى الشرك في الشيم جوار، وقد نطق الخبر النبوي بأنه أحد الثلاثة التي لا تردّ على من أهداها، وإذا نظر إلى محصول بقائها وفائدتها وجد أطولها عمرا وأجداها، وهذا يحكم على المولى بقبول ما استرسل الخادم في إرساله، وإذا سأل غيره في قبول هديته كفاه نص الخبر مؤنة سؤاله؛ والسلام.

وهذه الرقعة أحسن من التي قبلها؛ فمما اشتملت عليه من المعاني قولي: «وما من قلب إلا وصورتها تجلى عليه في سرقة، ولولا شرف مكانها لما حللت للنبي صلّى الله عليه وسلّم مع تحريم الصدقة» وهذا المعنيان مستخرجان من خبرين نبويين: أحدهما: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «جاءني جبريل عليه السّلام ومعه سرقة من حرير» يعني حريرة بيضاء «وفيها صورة عائشة» رضي الله تعالى عنها وقال: «هذه زوجتك في الدّنيا والآخرة» والخبر الآخر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «حرّمت عليّ الصّدقة، وأحلّت لي الهديّة» . ومما اشتملت عليه أيضا قولي: «وقد أرسل الخادم منها شيئا إذا كتمه ذاع وإذا خزنه ضاع» وهذه مغالطة حسنة؛ لأن المسك إذا كتم ذاعت رائحته، وإذا خزن ضاع: أي فاح، ويقال: ضاع الشيء؛ إذا ذهب، فالمغالطة ههنا في الجمع بين الضدين. وكذلك قولي: «وقد شبه الجليس الصالح» وهذا مستخرج من الخبر النبوي أيضا، وذاك أنه قال صلّى الله عليه وسلّم: «مثل الجليس الصّالح مثل حامل المسك، إمّا أن يحذيك، وإمّا أن تبتاع منه، وإمّا أن تجد منه عرفا طيّبا، ومثل جليس السوء مثل نافخ الكير، إمّا أن يحرق ثوبك، وإمّا أن تجد منه رائحة كريهة» . ومما اشتملت عليه من المعاني أيضا قولي: «إنه أحد الثلاثة التي لا ترد على من أهداها» وهذا مستخرج من الخبر النبوي أيضا، وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ثلاثة لا تردّ: الطّيب، والرّيحان، والدّهن» . ومن ذلك رقعة كلفني بعض أصدقائي إملاءها عليه، وهي رقعة من عاشق إلى معشوق، وهي: وإذا قيل من نحبّ تخطّا ... ك لساني وأنت في القلب ذاكا يا من لا أسميه، ولا أكنيه، وأذكر غيره وهو الذي أعنيه، لا تكن ممن أوتي ملكا فلم ينظر في زواله، وعرف مكانه من القلوب فجار في إدلاله، ولا تغترّ بقول

من رأى الحسن للاساءة ماحيا «1» ، واعلم أن اللاحي يقول: كفى بالتذلل لاحيا، وكثيرا ما يزول العشق بجنايات الصدود، والزيادة في الحد نقصان في المحدود، وقد قيل: إن الحسن عليه زكاة كزكاة المال، وليست زكاته عند علماء المحبة إلا عبارة عن الوصال، وهذه صدقة تقسّم على أربابها، ولا ينتظر أن يحول الحول في إيجابها، فهي مستمرة على تجدد الأيام، والمستحقّون لها قسم واحد ولا يقال: إنهم ثمانية أقسام، وهؤلاء هم المخصوصون بفك الرقاب، ورقبة العشق أشدّ أسرا من رقبة تتحرّر بالكتاب، فأخرج يا مولاي من هذا الحق الواجب، وإلا فتأتّ لطالب منى ومطالب، ولا تقل هذا غريم أكثر عد الليالي في مطله، وأعده والمواعيد زاد لمثله، فهذه سلعة قد عاملتني بها مرة ساخرا ومرة ساحرا، ومن الأقوال السائرة أن الغرّ تجعله التجربة ماهرا، ولعمري إن ممارسة الحب تجدد لصاحبه علما، وتبصّره وإن كان كما يقال أعمى، وقد كذب القائل: عرّضن للّذي تحبّ بحبّ ... ثمّ دعه يروضه إبليس فإن كانت الرياضة كما قيل لإبليس فما أراه صنعا في الذي صنع، وأراك استعصيت عليه استعصاء القارح وأنت جذع، ولا شك أنك تهدم ما يشيده من البناء، أو أنك مستثنى في جملة من دخل في حكم الاستثناء، وأنا الآن له عائب، وعليه عاتب، فأين نفثاته التي هي أخدع من الحبائل، وأين قوله: لآتينّهم عن الأيمان والشمائل، وأين جنوده المسترقة ما في السّماء، التي تجري من بني آدم مجرى الدماء، وكل هذا قد بطل عندي خبره، كما بطل عندي أثره؛ فإن أدركته النخوة بأني أستهزئ بتصديق أفعاله، فليحلل معقول حاجتي هذه حتى أعلم أنه قادر على حل عقاله، وإلّا فليخف رأسه، وليمح وسواسه، وإن كان له عرش على البحر فليقوّض من عرشه، وليعلم أن السحر ليس في عقده ونفثه ولكنه في الأصفر ونقشه، وها أنا قد بعثت منه ما يجعل العزم محلولا، والود مبذولا، وما أقول إلا

أني بعثت معشوقا إلى معشوق، وكلاهما محلّه القلب بل القلب من حبهما مخلوق، وما أكرمه وهو وسيلة إلى مثله، وحسنه من حسنه وإن لم يكن شكله من شكله، وما وصف واصف إلا كان ما رآه منه فوق ما رواه، ومن أغرب أوصافه وأحسنها أنه لم ير ذو وجهين وجيها سواه، لا جرم أنه إذا سفر في أمر «1» تلطّف في فتح أبوابه، وتناول وعره بسهله وبعده فبدله باقترابه، ولو بعثت غيره لخفت ألّا يكون في سفارته صادقا، أو أنه كان يمضي سفيرا ويعود عاشقا، فليس على الحسن أمانة، وفي مثله تعذر الخيانة، ولا لوم على العقول إذا نسيت هناك عزيمة رشدها، ورأت مالا يحتمله كاهل جهدها، ومن الذي يقوى درعه على تلك السهام، أو يروم النجاة منها وقد حيل بينه وبين المرام، وهذا الذي منعني أن أرسل إلا كيسا وكتابا، فأحدهما يكون في السفارة والآخر على السر حجابا، والسلام إن شاء الله تعالى. وفي هذه الرقعة من المعاني الغريبة ما أذكره؛ فالأول: ما ذكرته في قسم الصدقات وفكّ الرقاب، والثاني: ما ذكرته في وصف الدينار وهو أنه وجيه ذو وجهين؛ وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ذو الوجهين لا يكون وجيها» وهذا معنى لم يسبقني أحد إليه، وقد وصف الحريري الدينار في مقامة من مقاماته ولم يظفر بهذا المعنى ولا جاء من الأوصاف التي ذكرها بمثله، والثالث أني بعثت معشوقا إلى معشوق. ومن ذلك ما كتبته، وكان توفيت زوجة بعض الملوك وتوفي معها ولد لها وهو طفل صغير، وكان بينهما يومان، وتلك المرأة بنت ملك من الملوك أيضا، فكتب إليه من الأطراف المجاورة يعزونه، وحضر عندي بعض الأدباء ممن يجب أن يكون كاتبا، وعرض عليّ نسخة ما كوتب به ذلك الملك في التعزية بزوجته وولدها، فوجدتها كتبا باردة غثة لا تعرب عن الحادثة، بل بينها وبينها بعد المشرقين، ومن شرط الكتاب أن يكون الكتاب مضمنا فض المعنى المقصود، والتعازي مختلفة الأنحاء: فتعازي النساء غير تعازي الرجال، وهي من مستصعبات فنّ الكتابة والشعر، وتعازي الرجال أيضا تختلف، فلا يعزّى بالميت على فراشه كما يعزّى بالميت قتيلا، ولا يعزّى بالقتيل كما يعزّى بالغريق، وهكذا يجري الحكم في

المعاني جميعها، وهذا شيء لا يتنبه له إلا الراسخون في هذا الفن من أرباب النثر والنظم، وسألني ذلك الرجل عن هذه التعزية المشار إليها في المرأة وولدها الصغير، وقال: أحب أن أعلم كيف تكون، فأمليت عليه ثلاثة كتب، كل كتاب يتضمّن معنى لا يتضمنه الكتاب الآخر. فمما جاء منها كتاب أنا ذاكره ههنا، وهو: أشجى التعازي ما أتبع فيه المفقود بمفقود، لا سيما إذا جمع بين سعد الأخبية وسعد السّعود، وكل منهما يعظم حزنا كما يعظم مكانا، وهذا يحسر عن الوجوه خمرا وهذا يلقي عن الرءوس تيجانا، ولم يوفّهما حقّهما من بكي ولا من ندب، ولا من شعر ولا من كتب، وليت فدى أحدهما بصاحبه فعاش درهما المفدي بالذهب. ولو كان خطبا واحدا خفّ كلمه ... ولكنّه خطب أعيد على خطب وقد أصدر الخادم كتابه هذا ومن حقه أن يخرج في ثوب من الحداد، وأن يتعثر في أذيال كلمه والكتاب عنوان الفؤاد، وغاية ما يقول: أحسن الله عزاء المجلس السامي الملك الأجل السيد، على أن هذا الدعاء قد شهدت الحال بلحنه، وكيف يملك قلبه عزاء وقد أوثقه الهم في سجنه، وصار له ولدا دون ولده وخدنا دون خدنه، لكن يدعى له بامتداد البقاء، وأن تعامله الحوادث بعد هذه معاملة الإبقاء، ثم نتبع ذلك بطلب الجنة لمن نقلته المنايا عن أرائك الخدور، وجعلته في بطون القبور، ولمن فاجأت الأيام غصنه فقصفته، ولم يعش حتى عرف الدنيا ولا عرفته؛ فواها لهما وقد نزلا بمنزل عديم الإيناس، وإن كان مأهولا بأكثر الناس؛ فهو القريب دارا، البعيد مزارا، الذي حجب من اليأس بأمنع حجاب، وذهب عن الوجوه المنعمة لذل التراب، فمن كان مسعدا للمجلس فليأخذ بوله الجزع لا بعزيمة الاصطبار، وليقل: هذا حادث بان فيه تحامل الأقدار، وجرت همومه مجرى الخواطر من القلوب والرقاد من الأبصار، فالأسوة إلا فيه معدودة من الإحسان، والسّلوة إلا عنه داخلة في حيّز الإمكان، والخادم أولى من لقي المجلس فيه بالإسعاد، وقام بما يجب من قضاء حق الوداد، وفعل ما يفعله القريب الحاضر وإن كان على شقة من البعاد، وقد أرسل من ينوب عنه في التعزية وإن لم يكف

فيها المناب، وكما رخص العذر في قصر الصلاة فكذلك رخص في الاقتصار على الرسول والكتاب، وقد ودّ لو حضر بنفسه فاستسقى لذلك الضريح سحابا، وعقر عنده ركابا، وسأل الله له مغفرة وثوابا؛ والسلام. في هذا الكتاب معنى غريب، وهو قولي: «سعد الأخبية» كناية عن المرأة، و «سعد السود» كناية عن ولدها؛ لأن سعد الأخبية اسم منزلة من منازل القمر، والأخبية: جمع خباء، ومن شأن المرأة أن تحتجب في الأخبية، فهي سعدها، وهذا من المعاني الغريبة في مثل هذا المقصد، وقد اتفق سعد الأخبية وسعد السعود معا، وهذا أيضا غريب. ومن ذلك أني كتبت كتابا عن الملك الأفضل علي بن يوسف إلى أخيه الملك الظاهر غازي بن يوسف صاحب حلب، في أمر شخص كان أبوه صاحب مدينة تكريت، وتكريت هذه كان يتولاها قديما الأمير أيوب جد الملك الأفضل والملك الظاهر، وأولد بها ولده صلاح الدين يوسف أباهما، وعلى عقب ولادته انتقل والده عن تكريت هو وعشيرته لأمر طرأ لهم، وجاء إلى الموصل، ثم إلى الشام، وهناك سعدوا، وكانت السعادة على يد صلاح الدين يوسف، فلما أردت أن أكتب هذا الكتاب علمت أنه مظنة المعاني المبتدعة؛ لأن الأمر المكتوب فيه غريب لم يقع مثله، فحينئذ كتبت هذا الكتاب، وهو: رفع الله شأن مولانا الملك الظاهر ولا زال الدهر فاخرا بمآثر سلطانه، ناظما مناقبه في جيده ومحامده في لسانه، ناسخا بمساعي دولته ما تقدم من مساعي آل بويه وآل حمدانه، كتاب الخادم هذا وارد من يد الأمير شمس الدين ابن صاحب تكريت، وهي أول أرض مسّ جلد الوالد ترابها، ورقمت بها السعادة على جبينه كتابها، ومنها ظهر نور البيت الأيوبي مشرقا، وأشام إذا خرج معرقا، وكفاه بذلك وسيلة يكتنفها الإحسان والإرعاء، ويكفي صاحبها أن يقول لا أسقي حتى يصدر الرّعاء، وقد قرنها بوسيلة قصد الخدمة التي توجب لقاصدها ذماما، وتقول له: سلاما إذا قال سلاما، ثم ثلث هاتين الوسيلتين بكتاب الخادم أخذا بالسنة النبوية في الدعاء وعدده، وتفاؤلا بتثليث النجوم فيما يقصده المرء من سعادة مقصده، ولا قدح في كرم الكريم إذا استكثر طالبه من الأسباب؛ فإن الله على كره قد استكثر إليه من أعمال الثواب، وكتاب

الخادم على انفراده كاف لحامله، ومكثر من حقوق وسائله، وقد صدر مخاطبا عن فحوى ضميره، فإنما تحقّ السفارة إذا قعد بكل طالب سعي سفيره، وهو مع ذلك خفيفة صفحته، وجيزة لمحته، وإذا وجد لدى مولانا معولا، فليس عليه أن يرد مطولا، إذ التعويل على نجح مصدره، لا على كثرة أسطره. فانظر أيها المتأمل إلى هذا الكتاب، وأعطه حقه من التأمل، حتى ترى ما اشتمل عليه من المعاني، وانظر كيف ذكرت الأول، ثم الثاني، ثم الثالث؛ أما المعنى الأول: فإنه يختص بذكر سعادة البيت الأيوبي ومنشئها وأنها ولدت بتكريت، وهذا الرجل ينبغي أن يرعى بسببها، إذ كان أبوه صاحبها، وأما المعنى الثاني: فإنه قصد الخدمة الظاهرية، وهذا وسيلة ثانية توجب له ذماما، وأما المعنى الثالث: فإنه حرمة الكتاب الصادر على يده، ثم إني مثلت ذلك بالدعاء النبوي وبتثليث النجوم، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا دعا دعا ثلاثا، وإنما مثلت ذلك بالدعاء لأمرين: أحدهما: أنه موضع سؤال وضراعة، والآخر: أن الكتاب وسيلة ثالثة، والدعاء ثلاث مرار، وأما تثليث النجوم فإن التثليث سعد، والتربيع نحس، وأحسن المعاني الثلاثة التي تضمنها هذا الكتاب هو الأول والثالث، وأما الثاني فإنه متداول، فتأمل ما أشرت إليه، وإذا شئت أن تكتب كتابا فافعل كما فعلت في هذا الكتاب إن كان الأمر الذي تكتب فيه غريب الوقوع. واعلم أنه قد يقع المعنى المبتدع في غير أمر غريب الوقوع، وذلك يكون قليلا بالنسبة إلى الوقائع الغريبة التي هي مظنّة المعاني المبتدعة. ومن هذا الباب ما أوردته في جملة رسالة طردية في وصف قسي البندق وحامليها، وهو: فإذا تناولوها في أيديهم قيل: أهلة طالعة من أكف أقمار، وإذا مثل غناؤها وغناؤهم قيل: منايا مسوقة بأيدي أقدار، وتلك قسيّ وضعت للّعب لا للنضال، ولردى الأطيار لا لردى الرجال، وإذا نعتها ناعت قال: إنها جمعت بين وصفي اللين والصلابة، وصنعت من نوعين غريبين فحازت معنى الغرابة، فهي مركبة من حيوان ونبات، مؤلفة منهما على بعد الشّتات، فهذا من سكان البحر وسواحله، وهذا من سكان البر ومجاهله، ومن صفاتها أنها لا تتمكن من البطش إلا

حين تشدّ، ولا تنطلق في شأنها إلا حين تعطف وتردّ، ولها نثار أحكم تصويرها، وصحح تدويرها، فهي في لونها صندلية الإهاب، وكأنما صيغت لقوتها من حجر لا من تراب، فإذا قذفتها إلى الأطيار قيل ويصعد من الأرض من جبال فيها من برد، ولا يرى حينئذ إلا قتيل ولكن بالمثقل الذي لا يجب في مثله قود، فهي كافلة من تلك الأطيار بقبض نفوسها، منزلة لها من جو السماء على أم رءوسها. هذا الفصل يشتمل على معان غريبة، منها قولي: «إنها لا تتمكن من البطش إلا حين تشد، ولا تنطلق في شأنها إلا حين تعطف وترد» ومنها قولي: «ويصعد من الأرض من جبال فيها من برد» ؛ وكل هذا من المعاني التي تبتدع بالنظر إلى المقصد المكتوب فيه، فإنّ الكاتب إذا أفكر فيما لديه وتأمله وكان قادرا على استخراج المعنى والمناسبة بينه وبين مقصده جاء هكذا كما تراه، إلا أن القادر على ذلك من أقدره الله عليه؛ فما كان خاطر بحكيم، ولا كل من أوحى إليه بكليم، وفي الأقلام هاشم لمن ناوأه ومنها هشيم. وسأنبه في هذا الموضع على طريق يسلك إلى شيء من المعاني المخترعة، وهو ما استخرجته وانفردت باستخراجه دون غيري، فإن المعاني المخترعة لم يتكلم فيها أحد بالإشارة إلى طريق يسلك فيها؛ لأن ذلك مما لا يمكن، ومن ههنا أضرب علماء البيان عنه، ولم يتكلموا فيه كما تكلموا في غيره، وكيف تتقيّد المعاني المخترعة بقيد أو يفتح إليها طريق تسلك وهي تأتي من فيض إلهي بغير تعليم؟ ولهذا اختص بها بعض الناثرين والناظمين دون بعض، والذي يخص بها يكون فذّا واحدا يوجد في الزمن المتطاول، ولما مارست أنا هذا الفن- أعني فن الكتاب- وقلبته ظهرا لبطن، وفتشت عن دفائنه وخباياه، وأكثرت من تحصيل مواده والأسباب الموصلة إلى الغاية منه؛ سنح لي في شيء من المعاني المخترعة طريق سلكته، وهو يستخرج من كتاب الله تعالى وأحاديث نبيه صلوات الله عليه وسلامه، وقد تقدّم لي منه أمثلة في هذا الكتاب، وذلك أنه ترد الآية من كتاب الله، أو الحديث النبوي، والمراد بهما معنى من المعاني، فآخذ أنا ذلك وأنقله إلى معنى آخر؛ فيصير مخترعا لي.

وسأورد ههنا منه نبذة يسيرة يعلم منها كيف فعلت حتى يسلك إليها في الطريق الذي سلكته. فمن ذلك قصة أصحاب الكهف والرقيم؛ فإني أخذت ذلك ونقلته إلى الإحسان والشكر، ألا ترى أن الإحسان يستعار له كهف وكنف وظلّ، وأشباه ذلك، والشكر كلمات تقال في التّنويه بذكر المحسن وإحسانه، والرّقيم هو الكتاب المكتوب، فهو والشكر متماثلان، والذي أتيت به قد أوردته، وهو فصل من كتاب إلى بعض المنعين: الخادم يشكر إحسان المولى الذي ظلّ عنده مقيما، وغدا بمطالبه زعيما، وأصبح بتواليه إليه مغرما كما أصبح له غريما، ولما تمثّل في الاشتمال عليه كهفا صار شكره فيه رقيما. فانظر كيف فعلت فيه في هذا الموضع؛ لتعلم أني قد فتحت لك فيه طريقا تسلكه. وأما الحديث النبوي فإني أخذت قصة قتلى بدر كأبي جهل وعتبة وشيبة وغيرهم ونقلتها إلى القلم، وذاك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وقف على القليب الذي ألقاهم فيه وناداهم بأسمائهم فقال: يا عتبة، يا شيبة، يا أبا جهل، يا فلان، يا فلان؛ والحديث مشهور فلا حاجة إلى استقصائه، والذي أتيت به في وصف القلم هو أني قلت: ولقد مرح القلم في يدي وحقّ له أن يمرح، وأبدع فيما أتى به وكلّ إناء بالّذي فيه ينضح، ومن شأنه أن يستقل على أعواد المنبر فلا ينتهي من خطبتها إلى فصلها، ويقف على جانب القليب إلا أنه لا ينادي من المعاني أبا جهلها. فالدّواة قليب، والقلم يقف عليه، والمعاني التي ينشئها من باب العلم، لا من باب الجهل؛ فتأمل هذه الكلمات التي ذكرتها فإنها لطيفة جدا، وهي مخترعة لي.

وهذا القدر كاف في طريق التعليم؛ فليحذ حذوه إن أمكن، والله الموفق للصواب. وأما الضرب الآخر من المعاني:- وهو الذي يحتذى فيه على مثال سابق، ومنهج مطروق- فذلك جلّ ما يستعمله أرباب هذه الصناعة، ولذلك قال عنترة: هل غادر الشّعراء من متردّم «1» إلا أنه لا ينبغي أن يرسخ هذا القول في الأذهان؛ لئلا يؤيس من الترقي إلى درجة الاختراع، بل يعول على القول المطمع في ذلك، وهو قول أبي تمام «2» : لا زلت من شكري في حلّة ... لابسها ذو سلب فاخر يقول من تقرع أسماعه ... كم ترك الأوّل للآخر وعلى الحقيقة فإن في زوايا الأفكار خبايا، وفي أبكار الخواطر سبايا، لكن قد تقاصرت الهمم ونكصت العزائم، وصار قصارى الآخر أن يتبع الأول، وليته تبعه ولم يقصّر عنه تقصيرا فاحشا. ووقفت على كتاب يقال له «مقدمة ابن أفلح البغدادي» قد قصرها على تفصيل أقسام علم الفصاحة والبلاغة، وللعراقيين بها عناية، وهم واصفون لها، ومكبون عليها، ولما تأمّلتها وجدتها قشورا لا لبّ تحتها؛ لأن غاية ما عند الرجل أن يقول: وأما الفصاحة فإنها كقول النابغة مثلا، أو كقول الأعشى، أو غيرهما، ثم يذكر بيتا من الشعر أو أبياتا، وما بهذا تعرف حقيقة الفصاحة، حتى إذا وردت في

كلام عرفنا أنه فصيح بما عرفنا من حقيقتها الموجودة فيه، وكذلك يقول في غير الفصاحة. ومن أعجب ما وجدته في كتاب أنه قال: أما المعاني المبتدعة فليس للعرب منها شيء، وإنما اختصّ بها المحدثون، ثم ذكر للمحدثين معاني، وقال: هذا المعنى لفلان، وهو غريب، وهذا القول لفلان، وهو غريب، وتلك الأقوال التي خصّ قائليها بأنهم ابتدعوها قد سبقوا إليها؛ فإما أن يكون غير عارف بالمعنى الغريب، وإما أنه لم يقف على أقوال الناظمين والناثرين ولا تبحّر فيها حتى عرف ما قاله المتقدم، مما قاله المتأخر، وأما قوله: «إنه ليس للعرب معنى مبتدع وإنما هو للمحدثين» فيا ليت شعري من السابق إلى المعاني؟ من تقدّم زمانه أم من تأخر زمانه؟!. وأنا أورد ههنا ما يستدل به على بطلان ما ذكره، وذاك أنه قد ورد من المعاني أن صور المنازل تمثّلت في القلوب فإذا عفت آثارها لم تعف صورها من القلوب، وأول من أتى بذلك العرب، فقال الحرث بن خالد من أبيات الحماسة «1» : إنّي وما نحروا غداة منى ... عند الجمار يؤدها العقل «2» لو بدّلت أعلى مساكنها ... سفلا وأصبح سفلها يعلو لعرفت مغناها بما ضمنت ... منّي الضّلوع لأهلها قبل» ثم جاء المحدثون من بعده فانسحبوا على ذيله وحذوا حذوه؛ فقال أبو تمام «4» :

وقفت وأحشائي منازل للأسى ... به وهو قفر قد تعفّت منازله وقال البحتري «1» : عفت الرّسوم وما عفت أحشاؤه ... من عهد شوق ما تحول فتذهب وقال المتنبي «2» : لك يا منازل في القلوب منازل ... أقفرت أنت وهنّ منك أواهل وهذا المعنى قد تداوله الشعراء، حتى إنه ما من شاعر إلّا ويأتي به في شعره. وكذلك ورد لبعضهم من شعراء الحماسة «3» : أناخ اللؤم وسط بني رياح ... مطيّته وأقسم لا يريم «4» كذلك كلّ ذي سفر إذا ما ... تناهى عند غايته يقيم وهذان البيتان من أبيات المعاني المبتدعة، وعلى أثرهما مشى الشعراء.

وكذلك ورد لبعضهم في شعر الحماسة «1» : تركت ضأني تودّ الذّئب راعيها ... وأنّها لا تراني آخر الأبد الذّئب يطرقها في الدّهر واحدة ... وكلّ يوم تراني مدية بيدي وكذلك ورد قول الآخر: قوم إذا ما جنى جانيهم أمنوا ... للؤم أحسابهم أن يقتلوا قودا وكم للعرب من هذه المعاني التي سبقوا إليها. ومن أدلّ الدليل على فساد ما ذهب إليه من أن المحدثين هم المختصمون بابتداع المعاني أو أول من بكى على الديار في شعره رجل يقال له ابن حزام، وكان هو المبتدي لهذا المعنى أولا، وقد ذكره امرؤ القيس في شعره فقال: عوجا على الطّلل المحيل لعلّنا ... نبكي الدّيار كما بكى ابن حزام «2» وقد أجمع نقلة الأشعار أن لامرئ القيس في صفات الفرس أشياء كثيرة لم يسبق إليها ولا قيلت من قبله. ويكفي من هذا كله ما قدمت القول فيه، وهو أن العرب السابقون بالشعر، وزمانهم هو الأول، فكيف يقال: إن المتأخرين هم السابقون إلى المعاني؟ وفي هذه الأمثلة التي أوردتها كفاية في نقض ما ذكره، ولو قال: إن المحدثين أكثر ابتداعا للمعاني، وألطف مأخذا، وأدق نظرا؛ لكان قوله صوابا؛ لأن المحدثين عظم الملك الإسلامي في زمانهم، ورأوا ما لم يره المتقدمون، وقد قيل: إن اللها تفتح اللها؛ وهو كذلك فإن نفاق السوق جلّاب.

وقد رأيت جماعة من متخلقي هذه الصناعة يجعلون همّهم مقصورا على الألفاظ التي لا حاصل وراءها، ولا كبير معنى تحتها، وإذا أتى أحده بلفظ مسجوع على أي وجه كان من الغثاثة والبرد يعتقد أنه قد أتى بأمر عظيم، ولا يشك في أنه صار كاتبا مفلقا، وإذا نظر إلى كتّاب زماننا وجدوا كذلك؛ فقاتل الله القلم الذي يمشي في أيدي الجهال الأغمار، ولا يعلم أنه كجواد يمشي تحت حمار، ولو أنه لا يتطاول إليه إلا أهله لبان الفاضل من الناقص، على أنه كالرمح الذي إذا اعتقله حامله بين الصّفّين بان به المقدم من الناكص، وقد أصبح اليوم في يد قوم هم أحوج من صبيان الكاتب إلى التعليم، وقد قيل: إن الجهل بالجهل داء لا ينتهي إليه سقم السقيم، وهؤلاء لا ذنب لهم؛ لأنهم لو لم يستخدموا في الدول ويستكتبوا، وإلا ما ظهرت جهالتهم، وفي أمثال العوام: لا تعر الأحمق شيئا فيظنه له، وكذلك يجري الأمر مع هؤلاء؛ فإنهم استكتبوا في الدول فظنوا أن الكتابة قد صارت لهم بأمر حق واجب. ومن أعجب الأشياء أني لا أرى إلا طامعا في هذا الفن، مدّعيا له على خلوه عن تحصيل آلاته وأسبابه، ولا أرى أحدا يطمع في فن من الفنون غيره ولا يدعيه، هذا، وهو بحر لا ساحل له، يحتاج صاحبه إلى تحصيل علوم كثيرة حتى ينتهي إليه، ويحتوي عليه؛ فسبحان الله! فسبحان الله! هل يدعى بعض هؤلاء أنه فقيه أو طبيب أو حاسب أو غير ذلك من غير أن يحصل آلات ذلك ويتقن معرفتها؟ فإذا كان العلم الواحد من هذه العلوم الذي يمكن تحصيله في سنة أو سنتين من الزمان لا يدعيه أحد من هؤلاء فكيف يجيء إلى فن الكتاب وهو ما لا تحصل معرفته إلا في سنين كثيرة فيدعيه وهو جاهل به؟. ومما رأيته من المدّعين لهذا الفن الذين حصلوا منه على القشور، وقصروا معرفتهم على الألفاظ المسجوعة الغثة التي لا حاصل وراءها؛ أنهم إذا أنكرت هذه الحال عليهم، وقيل لهم: إن الكلام المسجوع ليس عبارة عن تواطؤ الفقر على حرف واحد فقط؛ إذ لو كان عبارة عن هذا وحده لأمكن أكثر الناس أن يأتوا به من غير كلفة، وإنما هو أمر وراء هذا، وله شروط متعددة؛ فإذا سمعوا ذلك أنكروه؛

لخلوهم عن معرفته، ثم لو عرفوه وأتوا به على الوجه الحسن من اختيار الألفاظ المسجوعة لاحتاجوا إلى شرط آخر قد نبهت عليه في باب السجع؛ وإذا أنكر عليهم الاقتصار على الألفاظ المسجوعة، وهدوا إلى طريق المعاني؛ يقولون: لنا أسوة بالعرب الذين هم أرباب الفصاحة، فإنهم إنما اعتنوا بالألفاظ ولم يعتنوا بالمعاني اعتناءكم بها، فلم يكفهم جهلهم فيما ارتكبوه حتى ادّعوا الأسوة بالعرب فيه، فصارت جهالتهم جهالتين. ولنذكر ههنا في الرد عليهم ما إذا تأمله الناظر في كتابنا عرف منه ما يؤنقه، ويذهب به الاستحسان كل مذهب؛ فنقول: اعلم أن العرب كما كانت تعتني بالألفاظ فتصلحها وتهذبها فإن المعاني أقوى عندها، وأكرم عليها، وأشرف قدرا في نفوسها؛ فأول ذلك عنايتها بألفاظها، لأنها لما كانت عنوان معانيها وطريقها إلى اظهار أغراضها أصلحوها وزينوها، وبالغوا في تحسينها؛ ليكون ذلك أوقع لها في النفس، وأذهب بها في الدلالة على القصد، ألا ترى أن الكلام إذا كان مسجوعا لذّ لسامعه فحفظه، وإذا لم يكن مسجوعا لم يأنس به أنسه في حالة السجع، فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظهم وحسّنوها، ورقّقوا حواشيها، وصقلوا أطرافها، فلا تظن أن العناية إذا ذاك إنما هي بألفاظ فقط، بل هي خدمة منهم للمعاني، ونظير ذلك إبراز صورة الحسناء في الحلل الموشيّة والأثواب المحبّرة؛ فإنا قد نجد من المعاني الفاخرة ما يشوه من حسنه بذاذة لفظه وسوء العبارة عنه. فإن قيل: إنا نرى من ألفاظ العرب ما قد حسنوه وزخرفوه، ولسنا نرى تحته مع ذلك معنى شريفا، فمما جاء منه قول بعضهم «1» :

ولمّا قضينا من منى كلّ حاجة ... ومسّح بالأركان من هو ماسح أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطيّ الأباطح ألا ترى إلى حسن هذا اللفظ وصقالته، وتدبيج أجزائه، ومعناه مع ذلك ليس مدانيا له ولا مقاربا، فإنه إنما هو لما فرغنا من الحج ركبنا الطريق راجعين وتحدثنا على ظهور الإبل، ولهذا نظائر شريفة الألفاظ خسيسة المعاني. فالجواب عن ذلك أنا نقول: هذا الموضع قد سبق إلى التشبث به من لم ينعم النظر فيه، ولا رأى ما رآه القوم، وإنما ذلك لجفاء طبع الناظر، وعدم معرفته، وهو أن في قول هذا الشاعر «كل حاجة» مما يستفيد منه أهل النسيب والرقة والأهواء والمقة ما لا يستفيد غيرهم، ولا يشاركهم فيه من ليس منهم، ألا ترى أن حوائج منى أشياء كثيرة: فمنها التلاقي، ومنها التشاكي، ومنها التخلي للاجتماع، إلى غير ذلك مما هو تال له ومعقود الكون به، فكأنّ الشاعر صانع عن هذا الموضع الذي أومأ له وعقد غرضه عليه بقوله في آخر البيت «ومسّح بالأركان من هو ماسح» أي: إنما كانت حوائجنا التي قضيناها وآرابنا التي بلغناها من هذا النحو الذي هو مسح الأركان وما هو لاحق به وجار في القرية من الله مجراه: أي لم نتعدّ هذا القدر المذكور إلى ما يحتمله أول البيت من التعريض الجاري مجرى التصريح، وأما البيت الثاني فإن فيه: «أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا» وفي هذا ما نذكره لتعجب به وبمن عجب منه ووضع من معناه، وذلك أنه لو قال أخذنا في أحاديثنا أو نحو ذلك لكان فيه ما يكبره أهل النسيب؛ فإنه قد شاع عنهم واتّسع في محاوراتهم علو قدر الحديث بين الإلفين والجذل بجمع شمل المتواصلين، ألا ترى إلى قول بعضهم: وحديثها يا سعد عنها فزدتني ... جنونا فزدني من حديثك يا سعد وقول الآخر: وحديثها السّحر الحلال لو انّه ... لم يجن قتل المسلم المتحرّز فإذا كان قدر الحديث عندهم على ما ترى فكيف به إذا قيّده بقوله: «أخذنا

النوع الأول في الاستعارة

بأطراف الأحاديث» ؟ فإن في ذلك وحيا خفيّا، ورمزا حلوا، ألا ترى أنه قد يريد بأطرافها ما يتعاطاه المحبون ويتفاوضه ذوو الصبابة من التعريض والتلويح والإيماء دون التصريح، وذلك أحلى وأطيب، وأغزل وأنسب، من أن يكون كشفا ومصارحة وجهرا، وإن كان الأمر كذلك فمعنى هذين البيتين أعلى عندهم، وأشد تقدما في نفوسهم، من لفظهما، وإن عذب ولذ مستمعه، نعم في قول الشاعر: وسالت بأعناق المطيّ الأباطح من لطافة المعنى وحسنه ما لا خفاء به، وسأنبه على ذلك فأقول: إن هؤلاء القوم لما تحدّثوا وهم سائرون على المطايا شغلتهم لذة الحديث عن إمساك الأزمّة فاسترخت عن أيديهم، وكذلك شأن من يشره وتغلبه الشهوة في أمر من الأمور، ولما كان الأمر كذلك وارتخت الأزمّة عن الأيدي أسرعت المطايا في المسير، فشبهت أعناقها بمرور السيل على وجه الأرض في سرعته، وهذا موضع كريم حسن لا مزيد على حسنه، والذي لا ينعم نظره فيه لا يعلم ما اشتمل عليه من المعنى، فالعرب إنما تحسّن ألفاظها وتزخرفها عناية منها بالمعاني التي تحتها، فالألفاظ إذا خدم المعاني، والمخدوم لا شك أشرف من الخادم، فاعرف ذلك وقس عليه. النوع الأول في الاستعارة ولنقدم قبل الكلام في هذا الموضع قولا جامعا، فنقول: اعلم أن للفصاحة والبلاغة أوصافا خاصة، وأوصافا عامة؛ فالخاصة كالتجنيس فيما يرجع إلى اللفظ، وكالمطابقة فيما يرجع إلى المعنى، وأما العامة فكالسّجع فيما يرجع إلى اللفظ، وكالاستعارة فيما يرجع إلى المعنى، وهذا الموضع الذي نحن بصدد ذكره- وهو الاستعارة- كثير الإشكال، غامض الخفاء. وسأورد في كتابي هذا ما استخرجته، ولم أسمع فيه قولا لغيري، وكنت قدمت القول في الفصل السابع من مقدّمة الكتاب فيما يختص بإثبات المجاز، والرد

على من ذهب إلى أنّ الكلام كله حقيقة لا مجاز فيه، وأقمت الدليل على ذلك، ولا حاجة إلى إعادته ههنا، بل الذي أذكره ههنا هو ما يختص بالاستعارة التي هي جزء من المجاز، ولم سميت بهذا الاسم، وكشفت عن حقيقتها، وميزتها عن التشبيه المضمر الأداة، والكلام في هذا يحتاج إلى إعادة ذكر المجاز، وإدخاله فيه، ليتقرر ويتبين. والذي انكشف لي بالنظر الصحيح أن المجاز ينقسم قسمين: توسع في الكلام، وتشبيه، والتشبيه ضربان: تشبيه تام، وتشبيه محذوف؛ فالتشبيه التام: أن يذكر المشبه والمشبه به والتشبيه المحذوف: أن يذكر المشبه به، ويسمى استعارة، وهذا الاسم وضع للفرق بينه وبين التشبيه التام، وإلا فكلاهما يجوز أن يطلق عليه اسم التشبيه، ويجوز أن يطلق عليه اسم الاستعارة؛ لاشتراكهما في المعنى، وأما التوسع فإنه يذكر للتّصرّف في اللغة، لا لفائدة أخرى، وإن شئت قلت: إن المجاز ينقسم إلى: توسع في الكلام، وتشبيه، واستعارة، ولا يخرج عن أحد هذه الأقسام الثلاثة، فأيها وجد كان مجازا. فإن قيل: إن التوسع شامل لهذه الأقسام الثلاثة؛ لأن الخروج من الحقيقة إلى المجاز اتساع في الاستعمال. قلت في الجواب: إن التوسع في التشبيه والاستعارة جاء ضمنا وتبعا، وإن لم يكن هو السبب الموجب لاستعمالهما؛ وأما القسم الآخر الذي هو لا تشبيه ولا استعارة فإن النسب في استعماله هو طلب التوسع لا غير، وبيان ذلك أنه قد ثبت أن المجاز فرع عن الحقيقة، وأن الحقيقة هي الأصل، وإنما يعدل عن الأصل إلى الفرع لسبب اقتضاه، وذلك السبب الذي يعدل فيه عن الحقيقة إلى المجاز: إما أن يكون لمشاركة بين المنقول إليه في وصف من الأوصاف، وإما أن يكون لغير مشاركة؛ فإن كان لمشاركة: فإما أن يذكر المنقول والمنقول إليه معا، وإما أن يذكر المنقول إليه دون المنقول؛ فإن ذكر المنقول والمنقول إليه معا كان ذلك تشبيها، والتشبيه تشبيهان: تشبيه مظهر الأداة؛ كقولنا: زيد كالأسد، وتشبيه مضمر الأداة،

كقولنا: زيد أسد، وهذا التشبيه المضمر الأداة قد خلطه قوم بالاستعارة، ولم يفرقوا بينهما، وذلك خطأ محض. وسأوضح وجه الخطأ فيه، وأحقق القول في الفرق بينهما تحقيقا جليا، فأقول: أما التشبيه المظهر الأداة فلا حاجة بنا إلى ذكره ههنا؛ لأنه معلوم لا خلاف فيه، لكن نذكر التشبيه المضمر الأداة الذي وقع فيه الخلاف، فنقول: إذا ذكر المنقول والمنقول إليه على أنه تشبيه مضمر الأداة قيل فيه: زيد أسد، أي كالأسد، فأداة التشبيه فيه مضمرة، وإذا أظهرت حسن ظهورها، ولم تقدح في الكلام الذي أظهرت فيه، ولا تزيل عنه فصاحة ولا بلاغة، وهذا بخلاف ما إذا ذكر المنقول إليه دون المنقول، فإنه لا يحسن فيه ظهور أداة التشبيه، ومتى أظهرت أزالت عن ذلك الكلام ما كان متصفا به من جنس فصاحة وبلاغة، وهذا هو الاستعارة، ولنضرب لك مثالا نوضحه، فنقول: قد ورد هذا البيت لبعض الشعراء، وهو: فرعاء إن نهضت لحاجتها ... عجل القضيب وأبطأ الدّعص وهذا قد ذكر فيه المنقول إليه دون المنقول؛ لأن تقديره عجل قد كالقضيب وأبطأ ردف كالدّعص، وبين إيراده على هذا التقدير وبين إيراده على هيئته في البيت بون بعيد في الحسن والملاحة، والفرق إذا أنّ التشبيه المضمر الأداة بحسن إظهار أداة التشبيه فيه، والاستعارة لا يحسن ذلك فيها، وعلى هذا فإن الاستعارة لا تكون إلا بحيث يطوى ذكر المستعار له الذي هو المنقول إليه ويكتفي بذكر المستعار الذي هو المنقول. فإن قيل: لا نسلم أن الفرق بين التشبيه وبين الاستعارة ما ذهبت إليه، بل الفرق بينهما أن التشبيه إنما يكون بأداته كالكاف وكأنّ وما جرى مجراها؛ فما لم يظهر فيه أداة التشبيه لا يكون تشبيها، وإنما يكون استعارة، فإذا قلنا: زيد أسد، كان ذلك استعارة، وإذا قلنا: زيد كالأسد، كان ذلك تشبيها. قلت في الجواب عن ذلك: إذا لم نجعل قولنا: «يد أسد» تشبيها مضمر الأداء استحال المعنى؛ لأن زيدا ليس أسدا، وإنما هو كالأسد في شجاعته؛ فأداة التشبيه لقدر ههنا ضرورة كي لا يستحيل المعنى.

فإن قيل: وكذلك أيضا إذا لم تقدّر أداة التشبيه في الاستعارة استحال المعنى؛ لأنا إذا قلنا: «عجل القضيب وأبطأ الدّعص» فما لم نقدّر فيه أداة التشبيه وإلا استحال المعنى. قلت في الجواب عن ذلك: تقدير أداة التشبيه لا بد منه في الموضعين؛ لكن يحسن إظهارها في التشبيه، دون الاستعارة، وجملة الأمر أنا نرى أداة التشبيه بحسن إظهارها في موضع دون موضع؛ فعلمنا أن الموضع الذي يحسن إظهارها فيه غير الموضع الذي لا يحسن إظهارها فيه، فسمينا المواضع الذي يحسن إظهارها فيه تشبيها مضمر الأداء، والذي لا يحسن إظهارها فيه استعارة، وإنما فعلنا ذلك لأن تسمية ما يحسن إظهار أداة التشبيه فيه بالتشبيه أليق، وتسمية ما لا يحسن إظهار أداة التشبيه فيه بالاستعارة أليق، فإذا قلنا: «زيد أسد» حسن إظهار أداة التشبيه فيه، بأن نقول: زيد كالأسد، وإذا قلنا كما قال الشاعر: فرعاء إن نهضت لحاجتها ... عجل القضيب وأبطأ الدّعص لا يحسن إظهار أداة التشبيه فيه، على ما تقدم من ذكر ذلك أولا. فإن قيل: إذا أجزت إضمار أداة التشبيه وقدّرت إظهارها في قولك: «زيد أسد» أي: كالأسد، فنحن نضمر أيضا المستعار له ونقدر إظهاره؛ فإنه لما قال الشاعر: «عجل القضيب وأبطأ الدعص» أضمر المستعار له، وهو القدّ والرّدف، وإذا أظهر قيل: عجل قدّ كالقضيب، وأبطأ ردف كالدّعص؛ ولا فرق بين الإضمارين، فكما يسعك إضمار أداة التشبيه في قولك «زيد أسد» فكذلك يسعنا نحن إضمار المستعار له في قول الشاعر. فالجواب عن ذلك أني أقول: نحن في هذا المقام واقفون مع الاستحسان لامع الجواز، ولو تأملت ما أوردته في أول كلامي بالعين الصحيحة لما أوردت عليّ هذا الاعتراض ههنا؛ فإني قلت: التشبيه المضمر الأداة يحسن إظهار أداء التشبيه فيه، والاستعارة لا يحسن إظهار أداة التشبيه فيها، ولو قلت: يجوز أو لا يجوز لورد عليّ هذا الاعتراض الذي ذكرته، وقد علم وتحقق أن من الواجب في حكم

الفصاحة والبلاغة ألّا يظهر المستعار له، وإذا أظهر ذهب ما على الكلام من الحسن والرونق، ألا ترى أنا إذا أوردنا هذا البيت الذي هو: فأمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت ... وردا وعضّت على العنّاب بالبرد وجد عليه من الحسن والرونق ما لا خفاء به، وهو من باب الاستعارة، فإذا أظهرنا المستعار له صرنا إلى كلام غثّ، وذاك أنا نقول: فأمطرت دمعا كاللؤلؤ من عين كالنرجس وسقت خدا كالورد وعضّت على أنامل مخضوبة كالعنّاب بأسنان كالبرد، وفرق بين هذين الكلامين للمتأمل واسع. فرعاء إن نهضت لحاجتها ... عجل القضيب وأبطأ الدّعص فإن هذا البيت لا خفاء بما عليه من الحسن، وإذا ظهر فيه المستعار له زال ذلك الحسن عنه، لا، بل تبدل بضده، وليس كذلك التشبيه المضمر الأداة، فإنا إذا أظهرنا أداة التشبيه وأضمرناها كان ذلك سواء؛ إذ لا فرق بين قولنا: «زيد أسد» وبين قولنا: «زيد كالأسد» وهذا لا يخفى على جاهل بعلم الفصاحة والبلاغة، فضلا عن عالم، والمعوّل عليه في تأليف الكلام من المنثور والمنظوم إنما هو حسنه وطلاوته، فإذا ذهب ذلك عنه فليس بشيء، ونحن في الذي نورده في هذا الكتاب واقفون مع الحسن، لا مع الجواز. ثم لو تنزّلنا معك أيها المعترض عن درجة الحسن إلى درجة الجواز لما استقام لك ما ذكرته، وذاك أن إضمار إداة التشبيه ظاهر في قولنا: «يد أسد» أي كالأسد، وهو مضمر واحد، وأما قول الشاعر: «فرعاء إن نهضت لحاجتها» فإنه لا يضمر فيه أداة التشبيه إلا بعد أن يظهر المستعار له، وحينئذ يكون فيه إضماران: أحدهما: المستعار له، والآخر: أداة التشبيه، وإضمار واحد أيسر من إضمارين: أحدهما معلق على الآخر، وإذا كان الأكر كذلك فالفرق بين الاستعارة والتشبيه هو ما قدمت القول فيه من أنّ الاستعارة لا تكون إلا بحيث يطوى ذكر المستعار له،

فتأمل ما أشرت إليه وتدبره حتى تعلم أني ذكرت ما لم يذكره أحد غيري على هذا الوجه. وإنما سمي هذا القسم من الكلام استعارة لأن الأصل في الاستعارة المجازية مأخوذ من العارية الحقيقية التي هي ضرب من المعاملة، وهي أن يستعير بعض الناس من بعض شيئا من الأشياء، ولا يقع ذلك إلا من شخصين بينهما سبب معرفة ما يقتضي استعارة أحدهما من الآخر شيئا، وإذا لم يكن بينهما سبب معرفة بوجه من الوجوه فلا يستعير أحدهما من الآخر شيئا؛ إذ لا يعرفه حتى يستعير منه، وهذا الحكم جار في استعارة الألفاظ بعضها من بعض، فالمشاركة بين اللفظين في نقل المعنى من أحدهما إلى الآخر كالمعرفة بين الشخصين في نقل الشيء المستعار من أحدهما إلى الآخر. واعلم أنه قد ورد من الكلام ما يجوز حمله على الاستعارة وعلى التشبيه المضمر الأداة معا، باختلاف القرينة، وذاك أن يرد الكلام محمولا على ضمير من تقدم ذكره فينتقل عن ذلك إلى غيره ويرتجل ارتجالا. فمما جاء منه قول البحتري «1» : إذا سفرت أضاءت شمس دجن ... ومالت في التّعطّف غصن بان فلما قال: «أضاءت شمس دجن» بنصب الشمس كان ذلك محمولا على الضمير في قوله: «أضاءت» كأنه قال أضاءت هي، وهذا تشبيه؛ لأن المشبه مذكور، وهو الضمير في «أضاءت» الذي نابت عنه التاء، ويجوز حمله على الاستعارة بأن يقال: «أضاءت شمس دجن» برفع الشمس، ولا يعود الضمير حينئذ إلى من تقدم ذكره، وإنما يكون الكلام مرتجلا، ويكون البيت: إذا سفرت أضاءت شمس دجن ... ومال من التّعطّف غصن بان

وهذا الموضع فيه دقة غموض، وحرف التشبيه يحسن في الأول دون الثاني. وأما القسم الذي يكون العدول فيه عن الحقيقة إلى المجاز لغير مشاركة بين المنقول والمنقول إليه فذلك لا يكون إلا لطلب التوسع في الكلام، وهو سبب صالح؛ إذ التوسع في الكلام مطلوب. وهو ضربان: أحدهما: يرد على وجه الإضافة، واستعماله قبيح؛ لبعد ما بين المضاف والمضاف إليه، وذاك لأنه يلتحق بالتشبيه المضمر الأداة، وإذا ورد التشبيه ولا مناسبة بين المشبه والمشبه به كان ذلك قبيحا، ولا يستعمل هذا الضرب من التوسع إلا جاهل بأسرار الفصاحة والبلاغة، أو ساه غافل يذهب به خاطره إلى استعمال ما لا يجوز ولا يحسن، كقول أبي نواس «1» : بحّ صوت المال ممّا ... منك يشكو ويصيح فقوله: «بح صوت المال» من الكلام النازل بالمرة، ومراده من ذلك أن المال يتظلم من إهانتك إياه بالتمزيق، فالمعنى حسن، والتعبير عنه قبيح، وما أحسن ما قال مسلم بن الوليد في هذا المعنى «2» : تظلّم المال والأعداء من يده ... لا زال للمال والأعداء ظلاما وكذلك ورد قول أبي نواس أيضا «3» :

ما لرجل المال أمست ... تشتكي منك الكلالا فإضافة الرّجل إلى المال أقبح من إضافة الصوت. ومن هذا الضرب قول أبي تمام «1» : وكم أحرزت منكم على قبح قدّها ... صروف النوى من مرهف حسن القدّ فإضافة القدّ إلى النوى من التشبيه البعيد البعيد، وإنما أوقعه فيه المماثلة بين القد والقد، وهذا أدب الرجل في تتبع المماثلة تارة والتجنيس أخرى، حتى إنه ليخرج إلى بناء يعاب به أقبح عيب وأفحشه. وكذلك ورد قوله «2» : بلوناك أمّا كعب عرضك في العلا ... فعال وأمّا خدّ مالك أسفل «3»

فقوله: كعب عرضك وخد مالك مما يستقبح ويستنكر، ومراده من ذلك أن عرضك مصون ومالك مبتذل، إلا أنه عبر عنه أقبح تعبير، وأبو تمام يقع في مثل ذلك كثيرا. وأما الضرب الآخر من التوسع فإنه يرد على غير وجه الإضافة، وهو حسن لا عيب فيه، وقد ورد في القرآن الكريم؛ كقوله تعالى: «ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين» فنسبة القول إلى السماء والأرض من باب التوسع؛ لأنهما جماد، والنطق إنما هو للإنسان لا للجماد، ولا مشاركة ههنا بين المنقول والمنقول إليه. وكذلك قوله تعالى: «فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين» . وعليه ورد قول النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ فإنه نظر إلى أحد يوما فقال: «هذا جبل يحبّنا ونحبّه» فإضافة المحبة إلى الجبل من باب التوسع؛ إذ لا مشاركة بينه وبين الجبل الذي هو جماد. وعلى هذا ورد مخاطبة الطلول، ومساءلة الأحجار، كقول أبي تمام «1» : أميدان لهوي من أتاح لك البلى ... فأصبحت ميدان الصّبا والجنائب وكقول أبي الطيب المتنبي «2» : إثلث فإنّا أيّها الطّلل ... نبكي وترزم تحتنا الإبل «3»

فأبو تمام سائل ربوعا عافية وأحجارا دارسة، ولا وجه لها ههنا إلا مساءلة الأهل؛ كالذي في قوله تعالى: «وسئل القرية» أي: أهل القرية، وكل هذا توسع في العبارة؛ إذ لا مشاركة بين رسوم الديار وبين فهم السؤال والجواب، وكذلك قال أبو الطيب المتنبي في أمره الطلل بأن يكون ثالثا لهما: أي الركب والإبل، وهذا واضح لا نزاع فيه. فإذا قد تبين وتحقق ما أشرت إليه من هذا الموضع فالمجاز لا يخرج عن هذه الأقسام الثلاثة: إما توسع، أو تشبيه، أو استعارة، وإذا حققنا النظر في الاستعارة والتشبيه وجدناهما أمرا قياسيا في حمل فرع على أصل لمناسبة بينهما، وإن كانا يفترقان بحدهما وحقيقتهما. فأما حدّ الاستعارة فقيل: إنه نقل المعنى من لفظ إلى لفظ بسبب مشاركة بينهما، وهذا الحد فاسد؛ لأن التشبيه يشارك الاستعارة فيه، ألا ترى أنا إذا قلنا: «زيد أسد» أي كأنه أسد، وهذا نقل المعنى من لفظ إلى لفظ بسبب مشاركة بينهما؛ لأنا نقلنا حقيقة الأسد إلى زيد فصار مجازا، وإنما نقلناه لمشاركة بين زيد وبين الأسد في وصف الشجاعة. والذي عندي من ذلك أن يقال: حدّ الاستعارة نقل المعنى من لفظ إلى لفظ المشاركة بينهما مع طيّ ذكر المنقول إليه؛ لأنه إذا احترز فيه هذا الاحتراز اختصّ الاستعارة، وكان حدّا لها دون التشبيه، وطريقه أنك تريد تشبيه الشيء بالشيء مظهرا ومضمرا، وتجيء إلى المشبه فتعيره اسم المشبه به، وتجريه عليه، مثال ذلك أن تقول: رأيت أسدا، وهذا كالبيت الشعر المقدم ذكره، وهو: فرعاء إن نهضت لحاجتها ... عجل القضيب وأبطأ الدّعص فإن هذا الشاعر أراد تشبيه القدّ بالقضيب، والرّدف بالدّعص الذي هو كثيب الرمل؛ فترك ذكر التشبيه مظهرا ومضمرا، وجاء إلى المشبه- وهو القدّ [والرّدف]- فأعاره المشبه به- وهو القضيب والدعص- وأجراه عليه. إلا أن هذا الموضع لا بدّ له من قرينة تفهم من فحوى اللفظ؛ لأنه إذا قال

القائل: رأيت أسدا، وهو يريد رجلا شجاعا؛ فإن هذا القول لا يفهم منه ما أراد، وإنما يفهم منه أنه أراد الحيوان المعروف بالأسد، لكن إذا اقترن بقوله: هذا قرينة تدل على أنه أراد رجلا شجاعا اختصّ الكلام بما أراد، ألا ترى إلى قول الشاعر: «عجل القضيب وأبطأ الدّعص» فإنه دل عليه من نفس؛ لأن قوله: «فرعاء إن نهضت» دليل على أن المراد هو القدّ والرّدف «1» ؛ لأن القضيب والدّعص لا يكونان لامرأة فرعاء تنهض لحاجتها، وكذلك كل ما يجيء على هذا الأسلوب؛ لأن المستعار له وهو المنقول إليه مطويّ الذكر. وكنت تصفحت كتاب «الخصائص» لأبي الفتح عثمان بن جني، فوجدته قد ذكر في المجاز شيئا يتطرق إليه النظر، وذلك أنه قال: لا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا لمعان ثلاثة، وهي الاتساع، والتشبيه، والتوكيد؛ فإن عدمت الثلاثة كانت الحقيقة ألبتة. فمن ذلك قوله تعالى: «وأدخلناه في رحمتنا» فهذا مجاز، وفيه الثلاثة المذكورة: أما الاتّساع فهو أنه زاد في أسماء الجهات والمحالّ اسما، وهو الرحمة، وأما التشبيه فإنه شبّه الرحمة وإن لم يصحّ دخولها بما يصحّ دخوله، وأما التوكيد فهو أنه أخبر عما لا يدرك بالحاسة بما يدرك بالحاسة؛ تعاليا بالمخبر عنه، وتفخيما له إذا صير بمنزلة ما يشاهد ويعاين. هذا مجموع قول أبي الفتح رحمه الله من غير زيادة ولا نقص. والنظر يتطرق إليه من ثلاثة أوجه: الأول: أنه جعل وجود هذه المعاني الثلاثة سببا لوجود المجاز، بل وجود واحد منها سببا لوجوده؛ ألا ترى أنه إذا وجد التشبيه وحده كان ذلك مجازا، وإذا وجد الاتساع وحده كان ذلك مجازا، ثم إن كان وجود هذه المعاني الثلاثة سببا

لوجود المجاز كان عدم واحد منها سببا لعدمه، ألا ترى أنّا إذا قلنا: لا يوجد الإنسان إلا بأن يكون حيوانا ناطقا؛ فالحيوانية والنطق سبب لوجود الإنسان، وإذا عدم واحد منهما بطل أن يكون إنسانا، وكذلك كل صفات تكون متقدمة لوجود الشيء؛ فإن وجودها بوجوده، وعدم واحد منها يوجب عدمه. وأما الوجه الثاني: فإنه ذكر التوكيد والتشبيه، وكلاهما شيء واحد على الوجه الذي ذكره؛ لأنه لما شبهت الرحمة، وهي معنى لا يدرك بالبصر، بمكان يدخل، وهو صورة تدرك بالبصر، دخل تحته التوكيد الذي هو إخبار عما لا يدرك بالحاسة بما قد يدرك بالحاسة، على أن التوكيد ههنا، على وجه ما أورده في تمثيله، لا أعلم ما الذي أراد به، لأنه لا يؤتى به في اللغة العربية إلا لمعنيين: أحدهما: أنه يرد أبدا فيما استقري بألفاظ محصورة نحو نفسه وعينه وكله، وما أضيف إليها مما استقري، وهو مذكور في كتب النحاة، وقد كفيت مؤنته، الآخر: أنه يريد على وجه التكرير، نحو: قام زيد قام زيد، كرر اللفظ في ذلك تحقيقا للمعنى المقصود: أي توكيدا، والذي ذكره أبو الفتح رحمه الله تعالى لا يدل على أن المراد به أحد هذين المعنيين المشار إليهما، ولا شك أنه أراد به المبالغة والمغالاة في إبراز المعنى الموهوم إلى الصورة المشاهدة، فعبر عن ذلك بالتوكيد، ولا مشاحّة له في تعبيره، وإذا أراد به ذلك فهو والتشبيه سواء على ما ذكره، ولا حاجة إلى ذكر التوكيد مع ذكر التشبيه. وأما الوجه الثالث: فإنه قال: «أما الاتساع فهو أنه زاد في أسماء الجهات والمحال كذا وكذا» وهذا القول مضطرب شديد الاضطراب؛ لأنه ينبغي على قياسه أن يكون جناح الذل في قوله تعالى: «واخفض لهما جناح الذل» زيادة في أسماء الطيور، وذلك أنه زاد في أسماء الطيور اسما هو الذل، وهكذا يجري الحكم في الأقوال الشعرية كقول أبي تمام «1» :

لبست سواه أقواما فكانوا ... كما أغنى التّيمّم بالصّعيد فزاد في أسماء اللباس اسما، هو الآدمي، وهذا مما يضحك منك، نعوذ بالله من الخطل!! والاتساع في المجال لا يقال فيه كذا، وإنما يقال: هو أن تجرى صفة من الصفات على موصوف ليس أهلا لأن تجرى عليه؛ لبعد ما بينه وبينها؛ كقول أبي الطيب المتنبي: إثلث فإنّا أيّها الطّلل ... نبكي وترزم تحتنا الإبل «1» فإنه أجري الكلام على ذلك، وإنما يستعمل طلبا للاتساع في أساليب الكلام، لا لمناسبة بين الصفة والموصوف؛ إذ لو كان لمناسبة لما كان ذلك اتساعا، وإنما كان ضربا من القياس في حمل الشيء على ما يناسبه ويشاكله، وحينئذ يكون ذلك تشبيها أو استعارة، على ما أشرت إليه من قبل. وكنت اطلعت في كتاب من مصنفات أبي حامد الغزالي رحمه الله ألفه في أصول الفقه، ووجدته قد ذكر الحقيقة والمجاز، وقسم المجاز إلى أربعة عشر «2»

قسما، وتلك الأربعة عشر ترجع إلى الثلاثة التي أشرت إليها، وهي: التوسع، والتشبيه، والاستعارة، ولا تخرج عنها؛ والتقسيم لا يصح في شيء من الأشياء إلا إذا اختص كل قسم من الأقسام بصفة لا يختص بها غيره، وإلا كان التقسيم لغوا لا فائدة فيه. وسأورد ما ذكره وأبيّن فساده. فالقسم الأول من الأقسام التي ذكرها هو: ما جعل للشيء بسبب المشاركة في خاصة، كقولهم للشجاع: أسد، وللبليد: حمار، وهذا القسم داخل في الاستعارة، إن ذكر المنقول وحده، مثل أن يقول القائل: رأيت أسدا، ومراده رجلا شجاعا، أو رأيت حمارا، ومراده رجلا بليدا، وداخل في التشبيه المضمر الأداة، إن ذكر المنقول والمنقول إليه معا، كقول القائل: زيد أسد: أي كالأسد، أو حمار: أي كالحمار. القسم الثاني: تسمية الشيء باسم ما يئول إليه، كقوله تعالى: «إني أراني أعصر خمرا» وإنما كان يعصر عنبا، وهذا القسم داخل في القسم الأول؛ لصفة المشابهة بين المنقول والمنقول إليه، وهو من باب الاستعارة «1» ، لا، بل أوغل في المشابهة من ذاك؛ لأن الخمر من العنب، وليس الأسد من الرجل، ولا الرجل من الأسد. القسم الثالث: تسمية الشيء باسم فرعه، كقول الشاعر: وما العيش إلّا نومة وتشرّق ... وتمر على رأس النّخيل وماء

فسمى الرطب تمرا، وهذا القسم والقسم الذي قبله سواء؛ لأن هناك سمى العنب خمرا، وههنا سمى الرطب تمرا؛ فالعنب أصل، والخمر فرع، وكذلك الرطب أصل والتمر فرع، وكلا هذين القسمين داخل في القسم الأول. وهب أن الغزالي لم يحقق أمر المجاز وانقسامه إلى تلك الأقسام الثلاثة التي أشرت إليها، ألم ينظر إلى هذين القسمين اللذين هما العنب والخمر والرطب والتمر ويعلم أنهما شيء واحد لا فرق بينهما؟. القسم الرابع: تسمية الشيء باسم أصله، كقولهم للآدمي: مضغة، وهذا ضد القسم الذي قبله؛ لأن ذاك جعل الأصل فيه فرعا، وهذا جعل الفرع فيه أصلا، وهو داخل في القسم الأول أيضا. القسم الخامس: تسمية الشيء بدواعيه، كتسميتهم الاعتقاد قولا، نحو قولهم: هذا يقول بقول الشافعي رحمه الله: أي يعتقد اعتقاده، وهذا القسم داخل في القسم الأول؛ لأن بين القول وبين الاعتقاد مناسبة كالمناسبة بين السبب والمسبب والباطن والظاهر. القسم السادس: تسمية الشيء باسم مكانه، كقولهم للمطر: سماء؛ لأنه ينزل منها، وهذا القسم داخل في الأول؛ لصفة المناسبة بين المنقول والمنقول إليه، وهو النزول من عال، وكل ما علاك فأظلّك فهو سماء، على أن الأغلب على ظني أن هذا القسم من الأسماء المشتركة، وتسمية المطر بالسماء حقيقة فيه، وليس من المجاز في شيء. القسم الرابع: تسمية الشيء باسم مجاوره، كقولهم للمزادة: راوية، وإنما الراوية الجمل الذي يحملها، وهذا القسم من باب التوسع، لا من باب التشبيه، ولا من باب الاستعارة؛ لأن على قياسه ينبغي أن يسمى الجمل زاملة لأنه يحملها. القسم الثامن: تسمية الشيء باسم جزئه، كقولك لمن تبغضه: أبعد الله وجهه عني، وإنما تريد سائر جثته، وهذا القسم داخل في القسم الأول، وهو شبيه بتسمية الشيء باسم فرعه.

القسم التاسع: تسمية الشيء باسم ضدّه، وكقولهم للأسود والأبيض: جون، وهذا القسم ليس من المجاز في شيء ألبتة، وإنما هو حقيقة في هذين المسميين معا؛ لأنه من الأسماء المشتركة، كقولهم: شمت السيف، إذا سللته، وشمته، إذا أغمدته، فدل الشيم على الضدين معا بالوضع الحقيقي؛ وفي اللغة من هذا شيء كثير، فكيف يجعل هذا القسم من المجاز؟. ولا شك أن الغزالي نظر إلى أن الضدين لا يجتمعان في محل واحد، فقاس الاسم على الذات، وظن أن الذاتين لا يجتمعان في اسم واحد، كما أنهما لا يجتمعان في محل واحد. فإن قيل: لا نسلم أن اللفظ المشترك حقيقة بالوضع في المعنيين معا؛ لأن ذلك يخلّ بفائدة الوضع الذي هو البيان، وإنما هو حقيقة في أحد معنييه مجاز في الآخر. فالجواب عن ذلك: أن هذا الموضع تقدّم الكلام عليه في الفصل الثاني من مقدمة الكتاب، وهو الفصل الذي يشتمل على آلات علم البيان وأدواته، فليؤخذ من هناك، فإني قد أشبعت القول فيه إشباعا لا مزيد عليه. القسم العاشر: تسمية الشيء بفعله، كتسمية الخمر مسكرا، وهذا القسم داخل في القسم الأول، وأيّ مشاركة أقرب من هذه المشاركة؟ فإن الإسكار صفة لازمة للخمر، وليست الشجاعة صفة لازمة لزيد؛ لأنه يمكن أن يكون زيد ولا شجاعة، ولا يمكن أن يكون خمر ولا إسكار، ألا ترى أنها لم تسم خمرا إلا لإسكارها، فإنها تخمر العقل: أي تستره. القسم الحادي عشر: تسمية الشيء بكله، كقولك في جواب: «ما فعل زيد» : القيام، والقيام جنس يتناول جميع أنواعه، وهذا القسم لا ينبغي أن يوصل بأقسام المجاز؛ لأن القيام لزيد حقيقة. فإن قيل: إن القيام يشمل جميع أنواع القيام من الماضي والحاضر والمستقبل.

قلت: وهذا من أقرب أقسام المجاز مناسبة؛ لأنه إقامة للمصدر مقام الفعل الماضي، والمصدر أصل الفعل، وعلى هذا فإن هذا داخل في القسم الأول. القسم الثاني عشر: الزيادة في الكلام لغير فائدة، كقوله تعالى: فبما رحمة من الله لنت لهم فما ههنا زائدة لا معنى لها: أي فبرحمة من الله لنت لهم، وهذا القول لا أراه صوابا، وفيه نظر من وجهين: أحدهما: أن هذا القسم ليس من المجاز؛ لأن المجاز هو دلالة اللفظ على غير ما وضع له في أصل اللغة، وهذا غير موجود في الآية، وإنما هي دالة على الوضع اللغوي المنطوق به في أصل اللغة؛ والوجه الآخر: أني لو سلمت أن ذلك من المجاز لأنكرت أن لفظة «ما» زائدة لا معنى لها، ولكنها وردت تفخيما لأمر النعمة التي لان بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم له، وهي محض الفصاحة، ولو عرى الكلام منها لما كانت له تلك الفخامة، وقد ورد مثلها في كلام العرب، كالذي يحكى عن الزباء، وذاك أن الوضّاح الذي هو جذيمة الأبرش تزوّجها، والحكاية في ذلك مشهورة، فلما دخل عليها كشفت له عن فرجها وقد ضفرت الشعر من فوقه ضفيرتين، وقالت: أذات عرس ترى «1» ؛ أما إنه ليس ذلك من عوز المواس، ولا من قلة الأواس، ولكنه شيمة ما أناس، فمعنى الكلام ولكنه شيمة أناس، وإنما جاءت لفظة «ما» ههنا تفخيما لشأن صاحب تلك الشيمة وتعظيما لأمره، ولو أسقطت لما كان للكلام ههنا هذه الفخامة والجزالة، ولا يعرف ذلك إلا أهله من علماء الفصاحة والبلاغة، وأما الغزالي رحمه الله تعالى فإنه معذور عندي في ألّا يعرف ذلك؛ لأنه ليس فنه، ومن ذهب إلى أن في القرآن لفظا زائدا لا معنى له فإما أن يكون جاهلا بهذا القول، وإما أن يكون متسمحا في دينه واعتقاده، وقول النحاة إن «ما» في هذه الآية زائدة فإنما يعنون به أنها لا تمنع ما قبلها عن العمل؛ كما يسمونها في موضع آخر كافّة: أي أنها تكفّ الحرف العامل عن عمله؛ كقولك: إنما زيد قائم، فما قد كفت إنّ عن العمل في زيد، وفي الآية لم تمنع عن العمل، ألا ترى أنها لم تمنع الباء عن العمل في خفض الرحمة.

القسم الثالث عشر: تسمية الشيء بحكمه، كقوله تعالى: «وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها» فسمي النكاح هبة، وهذا القسم داخل في القسم الأول؛ لأن النكاح هو تمكين الزوج من الوطء على عوض على هيئة مخصوصة، والهبة، تمكينه من الشيء الموهوب على غير عوض، فشاركت الهبة النكاح في نفس التمكين من الوطء، وإن اختلفا في الصورة. القسم الرابع عشر: النقصان الذي لا يبطل به المعنى، كحذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، قال الله تعالى: «ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا» أي: شخصا بريئا، وكحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه؛ قال الله تعالى: «وسئل القرية» أي: أهل القرية؛ وهذا القسم داخل في القسم الأول: أما حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه فلأن الصفة لازمة للموصوف، وأما حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه فلأنه دل بالمسكون على الساكن، وتلك مقارنة قريبة. فهذه أقسام المجاز التي ذكرها الغزالي رحمه الله تعالى، وقد بينت فساد التقسيم فيها، وأنها ترجع إلى ثلاثة أقسام، هي: التوسع، والتشبيه، والاستعارة. وحيث انتهى بي الكلام إلى ههنا، وفرغت مما أردت تحقيقه، وبينت ما أردت بيانه؛ فإني أتبع ذلك بضرب الأمثلة للاستعارة التي يستفيد بها المتعلم ما لا يستفيده بذكر الحد والحقيقة. فمما جاء من ذلك في القرآن الكريم قوله تعالى في أول سورة إبراهيم صلوات الله عليه: «الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور» فالظلمات والنور: استعارة للكفر والإيمان، أو للضلال والهدى، والمستعار له مطويّ الذكر، كأنه قال: لتخرج الناس من الكفر الذي هو كالظلمة إلى الإيمان الذي هو كالنور. وكذلك ورد قوله تعالى في هذه السورة أيضا: «وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال» والقراءة برفع لتزول منه

الجبال ليست من باب الاستعارة، ولكنها في نصب تزول، واللام لام كي، والجبال ههنا: استعارة طوى فيها ذكر المستعار له، وهو أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما جاء به من الآيات والمعجزات: أي أنهم مكروا مكرهم لكي، تزول منه هذه الآيات والمعجزات التي هي في ثباتها واستقرارها كالجبال. وعلى هذا ورد قوله تعالى: «والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون» فاستعار الأودية للفنون والأغراض من المعاني الشعرية التي يقصدونها، وإنما خص الأودية بالاستعارة ولم يستعر الطرق والمسالك أو ما جرى مجراها لأنّ الشعر تستخرج بالفكرة والروية، والفكرة والروية فيهما خفاء وغموض؛ فكان استعارة الأودية لها أشبه وأليق. والاستعارة في القرآن قليلة، لكن التشبيه المضمر الأداة كثير، وكذلك هي في فصيح الكلام من الرسائل والخطب والأشعار؛ لأن طيّ المستعار له لا يتيسر في كل كلام، وأما التشبيه المضمر الأداة فكثير سهل؛ لمكان إظهار المشبه والمشبه به معا. ومما ورد من الاستعارة في الأخبار النبوية قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لا تستضيئوا بنار المشركين» فاستعار النار للرأي والمشورة: أي لا تهتدوا برأي المشركين ولا تأخذوا بمشورتهم. وروي عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه دخل يوما مصلاه فرأى أناسا كأنهم يكثرون، فقال: «أما إنّكم لو أكثرتم من ذكر هاذم اللّذّات لشغلكم عمّا أرى» وهاذم اللذات أراد به الموت، وهو مطويّ الذكر. وبلغني عن العرب أنهم يقولون عند رؤية الهلال: لا مرحبا باللجين مقرّب أجل ومحل، وهذا من باب الاستعارة في طيّ ذكر المستعار له. وكذلك بلغني عن الحجاج بن يوسف أنه خطب خطبة عند قدومه العراق في أول ولايته إياه، والخطبة مشهورة، من جملتها أنه قال: إنّ أمير المؤمنين نثل كنانته وعجمها عودا عودا، فرآني أصلبها نجارا وأقومها عودا وأنفذها نصلا، فقوله: «نثل

كنانته وعجمها عودا عودا» يريد أنه عرض رجاله واختبرهم واحدا واحدا جد اختباره «1» فرآني أشدهم وأمضاهم، وهذا من الاستعارة الحسنة الفائقة. وقد جاءني من الاستعارة في رسائلي ما أذكر شيئا منه، ولو مثالا واحدا، وذلك أنه سألني بعض الأصدقاء أن أصف له غلامين تركيين كان يهواهما، وكان أحدهما يلبس قباء أحمر، والآخر قباء أسود، فقلت: إذا تشعّبت أسباب الهوى كانت لسره أظهر، وأضحت أمراضه خطرا كلها ولا يقال في أحدها هذا أخطر، وقد هويت بدرين على غصنين، ولا طاقة للقلب بهوى واحد فكيف إذا حمل هوى اثنين، ومما شجاني أنهما يتلونان في أصباغ الثياب، كما يتلونان في فنون التجرم والعتاب، وقد استجدّا الآن زيا لا مزيد على حسنهما في حسنه، فهذا يخرج في ثوب من حمرة خده وهذا في ثوب من سواد جفنه، وما أدري من دلّهما على هذا العجيب، غير أنه ليس على فتنة المحب أهدى من حبيب. وهذا الفصل بجملته مما تواصفه الناس وأغروا بحفظه. وأما ما ورد من ذلك شعرا فكقول مسكين الدارمي من شعراء الحماسة «2» : لحافي لحاف الضّيف والبيت بيته ... ولم يلهني عنه غزال مقنّع أحدّثه؛ إنّ الحديث من القرى ... وتعلم نفسي أنّه سوف يهجع فالغزال المقنع هذا استعارة للمرأة الحسناء. وكذا ورد قول رجل من بني يسار في كتاب الحماسة أيضا» :

أقول لنفسي حين خوّد رألها ... رويدك لمّا تشفقي حين مشفق «1» رويدك حتّى تنظري عمّ تنجلي ... عماية هذا العارض المتألّق «2» فالعارض المتألق: استعارة للحرب، أو الذي أطل بمكروهه كالبارق المتألق. ويحكى أن امرأة وقفت لعبد الملك بن مروان وهو سائر إلى قتال مصعب بن الزبير، فقالت: يا أمير المؤمنين؛ فقال: رويدك حتى تنظري عمّ تنجلي، وأنشد البيت. ومن هذا الباب قول عبد السلام بن رغبان «3» المعروف بديك الجن: لمّا نظرت إليّ عن حدق المها ... وبسمت عن متفتّح النّوّار وعقدت بين قضيب بان أهيف ... وكثيب رمل عقدة الزّنّار عفّرت خدّي في الثّرى لك طائعا ... وعزمت فيك على دخول النّار وهذه الأبيات لا تجد لها في الحسن شريكا، ولأن يسمى قائلها شحرورا أولى من أن يسمى ديكا. وكذلك ورد قوله: لا ومكان الصّليب في النّحر من- ... ك ومجرى الزّنّار في الخصر والخال في الخدّ إذ أشبهه ... وردة مسك على ثرى تبر

وحاجب مذ خطّه قلم ال- ... - حسن بحبر البهاء لا الحبر وأقحوان بفيك منتظم ... على شبيه من رائق الخمر فالبيت الرابع هو المخصوص بالاستعارة، والمستعار له هو الثغر والريق. ومما ورد لأبي تمام في هذا المعنى قوله «1» : لمّا غدا مظلم الأحشاء من أشر ... أسكنت جانحتيه كوكبا يقد فالكوكب: استعارة للرمح. وكذلك ورد قوله في الاعتذار «2» : أسرى طريدا للحياء من الّتي ... زعموا وليس لرهبة بطريد وغدا تبيّن ما براءة ساحتي ... لو قد نفضت تهائمي ونجودي والتهائم والنجود: هما استعارة مما استعارة مما استعاره من باطن أمره وظاهره. وكذلك ورد قوله «3» . كم أحرزت قضب الهنديّ مصلتة ... تهتزّ من قضب تهتزّ في كثب فالقضب والكثب: استعارة للقدود والأرداف.

وكذلك ورد في هذه القصيدة أيضا عند ذكر ملك الروم وانهزامه لما فتحت مدينة عمّورية، فقال: إن يعد من حرّها عدو الظّليم فقد ... أوسعت جاحمها من كثرة الحطب فالحطب: استعارة للقتلى. وقبل هذا البيت ما يدل عليه؛ لأنه قال: أحذى قرابينه صرف الرّدى ومضى ... يحتثّ أنجى مطاياه من الهرب موكّلا بيفاع الأرض يشرفها ... من خفّة الخوف لا من خفّة الطّرب إن يعد من حرها عدو الظّليم ... ............... .. البيت وأحسن من هذا كله قوله «1» : تطلّ الطلول الدّمع في كلّ منزل ... وتمثل بالصّبر الدّيار المواثل دوارس لم يجف الرّبيع ربوعها ... ولا مرّ في أغفالها وهو غافل يعفّين من زاد العفاة إذا انتحى ... على الحيّ صرف الأزمة المتحامل «2» فقوله: «زاد العفاة» : استعارة طوى فيها ذكر المستعار له، وهو أهل الديار، كأنه قال: يعفين من قوم هم زاد العفاة. وله في الغزل من الاستعارة ما بلغ به غاية اللطافة والرقة، وذلك في قصيدته التي مطلعها: إنّ عهدا لو تعلمان ذميما «3»

فقال: قد مررنا بالدّار وهي خلاء ... فبكينا طلولها والرّسوما وسألنا ربوعها فانصرفنا ... بسقام وما سألنا حكيما «1» كنت أرعى النّجوم حتّى إذا ما ... فارقوني أمسيت أرعى النّجوما «2» والبيت الثالث هو المخصوص بالاستعارة. وعلى هذا المنهاج ورد قول البحتري: وأغرّ في الزّمن البهيم محجّل ... قد رحت منه على أغرّ محجّل والأغر المحجل الأول: هو الممدوح، والأغر المحجل الثاني: هو الفرس الذي أعطاه إياه. وكذلك ورد قوله «3» : وصاعقة في كفّه تنكفي بها ... على أرؤس الأعداء خمس سحائب وهذا من النمط العالي الي شغلت براعة معناه وحسن سبكه عن النظر إلى استعارته؛ والمراد بالسحائب الخمس الأصابع. وكذلك ورد في أبيات الحماسة «4» :

دكّ طود الكفر دكّا ... صاعق من وقع سيفك أرسلته خمس سحب ... نشأت من بحر كفّك وكذلك ورد قوله في أبيات يصف فيها السيف: حملت حمائله القديمة بقلة ... من عهد عاد غضة لم تذبل وهذا من الحسن على ما يشهد لنفسه، كأنه قال: حملت حمائله سيفا أخضر الحديد كالبقلة. وعلى هذا الأسلوب ورد قول أبي الطيب المتنبي «1» : في الخدّ إن عزم الخليط رحيلا ... مطر تزيد به الخدود محولا «2» وكذلك ورد قوله: يمد يديه في المفاضة ضيغم وأحسن من هذا قوله في قصيدته التي مطلعها: عقبى اليمين على عقبى الوغى ندم «3»

وأصبحت بقرى هنزيط جائلة ... ترعى الظّبى في خصيب نبته اللّمم «1» فما تركن بها خلدا له بصر ... تحت التّراب ولا بازا له قدم «2» ولا هزبرا له من درعه لبد ... ولا مهاة لها من شبهها حشم «3» وهذا من المليح النادر؛ فالخلد: استعارة لمن اختفى تحت التراب خائفا، والباز: استعارة لمن طار هاربا، والهزبر والمهاة: استعارتان للرجال المقاتلة والنساء من السبايا. ومن هذا الباب قوله «4» : كلّ جريح ترجى سلامته ... إلّا جريحا دهته عيناها «5» تبلّ خدّيّ كلّمّا ابتسمت ... من مطر برقه ثناياها «6»

والبيت الثاني من الأبيات الحسان التي تتواصف، وقد حسن الاستعارة التي فيه أنه جاء ذكر المطر مع البرق. وبلغني عن أبي الفتح بن جني رحمه الله أنه شرح ذلك في كتابه الموسوم بالمفسر الذي ألفه في شرح شعر أبي الطيب؛ فقال: إنها كانت تبزق في وجهه؛ فظن أن أبا الطيب أراد أنها كانت تبسم فيخرج الريق من فمها ويقع على وجهه فشبهه بالمطر، وما كنت أظنّ أن أحدا من الناس يذهب وهمه وخاطره حيث ذهب وهم هذا الرجل وخاطره، وإذا كان هذا قول إمام من أئمة العربية تشدّ إليه الرحال فما يقال في غيره؟ لكن فن الفصاحة والبلاغة غير فن النحو والإعراب. وكذلك ورد قول الشريف الرضي «1» : إذا أنت أفنيت العرانين والذّرى ... رمتك اللّيالي من يد الخامل الغمر وهبك اتقيت السّهم من حيث يتّقى ... فمن ليد ترميك من حيث لا تدري فالعرانين والذرى: هما عظماء الناس وأشرافهم، كأنه قال: إذا أفنيت عظماء الناس رميت من يد الخامل. وإذا قد بينت أن الاستعارة لا تكون إلا بحيث يطوى ذكر المستعار له فإنها لا تجيء إلا ملائمة مناسبة، ولا يوجد فيها مباينة ولا تباعد؛ لأنها لا تذكر مطويّة إلا لبيان المناسبة بين المستعار منه والمستعار له، ولو طويت ولم يكن هناك مناسبة بين المستعار منه والمستعار له لعسر فهمه، ولم يبن المراد منها.

ورأيت أبا محمد عبد الله بن سنان الخفاجي رحمه الله تعالى قد خلط الاستعارة بالتشبيه المضمر الأداة، ولم يفرق بينهما، وتأسّى في ذلك بغيره من علماء البيان، كأبي هلال العسكري والغانمي وأبي القاسم الحسن بن بشر الآمدي، على أن أبا القاسم بن بشر الآمدي كان أثبت القوم قدما في فن الفصاحة والبلاغة، وكتابه المسمى ب «الموازنة بين شعر الطائيين» يشهد له بذلك، وما أعلم كيف خفي عليه الفرق بين الاستعارة والتشبيه المضمر الأداة. ومما أورده ابن سنان في كتابه الموسوم ب «سر الفصاحة» «1» قول امرئ القيس في صفة الليل: فقلت له لمّا تمطّى بصلبه ... وأردف أعجازا وناء بكلكل «2» وهذا البيت من التشبيه المضمر الأداة؛ لأن المستعار له مذكور، وهو الليل، وعلى الخطأ في خلطه بالاستعارة فإن ابن سنان أخطأ في الرد على الآمدي، ولم يوفق للصواب، وأنا أتكلم على ما ذكره ولا أضايقه في الاستعارة والتشبيه، بل أنزل معه على ما رآه من أنه استعارة، ثم أبين فساد ما ذهب إليه. وذاك أن الآمدي قال في كتاب الموازنة «3» : «إن امرأ القيس وصف أحوال

الليل الطويل، فذكر امتداد وسطه، وتثاقل صدره، وترادف أعجازه، فلما جعل له وسطا ممتدا وصدرا ثقيلا وأعجازا رادفة لوسطه استعار له اسم الصّلب، وجعله متمطيا من أجل امتداده، واسم الكلكل وجعله نائيا لتثاقله، واسم العجز من أجل نهوضه» . فقال ابن سنان الخفاجي معترضا عليه «1» : «إن هذا الذي ذكره الآمدي ليس بمرضي غاية الرضا؛ وإن بيت امرئ القيس ليس من الاستعارة الجيدة، ولا الرديئة، بل هو وسط؛ فإن الآمدي قد أفصح بأن امرأ القيس لما جعل لليل «2» وسطا ممتدا استعار له اسم الصّلب وجعله متمطّيا من أجل امتداده، وحيث جعل له آخرا وأوّلا استعار له عجزا وكلكلا، وهذا كله إنما يحسن بعضه مع بعض؛ فذكر الصلب إنما يحسن من أجل العجز والوسط، والتمطّي من أجل الصلب، والكلكل لمجموع ذلك، وهذه استعارة مبنيّة على استعارة أخرى» . هذا حكاية كلامه في الاعتراض على الآمدي. وفيه نظر من وجهين:

الأول: أنه قال: «هذا بيت من الاستعارة الوسطى التي ليست بجيدة ولا رديئة» ثم جعلها استعارة مبنية على استعارة أخرى، وعنده أن الاستعارة المبنية على الاستعارة من أبعد الاستعارات، وذاك أنه قسّم الاستعارة إلى قسمين: قريب مختار، وبعيد مطّرح، فالقريب المختار: ما كان بينه وبين ما استعير له تناسب قوي وشبه واضح، والبعيد المطّرح: إما أن يكون لبعده مما استعير له في الأصل، أو لأنه استعارة مبنية على استعارة أخرى؛ فيضعف لذلك؛ هذا ما ذكره ابن سنان الخفاجي في تقسيم الاستعارة، وإذا كانت الاستعارة المبنية على استعارة أخرى عنده بعيدة مطّرحة فكيف جعلها وسطا؟ هذا تناقض في القول. الوجه الثاني: أنه لم يأخذ على الآمدي في موضع الأخذ؛ لأنه لم يختر إلا ما حسن اختياره، وذاك أن حدّ الاستعارة على ما رآه الآمدي وابن سنان هو نقل المعنى من لفظ إلى لفظ بسبب مشاركة بينهما، وإن كان المذهب الصحيح في حد الاستعارة غير ذلك، على ما تقدم الكلام عليه، ولكني في هذا الموضع أنزل معهما على ما رأياه حتى يتوجّه الكلام على الحكم بينهما في بيت امرئ القيس، وإذا حددنا الاستعارة بهذا الحدّ فبه يفرق على رأي ابن سنان بين الاستعارة المرضية والاستعارة المطرحة؛ فإذا وجدنا استعارة في كلام ما عرضناها على هذا الحد؛ فما وجدنا فيه مناسبة بين المنقول عنه والمنقول إليه حكمنا له بالجودة، وما لم نجد فيه تلك المناسبة حكمنا عليه بالرداءة، وبيت امريء القيس من الاستعارات المرضية؛ لأنه لو لم يكن لليل صدر أعني أوّلا ولم يكن له وسط وآخر لما حسنت هذه الاستعارة، ولمّا كان الأمر كذلك استعار لوسطه صلبا وجعله متمطيّا واستعار لصدره المتثاقل- أعني أوّله- كلكلا وجعله نائيا، واستعار لآخره عجزا وجعله رادفا لوسطه؛ وكل ذلك من الاستعارة المناسبة. وأما قول ابن سنان الخفاجي: «إن الاستعارة المبنية على استعارة أخرى بعيدة مطرحة» فإن في هذا القول نظرا، وذاك أنه قد ثبت لنا أصل نقيس عليه في الفرق بين الاستعارة المرضية والمطّرحة، كما أريناك، ولا يمنع ذلك من أن تجيء استعارة مبنية على استعارة أخرى وتوجد فيها المناسبة المطلوبة في الاستعارة المرضية فإنه قد ورد في القرآن الكريم ما هو من هذا الجنس، وهو قوله تعالى:

«وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف» ؛ فهذه ثلاث استعارات ينبني بعضها على بعض؛ فالأولى: استعارة القرية للأهل، والثانية: استعارة الذّوق للباس، والثالثة: استعارة اللباس للجوع والخوف، وهذه الاستعارات الثلاث من التناسب على ما لا خفاء به، فكيف يذمّ ابن سنان الخفاجي الاستعارة المبنية على استعارة أخرى؟ وما أقول إن ذلك شذ عنه، إلا لأنه لم ينظر إلى الأصل المقيس عليه، وهو التناسب بين المنقول عنه والمنقول إليه، بل نظر إلى التقسيم الذي هو قسّمه في القرب أو البعد، ورأى أن الاستعارة المبنية على استعارة أخرى تكون بعيدة، فحكم عليها بالاطّراح، وإذا كان الأصل إنما هو التناسب فلا فرق بين أن يوجد في استعارة واحدة أو في استعارة مبنية على استعارة، ولهذا أشباه ونظائر في غير الاستعارة، ألا ترى أن المنطقيّ في المقدمة والنتيجة: كل إنسان حيوان، وكل حيوان نام، فكل إنسان نام، وكذلك يقول المهندس في الأشكال الهندسية: إذا كان خط أب مثل خط بج، وخط بج مثل خط جد؛ فخط أب مثل خط جد، وهكذا أقول أنا في الاستعارة: إذا كانت الاستعارة الأولى مناسبة ثم بنى عليها استعارة ثانية وكانت أيضا مناسبة فالجميع متناسب، وهذا أمر برهاني لا يتصور إنكاره. وهذا الشكل الذي أوردته ههنا هو اعتراض على ما ذكره ابن سنان الخفاجي في الاستعارة، فلا تظن أني موافقه في الأصل، وإنما وافقته قصدا لتبيين وجه الخطأ في كلامه، وكيف يسوغ لي موافقته، وقد ثبت عندي بالدليل أن الاستعارة لا تكون إلا بحيث يطوى ذكر المستعار له؟. وفيما قدمته من الكلام كفاية.

النوع الثاني في التشبيه

النوع الثاني في التشبيه وجدت علماء البيان قد فرقوا بين التشبيه والتمثيل، وجعلوا لهذا بابا مفردا، ولهذا بابا مفردا، وهما شيء واحد لا فرق بينهما في أصل الوضع، يقال: شبهت هذا الشيء بهذا الشيء، كما يقال: مثلته به، وما أعلم كيف خفي ذلك على أولئك العلماء مع ظهوره ووضوحه. وكنت قدمت القول في باب الاستعارة على الفرق بين التشبيه وبينها، ولا حاجة إلى إعادته ههنا مرة ثانية. والتشبيه ينقسم قسمين: مظهر، ومضمر، وفي المضمر إشكال في تقدير أداة التشبيه فيه في بعض المواضع. وهو ينقسم أقساما خمسة؛ فالأول: يقع موقع المبتدأ والخبر مفردين، والثاني: يقع موقع المبتدأ المفرد وخبره جملة مركبة من مضاف ومضاف إليه، والثالث: يقع موقع المبتدأ والخبر جملتين، والرابع: يرد على وجه الفعل والفاعل، والخامس: يرد على وجه المثل المضروب. وهذان القسمان الأخيران هما أشكل الأقسام في تقدير أداة التشبيه. أما الأول: فكقولنا: زيد أسد؛ فهذا مبتدأ وخبره، وإذا قدرت أداة التشبيه فيه كان ذلك ببديهة النظر على الفور، فقيل: زيد كالأسد. وأما القسم الثاني والثالث: فإنهما متوسطان في تقدير أداة التشبيه فيهما؛ فالثاني كقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الكمأة جدريّ الأرض» وهذا يتنوع نوعين، فإذا كان المضاف إليه معرفة كهذا الخبر النبويّ لا يحتاج في تقدير أداة التشبيه إلى تقديم المضاف إليه، بل إن شئنا قدمناه، وإن شئنا أخرناه، فقلنا: الكمأة للأرض كالجدري، أو الكمأة كالجدري للأرض، وإذا كان المضاف إليه نكرة فلا بد من تقديمه عند تقدير أداة التشبيه.

فمن ذلك قول البحتري «1» : غمام سماح لا يغبّ له حيا ... ومسعر حرب لا يضيع له وتر «2» فإذا قدرنا أداة التشبيه ههنا قلنا: سماح كالغمام: ولا يقدر إلا هكذا، والمبتدأ في هذا البيت محذوف، وهو الإشارة إلى الممدوح، كأنه قال: هو غمام سماح. ومن هذا النوع ما يشكل تقدير أداة التشبيه فيه على غير العارف بهذا الفن؛ كقول أبي تمام «3» : أيّ مرعى عين ووادي نسيب ... لحبته الأيّام في ملحوب ومراد أبي تمام أن يصف هذا المكان بأنه كان حسنا ثم زال عنه حسنه، فقال: إن العين كانت تلتذ بالنظر إليه كالتذاذ السائمة بالمرعى؛ فإنه كان يشبب به في الأشعار لحسنه وطيبه، وإذا قدرنا أداة التشبيه ههنا قلنا: كأنه كان للعين مرعى وللنسيب منزلا ومألفا. وإذا جاء شيء من الأبيات الشعرية على هذا الأسلوب أو ما يجري مجراه فإنه يحتاج إلى عارف بوضع أداة التشبيه فيه.

وأما الثالث فكقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «وهل يكبّ النّاس على مناخرهم في نار جهنّم إلّا حصائد ألسنتهم» كأنه قال: كلام الألسنة كحصائد المناجل. وهذا القسم لا يكون المشبه به مذكورا فيه، بل تذكر صفته، ألا ترى أن المنجل لم يذكر ههنا، وإنما ذكرت صفته، وهي الحصد؛ وكل ما يجيء من هذا القسم فإنه لا يرد إلا كذلك. وأما القسم الرابع والخامس اللذان هما أشكل الأقسام المذكورة في تقدير أداة التشبيه فيهما فإنهما لا يتفطن لهما أنهما تشبيه. فمما جاء من القسم الرابع قوله تعالى: «والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم» وتقديره أداة التشبيه في هذا الموضع أن يقال: هم في إيمانهم كالمتبوئ دارا: أي أنهم قد اتخذوا الإيمان مسكنا يسكنونه، يصف بذلك تمكنهم منه. وعلى هذا ورد قول أبي تمام «1» : نطقت مقلة الفتى الملهوف ... فتشكّت بفيض دمع ذروف وإذا أردنا أن نقدر أداة التشبيه ههنا قلنا: دمع العين كنطق اللسان، الباكية كأنما تنطق بما في الضمير.

وأما ما جاء من القسم الخامس فكقول الفرزدق يهجو جريرا «1» : ما ضرّ تغلب وائل أهجوتها ... أم بلت حيث تناطح البحران فشبه هجاء جرير تغلب وائل ببوله في مجمع البحرين، فكما أن البول في مجمع البحرين لا يؤثر شيئا فكذلك هجاؤك هؤلاء القوم لا يؤثر شيئا، وهذا البيت من الأبيات الذي أقرّ له الناس بالحسن «2» . وكذلك ورد قوله أيضا «3» : قوارص تأتيني وتحتقرونها ... وقد يملأ القطر الإناء فيفعم فإنه شبه القوارص التي تأتيه محتقرة بالقطر الذي يملأ الإناء على صغر مقداره، يشير بذلك إلى أن الكثرة تجعل الصغير من الأمر كبيرا. وهذا الموضع يشكل على كثير من علماء البيان ويخلطونه بالاستعارة، كقول البحتري في التعزية بولد «4» :

تعزّ فإنّ السّيف يمضي وإن وهت ... حمائله عنه وخلّاه قائمه وهذا ليس من التشبيه، وإنما هو استعارة؛ لأن المستعار له مطويّ الذكر، وهو المعزّى، كأنه قال: تعز فإنّك كالسيف الذي يمضي وإن وهت حمائله وخلّاه قائمه. فإن قيل: إنك قدمت القول في باب الاستعارة بأن التشبيه المضمر الأداة يحسن تقدير أداة التشبيه فيه، والاستعارة لا يحسن تقدير أداة التشبيه فيها، وجعلت ذلك هو الفرق بين التشبيه المضمر الأداة بين الاستعارة، وقررت ذلك تقريرا طويلا عريضا، ثم نراك قد نقضته ههنا بقولك: إن من التشبيه المضمر الأداء ما يشكل تقدير أداة التشبيه فيه، وإنه يحتاج في تقديرها إلى نظر، كهذين البيتين المذكورين للفرزدق وما يجري مجراهما. فالجواب عن ذلك أني أقول: هذا الذي ذكرته لا ينقص عليّ شيئا مما قدّمت القول فيه في باب الاستعارة؛ لأني قلت: إن التشبيه المضمر الأداة يحسن تقدير الأداة فيه: أي لا يتغير بتقديرها فيه عن صفته التي اتّصف بها من فصاحة وبلاغة؛ وليس كذلك الاستعارة؛ فإنها إذا قدرت أداة التشبيه فيها تغيرت عن صفتها التي اتّصفت بها من فصاحة وبلاغة، وأما الذي ورد ههنا من بيتي الفرزدق وما يجري مجراهما من التشبيه المضمر الأداة فإن أداة التشبيه لا تتقدر فيه، وهو على حالته من النظم، حتى تتبين هل تغيرت صفته التي اتصف بها من فصاحة وبلاغة أم لا، وإنما تتقدر أداة التشبيه فيه على وجه آخر، وهذا لا ينقض ما أشرت إليه في باب الاستعارة. وإذا ثبتت هذه الأقسام الأربعة فأقول: إن التشبيه المضمر أبلغ من التشبيه المظهر وأوجز: أما كونه أبلغ فلجعل المشبه مشبها به من غير واسطة أداة؛ فيكون هو إياه؛ فإنك إذا قلت: زيد أسد، كنت قد جعلته أسدا من غير إظهار أداة التشبيه،

وأما كونه أوجز فلحذف أداة التشبيه منه، وعلى هذا فإن القسمين من المظهر والمضمر كليهما في فضيلة البيان سواء؛ فإن الغرض المقصود من قولنا: «زيد أسد» أن يتبين حال زيد في اتّصافه بشهامة النفس وقوة البطش وجراءة الإقدام وغير ذلك مما يجري مجراه، إلا أنا لم نجد شيئا ندلّ به عليه سوى أن جعلناه شبيها بالأسد؛ حيث كانت هذه الصفات مختصة به، فصار ما قصدناه من هذا القول أكشف وأبين من أن لو قلنا: زيد شهم شجاع قوي البطش جريء الجنان، وأشباه ذلك، لما قد عرف وعهد من اجتماع هذه الصفات في المشبه، أعني الأسد، وأما زيد الذي هو المشبه فليس معروفا بها وإن كانت موجودة فيه. وكلا هذين القسمين أيضا يختصّ بفضيلة الإيجاز، وإن كان المضمر أوجز من المضمر؛ لأن قولنا: زيد أسد، أو كالأسد، يسدّ مسدّ قولنا: زيد من حاله كيت وكيت، وهو من الشجاعة والشدة على كذا وكذا، مما يطول ذكره. فالتشبيه إذا يجمع صفات ثلاثة، هي: المبالغة، والبيان، والإيجاز، كما أريتك، إلا أنه من بين أنواع علم البيان مستوعر الذهب، وهو مقتل من مقاتل البلاغة، وسبب ذلك أن حمل الشيء على الشيء بالمماثلة إما صورة وإما معنى يعز صوابه وتعمر الإجادة فيه، وقلّما أكثر منه أحد إلا عثر، كما فعل ابن المعتز من أدباء العواق، وابن وكيع من أدباء مصر؛ فإنهما أكثرا من ذلك لا سيما في وصف الرياض والأشجار والأزهار والثمار، لا جرم أنهما أتيا بالغث البارد الذي لا يثبت على محكّ الصواب؛ فعليك أن تتوقى ما أشرت إليه. وأما فائدة التشبيه من الكلام فهي أنك إذا مثلت الشيء بالشيء فإنما تقصد به إثبات الخيال في النفس بصورة المشبه به أو بمعناه، وذلك أوكد في طرفي الترغيب فيه، أو التنفير عنه، ألا ترى أنك إذا شبهت صورة بصورة هي أحسن منها كان ذلك مثبتا في النفس خيالا حسنا يدعو إلى الترغيب فيها، وكذلك إذا شبهتها بصورة شيء أقبح منها كان ذلك مثبتا في النفس خيالا قبيحا يدعو إلى التنفير عنها، وهذا لا نزاع فيه.

ولنضرب له مثالا يوضحه فنقول: قد ورد عن ابن الرومي في مدح العسل وذمه بيت من الشعر، وهو: تقول هذا مجاج النّحل تمدحه ... وإن تعب قلت ذا قيء الزّنابير ألا ترى كيف مدح وذم الشيء الواحد بتصريف التشبيه المجازي المضمر الأداة الذي خيّل به إلى السامع خيالا يحسن الشيء عنده تارة ويقبحه أخرى، ولولا التوصّل بطريق التشبيه على هذا الوجه لما أمكنه ذلك، وهذا المثال كاف فيما أردناه. واعلم أن محاسن التشبيه أن يجيء مصدريّا؛ كقولنا: أقدم إقدام الأسد، وفاض فيض البحر، وهو أحسن ما استعمل في باب التشبيه، كقول أبي نواس في وصف الخمر «1» : وإذا ما مزجوها ... وثبت وثب الجراد وإذا ما شربوها ... أخذت أخذ الرّقاد وقيل: إن من شرط بلاغة التشبيه أن يشبه الشيء بما هو أكبر منه وأعظم، ومن ههنا غلط بعض الكتاب من أهل مصر في ذكر حصن من حصون الجبال مشبها له؛ فقال: هامة عليها من الغمامة عمامة، وأنملة خضّبها الأصيل فكان الهلال منها قلامة؛ وهذا الكاتب حفظ شيئا وغابت عنه أشياء؛ فإنه أخطأ في قوله: «أنملة» وأي مقدار للأنملة بالنسبة إلى تشبيه حصن على رأس جبل؛ وأصاب في المناسبة بين ذكر الأنملة والقلامة وتشبيهها بالهلال.

فإن قيل: إن هذا الكاتب تأسّى فيما ذكره بكلام الله تعالى حيث قال: «الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح» فمثل نوره بطاقة فيها ذبالة، وقال الله تعالى: «والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم» فمثل الهلال بأصل عذق النخلة. فالجواب عن ذلك أني أقول: أما تمثيل نور الله تعالى بمشكاة فيها مصباح فإن هذا مثال ضربه للنبي صلّى الله عليه وسلّم، ويدلّ عليه أنه قال: «يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية» وإذا نظرت إلى هذا الموضع وجدته تشبيها لطيفا عجيبا، وذاك أن قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم وما ألقى فيه من النور وما هو عليه من الصفة الشفافة كالزجاجة التي كأنها كوكب لصفائها وإضاءتها؛ وبما الشجرة المباركة التي لا شرقية ولا غربيّة فإنها عبارة عن ذات النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه من أرض الحجاز التي لا تميل إلى الشرق ولا إلى الغرب، وأما زيت هذه الزجاجة فإنه مضيء من غير أن تمسّه نار، والمراد بذلك أن فطرته فطرة صافية، من الأكدار، منيرة من قبل مصافحة الأنوار؛ فهذا هو المراد بالتشبيه الذي ورد في هذه الآية. وأما الآية الأخرى فإنه شبّه الهلال فيها بالعرجون القديم، وذلك في هيئة نحوله واستدارته، لا في مقداره؛ فإن مقدار الهلال عظيم، ولا نسبة للعرجون إليه، لكنه في مرأى النظر كالعرجون هيئة، لا مقدارا. وأما هذا الكاتب فإن تشبيهه ليس على هذا النسق؛ لأنه شبه صورة الحصن بأنملة في المقدار، لا في هيئة والشكل، وهذا غير حسن ولا مناسب، وإنما ألقاه فيه أنه قصد الهلال والقلامة مع ذكر الأنملة، فأخطأ من جهة، وأصاب من جهة، لكن خطؤه غطّى على صوابه. والقول السديد في بلاغة التشبيه هو ما أذكره، وهو: أن إطلاق من أطلق قوله في أن من شرط بلاغة التشبيه أن يشبه الأصغر بالأكبر غير سديد؛ فإن هذا قول غير حاصر للغرض المقصود؛ لأن التشبيه يأتي تارة في معرض المدح، وتارة في معرض الذم، وتارة في غير معرض مدح ولا ذم، وإنما يأتي قصدا للإبانة والإيضاح، ولا يكون تشبيه أصغر بأكبر، كما ذهب إليه من ذهب، بل القول الجامع في ذلك أن

يقال: إن التشبيه لا يعمد إليه إلا لضرب من المبالغة: فإما أن يكون مدحا، أو ذما، أو بيانا وإيضاحا، ولا يخرج عن هذه المعاني الثلاثة، وإذا كان الأمر كذلك فلا بدّ فيه من تقدير لفظة أفعل، فإن لم تقدر فيه لفظة أفعل فليس بتشبيه بليغ، ألا ترى أنا نقول في التشبيه المضمر الأداة: زيد أسد، فقد شبهنا زيدا بأسد الذي هو أشجع منه، فإن لم يكن المشبه به في هذا المقام أشجع من زيد الذي هو المشبه، وإلا كان التشبيه ناقصا؛ إذ لا مبالغة فيه. وأما التشبيه المظهر الأداة فكقوله تعالى: «وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام» وهذا تشبيه كبير بما هو أكبر منه؛ لأن خلق السفن البحرية كبير وخلق الجبال أكبر منه، وكذلك إذا شبه شيء حسن بشيء حسن، فإنه إذا لم يشبه بما هو أحسن منه فليس بوارد على طريق البلاغة، وإن شبه قبيح بقبيح، وهكذا «1» ينبغي أن يكون المشبه به أقبح، وإن قصد البيان والإيضاح فينبغي أن يكون المشبه به أبين وأوضح، فتقدير لفظة أفعل لا بد منه فيما يقصد به بلاغة التشبيه، وإلا كان التشبيه ناقصا، فاعلم ذلك وقس عليه. واعلم أنه لا يخلو تشبيه الشبيئين: أحدهما بالآخر من أربعة أقسام: إما تشبيه معنى بمعنى، كالذي تقدم ذكره من قولنا: زيد كالأسد، وإما تشبيه صورة بصورة، كقوله تعالى: «وعندهم قاصرات الطرف عين كأنهن بيض مكنون» ، وإما تشبيه معنى بصورة، كقوله تعالى: «والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة» وهذا القسم أبلغ الأقسام الأربعة؛ لتمثيله المعاني الموهومة بالصور المشاهدة، وإما تشبيه صورة بمعنى، كقول أبي تمام «2» : وفتكت بالمال الجزيل وبالعدا ... فتك الصّبابة بالمحبّ المغرم فشبه فتكه بالمال وبالعدا وذلك صورة مرئية بفتك الصبابة وهو فتك معنوي، وهذا القسم ألطف الأقسام الأربعة؛ لأنه نقل صورة إلى غير صورة.

وكل واحد من هذه الأقسام الأربعة المشار إليها لا يخلو التشبيه فيه من أربعة أقسام أيضا: إما تشبيه مفرد بمفرد، وإما تشبيه مركب بمركب، وإما تشبيه مفرد بمركب، وإما تشبيه مركب بمفرد. والمراد بقولنا مفرد ومركب: أن المفرد يكون تشبيه شيء واحد بشيء واحد، والمركب تشبيه شيئين اثنين، وكذلك المفرد بالمركب، والمركب بالمفرد؛ فإن أحدهما: يكون تشبيه شيء واحد بشيئين، والآخر: يكون تشبيه شيئين بشيء واحد، ولست أعني بقولي: «تشبيه شيئين بشيئين» أنه لا يكون إلا كذلك، بل أردت تشبيه شيئين بشيئين فما فوقهما، كقول بعضهم في الخمر: وكأنّها وكأنّ حامل كأسها ... إذ قام يجلوها على النّدماء شمس الضّحى رقصت فنقّط وجهها ... بدر الدّجى بكواكب الجوزاء فشبه ثلاثة أشياء بثلاثة أشياء؛ فإنه شبه الساقي بالبدر، وشبه الخمر بالشمس، وشبه الحبب الذي فوقها بالكواكب. وإذا بيّنت أن التشبيه ينقسم إلى تلك الأقسام الأربعة فإني أقول: إن التشبيه المضمر الأداة قد قدمت القول في أنه ينقسم إلى خمسة أقسام؛ فالقسم الأول: لا يرد إلا في تشبيه مفرد بمفرد، والقسم الثاني: لا يرد إلا في تشبيه مفرد بمركب، والقسم الثالث: لا يرد إلا في تشبيه مركب بمركب، والقسم الرابع والخامس: لا يردان إلا في تشبيه مركب بمركب؛ ألا ترى أنا إذا قلنا في القسم الأول: زيد أسد، كان ذلك تشبيه مفرد بمفرد، وإذا قلنا في القسم الثاني: ما مثلناه به من الخبر النبوي وهو «الكمأة جدريّ الأرض» كان ذلك تشبيه مفرد بمركب، وكذلك بيت البحتري، وبيت أبي تمام المشار إليهما فيما تقدم، وإذا قلنا في القسم الثالث ما أشرنا إليه من الخبر النبوي أيضا الذي هو: «وهل يكبّ الناس على مناخرهم في نار جهنم إلا حصائد ألسنتهم» كان ذلك تشبيه مركب بمركب، وإذا قلنا في القسم الرابع والخامس: ما مثّلنا به من بيتي الفرزدق والبحتري كان ذلك تشبيه مركب بمركب، وإذا كان الأمر كذلك وجاءك شيء من التشبيه المضمر الأداة وهو من القسم الأول فاعلم أنه تشبيه مفرد بمفرد بمركب، وإذا جاءك شيء من القسم الثالث

فاعلم أنه تشبيه مركب بمركب، وكذلك إذا جاءك شيء من القسم الرابع والقسم الخامس؛ فإنهما من باب تشبيه المركب بالمركب. ولنرجع إلى ذكر ما أشرنا إليه أولا في تقسيم التشبيه إلى الأربعة الأقسام الأخرى التي هي: تشبيه مفرد بمفرد، وتشبيه مركب بمركب، وتشبيه مفرد بمركب، وتشبيه مركب بمفرد. فالقسم الأول منها: كقوله تعالى في المضمر الأداة: «وجعلنا الليل لباسا» فشبه الليل باللباس. وذاك أنه يستر الناس بعضهم عن بعض لمن أراد هربا من عدو أو ثباتا لعدو أو إخفاء ما لا يحبّ الإطلاع عليه من أمره، وهذا من التشبيهات التي لم يأته بها إلا القرآن الكريم، فإن تشبيه الليل باللباس مما اختصّ به دون غيره من الكلام المنظوم والمنثور. وكذلك قوله تعالى: «هن لباس لكم وأنتم لباس لهن» فشبه المرأة باللباس للرجل وشبه الرجل باللباس للمرأة. ومن محاسن التشبيهات قوله تعالى: «نساؤكم حرث لكم» وهذا يكاد ينقله تناسبه عن درجة المجاز إلى الحقيقة، والحرث: هو الأرض التي تحرث للزرع، وكذلك الرحم يزدرع فيه الولد ازدراعا كما يزدرع البذر في الأرض. ومن هذا الأسلوب قوله تعالى: «وآية لهم الليل نسلخ منه النهار» فشبه تبرؤ الليل من النهار بانسلاخ الجلد المسلوخ، وذاك أنه لما كانت هوادي الصبح عند طلوعه ملتحمة بأعجاز الليل أجرى عليهما اسم السّلخ، وكان ذلك أولى من أن لو قيل «يخرج» لأن السلخ أدلّ على الالتحام من الإخراج، وهذا تشبيه في غاية المناسبة. وكذلك ورد قوله تعالى: «واشتعل الرأس شيبا» فشبه انتشار الشيب باشتعال النار، ولما كان الشيب يأخذ في الرأس ويسعى فيه شيئا فشيئا حتى يحيله إلى غير لونه الأول بمنزلة النار التي تشتعل في الجسم وتسري فيه حتى تحيله إلى غير حاله الأولى، وأحسن من هذا أن يقال: إنه شبه انتشار الشيب باشتعال النار: في سرعة

التهابه، وتعذر تلافيه، وفي عظم الألم في القلب به، وأنه لم يبق بعده إلا الخمود، فهذه أوصاف أربعة جامعة بين المشبه والمشبه به، وذلك في الغاية القصوى من التناسب والتلاؤم. وقد ورد في الأمثال: «اللّيل جنّة الهارب» وهذا تشبيه حسن. وكل ذلك من التشبيه المضمر الأداة. ومما ورد منه شعرا قول أبي الطيب المتنبي «1» : وإذا اهتزّ للنّدى كان بحرا ... وإذا اهتزّ للوغى كان نصلا وإذا الأرض أظلمت كان شمسا ... وإذا الأرض أمحلت كان وبلا فحرف التشبيه ههنا مضمر، وتقديره كان كأنّه بحر، وكان كأنه نصل. وكذلك يقال في البيت الثاني: كان كأنه شمس، وكان كأنه وبل، وهذا تشبيه صورة بصورة، وهو حسن في معناه. وكذلك ورد قول أبي نواس، وهو في تشبيه الحبب «2» : فإذا ما اعترضته ال- ... عين من حيث استدارا خلته في جنبات ال- ... كأس واوات صغارا وهذا تشبيه صورة بصورة أيضا.

وقد أبرز هذا المعنى في لباس آخر؛ فقال «1» : وإذا علاها الماء ألبسها ... حببا شبيه جلاجل الحجل حتّى إذا سكنت جوامحها ... كتبت بمثل أكارع النّمل ومن هذا قول البحتري «2» : تبسّم وقطوب في ندى ووغى ... كالرّعد والبرق تحت العارض البرد وهذا من أحسن التشبيه وأقربه، إلا أن فيه إخلالا من جهة الصنعة، وهي ترتيب التفسير؛ فإن الأولى أن كان قدّم تفسير التبسم على تفسير القطوب: بأن كان قال: كالبرق والرعد، فانظر أيهما المنتمي إلى الفن كيف ذهب على البحتري مثل هذا الموضوع على قربه، مع تقدمه في صناعة الشعر، وليس في ذلك كبير أمر، سوى أن كان قدم ما أخر لا غير، وإنما يعذر الشاعر في مثل هذا المقام إذا حكم عليه الوزن والقافية واضطر إلى ترك ما يجب عليه، وأما إذا كانت الحال كالتي ذكرها البحتري فحينئذ لا عذر له، وسيأتي لذلك باب مفرد في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى، وهو باب ترتيب التفسير. وكذلك ورد قول البحتري «3» :

في معرك ضنك تخال به القنا ... بين الضّلوع إذا انحنين ضلوعا ومن تشبيه المفرد بالمفرد قول أبي الطيب المتنبي «1» : خرجن من النّقع في عارض ... ومن عرق الرّكض في وابل «2» فلمّا نشفن لقين السّياط ... بمثل صفا البلد الماحل «3» وقد حوى هذان البيتان قرب التشبيه مع براعة النظم وجزالة اللفظ. وأما القسم الثاني:- وهو تشبيه المركب بالمركب- فمما جاء منه مضمر الأداة ما يروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في حديث يرويه معاذ بن جبل رضي الله عنه، وهو حديث طويل يشتمل على فضائل أعمال متعددة، ولا حاجة إلى إيراده ههنا على نصّه، بل نذكر الغرض منه، وهو أنه قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمسك عليك هذا» وأشار إلى لسانه، فقال معاذ: أو نحن مؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: «ثكلتك امّك

يا معاذ! وهل يكبّ النّاس على مناخرهم في نار جهنّم إلّا حصائد ألسنتهم» فقوله: «حصائد ألسنتهم» من تشبيه المركب بالمركب؛ فإنه شبّه الألسنة وما تمضي فيه من الأحاديث التي يؤاخذ بها بالمناجل التي تحصد النبات من الأرض، وهذا تشبيه بليغ عجيب لم يسمع إلا من النبي صلّى الله عليه وسلّم. ومما ورد منه شعرا قول أبي تمام «1» : معشر أصبحوا حصون المعالي ... ودروع الأحساب والأعراض فقوله: «حصون المعالي» من التشبيه المركب، وذاك أنه شبههم في منعهم المعالي أن ينالها أحد سواهم بالحصون في منعها من بها وحمايته، وكذلك قوله: «دروع الأحساب» . وأما المظهر الأداة فمما جاء منه قوله تعالى: «إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس» فشبّهت حال الدنيا في سرعة زوالها وانقراض نعيمها بعد الإقبال بحال نبات الأرض في جفافه وذهابه حطاما بعد ما التفّ وتكاثف وزيّن الأرض، وذاك تشبيه صورة بصورة، وهو من أبدع ما يجيء في بابه. ومن ذلك أيضا قوله تعالى في وصف حال المنافقين: «مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون» تقديره أن مثل هؤلاء المنافقين كمثل رجل أوقد نارا في ليلة مظلمة بمفازة فاستضاء بها ما حوله، فاتّقى ما يخاف وأمن، فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره،

فبقي مظلما خائفا، وكذلك المنافق إذا أظهر كلمة الإيمان استنار بها واعتزّ بعزها وأمن على نفسه وماله وولده، فإذا مات عاد إلى الخوف وبقي في العذاب والنقمة. ومما ورد منه في الأخبار النبوية قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «مثل المؤمن الّذي يقرأ القرآن كمثل الأترجّة طعمها طيّب وريحها طيّب، ومثل المؤمن الّذي لا يقرأ القرآن كمثل الرّيحانة ريحها طيّب ولا طعم لها، ومثل المنافق الّذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة لا ريح لها وطعمها مرّ» وهذا من باب تشبيه المركب بالمركب، ألا ترى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم شبه المؤمن القارئ وهو متّصف بصفتين- هما الإيمان والقراءة- بالأترجّة، وهي ذات وصفين، هما الطعم والريح، وكذلك يجري الحكم في المؤمن غير القارئ، وفي المنافق القارئ، والمنافق غير القارئ. وقد جاءني شيء من ذلك أوردته في فصل من كتاب أصف فيه البر والمسير، فقلت: لم أزل أصل الذّميل بالذميل، وألفّ الضّحى بالأصيل، والأرض كالبحر في سعة صدره، والمطايا كالجواري راكدة على ظهره، فمكان الركب منها كمكانهم من الأكوار، ومسيرهم فيها على كرة لا تستقر بها حركة الأدوار. وأما ما ورد من ذلك شعرا فكقول البحتري «1» : خلق منهم تردّد فيهم ... وليته عصابة عن عصابه «2»

كالحسام الجراز يبقى على الدّه ... - ر ويفني في كلّ حين قرابه وكذلك ورد قول ابن الرومي «1» : أدرك ثقاتك إنّهم وقعوا ... في نرجس معه ابنة العنب فهم بحال لو بصرت بها ... سبّحت من عجب ومن عجب ريحانهم ذهب على درر ... وشرابهم درر على ذهب وهذا تشبيه صنيع، إلا أن تشبيه البحتري أصنع، وذلك أن هذا التشبيه صدر عن صورة مشاهدة، وذاك إنما استنبطه استنباطا من خاطره، وإذا شئت أن تفرق بين صناعة التشبيه فانظر إلى ما أشرت إليه ههنا: فإن كان أحد التشبيهين عن صورة مشاهدة والآخر عن صورة غير مشاهدة فاعلم أن الذي هو عن صورة غير مشاهدة أصنع، ولعمري إن التشبيهين كليهما لا بدّ فيهما من صورة تحكي، لكن أحدهما: شوهدت الصورة فيه فحكيت، والآخر: استنبطها، ألا ترى أن ابن الرومي نظر إلى النرجس وإلى الخمر فشبّه، وأما البحتري فإنه مدح قوما بأن خلق السماح باق فيهم ينتقل عن الأول إلى الآخر، ثم استنبط لذلك تشبيها، فأدّاه فكره إلى السيف وقربه التي تفنى في كل حين وهو باق لا يفنى بفنائها، ومن أجل ذلك كان البحتري أصنع في تشبيهه. وسأورد ههنا من كلامي نبذة يسيرة؛ فمن ذلك ما كتبته من جملة كتاب إلى ديوان الخلافة أذكر فيه نزول العدو الكافر على ثغر عكّا في سنة خمس وثمانين وخمسمائة، فقلت: وأحاط بها العدوّ إحاطة الشّفاه بالثغور، ونزل عليها نزول

الظلماء على النور. وهذا من التشبيهات المناسبة، ثم لما جئت إلى ذكر قتال المسلمين إياه وإزالته عن جانب الثغر قلت: وقد اصطدم من الإسلام والكفر ابنا شمام، والتقى من عجاجتهما ظلام، وعند ذلك أخذ العدوّ في التحيز إلى جانب، وكان كحاجب على عين فصار كعين في حاجب، وإذا تزعزع البناء فقد هوى، وإذا قبض من طرق البساط فقد انطوى. وهذا التشبيه في مناسبته كالأول، بل أحسن. ومن ذلك ما ذكرته في فصل من كتاب إلى بعض الإخوان، فقلت: وما شبّهت كتابه في وروده وانقباضه، إلا بنظر الحبيب في إقباله وإعراضه، وكلا الأمرين كالسّهم في ألم وقعه وألم نزعه، والمشوق من استوت صبابته في حالتي وصله وقطعه، وما أزال على وجل من إرسال كتبه وإجمامها واشتباه لمها بإلمامها. ومما جاء من هذا القسم في الشعر قول بكر بن النطاح: تراهم ينظرون إلى المعالي ... كما نظرت إلى الشّيب الملاح يحدّون العيون إليّ شذرا ... كأنّي في عيونهم السّماح وهذا بديع في حسنه بليغ في تشبيهه. وعلى هذا النهج ورد قول أبي تمام «1» : خلط الشّجاعة بالحياء فأصبحا ... كالحسن شيب لمغرم بدلال وهذا من غريب ما يأتي في هذا الباب، وقد تغالت شيعة أبي تمام في وصف هذا البيت، وهو لعمري كذلك. ومن هذا القسم أيضا قوله «2» :

كم نعمة لله كانت عنده ... فكأنّها في غربة وإسار كسيت سبائب لؤمه فتضاءلت ... كتضاؤل الحسناء في الأطمار «1» وكذلك قوله «2» : صدفت عنه ولم تصدف مواهبه ... عنّي، وعاوده ظنّي فلم يخب كالغيث إن جئته وافاك ريّقه ... وإن ترحّلت عنه لجّ في الطّلب وعلى هذا الأسلوب ورد قول علي بن جبلة: إذا ما تردّى لأمة الحرب أرعدت حشا الأرض واستدمى الرّماح الشّوارع وأسفر تحت النّقع حتّى كأنّه ... صباح مشى في ظلمة اللّيل طالع وقد أحسن علي بن جبلة في تشبيهه هذا كلّ الإحسان. وكمثله في الحسن قوله أيضا في تشبيهه الحبب فوق الخمر: ترى فوقها نمشا للمزاج ... تباذير لا يتّصلن اتّصالا كوجه العروس إذا خطّطت ... على كلّ ناحية منه خالا

ومن هذا القسم قول مسلم بن الوليد «1» : تلقى المنيّة في أمثال عدّتها ... كالسّيل يقذف جلمودا بجلمود وعلى هذا الأسلوب ورد قول العباس بن الأحنف «2» : لا جزى الله دمع عيني خيرا ... وجزى الله كلّ خير لساني نمّ دمعي فليس يكتم شيئا ... ووجدت اللّسان ذا كتمان كنت مثل الكتاب أخفاه طيّ ... فاستدلّوا عليه بالعنوان وهذا من اللطيف البديع. ويروى أن أبا نواس لما دخل مصر مادحا للخصيب جلس يوما في رهط من الأدباء، وتذكروا منازه بغداد، فأنشد مرتجلا «3» : ذكر الكرخ نازح الأوطان ... فصبا صبوة ولات أوان «4»

ثم أتم ذلك قصيدا مدح به الخصيب، فلما عاد إلى بغداد دخل عليه العباس ابن الأحنف، وقال: أنشدني شيئا من شعرك بمصر، فأنشده: ذكر الكرخ نازح الأوطان فلما استتمّ الأبيات قال له: لقد ظلمك من ناواك، وتخلف عنك من جاراك، وحرام على أحد يتفوّه بقول الشعر بعدك، فقال أبو نواس: وأنت أيضا يا أبا الفضل تقول هذا؟ ألست القائل: لا جزى الله دمع عيني خيرا وأنشد الأبيات، ثم قال: ومن الذي يحسن أن يقول مثل هذا؟ ومن تشبيه المركب بالمركب قول البحتري «1» : جدة يذود البخل عن أطرافها ... كالبحر يمنع ملحه عن مائه وهذا من محاسن التشبيهات. وكذلك ورد قوله «2» : وتراه في ظلم الوغى فتخاله ... قمرا يكرّ على الرّجال بكوكب «3» وفي هذا البيت تشبيه ثلاثة أشياء بثلاثة أشياء؛ فإنه شبه العجاج بالظلمة، والممدوح بالقمر، والسنان بالكوكب، وهذا من الحسن النادر.

وكذلك ورد قوله «1» : يمشون في زغف كأنّ متونها ... في كلّ معركة متون نهاء «2» بيض تسيل على الكماة نصولها ... سيل السّراب بقفرة بيداء «3» فإذا الأسنّة خالطتها خلتها ... فيها خيال كواكب في ماء فالبيتان الأخيران هما اللذان تضمنا تشبيه المركب بالمركب، وإنما جئنا بالبيت الأول سياقة إلى معناهما، وهو من التشبيه الذي أحسن فيه البحتري وأغرب. ومن هذا الباب ما ورد لبعض الشعراء في وصف الخمر، فقال: كانت سراج أناس يهتدون بها ... في سالف الدّهر قبل النّار والنّور تهتزّ في الكأس من ضعف ومن هرم ... كأنّها قبس في كفّ مقرور وقد يندر للناظم أو الناثر شيء من كلامه يبلغ الغاية التي لا أمد فوقها، وهذان البيتان من هذا القبيل. ومن أغرب ما سمعته في هذا الباب قول الحسين بن مطير يرثي معن بن زائدة «4» :

فتى عيش في معروفه بعد موته ... كما كان بعد السّيل مجراه مرتعا القسم الثالث: في تشبيه المفرد بالمركب. فمما ورد منه قوله تعالى: «الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية» . وكذلك قوله تعالى: «مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف» . ومن ذلك ما ذكرته في فصل من كتاب يتضمن استنجادا؛ فقلت: وهو إذا استصرخ أصرخ بعزم كالشهاب في رجمه، وهم كالقوس الممتلئ بنزع سهمه، ويرى أن صريخه لم يخب، وأنه إذا لم يجبه بالسيف فكأنه لم يجب؛ فهو مغري جواده وحسامه، ومسمع العدو صرير رمحه قبل قعقعة لجامه. وكذلك أيضا ما كتبته في كتاب إلى بعض الإخوان أذمّ الفراق، فقلت: والفراق شيء لا كالأشياء، وصاحبه ميت لا كالأموات وحيّ لا كالأحياء، وما أراه إلا كنار الله الموقدة، التي تطّلع على الأفئدة، وما يجعل صاحبها في ضحضاح منها إلا تواتر الكتاب التي تقيه بعض الوقاء، وتقوم له وإن لم يسق مقام الإسقاء. وأما ما ورد منه في الشعر فكقول أبي نواس «1» :

إذا امتحن الدّنيا لبيب تكشّفت ... له عن عدو في ثياب صديق وكذلك قول أبي تمام يصف قصيدا له «1» : خذها مثقّفة القوافي ربّها ... لسوابغ النّعماء غير كنود «2» كالدّرّ والمرجان ألّف نظمه ... بالشّذر في عنق الفتاة الرّود «3» وكذلك ورد قول البحتري، وهو من جملة قصيدته المشهورة التي وصف فيها الفرس والسيف، وأولها: أهلا بذلكم الخيال المقبل «4» فقال فيها من أبيات تضمّنت وصف السيف بيتا أجاد في تشبيهه: وكأنّما سود النّمال وحمرها ... دبّت بأيد في قواه وأرجل فشبه فرند السيف بدبيب النمل سودها وحمرها، وذلك من التشبيه الحسن.

وأما ما ورد منه مضمر الأداة فكقول النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد سئل عن العزل فقال: «هو الوأد الخفيّ» وهذا تشبيه بليغ، والوأد: هو ما كانت العرب تفعله في دفن البنات أحياء، فجعل العزل في الجماع كالوأد إلا أنه خفيّ، وذاك أنهم كانوا يفعلون بالبنات ذلك هربا منهن، وهكذا من يعزل في الجماع فإنما يفعل ذلك هربا من الولد. وكذلك قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «هو الوأدة الصّغرى» وهذا من الحسن إلى غاية تغضّ لها العيون طرفها، ولا ينتهي الوصف إليها فيكون ترك وصفها كوصفها. ومما جاءني من ذلك فصل من جملة كتاب ضمنته وصف القلم، فقلت: جدع أنفه فصار في الكيد قصيرا، وأرهف صدره فصار في المضاء غضبا شهيرا، وقمص لباس السواد وهو شعار الخطباء فنطق بفصل الخطاب، ونكس رأسه وهي صورة الإذلال فاختال في مشيه من الإعجاب، وأوحى إليه بنجوى الخواطر وهو الأصم فأفضى بما سمعه إلى الكتاب. وهذه الأوصاف غريبة جدا، ومن أغربها ذكر قصير عند جدع الأنف. وأما القسم الرابع، وهو تشبيه المركب بالمفرد؛ فإنه قليل الاستعمال بالنسبة إلى الأقسام الثلاثة، وليس ذلك إلا لعدم النظير بين المشبه والمشبه به، وعلى كثرة ما حفظته من الأشعار لم أجد ما أمثل به هذا القسم إلا مثالا واحدا، وهو قول أبي تمام في وصف الربيع «1» : يا صاحبيّ تقصّيا نظريكما ... تريا وجوه الأرض كيف تصوّر تريا نهارا مشمسا قد شابه ... زهر الرّبا فكأنّما هو مقمر

فشبه النهار المشمس مع الزهر الأبيض بضوء القمر، وهو تشبيه حسن واقع في موقعه، مع ما فيه من لطف الصنعة. ولربما اعترض في هذا الموضع معترض، وقال: إنك أوردت هذا القسم من التشبيه، وذكرت أنه قليل، وليس كذلك؛ فإن تشبيه شيئين بشيء واحد كثير، كقول أبي الطيب المتنبي «1» : تشرق أعراضهم وأوجههم ... كأنّها في نفوسهم شيم «2» فشبه إشراق الأعراض والوجوه بإشراق الشيم.

الجواب عن ذلك أني أقول: هذا البيت المعترض به على ما ذكرته ليس كالذي ذكرته؛ فإن أردت أن يشبه شيئان هما كشيء واحد في الاشتراك بشيء واحد، ألا ترى أن نور الشمس مع بياض الزهر وهما شيئان مشتركان قد شبّها بضوء القمر؛ وأما هذا البيت الذي لأبي الطيب المتنبي فإنه تشبيه شيئين كل واحد منهما مفرد برأسه بشيء واحد؛ لأنه شبه إشراق الأعراض وإشراق الوجوه بإشراق الشّيم، وهذا غير ما أردته أنا. لكن ينبغي أن تعلم أن تشبيه المركب بالمفرد ينقسم قسمين: أحدهما: تشبيه شيئين مشتركين بشيء واحد، كالذي أوردته لأبي تمام؛ وهو قليل الاستعمال، والآخر: تشبيه شيئين منفردين بشيء واحد، كالذي ذكرته أنت لأبي الطيب المتنبي، وهو كثير الاستعمال. وإذ ذكرنا أقسام التشبيه، وبيّنّا المحمود منها الذي ينبغي اقتفاء أثره واتباع مذهبه، فلنتبعه بضده مما ينبغي اجتنابه والإضراب عنه، على أنه قد قدمنا القول بأن حدّ التشبيه هو: أن يثبت للمشبه حكم من أحكام المشبه به، فإذا لم يكن بهذه الصفة، أو كان بين المشبه والمشبه به بعد؛ فذلك الذي يطرح ولا يستعمل، والذي يرد منه مضمر الأداة لا يكون إلا في القسم الواحد من أقسام المجازي، وهو التوسع، وقد قدمت القول في ذلك في أول باب الاستعارة، وضربت له أمثلة منها قول أبي نواس «1» : ما لرجل المال أمست ... تشتكي منك الكلالا فجعل للمال رجلا، وذلك تشبيه بعيد، ولا حاجة إلى إعادة ذلك الكلام ههنا بجملته، لكن قد أشرت إليه إشارة خفيفة. ومن أقبح ما سمعته من ذلك قول أبي تمام «2» :

وتقاسم النّاس السّخاء مجزّأ ... وذهبت أنت برأسه وسنامه «1» وتركت للنّاس الإهاب وما بقى ... من فرثه وعروقه وعظامه «2» والقبح الفاحش في البيت الثاني، فإن غرضه أن يقول: ذهب بالأعلى وترك للناس الأدنى، أو ذهبت بالجيد وتركت للناس الرديء. وقد عيب عليه قوله «3» : لا تسقني ماء الملام فإنّني ... صبّ قد استعذبت ماء بكائي وقيل: إنه جعل للملام ماء، وذلك تشبيه بعيد، وما بهذا التشبيه عندي من بأس، بل هو من التشبيهات المتوسطة التي لا تحمد ولا تذم، وهو قريب من وجه بعيد من وجه: أما مناسب قربه فهو أن الملام هو القول الذي يعنّف به الملوم لأمر جناه، وذاك مختصّ بالسمع، فنقله أبو تمام إلى السقيا التي هي مختصة بالحلق، كأنه قال: لا تذقني الملام، ولو تهيأ له ذلك مع وزن الشعر لكان تشبيها حسنا، لكنه جاء بذكر الماء فحط من درجته شيئا، ولما كان السمع يتجرّع الملام أولا أولا كتجرع الحلق الماء صار كأنه شبيه به، وهو تشبيه معنى بصورة؛ وأما سبب بعد هذا التشبيه فهو أن الماء مستلذّ، والملام مستكره، فحصل بينهما مخالفة من هذا الوجه، فهذا التشبيه إن بعد من وجه فقرب من وجه، فيغفر هذا لهذا، ولذلك جعلته من التشبيهات المتوسطة التي لا تحمد ولا تذم.

وقد روي- وهو رواية ضعيفة- أن بعض أهل المجانة أرسل إلى أبي تمام قارورة، وقال: ابعث في هذه شيئا من ماء الملام، فأرسل إليه أبو تمام، وقال: إذا بعثت إليّ ريشة من جناح الذل بعثت إليك شيئا من ماء الملام، وما كان أبو تمام ليذهب عليه الفرق بين هذين التشبيهين؛ فإنه ليس جعل الجناح للذل كجعل الماء للملام، فإن الجناح للذل مناسب، وذاك أن الطائر إذا وهن أو تعب بسط جناحه وخفضه وألقى نفسه على الأرض، وللإنسان أيضا جناح، فإن يديه جناحاه، وإذا خضع واستكان طأطأ من رأسه، وخفض من يديه؛ فحسن عند ذلك جعل الجناح للذل، وصار تشبيها مناسبا، وأما الماء للملام فليس كذلك في مناسبة التشبيه. وأما التشبيه المضمر الأداة من هذا الباب فقد أوردت له أمثلة يستدل بها على أشباهه وأمثاله؛ فإن لذكر المثال فائدة لا تكون لذكر الحد وحده. فمن ذلك قول بعضهم: ملا حاجبيك الشّيب حتّى كأنّه ... ظباء جرت منها سنيح وبارح وكذلك قول الآخر يصف السهام «1» : كساها رطيب الرّيش فاعتدلت له ... قداح كأعناق الظّباء الفوارق فإنه شبه السهام بأعناق الظباء، وذلك من أبعد التشبيهات. وعلى نحو منه قول الفرزدق: يمشون في حلق الحديد كما مشت ... جرب الجمال بها الكحيل المشعل فشبه الرجال في دروع الزرد بالجمال الجرب، وهذا من التشبيه البعيد؛ لأنه إن أراد السواد فلا مقاربة بينهما في اللون؛ لأن لون الحديد أبيض، ومن أجل ذلك سميت السيوف بالبيض؛ ومع كون هذا التشبيه بعيدا فإنه تشبيه سخيف.

ومن التشبيهات الباردة قول أبي الطيب المتنبي «1» : وجرى على الورق النّجيع القاني ... فكأنّه النّارنج في الأغصان» وهذا تشبيه ينكره أهل التجسيم، وإذا قسمت التشبيهات بين البعد والبرد «3» حاز طرفي ذلك التقسيم. وأبشع من هذا قول أبي نواس في الخمر «4» : كأنّ برانسا رواكد حولها ... وزرق سنانير تدير عيونها «5» والعجب أنه يقول مثل هذا الغث الذي لا لاءمة بينه وبين ما شبه به ويقرنه بالبديع الذي «6» أحسن فيه وأبدع، وهو: كأنّا حلول بين أكناف روضة ... إذا ما سلبناها مع اللّيل طينها فانظر كيف قرن بين ورده وسعدانه، لا، بل بين بعره ومرجانه، وقد أكثر في تشبيه الخمر فأحسن في موضع وأساء في موضع، ومن إساءته قوله أيضا في أبيات لامية «7» :

وإذا ما الماء واقعها ... أظهرت شكلا من الغزل لؤلؤات ينحدرن بها ... كانحدار الذّرّ من جبل «1» فشبه الحبب في انحداره بنمل صغار ينحدر من جبل، وهذا من البعد على غاية لا يحتاج إلى بيان وإيضاح. واعلم أن من التشبيه ضربا يسمى الطرد والعكس، وهو أن يجعل المشبه به مشبها والمشبه مشبها به، وبعضهم يسميه غلبة الفروع على الأصول، ولا تجد شيئا من ذلك إلا والغرض به المبالغة. فمما جاء من ذلك قول ذي الرّمّة «2» : ورمل كأرداف العذارى قطعته ... إذا ألبسته المظلمات الحنادس ألا ترى إلى ذي الرمة كيف جعل الأصل فرعا والفرع أصلا؟ وذاك أن العادة والعرف في هذا أن تشبه أعجاز النساء بكثبان الأنقاء، وهو مطّرد في بابه، فعكس ذو الرمة القصّة في ذلك، فشبه كثبان الأنقاء بأعجاز النساء، وإنما فعل ذلك مبالغة: أي قد ثبت هذا الموضع وهذا المعنى لأعجاز النساء وصار كأنه الأصل حتى شبهت به كثبان الأنقاء.

وعلى نحو من هذا جاء قول البحتري «1» : في طلعه البدر شيء من محاسنها ... وللقضيب نصيب من تثنّيها وكذلك ورد قول عبد الله بن المعتز في قصيدته المشهورة التي أولها: سقى المطيرة ذات الطّلّ والشّجر «2» فقال في تشبيه الهلال: ولاح ضوء قمير كاد يفضحنا ... مثل القلامة قد قدّت من الظّفر ولما شاع ذلك في كلام العرب واتسع صار كأنه هو الأصل، وهو موضع من علم البيان حسن الموقع، لطيف المأخذ. وهذا قد ذكره أبو الفتح بن جني في كتاب الخصائص، وأورده هكذا مهملا. ولما نظرت أنا في ذلك، وأنعمت نظري فيه؛ تبين لي ما أذكره، وهو: أنه قد تقرر في أصل الفائدة المستنتجة من التشبيه أن يشبه الشيء بما يطلق عليه لفظة أفعل: أي يشبه بما هو أبين وأوضح، أو بما هو أحسن منه أو أقبح، وكذلك يشبه الأقل بالأكثر، والأدنى بالأعلى. وهذا الموضع لا ينقض هذه القاعدة؛ لأن الذي قدمناه ذكره مطرد في بابه، وعليه مدار الاستعمال، وهذا غير مطرد، وإنّما يحسن في عكس المعنى المتعارف، وذاك أن تجعل المشبه به مشبها، والمشبه مشبها به، ولا يحسن في غير ذلك مما

النوع الثالث في التجريد

ليس بمتعارف، ألا ترى أن من العادة والعرف أن تشبه الأعجاز بالكثبان، فلما عكس ذو الرمة هذه القضية في شعره جاء حسنا لائقا؟ وكذلك فعل البحتري؛ فإن من العادة والعرف أن يشبه الوجه الحسن بالبدر والقدّ الحسن بالقضيب، فلما عكس البحتري القضية في ذلك جاء أيضا حسنا لائقا، ولو شبه ذو الرمة الكثبان بما هو أصغر منها غير الأعجاز لما حسن ذلك؛ وهكذا لو شبه البحتري طلعة البدر بغير طلعة الحسناء والقضيب بغير قدّها لما حسن ذلك أيضا، وهكذا القول في تشبيه عبد الله بن المعتز صورة الهلال بالقلامة؛ لأن من العادة أن تشبه القلامة بالهلال، فلما صار ذلك مشهورا متعارفا حسن عكس القضية فيه. النوع الثالث في التجريد وهذا اسم كنت سمعته؛ فقال القائل: التجريد في الكلام حسن، ثم سكت، فسألته عن حقيقته، فقال: كذا سمعت، ولم يزد شيئا؛ فأنعمت حينئذ نظري في هذا النوع من الكلام، فألقي في روعي أنه ينبغي أن يكون كذا وكذا، وكان الذي وقع لي صوابا، ثم مضى على ذلك برهة من الزمان، ووصل إلى ما ذكره أبو علي الفارسي رحمه الله تعالى، وقد أوردته ههنا، وذكرت ما أتيت به من ذات خاطري من زيادة لم يذكرها، وستقف أيها المتأمل على كلامه وكلامي. فأما حدّ التجريد فإنه إخلاص الخطاب لغيرك، وأنت تريد به نفسك، لا المخاطب نفسه؛ لأن أصله في وضع اللغة من جرّدت السيف؛ إذا نزعته من غمده، وجرّدت فلانا؛ إذا نزعت ثيابه، ومن ههنا قال صلّى الله عليه وسلّم: «لا مدّ ولا تجريد» وذلك في النهي عند إقامة الحد أن يمدّ صاحبه على الأرض وأن تجرّد عنه ثيابه، وقد نقل هذا المعنى إلى نوع من أنواع علم البيان. وقد تأملته فوجدت له فائدتين: إحداهما أبلغ من الأخرى: فالأولى: طلب التوسع في الكلام، فإنه إذا كان ظاهره خطابا لغيرك وباطنه

خطابا لنفسك فإن ذلك من باب التوسع؛ وأظن أنه شيء اختصت به اللغة العربية دون غيرها من اللغات. والفائدة الثانية:- وهي الأبلغ- وذاك أنه يتمكن المخاطب من إجراء الأوصاف المقصودة من مدح أو غيره على نفسه؛ إذ يكون مخاطبا بها غيره؛ ليكون أعذر وأبرأ من العهدة فيما يقوله غير محجور عليه. وعلى هذا فإن التجريد ينقسم قسمين: أحدهما: تجريد محض، والآخر: تجريد غير محض. فالأول:- وهو المحض- أن تأتي بكلام هو خطاب لغيرك وأنت تريد به نفسك، وذلك كقول بعض المتأخرين وهو الشاعر المعروف بالحيص بيص في مطلع قصيدة له «1» : إلام يراك المجد في زيّ شاعر ... وقد نحلت شوقا فروع المنابر كتمت بعيب الشّعر حلما وحكمة ... ببعضهما ينقاد صعب المفاخر أما وأبيك الخير إنّك فارس ال- ... - مقال ومحيي الدّارسات الغوابر وإنّك أعييت المسامع والنّهى ... بقولك عمّا في بطون الدّفاتر فهذا من محاسن التجريد، ألا ترى أنه أجرى الخطاب على غيره وهو يريد نفسه، كي يتمكن من ذكر ما ذكره من الصفات الفائقة، وعدّ ما عدّه من الفضائل التائهة، وكل ما يجيء من هذا القبيل فهو التجريد المحض. وأما ما قصد به التوسع خاصة فكقول الصّمّة بن عبد الله من شعراء الحماسة «2» :

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت ... مزارك من ريّا وشعباكما معا فما حسن أن تأتي الأمر طائعا ... وتجزع أن داعي الصّبابة أسمعا وقد ورد بعد هذين البيتين ما يدل على أن المراد بالتجريد فيهما التوسع، لأنه قال «1» : وأذكر أيّام الحمى ثمّ أنثني ... على كبدي من خشية أن تصدّعا بنفسي تلك الأرض ما أطيب الرّبا ... وما أحسن المصطاف والمتربّعا فانتقل من الخطاب التجريديّ إلى خطاب النفس، ولو استمر على الحالة الأولى لما قضي عليه بالتوسع، وإنما كان يقضى عليه بالتجريد البليغ الذي هو الطرف الآخر، ويتأول له بأن غرضه من خطاب غيره أن ينفي عن نفسه سمعة الهوى ومعرّة العشق؛ لما في ذلك من الشهرة والغضاضة، لكن قد زال هذا التأويل بانتقاله عن التجريد أولا إلى خطاب النفس. وعلى هذا الأسلوب ورد قول أبي الطيب المتنبي: لا خيل عندك تهديها ولا مال ... فليسعد النّطق إن لم تسعد الحال

واجز الأمير الّذي نعماه فاجئة ... بغير قول ونعمى القوم أقوال وهذان البيتان من مطلع قصيدة يمدح بها فاتكا الإخشيدي بمصر، وكان وصله بصلة سنية من نفقة وكسوة قبل أن يمدحه، ثم مدحه بعد ذلك بهذه القصيدة وهي من غرر شعره، وقد بنى مطلعها على المعنى المشار إليه من ابتداء فاتك إياه بالصلة قبل المديح، وليس في التجريد المذكور في هذين البيتين ما يدل على وصف النفس ولا على تزكيتها بالمديح، كما ورد في الأبيات الرائية المتقدم ذكرها، وإنما هو توسع لا غير. وأما القسم الثاني:- وهو غير المحض- فإنه خطاب لنفسك لا لغيرك، ولئن كان بين النفس والبدن فرق إلا أنهما كأنهما شيء واحد، لعلاقة أحدهما بالآخر. وبين هذا القسم والذي قبله فرق ظاهر، وذاك أولى بأن يسمى تجريدا؛ لأن التجريد لائق به، وهذا هو نصف تجريد؛ لأنك لم تجرّد به عن نفسك شيئا، وإنما خاطبت نفسك بنفسك، كأنك فصلتها عنك وهي منك. فمما جاء منه قول عمرو بن الإطنابة «1» : أقول لها وقد جشأت وجاشت ... رويدك تحمدي أو تستريحي

وكذلك قول الآخر «1» : أقول للنّفس تأساء وتعزية ... إحدى يديّ أصابتني ولم ترد وليس في هذا ما يصلح أن يكون خطابا لغيرك كالأول، وإنما المخاطب هو المخاطب بعينه، وليس ثمّ شيء خارج عنه. وأما الذي ذكره أبو علي الفارسي رحمه الله فإنه قال: إن العرب تعتقد أن في الإنسان معنى كامنا فيه كأنه حقيقته ومحصوله، فيخرج ذلك المعنى إلى ألفاظها مجردا من الإنسان كأنه غيره، وهو هو بعينه، نحو قولهم: لئن لقيت فلانا لتلقينّ به الأسد، ولئن سألته لتسألنّ منه البحر، وهو عينه الأسد والبحر، لا أن هناك شيئا منفصلا عنه أو متميزا منه. ثم قال: وعلى هذا النمط كون الإنسان يخاطب نفسه حتى كأنه يقاول غيره كما قال الأعشى: وهل تطيق وداعا أيّها الرّجل «2» وهو الرجل نفسه لا غيره. هذا خلاصة ما ذكره أبو علي رحمه الله.

والذي عندي فيه أنه أصاب في الثاني، ولم يصب في الأول؛ لأن الثاني هو التجريد، ألا ترى أن الأعشى جرّد الخطاب عن نفسه وهو يريدها، وأما الأول- وهو قوله: «لئن لقيت فلانا لتلقين به الأسد، ولئن سألته لتسألن منه البحر» - فإن هذا تشبيه مضمر الأداة؛ إذ يحسن تقدير أداء التشبيه فيه؛ وبيان ذلك أنك تقول: لئن لقيت فلانا لتلقينّ منه كالأسد، ولئن سألته لتسألن منه كالبحر، وليس هذا بتجريد؛ لأن حقيقة التجريد غير موجودة فيه، وإنما هو تشبيه مضمر الأداة، ألا ترى أن المذكور هو كالأسد، وهو كالبحر، وليس ثمّ شيء مجرد عنه، كما تقدم في الأبيات الشعرية. ويبطل على أبي عليّ قوله أيضا من وجه آخر، وذاك أنه قال: «إن العرب تعتقد أن في الإنسان معنى كامنا فيه كأنه حقيقته ومحصوله، فخرج ذلك المعنى إلى ألفاظها مجردا من الإنسان كأنه غيره، وهو هو» كالمثال الذي مثله في تشبيهه بالأسد وتشبيهه بالبحر، وهذا ينتقض بقولنا: لئن رأيت الأسد لترينّ منه هضبة، ولئن لقيته لتلقينّ منه الموت؛ فإن الصورة التي أوردها في الإنسان وزعم أن العرب تعتقد أن ذلك معنى كامن فيه قد أوردنا مثلها في الأسد؛ فتخصيصه ذلك بالإنسان باطل، وكلا الصورتين ليس بتجريد، وإنما هو تشبيه مضمر الأداة، وقد سبق القول بأن التجريد هو أن تطلق الخطاب على غيرك ولا يكون هو المراد، وإنما المراد نفسك، وهذا لا يوجد في هذا المثال المضمر الأداة، بل المخاطب هو هو لا غيره؛ فلا يطلق عليه إذا اسم التجريد؛ لأنه خارج عن حقيقته، ومناف لموضوعه، فإذا قال القائل: لئن لقيته لتلقينّ به كالأسد، ولئن سألته لتسألن منه كالبحر؛ لم يجرد عن المقول عنه شيئا، وإنما شبهه تارة بالأسد في شجاعته وتارة بالبحر في سخائه. وما أعلم كيف ذهب هذا على مثل أبي علي رحمه الله حتى خلطه بالتجريد وأجراه مجراه. وأما قوله: «إن العرب تعتقد أن في الإنسان معنى كامنا فيه كأنه حقيقته ومحصوله» فأقول: وغير العرب أيضا تعتقد ذلك: فإن عنى بالمعنى الكامن معنى الإنسانية الذي هو الاستعداد للعلوم والصنائع، فما هذا من الشيء الغريب الخفي

الذي علمته العرب خاصة وانفرد باستخراجه أبو على رحمه الله، وإن عنى بالمعنى الكامن ما فيه من الأخلاق كالشجاعة والسخاء في المثال الذي ذكره حتى يشبه بالأسد، تارة وبالبحر أخرى فليس الإنسان مختصّا بهذا المعنى الكامن دون غيره من الحيوانات، بل الأسد فيه من معنى الشجاعة ما ليس في الإنسان؛ ولهذا إذا بولغ في وصف الإنسان بالشجاعة شبّه بالأسد، وكذلك في بعض الحيوانات من السخاء ما ليس في الإنسان، ومن أمثال: أكرم من ديك؛ لأنه إذا ظفر بحبة من الحنطة أخذها في منقاره وطاف بها على الدجاج حتى يضعها في منقار واحدة منهن؛ فالأخلاق إذا مشتركة بين الإنسان وبين غيره من الحيوانات، غير أن الإنسان يجتمع فيه ما تفرق في كثير منها. وما أعلم ما أراد أبو علي رحمه الله بقوله: «إن في الإنسان معنى كامنا فيه كأنه حقيقته ومحصوله» إلا أن يكون أحد هذين القسمين اللذين أشرت إليهما. على أن القسم الواحد الذي هو خلق الشجاعة والسخاء وغيره من الأخلاق ليس عبارة عن حقيقة الإنسان؛ إذ لا يقال في حده: حيوان شجاع، ولا سخي، بل يقال: حيوان ناطق، فالنطق الذي هو الاستعداد للعلوم والصنائع هو حقيقة الإنسان؛ فبطل إذا قول أبي علي رحمه الله في تمثيله حقيقة الإنسان بالشجاعة والسخاء. فالخطأ توجّه في كلامه من وجهين: أحدهما: أنه جعل حقيقة الإنسان عبارة عن خلقه، والآخر: أنه أدخل في التجريد ما ليس منه. وهذا القدر كاف في هذا الموضع؛ فليتأمل.

قد تمّ- بحمد الله تعالى وحسن توفيقه- الجزء الأول من كتاب: المثل الثائر في أدب الكاتب والشاعر ويليه- إن شاء الله تعالى- الجزء الثاني: مفتتحا ب «النوع الرابع في الالتفات»

فهرس الأبواب الواردة في الجزء الأول من كتاب «المثل الثائر، في أدب الكاتب والشاعر»

فهرس الأبواب الواردة في الجزء الأول من كتاب «المثل الثائر، في أدب الكاتب والشاعر» الموضوع الصفحة خطبة المؤلف وتتضمن أن الغرض من الكتاب يقع في مقدمة ومقالتين 5 مقدمة الكتاب وهي تشتمل على أصول علم البيان، ويقع ذلك في عشرة فصول: 11 الفصل الأول: في موضوع علم البيان الفصل الثاني: في آلات علم البيان وأدواته 27 الفصل الثالث: في الحكم على المعاني 49 الفصل الرابع: في الترجيح بين المعاني 57 الفصل الخامس: في جوامع الكلم 65 الفصل السادس: في الحكمة التي هي ضالة المؤمن 69 الفصل السابع: في الحقيقة والمجاز 74 الفصل الثامن: في الفصاحة والبلاغة 80 الفصل التاسع: في أركان الكتابة 87 الفصل العاشر: في الطريق إلى تعلم الكتابة 91 المقالة الأولى: في الصناعة اللفظية، وهي قسمان 149 القسم الأول: في اللفظة المفردة القسم الثاني: في الألفاظ المركبة 194

الموضوع الصفحة صناعة تأليف الألفاظ تنقسم إلى ثمانية أنواع: 195 النوع الأول: السجع. السجع ينقسم إلى ثلاثة أقسام 233 السجع بأقسامه ضربان قصير وطويل 235 التصريع في الشعر بمنزلة السجع في الكلام 237 التصريع على سبع مراتب النوع الثاني: التجنيس 241 التجنيس وما جرى مجراه ينقسم إلى سبعة أقسام. النوع الثالث: الترصيع 258 النوع الرابع: في لزوم ما لا يلزم 261 النوع الخامس: في الموازنة 272 النوع السادس: في اختلاف صيغ الألفاظ واتفاقها 274 النوع السابع: في المعاظلة اللفظية 285 النوع الثامن: في المنافرة بين الألفاظ في السبك 296 المقالة الثانية: في الصناعة المعنوية 301 النوع الأول: في الاستعارة 342 النوع الثاني: في التشبيه 373 النوع الثالث: في التجريد 405

الجزء الثاني

الجزء الثاني النوع الرابع في الالتفات وهذا النوع ما يليه خلاصة علم البيان التي حولها يدندن، وإليها تستند البلاغة، وعنها يعنعن، وحقيقته مأخوذة من التفات الإنسان عن يمينه وشماله، فهو يقبل بوجهه تارة كذا وتارة كذا، وكذلك يكون هذا النوع من الكلام خاصة؛ لأنه ينتقل فيه عن صيغة إلى صيغة، كالانتقال من خطاب حاضر إلى غائب، أو من خطاب غائب إلى حاضر. أو من فعل ماض إلى مستقبل، أو من مستقبل إلى ماض، أو غير ذلك مما يأتي ذكره مفصلا، ويسمى أيضا «شجاعة العربية» وإنما سمي بذلك لأن الشجاعة هي الإقدام، وذاك أن الرجل الشجاع يركب ما لا يستطيعه غيره، ويتورّد ما لا يتورّده سواه، وكذلك هذا الالتفات في الكلام؛ فإن اللغة العربية تختص به دون غيرها من اللغات. وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: في الرجوع من الغيبة إلى الخطاب، ومن الخطاب إلى الغيبة. اعلم أن عامة المنتمين إلى هذا الفن إذا سئلوا عن الانتقال عن الغيبة إلى الخطاب وعن الخطاب إلى الغيبة، قالوا: كذلك كانت عادة العرب في أساليب كلامها، وهذا القول هو عكّاز العميان، كما يقال، ونحن إنما نسأل عن السبب الذي قصدت العرب ذلك من أجله. وقال الزمخشري رحمه الله: إن الرجوع من الغيبة إلى الخطاب إنما يستعمل للتفنن في الكلام، والانتقال من أسلوب إلى أسلوب، تطرية لنشاط السامع، وإيقاظا للإصغاء إليه. وليس الأمر كما ذكره، لأن الانتقال في الكلام من أسلوب إلى أسلوب إذا لم

يكن إلا تطرية لنشاط السامع وإيقاظا للإصغاء إليه؛ فإن ذلك دليل على أنّ السامع يمل من أسلوب واحد فينتقل إلى غيره ليجد نشاطا للاستماع، وهذا قدح في الكلام، لا وصف له؛ لأنه لو كان حسنا لما مل، ولو سلمنا الى الزمخشري ما ذهب إليه لكان إنما يوجد ذلك في الكلام المطوّل، ونحن نرى الأمر بخلاف ذلك؛ لأنه قد ورد الانتقال من الغيبة إلى الخطاب، ومن الخطاب إلى الغيبة، في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، ويكون مجموع الجانبين مما يبلغ عشرة ألفاظ، أو أقل من ذلك، ومفهوم قول الزمخشري في الانتقال من أسلوب إلى أسلوب إنما يستعمل قصدا للمخالفة بين المنتقل عنه والمنتقل إليه، لا قصدا لاستعمال الأحسن، وعلى هذا فإذا وجدنا كلاما قد استعمل في جميعه الإيجاز ولم ينتقل عنه، أو استعمل فيه جميعه الإطناب ولم ينتقل عنه، وكان كلا الطرفين واقعا في موقعه؛ قلنا: هذا ليس بحسن؛ إذ لم ينتقل فيه من أسلوب إلى أسلوب، وهذا قول فيه ما فيه، وما أعلم كيف ذهب على مثل الزمخشري مع معرفته بفن الفصاحة والبلاغة. والذي عندي في ذلك أن الانتقال من الخطاب إلى الغيبة، أو من الغيبة إلى الخطاب؛ لا يكون إلا لفائدة اقتضته، وتلك لفائدة أمر وراء الانتقال من أسلوب إلى أسلوب، غير أنها لا تحدّ بحدّ، ولا تضبط بضابط، لكن يشار إلى مواضع منها ليقاس عليها غيرها؛ فإنا قد رأينا الانتقال من الغيبة إلى الخطاب قد استعمل لتعظيم شأن المخاطب، ثم رأينا ذلك بعينه وهو ضد الأول قد استعمل في الانتقال من الخطاب إلى الغيبة، فعلمنا حينئذ أن الغرض الموجب لاستعمال هذا النوع من الكلام لا يجري على وتيرة واحدة، وإنما هو مقصور على العناية بالمعنى المقصود، وذلك المعنى يتشعّب شعبا كثيرة لا تنحصر، وإنما يؤتى بها على حسب الموضع الذي ترد فيه. وسأوضح ذلك في ضرب من الأمثلة الآتي ذكرها. فأما الرجوع من الغيبة إلى الخطاب فكقوله تعالى في سورة الفاتحة: الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين. إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم هذا رجوع من الغيبة إلى

الخطاب، وبما يختص به هذا الكلام من الفوائد قوله: إياك نعبد وإياك نستعين بعد قوله: الحمد لله رب العالمين فإنه إنما عدل فيه من الغيبة إلى الخطاب لأن الحمد دون العبادة، ألا تراك تحمد نظيرك ولا تعبده، فلما كانت الحال كذلك استعمل لفظ الحمد لتوسطه مع الغيبة في الخبر فقال: الحمد لله ولم يقل «الحمد لك» ولما صار إلى العبادة التي هي أقصى الطاعات قال: إياك نعبد فخاطب بالعبادة إصراحا بها وتقرّبا منه عزّ اسمه بالانتهاء إلى محدود منها، وعلى نحو من ذلك جاء آخر السورة، فقال: صراط الذين أنعمت عليهم فأصرح الخطاب لما ذكر النعمة، ثم قال: غير المغضوب عليهم عطفا على الأول؛ لأن الأول موضع التقرب من الله بذكر نعمه، فلما صار إلى ذكر الغضب جاء باللفظ منحرفا عن ذكر الغاضب؛ فأسند النعمة إليه لفظا، وزوى عنه لفظ الغضب تحننا ولطفا، فانظر إلى هذا الموضع، وتناسب هذه المعاني الشريفة التي الأقدام لا تكاد تطؤها، والأفهام مع قربها صافحة عنها، وهذه السورة قد انتقل في أولها من الغيبة إلى الخطاب؛ لتعظيم شأن المخاطب، ثم انتقل في آخرها من الخطاب إلى الغيبة؛ لتلك العلة بعينها، وهي تعظيم شأن المخاطب أيضا؛ لأن مخاطبة الربّ تبارك وتعالى بإسناد النعمة إليه تعظيم لخطابه، وكذلك ترك مخاطبته بإسناد الغضب إليه تعظيم لخطابه، فانبغى أن يكون صاحب هذا الفن من الفصاحة والبلاغة عالما بوضع أنواعه في مواضعها على اشتباهها. ومن هذا الضرب قوله تعالى: وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا وإنما قيل: لقد جئتم وهو خطاب للحاضر بعد قوله: وقالوا وهو خطاب للغائب لفائدة حسنة، وهي زيادة التسجيل عليهم بالجراءة على الله تعالى والتعرض لسخطه، وتنبيه لهم على عظم ما قالوه، كأنه يخاطب قوما حاضرين بين يديه منكرا عليهم وموبّخا لهم. ومما جاء من الالتفات مرارا على قصر متنه، وتقارب طرفيه، قوله تعالى أول سورة بني إسرائيل: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير فقال

أولا: سبحان الذي أسرى بلفظ الواحد، ثم قال: الذي باركنا بلفظ الجمع، ثم قال: إنه هو السميع البصير وهو خطاب غائب، ولو جاء الكلام على مساق الأول لكان: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بارك حوله ليريه من آياته إنه هو السميع البصير، وهذا جميعه يكون معطوفا على أسرى، فلما خولف بين المعطوف والمعطوف عليه في الانتقال من صيغة إلى صيغة كان ذلك اتّساعا وتفننا في أساليب الكلام، ولمقصد آخر معنوي هو أعلى وأبلغ. وسأذكر ما سنح لي فيه فأقول: لما بدأ الكلام بسبحان ردفه بقوله الذي أسرى، إذ لا يجوز أن يقال الذي أسرينا؛ فلما جاء بلفظ الواحد والله تعالى أعظم العظماء، وهو أولى بخطاب العظيم في نفسه الذي هو بلفظ الجمع، استدرك الأول بالثاني؛ فقال: باركنا ثم قال: لنريه من آياتنا فجاء بذلك على نسق باركنا ثم قال: إنه هو عطفا على أسرى، وذلك موضع متوسط الصفة؛ لأن السمع والبصر صفتان يشاركه فيهما غيره، وتلك حال متوسطة، فخرج بهما عن خطاب العظيم في نفسه إلى خطاب نائب، فانظر إلى هذه الالتفاتات المترادفة في هذه الآية الواحدة التي جاءت لمعان اختصت بها، يعرفها من يعرفها ويجهلها من يجهلها. ومما ينخرط في هذا السلك الرجوع من خطاب الغيبة إلى خطاب النفس، كقوله تعالى: ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا او كرها قالتا أتينا طائعين، فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم وهذا رجوع من الغيبة إلى خطاب النفس، فإنه قال: وزينا بعد قوله: ثم استوى وقوله: فقضاهن وأوحى والفائدة في ذلك أن طائفة من الناس غير المتشرعين يعتقدون أن النجوم ليست في سماء الدنيا، وأنها ليست حفظا ولا رجوما، فلما صار الكلام إلى ههنا عدل به عن خطاب الغائب إلى خطاب النفس؛ لأنه مهم من مهمات الاعتقاد، وفيه تكذيب للفرقة المكذبة المعتقدة بطلانه، وفي خلاف هذا الرجوع من خطاب النفس إلى خطاب الغيبة.

ومما ينخرط في هذا السلك أيضا الرجوع من خطاب النفس إلى خطاب الجماعة، كقوله تعالى: وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون وإنما صرف الكلام عن خطاب نفسه الى خطابهم لأنه أبرز الكلام لهم في معرض المناصحة، وهو يريد مناصحتهم ليتلطف بهم ويداريهم، لأن ذلك أدخل في إمحاض النصح حيث لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه، وقد وضع قوله: وما لي لا أعبد الذي فطرني مكان قوله: وما لكم لا تعبدون الذي فطركم، ألا ترى إلى قوله: وإليه ترجعون ولولا أنه قصد ذلك لقال: الذي فطرني وإليه أرجع، وقد ساقه ذلك المساق إلى أن قال: إني آمنت بربكم فاسمعون فانظر أيها المتأمل إلى هذه النكت الدقيقة التي تمر عليها في آيات القرآن الكريم وأنت تظن أنك فهمت فحواها واستنبطت رموزها. وعلى هذا الأسلوب يجري الحكم في الرجوع من خطاب النفس إلى خطاب الواحد، كقوله تعالى: حم. والكتاب المبين. إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين. فيها يفرق كل أمر حكيم. أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين. رحمة من ربك إنه هو السميع العليم والفائدة ههنا في الرجوع من خطاب النفس إلى خطاب الواحد تخصيص النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالذكر، والإشارة بأن إنزال الكتاب إنما هو إليه، وإن لم يكن ذلك صريحا، لكن مفهوم الكلام يدلّ عليه. وإذا تأملت مطاوي القرآن الكريم وجدت فيه من هذا وأمثاله أشياء كثيرة، وإنما اقتصرنا على هذه الأمثلة المختصرة ليقاس عليها ما يجري على أسلوبها. وقد ورد في فصيح الشعر شيء من ذلك، كقول أبي تمام «1» :

وركب يساقون الرّكاب زجاجة ... من السّير لم تقصد لها كفّ قاطب «1» فقد أكلوا منها الغوارب بالسّرى ... وصارت لها أشباحهم كالغوارب «2» يصرّف مسراها جذيل مشارق ... إذا آبه همّ عذيق مغارب «3» يرى بالكعاب الرود طلعة ثائر ... وبالعرمس الوجناء غرّة آئب «4» كأنّ بها ضغنا على كلّ جانب ... من الأرض أو شوقا إلى كلّ جانب «5» إذا العيس لاقت بي أبا دلف فقد ... تقطّع ما بيني وبين النّوائب «6» هنالك تلقى الجود من حيث قطّعت ... تمائمه والمجد مرخى الذّوائب «7»

ألا ترى أنه قال في الأول: «يصرّف مسراها» مخاطبة للغائب، ثم قال بعد ذلك: «إذا العيس لاقت بي» مخاطبا نفسه، وفي هذا من الفائدة أنه لما صار إلى مشافهة للمدوح والتصريح باسمه خاطب عند ذلك نفسه مبشرا لها بالبعد عن المكروه والقرب من المحبوب، ثم جاء بالبيت الذي يليه معدولا به عن خطاب نفسه إلى خطاب غيره، وهو أيضا خطاب لحاضر، فقال: «هنالك تلقى الجود» والفائدة بذلك أنه يخبر غيره بما شهده، كأنه يصف له جود الممدوح وما لاقاه منه؛ إشادة بذكره، وتنويها باسمه، وحملا لغيره على قصده، وفي صفته جود الممدوح بتلك الصفة الغريبة البليغة، وهي قوله: «حيث قطّعت تمائمه» ما يقتضي له الرجوع إلى خطاب الحاضر، والمراد بذلك أن محل الممدوح هو مألف الجود ومنشؤه ووطنه، وقد يراد به معنى آخر، وهو أن هذا الجود قد أمن عليه الآفات العارضة لغيره من المنّ والمطل والاعتذار وغير ذلك، إذ التمائم لا تقطع إلا عمن أمنت عليه المخاوف. على هذا النهج ورد قول أبي الطيب المتنبي في قصيد «1» يمدح به ابن العميد في النوروز، ومن عادة الفرس في ذلك اليوم حمل الهدايا إلى ملوكهم، فقال في آخر القصيد: كثر الفكر كيف نهدي كما أه ... دت إلى ربّها المليك عباده «2» والّذي عندنا من المال والخ ... يل فمنه هباته وقياده «3» فبعثنا بأربعين مهارا ... كلّ مهر يدانه إنشاده «4»

عدد عشته يرى الجسم فيه ... أربا لا يراه فيما يزاده» فارتبطها فإنّ قلبا نماها ... مربط تسبق الجياد جياده «2» وهذا من إحسان أبي الطيب المعروف، وهو رجوع عن خطاب الغائب الى الحاضر، واحتج أبو الطيب عن تخصيص أبياته بالأربعين دون غيرها من العدد بحجة غريبة، وهي أنه جعلها كعدد السنين التي يرى الإنسان فيها من القوة والشباب وقضاء الأوطار ما لا يراه في الزيادة عليها، فاعتذر بألطف اعتذار في أنه لم يزد القصيد على هذه العدة، وهذا حسن غريب. وأما الرجوع من الخطاب إلى الغيبة فكقوله تعالى: هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فإنه إنما صرف الكلام ههنا من الخطاب إلى الغيبة لفائدة، وهي أنه ذكر لغيرهم حالهم ليعجّبهم منها كالمخبر لهم ويستدعي منهم الإنكار عليهم، ولو قال: حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بكم بريح طيبة وفرحتم بها، وساق الخطاب معهم إلى آخر الآية؛ لذهبت تلك الفائدة التي أنتجها خطاب الغيبة، وليس ذلك بخاف عن نقدة الكلام. ومما ينخرط في هذا السلك قوله تعالى: إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون. وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون الأصل في تقطّعوا تقطعتم، عطفا على الأول، إلا أنه صرف «3» الكلام من الخطاب إلى الغيبة على طريقة

القسم الثاني:

الالتفات، كأنه ينعي عليهم ما أفسدوه إلى قوم آخرين، ويقبح عندهم ما فعلوه، ويقول: ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله تعالى، فجعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعا، وذلك تمثيل لاختلافهم فيه وتباينهم، ثم توعّدهم بعد ذلك بأن هؤلاء الفرق المختلفة إليه يرجعون؛ فهو مجازيهم على ما فعلوا. ومما يجري هذا المجرى قوله تعالى: يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون فإنه إنما قال: فآمنوا بالله ورسوله ولم يقل فآمنوا بالله وبي عطفا على قوله إني رسول الله إليكم لكي تجري عليه الصفات التي أجريت عليه، وليعلم أن الذي وجب الإيمان به والاتباع له هو هذا الشخص الموصوف بأنه النبي الأمي الذي يؤمن بالله وبكلماته كائنا من كان أنا أو غيري؛ إظهارا للنّصفة، وبعدا من التعصب لنفسه، فقدر أولا في صدر الآية إني رسول الله إلى الناس، ثم أخرج كلامه من الخطاب إلى معرض الغيبة لغرضين: الأول منهما إجراء تلك الصفات عليه، والثاني الخروج من تهمة التعصب لنفسه. القسم الثاني: في الرجوع عن الفعل المستقبل إلى فعل الأمر، وعن الفعل الماضي إلى فعل الأمر. وهذا القسم كالذي قبله في أنه ليس الانتقال فيه من صيغة إلى صيغة طلبا للتوسع في أساليب الكلام فقط، بل لأمر وراء ذلك، وإنما يقصد إليه تعظيما لحال من أجري عليه الفعل المستقبل، وتفخيما لأمره، وبالضد من ذلك فيمن أجري عليه فعل الأمر. فمما جاء منه قوله تعالى: يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين. إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون فإنه إنما قال: أشهد الله واشهدوا ولم يقل وأشهدكم ليكون موازنا له وبمعناه لأن إشهاده الله على البراءة من الشرك

القسم الثالث:

صحيح ثابت، وأما إشهادهم فما هو إلا تهاون بهم، ودلالة على قلة المبالاة بأمرهم، ولذلك عدل به عن لفظ الأول؛ لاختلاف ما بينهما، وجيء به على لفظ الأمر، كما يقول الرجل لمن يبس الثرى بينه وبينه: اشهد عليّ أني أحبك، تهكما به، واستهانة بحاله. وكذلك يرجع عن الفعل الماضي إلى فعل الأمر؛ إلا أنه ليس كالأول، بل إنما يفعل ذلك توكيدا لما أجري عليه فعل الأمر؛ لمكان العناية بتحقيقه، كقوله تعالى: قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين الآية، وكان تقدير الكلام أمر؛ ربي بالقسط وبإقامة وجوهكم عند كل مسجد، فعدل عن ذلك إلى فعل الأمر؛ للعناية بتوكيده في نفوسهم؛ فإن الصلاة من أوكد فرائض الله على عباده، ثم أتبعها بالإخلاص الذي هو عمل القلب، إذ عمل الجوارح لا يصح إلا بإخلاص النية، ولهذا قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «الأعمال بالنّيّات» . واعلم أيها المتوشّح لمعرفة علم البيان، أن العدول عن صيغة من الألفاظ إلى صيغة اخرى لا يكون إلا لنوع خصوصية اقتضت ذلك، وهو لا يتوخّاه في كلامه إلا العارف برموز الفصاحة والبلاغة، الذي اطلع على أسرارهما، وفتش عن دفائنهما، ولا تجد ذلك في كل كلام؛ فإنه من أشكل ضروب علم البيان، وأدقّها فهما، وأغمضها طريقا. القسم الثالث: في الإخبار عن الفعل الماضي بالمستقبل، وعن المستقبل بالماضي، فالأول الإخبار بالفعل المستقبل عن الماضي: اعلم أن. الفعل المستقبل إذا أتي به في حالة الإخبار عن وجود الفعل كان ذلك أبلغ من الإخبار بالفعل الماضي، وذاك لأن الفعل المستقبل يوضح الحال التي يقع فيها، ويستحضر تلك الصورة حتى كأن السامع يشاهدها، وليس كذلك الفعل الماضي، وربما أدخل في هذا الموضع ما ليس منه جعلا بمكانه، فإنه ليس كل فعل مستقبل يعطف على ماض بجار هذا المجرى.

وسأبين ذلك فأقول: عطف المستقبل على الماضي ينقسم إلى ضربين: أحدهما بلاغي، وهو إخبار عن ماض بمستقبل، وهو الذي أنا بصدد ذكره في كتابي هذا الذي هو موضوع لتفصيل ضروب الفصاحة والبلاغة، والآخر غير بلاغي، وليس إخبار بمستقبل عن ماض، وإنما هو مستقبل دلّ على معنى مستقبل غير ماض، ويراد به أن ذلك الفعل مستمر الوجود لم يمض. فالضرب الأول كقوله تعالى: والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور فإنه إنما قال: فتثير مستقبلا وما قبله وما بعده ماض لذلك المعنى الذي أشرنا إليه، وهو حكاية الحبل التي يقع فيها إثارة الريح السحاب، واستحضار تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الباهرة، وهكذا يفعل بكل فعل فيه نوع تمييز وخصوصية، كحال تستغرب أو تهمّ المخاطب أو غير ذلك. وعلى هذا الأسلوب ما ورد من حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه في غزوة بدر: فإنه قال: لقيت عبيدة بن سعيد بن العاص وهو على فرس وعليه لأمة «1» كاملة لا يرى منه إلا عيناه، وهو يقول: أنا أبو ذات الكئوس، وفي يدي عنزة «2» فأطعن بها في عينه، فوقع، وأطأ برجلي على خده حتى خرجت العنزة متعقّفة «3» ؛ فقوله: «فأطعن بها في عينه، وأطأ برجلي» معدول به عن لفظ الماضي إلى المستقبل؛ ليمثل للسامع الصورة التي فعل فيها ما فعل من الإقدام والجراءة على قتل ذلك الفارس المستلئم، ألا ترى أنه قال أولا: لقيت عبيدة، بلفظ الماضي، ثم قال بعد ذلك: فأطعن بها في عينه، ولو عطف كلامه على أوله لقال: فطعنت بها في عينه.

وعلى هذا ورد قول تأبّط شرّا «1» : بأبّي قد لقيت الغول تهوي ... بسهب كالصّحيفة صحصحان «2» فأضربها بلا دهش فخرّت ... صريعا لليدين وللجران «3» فإنه قصد أن يصوّر لقومه الحال التي تشجّع فيها على ضرب الغول، كأنه يبصرهم إياها مشاهدة، للتعجب من جراءته على ذلك الهول، ولو قال فضربتها عطفا على الأول لزالت هذه الفائدة المذكورة. فإن قيل: إن الفعل الماضي أيضا يتخيّل منه السامع ما يتخيله من المستقبل قلت في الجواب: إن التخيل يقع في الفعلين معا، لكنه في أحدهما- وهو المستقبل- أوكد وأشد تخيلا؛ لأنه يستحضر صورة الفعل حتى كأن السامع ينظر إلى فاعلها في حال وجود الفعل منه، ألا ترى أنه لما قال تأبط شرا «فأضربها» تخيل السامع أنه مباشر للفعل، وأنه قائم بإزاء الغول، وقد رفع سيفه ليضربها، وهذا لا يوجد في الفعل الماضي؛ لأنه لا يتخيل السامع منه إلا فعلا قد مضى من غير إحضار للصورة في حالة سماع الكلام الدال عليه، وهذا لا خلاف فيه، وهكذا

يجري الحكم في جميع الآيات المذكورة، وفي الأثر عن الزبير رضي الله عنه، وفي الأبيات الشعرية. وعليه ورد قوله تعالى أيضا، وهو: ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق فقال أولا: «خرّ من السّماء» بلفظ الماضي، ثم عطف عليه المستقبل الذي هو «فتخطفه» و «تهوي» ، وإنما عدل في ذلك إلى المستقبل لاستحضار صورة خطف الطير إياه وهويّ الريح به، والفائدة في ذلك ما أشرت إليه فيما تقدم، وكثيرا ما يراعى أمثال هذا في القرآن. وأما الضرب الثاني- الذي هو مستقبل- فكقوله تعالى: إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله فإنه إنما عطف المستقبل على الماضي لأن كفرهم كان ووجد، ولم يستجدّوا بعده كفرا ثانيا، وصدّهم متجدد على الأيام لم يمض كونه، وإنما هو مستمر يستأنف في كل حين، وكذلك ورد قوله تعالى: ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير ألا ترى كيف عدل عن لفظ الماضي ههنا إلى المستقبل فقال: فتصبح الأرض مخضرة ولم يقل فأصبحت عطفا على أنزل، وذلك لإفادة بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان، فإنزال الماء مضى وجوده، واخضرار الأرض باق لم يمض، وهذا كما تقول: أنعم عليّ فلانّ فأروح وأغدو شاكرا له، ولو قلت: فرحت وغدوت شاكرا له، لم يقع ذلك الموقع؛ لأنه يدل على ماض قد كان وانقضى وهذا موضع حسن ينبغي أن يتأمل. وأما الإخبار بالفعل الماضي عن المستقبل فهو عكس ما تقدم ذكره، وفائدته أن الفعل الماضي إذا أخبر به عن الفعل المستقبل الذي لم يوجد بعد كان ذلك ابلغ وأوكد في تحقيق الفعل وإيجاده؛ لأن الفعل الماضي يعطي من المعنى أنه قد كان ووجد، وإنما يفعل ذلك إذا كان الفعل المستقبل من الأشياء العظيمة التي يستعظم وجودها.

والفرق بينه وبين الإخبار بالفعل المستقبل عن الماضي أن الغرض بذاك تبيين هيئة الفعل واستحضار صورته، ليكون السامع كأنه يشاهدها، والغرض بهذا هو الدلالة على إيجاد الفعل الذي لم يوجد. فمن أمثلة الإخبار بالفعل الماضي عن المستقبل قوله تعالى: ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض فإنه إنما قال ففزع بلفظ الماضي بعد قوله ينفخ وهو مستقبل للإشعار بتحقيق الفزع، وأنه كائن لا محالة؛ لأن الفعل الماضي يدل على وجود الفعل وكونه مقطوعا به. وكذلك جاء قوله تعالى: ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا وإنما قيل وحشرناهم ماضيا بعد نسير وترى وهما مستقبلان للدلالة على أن حشرهم قبل التسير والبروز ليشاهدوا تلك الأحوال، كأنه قال: وحشرناهم قبل ذلك؛ لأن الحشر هو المهم؛ لأن من الناس من ينكره كالفلاسفة وغيرهم، ومن أجل ذلك ذكر بلفظ الماضي. ومما يجري هذا المجرى الإخبار باسم المفعول عن الفعل المستقبل، وإنما يفعل ذلك لتضمنه معنى الفعل الماضي، وقد سبق الكلام عليه. فمن ذلك قوله تعالى إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود فإنه إنما آثر اسم المفعول الذي هو (مجموع) على الفعل المستقبل الذي هو يجمع لما فيه من الدلالة على ثبات معنى الجمع لليوم، وأنه الموصوف بهذه الصفة، وإن شئت فوازن بينه وبين قوله تعالى: يوم يجمعكم ليوم الجمع فإنك تعثر على صحة ما قلت.

وقد أغفل كثير من الشعراء ذلك، فمن جملتهم أبو الطيب المتنبي في قوله «1» : يا بدر يا بحر يا غمامة يا ... ليت الشّرى يا حمام يا رجل «2» وينبغي أن يبدأ فيه بالأدنى فالأدنى، فإنه إذا فعل ذلك كان كالمرتفع من محل إلى محل أعلى منه، وإذا خالفه كان كالمنخفض من محل إلى محل أدنى منه، فأما قوله «يا بدر» فإنه اسم الممدوح، والابتداء به أولى، ثم بعده فيجب أن يقول: يا رجل، يا ليث، يا غمامة، يا بحر، يا حمام؛ لأن الليث أعظم من الرجل، والبحر أعظم من الغمامة، والحمام أعظم من البحر، وهذا مقام مدح فيجب أن يرقى فيه من منزلة إلى منزلة حتى ينتهي إلى المنزلة العليا آخرا «3» ، ولو كان مقام ذم لعكس القضية. وعلى مثله ورد قول أبي تمام يفتخر «4» : سما بي أوس في الفخار وحاتم ... وزيد القنا والأثرمان ورافع «5»

نجوم طوالع جبال فوارع ... غيوث هوامع سيول دوافع «1» فإن السيول دون الغيوث، والجبال دون النجوم، ولو قدّم ما أخر لما اختل النظم «2» بأن قال: سيول دوافع غيوث هوامع ... جبال فوارع نجوم طوالع وهذا عندي أشد ملامة من المتنبي، لأن المتنبي لا يمكنه تقديم ألفاظ بيته وتأخيرها، وأبو تمام متمكن من ذلك، وما أعلم كيف ذهب عليه هذا الموضع مع معرفته بالمعاني.

النوع التاسع في التقديم والتأخير

النوع التاسع في التقديم والتأخير وهذا باب طويل عريض، يشتمل على أسرار دقيقة، منها ما استخرجته أنا، ومنها ما وجدته في أقوال علماء البيان، وسأورد ذلك مبينا. وهو ضربان: الأول يختص بدلالة الألفاظ على المعاني، ولو أخر المقدم أو قدم المؤخر لتغير المعنى، والثاني يختص بدرجة التقدم في الذكر لاختصاصه بما يوجب له ذلك، ولو أخر لما تغير المعنى. فأما الضرب الأول فإنه ينقسم إلى قسمين: أحدهما يكون التقديم فيه هو الأبلغ؛ والآخر يكون التأخير فيه هو الأبلغ. فأما القسم الذي يكون التقديم فيه هو الأبلغ فكتقديم المفعول على الفعل، وتقديم الخبر على المبتدأ، وتقديم الظرف أو الحال أو الاستثناء على العامل. فمن ذلك تقديم المفعول على الفعل، كقولك: زيدا ضربت، وضربت زيدا، فإن في قولك «زيدا ضربت» تخصيصا به بالضرب دون غيره، وذلك بخلاف قولك «ضرب زيدا» ؛ لأنك إذا قدمت الفعل كنت بالخيار في إيقاعه على أيّ مفعول شئت، بأن تقول: ضربت خالدا، أو بكرا، أو غيرهما، وإذا أخّرته لزم الاختصاص للمفعول. وكذلك تقديم خبر المبتدأ عليه، كقولك: زيد قائم، وقائم زيد؛ فقولك «قائم زيد» قد أثبتّ له القيام دون غيره، وقولك «زيد قائم» أنت بالخيار في إثبات القيام له ونفيه عنه؛ بأن تقول: ضارب، أو جالس، أو غير ذلك. وهكذا يجري الحكم في تقديم الظرف، كقولك: إن إليّ مصير هذا الأمر، وقولك: إنّ مصير هذا الأمر إليّ؛ فإن تقديم الظرف دلّ على أن مصير الأمر ليس

إلا إليك، وذلك بخلاف قولك: إن مصير هذا الأمر إليّ؛ إذ يحتمل إيقاع الكلام بعد الظرف على غيرك؛ فيقال: إلى زيد، أو عمرو، أو غيرهما. وكذلك يجري الأمر في الحال والاستثناء. وقال علماء البيان- ومنهم الزمخشري رحمه الله-: إن تقديم هذه الصورة المذكورة إنما هو للاختصاص، وليس كذلك، والذي عندي فيه أن يستعمل على وجهين: أحدهما الاختصاص، والآخر مراعاة نظم الكلام، وذاك أن يكون نظمه لا يحسن إلا بالتقديم، وإذا أخر المقدّم ذهب ذلك الحسن، وهذا الوجه أبلغ وأوكد من الاختصاص. فأما الأول الذي هو الاختصاص فنحو قوله تعالى: أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون. ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين. بل الله فاعبد وكن من الشاكرين فإنه إنما قيل بل الله فاعبد ولم يقل «بل اعبد الله» لأنه إذا تقدم وجب اختصاص العبادة به دون غيره، ولو قال «بل اعبد» لجاز إيقاع الفعل على أي مفعول شاء. وأما الوجه الثاني الذي يختص بنظم الكلام فنحو قوله تعالى: إياك نعبد وإياك نستعين وقد ذكر الزمخشري في تفسيره أن التقديم في هذا الموضع قصد به الاختصاص، وليس كذلك؛ فإنه لم يقدم المفعول فيه على الفعل للاختصاص وإنما قدم لمكان نظم الكلام؛ لأنه لو قال نعبدك ونستعينك لم يكن له من الحسن ما لقوله: إياك نعبد وإياك نستعين ألا ترى أنه تقدم قوله تعالى: الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين فجاء بعد ذلك قوله: إياك نعبد وإياك نستعين وذاك لمراعاة حسن النظم السّجعيّ الذي هو على حرف النون، ولو قال نعبدك ونستعينك لذهبت تلك الطلاوة، وزال ذلك الحسن، وهذا غير خاف على أحد من الناس، فضلا عن أرباب علم البيان. وعلى نحو منه ورد قوله تعالى: فأوجس في نفسه خيفة موسى، قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى وتقدير الكلام فأوجس موسى في نفسه خيفة، وإنما قدم

المفعول على الفاعل وفصل بين الفعل والفاعل بالمفعول وبحرف الجر قصدا لتحسين النظم، وعلى هذا فليس كل تقديم لما مكانه التأخير من باب الاختصاص؛ فبطل إذا ما ذهب إليه الزمخشري وغيره. ومما ورد من هذا الباب قوله تعالى: خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه فإن تقديم الجحيم على التّصلية وإن كان فيه تقديم المفعول على الفعل إلا أنه لم يكن ههنا للاختصاص، وإنما هو للفضيلة السجعية، ولا مراء في أن هذا النظم على هذه الصورة أحسن من أن لو قيل خذوه فغلوه ثم صلوه الجحيم. فإن قيل: إنما قدمت الجحيم للاختصاص؛ لأنها نار عظيمة، ولو أخرت لجاز وقوع الفعل على غيرها، كما يقال: ضربت زيدا، وزيدا ضربت، وقد تقدم الكلام على ذلك. فالجواب عن ذلك أن الدّرك الأسفل أعظم من الجحيم؛ فكان ينبغي أن يخص بالذكر دون الجحيم، على ما ذهب إليه؛ لأنه أعظم، وهذا لا يذهب إليه إلا من هو بنجوة عن رموز الفصاحة والبلاغة، ولفظة الجحيم ههنا في هذه الآية أولى بالاستعمال من غيرها؛ لأنها جاءت ملائمة لنظم الكلام، ألا ترى أن من أسماء النار السعير ولظى وجهنم، ولو وضع بعض هذه الأسماء مكان الجحيم لما كان له من الطلاوة والحسن ما للجحيم، والمقصود بذكر الجحيم إنما هو النار: أي صلّوه النار، وهكذا يقال في ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه فإنه لم يقدم السلسلة على السّلك للاختصاص، وإنما قدمت لمكان نظم الكلام، ولا شك أن هذا النظم أحسن من أن لو قيل ثم اسلكوه في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا، والكلام على هذا كالكلام على الذي قبله، وله في القرآن نظائر كثيرة، ألا ترى إلى قوله تعالى: وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون. والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم. والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم فقوله: والقمر قدرناه منازل ليس تقديم المفعول فيه على الفعل من باب الاختصاص، وإنما هو من باب مراعاة نظم الكلام؛ فإنه قال: الليل نسلخ منه النهار ثم قال: والشمس تجري فاقتضى حسن النظم أن يقول: والقمر قدرناه

ليكون الجميع على نسق واحد في النظم، ولو قال وقدرنا القمر منازل لما كان بتلك الصورة في الحسن، وعليه ورد قوله تعالى: فأما اليتيم فلا تقهر. وأما السائل فلا تنهر وإنما قدم المفعول لمكان حسن النظم السجعي. وأما تقديم خبر المبتدأ عليه فقد تقدمت صورته، كقولك: زيد قائم، وقائم زيد؛ فمما ورد منه في القرآن قوله تعالى: وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فإنه إنما قال ذلك ولم يقل وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو مانعتهم لأن في تقديم الخبر الذي هو مانعتهم على المبتدأ الذي هو حصونهم دليلا على فرط اعتقادهم في حصانتها، وزيادة وثوقهم بمنعها إياهم، وفي تصويب ضميرهم اسما لأنّ وإسناد الجملة إليه دليل على تقريرهم في أنفسهم أنهم في عزّة وامتناع لا يبالى معها بقصد قاصد ولا تعرض متعرض، وليس شيء من ذلك في قولك: وظنوا أن حصونهم مانعتهم من الله. ومن تقديم خبر المبتدأ قوله تعالى: قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم «1» فإنه إنما قدم خبر المبتدأ عليه في قوله: أراغب أنت ولم يقل أأنت راغب لأنه كان أهمّ عندهم، وهو به شديد العناية، وفي ذلك ضرب من التعجب والإنكار لرغبة إبراهيم عن آلهته، وأن آلهته لا ينبغي أن يرغب عنها، وهذا بخلاف ما لو قال أأنت راغب عن آلهتي. ومن غامض هذا الموضع قوله تعالى: واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا فإنه إنما قال ذلك ولم يقل فإذا أبصار الذين كفروا شاخصة لأمرين: أحدهما تخصيص الأبصار بالشخوص دون غيرها؛ أما الأول فلو قال فإذا أبصار الذين كفروا شاخصة لجاز أن يضع موضع شاخصة غيره، فيقول: حائرة، أو

مطموسة، أو غير ذلك، فلما قدم الضمير اختصّ الشخوص بالأبصار دون غيرها، وأما الثاني فإنه لما أراد أن الشخوص خاصّ بهم دون غيرهم دلّ عليه بتقديم الضمير أوّلا ثم بصاحبه ثانيا، كأنه قال: فإذا هم شاخصون دون غيرهم، ولولا أنه أراد هذين الأمرين المشار إليهما لقال فإذا أبصار الذين كفروا شاخصة؛ لأنه أخصر بحذف الضمير من الكلام. ومن هذا النوع قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقد سئل عن ماء البحر؛ فقال: «هو الطّهور ماؤه الحلّ ميتته» وتقدير الكلام: هو الذي ماؤه طهور وميتته حلّ؛ لأن الألف واللام ههنا بمعنى الذي. وأما تقديم الظرف، فإنه إذا كان الكلام مقصودا به الإثبات فإن تقديمه أولى من تأخيره، وفائدته إسناد الكلام الواقع بعده إلى صاحب الظرف دون غيره، فإذا أريد بالكلام النفي فيحسن فيه تقديم الظرف وتأخيره، وكلا هذين الأمرين له موضع يختص به. فأما تقديمه في النفي فإنه يقصد به تفضيل المنفي عنه على غيره. أما تأخيره فإنه يقصد به النفي أصلا من غير تفضيل. فأما الأول- وهو تقديم الظرف في الإثبات- فكقولك في الصورة المقدمة: إنّ إليّ مصير هذا الأمر، ولو أخرت الظرف فقلت: إن مصير هذا الأمر إليّ؛ لم يعط من المعنى ما أعطاه الأول، وذلك أن الأول دلّ على أن مصير الأمر ليس إلا إليك، وذلك بخلاف الثاني؛ إذ يحتمل أن توقع الكلام بعد الظرف على غيرك؛ فيقال: إلى زيد، أو عمرو، أو غيرهما، وعلى نحو منه جاء قوله تعالى: إن إلينا إيابهم. ثم إن علينا حسابهم وكذلك جاء قوله تعالى: يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض له الملك وله الحمد فإنه إنما قدم الظرفين ههنا في قوله له الملك وله الحمد ليدلّ بتقديمهما على اختصاص الملك والحمد بالله لا بغيره. وقد استعمل تقديم الظرف في القرآن كثيرا كقوله تعالى: وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة أي: تنظر إلى ربها دون غيره، فتقديم الظرف ههنا ليس

للاختصاص «1» ، وإنما هو كالذي أشرت إليه في تقديم المفعول، وأنه لم يقدم للاختصاص، وإنما قدم من أجل نظم الكلام، لأن قوله تعالى: وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة أحسن من أن لو قيل: وجوه يومئذ ناضرة ناظرة إلى ربها، والفرق بين النظمين ظاهر، وكذلك قوله تعالى: والتفت الساق بالساق. إلى ربك يومئذ المساق فإن هذا روعي فيه حسن النظم، لا الاختصاص، في تقديم الظرف، وفي القرآن مواضع كثيرة من هذا القبيل يقيسها غير العارف بأسرار الفصاحة على مواضع أخرى وردت للاختصاص وليست كذلك، فمنها قوله تعالى: إلى ربك يومئذ المستقر وقوله تعالى: ألا إلى الله تصير الأمور وله الحكم وإليه ترجعون* وعليه توكلت وإليه أنيب* فإن هذه جميعها لم تقدم الظروف فيها للاختصاص، وإنما قدمت لمراعاة الحسن في نظم الكلام؛ فاعرف ذلك. وأما الثاني- وهو تأخير الظرف وتقديمه في النفي- فنحو قوله تعالى: الم ذلك الكتاب لا ريب فيه وقوله تعالى: لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون فإنه إنما أخر الظرف في الأول لأن القصد في إيلاء حرف النفي الريب نفي الريب عنه، وإثبات أنه حق وصدق، لا باطل وكذب، كما كان المشركون يدعونه، ولو أولاه الظرف لقصد أن كتابا آخر فيه الريب لا فيه، كما قصد في قوله تعالى: لا فيها غول فتأخير الظرف يقتضي النفي أصلا من غير تفضيل، وتقديمه يقتضي تفضيل المنفي عنه، وهو خمر الجنة، على غيرها من خمور الدنيا: أي ليس فيها ما في غيرها من الغول، وهذا مثل قولنا: لا عيب في الدار، وقولنا: لا فيها عيب، فالأول نفي للعيب عن الدار فقط، والثاني تفضيل لها على غيرها: أي ليس فيها ما في غيرها من العيب، فاعرف ذلك فإنه من دقائق هذا الباب. وأما تقديم الحال فكقولك: جاء راكبا زيد، وهذا بخلاف قولك: جاء زيد راكبا؛ إذ يحتمل أن يكون ضاحكا أو ماشيا أو غير ذلك.

وأما الاستثناء فجار هذا المجرى، نحو قولك: ما قام إلا زيدا أحد، أو ما قام أحد إلا زيدا، والكلام على ذلك كالكلام على ما سبق. وأما القسم الثاني فهو أن يقدم ما الأولى به التأخير لأن المعنى يختل بذلك ويضطرب، وهذا هو المعاظلة المعنوية، وقد قدمنا القول في المقالة الأولى المختصة بالصناعة اللفظية بأن المعاظلة تنقسم قسمين: أحدهما لفظي، والآخر معنوي، أما اللفظي فذكرناه في بابه، وأما المعنوي فهذا بابه وموضعه، وهو كتقديم الصفة أو ما يتعلق بها على الموصوف، وتقديم الصلة على الموصول، وغير ذلك مما يرد بيانه. فمن هذا القسم قول بعضهم: فقد والشك بين لي عناء ... بوشك فراقهم صرد يصيح فإنه قدم قوله «بوشك فراقهم» وهو معمول «يصيح» و «يصيح» صفة لصرد على صرد، وذلك قبيح؛ ألا ترى أنه لا يجوز أن يقال: هذا من موضع كذا رجل ورد اليوم، وإنما يجوز وقوع المعمول بحيث يجوز وقوع العامل؛ فكما لا يجوز تقديم الصفة على موصوفها فكذلك لا يجوز تقديم ما اتصل بها على موصوفها. ومن هذا النحول قول الآخر: فأصبحت بعد خطّ بهجتها ... كأنّ قفرا رسومها قلما فإنه قدم خبر كأنّ عليها وهو قوله «خطّ» ؛ وهذا وأمثاله مما لا يجوز قياس عليه، والأصل في هذا البيت: فأصبحت بعد بهجتها قفرا كأن قلما خطّ رسومها، إلا أنه على تلك الحالة الأولى في الشعر مختل مضطرب. والمعاظلة في هذا الباب تتفاوت درجاتها في القبح، وهذا البيت المشار إليه من أقبحها؛ لأن معانيه قد تداخلت وركب بعضها بعضا. ومما جري هذا المجرى قول الفرزدق: إلى ملك ما أمّه من محارب ... أبوه ولا كانت كليب تصاهره

وهو يريد: إلى ملك أبوه ما أمه من محارب، وهذا أقبح من الأول، وأكثر اختلالا. وكذلك جاء قوله أيضا: وليست خراسان الّتي كان خالد ... بها إذ كان سيفا أميرها وحديث هذا البيت ظريف، وذاك أنه، فيما ذكر، يمدح خالد بن عبد الله القسريّ، ويهجو أسدا، وكان أسد وليها بعد خالد، وكأنه قال: وليست خراسان بالبلدة التي كان خالد بها سيفا إذ كان أسد أميرها، وعلى هذا التقدير ففي «كان» الثانية ضمير الشأن والحديث، والجملة بعدها خبر عنها، وقد قدم بعض ما إذ مضافة إليه وهو «أسد» عليها، وفي تقديم المضاف إليه أو شيء منه على المضاف من القبح ما لا خفاء به، وأيضا فإن أسدا أحد جزأي الجملة المفسرة للضمير، والضمير لا يكون تفسيره إلا من بعده، ولو تقدم تفسيره قبله لما احتاج إلى تفسير، ولما سماه الكوفيون الضمير المجهول. وعلى هذا النحو ورد قول الفرزدق أيضا: وما مثله في النّاس إلّا مملّكا ... أبو أمّه حيّ أبوه يقاربه ومعنى هذا البيت: وما مثله في الناس حيّ يقاربه إلا ممّلكا أبو أمه أبوه، وعلى هذا المثال المصوغ في الشعر قد جاء مشوّها كما تراه. وقد استعمل الفرزدق من التعاظل كثيرا، كأنه كان يقصد ذلك ويتعمده؛ لأن مثله لا يجيء ألا متكلّفا مقصودا، وإلا فإذا ترك مؤلف الكلام نفسه تجري على سجيتها وطبعها في الاسترسال لم يعرض له شيء من هذا التعقيد، ألا ترى أن المقصود من الكلام معدوم في هذا الضرب المشار إليه؛ إذ المقصود من الكلام إنما هو الإيضاح والإبانة وإفهام المعنى، فإذا ذهب هذا الوصف المقصود من الكلام ذهب المراد به، ولا فرق عند ذلك بينه وبين غيره من اللغات كالفارسية والرومية وغيرهما.

واعلم أن هذا الضرب من الكلام هو ضد الفصاحة؛ لأن الفصاحة هي الظهور والبيان، وهذا عار عن هذا الوصف. أما الضرب الثاني الذي يختص بدرجة التقدم في الذكر لاختصاصه بما يوجب له ذلك فإنه مما لا يحصره حدّ، ولا ينتهي إليه شرح، وقد أشرنا إلى نبذة منه في هذا الكتاب ليستدل بها على أشباهها ونظائرها. فمن ذلك تقديم السبب على المسبب، كقوله تعالى: إياك نعبد وإياك نستعين فإنه إنما قدّم العبادة على الاستعانة لأن تقديم القربة والوسيلة قبل طلب الحاجة أنجح لحصول الطلب، وأسرع لوقوع الإجابة ولو قال إياك نستعين وإياك نعبد لكان جائزا إلا أنه لا يسدّ ذلك المسدّ، ولا يقع ذلك الموقع، وهذا لا يخفى على المنصف من أرباب هذه الصناعة، وعلى نحو منه جاء قوله تعالى: وأنزلنا من السماء ماء طهورا لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا فقدّم حياة الأرض وإسقاء الأنعام على إسقاء الناس، وإن كانوا أشرف محلّا؛ لأن حياة الأرض هي سبب لحياة الأنعام والناس، فلما كانت بهذه المثابة جعلت مقدمة في الذكر، ولما كانت الأنعام من أسباب التعيش والحياة للناس قدمها في الذكر على الناس؛ لأن حياة الناس بحياة أرضهم وأنعامهم، فقدم سقي ما هو سبب نمائهم ومعاشهم على سقيهم. ومن هذا الضرب تقديم الأكثر على الأقل، كقوله تعالى: ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات . وإنما قدم الظالم لنفسه للإيذان بكثرته، وأن معظم الخلق عليه، ثم أتى بعده بالمقتصدين لأنهم قليل بالإضافة إليه، ثم أتى بالسابقين وهم أقل من القليل أعني من المقتصدين؛ فقدم الأكثر، وبعده الأوسط، ثم ذكر الأقل آخرا، ولو عكست القضية المعنى أيضا واقعا في موقعه؛ لأنه يكون قد روعي فيه تقديم الأفضل فالأفضل. ولنوضح لك في هذا وأمثاله طريقا تقتفيه، فنقول: اعلم أنه إذا كان الشيئان كل واحد منهما مختصا بصفة فأنت بالخيار في تقديم أيهما شئت في الذكر، كهذه

الآية؛ فإن السابق بالخيرات مختص بصفة الفضل، والظالم لنفسه مختص بصفة الكثرة، فقس على هذا ما يأتيك من أشباهه وأمثاله. ومن هذا الجنس قوله تعالى: والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع فإنه إنما قدم الماشي على بطنه لأنه أدل على القدرة من الماشي على رجلين؛ إذ هو ماش بغير الآلة المخلوقة للمشي، ثم ذكر الماشي على رجلين وقدّمه على الماشي على أربع؛ لأنه أدل على القدرة أيضا حيث كثرت آلات المشي في الأربع، وهذا من باب تقديم الأعجب فالأعجب. فإن قيل: قد ورد في القرآن الكريم في مواضع منه ما يخالف هذا الذي ذكرته، كقوله تعالى في سورة هود: وما نؤخره إلا لأجل معدود. يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد. فأما الذين شقوا ففي النار ثم قال: وأما الذين سعدوا ففي الجنة فقدم أهل النار في الذكر على أهل الجنة، وهذا مخالف للأصل الذي أصلته في هذا الموضع. فالجواب عن ذلك أن هذا الذي أشرت إليه في سورة هود وما أشبهه له أسرار تحتاج ألى فضل تأمل وإمعان نظر، حتى تفهم: أما هذا الموضع فإنه لما كان الكلام مسوقا في ذكر التخويف والتحذير، وجاء على عقب قصص الأولين وما فعل الله بهم من التعذيب والتدمير؛ كان الأليق أن يوصل الكلام بما يناسبه في المعنى، وهو ذكر أهل النار؛ فمن أجل ذلك قدموا في الذكر على أهل الجنة، وإذا رأيت في القرآن شيئا من هذا القبيل وما يجري مجراه فتأمله وأمعن نظرك فيه حتى يتبين لك مكان الصواب منه. واعلم أنه إذا كان مطلع الكلام في معنى من المعاني ثم يجيء بعده ذكر شيئين أحدهما أفضل من الآخر وكان المعنى المفضول مناسبا لمطلع الكلام، فأنت بالخيار في تقديم أيهما شئت؛ لأنك إن قدمت الأفضل فهو في موضعه من التقديم، وإن قدمت المفضول فلأن مطلع الكلام يناسبه، وذكر الشيء مع ما يناسبه أيضا وارد في موضعه.

فمن ذلك قوله تعالى: وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور. لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور. أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير فإنه إنما قدم الإناث على الذكور مع تقدمهم عليهن لأنه ذكر البلاء في آخر الآية الأولى وكفران الإنسان بنسيانه للرحمة السابقة عنده، ثم عقب ذلك بذكر ملكه ومشيئته وذكر قسمة الأولاد، فقدم الإناث لأن سياق الكلام أنه فاعل ما يشاء، لا ما يشاؤه الإنسان فكان ذكر الإناث اللاتي هنّ من جملة ما لا يشاؤه الإنسان ولا يختاره أهمّ، والأهم واجب التقديم، وليلي الجنس الذي كانت العرب تعده بلاء ذكر البلاء، ولما أخر ذكر الذكور، وهم أحقاء بالتقديم، تدارك ذلك بتعريفه إياهم؛ لأن التعريف تنويه بالذكر، كأنه قال ويهب لمن يشاء الفرسان الأعلام المذكورين الذين لا يخفون عليكم، ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسين حقه من التقديم والتأخير، وعرف أن تقديم الإناث لم يكن لتقدمهنّ، ولكن لمقتض آخر، فقال (ذكرانا وإناثا) وهذه دقائق لطيفة قلّ من يتنبه لها أو يعثر على رموزها. ومن هذا الباب قوله تعالى: وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء فإنه إنما قدم الأرض في الذكر على السماء، ومن حقها التأخير، لأنه لما ذكر شهادته على شؤون أهل الأرض وأحوالهم ووصل ذلك بقوله: وما يعزب لاءم بينهما؛ ليلي المعنى المعنى. فإن قيل: قد جاء تقديم الأرض على السماء في الذكر في مواضع كثيرة من القرآن. قلنا: إذا جاءت مقدمة في الذكر فلا بد لتقديمها من سبب اقتضاه، وإن خفي ذلك السبب، وقد يستنبطه بعض العلماء دون بعض.

النوع العاشر في الحروف العاطفة والجارة

النوع العاشر في الحروف العاطفة والجارّة وهذا موضع لطيف المؤخذ، دقيق المغزى، وما رأيت أحدا من علماء هذه الصناعة تعرّض إليه، ولا ذكره، وما أقول إنهم لم يعرفوه؛ فإن هذا النوع من الكلام أشهر من أن يخفى؛ لأنه مذكور في كتب العربية جميعها، ولست أعني بإيراده ههنا ما يذكره النحويون من أن الحروف العاطفة تتبع [المعطوف] المعطوف عليه في الإعراب، ولا أن الحروف الجارة تجرّ ما تدخل عليه، بل أمرا وراء ذلك، وإن كان المرجع فيه الى الأصل النحوي، فأقول: إن أكثر الناس يضعون هذه الحروف في غير مواضعها؛ فيجعلون ما ينبغي أن يجرّ بعلى بفي في حروف الجرّ، وفي هذه الأشياء دقائق أذكرها لك. أما حروف العطف فنحو قوله تعالى: والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين. والذي يميتني ثم يحيين فالأول عطفه بالواو التي هي للجمع، وتقديم الإطعام على الإسقاء والإسقاء على الإطعام جائز لولا مراعاة حسن النظم، ثم عطف الثاني بالفاء؛ لأن الشفاء يعقب المرض بلا زمان خال من أحدهما، ثم عطف الثالث بثم؛ لأن الإحياء يكون بعد الموت بزمان، ولهذا جيء في عطفه بثم التي هي للتراخي، ولو قال قائل في موضع هذه الآية الذي يطعمني ويسقين ويمرضني ويشفين ويميتني ويحيين لكان للكلام معنى تام إلا أنه لا يكون كمعنى الآية؛ إذ كل شيء منها قد عطف بما يناسبه ويقع موقع السداد منه. ومما جاء من هذا الباب قوله تعالى: قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره، ثم السبيل يسره، ثم أماته فأقبره، ثم إذا شاء أنشره ألا ترى أنه لما قال: من نطفة خلقه كيف قال: فقدره ولم يقل ثم قدّره؛ لأن التقدير لما كان تابعا للخلقة وملازما لها عطفه عليها بالفاء، وذلك بخلاف قوله:

ثم السبيل يسره ؛ لأن بين خلقته وتقديره في بطن أمه وبين إخراجه منه وتسهيل سبيله مهلة وزمانا؛ فلذلك عطفه بثم، وعلى هذا جاء قوله تعالى: ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره ؛ لأن بين إخراجه من بطن أمه وبين موته تراخيا وفسحة، وكذلك بين موته ونشوره أيضا، ولذلك عطفهما بثم، ولما لم يكن بين موت الإنسان وإقباره تراخ ولا مهلة عطفه بالفاء، وهذا موضع من علم البيان شريف، وقلما يتفطن لاستعماله كما ينبغي. ومما جاء من ذلك أيضا قوله تعالى في قصة مريم وعيس عليهما السلام: فحملته فانتبذت به مكانا قصيا. فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا وفي هذه الآية دليل على أنه حملها به ووضعها إياه كانا متقاربين؛ لأنه عطف الحمل والانتباذ إلى المكان الذي مضت إليه والمخاض الذي هو الطّلق بالفاء، وهي للفور، ولو كانت كغيرها من النساء لعطف بثم التي هي للتراخي والمهلة، ألا ترى أنه قد جاء في الأخرى قتل الإنسان ما أكفره. من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره. ثم السبيل يسره فلما كان بين تقديره في البطن وإخراجه منه مدّة متراخية عطف ذلك بثم، وهذا بخلاف قصة مريم عليها السلام، فإنها عطفت بالفاء، وقد اختلف الناس في مدة حملها؛ فقيل: إنه كان كحمل غيرها من النساء، وقيل: لا، بل كان مدة ثلاثة أيام، وقيل: أقل، وقيل: أكثر، وهذه الآية مزيلة للخلاف؛ لأنها دلت صريحا على أن الحمل والوضع كانا متقاربين على الفور من غير مهلة، وربما كان ذلك في يوم واحد أو أقل؛ أخذا بما دلت عليه الآية. ومما ورد من هذا الأسلوب قوله تعالى: لقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين. ثم جعلناه نطفة في قرار مكين. ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر ففي الآية المتقدم ذكرها قال: من نطفة خلقه فقدره فعطف التقدير على الخلق بالفاء؛ لأنه تابع له، ولم يذكر تفاصيل حال المخلوق، وفي هذه الآية ذكر تفاصيل حاله في تنقله، فبدأ بالخلق الأول، وهو خلق آدم من طين، ولما عطف عليه الخلق الثاني الذي هو

خلق النسل عطفه بثم؛ لما بينهما التراخي، وحيث صار إلى التقدير الذي يتبع بعضه بعضا من غير تراخ عطفه بالفاء، ولما انتهى إلى جعله ذكرا أو أنثى- وهو آخر الخلق- عطفه بثم. فإن قيل: إنه قد عطف المضغة على العلقة في هذه الآية بالفاء، وفي أخرى بثم، وهي قوله تعالى: يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة. فالجواب عن ذلك «1» . واعلم أن في حروف العطف موضعا تلتبس [فيه] الفاء بالواو، وهو موضع يحتاج فيه إلى فضل تأمل، وذلك أن فعل المطاوعة لا يعطف عليه إلا بالفاء، دون الواو، وقد يجيء من الأفعال ما يلتبس بفعل المطاوعة، ويعطي ظاهره أنه كذلك إلا أن معناه يكون مخالفا لمعنى فعل المطاوعة فيعطف حينئذ بالواو؛ لا بالفاء، كقوله تعالى: ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه فقوله: أغفلنا قلبه ههنا بمعنى صادفناه غافلا، وليس منقولا عن غفل حتى يكون معناه صددناه؛ لأنه لو كان كذلك لكان معطوفا عليه بالفاء، وقيل: فاتبع هواه، وذلك أنه يكون مطاوعا، وفعل المطاوعة لا يعطف إلا بالفاء، كقولك: أعطيته فأخذ أو دعوته فأجاب، ولا تقول: أعطيته وأخذ، ولا دعوته وأجاب، كما لا يقال: كسرته وانكسر. وكذلك لو كان معنى أغفلنا في الآية صددنا ومنعنا لكان معطوفا عليه بالفاء، وكان يقال: ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا فاتبع هواه، فلما لم يكن كذلك وكان العطف عليه

بالواو؛ فطريقة أنه لما قال: أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه أن يكون معناه وجدناه غافلا؛ فقد غفل لا محالة؛ فكأنه قال: ولا تطع من غفل قلبه عن ذكرنا واتبع هواه: أي لا تطع من فعل كذا وكذا، يعدّد أفعاله التي توجب ترك طاعته، فاعرف ذلك. وأما حروف الجر فإن الصواب يشذ عن وضعها في مواضعها، وقد علم أن «في» للوعاء، و «على» للاستعلاء، كقولهم: زيد في الدار، وعمرو على الفرس، لكن إذا أريد استعمال ذلك في غير هذين الموضعين مما يشكل استعماله عدل فيه عن الأولى. فمما ورد منه قوله تعالى: قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ألا ترى إلى بداعة هذا المعنى المقصود لمخالفة حرفي الجر ههنا؛ فإنه إنما خولف بينهما في الدخول على الحق والباطل لأن صاحب الحق كأنه مستعل على فرس جواد يركض به حيث شاء، وصاحب الباطل كأنه منغمس في ظلام منخفض فيه لا يدري أين يتوجه، وهذا معنى دقيق قلما يراعى مثله في الكلام، وكثيرا ما سمعت إذا كان الرجل يلوم أخاه أو يعاتب صديقه على أمر من الأمور؛ فيقول له: أنت على ضلالك القديم كما أعهدك، فيأتي بعلى في موضع في، وإن كان هذا جائزا، إلا أنّ استعمال «في» ههنا أولى؛ لما أشرنا إليه، ألا ترى إلى قوله تعالى في سورة يوسف: قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم. ومن هذا النوع قوله تعالى: إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فإنه إنما عدل عن اللام إلى «في» في الثلاثة الأخيرة للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره باللام؛ لأن «في» للوعاء، فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات كما يوضع الشيء في الوعاء، وأن يجعلوا مظنة لها، وذلك لما في فك الرقاب وفي الغرم من التخلص، وتكرير «في» في قوله: وفي سبيل

الله دليل على ترجيحه على الرقاب وعلى الغارمين، وسياق الكلام أن يقال: وفي الرقاب والغارمين وسبيل الله وابن السبيل، فلما جيء بفي ثانية وفصل بها بين الغارمين وبين سبيل الله علم أن سبيل الله أوكد في استحقاق النفقة فيه، وهذه لطائف ودقائق لا توجد إلا في هذا الكلام الشريف، فاعرفها وقس عليها.

النوع الحادي عشر في الخطاب بالجملة الفعلية والجملة الاسمية والفرق بينهما

النوع الحادي عشر في الخطاب بالجملة الفعلية والجملة الاسمية والفرق بينهما ولم أذكر هذا الموضع لأن يجري الأمر فيه على ما يجري مجراه فقط، بل لأن يقاس عليه مواضع أخرى مما تماثله وتشابهه، ولو كان شبها بعيدا. وإنما يعدل عن أحد الخطابين إلى الآخر لضرب التأكيد والمبالغة. فمن ذلك قولنا: قام زيد وإنّ زيدا قائم، فقولنا «قام زيد» معناه الإخبار عن زيد بالقيام، وقولنا «إن زيدا قائم» معناه الإخبار عن زيد بالقيام أيضا، إلا أن في الثاني زيادة ليست في الأول، وهي توكيده بإنّ المشددة التي من شأنها الإثبات لما يأتي بعدها، وإذا زيد في خبرها اللام فقيل: إنّ زيدا لقائم؛ كان ذلك أكثر توكيدا في الإخبار بقيامه، وهذا مثال ينبني عليه أمثلة كثيرة من غير هذا النوع. فمما جاء من ذلك قوله تعالى: وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم فإنهم إنما خاطبوا المؤمنين بالجملة الفعلية وشياطينهم بالجملة الاسمية المحققة بإنّ المشددة لأنهم في مخاطبة إخوانهم بما أخبروا به عن أنفسهم من الثبات على اعتقاد الكفر والبعد من أن يزلوا عنه على صدق ورغبة ووفور نشاط، فكان ذلك متقبّلا منهم، ورائجا عند إخوانهم؛ وأما الذي خاطبوا به المؤمنين، فإنما قالوا تكلفا وإظهارا للإيمان خوفا ومداجاة، وكانوا يعلمون أنهم لو قالوه بأوكد لفظ وأسدّه لما راج لهم عند المؤمنين إلا رواجا ظاهرا لا باطنا، ولأنهم ليس لهم في عقائدهم باعث قوي على النطق في خطاب المؤمنين بمثل ما خاطبوا به إخوانهم من العبارة المؤكدة؛ فلذلك قالوا في خطاب المؤمنين آمنا وفي خطاب إخوانهم إنا معكم وهذه نكت تخفى على من ليس له قدم راسخة في علم الفصاحة والبلاغة.

ومما يجري هذا المجرى ورود لام التوكيد في الكلام، ولا يجيء ذلك إلا لضرب من المبالغة، وفائدته أنه إذا عبر عن أمر يعزّ وجوده أو فعل يكثر وقوعه جيء باللام تحقيقا لذلك. فمما جاء منه قوله تعالى في أول سورة المنافقين: إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون فانظر إلى هذه اللامات الثلاثة الواردة في خبر إنّ، والأولى وردت في قول المنافقين، وإنما وردت مؤكدة لأنهم أظهروا من أنفسهم التصديق برسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وتملّقوا، وبالغوا في التملق، وفي باطنهم خلافه، وأما ما ورد في الثانية والثالثة فصحيح لا ريب فيه، والسلام في الثانية لتصديق رسالته، وفي الثالثة لتكذيب المنافقين فيما كانوا يظهرونه من التصديق الذين هم على خلافه. وكذلك ورد قوله تعالى في سورة يوسف عليه السلام: قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون. أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون فإنه إنما جيء باللام ههنا لزيادة التوكيد في إظهار المحبة ليوسف عليه السلام والإشفاق عليه؛ ليبلغوا الغرض من أبيهم في السماحة بإرساله معهم. ومن هذا الباب قوله تعالى: أفرأيتم ما تحرثون. أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون. لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون ثم قال: أفرأيتم الماء الذي تشربون. أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون. لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون ألا ترى كيف أدخلت اللام في آية المطعوم دون آية المشروب! وإنما جاءت كذلك لأن جعل الماء العذب ملحا أسهل إمكانا في العرف والعادة والموجود من الماء الملح أكثر من الماء العذب، وكثيرا ما إذا جرت المياه العذبة على الأراضي المتغيرة التربة أحالتها إلى الملوحة فلم يحتج في جعل الماء العذب ملحا إلى زيادة تأكيد، فلذلك لم تدخل عليه لام التأكيد المفيدة زيادة التحقيق، وأما المطعوم فإن جعله حطاما من الأشياء الخارجة عن المعتاد، وإذا وقع فلا يكون إلا عن سخط من الله شديد، فلذلك قرن بلام التأكيد زيادة في تحقيق أمره وتقريره إيجاده.

ومما يتصل بذلك قوله تعالى: وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون فاللام في لنحن هي اللام المشار إليها. وكذلك ورد قوله تعالى: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا فإن هذه اللام في قوله: ليستخلفنهم وليمكنن وليبدلنهم إنما جاءت لتحقيق الأمر وإثباته في نفوس المؤمنين وأنه كائن لا محالة. ومما يجري هذا المجرى في التوكيد لام الابتداء المحققة لما يأتي بعدها، كقوله تعالى: إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا فاللام في ليوسف لام الابتداء، وفائدتها تحقيق مضمون الجملة الواردة بعدها: أي أن زيادة حبه إياهما أمر ثابت لامراء فيه. ومن هذا النوع قول بعضهم: والشّيب إن يظهر فإنّ وراءه ... عمرا يكون خلاله متنفّس لم ينتقص منّي المشيب قلامة ... ولما بقى منّي ألبّ وأكيس فقوله «ولما بقى مني» تقديره وما بقي مني، وإنما أدخل على «ما» هذه اللام قصدا لتأكيد المعنى؛ لأنه موضع يحتاج ألى التأكيد، ألا ترى أن قوّة العمر في الشباب، ولما أراد هذا الشاعر أن يصف المشيب، وليس مما يوصف وإنما يذم، أتى باللام لتؤكد ما قصده من الصفة. وكذلك ورد قول الشاعر من أبيات الحماسة «1» : إنّا لنصفح عن مجاهل قومنا ... ونقيم سالفة العدوّ الأصيد «2»

ومتى نجد يوما فساد عشيرة ... نصلح وإن نر صالحا لا نفسد «1» وهذا كثير سائغ في الكلام، إلا أنه لا يتأتى لمكان العناية بما يعبر به عنه، ألا ترى إلى قول الشاعر: «إنا لنصفح عن مجاهل قومنا» فإنه لما كان الصفح مما يشقّ على النفس فعله؛ لأنه مقابلة الشر بالخير والإساءة بالإحسان؛ أكّده باللام، تحقيقا له. فإن عرى الموضع الذي يؤتى فيه بهذه اللام من هذه الفائدة المشار إليها وما يجري مجراه، فإنّ ورود اللام فيه لغير سبب اقتضاه. وأكثر ما تستعمل هذه اللام في جواب القسم لتحقيق الأمر المقسم عليه، وذلك في الإيجاب، دون النفي؛ لأنها لا تستعمل في النفي، ألا ترى أنه لا يقال: والله للاقمت، وإنما يقال: والله لا قمت، لكن في الإيجاب تستعمل، ويكون استعمالها حسنا، كقولك: والله لأقوم، فإن أضيف «2» إليها النونان الخفيفة والثقيلة كان ذلك أبلغ في التأكيد كقولك: والله لأقومنّ، وعلى ذلك وردت الآية المتقدم ذكرها، وهي قوله تعالى: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ؛ وإن لم يكن جوابا لقسم فالنون الواردة بعد اللام زيادة في التأكيد، وهما تأكيدان أحدهما مردف بالآخر. وكذلك فاعلم أن النون الثقيلة متصلة بهذا الباب، فإذا استعملت في موضع فإنما يقصد بها التأكيد. فمما جاء منها قول البحتري في معاتبة الفتح بن خاقان «3» :

هل يجلبنّ إليّ عطفك موقف ... ثبت لديك أقول فيه وتسمع «1» ما زال لي من حسن رأيك موئل ... آوي إليه من الخطوب ومفزع فعلام أنكرت الصّديق وأقبلت ... نحوي جناب الكاشحين تطلّع «2» وأقام يطمع في تهضّم جانبي ... من لم يكن من قبل فيه يطمع إلّا يكن ذنب فعدلك واسع ... أو كان لي ذنب فعفوك أوسع وهذه أبيات حسنة مليحة في بابها، يمحى بها حرّ الصدود، ويستمال بها صعر الخدود، وإنما ذكرتها بجملتها لمكان حسنها، والبيت الأول هو المراد، ألا ترى أنه قال: «هل يجلبنّ ألى عطفك موقف» فالنون جاءت قصدا للتأكيد، وهو في هذا المقام متمنّ، فأحبّ أن يؤكد هذه الأمنية، وكل ما يجيء من هذا الباب فإنه واقع هذا الموقع، وإذا استعمل عبثا لغير فائدة تقتضيه فإنه لا يكون استعماله إلا من جاهل بالأسرار المعنوية، وأما ما يمثل به النحاة من قول القائل: والله لأقومنّ، فإنه مثال نحويّ يضرب للجواز، وإلا فإذا قال القائل: والله لأقومنّ، وأكده، كان ذلك لغوا، لأنه ليس في قيامه من الأمر العزيز ولا من الأمر العسير ما يحتاج معه إلى التأكيد، بل لو قال: والله لأقومنّ إليك، مهدّدا له، لكان ذلك واقعا في موقعه، فافهم هذا وقس عليه.

النوع الثاني عشر في قوة اللفظ لقوة المعنى

النوع الثاني عشر في قوة اللفظ لقوة المعنى هذا النوع قد ذكره أبو الفتح بن جني في كتاب «الخصائص» ، إلا أنه لم يورده كما أوردته أنا، ولا نبّه على ما نبهت عليه من النكت التي تضمنته، وهذا يظهر بالوقوف على كلامي. وكلامه، فأقول: اعلم أن اللفظ إذا كان على وزن من الأوزان ثم نقل إلى وزن آخر أكثر منه فلا بدّ من أن يتضمن من المعنى أكثر مما تضمنه أوّلا؛ لأن الألفاظ أدلّة على المعاني، وأمثلة للإبانة عنها، فإذا زيد في الألفاظ أوجبت القسمة زيادة المعاني، وهذا لا نزاع فيه، لبيانه، وهذا النوع لا يستعمل إلا في مقام المبالغة. فمن ذلك قولهم: خشن واخشوشن، فمعنى خشن دون معنى اخشوشن؛ لما فيه من تكرير العين وزيادة الواو نحو فعل وافعوعل، وكذلك قولهم: أعشب المكان، فإذا رأوا كثرة العشب قالوا: اعشوشب. ومما ينتظم بهذا السلك قدر واقتدر، فمعنى اقتدر أقوى من معنى قدر قال الله تعالى: فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر فمقتدر ههنا أبلغ من قادر، وإنما عدل إليه للدلالة على تفخيم الأمر وشدة الأخذ الذي لا يصدر إلا عن قوّة الغضب، أو للدلالة على بسطة القدرة، فإن المقتدر أبلغ في البسطة من القادر، وذاك أن مقتدرا اسم فاعل من اقتدر، وقادر اسم فاعل من قدر، ولا شك أن افتعل أبلغ من فعل. على هذا ورد قول أبي نواس: فعفوت عنّي عفو مقتدر ... حلّت له نقم فألفاها أي: عفوت عني عفو قادر متمكن القدرة لا يردّه شيء عن إمضاء قدرته؛ وأمثال هذا كثيرة.

وكذلك ورد قوله تعالى في سورة نوح عليه السلام: فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا فإن غفارا أبلغ في المغفرة من غافر، لأن فعّالا يدل على كثرة صدور الفعل، وفاعلا لا يدلّ على الكثرة. عليه ورد قوله تعالى: إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين فالتّوّاب هو الذي تتكرر منه التوبة مرّة على مرّة، وهو فعّال، وذلك أبلغ من التائب الذي هو فاعل، فالتائب اسم فاعل من تاب يتوب فهو تائب: أي صدرت منه التوبة مرة واحدة؛ فإذا قيل: توّاب؛ كان صدور التوبة منه مرارا كثيرة. وهذا وما يجري مجراه إنما يعمد إليه لضرب من التوكيد، ولا يوجد ذلك إلا فيما معنى الفعلية؛ كاسم الفاعل والمفعول، وكالفعل نفسه، نحو قوله تعالى: فكبكبوا فيها هم والغاوون فإنّ معنى كبكبوا من الكبّ، وهو القلب، إلا أنه مكرّر المعنى، وإنما استعمل في الآية دلالة على شدة العقاب؛ لأنه موضع يقتضي ذلك. ولربما نظر بعض الجهال في هذا فقاس عليه زيادة التصغير وقال: إنها زيادة، ولكنها زيادة نقص، لأنه يزاد في اللفظ حرف، كقولهم في الثلاثي في رجل: رجيل، وفي الرباعي في قنديل: قنيديل، فالزيادة وردت ههنا فنقصت من معنى هاتين اللفظتين، وهذا ليس من الباب الذي نحن بصدد ذكره؛ لأنه عار عن معنى الفعلية، والزيادة في الألفاظ لا توجب زيادة في المعاني، الا إذا تضمّنت معنى الفعلية، لأن الأسماء التي لا معنى للفعل فيها إذا زيدت استحال معناها، ألا ترى أنا لو نقلنا لفظة عذب، وهي ثلاثية، الى الرباعي فقلنا: عذيب، على وزن جعفر؛ لاستحال معناها، ولم يكن لها معنى، وكذلك لو نقلنا لفظة عسجد، وهي رباعية، الى الخماسي فقلنا: عسجدد، على وزن جحمرش؛ لاستحال معناها، وهذا بخلاف ما فيه معنى الفعلية؛ كقادر ومقتدر؛ فإن قادرا اسم فاعل قدر، وهو ثلاثي، ومقتدرا اسم فاعل اقتدر، وهو رباعي؛ فلذلك كان معنى القدرة في اقتدر أشد من معنى القدرة في قدر، وهذا لا نزاع فيه. وهذا الباب بجملته لا يقصد به إلا المبالغة في إيراد المعاني، وقد يستعمل

في مقام المبالغة فينعكس المعنى فيه إلى ضده، كما جاء لأبي كرّام «1» التميمي من شعراء الحماسة وهو قوله «2» : لله تيم أيّ رمح طراد ... لاقى الحمام وأيّ نصل جلاد «3» ومحشّ حرب قدم متعرّض ... للموت غير مكذّب حيّاد «4» فلفظة «حيّاد» قد وردت ههنا: وإنما أوردها هذا الشاعر وقصد بها المبالغة في وصف شجاعة هذا الرجل فانعكس عليه المقصد الذي قصده، لأن حيادا من حيّد فهو حيّاد: أي وجد منه الحيدودة مرارا، كما يقال: قتّل فهو قتّال: أي وجد منه القتل مرارا، وإذا كان هذا الرجل غير حيّاد كان حائدا: أي وجدت منه الحيدودة مرة واحدة، وإذا وجدت منه مرة كان ذلك جبنا، ولم يكن شجاعة، والأولى أن كان قال: غير مكذب حائد. وينبغي أن يعلم أنه إذا وردت لفظة من الألفاظ ويجوز حملها على التضعيف الذي هو طريق المبالغة وحملها على غيره أن ينظر فيها؛ فإن اقتضى حملها على المبالغة فهو الوجه. فمن ذلك قول البحتري في قصيدته التي مطلعها:

منى النّفس في أسماء لو تستطيعها «1» وهي قصيدة مدح بها الخليفة المتوكل رحمه الله، وذكر فيها حديث الصلح بين بني تغلب؛ فمما جاء فيها قوله: رفعت بضبعي تغلب ابنة وائل ... وقد يئست أن يستقلّ صريعها فكنت أمين الله مولى حياتها ... ومولاك فتح يوم ذاك شفيعها تألّفتهم من بعد ما شرّدت بهم ... حفائظ أخلاق بطيء رجوعها فأبصر غاويها المحجّة فاهتدى ... وأقصر غاليها ودانى شسوعها فقوله «تألفتهم من بعد ما شردت بهم» يجوز أن تخفف لفظة «شردت» ويجوز أن تثقل، والتثقيل هو الوجه؛ لأنه في مقام الإصلاح بين قوم تنازعوا واختلفوا، وتباينت قلوبهم وآراؤهم، وكل ما يجيء من الألفاظ على هذا النحو فينبغي أن يجري هذا المجرى. وههنا نكتة لا بد من التنبيه عليها، وذلك أن قوة اللفظ لقوة المعنى لا تستقيم إلا في نقل صيغة إلى صيغة أكثر منها، كنقل الثلاثي إلى الرباعي، وإلا فإذا كانت صيغة الرباعي مثلا موضوعة لمعنى فإنه لا يراد به ما أريد من نقل الثلاثي ألى مثل تلك الصيغة، ألا ترى أنه إذا قيل في الثلاثي قتل ثم نقل إلى الرباعي فقيل قتّل- بتشديد التاء- فإن الفائدة من هذا النقل هي التكثير: أي أن القتل وجد منه كثيرا، وهذه الصيغة الرباعية بعينها لو وردت من غير نقل لم تكن دالة على التكثير، كقوله تعالى: وكلم الله موسى تكليما فإن كلّم على وزن قتّل، ولم يرد به التكثير، بل أريد به أنه خاطبه، سواء كان خطابه إياه طويلا أو قصيرا، قليلا أو كثيرا، وهذه اللفظة رباعية، وليس لها ثلاثي نقلت عنه إلى الرباعي، لكن قد وردت بعينها ولها ثلاثي ورباعي فكان الرباعي أكثر وأقوى فيما دل عليه من المعنى؛ وذاك

أن تكون كلّم من الجرح: أي جرّح، ولها ثلاثي وهو كلم مخففا: أي جرح؛ فإذا وردت مخففة دلت على الجراحة مرة واحدة، وإذا وردت مثقلة دلت على التكثير. وكذلك ورد قوله تعالى: ورتل القرآن ترتيلا فإن لفظة «رتّل» على وزن لفظة قتّل، ومع هذا ليست دالة على كثرة القراءة، وإنما المراد بها أن تكون القراءة على هيئة التأني والتدبر، وسبب ذلك أن هذه اللفظة لا ثلاثي لها حتى تنقل عنه إلى رباعي، وإنما هي رباعية موضوعة لهذه الهيئة المخصوصة من القراءة؛ وعلى هذا فلا يستقيم معنى الكثرة والقوة في اللفظ والمعنى إلا بالنقل من وزن إلى وزن أعلى منه، فاعرف ذلك. ومن ههنا شذ الصواب عمن شذ عنه في عالم وعليم؛ فإن جمهور علماء العربية يذهبون إلى أن عليما أبلغ في معنى العلم من عالم، وقد تأمّلت ذلك وأنعمت نظري فيه، فحصل عندي شك في الذي ذهبوا إليه، والذي أوجب ذلك الشك هو أنّ عالما وعليما على عدة واحدة؛ إذ كل منهما أربعة أحرف، وليس بينهما زيادة ينقل فيها الأدنى إلى الأعلى، والذي يوجبه النظر أن يكون الأمر على عكس ما ذكروه، وذاك أن يكون عالم أبلغ من عليم، وسببه أن عالما اسم فاعل من علم، وهو متعد، وأن عليما اسم فاعل من علم، إلا أنه أشبه وزن الفعل القاصر، نحو شرف فهو شريف، وكرم فهو كريم، وعظم فهو عظيم؛ فهذا الوزن لا يكون إلا في الفعل القاصر؛ فلما أشبهه عليم انحط عن رتبة عالم الذي هو متعد؛ ألا ترى أن فعل- بفتح الفاء وكسر العين- يكون متعديا نحو علم وحمد، ويكون قاصرا غير متعد نحو عضب وشبع، وأما فعل- بفتح الفاء وضم العين- فإنه لا يكون إلا قاصرا غير متعد، ولما كان فعل- بفتح الفاء وكسر العين- مترددا بين المتعدي والقاصر، وكان فعل- بفتح الفاء وضم العين- قاصرا غير متعد؛ صار القاصر أضعف مما يدور بين المتعدي والقاصر، وحيث كان الأمر كذلك، وأشبه وزن المتعدي وزن القاصر؛ حطّ ذلك من درجته، وجعله في الرتبة دون المتعدي الذي ليس بقاصر، هذا هو الذي أوجب لي التشكيك فيما ذهب إليه غيري من علماء العربية، ولربما كان ما ذهبوا إليه لأمر خفي عني ولم أطلع عليه.

النوع الثالث عشر في عكس الظاهر

النوع الثالث عشر في عكس الظاهر وهو نفي الشيء بإثباته، وهو من مستطرفات علم البيان، وذاك أنك تذكر كلاما يدلّ ظاهره أنه نفي لصفة موصوف، وهو نفي للموصوف أصلا. فمما جاء منه قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه في وصف مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا تنثى فلتاته» «1» أي لا تذاع سقطاته، فظاهر هذا اللفظ أنه كان ثمّ فلتات غير أنها لا تذاع، وليس المراد ذلك، بل المراد أنه لم يكن ثمّ فلتات فتنثى، وهذا من أغرب ما توسعت فيه اللغة العربية، وقد ورد في الشعر كقول بعضهم: ولا ترى الضّبّ بها ينجحر «2» فإن ظاهر المعنى من هذا البيت أنه كان هناك ضبّ ولكنه غير منحجر، وليس كذلك، بل المعنى أنه لم يكن هناك ضبّ أصلا. وهذا النوع من الكلام قليل الاستعمال، وسبب ذلك أن الفهم يكاد يأباه، ولا يقبله إلا بقرينة خارجة عن دلالة لفظه على معناه، وما كان عاريا عن قرينة فإنه لا يفهم منه ما أراد قائله.

وسأوضح ذلك فأقول: أما قولنا عن مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا تنثى فلتاته» فإن مفهوم هذا اللفظ أنه كان هناك فلتات إلا أنها تطوى ولا تنشر، وتكتم ولا تذاع، ولا يفهم منه أنه لم يكن هناك فلتات إلا بقرينة خارجة عن اللف، وهي أنه قد ثبت في النفوس، وتقرر عند العقول، أن مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منزّه عن فلتات تكون به، وهو أكرم من ذلك وأوقر؛ فلما قيل: «إنه لا تنثى فلتاته» فهمنا منه أنه لم يكن هناك فلتات أصلا، وأما قول القائل: ولا ترى الضّبّ بها ينجحر فإنه لا قرينة تخصصه حتى يفهم منه ما فهم من الأول، بل المفهوم أنه كان هناك ضبّ ولكنه غير منجحر. ولقد مكثت زمانا أطوف على أقوال الشعراء قصدا للظفر بأمثلة من الشعر جارية هذا المجرى فلم أجد إلا بيتا لامريء القيس «1» ، وهو: على لاحب لا يهتدى لمناره ... إذا سافه العود الدّيافيّ جرجرا «2» فقوله «لا يهتدي لمناره» أي: أن له منارا إلا أنه لا يهتدي به، وليس المراد ذلك، بل المراد أنه لا منار له يهتدي به. ولي أنا في هذا بيت من الشعر، وهو: أدنين جلباب الحياء فلن يرى ... لذيولهنّ على الطّريق غبار وظاهر هذا الكلام أن هؤلاء النساء يمشين هونا لحيائهن فلا يظهر لذيولهن غبار على

الطريق، وليس المراد ذلك، بل المراد أنهن لا يمشين على الطريق أصلا: أي أنهنّ مخبّات لا يخرجن من بيوتهن؛ فلا يكون إذا لذيولهن على الطريق غبار، وهذا حسن رائق، وهو أظهر بيانا من قوله: ولا ترى الضّبّ بها ينجحر فمن استعمل هذا النوع من الكلام فليستعمله هكذا، وإلا فليدع، على أن الإكثار من استعماله عسر؛ لأنه لا يظهر المعنى فيه.

النوع الرابع عشر في الاستدراج

النوع الرابع عشر في الاستدراج وهذا الباب أنا استخرجته من كتاب الله تعالى، وهو مخادعات الأقوال التي تقوم مقام مخادعات الأفعال؛ والكلام فيه وإن تضمن بلاغة فليس الغرض ههنا ذكر بلاغته فقط، بل الغرض ذكر ما تضمنه من النكت الدقيقة في استدراج الخصم إلى الإذعان والتسليم، وإذا حقق النظر فيه علم أن مدار البلاغة كلها عليه؛ لأنه انتفاع بإيراد الألفاظ المليحة الرائقة ولا المعاني اللطيفة الدقيقة دون أن تكون مستجلبة لبلوغ غرض المخاطب بها، والكلام في مثل هذا ينبغي أن يكون قصيرا في خلابه، لا قصيرا في خطابه، فإذا لم يتصرّف الكاتب في استدراج الخصم إلى إلقاء يده، وإلا «1» فليس بكاتب، ولا شبيه له إلا صاحب الجدل فكما أن ذاك يتصرّف في المغالطات القياسية فكذلك هذا يتصرف في المغالطات الخطابية. وقد ذكرت في هذا النوع ما يتعلّم منه سلوك هذه الطريق. فمن ذلك قوله تعالى: وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب ألا ترى ما أحسن مأخذ هذا الكلام وألطفه؛ فإنه أخذهم بالاحتجاج على طريقة التقسيم؛ فقال: لا يخلو هذا الرجل من أن يكون كاذبا فكذبه يعود عليه ولا يتعداه، أو يكون صادقا [وإن يكن صادقا] يصبكم بعض الذي يعدكم إن تعرضتم له، وفي هذا الكلام من حسن الأدب والإنصاف ما أذكره لك فأقول: إنما قال يصبكم بعض الذي وقد علم أنه نبيّ صادق وأن كلّ ما يعدهم به لابد وأن يصيبهم، لا

بعضه؛ لأنه احتاج في مقاولة خصوم موسى عليه السلام أن يسلك معهم طريق الإنصاف والملاطفة في القول، ويأتيهم من جهة المناصحة، ليكون أدعى إلى سكونهم إليه؛ فجاء بما علم أنه أقرب إلى تسليمهم لقوله، وأدخل في تصديقهم إياه، فقال: وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم وهو كلام المنصف في مقابلة غير المشتطّ، وذلك أنه حين فرضه صادقا فقد أثبت أنه صادق في جميع ما يعد به، لكنه أردف بقوله: يصبكم بعض الذي يعدكم ليهضمه بعض حقه في ظاهر الكلام، فيريهم أنه ليس بكلام من أعطاه حقه وافيا، فضلا عن أن يتعصّب له، وتقديم الكاذب على الصادق من هذا القبيل؛ كأنه برطلهم في صدر الكلام بما يزعمونه؛ لئلا ينفروا منه، وكذلك قوله في آخر الآية: إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب أي: هو على الهدى، ولو كان مسرفا كذابا لما هداه الله للنبوّة، ولا عضّده بالبينات، وفي هذا الكلام من خداع الخصم واستدراجه ما لا خفاء به، وقد تضمن من اللطائف الدقيقة ما إذا تأملته حقّ التأمل أعطيته حقه من الوصف. ومما يجري على هذا الأسلوب قوله تعالى: واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا. إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا. يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا، يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا. يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا هذا كلام يهزّ أعطاف السامعين، وفيه من الفوائد ما أذكره، وهو لما أراد إبراهيم عليه السلام أن ينصح أباه ويعظه وينقذه مما كان متورّطا فيه من الخطأ العظيم الذي عصى به أمر العقل؛ رتّب الكلام معه في أحسن نظام، مع استعمال المجاملة واللطف والأدب الحميد والخلق الحسن، مستنصحا في ذلك بنصيحة ربه، وذاك أنه طلب منه أولا العلّة في خطيئته طلب منبّه على تماديه موقظ من غفلته؛ لأن المعبود لو كان حيّا مميزا سميعا بصيرا مقتدرا على الثواب والعقاب إلا أنه بعض الخلق يستخفّ عقل من أهّله للعبادة ووصفه بالربوبية، ولو كان أشرف الخلائق كالملائكة والنبيين، فكيف بمن جعل المعبود جمادا لا يسمع ولا يبصر، يعني به الصنم، ثم ثنّى ذلك بدعوته إلى الحق مترفّقا به، فلم يسم أباه

بالجهل المطلق، ولا نفسه بالعلم الفائق، ولكنه قال: إنّ معي لطائفة من العلم وشيئا منه، وذلك علم الدلالة على سلوك الطريق، فلا تستنكف؛ وهب أني وإياك في مسير، وعندي معرفة بهداية الطريق دونك، فاتّبعني أنجك من أن تضل، ثم ثلّث ذلك بتثبيطه عما كان عليه ونهيه، فقال: إن الشيطان الذي استعصى على ربك وهو عدوّك وعدو أبيك آدم هو الذي ورّطك في هذه الورطة، وألقاك في هذه الضلالة، وإنما ألغى إبراهيم عليه السلام ذكر معاداة الشيطان آدم وذريته في نصيحة أبيه لأنه لإمعانه في الإخلاص لم يذكر من جنايتي الشيطان إلا التي تختص بالله، وهي عصيانه واستكباره، ولم يلتفت إلى ذكر معاداته آدم وذريته، ثم ربّع ذلك بتخويفه إياه سوء العاقبة، فلم يصرّح بأن العقاب لاحق به، ولكنه قال: إني أخاف أن يمسك عذاب فنكر العذاب ملاطفة لأبيه، وصدّر كل نصيحة من هذه النصائح بقوله: يا أبت توسّلا إليه واستعطافا، وهذا بخلاف ما أجابه به أبوه، فإنه قال: أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم فأقبل عليه بفظاظة الكفر، وغلظ العناد، فناداه باسمه، ولم يقابل قوله يا أبت بقوله يا بنيّ وقدّم الخبر على المبتدأ في قوله: أراغب أنت لأنه كان أهمّ عنده، وفيه ضرب من التعجب والإنكار لرغبة إبراهيم عن آلهته. وفي القرآن الكريم مواضع كثيرة من هذا الجنس، لا سيما في مخاطبات الأنبياء صلوات الله عليهم للكفار، والرد عليهم، وفي هذين المثالين المذكورين ههنا كفاية ومقنع. وبلغني حديث تفاوض فيه الحسين بن عليّ رضي الله عنهما ومعاوية بن أبي سفيان في أمر ولده يزيد، وذاك أن معاوية قال للحسين: أما أمّك فاطمة فإنها خير من أمه، وبنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خير من امرأة من كلب، وأما حبّي يزيد فإني لو أعطيت به مثلك ملء الغوطة لما رضيت، وأما أبوك وأبوه فإنهما تحاكما إلى الله فحكم لأبيه على أبيك؛ وهذا كلام من معاوية كلما أمررته بفكري عجبت من سداده، فضلا عن بلاغته وفصاحته، فإن معاوية علم ما لعلي رضي الله عنه من السّبق إلى الإسلام والأثر فيه، وما عنده من فضيلة العلم، فلم يعرض في المنافرة

إلى شيء من ذلك، ولم يقل أيضا: إنّ الله أعطاني الدنيا ونزعها منكم؛ لأن هذا لا فضل فيه؛ إذ الدنيا ينالها البر والفاجر، وإنما صانع عن ذلك كله بقوله: «إن أباك وأباه تحاكما إلى الله فحكم لأبيه على أبيك» وهذا قول إيهامي يوهم شبهة من الحق، وإذا شاء من شاء أن ينافر خصمه ويستدرجه إلى الصمت عن الجواب فليقل هكذا.

النوع الخامس عشر في الإيجاز

النوع الخامس عشر في الإيجاز وهو حذف زيادات الألفاظ؛ وهذا نوع من الكلام شريف لا يتعلق به إلا فرسان البلاغة من سبق إلى غايتها وما صلّى، وضرب في أعلى درجاتها بالقدح المعلّى، وذلك لعلو مكانه، وتعذر إمكانه. والنظر فيه إنما هو إلى المعاني لا إلى الألفاظ، ولست أعني بذلك أن تهمل الألفاظ بحيث تعرى عن أوصافها الحسنة، بل أعني أن مدار النظر في هذا النوع إنما يختصّ بالمعاني؛ فربّ لفظ قليل يدل على معنى كثير، وربّ لفظ كثير يدل على معنى قليل، ومثال هذا كالجوهرة الواحدة بالنسبة إلى الدراهم الكثيرة؛ فمن ينظر إلى طول الألفاظ يؤثر الدراهم بكثرتها، ومن ينظر إلى شرف المعاني يؤثر الجوهرة الواحدة لنفاستها، ولهذا سمّى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الفاتحة أم الكتاب، وإذا نظرنا الى مجموعها وجدناه يسيرا، وليست من الكثرة إلى غاية تكون بها أم البقرة وآل عمران وغيرها من السور الطوال؛ فعلمنا حينئذ أن ذلك الأمر يرجع إلى معانيها. والكلام في هذا الموضع يخرج بنا إلى غير ما نحن بصدده؛ لأنه يحتاج فيه إلى ذكر المراد بالقرآن الكريم وما يشتمل عليه سوره وآياته إلى حصر أقسام معانيه، لكنا نشير في ذلك إشارة خفيفة؛ فنقول: المراد بالقرآن هو دعوة العباد إلى الله تعالى، ولذلك انحصرت سوره وآياته في ستة أقسام: ثلاثة منها هي الأصول، وثلاثة هي الفروع. أما الأصول فالأول منها: تعريف المدعوّ إليه، وهو الله تعالى، ويشتمل هذا الأصل على ذكر ذاته وصفاته وأفعاله؛ والأصل الثاني: تعريف الصراط المستقيم الذي تجب ملازمته في السلوك إلى الله تعالى ويشتمل هذا الأصل على التّبتّل بعبادة الله بأفعال القلب وأفعال الجوارح؛ والأصل الثالث: تعريف الحال بعد الوصول إلى

الله تعالى، أعني بعد الموت، ويشتمل هذا الأصل على تفصيل أحوال الدار الآخرة من الجنة والنار والصراط والميزان والحساب، وأشباه ذلك؛ فهذه الأصول الثلاثة. وأما الفروع فالأول منها: تعريف أحوال المجيبين للدعوة، ولطائف صنع الله بهم من النّصرة والإدالة، وتعريف أحوال المخالفين للدعوة والمحادّين لها، وكيفية صنع الله في التّدمير عليهم والتنكير بهم، والفرع الثاني: ذكر مجادلة الخصوم ومحاجّتهم، وحملهم بالمجادلة والمحاجّة على طريق الحق، وهؤلاء هم اليهود والنصارى ومن يجري مجراهم من أرباب الشرائع، والفلاسفة والملحدة من غير أرباب الشرائع؛ والفرع الثالث: تعريف عمارة منازل الطريق، وكيفية أخذ الزاد والأهبة للاستعداد، وذاك قياس الشريعة، وتبيين الحكمة في أوامرها التي تتعلق بأفعال أهل التكليف. فهذه الأقسام الستة المشار إليها هي التي تدور معاني القرآن عليها ولا تتعداها وههنا تقسيم آخر يطول الخطب فيه، ولا حاجة إلى ذكره. وإذا نظرنا إلى سورة الفاتحة وتأمّلنا ما فيها من المعاني وجدناها مشتملة على أربعة أقسام من الستة المذكورة، ولذلك سماها النبي صلّى الله عليه وسلّم «أم الكتاب» كما أنه قال: «إن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن» وإذا نظرنا في الأقسام الستة وجدنا سورة الإخلاص بمنزلة ثلث القرآن، وكذلك قال صلّى الله عليه وسلّم: «آية الكرسي سيدة آي القرآن» ويروى أنه سأل أبيّ بن كعب رضي الله عنه فقال: «أي آية معك في كتاب الله أعظم؟» فقال: الله لا إله إلا هو الحي القيوم؛ فضرب في صدره، وقال: ليهنك العلم أبا المنذر» وكل هذا يرجع إلى المعاني لا إلى الألفاظ، فاعرف ذلك وبينه لرموزه وأسراره. واعلم أن جماعة من مدّعي علم البيان ذهبوا إلى أن الكلام ينقسم قسمين: فمنه ما يحسن فيه الإيجاز كالأشعار والمكاتبات، ومنه ما يحسن فيه التطويل كالخطب والتقليدات وكتب الفتوح التي تقرأ في ملإ من عوامّ الناس؛ فإن الكلام إذا طال في مثل ذلك أثر عندهم وأفهمهم، ولو اقتصر فيه على الإيجاز والإشارة لم

يقع لأكثرهم حتى يقال في ذكر الحرب: التقى الجمعان، وتطاعن الفريقان، واشتد القتال، وحمي النضال، وما جرى هذا المجرى. والمذهب عندي في ذلك ما أذكره، وهو أن فهم العامة ليس شرطا معتبرا في اختيار الكلام؛ لأنه لو كان شرطا لوجب على قياسه أن يستعمل في الكلام الألفاظ العامية المبتذلة عندهم؛ ليكون ذلك أقرب إلى فهمهم؛ لأن العلة في اختيار تطويل الكلام إذا كانت فهم العامة إياه فكذلك تجعل تلك العلة بعينها في اختيار المبتذل من الكلام؛ فإنه لا خلاف في أن العامة إلى فهمه أقرب من فهم ما يقل ابتذالهم إياه، وهذا شيء مدفوع، وأما الذي يجب توخّيه واعتماده فهو أن يسلك المذهب القويم في تركيب الألفاظ على المعاني، بحيث لا تزيد هذه على هذه، مع الإيضاح والإبانة، وليس على مستعمل ذلك أن يفهم العامة كلامه؛ فإن نور الشمس إذا لم يره الأعمى لا يكون ذلك نقصا في استنارته، وإنما النقص في بصر الأعمى حيث لم يستطع النظر إليه: عليّ نحت القوافي من معادنها ... وما عليّ بأن لا تفهم البقر وحيث انتهى بنا القول إلى هذا الموضع فلنرجع إلى ما هو غرضنا ومهمنا من الكلام على الإيجاز، وحدّه وأقسامه، ونوضح ذلك إيضاحا جليا، والله الموفق للصواب. فنقول: حدّ الإيجاز هو دلالة اللفظ على المعنى من غير أن يزيد عليه، والتطويل هو ضد ذلك، وهو أن يدلّ المعنى بلفظ يكفيك بعضه في الدلالة عليه، كقول الهجير السّلولي من أبيات الحماسة «1» : طلوع الثّنايا بالمطايا وسابق ... إلى غاية من يبتدرها يقدّم «2»

فصدر هذا البيت فيه تطويل لا حاجة إليه، وعجزه من محاسن الكلام المتواصفة، وموضع التطويل من صدره أنه قال: «طلوع الثنايا بالمطايا» فإن لفظة المطايا فضلة لا حاجة إليها، وبيان ذلك أنه لا يخلو الأمر فيها من وجهين: إما أن يريد أنه سابق الهمة إلى معالي الأمور، كما قال الحجاج على المنبر عند وصوله العراق: أنا ابن جلا وطلّاع الثّنايا أي: أنا الرجل المشهور السابق إلى معالي الأمور؛ فإن أراد العجير بقوله «طلوع الثنايا» ما أشرت إليه فذكر المطايا يفسد ذلك المعنى؛ لأن معالي الأمور لا يرقى إليها بالمطايا، وإن أراد الوجه الآخر، وهو أنه كثير الأسفار؛ فاختصاصه الثنايا بالذكر دون الأرض من المفاوز وغيرها لا فائدة فيه، وعلى كلا الوجهين فإن ذكر المطايا فضلة لا حاجة إليه، وهو تطويل بارد غثّ. فقس على هذا المثال ما يجري مجراه من التطويلات التي إذا أسقطت من الكلام بقي على حاله لم يتغير شيء. وكذلك يجري الأمر في ألفاظ يوصل بها الكلام؛ فتارة تجيء لفائدة، وذلك قليل، وتارة تجيء لغير فائدة، وذلك كثير؛ وأكثر ما ترد في الأشعار ليوزن بها الأبيات الشعرية، وذلك نحو قولهم: لعمري، ولعمرك، ونحو أصبح وأمسى وظلّ وأضحى وبات، وأشباه ذلك، ونحو يا صاحبي ويا خليلي، وما يجري هذا المجرى. فمما جاء منه قول أبي تمام «1» : أقرّوا لعمري لحكم السّيوف ... وكانت أحقّ بفضل القضاء «2»

فإن قوله «لعمري» زيادة لا حاجة للمعنى إليها، وهي حشو في هذا البيت، لا فائدة فيه إلا إصلاح الوزن لا غير، ألا ترى أنها من باب القسم، وإنما يرد القسم في موضع يؤكد به المعنى المراد، إمّا لأنه مما يشك فيه أو مما يعزّ وجوده أو ما جرى هذا المجرى، وهذا البيت الشعري لا يفتقر معناه إلى توكيد قسميّ؛ إذ لا شك في أن السيوف حاكمة، وأن كل أحد يقرّ لحكمها، ويذعن لطاعتها وكذلك قوله أيضا «1» . إذا أنا لم ألم عثرات دهر ... بليت به الغداة فمن ألوم فقوله «الغداة» زيادة لا حاجة للمعنى إليها؛ لأنه يتم بدونها؛ لأن عثرات الدهر لم تنله الغداة ولا العشي، وإنما نالته، ونيلها إياه لا بد وأن يقع في زمن من الأزمنة كائنا ما كان، ولا حاجة إلى تعيينه بالذكر. وعلى هذا ورد قول البحتري «2» : ما أحسن الأيّام إلّا أنّها ... يا صاحبيّ إذا مضت لم ترجع «3» فقوله «يا صاحبي» زيادة لا حاجة بالمعنى إليها؛ إلا أنها وردت لتصحيح الوزن لا غير. وهذه الألفاظ التي ترد في الأبيات الشعرية لتصحيح الوزن لا عيب فيها، لأنا لو عبناها على الشعراء لحجّرنا عليهم وضيقنا، والوزن يضطر في بعض الأحوال إلى مثل ذلك، لكن أذا وردت في الكلام المنثور فإنها إن وردت حشوا ولم ترد لفائدة كانت عيبا.

وقد ترد في الأبيات الشعرية ويكون ورودها لفائدة وذلك هو الأحسن، كقول البحتري «1» : قوم أهانوا الوفر حتّى أصبحوا ... أولى الأنام بكلّ عرض وافر «2» فقوله «أصبحوا» بمعنى صاروا: أي أنهم صاروا أولى الناس بالأعراض الوافرة، وهذه اللفظة لم ترد في هذا البيت حشوا كما وردت في بيتي أبي تمام المقدم ذكرهما. وسأزيد هذا الموضع بيانا بمثال أضربه للتطويل، حتى يستدل به على أمثاله وأشباهه، والمثال الذي أضربه هو حكاية أوردت بمحضر مني، وذاك أنه جلس إليّ في بعض الأيام جماعة من الإخوان، وأخذوا في مفاوضة الأحاديث، وانساق ذلك إلى ذكر غرائب الوقائع التي تقع في العالم، فذكر كل من الجماعة شيئا، فقال شخص منهم: إني كنت بالجزيرة العمرية في زمن الملك فلان، وكنت إذ ذاك صبيا صغيرا، فاجتمعت أنا ونفر من الصبيان في الحارة الفلانية، وصعدنا ألى سطح طاحون لبني فلان، وأخذنا نلعب على السطح، فوقع صبي منا الى أرض الطاحون، فوطئه بغل من بغال الطاحون، فخفنا أن يكون آذاه، فأسرعنا النزول إليه، فوجدناه قد وطئه البغل؛ فختنه ختانة صحيحة حسنة لا يستطيع الصانع الحاذق أن يفعل خيرا منها؛ فقال له شخص من الحاضرين: والله إن هذا عيّ فاحش، وتطويل كثير لا حاجة إليه؛ فإنه بصدد أن تذكر أنك كنت صبيا تلعب مع الصبيان على سطح طاحون فوقع صبي منكم إلى أرض الطاحون، فوطئه بغل من

بغال الطاحون فختنه ولم يؤذه، ولا فرق بين أن تكون هذه الواقعة في بلد نعرفه أو في بلد لا نعرفه، ولو كانت بأقصى المشرق أو بأقصى المغرب لم يكن ذلك قدحا في غرابتها، وأما أن تذكر أنها كانت بالجزيرة العمرية في الحارة الفلانية في طاحون بني فلان، وكان زمن الملك فلان، فإن مثل هذا كله تطويل لا حاجة إليه، والمعنى المقصود يفهم بدونه. فاعلم أيها الناظر في كتابي هذا أن التطويل هو زيادات الألفاظ في الدلالة على المعاني، ومهما أمكنك حذف شيء من اللفظ في الدلالة على معنى من المعاني فإن ذلك اللفظ هو التطويل بعينه. وأما الإيجاز فقد عرفتك أنه دلالة اللفظ على المعنى، من غير أن يزيد عليه. وهو ينقسم قسمين: أحدهما: الإيجاز بالحذف، وهو ما يحذف منه المفرد، والجملة؛ لدلالة فحوى الكلام على المحذوف، ولا يكون إلا فيما زاد معناه على لفظه؛ والقسم الآخر: ما لا يحذف منه شيء، وهو ضربان: أحدهما: مأساوي لفظه معناه، ويسمى التقدير، والآخر ما زاد معناه على لفظه، ويسمى القصر. واعلم أن القسم الأول الذي هو الإيجاز بالحذف يتنبه له من غير كبير كلفه في استخراجه؛ لمكان المحذوف منه. وأما القسم الثاني فإن التنبه له عسر؛ لأنه يحتاج إلى فضل تأمل، وطول فكرة؛ لخفاء ما يستدل عليه، ولا يستنبط ذلك إلا من رست قدمه في ممارسة علم البيان، وصار له خليفة وملكة، ولم أجد أحدا علّم هذين القسمين بعلامة، ولا قيّدهما بقيد، وقد أشرت إلى ذلك فيما يأتي من هذا الباب عند تفصيل أمثلتهما فليؤخذ من هناك. فإن قيل: إن هذا التقسيم الذي قسمته في المحذوف وغير المحذوف ليس بصحيح؛ لأن المعاني ليس أجساما كالألفاظ حتى يصحّ التقدير بينهما، ثم لو سلمت جواز التقدير في المساواة لم أسلّم جواز الزيادة، فليس لقائل أن يقول: هذا المعنى زائد على هذا اللفظ؛ لأنه إن قال ذلك قيل: فمن أين فهمت تلك الزيادة الخارجة عن اللفظ، وقد علم أن الألفاظ إنما وضعت للدلالة على إفهام المعاني،

فإن قال: إنها فهمت من شيء خارج عن اللفظ، قيل له: فتلك الزيادة بإزاء ذلك الشيء الخارج عن اللفظ، والباقي مساو للفظ، وإن قال: إنها فهمت من اللفظ، قيل: فكيف تفهم منه وهي زائدة عليه؟ فإن قال: إنها فهمت من تركيبه، لأن التركيب أمر زائد على اللفظ، قيل: الألفاظ تدلّ بانفرادها على معنى، وبتركيبها على معنى آخر، واللفظ المركب يدلّ على معنى مركب، واللفظ المفرد يدلّ على معنى مفرد، وتلك الزيادة إن أريد بها زيادة معنى المركب على المركب فلا يخلو: إما أن تكون تلك الزيادة مفهومة من دلالة اللفظ المركب عليها، أو من دلالة شيء خارج؛ فإن كانت مفهومه من دلالته عليها لم تكن زائدة عليه؛ إذ لو كانت زائدة عليه لما دلّ عليها، وإن كانت مفهومة من دلالة الشيء الخارج عنه فهي بإزاء ذلك الشيء الخارج، والباقي مساو للباقي. فالجواب عن ذلك أن نقول: هذا الذي ذكره كلام شبيه بالسفسطة، وهو باطل من وجهين: أحدهما: أن المعاني إذا كانت لا تزيد على الألفاظ فيلزم من ذلك أن الألفاظ لا تزيد أيضا على المعاني؛ لأنهما متلازمان على قياسك، ونحن نرى معنى قد دلّ عليه بألفاظ، فإذا أسقط من تلك الألفاظ شيء لا ينقص ذلك المعنى، بل يبقى على حاله، والوجه الآخر: إن الإيجاز بالحذف أقوى دليلا على زيادة المعاني على الألفاظ؛ لأنا نرى اللفظ يدلّ على معنى لم يتضمنه، وفهم ذلك المعنى ضرورة لا بد منه، فعلمنا حينئذ أن ذلك المعنى الزائد على اللفظ مفهوم من دلالته عليه. فإن قيل: إن المعنى الزائد على اللفظ المحذوف لا بد له من تقدير لفظ آخر يدل عليه، وتلك الزيادة بإزاء ذلك اللفظ المقدر. قلت في الجواب عن ذلك: هذا لا ينقض ما ذهبت إليه من زيادة المعنى على اللفظ؛ لأن المعنى ظاهر، واللفظ الدال عليه مضمر، وإذا كان مضمرا فلا ينطق به، وإذا لم ينطق به فكأنه لم يكن، وحينئذ يبقى المعنى موجودا، واللفظ الدال عليه غير موجود، وكذلك كل ما يعلم من المعاني بمفهوم الخطاب؛ ألا ترى أنك إذا قلت لمن دخل عليك: أهلا وسهلا، علم أن الأهل والسهل منصوبان بعامل محذوف تقديره وجدت أهلا ولقيت سهلا، إلا أن لفظتي وجدت ولقيت

محذوفتان، والمعنى الذي دلّا عليه باق، فصار المعنى حينئذ مفهوما مع حذفهما فهو إذا زائد لا محالة، وكذلك جميع المحذوفات على اختلافها وتشعّب مقاصدها، وهذا لا نزاع فيه؛ لبيانه ووضوحه. وقد سنح لي في زيادة المعنى على اللفظ في غير المحذوفات دليل أنا ذاكره، وهو أنا نجد من الكلام ما يدل على معنيين وثلاثة، واللفظ واحد، والمعاني التي تحته متعددة. فأما الذي يدل على معنيين فالكنايات جميعها، كالذي ورد في الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وعن أصحابه رضي الله عنهم أنهم كانوا إذا خرجوا من عنده لا يتفرقون إلا عن ذواق، وهذا يدلّ على معنيين: أحدهما: إطعام الطعام: أي أنهم لا يخرجون من عنده حتى يطعموا، الآخر: أنهم لا يتفرقون إلا عن استفادة علم وأدب يقوم لأنفسهم مقام الطعام لأجسامهم. وأما الذي يدل على ثلاثة معان فكقول أبي الطيب المتنبي «1» : وأظلم أهل الظّلم من بات حاسدا ... لمن بات في نعمائه يتقلّب فهذا يدلّ على ثلاثة معان: الأول: أنه يحسد من أنعم عليه، الثاني: ضد الأول، الثالث: أنه يحسد كل ربّ نعمة كائنا من كان: أي يحسد من بات في نعماء نفسه يتقلب. وهذا وأمثاله من أدلّ الدليل على زيادة المعنى على اللفظ، وهو شيء استخرجته، ولم يكن لأحد فيه قول سابق. وحيث فرغنا من الكلام على هذا الموضع فلنتبعه بذكر أقسام الإيجاز المشار إليها أولا وما ينصرف إليه؛ فنقول: أما الإيجاز بالحذف فإنه عجيب الأمر، شبيه

فأما القسم الأول، وهو الذي تحذف منه الجمل؛

بالسحر، وذاك أنك ترى فيه ترك الذكر أفصح من الذكر، والصّمت عن الإفادة أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون مبينا إذا لم تبين، وهذه جملة تنكرها حتى تخبر، وتدفعها حتى تنظر. والأصل في المحذوفات جميعها على اختلاف ضروبها أن يكون في الكلام ما يدلّ على المحذوف؛ فإن لم يكن هناك دليل على المحذوف فإنه لغو من الحديث لا يجوز بوجه، ولا سبب، ومن شرط المحذوف في حكم البلاغة أنه متى أظهر صار الكلام الى شيء غثّ لا يناسب ما كان عليه أولا من الطلاوة والحسن؛ وقد يظهر المحذوف بالإعراب كقولنا: وسهلا، فإن نصب الأهل والسهل يدلّ على ناصب محذوف، وليس لهذا من الحسن ما للذي لا يظهر بالإعراب، وإنما يظهر بالنظر إلى تمام المعنى، كقولنا: فلان يحلّ ويعقد؛ فإن ذلك لا يظهر المحذوف فيه بالإعراب، وإنما يظهر بالنظر إلى تمام المعنى: أي أنه يحلّ الأمور ويعقدها، والذي يظهر بالإعراب يقع في المفردات من المحذوفات كثيرا، والذي لا يظهر بالإعراب يقع في الجمل من المحذوفات كثيرا. وسأذكر في كتابي هذا ما وصل إليّ علمه، وهو ينقسم قسمين: أحدهما: حذف الجمل، والآخر: حذف المفردات، وقد يرد كلام في بعض المواضع ويكون مشتملا على القسمين معا. فأما القسم الأول، وهو الذي تحذف منه الجمل؛ فإنه ينقسم ألى قسمين أيضا: أحدهما: حذف الجمل المفيدة التي تستقل بنفسها كلاما، وهذا أحسن المحذوفات جميعها، وأدّلها على الاختصار، ولا تكاد تجده إلا في كتاب الله تعالى؛ والقسم الآخر: حذف الجمل غير المفيدة، وقد وردا ههنا مختلطين، وجملتهما أربعة أضرب: الضرب الأول: حذف السؤال المقدر، ويسمى الاستئناف، ويأتي على وجهين: الوجه الأول: إعادة الأسماء والصفات، وهذا يجيء تارة باعادة اسم من تقدم

الوجه الثاني:

الحديث عنه، كقولك: أحسنت إلى زيد زيد حقيق بالإحسان، وتارة يجيء بإعادة صفته، كقولك: أحسنت إلى زيد صديقك القديم أهل لذلك منك؛ وهو أحسن من الأول وأبلغ؛ لانطوائه على بيان الموجب للإحسان وتخصيصه. فممّا ورد من ذلك قوله تعالى: الم. ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين. الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون. أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون والاستئناف واقع في هذا الكلام على أولئك لأنه لما قال ألم ذلك الكتاب إلى قوله بالآخرة هم يوقنون اتجه لسائل أن يقول: ما بال المستقلين بهذه الصفات قد اختصوا بالهدى؟ فأجيب بأنّ أولئك الموصوفين غير مستبعد أن يفوزوا دون الناس بالهدى عاجلا وبالفلاح آجلا. الوجه الثاني: الاستئناف بغير إعادة الأسماء والصفات، وذلك كقوله تعالى: وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون. أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون. إني إذا لفي ضلال مبين. إني آمنت بربكم فاسمعون. قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون. بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين فمخرج هذا القول مخرج الاستئناف؛ لأن ذلك من مظان المسألة عن حاله عند لقاء ربه، وكأن قائلا قال: كيف حال هذا الرجل عند لقاء ربه بعد ذلك التصلب في دينه والتسخي لوجهه بروحه؟ فقيل: قيل ادخل الجنة؛ ولم يقل قيل له لانصباب الغرض إلى المقول لا إلى المقول له مع كونه معلوما، وكذلك قوله تعالى يا ليت قومي يعلمون مرتّب على تقدير سؤال سائل عما وجد. ومن هذا النحو قوله عز وجل: يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون. من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب والفرق بين إثبات الفاء في سوف كقوله تعالى: قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون. من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم وبين حذف الفاء ههنا في هذه الآية أن إثباتها وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل،

الضرب الثاني:

وحذفها وصل خفي تقديري بالاستئناف الذي هو جواب لسؤال مقدر، كأنهم قالوا: فماذا يكون إذا عملنا نحن على مكانتنا وعملت أنت؟ فقال: سوف تعلمون، فوصل تارة بالفاء، وتارة بالاستئناف؛ للتفنن في البلاغة، وأقوى الوصلين وأبلغهما الاستئناف؛ وهو قسم من أقسام علم البيان تتكاثر محاسنه، فاعرفه إن شاء الله تعالى. الضرب الثاني: الاكتفاء بالسبب عن المسبب، وبالمسبب عن السبب: فأما الاكتفاء بالسبب عن المسبب فكقوله تعالى: وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين. ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر كأنه قال: وما كنت شاهدا لموسى وما جرى له وعليه ولكنا أوحيناه إليك، فذكر سبب الوحي الذي هو إطالة الفترة، ودل به على المسبب الذي هو الوحي، على عادة اختصارات القرآن؛ لأن تقدير الكلام: ولكنا أنشأنا بعد عهد الوحي إلى موسى إلى عهدك قرونا كثيرة فتطاول على آخرهم- وهو القرن الذي أنت فيهم- العمر: أي أمد انقطاع الوحي، فاندرست العلوم، فوجب إرسالك إليهم، فأرسلناك، وعرفناك العلم بقصص الأنبياء وقصة موسى؛ فالمحذوف إذا جملة مفيدة، وهي جملة مطولة دل السبب فيها على المسبب. وكذلك ورد قوله تعالى عقيب هذه الآية أيضا: وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون فإن في هذا الكلام محذوفا لولاه لما فهم، لأنه قال: وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك وهذا لا بد له من محذوف حتى يستقيم نظم الكلام، وتقديره: ولكن عرفناك ذلك وأوحيناه إليك رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك؛ فذكر الرحمة التي هي سبب إرساله ألى الناس، ودل بها على المسبب الذي هو الإرسال. وأما حذف الجملة غير المفيدة من هذا الضرب فنحو قوله تعالى حكاية عن مريم عليها السلام: قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا. قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا

فقوله ولنجعله آية للناس تعليل معلّله محذوف: أي وإنما فعلنا ذلك لنجعله آية للناس، فذكر السبب الذي صدر الفعل من أجله، وهو جعله آية للناس، ودل به على المسبب الذي هو الفعل. ومما ورد من ذلك في الأخبار النبوية قصة الزبير بن العوام رضي الله عنه والرجل الأنصاري الذي خاصمه في شراح الحرة التي يسقي منها النخل، فلما حضرا بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال للزبير: «اسق ثمّ أرسل الماء إلى جارك» فغضب الأنصاري، وقال: يا رسول الله؛ أن كان ابن عمتك، فتلوّن وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال: «اسق يا زبير ثمّ احبس الماء حتّى يرجع إلى الجدر» وفي هذا الكلام محذوف تقديره: أن كان ابن عمتك حكمت له، أو قضيت له، أو ماجرى هذا المجرى، فذكر السبب الذي هو كونه ابن عمته، ودل به على المسبب الذي هو الحكم أو القضاء؛ لدلالة الكلام عليه. وأما الاكتفاء بالمسبب عن السبب فكقوله تعالى: فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم أي: إذا أردت قراءة القرآن، فاكتفى بالمسبب الذي هو القراءة عن السبب الذي هو الإرادة، والدليل على ذلك أنّ الاستعاذة قبل القراءة، والذي دلّت عليه أنها بعد القراءة، كقول القائل: إذا ضربت زيدا فاجلس؛ فإن الجلوس إنما يكون بعد الضرب، لا قبله، وهذا أولى من تأول من ذهب إلى أنه أراد فإذا تعوذت فاقرأ، فإن ذلك قلبا لا ضرورة تدعو إليه، وأيضا فليس كل مستعيذ واجبة عليه القراءة. وعلى هذا ورد قوله تعالى: إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم والوضوء إنما يكون قبل الصلاة، لا عند القيام إليها؛ لأن القيام إليها هو مباشرة لأفعالها من الركوع والسجود والقراءة وغير ذلك، وهذا إنما يكون بعد الوضوء، وتأويل الآية إذا أردت القيام الى الصلاة فاغسل، فاكتفى بالمسبب عن السبب. وكذلك ورد قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا قام أحدكم إلى الصّلاة فليتوضّأ» أي: إذا أراد القيام إلى الصلاة، وإنما يعبر عن إرادة الفعل بلفظ الفعل لأن الفعل مسبب عن الإرادة، وهو مع القصد إليه موجود، فكان منه بسبب وملابسة ظاهرة.

الضرب الثالث:

ومن ذلك قوله تعالى: فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا أي: فضرب فانفجرت منه، فاكتفى بالمسبب الذي هو الانفجار عن السبب الذي هو الضرب. الضرب الثالث: وهو الإضمار على شريطة التفسير، وهو أن يحذف من صدر الكلام ما يؤتى به في آخره؛ فيكون الآخر دليلا على الأول. وهو ينقسم ألى ثلاثة أوجه: الأول: أن يأتي على طريق الاستفهام، فتذكر الجملة الأولى دون الثانية، كقوله تعالى: أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين تقدير الآية: أفمن شرح الله صدره للإسلام كمن أقسى قلبه، ويدل على المحذوف قوله: فويل للقاسية قلوبهم. الوجه الثاني: يرد على حدّ النفى والإثبات، كقوله تعالى: لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا تقديره: لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل ومن أنفق من بعده وقاتل، ويدل على المحذوف قوله: أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا. الوجه الثالث: أن يرد على غير هذين الوجهين؛ فلا يكون استفهاما، ولا نفيا وإثباتا، وذلك كقول أبي تمام «1» : يتجنّب الآثام ثمّ يخافها ... فكأنّما حسناته آثام وهذا البيت تختلف نسخ ديوانه في إثباته؛ فمنها ما يجيء فيه: يتجنّب الأيّام خيفة غيّها ... فكأنّما حسناته آثام

الضرب الرابع:

وليس بشيء؛ لأن المعنى لا يصح به، وكنت سئلت عن معناه، وقيل: كيف ينطبق عجز البيت على صدره، وإذا تجنب الآثام وخافها فكيف تكون حسناته آثاما؟ فأفكرت فيه وأنعمت نظري فسنح لي في القرآن الكريم آية مثله، وهي قوله تعالى: والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة وفي صدر البيت إضمار فسّر في عجزه، وتقديره أنه يتجنب الآثام فيكون قد أتى بحسنة، ثم يخاف تلك الحسنة، فكأنما حسناته آثام، وهو على طباق الآية سواء. ومن الإضمار على شريطة التفسير قول أبي نواس: سنّة العشّاق واحدة ... فإذا أحببت فاستكن فحذف لفظ الاستكانة من الأول، وذكره في الثاني: أي سنة العشاق واحدة، وهي الاستكانة، فإذا أحببت فاستكن، ومن الناس من يقول: «فإذا أحببت فاستنن» وهذا لا معنى له؛ لأنه إذا لم يبين سنة العشاق ما هي فبأي شيء يستنّ المستنّ منها؛ لكنه ذكر السنة في صدر البيت من غير بيان ثم بينها في عجزه. الضرب الرابع: ما ليس بسبب ولا مسبب، ولا إضمار على شريطة التفسير، ولا استئناف. فأما ما حذف فيه من الجمل المفيدة، فكقوله تعالى في سورة يوسف عليه السلام: قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون. ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون. ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون. وقال الملك ائتوني به قد حذف من هذا الكلام جملة مفيدة، تقديرها: فرجع الرسول إليهم فأخبرهم بمقالة يوسف، فعجبوا لها، أو فصدقوه عليها، وقال الملك ائتوني به، والمحذوف إذا كان كذلك دلّ عليه الكلام دلالة ظاهرة؛ لأنه إذا ثبتت حاشيتا الكلام وحذف وسطه ظهر المحذوف؛ دلالة الحاشيتين عليه. وكذلك ورد قوله تعالى في هذه السورة أيضا: فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا. قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون. قالوا يا أبانا

استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين. قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين قد حذف أيضا من هذا الكلام جملة مفيدة، تقديرها: ثم إنهم تجهّزوا وساروا الى مصر، فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه. وقد ورد هذا الضرب في القرآن الكريم كثيرا، كقوله تعالى في سورة القصص: وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون فرددناه إلى أمه كي تقر عينها في هذا محذوف، وهو جواب الاستفهام؛ لأنها لما قالت: هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم احتاج الى جواب لينتظم بما بعده من ردّه ألى أمه، والجواب: فقالوا نعم، فدلّتهم على امرأة، فجيء بها وهي أمه ولم يعلموا بمكانها، فأرضعته، وهذه الجملة الثاينة- أعني قوله تعالى: فرددناه إلى أمه - تدلّ على المحذوف؛ لأنّ ردّه إلى أمه لم يكن إلا بعد ردّ الجواب على أخته، ودلالتها إياهم على امرأة ترضعه، ويكفي هذا الموضع وحده لمن يتبصر في مواقع المحذوفات وكيفيتها. ومما يجري على هذا المنهج قوله تعالى في قصة سليمان عليه السلام وقصة الهدهد في إرساله بالكتاب إلى بلقيس قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين. اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون. قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم وفي هذا محذوف، تقديره: فأخذ الكتاب وذهب به، فلما ألقاه إلى المرأة وقرأته قالت يا أيها الملأ. ومن حذف الجمل المفيدة ما يعسر تقدير المحذوف منه، بخلاف ما تقدم، ألا ترى أنّ الآيات المذكورة كلها إذا تأملها المتأمل وجد معانيها متصلة من غير تقدير للمحذوفات التي حذفت منها، ثم إذا قدر تلك المحذوفات سهل تقديرها ببديهة النظر، والذي أذكره الآن ليس كذلك، بل إذا تأمله المتأمل وجده غير متصل المعنى، وإذا أراد أن يقدر المحذوف عسر عليه. فمما جاء منه قوله تعالى: وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من

فواق، وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب. اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب فهذا الكلام إذا تأمله المتأمل لم يجده متصل المعنى، ولم يتبين له مجيء ذكر داود عليه السلام ردفا لقوله تعالى: اصبر على ما يقولون وإذا أراد أن يقدر ههنا محذوفا يوصل به المعنى عسر عليه، وتقديره يحتمل وجهين: أحدهما: أنه قال: اصبر على ما يقولون وخوّفهم أمر معصية الله وعظّمها في عيونهم بذكر قصة داود الذي كان نبيّا من الأنبياء وقد آتاه الله ما آتاه من النبوة والملك العظيم، ثم لما زلّ زلّة قوبل بكذا وكذا، فما الظن بكم أنتم مع كفركم؟ الوجه الآخر: أنه قال: اصبر على ما يقولون واحفظ نفسك أن تزلّ في شيء مما كلّفته من مصابرتهم واحتمال أذاهم، واذكر أخاك داود وكرامته على الله كيف زلّ تلك الزلّة فلقي من توبيخ الله ما لقي؛ فهذا الكلام كما تراه يحتاج إلى تقدير حتى يتصل بعضه ببعض، وهو من أغمض ما يأتي من المحذوفات، وبه يتنبه على مواضع أخرى غامضة. وأما ما ورد من هذا الضرب في حذف الجمل التي ليست بمفيدة فنحو قوله تعالى: يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا. قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا. قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا. قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا. فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا. يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا هذا الكلام قد حذف منه جملة دلّ عليها صدره، وهو البشرى بالغلام، وتقديرها: ولما جاءه الغلام ونشأ وترعرع قلنا له: يا يحيى خذ الكتاب بقوّة، فالجملة المحذوفة ليس من الجمل المفيدة. على هذا النهج ورد قوله تعالى: ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى. قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن أفعصيت أمري

يا بن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي وقد حذف من هذا الكلام جملة، إلا أنها غير مفيدة، وتقديرها: فلما رجع موسى ورآهم على تلك الحال من عبادة العجل قال لأخيه هرون: ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألّا تتبعني. وكذلك ورد قوله تعالى في قصة سليمان عليه السلام من سورة النمل: قال يا أيها الملؤا أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين. قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين. قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون وفي هذا محذوف، وتقديره: فلما جاء به قال نكروا لها عرشها؛ لأن تنكيره لم يكن إلا بعد أن جيء به إليه، وقد أغنى عن المحذوف صدر الكلام وآخره، وكان ذلك دليلا عليه. ومما ورد على ذلك شعرا قول أبي الطيب المتنبي «1» : لا أبغض العيس لكنّي وقيت بها ... قلبي من الهمّ أو جسمي من السّقم وهذا البيت فيه محذوف، تقديره: لا أبغض العيس لإنضائي إيّاها في الأسفار، ولكني وقيت بها كذا وكذا؛ فالثاني دليل على حذف الأول. وهذا موضع يحتاج في استخراجه واستخراج أمثاله إلى فكرة وتدقيق نظر. وممّا يتصل بهذا الضرب حذف ما يجيء بعد أفعل؛ كقولنا: «الله أكبر» فإنّ هذا يحتاج إلى تمام: أي أكبر من كل كبير، أو أكبر من كل شيء يتوهم كبيرا، أو ما جرى هذا المجرى، ومثله يرد قولهم: زيد أحسن وجها، وأكرم خلقا، تقديره أحسن وجها من غيره، وأكرم خلقا من غيره، أو ما يسدّ هذا المسد من الكلام.

أما القسم الثاني المشتمل على حذف المفردات

وعليه ورد قول البحتري «1» : الله أعطاك المحبّة في الورى ... وحباك بالفضل الّذي لا ينكر ولأنت أملأ في العيون لديهم ... وأجلّ قدرا في الصّدور وأكبر أي: أنت أملأ في العيون من غيرك. أما القسم الثاني المشتمل على حذف المفردات فإنه يتصرف على أربعة عشر ضربا: الأول: حذف الفاعل، والاكتفاء في الدلالة عليه بذكر الفعل، كقول العرب: أرسلت، وهم يريدون جاء المطر؛ ولا يذكرون السماء، ومنه قول حاتم: أماويّ؛ ما يغني الثّراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصّدر يريد النفس، ولم يجر لها ذكر وعلى هذا ورد قوله تعالى: كلا إذا بلغت التراقي وقيل من راق والضمير في بلغت للنفس، ولم يجر لها ذكر. وقد نص عثمان بن جني رحمه الله تعالى على عدم الجواز في حذف الفاعل، وهذه الآية وهذا البيت الشعري وهذه الكلمة الواردة عن العرب على خلاف «2» ما ذهب إليه، إلّا أن حذف الفاعل لا يجوز على الإطلاق، بل يجوز فيما

الضرب الثاني:

هذا سبيله؛ وذاك أنه لا يكون إلا فيما دل الكلام عليه، ألا ترى أن التي تبلغ التراقي إنما هي النفس، وذلك عند الموت، فعلم حينئذ أن النفس هي المرادة، وإن كان الكلام خاليا عن ذكرها، وكذلك قول حاتم «حشرجت» فإن الحشرجة إنما تكون عند الموت. وأما قول العرب «أرسلت» وهم يريدون أرسلت السماء فإن هذا يقولونه نظرا إلى الحال، وقد شاع فيما بينهم أن هذه كلمة تقال عند مجيء المطر، ولم ترد في شيء من أشعارهم، ولا في كلامهم المنثور، وإنما يقولها بعضهم لبعض إذا جاء المطر، فالفرق بينها وبين «حشرجت» وبين (بلغت التراقي) ظاهر، وذاك أنّ «حشرجت» و (بلغت التراقي) يفهم منها أن النفس التي حشرجت، وأنها هي التي بلغت التراقي، وأما «أرسلت» فلولا شاهد الحال وإلا لم يجز أن تكون دالة على مجيء المطر، ولو قيل في معرض الاستسقاء: إنا خرجنا نسأل الله فلم نزل حتى أرسلت؛ لفهم من ذلك أن التي أرسلت هي السماء، ولا بد في الكلام من دليل على المحذوف، وإلا كان لغوا لا يلتفت إليه. الضرب الثاني: حذف الفعل وجوابه؛ اعلم أن حذف الفعل ينقسم قسمين: أحدهما يظهر بدلالة المفعول عليه، كقولهم في المثل: أهلك واللّيل، فنصب «أهلك والليل» يدل على محذوف ناصب، تقديره: الحق أهلك وبادر اللّيل، وهذا مثل يضرب في التحذير؛ وعليه ورد قوله تعالى: فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها ومما ورد منه في الأخبار النبوية أن جابرا تزوج فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما تزوجت؟

قال: ثيبا؛ فقال له: «فهلّا جارية تلاعبها وتلاعبك» يريد فهلا تزوجت جارية، فحذف الفعل لدلالة الكلام عليه. ومما ورد منه شعرا قول أبي الطيب المتنبي في قصيدته الكافية التي يمتدح بها عضد الدولة أبا شجاع بن بويه، ومطلعها: فدى لك من يقصّر عن مداكا «1» وسأذكر الموضع الذي حذف منه الفعل وجوابه لتعلق الأبيات بعضها ببعض، وهي من محاسن ما يؤتى به في معنى الوداع، ولم يأت لغيره مثلها، وهي: إذا التّوديع أعرض قال قلبي ... عليك الصّمت لا صاحبت فاكا ولولا أنّ أكثر ما تمنى ... معاودة لقلت ولا مناكا قد استشفيت من داء بداء ... وأقتل ما أعلّك ما شفاكا فأكتم؟ منك نجوانا وأخفي ... هموما قد أطلت لها العراكا إذا عاصيتها كانت شدادا ... وإن طاوعتها كانت ركاكا وكم دون الثّويّة من حزين ... يقول له قدومي: ذا بذاكا ومن عذب الرّضاب إذا أنخنا ... يقبّل رحل تروك والوراكا «2» يحرّم أن يمسّ الطّيب بعدي ... وقد عبق العبير به وصاكا «3» يحدّث مقلتيه النّوم عنّي ... فليت النّوم حدّث عن نداكا وما أرضى لمقلته بحلم ... إذا انتبهت توهّمه ابتشاكا «4»

ولا إلّا بأن يصغي وأحكي ... فليتك لا يتيّمه هواكا فقوله «ولا مناكا» فيه محذوف، تقديره: ولا صاحبت مناكا، وكذلك قوله «ولا إلا بأن يصغي وأحكي» فإن فيه محذوفا، تقديره: ولا أرضى إلا بأن يصغي وأحكي. أما القسم الآخر؛ فإنه لا يظهر فيه قسم الفعل؛ لأنه لا يكون هناك منصوب يدل عليه، وإنما يظهر بالنظر إلى ملاءمة الكلام. فمما جاء منه قوله تعالى عرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة فقوله د جئتمونا يحتاج إلى إضمار فعل: أي فقيل لهم لقد جئتمونا، أو فقلنا لهم. وقد استعمل هذا القرآن الكريم في غير موضع؛ كقوله تعالى: ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا فقوله: أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا يحتاج إلى تقدير الفعل المضمر. وكذلك ورد قوله تعالى: ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما فقوله: وإن جاهداك لا بد له من إضمار القول: أي وقلنا إن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما. ومن هذا الضرب إيقاع الفعل على شيئين وهو لأحدهما، كقوله تعالى: فأجمعوا أمركم وشركاءكم وهو لأمركم وحده، وإنما المراد أجمعوا أمركم وادعوا شركاءكم؛ لأن معنى أجمعوا من أجمع الأمر إذا نواه وعزم عليه، وقد قرأ أبي رضي الله عنه فاجمعوا أمركم وشركاءكم وهذا دليل على ما أشرت اليه، وكذلك هو مثبت في مصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. ومن حذف الفعل باب يسمى باب إقامة المصدر مقام الفعل؛ وإنما يفعل ذلك لضرب من المبالغة والتوكيد، كقوله تعالى: فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب قوله: فضرب الرقاب أصله فاضربوا الرقاب ضربا؛ فحذف الفعل

وأقيم المصدر مقامه، وفي ذلك اختصار مع إعطاء معنى التوكيد المصدري. وأما حذف جواب الفعل فإنه لا يكون في الأمر المحتوم، كقوله تعالى: فذرهم يخوضوا ويلعبوا* فجزم يخوضوا ويلعبوا لأنهما جواب أمر فذرهم وحذف الجواب في هذا لا يدخل في باب الإيجاز؛ لأنا إذا قلنا ذرهم أي اتركهم لا يحتاج ذلك إلى جواب، وكذلك ما يجري مجراه، وإنما يكون الجواب بالفاء في ماض، كقولنا: قلت له اذهب فذهب، وحينئذ يظهر الجواب المحذوف، كقوله تعالى: ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا. فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا ألا ترى كيف حذف جواب الأمر في هذه الآية؛ فإن تقديره فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فذهبا إليهم فكذبوهما فدمرناهم تدميرا، فذكر حاشيتي القصة أولها وآخرها لأنهما المقصود من القصة بطولها، أعني إلزام الحجة ببعثة الرسل واستحقاق التدمير بتكذيبهم. ومن هذا الضرب أيضا قوله تعالى: قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون. أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون. قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون. قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون. فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب فجواب الأمر من هذا الكلام محذوف، تقديره: فأرسله معهم، ويدلنا على ذلك ما جاء بعده من قوله: فلما ذهبوا به كما حذف أيضا في قوله عزّ وجلّ: وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون. يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان الآية، فجواب الأمر من هذا الموضع محذوف، وتقديره: فأرسلوه إلى يوسف، فأتاه، فقال له: يوسف أيها الصديق؛ وكذلك قوله تعالى: وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فسئله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم. قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه الآية؛ ففي هذا الكلام حذف واختصار استغنى عنه بدلالة الحال عليه، وتقديره: فرجع الرسول إلى الملك برسالة يوسف، فدعا الملك بالنسوة، وقال لهنّ: ما خطبكنّ.

الضرب الثالث:

وهكذا ورد قوله تعالى: ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين وقد حذف جواب الأمر ههنا، وتقديره: فأتوه به، فلما كلمه، وفي سورة يوسف عليه السلام محذوفات كثيرة من أولها إلى آخرها. فانظر أيها المتأمل إلى هذه المحذوفات المذكورة ههنا التي كأنها لم تحذف من هذا الكلام؛ لظهور معناها وبيانه، ودلالة الحال عليه، وعلى نحو من ذلك ينبغي أن تكون محذوفات الكلام. الضرب الثالث: حذف المفعول به، وذلك مما نحن بصدده أخص؛ فإن اللطائف فيه أكثر وأعجب، كقولنا: فلان يحلّ ويعقد، ويبرم وينقض ويضر وينفع، والأصل في ذلك على إثبات المعنى المقصود في نفسك للشيء على الإطلاق. وعلى هذا جاء قوله تعالى: وأنه هو أضحك وأبكى. وأنه هو أمات وأحيا. ومن بديع ذلك قوله عزّ وجلّ: ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير. فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير فإن في هاتين الآيتين قد حذف المفعول به في أربعة أماكن؛ إذ المعنى وجد أمة من الناس يسقون مواشيهم، وامرأتين تذودان مواشيهما، وقالتا لا نسقي مواشينا، فسقى لهما مواشيهما؛ لأن الغرض «1» أن يعلم أنه كان من الناس سقي ومن الامرأتين ذود وأنهما قالتا لا يكون منا سقى حتى يصدر الرعاء وأنه كان من موسى عليه السلام بعد ذلك سقي؛ فأما كون المسقي غنما أو إبلا أو غير ذلك فخارج عن الغرض. وقد ورد في الشعر من هذا النوع قول البعيث بن حريث من أبيات الحماسة «2» :

دعاني يزيد بعد ما ساء ظنّه ... وعبس وقد كانا على جدّ منكب وقد علما أنّ العشيرة كلّها ... سوى محضري من حاضرين وغيّب فالمفعول الثاني من «علما» محذوف؛ لأن قوله: «أن العشيرة» في موضع مفعول علما الأول، وتقدير الكلام: قد علما أن العشيرة سوى محضري من حاضرين وغيب لا غناء عندهم، أو سواء حضورهم وغيبتهم، أو ما جرى هذا المجرى. ومن هذا الضرب أيضا حذف المفعول الوارد بعد المشيئة والإرادة، كقوله تعالى: لو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم فمفعول شاء ههنا محذوف، وتقديره ولو شاء الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بها. وعلى نحو من ذلك جاء قوله تعالى: ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ومما جاء على مثال ذلك شعرا قول البحتري «1» : لو شئت لم تفسد سماحة حاتم ... كرما ولم تهدم مآثر خالد الأصل في ذلك: لو شئت ألّا تفسد سماحة حاتم لم تفسدها؛ فحذف ذلك من الأول استغناء بدلالته عليه في الثاني. وقد تقدم أن من الواجب في حكم البلاغة ألّا تنطق بالمحذوف ولا تظهره إلى اللفظ، ولو أظهرت لصرت إلى كلام غث. ومجيء المشيئة بعد «لو» وبعد حروف الجزاء هكذا موقوفة غير معدّاة إلى شيء كثير شائع بين البلغاء، ولقد تكاثر هذا الحذف في «شاء» و «أراد» حتى إنهم لا يكادون يبرزون المفعول، إلا في الشيء المستغرب، كقوله تعالى: لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء.

الضرب الرابع:

على هذا الأسلوب جاء قول الشاعر» : ولو شئت أن أبكي دما لبكيته ... عليه ولكن ساحة الصّبر أوسع فلو كان على حد قوله تعالى ولو شاء الله لجمعهم على الهدى لوجب أن يقول: ولو شئت لبكيت دما، ولكنه ترك تلك الطريقة وعدل إلى هذه لأنه أليق في هذا الموضع، وسبب ذلك أنه كان بدعا عجيبا أن يشاء الإنسان أن يبكي دما؛ فلما كان مفعول المشيئة مما يستعظم ويستغرب كان الأحسن أن يذكر ولا يضمر. الضرب الرابع: وهو حذف المضاف والمضاف إليه، وإقامة كل واحد منهما مقام الآخر، وذلك باب عريض طويل شائع في كلام العرب، وإن كان أبو الحسن الأخفش رحمه الله لا يرى القياس عليه. فأما حذف المضاف فكقوله تعالى: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فحذف المضاف إلى يأجوج ومأجوج، وهو سدّهما، كما حذف المضاف إلى القرية في قوله تعالى: وسئل القرية أي: أهل القرية. ومن ذلك أيضا قوله عزّ وجلّ: ولكن البر من اتقى أي: خصلة من اتقى، وإن شئت كان تقديره ولكن ذا البر من اتقى، والأولى أولى؛ لأن حذف المضاف ضرب من الاتساع، والخبر أولى بذلك من المبتدأ؛ لأن الاتساع بحذف الأعجاز أولى منه بحذف الصدور. وقد حذف المضاف مكررا في قوله تعالى: فقبضت قبضة من أثر الرسول أي: من أثر حافر فرس الرسول؛ وهذا الضرب أكثر اتساعا من غيره. ومما جاء منه شعرا قول بعضهم من شعراء الحماسة «2» :

الضرب الخامس:

إذا لا قيت قومي فاسأليهم ... كفى قوما بصاحبهم خبيرا «1» هل اعفو عن أصول الحقّ فيهم ... إذا عسرت وأقتطع الصّدورا أراد أنه يقتطع ما في الصدور من الضغائن والأوغام: أي يزيل ذلك بإحسانه من عفو وغيره، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. أما حذف المضاف إليه فإنه قليل الاستعمال؛ لله الأمر من قبل ومن بعد أي: من قبل ذلك ومن بعده. وربما أدخل في هذا الموضع ما ليس منه، كقوله تعالى: ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة قيل: أراد ظهر الأرض، فحذف المضاف إليه، وليس كذلك؛ فإن الهاء والألف قائمة مقام الأرض، ألا ترى أن قوله: ظهرها يريد الأرض؛ لأنه ضمير راجع إليها. وكذلك ورد قول جرير «2» : إذا أخذت قيس عليك وخندف ... بأقطارها لم تدر من أين تسرح «3» وهذا لا يسمى إيجازا، وإنما هو تعويض «4» بالضمير عن الضمير. الضرب الخامس: وهو حذف الموصوف والصفة، وإقامة كل منهما مقام الآخر، ولا يكون اطراده في كل موضع، وأكثره يجيء في الشعر، وإنما كانت كثرته في الشعر دون الكلام المنثور لامتناع القياس في اطراده. فمما جاء منه في الشعر قول البحتري من أبيات في صفة إيوان كسرى «5» ؛ فقال في

ذكر التصاوير التي في الإيوان، وذلك أن الّفرس كانت تحارب الروم فصوّروا صورة مدينة أنطاكية في الإيوان وحرب الروم والفرس عليها؛ فمما ذكره في ذلك قوله: وإذا ما رأيت صورة أنطا ... كيّة ارتعت بين روم وفرس والمنايا مواثل وأنوشر ... وان يزجي الصّفوف تحت الدّرفس «1» في اخضرار من الّلباس على أص ... فر يختال في صبيغة ورس فقوله «على أصفر» أي: على فرس أصفر، وهذا مفهوم من قرينة الحال؛ لأنه لما قال «على أصفر» علم بذلك أنه أراد فرسا أصفر. والصفة تأتي في الكلام على ضربين: إما للتأكيد والتخصيص، وإما للمدح والذم، وكلاهما من مقامات الإسهاب والتطويل، لا من مقامات الإيجاز والاختصار، وإذا كان الأمر كذلك لم يلق الحذف به، هذا، مع ما ينضاف إليه من الالتباس وضد البيان، ألا ترى أنك إذا قلت: مررت بطويل، لم يبن من هذا اللفظ الممرور به إنسان هو أم رمح أم ثوب أم غير ذلك، وإذا كان الأمر على هذا فحذف الموصوف إنما هو شيء قام الدليل عليه أو شهدت به الحال، وإذا استبهم كان حذفه غير لائق. ومما يؤكد عندك ضعف حذفه أنك تجد من الصفات ما لا يمكن حذف موصوفه، وذاك أن تكون الصفة جملة، نحو: مررت برجل قام أبوه، ولقيت غلاما وجهه حسن، ألا تراك لو قلت: مررت بقام أبوه، ولقيت وجهه حسن؛ لم يجز. وقد ورد حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه في غير موضع من القرآن الكريم، كقوله تعالى: وآتينا ثمود الناقة مبصرة فإنه لم يرد أن الناقة كانت

مبصرة، ولم تكن عمياء، وإنما يريد آية مبصرة، فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه. ولقد تأملت حذف الموصوف في مواضع كثيرة فوجدت أكثر وقوعه في النداء وفي المصدر؛ أما النداء فكقولهم: يا أيّها الظّريف، تقديره: يا أيها الرجل الظريف، وعليه ورد قوله تعالى: يا أيها الساحر تقديره: يا أيها الرجل الساحر، وكذلك قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا* تقديره: يا أيها القوم الذين آمنوا، وأما المصدر فكقوله تعالى: ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا تقديره: ومن تاب وعمل عملا صالحا. وقد أقيمت الصفة الشبيهة بالجملة مقام الموصوف المبتدأ في قوله تعالى: وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك أي: قوم دون ذلك. وأما حذف الصفة وإقامة الموصوف مقامها، فإنه أقلّ وجودا من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، ولا يكاد يقع في الكلام إلا نادرا؛ لمكان استبهامه. فمن ذلك ما حكاه سيبويه رحمه الله من قولهم: سير عليه ليل، وهم يريدون ليل طويل، وإنما حذفت الصفة في هذا الموضع لما دلّ من الحال عليه، وذاك أنه يحسن في كلام القائل لذلك من التطريح والتطويح والتفخيم والتعظيم ما يقوم مقام قوله: طويل، وأنت تحس هذا من نفسك إذا تأملته، وهو أن يكون في مدح إنسان والثناء عليه فتقول: «كان والله رجلا» أي رجلا فاضلا، أو شجاعا، أو كريما، أو ما جرى هذا المجرى من الصفات، وكذلك تقول: «سألناه فوجدناه إنسانا» أي إنسانا سمحا، أو جوادا، أو ما أشبهه، فعلى هذا ونحوه تحذف الصفة، فأما إن عريت عن الدلالة عليها من اللفظ أو الحال فإن حذفها لا يجوز. وقد تأملت حذفها فوجدته لا يسوغ إلا في صفة تقدمها ما يدل عليها، أو تأخر عنها، أو فهم ذلك من شيء خارج عنها: أما الصفة التي تقدمها ما يدل عليها فقوله تعالى: أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا

الضرب السادس:

فحذف الصفة: أي كان يأخذ كل سفينة صحيحة غصبا، ويدلّ على المحذوف قوله: فأردت أن أعيبها فإن عيبه إياها لم يخرجها عن كونها سفينة، وإنما المأخوذ هو الصحيح دون المعيب، فحذفت الصفة ههنا لأنه تقدمها ما يدلّ عليها. وأما التي تأخر عنها ما يدلّ عليها فقول بعض شعراء الحماسة «1» : كلّ امريء ستئيم من ... هـ العرس أو منها يئيم «2» فإنه أراد كل امريء متزوّج؛ إذ دلّ عليه ما بعده من قوله: «ستئيم منه أو منها يئيم» إذ لا تئيم هي إلا من زوج ولا يئيم هو إلا من زوجة، فجاء بعد الموصوف ما دلّ عليه، ولولا ذلك لما صح معنى البيت؛ إذ ليس كل امريء يئيم من عرس إلا إذا كان متزوّجا. وأما ما يفهم حذف الصفة فيه من شيء خارج عن الكلام فقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد» فإنه قد علم علم جواز صلاة جار المسجد في غير المسجد من غير هذا الحديث؛ فعلم حينئذ أن المراد به الفضيلة والكمال، وهذا شيء لم يعلم من نفس اللفظ، وإنما علم من شيء خارج عنه. الضرب السادس: وهو حذف الشرط وجوابه. فأما حذف الشرط فنحو قوله تعالى: يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون فالفاء في قوله تعالى: فاعبدون جواب شرط محذوف، لأن المعنى إن أرضي واسعة فإن لم تخلصوا لى العبادة في أرض فأخلصوها في غيرها،

ثم حذف الشرط وعوض من حذفه تقديم المفعول مع إفادة تقديمه معنى الاختصاص والإخلاص. ومن هذا الضرب قوله تعالى: فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية أي: فحلق فعليه فدية. وكذلك قولهم: الناس مجزيّون بأعمالهم: إن خيرا فخيرا، وإن شرّا فشرا: أي إن فعل المرء خيرا جزي خيرا، وإن فعل شرّا جزي شرا. وعلى نحو من ذلك جاء قوله تعالى: فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر تقدير ذلك: فأفطر فعدة من أيام أخر؛ ولهذا ذهب داود الظاهري إلى الأخذ بظاهر الآية، ولم ينظر إلى حذف الشرط؛ فأوجب القضاء على المريض والمسافر، سواء أفطر أم لم يفطر. ومن حذف الشرط قوله تعالى: يوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون. وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون اعلم أن هذه الفاء التي في قول الشاعر: «فقد جئنا خراسانا» «1» وحقيقتها أنها في جواب شرط محذوف يدلّ عليه الكلام، كأنه قال: إن صحّ ما قلتم إن خراسان أقصى ما يراد بنا فقد جئنا خراسان وآن لنا أن نخلص، وكذلك هذه الآية، يقول: إن كنتم منكرين للبعث فهذا يوم البعث: أي قد تبين بطلان قولكم. أما حذف جواب الشرط فكقوله تعالى: قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين فإن جواب الشرط ههنا محذوف تقديره: إن كان القرآن من عند

الضرب السابع:

الله وكفرتم به ألستم ظالمين، ويدل على المحذوف قوله تعالى: إن الله لا يهدي القوم الظالمين. الضرب السابع: وهو حذف القسم وجوابه: فأما حذف القسم فنحو قولك «لأفعلنّ» أي والله لأفعلن، أو غير ذلك من الأقسام المحلوف بها. وأما حذف جوابه فكقوله تعالى: والفجر. وليال عشر. والشفع والوتر والليل إذا يسر. هل في ذلك قسم لذي حجر ألم تر كيف فعل ربك بعاد. إرم ذات العماد. التي لم يخلق مثلها في البلاد فجواب القسم ههنا محذوف، تقديره: ليعذّبنّ، أو نحوه، ويدل على ذلك ما بعده من قوله: ألم تر كيف فعل ربك بعاد ؛ إلى قوله: سوط عذاب. ومما ينتظم في هذا السلك قوله تعالى: ق. والقرآن المجيد، بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب فإن معناه ق والقرآن المجيذ لتبعثنّ، والشاهد على ذلك ما بعده من ذكر البعث في قوله: أإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد. وقد ورد هذا الضرب في القرآن كثيرا؛ كقوله تعالى في سورة النازعات: والنازعات غرقا. والناشطات نشطا. والسابحات سبحا. فالسابقات سبقا. فالمدبرات أمرا. يوم ترجف الراجفة. تتبعها الرادفة فجواب القسم ههنا محذوف، تقديره: لتبعثنّ أو لتحشرنّ، ويدل على ذلك ما أتى من بعده من ذكر القيامة في قوله: يوم ترجف الراجفة. تتبعها الرادفة وكذلك إلى آخر السورة. الضرب الثامن: وهو حذف «لو» وجوابها، وذاك من ألطف ضروب الإيجاز وأحسنها. فأما حذف «لو» فكقوله تعالى: ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله

لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض تقديره ذلك إذا لو كان معه آلهة لذهب كل إله بما خلق. وكذلك ورد قوله تعالى: وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون تقديره: إذا لو فعلت ذلك لارتاب المبطلون، وهذا من أحسن المحذوفات. ومما جاء من ذلك شعرا قول بعضهم في صدر الحماسة «1» : لو كنت من مازن لم تستبح إبلي ... بنو الّلقيطة من ذهل بن شيبانا إذا لقام بنصري معشر خشن ... عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا فلو في البيت الثاني محذوفة؛ لأنها في البيت الأول قد استوفت جوابها بقوله: «لم تستبح إبلي» ثم حذفها في الثاني، وتقدير حذفها إذا لو كنت منهم لقام بنصري معشر خشن، وإذا لو كانوا قومي لقام بنصري معشر حسن. وأما حذف جواب «لو» فإنه كثير شائع، وذلك كقولك: لو زرتنا لو ألممت بنا، معناه لأحسنا إليك، أو لأكرمناك، أو ما جرى هذا المجرى. ومما ورد منه في القرآن الكريم قوله تعالى: ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب ؛ فإن جواب «لو» ههنا محذوف، تقديره: لرأيت أمرا عظيما، وحالا هائلة، أو غير ذلك مما جرى مجراه. ومما جاء على نحو من هذا قوله عز وجل: ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين. لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون تقديره لو يعلمون الوقت الذي يستعجلونه، وهو وقت صعب شديد تحيط بهم فيه النار من وراء وقدام ولا يقدرون على دفعها عن أنفسهم ولا يجدون ناصرا ينصرهم؛ لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال، ولكن جهلهم به هو الذي هوّنه عليهم.

الضرب التاسع:

ومما يجري على هذا النهج قوله تعالى: لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد فجواب لو في هذا الموضع محذوف، كما حذف في قوله تعالى: ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أي: لو أن لي بكم قوة لدفعتكم، أو منعتكم، أو ما أشبهه، وكذلك قوله: ولو أن قرآنا سيرت به الجبال لكان هذا القرآن. وهذا الضرب من المحذوفات أظهر الضروب المذكورة وأوضحها؛ لعلم المخاطب به؛ لأن قوله تعالى حكاية عن لوط عليه السلام: لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد يتسارع الفهم [فيه] إلى أن الكلام يحتاج الى جواب. ومما جاء منه شعرا قول أبي تمام في قصيدته البائية التي يمدح بها المعتصم عند فتحه مدينة عمّورية «1» . لو يعلم الكفر كم من أعصر كمنت ... له العواقب بين السّمر والقضب «2» فإن هذا محذوف الجواب، تقديره: لو يعلم الكفر ذلك لأخذ أهبة الحذار، أو غير ذلك. واعلم أن حذف هذا الجواب لا يسوغ في أي موضع كان من الكلام، وإنما يحذف ما دلّ عليه مكان المحذوف، ألا ترى أنه قد ورد في القرآن الكريم غير محذوف، كقوله تعالى: ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون. لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون وهذا ليس كالذي تقدم من الآيات؛ لأن تلك علم مكان المحذوف منها، وهذه الآية لو حذف الجواب فيها لم يعلم مكانه؛ لأنه يحتمل وجوها، منها أن يقال: لما آمنوا، أو لطلبوا ما وراء ذلك، وقد تقدم القول في أول باب الإيجاز أنه لا بد من دلالة الكلام على المحذوف. الضرب التاسع: وهو حذف جواب «لولا»

الضرب العاشر:

فمن ذلك قوله تعالى: والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين. والخامسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين. ويدروا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين. والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين. ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم فجواب «لولا» ههنا محذوف، تقديره: لما أنزل عليكم هذا الحكم بطريق التلاعن وستر عليكم هذه الفاحشة بسببه. وكذلك ورد قوله تعالى: إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون. ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله روف رحيم تقديره: ولولا فضل الله عليكم ورحمته لعجّل لكم العذاب، أو فعل بكم كذا وكذا. الضرب العاشر: وهو حذف جواب «لمّا» وجواب «أمّا» . فأما حذف جواب «لما» فكقوله تعالى: فلما أسلما وتله للجبين. وناديناه أن يا إبراهيم. قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين فإن جواب «لما» ههنا محذوف، وتقديره: فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا كان ما كان مما ينطق به الحال ولا يحيط به الوصف من استبشارهما واغتباطهما وشكرهما على ما أنعم به عليهما من دفع البلاء العظيم بعد حلوله، وما أشبه ذلك مما اكتسباه بهذه المحنة من عظائم الوصف دنيا وآخرة، وقوله «إنا كذلك نجزي المحسنين» تعليل لتخويل ما خوّلهما من الفرح والسرور بعد تلك الشدة العظيمة. وأما حذف جواب «أما» فنحو قوله تعالى: فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم. الضرب الحادي عشر: وهو حذف جواب «إذا» . فمما جاء منه قوله تعالى: وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون. وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين ألا ترى كيف حذف الجواب عن «إذا» في هذا الكلام، وهو مدلول عليه بقوله: إلا كانوا

الضرب الثاني عشر:

عنها معرضين كأنه قال: وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم أعرضوا، ثم قال: ودأبهم الإعراض عن كل آية وموعظة. الضرب الثاني عشر: حذف المبتدأ والخبر. أما حذف المبتدأ فلا يكون إلا مفردا، والأحسن هو حذف الخبر؛ لأن منه ما يأتي جملة؛ كقوله تعالى: واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن وههنا قد حذف خبر المبتدأ، وهو جملة من مبتدأ وخبر، وتقديرها: واللائي لم يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر «1» . ومما ورد منه شعرا قول أبي عبادة البحتري «2» : كلّ عذر من كلّ ذنب ولكن ... أعوز العذر من بياض العذار وهذا قد حذف منه خبر المبتدأ، إلا أنه مفرد غير جملة، وتقديره كل عذر من كل ذنب مقبول، أو مسموع، أو ما جرى هذا المجرى. الضرب الثالث عشر: وهو حذف «لا» من الكلام، وهي مرادة. وذلك كقوله تعالى: قالوا تالله تفتوا تذكر يوسف يريد به لا تفتؤ: فحذفت «لا» من الكلام وهي مرادة. وعلى هذا جاء قول امريء القيس «3» :

الضرب الرابع عشر:

فقلت يمين الله أبرح قاعدا ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي أي: لا أبرح قاعدا، فحذفت «لا» في هذا الموضع وهي مرادة. ومما جاء منه قول أبي مججن الثقفي لما نهاه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن شرب الخمر، وهو إذ ذاك في قتال الفرس بالقادسية «1» : رأيت الخمر صالحة وفيها ... مناقب تهلك الرّجل الحليما فلا والله أشربها حياتي ... ولا أسقي بها أبدا نديما يريد «لا أشربها» ؛ فحذف «لا» من الكلام وهي مفهومه منه. الضرب الرابع عشر: وهو حذف الواو من الكلام وإثباتها. وأحسن حذوفها في المعطوف والمعطوف عليه، وإذا لم يذكر الحرف المعطوف به كان ذلك بلاغة وإيجازا، كقول أنس بن مالك رضي الله عنه: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينامون يصلّون ولا يتوضّئون، أو قال: ثم يصلون لا يتوضّئون، فقوله «لا يتوضئون» - بحذف الواو- أبلغ في تحقيق عدم الوضوء من قوله «ولا يتوضئون» بإثباتها؛ كأنه جعل ذلك حالة لهم لازمة: أي أنها داخلة في الجملة، وليست جملة خارجة عن الأولى؛ لأن واو العطف تؤذن بانفراد المعطوف عن المعطوف عليه، وإذا حذفت في مثل هذا الموضع صار المعطوف والمعطوف عليه جملة واحدة. وقد جاء مثل ذلك في القرآن الكريم، وذلك أنه يذكر جمل من القول كل واحدة منها مستقلة بنفسها، ثم تسرد سردا بغير عاطف، كقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر تقدير هذا الكلام: لا يألونكم وودّوا ما عنتم

وقد بدت البغضاء من أفواههم، فلما حذفت الواو جاء الكلام أوجز، وأحسن طلاوة، وأبلغ تأليفا ونظما، وأمثاله في القرآن الكريم كثير. واعلم أنه قد حذفت الواو وأثبتت في مواضع؛ فأما إثباتها فنحو قوله تعالى: وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم ، وأما حذفها فنحو قوله تعالى: وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون. وعلى هذا فلا يجوز حذف الواو وإثباتها في كل موضع، وإنما يجوز ذلك فيما هذا سبيله من هاتين الآيتين. ولنبين لك في ذلك رسما تتّبعه، فنقول: اعلم أن كل اسم نكرة جاء خبره بعد «إلّا» يجوز إثبات الواو في خبره وحذفها، كقولك: ما رأيت رجلا إلا وعليه ثياب، وإن شئت قلت: إلا عليه ثياب، بغير واو؛ فإن كان الذي يقع على النكرة ناقصا فلا يكون إلا بحذف الواو، نحو قولك: ما أظن درهما إلا هو كافيك، ولا يجوز إلا وهو كافيك، بالواو؛ لأن الظن يحتاج ألى شيئين، فلا يعترض فيه بالواو؛ لأنه يصير كالمكتفي من الأفعال باسم واحد، وكذلك جواب ظننت وكان وإنّ وأشباهها، فخطأ أن تقول: إن رجلا وهو قائم، ونحو ذلك، ويجوز هذا في «ليس» خاصة، تقول: ليس أحد إلا وهو قائم؛ لأن الكلام يتوهم تمامه بليس وبحرف ونكرة «1» ألا ترى أنك تقول: ليس أحد، وما من أحد، فجاز فيها إثبات الواو، ولم يجوز في أظن؛ لأنك لا تقول: ما أظن أحدا، فأما أصبح وأمسى ورأى فإن الواو فيهن أسهل؛ لأنهن توأم في حال «2» ، وكان وأظن ونحوهما بنين على النقص، إلا إذا كانت تامة، وكذلك «لا» في التنزيه وغيرها، نحو: لا رجل، وما من رجل؛ فيجوز إثبات الواو فيها وحذفها.

واعلم أن العرب قد حذفت من أصل الألفاظ شيئا لا يجوز القياس عليه، كقول بعضهم «1» : كأنّ إبريقهم ظبي على شرف ... مفدّم بسبا الكتّان ملثوم «2» فقوله «بسبا الكتان» يريد بسبائب الكتان «3» ، وكذلك قول الآخر: يذرين جندل حائر لجنوبها ... فكأنّما تذكي سنابكها الحبا «4» فهذا وأمثاله مما يقبح ولا يحسن، وإن كانت العرب قد استعملته فإنه لا يجوز لنا أن نستعمله.

وأما القسم الثاني من الإيجاز فهو ما لا يحذف منه شيء، وذلك ضربان: أحدهما: مأساوي لفظه معناه، ويسمى التقدير، والآخر: ما زاد معناه على لفظه، ويسمى الإيجاز بالقصر. فأما الإيجاز بالتقدير فإنه الذي يمكن التعبير عن معناه بمثل ألفاظه وفي عدتها. أما الإيجاز بالقصر فإنه ينقسم قسمين: أحدهما: ما دل لفظه على محتملات متعددة، وهذا يمكن التعبير عنه بمثل ألفاظه وفي عدتها، والآخر: ما يدل لفظه على محتملات متعددة، ولا يمكن التعبير عنه بمثل ألفاظه وفي عدتها، لا، بل يستحيل ذلك. ولنورد الآن الضرب الأول الذي هو الإيجاز بالتقدير، فمما جاء منه قوله تعالى: قتل الإنسان ما أكفره. من أي شيء خلقه. من نطفة خلقه فقدره. ثم السبيل يسره. ثم أماته فأقبره. ثم إذا شاء أنشره. كلا لما يقض ما أمره فقوله قتل الإنسان دعاء عليه، وقوله ما أكفره تعجب من إفراطه في كفران نعمة الله عليه، ولا نرى أسلوبا أغلظ من هذا الدعاء والتعجب، ولا أخشن مسّا، ولا أدل على سخط مع تقارب طرفيه، ولا أجمع للّائمة على قصر متنه، ثم إنه أخذ في صفة حاله من ابتداء حدوثه إلى منتهى زمانه، فقال من أي شيء خلقه ثم بين الشيء الذي خلق منه بقوله من نطفة خلقه فقدره أي: هيأه لما يصلح له ثم السبيل يسره أي: سهّل سبيله وهو مخرجه من بطن أمه، أو السبيل الذي يختار سلوكه من طريقي الخير والشر، والأول أولى؛ لأنه تال لخلقته وتقديره، ثم بعد ذلك يكون تيسير سبيله لما يختاره من طريقي الخير والشر ثم أماته فأقبره أي: جعله ذا قبر يوارى فيه ثم إذا شاء أنشره أي: أحياه كلا ردع للإنسان عما هو عليه لما يقض ما أمره أي: لم يقض مع تطاول زمانه ما أمره الله به، يعني أن إنسانا لم يخل من تقصير قط، ألا ترى إلى هذا الكلام الذي لو أردت أن تحذف منه كلمة واحدة لما قدرت على ذلك، لأنك كنت تذهب بجزء من معناه، والإيجاز: هو ألّا يمكنك أن تسقط شيئا من ألفاظه.

والآيات الواردة من هذا الضرب كثيرة، كقوله تعالى: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف فقوله فله ما سلف من جوامع الكلم، ومعناه أن خطاياه الماضية قد غفرت له وتاب الله عليه فيها، إلا أن قوله فله ما سلف أبلغ: أي أن السالف من ذنوبه لا يكون عليه إنما هو له، وكذلك ورد قوله تعالى من كفر فعليه كفره* فعليه كفره كلمة جامعة تغني عن ذكر ضروب من العذاب؛ لأن من أحاط به كفره فقد أحاطت به كل خطيئة. وعلى نحو من هذا جاء قوله تعالى: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون فهذه الآية من جوامع الآيات الواردة في القرآن الكريم؛ وروي أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قرأها على الوليد بن المغيرة فقال له: يا ابن أخي، أعد، فأعاد النبي صلّى الله عليه وسلّم قراءتها عليه، فقال له: إنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر. ومن هذا النحو قوله تعالى: ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد. إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد. ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد. وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد. ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد. وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد. لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد وهذه الآيات من قوارع القرآن العجيبة التي دلّت على تخويف وإرهاب ترقّ القلوب، وتقشعرّ منه الجلود، وهي مشتملة مع قصرها على حال الإنسان منذ خلقه إلى حين حشره وحشر غيره من الناس، وتصوير ذلك الأمر الفظيع في أسهل لفظ وأقربه، وما مررت عليها ألا جدّت لي موعظة وأحدثت عندي إيقاظا. ومن هذا الضرب ما ورد عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في دعائه لأبي سلمة عند موته فقال: «اللهمّ ارفع درجته في المهتدين، واخلفه في عقبه في الغابرين لنا وله يا ربّ العالمين» وهذا دعاء جامع بين الإيجاز وبين مناسبة الحال التي وقع فيها؛ فأوله مفتتح بالمهمّ الذي يفتقر إليه المدعوّ له في تلك الحال، وهو رفع درجته في

الآخرة، وثانيه مردف بالمهم الذي يؤثر المدعو له من صلاح حال عقبه من بعده في الدنيا، وثالثه مختتم بالجمع بين الداعي والمدعو له، وهذا من الإيجاز البليغ الذي هو طباق ما قصد له، وكلام النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هكذا كما قال: «أوتيت جوامع الكلم» . وكذلك ورد قوله صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر؛ فإنه قال: «هذا يوم له ما بعده» وهو شبيه بقوله تعالى: فله ما سلف. ولما جرح عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجراحة التي مات بها اجتمع إليه الناس، فجاءه شابّ من الأنصار، وقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله، لك من صحبة رسول الله وقدم في الإعلام ما علمت، ووليت فعدلت، ثم شهادة. وهذا كلام سديد قد حوى المعنى المقصود، وأتى به في أوجز لفظ وأحسنه؛ ومع ما فيه من الإيجاز فإنه مستغرب، وسبب استغرابه أنه جعل المساءة بشرى، وأخرجها مخرج المسرة، وتلطف في ذلك فأبلغ، ولو أراد الكاتب البليغ والخطيب المصقع، أن يأتي بذلك على هذا الوجه لأعوزه. ومن هذا النمط ما كتبه طاهر بن الحسين إلى المأمون عند لقائه عيسى بن ماهان وهزمه إياه وقتله؛ فكتب إليه: كتابي إلى أمير المؤمنين ورأس عيسى بن ماهان بين يديّ، وخاتمه في يدي، وعسكره مصرف تحت أمري، والسلام. وهذا من الكتب المختصرة التي حوت الغرض المطوّل، وما يكتب في هذا المقام مثله. ولما أرسل المهلب بن أبي صفرة أبا الحسن المدائني إلى الحجاج بن يوسف يخبره أخبار الأزارقة كلمه كلاما موجزا كالذي نحن بصدد ذكره ههنا، وذاك أن الحجاج سأله فقال: كيف تركت المهلب؟ فقال: أدرك ما أمّل، وأمن ممّا خاف؛ فقال: كيف هو لجنده؟ قال: والد رءوف، قال: كيف جنده له؟ قال: أولاد بررة؛ قال: كيف رضاهم عنه؟ قال: وسعهم بفضله، وأغناهم بعدله؛ قال: كيف تصنعون إذا لقيتم العدوّ؟ قال: نلقاهم بجدنا، ويلقوننا بجدهم، قال: كذلك الجد إذا لقي الجد؛ قال: فأخبرني عن بني المهلب؛ قال: هم أحلاس القتال بالليل، حماة

السرج بالنهار، قال: أيهم أفضل؟ قال: هم كحلقة مضروبة لا يعرف طرفاها؛ فقال الحجاج لجلسائه: هذا والله هو الكلام الفصل الذي ليس بمصنوع. وقد ورد في الأخبار النبوية من هذا الضرب شيء كثير، وسأورد منه أمثلة يسيرة. فمن ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الحلال بيّن، والحرام بيّن وبينهما أمور متشابهات» وهذا الحديث من أجمع الأحاديث للمعاني الكثيرة، وذاك أنه يشتمل على جلّ الأحكام الشرعية؛ فإن الحلال والحرام إما أن يكون الحكم فيهما بينا لا خلاف فيه بين العلماء، وإما أن يكون خافيا يتجاذبه وجوه التأويلات؛ فكل منهم يذهب فيه مذهبا. وكذلك جاء قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الأعمال بالنّيّات وإنّما لكلّ امريء مانوى» فإن هذا الحديث أيضا من جوامع الأحاديث للأحكام الشرعية. ومن ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم: «المضعف أمير الرّكب» وقد ورد آخر هذا الحديث بلفظ آخر، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «سيروا بسير أضعفكم» إلا أن الأول أحسن؛ لأنه أبلغ معنى فإن الأمير واجب الحكم فهو يتّبع، وإذا كان المضعف أمير الركب كانوا مؤتمرين له في سيرهم ونزولهم، وهذا المعنى لا يوجد في قوله: «سيروا بسير أضعفكم» . وأحسن من هذا كله ما ورد عنه صلّى الله عليه وسلّم في حديث مطوّل يتضمن سؤال جبريل عليه السلام فقال من جملته: «ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك» فقوله: «تعبد الله كأنك تراه» من جوامع الكلم؛ لأنه ينوب مناب كلام كثير، كأنه قال: تعبد الله مخلصا في نيتك، واقفا عند أدب الطاعة من الخضوع والخشوع، آخذا أهبة الحذر، وأشباه ذلك؛ لأن العبد إذا خدم مولاه ناظرا إليه استقصى في آداب الخدمة بكل ما يجد إليه السبيل وما ينتهي إليه الطّوق. ومما أطربني من ذلك حديث الحديبية، وهو أنه جاء بديل بن ورقاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال له: إني تركت كعب بن لؤي بن عامر بن لؤي معهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت؛ فقال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ قريشا قد نهكتهم

الحرب، فإن شاءوا ماددناهم مدّة ويدعوا بيني وبين النّاس فإن أظهر عليهم وأحبّوا أن يدخلوا فيما دخل فيه النّاس وإلّا كانوا قد جموا، وإن أبوا فو الّذي نفسي بيده لأقاتلنّهم على أمري هذا حتّى تنفرد سالفتي هذه ولينفذنّ الله أمره» وهذا الحديث من جوامع الكلم، وهو من الفصاحة والبلاغة على غاية لا ينتهي إليها وصف الواصف. وأما ما ورد من ذلك شعرا فقول النابغة «1» : وإنّك كالّليل الّذي هو مدركي ... وإن خلت أنّ المنتأى عنك واسع وتخصيصه الليل دون النهار مما يسأل عنه. وكذلك قوله «2» : ولست بمستبق أخا لا تلمّه ... على شعث أيّ الرّجال المهذّب وعلى هذا الأسلوب ورد قول الأعشى في اعتذاره إلى أوس بن لام عن هجائه إياه «3» : وإنّي على ما كان منّي لنادم ... وإنّي إلى أوس بن لام لتائب وإنّي إلى أوس ليقبل عذرتي ... ويصفح عنّي ما حييت لراغب فهب لي حياتي فالحياة لقائم ... بشكرك فيها خير ما أنت واهب سأمحو بمدح فيك إذ أنا صادق ... كتاب هجاء سار إذ أنا كاذب وهذا من المعاني الشريفة في الألفاظ الخفيفة، وهو من طنانات الأعشى المشهورة.

وعلى نحو منه جاء قول الفرزدق «1» : صبحناهم الشّعث الجياد كأنّها ... قطا هيّجته يوم ريح أجادله» إلى كلّ حيّ قد خطبنا بناتهم ... بأرعن جرّار كثير صواهله «3» إذا ما التقينا أنكحتنا رماحنا ... من القوم أبكارا كراما عقائله وإنّا لمنّاعون تحت لوائنا ... حمانا إذا ما عاد بالسّيف حامله وهذا من محاسن ما يجيء في هذا الباب. ومما يجري هذا المجرى قول جرير «4» : تمنّى رجال من تميم منيّتي ... وما ذاد عن أحسابهم ذائد مثلي «5» فلو شاء قومي كان حلمي فيهم ... وكان على جهّال أعدائهم جهلي «6»

وكذلك ورد قوله متغزلا، وهو من محاسن أقواله «1» : سرت الهموم فبتن غير نيام ... وأخو الهموم يروم كلّ مرام ذمّ المنازل بعد منزلة الّلوى ... والعيش بعد أولئك الأقوام ولقد أراك وأنت جامعة الهوى ... أثني بعهدك خير دار مقام طرقتك صائدة القلوب فليس ذا ... حين الزّيارة فارجعي بسلام تجري السّواك على أغرّ كأنّه ... برد تحدّر من متون غمام لو كان عهدك كالّذي حدّثتنا ... لوصلت ذاك فكان خير ذمام ولقد أراني والجديد إلى بلى ... في موكب طرف الحديث كرام «2» لولا مراقبة العيون أريتنا ... حدق المها وسوالف الآرام «3» وإذا صرفن عيونهنّ بنظرة ... نفذت نوافذها بغير سهام «4» هل تنفعنّك إن قتلن مرقّشا ... أو ما فعلن بعروة بن حزام وحلاوة هذا الكلام أحسن من إيجازه، ولقد أعوز غيره أن يأتي بمثله حتى أقرّ بإعوازه.

ومن باب الإيجاز الذي يسمى التقدير قول علي بن جبلة: وما لامريء حاولته عنك مهرب ... ولو حملته في السّماء المطالع بلى هارب ما يهتدي لمكانه ... ظلام ولا ضوء من الصّبح ساطع فهذا هو الكلام الذي ألفاظه وفاق معانيه؛ فإنه قد اشتمل على مدح رجل بشمول ملكه وعموم سلطانه، وأنه لا مهرب عنه لمن يحاوله، وإن صعد السماء، ثم ذكر جميع المهارب في المشارق والمغارب، وأشار إلى أنه يبلغ الظلام والضياء، وذلك مما لم تزد عبارته على المعنى المندرج تحته، ولا قصرت عنه. ومن هذا الضرب قول أبي نواس «1» ، وهو من نادر ما يأتي في هذا الموضع: ودار ندامى عطّلوها وأدلجوا ... بها أثر منهم جديد ودارس مساحب من جرّ الزّقاق على الثرى ... وأضغاث ريحان جنيّ ويابس حبست بها صحبي فجدّدت عهدهم ... وإنّي على أمثال تلك لحابس تدار علينا الرّاح في عسجديّة ... حبتها بأنواع التّصاوير فارس قرارتها كسرى وفي جنباتها ... مها تدّريها بالقسيّ الفوارس «2» فللرّاح ما زرّت عليه جيوبها ... وللماء ما دارت عليه القلانس ومما انتهى إليّ من أخبار ابن المزرع قال: سمعت الجاحظ يقول: لا أعرف شعرا يفضل هذه الأبيات التي لأبي نواس، ولقد أنشدتها أبا شعيب القلاق فقال: والله يا أبا عثمان إن هذا لهو الشعر، ولو نقر لطن، فقلت له: ويحك!! ما تفارق عمل

الجرار والخزف، ولعمري إن الجاحظ عرف فوصف، وخبر فشكر، والذي ذكره هو الحق. وعلى هذا الأسلوب جاء قول أبي تمام «1» : إنّ القوافي والمساعي لم تزل ... مثل النّظام إذا أصاب فريدا «2» هي جوهر نثر فإن ألّفته ... بالشّعر صار قلائدا وعقودا في كلّ معترك وكلّ مقامة ... يأخذن منه ذمّة وعهودا فإذا القصائد لم تكن خفراءها ... لم ترض منها مشهدا مشهودا من أجل ذلك كانت العرب الألى ... يدعون هذا سوددا محدودا وتندّ عندهم العلا إلّا علا ... جعلت لها مرر القريض قيودا وأما الضرب الثاني: وهو الإيجاز بالقصر؛ فإن القرآن الكريم ملآن منه، وقد تقدم القول أنه قسمان: أحدهما: ما يدلّ على محتملات متعددة. فمن ذلك قوله تعالى: لقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى. فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم وأضل فرعون قومه وما هدى فقوله: فغشيهم من اليم ما غشيهم من جوامع الكلم التي يستدلّ على قلتها بالمعاني الكثيرة: أي غشيهم من الأمور الهائلة والخطوب الفادحة ما لا يعلم كنهه ألا الله، ولا يحيط به غيره. ومن هذا الضرب قوله تعالى: خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين فجمع في الآية جميع مكارم الأخلاق؛ لأن في الأمر بالمعروف صلة الرحم، ومنع اللسان عن الغيبة وعن الكذب، وغضّ

الطرف عن المحرمات، وغير ذلك، وفي الإعراض عن الجاهلين الصبر والحلم، وغيرهما. وقال بعض الأعراب في دعائه: اللهم هب لي حقّك، وأرض عني خلقك؛ فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «هذا هو البلاغة» . ومن ذلك قوله عزل وجلّ: أولئك لهم الأمن ؛ فإنه دخل تحت الأمن جميع المحبوبات، وذلك أنه نفى به أن يخافوا شيئا من الفقر والموت وزوال النعمة ونزول النقمة، وغير ذلك من أصناف المكاره. وأشباه هذا في القرآن الكريم كثيرة؛ فهو يكثر في بعض الصور، ويقلّ في بعض، قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «من شاء يرتع في الرّياض الأنائق فعليه بآل حم» . ومن ذلك قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «الخراج بالضّمان» ؛ وذاك أن رجلا اشترى عبدا، فأقام عنده مدة، ثم وجد به عيبا، فخاصم البائع إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فردّه عليه؛ فقال: يا رسول الله، إنه استغلّ غلامي، فقال: «الخراج بالضمان» ومعنى قوله: «الخراج بالضمان» أن الرجل إذا اشترى عبدا فاستغلّه ثم وجد به عيبا دلّسه عليه البائع فله أن يردّه ويسترجع الثمن جميعه، ولو مات العبد أو أبق أو سرقه سارق كان في مال المشتري، وضمانه عليه، وإذا كان ضمانه عليه فخراجه له: أي له ما تحصّل من أجرة عمله. وأما ما ورد شعرا، فقول السّموءل بن عاديا الغسّاني من جملة أبياته اللامية المشهورة، وذلك قوله منها «1» : وإن هو لم يحمل على النّفس ضيمها ... فليس إلى حسن الثّناء سبيل فإن هذا البيت قد اشتمل على مكارم الأخلاق جميعها: من سماحة، وشجاعة، وعفة، وتواضع، وحلم، وصبر، وغير ذلك؛ فإن هذه الأخلاق كلها من ضيم النفس؛ لأنها تجد بحملها ضيما: أي مشقة وعناء.

وقد تقدم القول أن الإيجاز بالقصر يكون فيما تضمن لفظه محتملات كثيرة، وهذا البيت من ذلك القبيل، ولا أعلم أن شاعرا قديما ولا حديثا أتى بمثله، وقد أخذه أبو تمام فأحسن في أخذه، وهو: وظلمت نفسك طالبا إنصافها ... فعجبت من مظلومة لم تظلم ففاز في بيته هذا بالمقابلة بين الضدين في الظلم والإنصاف، ثم قال: «فعجبت من مظلومة لم تظلم» وهذا أحسن من الأول، ومعنى قوله: «ظلمت نفسك طالبا إنصافها» أي: أنك أكرهتها على مشاقّ الأمور وإذا فعلت ذلك فقد ظلمتها، ثم إنك مع ظلمك إياها قد أنصفتها؛ لأنك جلبت إليها أشياء حسنة تكسبها ذكرا جميلا ومجدا مؤثّلا، فأنت منصف لها في صورة ظالم، وكذلك قوله: «فعجبت من مظلومة لم تظلم» أي أنك ظلمتها وما ظلمتها لأن ظلمك إياها أدّى إلى ما هو جميل حسن. وهذا القدر في الأمثلة كاف في هذا الباب. القسم الآخر من الضّرب الثاني؛ في الإيجاز بالقصر وهو الذي لا يمكن التعبير عن ألفاظه بألفاظ أخرى مثلها وفي عدتها، وهو أعلى طبقات الإيجاز مكانا، وأعوزها إمكانا، وإذا وجد في كلام بعض البلغاء فإنما يوجد شاذا نادرا. فمن ذلك ما ورد في القرآن الكريم؛ كقوله تعالى: ولكم في القصاص حياة فإنه قوله تعالى: القصاص حياة لا يمكن التعبير عنه إلا بألفاظ كثيرة، لأن معناه أنه إذا قتل القاتل امتنع غيره عن القتل؛ فأوجب ذلك حياة للناس، ولا يلتفت إلى ما ورد عن العرب من قولهم: القتل أنفى للقتل؛ فإن من لا يعلم يظن أن هذا على وزن الآية، وليس كذلك، بل بينهما فرق من ثلاثة أوجه: الأول: أن (القصاص حياة) لفظتان، و «القتل أنفى للقتل» ثلاثة ألفاظ؛ الوجه الثاني: أن في قولهم «القتل أنفى للقتل» تكريرا ليس في الآية؛ الثالث: أنه ليس كل قتل نافيا للقتل؛ إلا إذا كان على حكم القصاص. وقد صاغ أبو تمام هذا الوارد عن العرب في بيت من شعره، فقال «1» :

وأخافكم كي تغمدوا أسيافكم ... إنّ الدّم المعترّ يحرسه الدّم «1» فقوله «إن الدم المعتر يحرسه الدم» أحسن مما ورد عن العرب من قولهم «القتل أنفى للقتل» . ويروى عن معن بن زائدة أنه سأله أبو جعفر المنصور فقال له: أيما أحبّ إليك دولتنا أو دولة بني أمية؟ فقال: ذاك إليك، فقوله «ذاك إليك» من الإيجاز بالقصر الذي لا يمكن التعبير عنه إلا بألفاظ كثيرة؛ لأن معنى قوله «ذاك إليك» وهو لفظتان أنه زاد إحسانك على إحسان بني أمية فأنتم أحب ألي، وهذه عشرة ألفاظ. فإن قيل: كيف لا يمكن التعبير عن ألفاظ أخرى مثلها وفي عدتها وفي المترادف من الألفاظ ما هو دليل على خلاف ذلك؟ فإنه إذا قيل راح ثم قيل مدامة أو سلافة كان ذلك سواء، وقامت هذه اللفظة مقام هذه اللفظة. قلت في الجواب: ليس كل الألفاظ المترادفة يقوم بعضها مقام بعض، ألا ترى أن لفظة «القصاص» لا يمكن التعبير عنها بما يقوم مقامها، ولما عبر عنها بالقتل في قول العرب «القتل أنفى للقتل» ظهر الفرق بين ذلك وبين الآية في قوله تعالى: ولكم في القصاص حياة فالذي أردته أنا إنما هو الكلام الذي لا يمكن التعبير عن ألفاظه بألفاظ أخرى مثلها وفي عدتها، فإن كان كذلك وإلا فليس داخلا في هذا القسم المشار إليه.

النوع السادس عشر في الإطناب

النوع السادس عشر في الإطناب هذا النوع من الكلام أنعمت نظري فيه، وفي التكرير، وفي التطويل؛ فملكتني حيرة الشّبه بينها طويلا، وكنت في ذلك كعمر بن الخطاب رضي الله عنه في الكلالة حيث قال: قد أعياني أمر الكلالة، وكنت سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنها كثيرا حتى ضرب في صدري، وقال: «ألا يكفيك آية الصّيف «1» » . وبعد أن أنعمت نظري في هذا النوع الذي هو الإطناب وجدت ضربا «2» من ضروب التأكيد التي يؤتى بها في الكلام قصدا للمبالغة، ألا ترى أنه ضرب مفرد من بينها برأسه لا يشاركه فيه غيره؛ لأن من التأكيد ما يتعلق بالتقديم والتأخير؛ كتقديم المفعول، وبالاعتراض «3» ؛ كالاعتراض بين القسم وجوابه وبين المعطوف والمعطوف عليه، وأشباه ذلك، وسيأتي الكلام عليه في بابه. وهذا الضرب الذي هو الإطناب ليس كذلك. ورأيت علماء البيان قد اختلفوا فيه؛ فمنهم من ألحقه بالتطويل الذي هو ضد الإيجاز، وهو عنده قسم غيره، فأخطأ من حيث لا يدري؛ كأبي هلال العسكري، والغانمي، حتى إنه قال: إن كتب الفتوح وما جرى مجراها مما يقرأ على عوامّ الناس ينبغي أن تكون مطولة مطنبا فيها؛ وهذا القول فاسد؛ لأنه إن عنى بذلك أنها تكون ذات معان متعددة قد استقصى فيها شرح تلك الحادثة من فتح أو غيره فذلك مسلّم، وإن عني بذلك أنها تكون مكرّرة المعاني مطولة الألفاظ قصدا لإفهام العامة فهذا غير مسلّم، وهو مما لا يذهب إليه من عنده أدنى معرفة بعلم الفصاحة

والبلاغة، ويكفي في بطلانه كتاب الله تعالى؛ فإنه لم يجعل لخواصّ الناس فقط، وإنما جعل لعوامهم وخواصّهم، وأكثره لا بل جميعه مفهوم الألفاظ للعوام، إلا كلمات معدودة، وهي التي تسمى غريب القرآن، وقد تقدم الكلام على ذلك في المقالة الأولى المختصة بالألفاظ، وعلى هذا فينبغي أن تكون الكتب جميعها مما يقرأ على عوامّ الناس وخواصهم ذات ألفاظ سهلة مفهومة، وكذلك الأشعار والخطب، ومن ذهب إلى غير ذلك فإنه بنجوة عن هذا الفن، وعلى هذا فإن الإطناب لا يختص به عوام الناس، وإنما هو للخواصّ كما هو للعوام. وسأبين حقيقته في كتابي هذا، وأحقق القول فيه بحيث تزول الشبهة التي خبط أرباب علم البيان من أجلها، وقالوا أقوالا لا تعرب عن فائدة. والذي عندي فيه أنه إذا رجعنا إلى الأسماء واشتقاقها وجدنا هذا الاسم مناسبا لمسماه، وهو في أصل اللغة مأخوذ من أطنب في الشيء إذا بالغ فيه، ويقال: أطنبت الريح؛ إذا اشتدّت في هبوبها، وأطنب في السير؛ إذا اشتد فيه، وعلى هذا فإن حملناه على مقتضى مسماه كان معناه المبالغة في إيراد المعاني، وهذا لا يختص بنوع واحد من أنواع علم البيان، وإنما يوجد فيها جميعها؛ إذ ما من نوع منها إلا ويمكن المبالغة فيه، وإذا كان الأمر كذلك فينبغي أن يفرد هذا النوع من بينها، ولا يتحقق إفراده الا بذكر حدّه الدال على حقيقته. والذي يحدّ به أن يقال: هو زيادة اللفظ على المعنى لفائدة؛ فهذا حدّه الذي يميزه عن التطويل؛ إذ التطويل هو: زيادة اللفظ عن المعنى لغير فائدة، وأما التكرير فإنه: دلالة على المعنى مردّدا، كقولك لمن تستدعيه: أسرع أسرع؛ فإن المعنى مردّد واللفظ واحد، وسيرد بيان ذلك مفصّلا في بابه بعد باب الإطناب بعضها بعضا؛ وإذا كان التكرير هو إيراد المعنى مرددا فمنه ما يأتي لفائدة ومنه ما يأتي لغير فائدة؛ فأما الذي يأتي لفائدة «1» فإنه جزء من الإطناب وهو أخص منه؛ فيقال حينئذ: إن كل تكرير يأتي لفائدة فهو إطناب وليس كل إطناب تكريرا يأتي لفائدة،

القسم الأول:

وأما الذي يأتي من التكرير لغير فائدة فإنه جزء من التطويل، وهو أخص منه، فيقال حينئذ: إن كل تكرير يأتي لغير فائدة تطويل، وليس كل تطويل تكريرا يأتي لغير فائدة. وكنت قدمت القول في باب الإيجاز بأن الإيجاز هو: دلالة اللفظ على المعنى من غير زيادة عليه. وإذا تقررت هذه الحدود الثلاثة المشار إليها فإن مثال الإيجاز والإطناب والتطويل مثال مقصد يسلك إليه في ثلاثة طرق؛ فالإيجاز هو أقرب الطرق الثلاثة إليه، والإطناب والتطويل هما الطريقان المتساويان في البعد إليه، إلا أن طريق الإطناب تشتمل على منزّه من المنازه لا يوجد في طريق التطويل، وسيأتي بيان ذلك بضرب الأمثلة التي تسهل من معرفته. والإطناب يوجد تارة في الجملة الواحدة من الكلام، ويوجد تارة في الجمل المتعددة، والذي يوجد في الجمل المتعددة أبلغ؛ لاتساع المجال في إيراده. وعلى هذا فإنه بجملته ينقسم قسمين: القسم الأول: الذي يوجد في الجملة الواحدة من الكلام؛ وهو يرد حقيقة، ومجازا؛ أما الحقيقة فمثل قولهم: رأيته بعيني، وقبضته بيدي، ووطئته بقدمي، وذقّته بفمي، وكل هذا يظن الظان أنه زيادة لا حاجة إليها، ويقول: إن الرؤية لا تكون إلا بالعين، والقبض لا يكون إلا باليد، والوطء لا يكون إلا بالقدم والذّوق لا يكون ألا بالفم، وليس الأمر كذلك، بل هذا يقال في كل شيء يعظم مناله «1» ويعز الوصول اليه، فيؤكد الأمر فيه على هذا الوجه دلالة على نيله والحصول عليه، كقول أبي عبادة البحتري «2» ؛

تأمّل من خلال السّجف وانظر ... بعينك ما شربت ومن سقاني «1» تجد شمس الضّحى تدنو بشمس ... إليّ من الرّحيق الخسرواني ولما كان الحضور في هذا المجلس مما يعز وجوده، وكان الساقي فيه على هذه الصفة من الحسن؛ قال: أنظر بعينك. وعلى هذا ورد قوله تعالى: ذلكم قولكم بأفواهكم ؛ فإن هذا القول لما كان فيه افتراء عظّم الله تعالى على قائله، ألا ترى إلى قوله تعالى في قصة الإفك: إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم فصرّح في هذه الآية بما أشرت أليه من تعظيم الأمر المقول. وفي مساق الآية المشار إليها جاء قوله تعالى: ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ألا ترى أن مساق الكلام أن الإنسان يقول لزوجته: أنت عليّ كظهر أمي، ويقول لمملوكه: يا بنيّ؛ فضرب الله لذلك مثالا، فقال: كيف تكون الزوجة أمّا؟ وكيف يكون المملوك ابنا؟ والجمع بين الزوجية والأمومة وبين العبودية والبنوّة في حالة واحدة كالجمع بين القلبين في الجوف، وهذا تعظيم لما قالوه، وإنكار له؛ ولما كان الكلام في حال الإنكار والتعظيم أتى بذكر الجوف، وإلا فقد علم أن القلب لا يكون الا في الجوف، والتمثيل يصح بقوله: ما جعل الله لرجل من قلبين وهو تام، لكن في ذكر الجوف فائدة، وهي ما أشرت اليها وفيها أيضا زيادة تصوير للمعنى المقصود؛ لأنه إذا سمعه المخاطب به صوّر لنفسه جوفا يشتمل على قلبين، فكان ذلك أسرع إلى إنكاره. وعليه ورد قوله تعالى: فخر عليهم السقف من فوقهم فكما أن القلب لا يكون إلا في الجوف فكذلك السقف لا يكون إلا من فوق، وهذا مقام ترهيب

وتخويف، كما أن ذاك مقام إنكار وتعظيم، ألا ترى إلى هذه الآية بكمالها وهي قوله تعالى: قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ولذكر لفظة فوقهم فائدة لا توجد مع إسقاطها من هذا الكلام، وأنت تحسّ هذا من نفسك؛ فإنك إذا تلوت هذه الآية يخيّل اليك أن سقفا خرّ على أولئك من فوقهم، وحصل في نفسك من الرعب ما لا يحصل مع إسقاط تلك اللفظة. وفي القرآن الكريم من هذا النوع كثير؛ كقوله تعالى: فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة وقوله: أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى وكل هذه الآيات إنما أطنب فيها بالتأكيد لمعان اقتضتها؛ فإن النفخ في الصور الذي تقوم به الأموات من القبور مهول عظيم دلّ على القدرة الباهرة، وكذلك حمل الأرض والجبال، فلما كانا بهذه الصفة قيل فيهما: نفخة واحدة ودكة واحدة أي: أن هذا الأمر المهول العظيم سهل يسير على الله تعالى يفعل ويمضي الأمر فيه بنفخة واحدة ودكة واحدة، ولا يحتاج فيه الى طول مدة ولا كلفة مشقة، فجيء بذكر الواحدة لتأكيد الإعلام بأن ذلك هين سهل على عظمه. وهذه المواضع وأمثالها ترد في القرآن الكريم ويتوهم بعض الناس أنها ترد لغير فائدة اقتضتها، وليس الأمر كذلك؛ فإن هذه الأسرار البلاغية لا يتنبه لها إلا العارفون بها، وهكذا يرد ما يرد منها في كلام العرب. وههنا نكتة لا بد من الإشارة إليها؛ وذاك أني نظرت في قوله تعالى: نفخة واحدة ودكة واحدة وفي قوله تعالى: ومناة الثالثة الأخرى فوجدت ذلك غير مقيس على ما تقدم، وسأبينه ببيان شاف؛ فأقول: إن قوله تعالى: ومناة الثالثة الأخرى إنما جيء به لتوازن الفقر التي نظمت السورة كلها عليها، وهي: والنجم إذا هوى ولو قيل: أفرأيتم اللات والعزى ومناة ولم يقل الثالثة الأخرى لكان الكلام عاريا عن الطلاوة والحسن، وكذلك لو قيل: ومناة الأخرى، من غير أن يقال الثالثة لأنه نقص في الفقرة الثانية عن الأولى، وذاك قبيح، وقد

وأما القسم الثاني المختص بالجمل فإنه يشتمل على ضروب أربعة:

تقدم الكلام عليه في باب السجع، لكن التأكيد في هذه الآية جاء ضمنا لتوازن الفقر وتبعا، وأما نفخة واحدة ودكة واحدة فإنما جيء بلفظ الواحدة فيهما وقد علم أن النفخة هي واحدة والدكة هي واحدة لمكان نظم الكلام؛ لأن السورة التي هي الحاقة جارية على هذا المنهاج في توازنها السجعي، ولو قيل نفخة من غير واحدة ودكة من غير واحدة ثم قيل بعدهما: فيومئذ وقعت الواقعة لكان الكلام منثورا «1» محتاجا إلى تمام، لكن التأكيد جاء فيهما ضمنا وتبعا، وإذا تبين ذلك واتضح فاعلم أن الفرق بين هذه الآيات وبين قوله تعالى: ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ظاهر، وذاك أن نفخة هي واحدة ومناة هي الثالثة. وأما ما جاء منه على سبيل المجاز فقوله تعالى: فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ففائدة ذكر الصدور ههنا أنه قد تعورف وعلم أن العمى على الحقيقة مكانه البصر، وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها، واستعماله في القلب تشبيه، ومثل؛ فلما أريد إثبات ما هو خلاف المتعارف من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة ونفيه عن الأبصار احتاج هذا الأمر إلى زيادة تصوير وتعريف؛ ليتقرر أن مكان العمي إنما هو القلوب لا الأبصار. وهذا موضع من علم البيان كثيرة محاسنه، وافرة لطائفه، والمجاز فيه أحسن من الحقيقة؛ لمكان زيادة التصوير في إثبات وصف الحقيقي للمجازي، ونفيه عن الحقيقي. وأما القسم الثاني المختص بالجمل فإنه يشتمل على ضروب أربعة: الأول منها: أن يذكر الشيء فيؤتى فيه بمعاني متداخلة، إلا أن كل معنى يختص بخصيصة ليست للآخر، وذلك كقول أبي تمام «2» :

قطعت إليّ الزّابيين هباته ... والتاث مأمول السّحاب السبل «1» من منّة مشهورة وصنيعة ... بكر وإحسان أغرّ محجّل فقوله: «منة مشهورة وصنيعة بكر وإحسان أغر محجل» تداخلت معانيه؛ إذ المنة والصنيعة والإحسان متقارب بعضه من بعض، وليس ذلك بتكرير؛ لأنه لو اقتصر على قوله منة وصنيعة وإحسان لجاز أن يكون تكريرا، ولكنه وصف كل واحدة من هذه الثلاث بصفة أخرجتها عن حكم التكرير، فقال: «منة مشهورة» فوصفها بالاشتهار لعظم شأنها، و «صنيعة بكر» فوصفها بالبكارة: أي أنها لم يؤت بمثلها من قبل، و «إحسان أغر محجل» فوصفه بالغرة والتحجيل: أي هو ذو محاسن متعددة، فلما وصف هذه المعاني المتداخلة التي تدلّ على شيء واحد بأوصاف متباينة صار ذلك إطنابا، ولم يكن تكريرا. ولم أجد في ضروب الإطناب أحسن من هذا الموضع، ولا ألطف، وقد استعمله أبو تمام في شعره كثيرا، بخلاف غيره من الشعراء، كقوله «2» : زكيّ سجاياه تضيف ضيوفه ... ويرجى مرجّيه ويسأل سائله «3» فإن غرضه من هذا القول إنما هو ذكر الممدوح بالكرم وكثرة العطاء، إلا أنه وصفه بصفات متعددة؛ فجعل ضيوفه تضيف، وراجيه يرجى، وسائله يسأل، وليس هذا

الضرب الثاني:

تكريرا؛ لأنه لا يلزم من كون ضيوفه تضيف أن يكون راجيه مرجوا، ولا أن يكون سائله مسئولا؛ لأن ضيفه يستصحب ضيفا طمعا في كلام مضيفه، وسائله يسأل: أي [أنه] يعطي السائل عطاء كثيرا يصير به معطيا، وراجيه يرجى: أي أنه إذا تعلق به رجاء راج فقد أيقن بالفلاح والنجاح فهو حقيق بأن يرجى؛ لمكان رجائه إياه، وهذا أبلغ الأوصاف الثلاثة. الضرب الثاني: يسمى النفي والإثبات، وهو أن يذكر الشيء على سبيل النفي، ثم يذكر على سبيل الإثبات، أو بالعكس، ولا بد أن يكون في أحدهما زيادة ليست في الآخر، وإلا كان تكريرا، والغرض به تأكيد ذلك المعنى المقصود. فمما جاء منه قوله تعالى: لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين. إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون. واعلم أن لهذا الضرب من الإطناب فائدة كبيرة، وهو من أوكد وجوهه، ألا ترى أنه قال: لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم ثم قال: إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر والمعنى في ذلك سواء، إلا أنه في الثانية قوله: وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون ولولا هذه الزيادة لكان حكم هاتين الآيتين حكم التكرير، وهذا الموضع ينبغي أن يتأمل وينعم النظر فيه. وعليه ورد قوله تعالى: ألم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون. في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون. بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم. وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون. يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون فقوله: يعلمون بعد قوله: لا يعلمون من الباب الذي نحن بصدد ذكره، الا ترى أنه نفى العلم عن الناس بما خفي عنهم من تحقيق وعده، ثم أثبت لهم العلم

الضرب الثالث:

بظاهر الحياة الدنيا؛ فكأنهم علموا وما علموا؛ إذ العلم بظاهر الأمور ليس بعلم، وإنما العلم هو ما كان بالباطن من الأمور. الضرب الثالث: هو أن يذكر المعنى الواحد تأمّا لا يحتاج إلى زيادة، ثم يضرب له مثال من التشبيه، كقول أبي عبادة البحتري» : ذات حسن لو استزادت من الحسن ... إليه لما أصابت مزيدا فهي كالشّمس بهجة والقضيب اللّدن قدّا والرّيم طرفا وجيدا «2» ألا ترى أن الأول كاف في بلوغ الغاية في الحسن؛ لأنه لما قال: «لو استزادت لما أصابت مزيدا» دخل تحته كل شيء من الأشياء الحسنة، إلا أن للتشبيه مزية أخرى تفيد السامع تصويرا وتخييلا لا يحصل له من الأول، وهذا الضرب من أحسن ما يجيء في باب الإطناب. وكذلك ورد قوله «3» : تردّد في خلقي سودد ... سماحا مرجّى وبأسا مهيبا فكالسّيف إن جئته صارخا ... وكالبحر إن جئته مستثيبا فالبيت الثاني يدلّ على معنى الأول؛ لأن البحر والسيف للبأس المهيب، إلا أن في الثاني زيادة التشبيه التي تفيد تخيلا وتصويرا. الضرب الرابع: أن يستوفي معاني الغرض المقصود من كتاب أو خطبة أو

قصيدة، وهذا أصعب الضروب الأربعة طريقا، وأضيقها بابا؛ لأنه يتفرع إلى أساليب كثيرة من المعاني، وأرباب النظم والنثر يتفاوتون فيه، وليس الخاطر الذي يقذف بالدرر في مثله إلا معدوم الوجود، ومثاله ومثال الإيجاز مثال مجمل ومفصل؛ وقد تقدم القول بأن الإيجاز والإطناب والتطويل بمنزلة مقصد يسلك إليه ثلاثة طرق، وقد أوردت ههنا أمثلة لهذه الأساليب الثلاثة، وجعلتها على هيئة المقصد الذي تسلك إليه الطرق الثلاثة. فمن ذلك ما ذكرته في وصف بستان ذات فواكه متعددة؛ فإذا أريد وصفه على حكم الإيجاز قيل: فيه من كل فاكهة زوجان؛ وهذا كلام الله تعالى؛ وقد جمع جميع أنواع الفاكهة بأحسن لفظ وأخصره. وإذا أريد وصف ذلك البستان على حكم الإطناب قيل فيه ما أذكره، وهو فصل من كتاب أنشأته، وهو: جنة علت أرضها أن تمسك ماء، وغنيت بينبوعها أن تستجدي سماء، وهي ذات ثمار مختلفة الغرابة، وتربة منجبة وما كل تربة توصف بالنّجابة، ففيها المشمش الذي يسبق غيره بقدومه، ويقذف أيدي الجانين بنجومه، فهو يسمو بطيب الفرع والنّجار، ولو نظم في جيد الحسناء لاشتبه بقلادة من نضار، وله زمن الربيع الذي هو أعدل الأزمان، وقد شبه بسن الصبا في الأسنان، وفيها التفاح الذي رقّ جلده، وعظم قدّه، وتورّد خدّه، وطابت أنفاسه فلابان الوادي ولا رنده، وإذا نظر إليه وجد منه حظ الشم والنظر، ونسبته من سرر الغزلان أولى من نسبته إلى منابت الشجر، وفيها العنب الذي هو أكرم الثمار طينة، وأكثرها ألوان زينة، وأول غرس اغترسه نوح عليه السلام عند خروجه من السفينة فقطفه يميل بكف قاطفه، ويغري بالوصف لسان واصفه، وفيها الرّمّان الذي هو طعام وشراب، وبه شبهت نهود الكعاب، ومن فضله أنه لا نوى له فيرمى نواه، ولا يخرج اللؤلؤ والمرجان من فاكهة سواه، وفيها التين الذي أقسم الله به تنويها بذكره، واستتر آدم عليه السلام بورقه إذا كشفت المعصية من ستره، وخصّ بطول الأعناق فما يرى بها من ميل فهو نشوة من سكره، وقد وصف بأنه راق طعما، ونعم جسما، وقيل هذا كنيّف مليء شهدا لا كنيف ملىء علما، وفيها من ثمرات النخيل ما يزهى بلونه وشكله، ويشغل بلذة منظره عن لذة أكله، وهو الذي فضل ذوات الأفنان بعرجونه، ولا تماثل بينه وبين الحلواء هذا خلق الله فأروني ماذا

خلق الذين من دونه، وفيها غير ذلك من أشكال الفاكهة وأصنافها، وكلها معدود من أوساطها لا من أطرافها، ولقد دخلتها فاستهوتني حسدا، ولم أصاحبها على قوله لن تبيد هذه أبدا. فهذا الوصف على هذه الصورة يسمى إطنابا؛ لأنه لم يعر عن فائدة، وذاك الأول هو الإيجاز؛ لأنه اشتمل باختصاره على جميع أصناف الفاكهة. وأما التطويل فهو أن تعد الأصناف المذكورة تعدادا من غير وصف لطيف، ولا نعت رائق، فيقال: مشمش وتفاح وعنب ورمان ونخل، وكذا وكذا. وانظر أيها المتأمل إلى ما أشرت إليه من هذه الأقسام الثلاثة في الإيجاز والإطناب والتطويل، وقس عليها ما يأتي منها. وسأزيد ذلك بيانا بمثال آخر؛ فأقول: قد ورد في باب الإيجاز كتاب كتبه طاهر بن الحسين إلى المأمون رحمه الله تعالى، يخبره بهزيمة عيسى بن ماهان وقتله إياه، وهو: كتابي إلى أمير المؤمنين ورأس عيسى بن ماهان بين يديّ، وخاتمه في يدي، وعسكره مصرّف تحت أمري، والسلام. وهذا كتاب جامع للمعنى، شديد الاختصار. وإذا كتب ما هو في معناه على وجه الإطناب قيل فيه ما أذكره، وهو ما أنشأته مثالا في هذا الموضع؛ ليعلم به الفرق بين الإيجاز والإطناب، وهو: أصدر كتابه هذا وقد نصر بالفئة القليلة على الفئة الكثيرة، وانقلب باليد الملأى والعين القريرة، وكان انتصاره بجدّ أمير المؤمنين لا بحدّ نصله، والجد أغنى من الجيش وإن كثرت أمداد خيله ورجله، وجيء برأس عيسى بن ماهان وهو على جسد غير جسده، وليس له قدم فيقال إنه يسعى بقدمه ولا يد فيقال إنه يبطش بيده، ولقد طال وطوله مؤذن بقصر شأنه، وحسدت الضباع الطير على مكانها منه وهو غير محسود على مكانه، وأحضر خاتمه وهو الخاتم الذي كان الأمر يجري على نقش أسطره، وكان يرجو أن يصدر كتاب الفتح بختمه فحال ورود المنية دون مصدره، وكذلك البغي مرتعه وبيل

وصرعه جليل، وسيفه وإن مضى فإنه عند الضرب كليل، وقد نطق الفأل بأن الخاتم والرأس مشيران بالحصول على خاتم الملك ورأسه، وهذا الفتح أساس لما يستقبل بناؤه ولا يستقر البناء إلى على أساسه، والعساكر التي كانت على أمير المؤمنين حربا صارت له سلما، وأعطته البيعة علما بفضله وليس من تابع تقليدا كمن تابع علما، وهم الآن مصرّفون تحت الأوامر، ممتحنون بكشف السرائر، مطيفون باللواء الذي خصه الله باستفتاح المقالد واستيطاء المنابر، وكما سرت خطوات القلم في أثناء هذا القرطاس، فكذلك سرت طلائع الرعب قبل الطلائع في قلوب الناس، وليس في البلاد ما يغلق بمشيئة الله بابا، ولا يحسر نقابا، وعلى الله إتمام النعم التي افتتحها، وإجابة أمير المؤمنين إلى مقترحاته التي اقترحها، والسلام. وهذا الكتاب يشتمل على ما اشتمل عليه كتاب طاهر بن الحسين من المعنى؛ إلا أنه فصل ذلك الإجمال. ولو كتبت على وجه التطويل الذي لا فائدة فيه لقيل: أصدر كتابه في يوم كذا من شهر كذا، والتقى عسكر أمير المؤمنين وعسكر عدوه الباغي، وتطاعن الفريقان، وتزاحف الجمعان، وحمي القتال، واشتد النزال، وترادفت الكتائب، وتلاحقت المقانب، وقتل عيسى بن ماهان واحتز رأسه وقطع، ونزع الخاتم من يده وخلع، وترك جسده طعاما للطيور والسباع، والذئاب والضباع، وانجلت الوقعة عن غلب أمير المؤمنين ونصره، وخذلان عدوه وقهره؛ والسلام. فهذا الكتاب يشتمل على تطويل لا فائدة فيه؛ لأنه كرر فيه معاني يتم الغرض بدونها، وذكر ما لا حاجة إليه في الإعلام بالواقعة. فانظر إلى هذه الكتب الثلاثة وتأملها كما تأملت الذي تقدمها. وبعد ذلك إني أورد لك كتابا وتقليدا يوضحان لك فائدة الإطناب، أما الكتاب فإنه كتاب كتبته عن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه الله إلى ديوان الخلافة ببغداد يتضمن فتح البيت المقدس واستنقاذه من أيدي الكفار، وذلك في معارضة كتاب كتبه عبد الرحيم بن علي البيساني عنه، وكان الفتح في السابع والعشرين من شهر رجب من سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة: خلد الله سلطان الديوان العزيز النبوي، وجعل أيام دولته أترابا، ومناقب مجدها هضابا، وزادها على

مرور الأيام شبابا، وأوسعها توشية وإذهابا، إذا أوسع غيرها تلاشيا وذهابا، ومنحها في الدنيا والآخرة عطاء وفاقا لاعطاء حسابا، ومثل جدودها في عيون الأعداء شيئا عجابا، وأراهم منها وراءهم في اليقظة إرهابا وإرعابا، وفي المنام إبلا صعابا تقود خيلا عرابا، لو جمعت العصور في صعيد واحد لكان هذا العصر عليها فاخرا، وفاز بسبق أوائلها وإن جاء آخرا، وليس ذلك إلا لخظوته بالدولة الناصرية التي كسته حبرا وقلدته دررا؛ ودونت له من المحامد سيرا، وجعلت في كل ناحية من وجهه شمسا وقمرا، وقيّض الله لها من الخادم وليا يوصل يومه في طاعتها بأمسه؛ ولا يرى إلا ومن نفسه في خدمتها رقيب على نفسه، وطالما سعى بين يديها بمساع نغصّ بأخبارها محافل القوم، ويقال له فيها: ما ضرّك ما صنعت بعد اليوم، وقد سلفت منها آيات تتمايل في أشباهها وأضرابها، واستؤنف لها الآن واحدة تدعى بأم كتابها، وهي فتح البيت المقدس الذي تفتحت له أبواب السماء، وكثرت بأحاديث مجده كواكب الظلماء، واسترد حقّ الإسلام وطالما سعت الهمم في طلبه بالزاد والماء، ومن أحسن ما أتى به أنه آنس قبلته الثانية بقبلته الأولى، وأطال منه كل ما قصّرته يد الكفر وكانت هي الطولى، وبه صحّ لهذا البيت معنى اسمه، وانتقل إلى الطهارة ونزاهتها عن الرّجس ووصمه، ولم يحزه الخادم حنى طوى ما حوله من البلاد المنجدة والغاثرة، وكان مركزا لدائرتها فغادره وهو طرف من أطراف الدائرة، ولما شارفه نظر منه إلى ظلّة من الظلل، ورأى بلدا قد استقرّ على متن الجبل مثل الجبل، ويطيف به واد تستهزيء عصمته بنوب الدهر، وقد انعطف على جوانبه انعطاف الحبوة على الظهر، والمسالك إليه مع ذلك ذات تعاريح ومعارج، وهي ضيّقة مستوعرة يطلق عليها اسم الطرق ولا يطلق عليها اسم المناهج؛ فلما رآه قال: هذا أمنية لمن يرى، وعلم حينئذ أن كلّ الصّيد في جوف الفرا، الا أن لسان حاله خاطبه وهو أفصح الخطاب، وقال: امدد يدك فليس دونها من حجاب، وكان قد برز من السلاح في لباس رائع من المنعة، وأخرج من السواد الأعظم ما خدع العيون والحرب خدعة، وما يمنع رقاب البلاد بكثرة السواد، ولا يحمى بعوالي الأسوار بل بعوالي الصّعاد، وفي يوم كذا وكذا خيّم المسلمون في عقد داره، ونزلوا منه نزول الجار ألى جانب جاره، ثم ارتادوا موقفا للقتال وإن لم يكن هناك موقف يقرب مناله ولا يتسع محاله، واتفق الرأي على لسان المنجنيق في خطبة عقيلية أبلغ

خطابا، وأدنى من المطلوب طلابا، وأنه إذا ضرب بعصاه الحجر انبجست عيون أهله دماء، كما انبجست عيون الحجر ماء، هذا والعزائم تنظر إلى هذا الرأي نظر المستجهل، وتصدّ عنه صدود المستعجل، وتقول: ما بارتياد السهل تملك الصعاب، ومن ابتنى السيف صرحا لم ينأ عنه بلوغ الأسباب، والحديد لا يفلح إلا بالحديد، والركن الشديد لا يصدم إلا بركن شديد، فعندها صمّم الخادم أن يلقى البلد مواثبا لا مواربا، وأن يجعل للزحف جانبا وللمنجنيق جانبا، ونوى أن يبدي صفحة وجهه أمام الناس، وتأسّى برسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الاتقاء به إذا اشتد الباس، ولا شك أن قلوب الجيوس بمنزلة قلوبها، وأن النفاذ لأسنة الرماح لا لكعوبها، ولا يشتفي من الوغى إلا من كان طرفه أمام طرفه، ومن وقف خلف جنوده فقد جعل عزائمها من خلفه، ولما وقع الزّحف صورع البلد صراعا، بعد أن قورع قراعا، ثم هزّ هزة طوته بيمينها ونشرته بشمالها، وأذاقته العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر من نكالها، وبدون ذلك يكون عذرك أديمه، وعطف شكيمه، ولم يكن قتاله بالسهام التي غايتها أن تصفّ أجنحتها للمطار، وتنال بكلومها من فوق الأسوار، بل بالسيوف التي إذا جالدت بلدا أخذت بكظمه، وتوغلت في هجمه، وأغنت بسرعة خطواتها إليه عن المنجنيق وإبطاء هدمه، والسيف ليس بمرتو من النفس التي تظل طائشة عند لقائها، جائشة عند استيفائها؛ فالقلوب توصف بأنها تجيش إذا كانت أعدادا، والنفوس لا تجيش إلا ذا كانت ثمادا، وما يستوي وجوه الأقران في إقدامها وإحجامها، فمنها المظلم إذا رابها الروع بإشراقها، ومنها المشرق إذا شابها الروع بإظلامها، وكانت وجوه المؤمنين في هذا المقام أحظى بلباس الإشراق، وأتم أبدرا والبدور لا يكون تمامها في المحاق؛ فما منهم إلا من عرض نفسه ليوم العرض، ومشى الى جنة عرضها السموات والأرض، حتى اتسع المكرّ وضاق بأعداء الله المقر، وحرقت أوعار الخنادق، وصار الرجال لمنطقة السور كالمناطق، ولم يستشهد منهم إلا عدد يسير لا تدخله لام التعريف، وكانت أجنحة الملائكة مطيفة بهم فأكرم بالمطاف به وبالمطيف، وقد أسعد الله أولئك بالشهادة التي هي الفوز الأكبر، وقرنها بإدناء مضاجعهم من الأرض المقدسة التي هي أرض المحشر، فما يسرهم أن يعودوا إلى الدنيا إلا للاستزادة من ثواب الجهاد، وأيسر ذلك أن أرواحهم في حواصل طير خضر تعلق من ثمار الجنة إلى يوم المعاد، ولما رأى الكفار أن صليبهم قد صار

خوارا، وأن زئيرهم قد انقلب خوارا؛ أذعنت أيديهم باستسلامها، وصانعت بالمال عن الرقاب واسترقاقها، وبالبلد عن النفوس وحمامها، فأبى السيف أن يترك رقابا تغذي بأكلها، ويحل من عشقها على مداومة وصلها، وذكر الخادم أنّ سلف هؤلاء انتزاع هذا البلد قسرا، وفتك بمن كان به من المسلمين غدرا، وذلك ثأر ذخره الله لك حتى تحظى في الآخرة بثوابه، وتتجمل في الدنيا بزينة أثوابه، والمسلم أخو المسلم يأخذ بدمه، وإن تطاولت أمداد السنين على قدمه، فيا بعد عهد هذا الثأر من ثائره، ويا طيب خبره عند سامعه وحسن أثره عند ناظره، ولما تحقق العزم على ذلك أشار ذوو الرأي بقبول الفدية المبذولة، وألا يحمل العدو على ما ليست نفسه عليه بمحمولة، فإن النقد إذا أخرج صار ذا أنياب وأظفار، واستضرى حتى يلتحق بالسباع الضّوار، وهؤلاء إذا رأوا عين القتل تجردوا للقتال، وركبوا الأهوال للنجاة من الأهوال، ومن يدع إلى خطة رشد فليقبلها، ومن أنشط له عقل الأمور فلا يعقلها، وعلى كل حال فإن الفدية للمسلمين أرغب، وأموال يتقوّى بها على العدو خير من دماء تذهب، هذا، وبالبلد من أسارى المسلمين من حياة أحدهم بحياة كل نفس، ومن حرمته عند الله مما طلعت عليه الشمس، ولا يوازى فتحه عنوة أن يتعدى إليهم أضراره، ولا شك أنهم يعاجلون بالقتل قبل أن تدخل أقطاره، فرأى الخادم عند ذلك أن الرأي مشترك، وأن له معتركا كما أن السيف له معترك، وتقرر تسليم البلد ودموع أهله قد خضبت أحداقها وأقرحت آماقها ولم تطب أنفسهم بفراق قمامه حتى كادت الهام تفارق أعناقها، فعلى حب ذلك التراب تقوم قيامتهم، وتشيل نعامتهم، ولطالما ابتهلوا عنده أيام الحصار، واستنصروه فلم يحظوا منه بمعونة الانتصار، وكيف يرجى النصر من معبود تقر شيعته بقتله، أم كيف يدفع عن غيره من كان هو مبتلى بمثله، وهذه عقول سخيفة نفذ فيها كيد شيطانها، وأخفى عنها محجة الحق على وضوح بيانها، ولقد كان يوم التسليم عريض الفخار، زائد العمر على عمر أبويه من الليل والنهار، واشتق من اسمه معنى السلامة للمسلمين والهلاك للكفار، وزاده فخرا إلى فخره أنه وافق اليوم المسفر عن ليلة المعراج النبوي الذي كان في تلك الأرض موعده ومن صخرتها مصعده، وذلك هو الإسراء الذي ركب إليه ظهر البراق، واستفتح له أبواب السبع الطّباق، ولقي فيه الأنبياء على اختلاف درجاتهم فظفر خير ملقى بخير لاق، وبركة ذلك اليوم سرت إلى هذا

فأطالت من شهرته، وضمنته نصرة الدين الحنيف الذي لله عناية بنصرته، وجعلته تاريخا بؤرخ بفتحه كما أرخ للنبي صلّى الله عليه وسلّم بدار هجرته، وإذا أنصف واصفه قال: إنه لليوم البدري في اقتراب النسب، وإنه العجيبة التي لم تجفل عنها الأيام في صفر وإنما أجفلت عنها في رجب، فما أكثر الفائز فيه والمغبون، والمسرور والمحزون فمن جد راكب ومن جد راجل، ومن عز قادم وذل راحل، ولطالما جد الخادم في السعي له وأبصار العدا تزلقه، وألسنتهم تسلقه، وما منهم إلا من أكثر الشناعة بأن ذلك السعي للاستكثار من البلاد، والله يعلم أنه لم يكن إلا للاستكثار من موارد الجهاد، لا جرم أن صدق النية كان له عقبى الدار، وتلك الأقوال الكاذبة كان لها عقبى البوار، ويوم هذا الفتح يفتقر قبله إلى أيام تجلو بياضه عن سوادها، ويلقح لها بطون المساعي حتى يكون هو نتيجة ميلادها، ولما ظفر به الخادم لم يكن لأهل النّجامة فيه قول يرد كذابه، ولا يقبل صوابه والشهب الطالعة على ذوات السروج، أصدق نبأ من الشهب الطالعة من ذوات البروج، على أنهما وإن اتفقا رجما فإنهما يختلفان علما، فعلم هذه يسأل عنه ثغر الأعناق، وعلم هذه يسأل عنه بطون الأوراق، ولما دخل البلد وجد به أمما لولا أن ضربت عليهم الذلة لدافعوا المنايا مكاثرة، وغالبوا السيوف مصابرة، وهم طوائف مختلفو الألسنة والألوان، وإن قيل إنهم أناسى فإنّ صورهم صور الجان، ومنهم طائفة استشعرت حبس نفوسها، وفحصت الشعر عن أوساط رءوسها، وتوحشت بالرهبانية حتى ارتاعت العيون من أشكالها ولبوسها، ولما رأوا طلعة الإسلام داخلة عليهم أعلنوا بالجؤار واصطرخوا جميعا كما يصطرخون غدا في النار، وزادهم غيظا إلى غيظهم أنهم رأوا الصلاة قائمة، وقد صار الناقوس أذانا، وكلمة الكفر إيمانا، وأقيمت الجمعة، وهي أول جمعة حظي الأقصى بمشهدها، وحضرتها الأمة الإسلامية بأحمرها وأسودها، فمن باك بدمعة سروره الباردة، ومن مجيل نظره في نعمة الله الواردة، ومن شاكر للزمن الذي أبقاه إلى يومه هذا الذي كلّ الأيام له حاسدة من كان ولده تقدم قبله أو بعده فكأنه لم يولد، وكانت هذه الجمعة في رابع شعبان، وهو الشهر الذي جعله الله طليعة لشهر الصيام، وليلة نصفه هي الليلة المعروفة بإحياء قيامها إلى حين وفاة شخص الظلام، والتي يغفر فيها لأكثر من شعر غنم كلب من ذوي الذنوب والآثام، وجيء بالّلواء الأسود فركز من المنبر في أعلاه، ونطق لسان حاله فقال: من كان

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مولاه فأنا مولاه، ولم يكن لسان الخطيب بأفصح بيانا من لسانه، غير أن هذا يزهى ببلاغ موعظته وهذا يزهى بعزة سلطانه، ولما ذكرت سمات الخلافة المعظمة أتبعها الناس بالدعاء الذي ملأ المسجد بعجيجه، وسبق الكرام الكاتبون بزميله إلى السماء ووشيجه، وكان اليوم فصلا، والموقف حفلا، وذلك الدعاء فرضا لا نفلا، ولا ينتهي النصف إلى ما شوهد بالبلد من الآثار العجيبة التي تستلبث العجلان وتستحلب الأذهان وتستنطق الألسنة بالتسبيح لله الذي فطر الإنسان، ومن جملة ذلك ما تبوهي في حسنه من البيع والصّوامع، ذوات الأبنية الروائع، التي روضت بالزخارف ترويض الأزهار، ورفعت معاقدها حتى كادت النجوم توحي إليها بالأسرار، وما منها إلا ما يقال: إنه إرم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد، ولقد ألان الله لهم الحجارة حتى تخيروا في توسيعها بضروب الاختيار، وجعلوها أعاجيب للأسماع والأبصار، وقيل فيها: هذه روضات جنان لا أفنية ديار، هذا إلى غيره مما وجد من معبودات القوم الموصوفة بأنها آلة الصّلب، اللاتي من ذوات النصب، وأكثر ذلك وجد في المسجد موضوعا، وعلى قبته مرفوعا، فأنزلت على قرونها، واستنّ بسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في طعن عيونها، واستوطن المؤمن مكان الكفور، وبدّلت الظلمات بالنور، وقالت الصخرة: الآن جمع بيني وبين الحجر الأسود لخاطب الإسلام، والجمع بين الأختين في هذا الأمر من الحلال لا من الحرام، وقال الأقصى: سبحان الذي أسرى إليّ بجنده، كما أسرى بعبده، وأعاد لي عهود الفتح الأول بهذا الفتح الذي أتى من بعده، وعود الذاهب أرجى لدوام أحقابه، وخلود الإنسان لا يكون إلا في مآبه، وهذا هو الخطب الذي جدد للإسلام عهود ابن خطّابه، رضي الله عنه! إلا أن مستنقذ الطريدة أولى بها من صاحبها، ولئن غصبتها يد غالبة فقد جاء الله باليد التي غصبتها من غاصبها، هذا، ولم يستنقذها الخادم إلا بإنضاء سلاح أنفته الوقعة الأولى التي استأصلت حماة البلاد، واستباحت أغيالها بقتل الآساد، فكانت لهذا الفتح عنوانا، ولتقرير أصوله بنيانا، ولم ينج بها من طواغيت الكفر إلا طاغية ترابلس، فإن السيوف أسأرته وبفؤاده قلق من أوجالها، وفي عينه دهش من أهوالها، وقد قرن الله هذا الفتح ببشرى موته، وكفى المسلمين مؤنة الاهتمام لفوته؛ ففر من الوقعة ولم ينج بذلك الفرار، واعتصم بذات جداره، فقتله الخوف من وراء الجدار، ولا فرق بين قتيل خوف السفار، وبين قتيل

الشفار، ولقد فرّ من المكروه إلى مثله، لكنه انتقل من ميتة عزّه ألى ميتة ذلّه، وكذلك آثار الخادم في أعداء الله فهم هلكى بسيفه في مواقف الطراد، فإن فرّوا فبخوفه على جنوب الوساد، وبعد هذه فهل يمترون في أن دماءهم قد استجابت لمراده، وأن سواء لديه من أمكن منها في دنوه ومن امتنع منها في بعاده، وكل ذلك مستمد من الاستنصار بعناية الديوان العزيز التي من شأنها أن تجعل الرؤيا حقا، وأحاديث الأمال صدقا، وتقرّب بعيدات الأمور حتى تجعل الشرق غربا والغرب شرقا، فهذا الفتح منسوب إليها، وإن كان الخادم هو الساعي في تسهيله، والمجاهد بنفسه وماله في سبيله، فعلى عطف دولتها ترقم أعلامه، وفي أيامها تؤرخ أيامه، ولو أبيح للقلم الخيلاء في مقام المقال، كما أبيح لصاحبه في مقام القتال، لاختالت مشيته في هذا الكتاب، ولقال وأسهب فليس الإكثار ههنا من الإسهاب، لكنه منعه من ذلك أن يكون ممن فخر بعمله فأبطله، وأرسل خطابه إلى الديوان العزيز فلم يقبضه بالأدب حين أرسله، وقد ارتاد من يبلّغ عنه مشاريح هذه الوقائع التي اختصرها، ويمثل صورها لمن غاب عنها كما تمثلت لمن حضرها، ويكون مكانه من النباهة كريما كمكانها، وهي عرائس المساعي فأحسن الناس بيانا مؤهل لإيداع حسانها، والسائر بها فلان وهو راوي أخبار نصرها التي صحبها في تجريح الرجال، وعوالي إسنادها مأخوذة من طرق العوال، والأيام والليالي رواة فما الظن برواية الأيام والليال، وستتلو هذه الأخبار الصادقة بمشيئة الله أخبار مثلها صادقة، وما دامت السيوف ناطقة في يد الخادم فالألسنة عنها ناطقة، وللآراء العالية مزيد العلو، إن شاء الله تعالى. وأما التقليد فإنه تقليد أنشأته لمنصب الحسبة، وهو: أما بعد؛ فقد جعل الله جزاء التمكين في أرضه، أن يقام بحدود فرضه، ونحن نسأله التوفيق لهذا الأمر الذي ثقل حمله، وعدم أهله، فقد جيء بنا في زمن أصبح الناس فيه سدى، وعاد الإسلام فيه غريبا كما بدا، وهو الزمن الذي كثرت فيه أشراط اليوم الأخير، وغربلت فيه الأمة حتى لم يبق إلا حثالة التمر والشعير، ومن أعمّ ما نقرر بناءه ونقدم عناءه، ونصلح به الزمن وأبناءه، أن نمضي أحكام الشريعة المطهرة على ما قررته، في تعريف ما عرفته وتنكير ما نكرته، ومدار ذلك على النظر في أمر الحسبة التي تتنزل

منه بمنزلة السلك من العقد، والكف من الزّند، وقد أخلصنا النية في ارتياد من يقوم فيها ويكفيها، ويصطفى لها ولا يصطفيها، وهو أنت أيها الشيخ الأجل فلان أحسن الله لك الأثر، وصدق فيك النظر؛ فتولّها غير موكول إليها، بل معانا عليها. واعلم أن الناس قد أماتوا سننا وأحيوا بدعا، وتفرقوا فيما أحدثوه من المحدثات شيعا، وأظلم منهم من أقرّهم على أمرهم، ولم يأخذهم بقوارع زجرهم، فإن السكوت عن البدعة رضا بمكانها، وترك النهي عنها كالأمر بإتيانها، ولم يأت بنا الله تعالى إلا ليعيد الدين قائما على أصوله، صادعا بحكم الله فيه وحكم رسوله. ونحن نأمرك أن تتصفح أحوال الناس في أمر دينهم الذي هو عصمة مالهم، وأمر معاشهم الذي يتميز به حرامهم من حلالهم، فابدأ أولا بالنظر في العقائد واهد فيها ألى سبيل الفرقة الناجية الذي هو سبيل واحد، وتلك الفرقة هي السلف الصالح الذين لزموا مواطن الحق فأقاموا، وقالوا ربّنا الله ثمّ استقاموا، ومن عداهم شعب دانوا أديانا، وعبدوا من الأهواء أوثانا، واتبعوا ما لم ينزل به الله سلطانا، ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم؛ فمن انتهى من هؤلاء إلى فلسفة فاقتله ولا تسمع له قولا، ولا تقبل منه صرفا ولا عدلا، وليكن قتله على رءوس الأشهاد، ما بين حاضر وباد، فما تكدّرت الشرائع بمثل مقالته، ولا تدنست علومها بمثل أثر جهالته، والمنتمي إليها يعرف بنكره، ويستدل عليه بظلمة كفره، وتلك ظلمة تدرك بالقلوب لا بالأبصار، وتظهر زيادتها ونقصها بحسب ما عند رائيها من الأنوار، وما تجده من كتبها التي هي سموم ناقعة، لا علوم نافعة، وأفاعي ملففة، لا أقوال مؤلفة؛ فاستأصل شافتها بالتمزيق، وافعل بها ما يفعله الله بأهلها من التحريق؛ ولا يقنعك ذلك حتى تجتهد في تتبع آثارها، والكشف عن مكامن أسرارها؛ فمن وجدت في بيته فليؤخذ جهارا، ولينكل به إشهارا، وليقل: هذا جزاء من استكبر استكبارا، ولم يرج لله وقارا، وأما من تحدّث في القدر، وقال فيه بمخالفة نص الخبر، فليس في شيء من ربقة الإسلام، وإن تنسّك بمداومة الصلاة والصيام، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «القدريّة مجوس هذه الأمّة» . والمراد بذلك أنهما ماثلوا بين الله والعبد والضياء والظلمة، فعلاج هذه الطائفة أن تجزى بأن تخزى فليقابل جمعها بالتكسير، واسمها بالتصغير، ولتنقل ألى ثقل

الحدود عن خفة التعزير، ومن كان منها ذا مكانة نابهة فليهبط، أو شهادة عادلة فليسقط، وكذلك يجري الحكم فيمن قال بالتشبيه والتجسيم، أو قال بحدوث القرآن القديم. ومن ملحدي القرآن فرقة فرقت بين المعنى والخط، وفرقة قالت فيه بالشكل والنقط، وكل هؤلاء قوم خبثت سرائرهم، وعميت بصائرهم، وعظمت عند الله جرائمهم، فخذهم بالتوبة التي تطهر أهلها، وتجبّ ما قبلها، وليست التوبة عبارة عن ذكرى اللسان، والقلب لاه في قبضة النسيان، بل هي عبارة عن الندم على ما فات، واستئناف الإخلاص فيما هو آت، وقد جعل الله التائب من أحبابه، ووصفه في مواضع كثيرة من كتابه، ومن فضله أن الملائكة يستغفرون لذنبه، ويشفعون له الى ربه، فإن أبت هذه الطوائف إلا إصرارا، ولم يزدهم دعاؤك إلا فرارا؛ فاعلم أن الله قد طبع على قلوبهم طبعا، وألحقهم بالذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكره وكانوا لا يستطيعون سمعا، فخذهم عند ذلك بحد الجلد، فإن لم ينجع فبحد ذوات الحد؛ فإن هذه أمراض عمى لا ترجى لها الإفاقة، ولا تبريء منها إلا الدماء المراقة. وأما الفرقة المدعوة بالرافضة، التي هي لما رفعه الله خافضة، فإنهم أناس ليس لهم من الدين إلا اسمه، ولا من الإسلام إلا رسمه، وإذا نقّب عن مذهبهم وجد على العصبية موضوعا، ولغير ما شرعه الله ورسوله مشروعا، ذبّوا عن عليّ رضي الله عنه فأسلموه، وأخروه إذ قدّموه، وهؤلاء وضعوا أحاديث فنقلوها، وأولوها على ما أولوها، فتبع الآخر منهم الأول على غمة، وقالوا: إنّا وجدنا آباءنا على أمة، وههنا غير ما ذكرناه من عقائد محلولة «1» ؛ ومذاهب غير منقولة ولا مقبولة، وبالهدي يتبين طريق الضلال، وبالصحة يظهر أثر الاعتلال، ولا عقيدة إلا عقيدة السنة والكتاب، ولا دين إلا دين العجائز الماء والمحراب. وإذا فرغنا من الوصية بالأصول التي هي للدين ملاك، فلنتبعها بالفروع التي هي له مساك، وأول ذلك الصلاة، وهي في مباني الإسلام الخمس أوكد خمسه،

وآخر ما وصّى به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند مفارقة نفسه، ومن فضلها أنها العمل الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر، ولا عذر في تركها لأحد من الناس فيقال إنه يعذر، فاجمع الناس إليها، واحملهم عليها، ومرهم بالاجتماع لها في المساجد، وناد فيهم بفضيلة صلاة الجماعة على صلاة واحد، وراقبهم عند أوقات الأذان! في الأسواق التي هي معركة الشيطان؛ فمن شغل بتثمير مكسبه، ولها عنها بالإقبال على لهوه ولعبه؛ فخذه بالآلة العمرية التي تضع من قدره، وتذيقه وبال أمره، ولا يمنعك عن ذي هيبة هيبته، ولا عن ذي شيبة شيبته، فإنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، ومن مهمات الصلاة يوم الجمعة الذي هو في الأيام بمنزلة الأعياد في الأعوام، وفيه الساعة المخصوصة بالدعاء المجاب، التي ما صادفها عبد إلا ظفر بالطّلاب، فمر الناس بابتداره في البواكر، والفوز فيه بقربان البدنات الأخاير، فإنه اليوم الذي لم تطلع الشمس على مثله، وبه فضل هذا الدين على أهل الكتاب من قبله، فهو واسطة عقد الأيام السبعة، ولاشتماله على مجموع فضلها سمي يوم الجمعة، وفي الأعوام مواسم لصلوات مخصوصة كالتراويح في شهر رمضان والرغائب في أول جمعة من رجب وليلة النصف من شعبان، فلتملأ المساجد في هذه المواسم التي تكثر فيها شهادات الأقلام، في كتب الطاعات ومحو الآثام، ومن حضرها وليس همه إلا أن يمر بها طروقا، ويواعد إليه أخدانه رفثا أو فسوقا؛ فهؤلاء هم الخلف الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، فابعث عليهم قوما يسلبونهم سلبا، ويوجعونهم ضربا، ويملئون عيونهم مهابة وقلوبهم رعبا، فبيوت الله مطهرة من هذه الأدناس، ولم تعمر لشياطين الإنس وإنما عمرت للناس، فلا يحضرها إلا راكع وساجد، أو ذاكر وحامد. وههنا عظيمة عضيهة، وفاحشة يفقه لها من ليست نفسه بفقيهة، وهي الرّبا، فإنه قد كثر أكله، وتظاهر به فاعله، وقال فساق الفقهاء بتأويله، وتوصلوا إلى شبهة تحليله، ولا يتسارع إلى ذلك إلا من أعمى الله قلبه، ومحق كسبه، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لعن الله اليهود حرّمت عليهم الشّحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها» ونحن نأمرك

أن تشمر في هذا الأمر تشميرا يرهبه الناس «1» ، ولا تدع ربا حتى تضعه وأول ربا تضعه ربا العباس، فتأديب الكبير قاض بتهذيب الصغير، والأسوة بالرفيع خلاف الأسوة بالنظير، وجل معاملة الربا تجري في سوق الصرف الذي تختلف به النقود، وتفترض فيه العقود، ويخاض في نار نيره إلى النار ذات الوقود، وبه قوم أوسعوا عيون الموازين غمزا، وألسنتها همزا ولمزا، وأصبح الدرهم والدينار عندهم بمنزلة الصنمين اللات والعزّى، ولا يرى منهم إلا من الحرص مفاض على ثيابه، وقد جمع بين المعرفة بالحرام والهجوم على ارتكابه، فعدّل ميل هؤلاء تعديلا، وتخوّلهم على مرور الأيام تخويلا واعلم أنك قد وليت من الكيل والميزان أمرين هلكت فيهما الأمم السالفة فباشرهما بيدك مباشرة الاختيار والاختبار، ولا تقل أهلهما عثرة فإن الإقالة لا تنهى عن العثار، وكل هؤلاء من سواد الناس ممن لم يزك غرسه، ولا فقهت نفسه، وليس همه إلا فرجه أو ضرسه، فخذهم بآلة التعزيز التي هي نزاعة للشّوى، تدعو من أدبر وتولى، ومن آثارها أنها ترجّ أرض الرأس رجّا، وتفرج سماءه فرجا، ويسلك بصاحبه هديا ونهجا. وقد كثر في الأسواق الخلابة والنّجس وتلقّي الرّكبان وبيع الحاضر للبادي وتنفيق السّلعة باليمين الكذابة، وكل هذه من المحظورات التي وردت الأخبار النبوية ببيانها، والنهي عن تورّد مكانها، فمن قارف شيئا منها جاهلا بتحريمه فقوّمه بالتعليم، واهده إلى الصراط المستقيم، ومن عرف ما اقترف فأذقه حرّ التأديب، قبل أن يذاق غدا حرّ التعذيب، وأعلمه أن الأرزاق بيد الله تعالى لا ينقصها عجز القاعد ولا يزيدها حرص الكادح، وقد ينقلب الجاهد فيها بصفقة الخاسر والوادع بصفقة الرابح، ومن سنة الله تعالى أن ينمي الحلال وإن كان يسيرا، ويمحق الحرام وإن كان كثيرا، ومن الناس من آتاه الله مالا فبثّ في الأسواق جنود ذهبه وورقه، واحتكر ما حمله الميزان من ذوات رطله ووسعه الكيل من ذوات وسقه، فأصبح فقراء بلده في ضيق من عدم الرفق، ومدد الرزق، فليمنع هؤلاء أن يجعلوا رزق الله محتكرا،

ومعاش عباده محتجرا، وليؤمروا بأن يتراحموا، ولا يتزاحموا، وأن يأخذ الغني منهم بقدر الكفاف، ويترك للفقير ما يعينه على الإسعاف، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «لا حكرة في سوقنا، لا يعمد رجال بأيديهم فضول من أذهاب إلى رزق من أرزاق الله تعالى ينزل بساحتنا فيحتكرونه علينا، ولكن أيّما جالب جلب على عمود كبده فذلك ضيف عمر فليبع كيف شاء الله وليمسك كيف شاء الله» وأما التسعير فإنه وإن آثره القاطنون، وحكم به القاسطون، وقيل: إن في ذلك للفقير تيسير العسير؛ فليس لأحد أن يكون يد الله في حفظ ما رفع، وبذل ما منع، فقف أنت حيث أوقفك حكم الحق، ودع ما يعنّ من مصلحة الخلق، ولا تكن ممن اتبع الرأي والنظر، وترك الآية والخبر، فحكمة الله مطوية فيما يأمر به على ألسنة رسله، وليست مما يستنبطه ذو العلم بعلمه ولا يستدل عليه ذو العقل بعقله، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا. ومما نأمرك به أن تمحو الصغيرة، كما تمحو الكبيرة؛ فإن لمم الذنوب كالقطر يصير مجتمعه سيلا متدفقا، وكان أوله قطرا متفرقا. وقد استمر في الناس عوائد تهاونوا باستمرارها، ولم ينظروا ألى ثقل أوزارها؛ فمن ذلك لبس الذهب والحرير الذي لم يلبسه إلا من عدم عند الله خلاقا، وإن قيل إنه شعار للغني فلم يزد صاحبه من الحسنات إلا إملاقا، وللبس عباءة مع التقوى أحسن في العيون شعارا، وأعظم في الصدور وقارا، ويلتحق بهذه المعصية صوغ الذهب والفضة آنية يمنع منها حق الصدقات وهو حق يقاتل مانعه، ويعصى في استعمالها أمر الله وهو حدّ من حدوده يعاقب عاصيه ويثاب طائعه، وكذلك يجري الحكم في الصور المرقومة في البيوت والثياب، وعلى الستور المغلقة على الأبواب، وإخراجها في ضروب أشكال الحيوان لملاعبة الصبيان، وذلك مماثلة لخلق الله في التقدير، ولهذا يؤمر صانعه بنفخ الروح فيما صوّره من التصوير. ومما يغلظ نكيره إطالة الذيول للاجترار، والمباهاة لما فيها من عنجهية التيه والاستكبار، ولن يخرق صاحبها الأرض بإعجابه، ولا يبلغ طول الجبال بإطالة

ثيابه، قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله لا ينظر يوم القيامة إلى من جرّ ثوبه خيلاء» . ومما هو أشد نكيرا أمر الحمامات؛ فإن الناس قد أصروا بها على الإجهار، وترك الاستتار، والتهاون بأمر العورات التي لصاحبها اللعنة وله سوء الدار، والنساء في هذا المقام أشد تهالكا من الرجال، وقد ابتذلن أنفسهن حتى أفرطن في فاحشة الابتذال، ولهن محدثات من المنكر أحدثها كثرة الإرفاه والإتراف، وأهمل إنكارها حتى سرت في الأوساط والأطراف، وقد أحدثن الآن من الملابس ما لم يخطر للشيطان في حساب، وتلك من لباس الشّهرة الذي لا يستر منه إسبال مرط ولا إدناء جلباب، ومن جملتها أنهن يعتصبن عصائب كأمثال الأسنمة، ويخرجن من جهارة أشكالها في الصور المعلمة، وقد أخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بها فيما ورد عنه من الأخبار، وجعل صاحبها معدودا من زمرة أصحاب النار. ومما حيد فيه عن السنن قراءة القرآن بضروب الألحان، وتلك قراءة تخرج حروفها من غير مخرج، وتبدو معوجة وهو قرآن عربي غير ذي عوج، وقد أمر الله بترتيله، وإيراده على هيئة تنزيله؛ فمن قرأه بالترجيع والترديد، وزلزل حروفه بالتمطيط والتمديد؛ فقد ألحقه بدرجات الأغاني، وذهب بما فيه من طلاوة الألفاظ والمعاني، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ «اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها وإيّاكم ولحون أهل الفسق ولحون أهل الكتابين، وسيجيء بعدي قوم يرجّعون بالقرآن ترجيع الغناء والنّوح لا يجاوز حناجرهم، مفتونة قلوبهم وقلوب الّذين يعجبهم شأنهم» ويلتحق بذلك اقتناء القينات المغنيات اللاتي يلعبن بالعقول لعبهن بالأسماع، ويغنين الشيطان بغنائهن عن بثّ الجنود والأشياع، وفتيا النفس الأمارة في ذلك أن تقول: هؤلاء إماء يحل نغمة سماعهن، كما يحل ما تحت قناعهن، وقد علم أن لكل شيء نماما، وقد ينقلب الحلال فيصير حراما، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم «لا تبيعوا القينات المغنّيات ولا تشتروهنّ ولا تعلّموهنّ ولا خير في تجارة فيهنّ وثمنهنّ حرام» وفي مثل هذا أنزلت: ومن الناس من يشتري لهو الحديث وكذلك يجري الحكم في المواشط اللاتي يجعلن الحسن موفورا، والقبح مستورا، ويخدعن نظر الناظر حتى يجعلنه مسحورا؛ فهن يبدين

صدقا من كذب، وجدا من لعب، وفعلهن هذا من الغش الذي نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنه، وقال: إنه ليس منه، وقد لعن الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والواشرة والمستوشرة، ومن غشّ المنكرات أيضا خضاب الشّيب الذي يخالف فيه الظاهر الباطن، ويتخلّق صاحبه بخلق الكاذب الخائن، وهب أنه أخفى لون شعره وهل يخفي أخلاق لباسه، وإذا استسنّ ملائم المرء فلا يغنيه سواد عارضه ولا سواد رأسه، وقد جعل الله الشيب من نعمه المبشرة بطول الأعمار، وسماه نورا للونه وهدايته ولا تستوي الظلمات والأنوار، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم «1» الشيب أن يشتغل بتغيير صيغة الكتاب، ويدأب في محو سواد العقاب ببياض الثواب، ففي بقية عمره مندوحة لادخار ما يحمد ذخره، وتبديل ما تقدم سطره. ومما خولفت فيه السنة عقد مجالس التعازي لحضور الناس، وإظهار شعار الأسود والأزرق من اللباس، والتشبيه بالجاهلية في النوح والندب، ومجاوزة دمع العين وخشوع القلب إلى الإعلان بإسخاط الرب، وقد تواطأ النساء على ضرب الخيام على القبور، وجعل الأعياد مواسم لاجتماع الزائر والمزور، فصارت المآتم بينهم ولائم والمنادب عندهم مآدب، وربما نشأ من ذلك ما يغض طرفا، ويجدع أنفا، ويوجب حدا وقذفا. وهكذا أهمل أمر الإسلام في تشبيه أهل الذمة بأهله، وما كانوا ليشابهوه في زي غرته ويخالفوه في سلوك سبله، ولا بد من الغيار بأن يشدّ النصراني عقدة زناره، ويصفّر اليهودي أعلى إزاره، وليمنعوا من الظاهر بطغيان النعمة وعلو الهمة، ويؤمروا بالوقوف عند ما حكم عليهم من الأحكام، وأخذوا فيه بالاختفاء والاكتتام، فخمورهم تستر، وشعائر دينهم لا تظهر، وموتاهم تقبر بالخمول قبل أن تقبر؛ فلا يوقد خلف ميتهم مصباح، ولا يتبع بندب ولا صياح.

ومما عرف الناس منكره إثارة التحريش بين الحيوانات، وهي ذوات أكباد رطبة، وأخلاق صعبة، وما منها إلا ما يحل أكله، ولا يحل قتله، كالكبش والحجلة والديك والسماني وما أشبهها، وقد أكثر الناس من اقتنائها، والمواظبة على إضرام شحنائها، ولربما نشأ من ذلك فتنة تؤل إلى ضراب، وشق ثياب، وإحداث شجاج، وإثارة عجاج، وتحزب إلى أحزاب كثيرة وأفواج. ويتصل بهذه المنكرات المذكورة أشياء أخرى تجري مجراها في التقديم، وتتنزل منزلتها في التحريم، فاحكم فيها بحكمك، وامض في شبهاتها بدليل علمك، ونب عنا في التذكير والتحذير، والتعريف والتنكير، حتى يتقوّم الأود، ويتضح الرشد، ويمكث في الأرض ما ينفع ويذهب الزّبد، وليكن عملك لله الذي يسمع ويرى، وله ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى. واعلم أن الأمر بالمعروف عبادة يتعدى نفع صاحبها إلى غيره، وتستضيف خير المأمور بها إلى خيره، وهي الجهاد الأكبر الذي تقاتل فيه عواصي النفوس، وتضرب به رءوس الشهوات التي هي أمنع من معاقد الرءوس، فقتيله يحيا بقتله، وجريحه يوسي بجراحة نصله، وبمثل هذا الجهاد تستنزل أمداد النعم مضعفة، كما تستنزل أمداد النصر مردفة، فأقدم عليه ذا عزم باتر، وطرف ساهر، وقدم ثابت صابر، حتى تظل لمعاقل الشيطان فاتحا، وتكون فيمن دعا إلى الله وعمل صالحا. واعلم أنك في صبيحة كل يوم يبتدرك الملك والشيطان، وكل منهما يقول: يأيها الإنسان، فإن أجبت نداء الملك كتبك في زمرة من مهد لجنبه، وخاف مقام ربه، وعرج بك ألى الله طيبا نشره، مضاعفا أجره، وإن أجبت نداء الشيطان كتبك في زمرة من أغواه، وقرنك بمن أغفل الله قلبه واتبع هواه، ثم نزل به إلى الأرض خبيثا مخبثا، وأقبل به على إخوانه من الشياطين محدثا. وهذا آخر ما عهدناه إليك من العهد الذي طوقت اليوم بكتابه، وستناقش غدا على حسابه، وكما جعلناه لك في الدنيا ذكرا، فاجعله لك في الآخرة ذخرا، إن شاء الله تعالى؛ والسلام. وهذا الذي ذكرته في هذين من الكتاب والتقليد يتضمن إطنابا مستوفى

الأقسام، ولولا خوف الإطالة التي لا حاجة إليها لأوردت قصائد من الشعر أيضا، حتى لا يخلو الموضع من ضرب أمثلة من المنظوم والمنثور، لكن في الذي ذكرته كفاية لمن يحمله على أشباهه ونظائره. فإن قيل: إن الإطناب في الكلام وضعتموه اسما على غير مسمى؛ فإن الكلام لا يخلو من حالين: إما ألّا يزيد لفظه على معناه، وهو الإيجاز، أو يزيد لفظه على معناه، وهو التطويل، وليس ههنا قسم ثالث، فما الإطناب إذا؟ قلت في الجواب: اعلم أن الإيجاز هو ضد التطويل، كما أن السواد ضد البياض، غير أن بين الضدين مراتب ومنازل ليست أضدادا؛ فالإطناب لا إيجاز هو ولا تطويل، كما أن الحمرة أو الخضرة ليست بياضا ولا سوادا، وقد قدمنا القول أن الإطناب يأتي في الكلام مؤكدا كالذي يأتي بزيادة التصوير للمعنى المقصود إما حقيقة وإما مجازا، والتطويل ليس كذلك؛ فإنه التعبير عن المعنى بلفظ زائد عليه يفهم ذلك المعنى بدونه، فإذا حذفت تلك الزيادة بقي المعنى المعبر عنه على حاله لم يتغير منه شيء، وهذا بخلاف الإطناب، فإنه إذا حذفت منه تلك الزيادة المؤكدة للمعنى تغير ذلك المعنى وزال ذلك التأكيد عنه، وذهبت فائدة التصوير والتخييل التي تفيد السامع ما لم يكن إلا بها، ألا ترى إلى قوله تعالى: فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وهذا لا يسمى إيجازا؛ لأنه أتى فيه بزيادة لفظ، وهو ذكر الصدور، وقد علم أن القلوب لا تكون إلا في الصدور، ولا يسمى تطويلا؛ لأن التطويل لا فائدة فيه أصلا، وهذا فيه فائدة، وهي ما أشرنا إليه، وكذلك باقي أقسام الإطناب التي نبهناه عليها، وهذا لا نزاع فيه.

النوع السابع عشر في التكرير

النوع السابع عشر في التكرير قد تقدم الكلام في صدر كتابي هذا على تكرار الحروف، وما [أشبه] ذلك مما يختلط بهذا النوع الذي هو تكرار المعاني والألفاظ. واعلم أن هذا النوع من مقاتل على البيان، وهو دقيق المأخذ. وحدّه هو: دلالة اللفظ على المعنى مردّدا، وربما اشتبه على أكثر الناس بالإطناب مرة، وبالتطويل أخرى، وقد تقدم الكلام على الفرق بين هذه الأنواع الثلاثة في باب الإطناب، فلا حاجة إلى إعادته ههنا، وأما التكرير فقد عرفتكه. وهو ينقسم قسمين: أحدهما يوجد في اللفظ والمعنى، والآخر يوجد في المعنى دون اللفظ. فأما الذي يوجد في اللفظ والمعنى فكقولك لمن تستدعيه أسرع أسرع، ومنه قول أبي الطيب المتنبي «1» . ولم أر مثل جيراني ومثلي ... لمثلي عند مثلهم مقام وأما الذي يوجد في المعنى دون اللفظ فكقولك: أطعني ولا تعصني، فإن الأمر بالطاعة نهي عن المعصية. وكل من هذين القسمين ينقسم إلى مفيد وغير مفيد، ولا أعني بالمفيد ههنا ما يعنيه النحاة، فإنه عندهم عبارة عن اللفظ المركب؛ إما من الاسم مع الاسم، بشرط أن يكون للأول بالثاني علاقة معنى يسع مكلفا جهله، وإما من الاسم مع

فأما الأول - وهو الذي يوجد في اللفظ والمعنى -

الفعل التام المتصرف، على هذا الشرط أيضا، وإما من حرف النداء مع الاسم؛ فهذا هو المفيد عند النحاة، وأنا لم أقصد ذلك ههنا، بل مقصودي من المفيد أن يأتي لمعنى، وغير المفيد أن يأتي لغير معنى. واعلم أن المفيد من التكرير يأتي في الكلام تأكيدا له، وتشييدا من أمره، وإنما يفعل ذلك للدلالة على العناية بالشيء الذي كررت فيه كلامك؛ إما مبالغة في مدحه أو في ذمه، أو غير ذلك، ولا يأتي إلا في أحد طرفي الشيء المقصود بالذكر، والوسط عار منه؛ لأن أحد الطرفين هو المقصود بالمبالغة إما بمدح أو ذم أو غيرهما، والوسط ليس من شرط المبالغة؛ وغير المفيد لا يأتي في الكلام إلا عيّا وخطلا من غير حاجة إليه. فأما الأوّل- وهو الذي يوجد في اللفظ والمعنى- فإنه ينقسم الى ضربين: مفيد، وغير مفيد. فالأول المفيد وهو فرعان: الأول: إذا كان التكرير في اللفظ والمعنى يدلّ على معنى واحد، والمقصود به غرضان مختلفان، كقوله تعالى: وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون هذا تكرير في اللفظ والمعنى، وهو قوله: يحق الحق وليحق الحق ، إنما جيء به ههنا لاختلاف المراد، وذاك أن الأول تمييز بين الإرادتين، والثاني بيان لغرضه فيما فعل من اختيار ذات الشوكة على غيرها، وأنه ما نصرهم وخذل أولئك إلا لهذا الغرض. ومن هذا الباب قوله تعالى: قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين. قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم. قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه فكرر قوله تعالى: قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وقوله: قل الله أعبد مخلصا له ديني والمراد به غرضان مختلفان، وذلك أن الأول إخبار بأنه مأمور من جهة الله بالعبادة

والإخلاص في دينه، والثاني إخبار بأنه يخصّ الله وحده دون غيره بعبادته مخلصا له دينه؛ ولدلالته على ذلك قدّم المعبود على فعل العبادة في الثاني، وأخّره في الأول؛ لأن الكلام أولا واقع في الفعل نفسه وإيجاده، وثانيا فيمن يفعل من أجله، ولذلك رتب عليه فاعبدوا ما شئتم من دونه. وعليه ورد قوله تعالى: إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله وظاهر الأول والثاني أنهما سواء في المعنى، وليس كذلك؛ لأن الثاني فيه تخصيص غير موجود في الأول، ألا ترى أنا إذا قلنا: زيد الأفضل، وقلنا: الأفضل زيد، كان في الثاني تخصيص له بالفضل، وهذا التخصيص لا يوجد في القول الأول الذي هو زيد الأفضل، ويجوز أن تبدل صفة الفضل فيه بغيرها أو بضدها؛ فيقال: زيد الأجمل، أو زيد الأنقص، وإذا قلنا: الأفضل زيد، وجب تخصيصه بالفضل، ولم يمكن تغييره عنه، وكذلك يجري الحكم في هذه الآية؛ فإن الله تعالى قال: إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ، ثم قال: لم يذهبوا حتى يستأذنوه فوصفهم بالامتناع عن الذهاب إلا بإذنه، وهذه صفة يجوز أن تبدل بغيرها من الصفات، كما قال تعالى في موضع آخر: إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا فجاء بصفة غير تلك الصفة، ولما قال: إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله وجب تخصيصهم بذلك الوصف دون غيره، وهذا موضع حسن في تكرير المعاني. ومما يعدّ من هذا الباب قوله تعالى: قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون. ولا أنتم عابدون ما أعبد. ولا أنا عابد ما عبدتم. ولا أنتم عابدون ما أعبد. لكم دينكم ولي دين وقد ظن قوم أن هذه الآية تكرير لا فائدة فيه، وليس الأمر كذلك؛ فإن معنى قوله لا أعبد يعني في المستقبل: من عبادة آلهتكم، وإلا أنتم فاعلون فيه ما أطلبه منكم من عبادة إلهي، ولا أنا عابد ما عبدتم أي: وما كنت عابدا قط فيما سلف ما عبدتم فيه، يعني أنه لم يعهد مني عبادة صنم في الجاهلية في وقت

مّا فكيف يرجى ذلك مني في الإسلام؟ ولا أنتم عابدون في الماضي في وقت مّا ما أنا على عبادته الآن. ومما يجري هذا المجرى قوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين فكرر الرحمن الرحيم مرتين والفائدة في ذلك أن الأول يتعلق بأمر الدنيا، والثاني يتعلق بأمر الآخرة؛ فما يتعلق بأمر الدنيا يرجع إلى خلق العالمين في كونه خلق كلّا منهم على أكمل صفة، وأعطاه جميع ما يحتاج إليه، حتى البقة والذباب، وقد يرجع إلى غير الخلق كإدرار الأرزاق وغيرها، وأما ما يتعلق بأمر الآخرة فهو إشارة إلى الرحمة الثانية في يوم القيامة الذي هو يوم الدين. وبالجملة فاعلم أنه ليس في القرآن مكرر لا فائدة في تكريره؛ فإن رأيت شيئا منه تكرر من حيث الظاهر فأنعم نظرك فيه؛ فانظر إلى سوابقه ولواحقه؛ لتنكشف لك الفائدة منه. ومما ورد في القرآن الكريم مكررا قوله تعالى: كذبت قوم نوح المرسلين إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون [فكرر قوله: فاتقوا الله وأطيعون ] ليؤكده عندهم ويقرره في نفوسهم، مع تعليق كل واحد منهما لعلة؛ فجعل الأول كونه أمينا فيما بينهم، وجعل علة الثاني حسم طمعه عنهم، وخلوّه من الأغراض فيما يدعوهم أليه. من هذا النحو قوله تعالى: كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب وإنما كرر تكذيبهم ههنا لأنه لم يأت به على أسلوب واحد، بل تنوع فيه بضروب من الصنعة، فذكره أولا في الجملة الخبرية على وجه الإبهام، ثم جاء بالجملة الاستثنائية فأوضحه بأن كل واحد من الأحزاب كذب جميع الرسل؛ لأنهم إذا كذبوا واحدا منهم فقد كذبوا جميعهم، وفي تكرير التكذيب وإيضاحه بعد إبهامه والتنوع في تكريره بالجملة الخبرية أولا وبالاستثنائية ثانيا وما في الاستثناء من الوضع

الفرع الثاني من الضرب الأول:

على وجه التوكيد والتخصيص المبالغة المسجّلة عليهم باستحقاق أشد العذاب وأبلغه. وهذا باب من تكرير اللفظ والمعنى حسن غامض، وبه تعريف موقع التكرير، والفرق بينه وبين غيره؛ فافهمه إن شاء الله تعالى. الفرع الثاني من الضرب الأول: إذا كان التكرير في اللفظ والمعنى يدلّ على معنى واحد، والمراد به غرض واحد؛ كقوله تعالى: فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر والتكرير دلالة [على] التعجب من تقديره وإصابته الغرض، وهذا كما يقال: قتله الله ما أشجعه! أو ما أشعره! وعليه ورد قوله الشاعر: ألا يا اسلمي ثمّ اسلمي ثمّت اسلمي «1» وهذا مبالغة في الدعاء لها بالسلامة، وكل هذا يجاء به لتقرير المعنى المراد وإثباته. وعليه ورد الحديث النبوي؛ وذاك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ بني هشام بن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم عليّا فلا آذن ثمّ لا آذن إلّا أن يطلّق عليّ ابنتي وينكح ابنتهم» فقوله: «لا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن» من التكرير الذي هو أشد موقعا من الإيجاز؛ لانصباب العناية إلى تأكيد القول في منع عليّ رضي الله عنه من التزوج بابنة أبي جهل بن هشام. وهذا مثل قوله تعالى: أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى ومن أجل ذلك نقول: لا إله إلّا الله وحده لا شريك له؛ لأن قولنا: «لا إله إلّا الله» مثل قولنا: «وحده لا شريك له» وهما في المعنى سواء، وإنما كررنا القول فيه لتقرير المعنى وإثباته، وذاك لأن من الناس من يخالف فيه كالنصارى والثّنوية، والتكرير في مثل هذا المقام أبلغ من الإيجاز، وأحسن، وأسدّ موقعا. ومما جاء في مثل هذا قوله تعالى: الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا

فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون. وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين فقوله: من قبله بعد قوله: من قبل فيه دلالة على أن عهدهم بالمطر قد بعد وتطاول؛ فاستحكم بأسهم، وتمادى إبلاسهم، فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك. وعلى ذلك ورد قوله تعالى: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق فقوله: لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر يقوم مقام قوله: ولا يدينون دين الحق لأن من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر لا يدين دين الحق، وإنما كرر ههنا للخطب على المأمور بقتالهم، والتسجيل عليهم، بالذم، ورجمهم بالعظائم؛ ليكون ذلك أدعى لوجوب قتالهم وحربهم، وقد قلنا: إن التكرير إنما يأتي لما أهمّ من الأمر الذي بصرف العناية إليه يثبت ويتقرر. كذلك ورد قوله تعالى: وإن تعجب فعجب قولهم أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد. أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون فتكرير لفظه أولئك من هذا الباب الذي أشرنا إليه؛ لمكان شدة النكير، وإغلاظ العقاب بسبب إنكارهم البعث. وعلى هذا ورد قوله تعالى: أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون فإنه إنما تكررت لفظة هم للإيذان بتحقيق الخسار، والأصل فيها وهم في الآخرة الأخسرون؛ لكن لما أريد تأكيد ذلك جيء بتكرير هذه اللفظة المشار اليها. كذلك قوله تعالى: فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها. أمثال هذا في القرآن كثير. وكذلك ورد قوله تعالى في سورة القصص: فأصبح في المدينة خائفا

يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوي مبين فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس فقوله تعالى: فلما أن أراد أن يبطش بتكرير أن مرتين دليل على أن موسى عليه السلام لم تكن مسارعته إلى قتل الثاني كما كانت مسارعته الى قتل الأول، بل كان عنده إبطاء في بسط يده إليه، فعبر القرآن عن ذلك في قوله تعالى: فلما أن أراد أن يبطش. وجرت بيني وبين رجل من النحويين مفاوضة في هذه الآية؛ فقال: إن أن الأولى زائدة، ولو حذفت فقيل فلما أراد أن يبطش لكان المعنى سواء، ألا ترى إلى قوله تعالى: فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه وقد اتفق النحاة على أنّ أن الواردة بعد لمّا وقبل الفعل زائدة، فقلت له: النحاة لا فتيا لهم في مواقع الفصاحة والبلاغة، ولا عندهم معرفة بأسرارهما، من حيث إنهم نحاة، ولا شك أنهم وجدوا أن ترد بعد لمّا وقبل الفعل في القرآن الكريم وفي كلام فصحاء العرب فظنوا أن المعنى بوجودها كالمعنى إذا أسقطت، فقالوا: هذه زائدة، وليس الأمر كذلك، بل إذا وردت لمّا وورد الفعل بعدها بإسقاط أن دلّ ذلك على الفور، وأذا لم تسقط لم يدلنا ذلك على أن الفعل كان على الفور، وإنما كان فيه تراخ وإبطاء. وبيان ذلك وجهين: أحدهما: أني أقول: فائدة وضع الألفاظ أن تكون أدلّة على المعاني، فإذا أوردت لفظة من الألفاظ في كلام مشهود له بالفصاحة والبلاغة فالأولى أن تحمل تلك اللفظة على معنى، فإن لم يوجد لها معنى بعد التنقيب والتنقير والبحث الطويل قيل: هذه زائدة دخولها في الكلام كخروجها منه، ولما نظرت أنا في هذه الآية وجدت لفظة «أن» الواردة بعد «لمّا» وقبل الفعل دالة على معنى، وإذا كانت دالة على معنى فكيف يسوغ أن يقال: إنها زائدة. فإن قيل: إنها إذا كانت دالة على معنى فيجوز أن تكون دالة على غير ما أشرت أنت إليه. قلت في الجواب: إذا ثبت أنها دالّة على معنى فالذي أشرت إليه معنى

مناسب واقع في موقعه، وإذا كان مناسبا واقعا في موقعه فقد حصل المراد منه، ودلّ الدليل حينئذ أنها ليست بزائدة. الوجه الآخر: أن هذه اللفظة لو كانت زائدة لكان ذلك قدحا في كلام الله تعالى، وذاك أنه يكون قد نطق بزيادة في كلامه لا حاجه إليها، والمعنى يتم بدونها، وحينئذ لا يكون كلامه معجزا؛ إذ من شرط الإعجاز عدم التطويل الذي لا حاجة إليه، وإن التطويل عيب في الكلام، فكيف يكون ما هو عيب في الكلام من باب الإعجاز؟ هذا محال. وأما قوله تعالى: فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فإنه إذا نظر في قصة يوسف عليه السلام مع إخوته منذ ألقوه في الجبّ وإلى أن جاء البشير إلى أبيه عليه السلام وجد أنه كان ثمّ إبطاء بعيد، وقد اختلف المفسرون في طول تلك المدة، ولو لم يكن ثمّ مدة بعيدة وأمد متطاول لما جيء بأن بعد لمّا وقبل الفعل، بل كانت تكون الآية فلما جاء البشير ألقاه على وجهه. وهذه دقائق ورموز لا تؤخذ من النحاة؛ لأنها ليست من شأنهم. واعلم أن من هذا النوع قسما يكون المعنى فيه مضافا إلى نفسه مع اختلاف اللفظ، وذلك يأتي في الألفاظ المترادفة، وقد ورد في القرآن الكريم، واستعمل في فصيح الكلام. فمنه قوله تعالى: والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم والرجز هو العذاب. وعليه ورد قول أبي تمام «1» : نهوض بثقل العبء مضطلع به ... وإن عظمت فيه الخطوب وجلّت

والثقل: هو العبء، والعبء: هو الثقل، وكذلك ورد قول البحتري «1» : ويوم تثنّت للوداع وسلّمت ... بعينين موصول بلحظهما السّحر توهّمتها ألوى بأجفانها الكرى ... كرى النّوم أو مالت بأعطافها الخمر فإن الكرى هو النوم. وربما أشكل هذا الموضع على كثير من متعاطي هذه الصناعة وظنوه مما لا فائدة فيه، وليس كذلك، بل الفائدة فيه هي التأكيد للمعنى المقصود، والمبالغة فيه. أما الآية فالمراد بقوله تعالى: عذاب من رجز أي: عذاب مضاعف من عذاب. وأما بيت أبي تمام فإنه تضمن المبالغة في وصف الممدوح بحمله للأثقال. وأما بيت البحتري فإنه أراد أن يشبه طرفها لفتوره بالنائم؛ فكرر المعنى فيه على طريق المضاف والمضاف إليه تأكيدا له وزيادة في بيانه. وهذا الموضع لم ينبه عليه أحد سواي. ولربما أدخل في التكوير من هذا النوع ما ليس منه، وهو موضع لم ينبه عليه أيضا أحد سواي. فمنه قوله تعالى: ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم فلما تكرر إن ربك مرتين علم أن ذلك أدل على المغفرة.

وكذلك قوله تعالى: ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم. ومثل قوله تعالى: لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب. وهذه الآيات يظن أنها من باب التكرير، وليست كذلك، وقد أنعمت نظري فيها فرأيتها خارجة عن حكم التكرير، وذاك أنه إذا طال الفصل من الكلام، وكان أوله يفتقر إلى تمام لا يفهم إلا به؛ فالأولى في باب الفصاحة أن يعاد لفظ الأول مرة ثانية؛ ليكون مقارنا لتمام الفصل؛ كي لا يجيء الكلام منثورا؛ لا سيما في إنّ وأخواتها؛ فإذا وردت إنّ وكان بين اسمها وخبرها فسحة طويلة من الكلام فإعادة إنّ أحسن في حكم البلاغة والفصاحة؛ كالذي تقدم من هذه الآيات. وعليه ورد قول بعضهم من شعراء الحماسة «1» : أسجنا وقيدا واشتياقا وغربة ... ونأي حبيب إنّ ذا لعظيم وإنّ امرأ دامت مواثيق عهده ... على مثل هذا إنّه لكريم فإنه لما طال الكلام بين اسم إنّ وخبرها أعيدت إنّ مرة ثانية؛ لأن تقدير الكلام، وإنّ آمرا دامت مواثيق عهده على مثل هذا لكريم؛ لكن بين الاسم والخبر مدى طويل؛ فإذا لم تعد إنّ مرة ثانية لم يأت على الكلام بهجة ولا رونق، وهذا لا يتنبه لاستعماله إلا الفصحاء إما طبعا وإما علما. وكذلك يجري الأمر إذا كان خبر إنّ عاملا في معمول يطول ذكره؛ فإن إعادة الخبر ثانية هو الأحسن. وعلى هذا جاء قوله تعالى في سورة يوسف عليه السلام: إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين فلما

قال إني رأيت ثم طال الفصل كان الأحسن أن يعيد لفظ الرؤية فيقول رأيتهم لي ساجدين. وكذلك جاءت الآية المذكورة ههنا قبل هذه، وهي قوله تعالى: لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا فإنه لما طال الفصل أعاد قوله فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب فاعلم ذلك، وضع يدك عليه. وكذلك الآية التي قبلها، وهي قوله تعالى: ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة. وكذلك الآية الأخرى، وهي: ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا. ومن باب التكرير في اللفظ والمعنى الدال على معنى واحد قوله عز وجل: وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد. يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار ؛ فإنه إنما كرر نداء قومه ههنا لزيادة التنبيه لهم والإيقاظ عن سنة الغفلة، ولأنهم قومه وعشيرته، وهم فيما يوبقهم من الضلال، وهو يعلم وجه خلاصهم، ونصيحتهم عليه واجبة؛ فهو يتحزن لهم، ويتلطف بهم، ويستدعي بذلك ألّا يتهموه؛ فإن سرورهم سروره، وغمهم غمه، وأن ينزلوا على نصيحته لهم، وهذا من التكرير الذي هو أبلغ من الإيجاز وأسد موقعا من الاختصار؛ فاعرفه إن شاء الله تعالى. وعلى نحو منه جاء قوله تعالى في سورة القمر: فذوقوا عذابي ونذر. ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر فإنه قد تكرر ذلك في السورة كثيرا، وفائدته أن يجدّدوا عند استماع كل نبأ من أنباء الأولين ادّكارا وإيقاظا، وأن يستأنفوا تنبّها واستيقاظا إذا سمعوا الحث على ذلك والبعث إليه، وأن تقرع لهم العصا مرّات لئلا يغلبهم السهو وتستولي عليهم الغفلة. وهكذا حكم التكرير في قوله تعالى في سورة الرحمن: فبأي آلاء ربكما تكذبان* وذلك عند كل نعمة عدّدها على عباده.

أمثال هذا في القرآن الكريم كثير. ومما ورد من هذا النوع شعرا قول بعض شعراء الحماسة «1» : إلى معدن العزّ المؤثّل والنّدى ... هناك هناك الفضل والخلق الجزل فقوله «هناك هناك» من التكرير الذي هو أبلغ من الإيجاز؛ لأنه في معرض مدح، فهو يقرر في نفس السامع ما عند الممدوح من هذه الأوصاف المذكورة مشيرا إليها، كأنه قال: أدلكم على معدن كذا وكذا ومقره ومفاده. وكذلك ورد قول المساور بن هند: جزى الله عنّي غالبا من عشيرة ... إذا حدثان الدّهر نابت نوائبه فكم دافعوا من كربة قد تلاحمت ... عليّ وموج قد علتني غواربه فصدر البيت الثاني وعجزه يدلان على معنى واحد؛ لأن تلاحم الكرب عليه كتعالي الموج من فوقه، وإنما سوغ ذلك لأنه مقام مدح وإطراء، ألا ترى أنه يصف إحسان هؤلاء القوم عند دثان دهره في التكرير، وفي قبالته لو كان القائل هاجيا؛ فإن الهجاء في هذا كالمدح، والتكرير إنما يحسن في كلا الطرفين، لا في الوسط. واعلم أنه إذا وردت «إن» المكسورة المخففة بعد «ما» كانت بمعناها سواء، ألا ترى إلى قوله تعالى: إن هم إلا كالأنعام فإن وما بمعنى واحد، وإذا أوردت من بعد ما كانت من باب التكرير، كقولنا: ما إن يكون كذا وكذا: أي ما يكون كذا وكذا، وإذا وردت في الكلام فإنما ترد في مثل ما أشرنا إليه من التكرير؛ فإن استعملت في غير ما يكون منها لفائدة ينتجها تكريرها كان استعمالها لغوا لا فائدة فيه.

وقد زعم قوم من مدعي هذه الصناعة أن أبا الطيب المتنبي أتى في هذا البيت بتكرير لا حاجة به إليه، وهو قوله «1» : العارض الهتن ابن العارض الهتن اب ... ن العارض الهتن ابن العارض الهتن وليس في هذا البيت من تكرير؛ فإنه كقولك: الموصوف بكذا وكذا ابن الموصوف بكذا وكذا: أي أنه عريق النسب في هذا الوصف. وقد ورد في الحديث النبوي مثل ذلك؛ كقول النبي صلّى الله عليه وسلّم في وصف يوسف الصديق عليه السلام: «الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم» . ولقد فاوضني في هذا البيت المشار إليه بعض علماء الأدب، وأخذ يطعن فيه من جهة تكراره، فوقفته على مواضع الصواب منه، وعرفته أنه كالخبر النبوي من جهة المعنى سواء بسواء، لكن لفظه ليس بمرضيّ على هذا الوجه الذي قد استعمل فيه؛ فإنّ الألفاظ إذا كانت حسانا في حال انفرادها فإن استعمالها في حال التركيب يزيدها حسنا على حسنها، أو يذهب ذلك الحسن عنها، وقد تقدم الكلام على ذلك في المقالة الأولى من الصناعة اللفظية، ولو تهيأ لأبي الطيب المتنبي أن يبدل لفظة العارض بلفظة السحاب، أو ما يجري مجراها؛ لكان أحسن، وكذلك لفظة الهتن، فإنها ليست بمرضية في هذا الموضع على هذا الوجه، ولفظة العارض، وإن كانت قد وردت في القرآن وهي لفظة حسنة فالفرق بين ورودها في القرآن الكريم وورودها في هذا البيت الشعري ظاهر؛ وقد تقدم الكلام على مثلها من آية وبيت لأبي الطيب أيضا، وهو في المقالة اللفظية عند الكلام على الألفاظ المفردة فليؤخذ من هناك، وكثيرا ما يقع الجهال في مثل هذه المواضع، وهم الذين قيل فيهم:

وكذا كلّ أخي حذلقة ... ما مشى في يابس إلّا زلق فترى أحدهم قد جمع نفسه وظنّ على جهله أنه عالم، فيسرع في وصف كلام بالإيجاز وكلام بالتطويل أو بالتكرير، وإذا طولب بأن يبدي سببا لما ذكره لم يوجد عنده من القول شيء إلا تحكما محضا صادرا عن جهل محض. الضرب الثاني من التكرير في اللفظ والمعنى، وهو غير المفيد؛ فمن ذلك قول مروان الأصغر: سقى الله نجدا والسّلام على نجد ... ويا حبّذا نجد على النّأي والبعد نظرت إلى نجد وبغداد دونها ... لعلّي أرى نجدا وهيهات من نجد وهذا من العيّ الضعيف، فإنه كرر ذكر نجد في البيت الأول ثلاثا، وفي البيت الثاني ثلاثا، ومراده في الأول الثناء على نجد، وفي الثاني أنه تلفت إليها ناظرا من بغداد، وذلك مرمى بعيد، وهذا المعنى لا يحتاج إلى مثل هذا التكرير؛ أما البيت الأول فيحمل على الجائز من التكرير؛ لأنه مقام تشوق وتحرق وموجدة بفراق نجد، ولما كان كذلك أجيز فيه التكرير، على أنه قد كان يمكنه أن يصوغ هذا المعنى الوارد في البيتين معا من غير أن يأتي بهذا التكرير المتتابع ست مرات. وعلى هذا الأسلوب ورد قول أبي نواس: أقمنا بها يوما ويوما وثالثا ... ويوما له يوم التّرحّل خامس ومراده من ذلك أنهم أقاموا بها أربعة أيام، ويا عجبا له يأتي بمثل هذا البيت السخيف الدال على العيّ الفاحش في ضمن تلك الأبيات «1» العجيبة الحسن التي تقدم ذكرها في باب الإيجاز، وهي: ودار ندامى عطّلوها وأدلجوا

وأما القسم الثاني من التكرير، وهو الذي يوجد في المعنى دون اللفظ؛

ومن هذا الباب أيضا ما أوردناه في صدر هذا النوع وهو قول أبي الطيب «1» المتنبي: ولم أر مثل جيراني ومثلي ... لمثلي عند مثلهم مقام فهذا هو التكرير الفاحش الذي يؤثر في الكلام نقصا، ألا ترى أنه يقول: لم أر مثل جيراني في سوء الجوار، ولا مثلي في مصابرتهم ومقامي عندهم، إلا أنه قد كرر هذا المعنى في البيت مرتين. وعلى نحو من ذلك جاء قوله أيضا: وقلقلت بالهمّ الّذي قلقل الحشى ... قلاقل عيس كلّهنّ قلاقل وأما القسم الثاني من التكرير، وهو الذي يوجد في المعنى دون اللفظ؛ فذلك ضربان: مفيد، وغير مفيد. الضرب الأول: المفيد، وهو فرعان. الأول: إذا كان التكرير في المعنى يدل على معنيين مختلفين، وهو موضع من التكرير مشكل؛ لأنه يسبق إلى الوهم أنه تكرير يدل على معنى واحد. فمما جاء منه حديث حاطب بن أبي بلتعة في غزوة الفتح، وذاك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر علي بن أبي طالب والزّبير والمقداد رضي الله عنهم فقال: «اذهبوا إلى روضة خاخ؛ فإن بها ظعينة معها كتاب، فأتوني به» قال علي رضي الله عنه: فخرجنا تتعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة، وإذا فيها الظعينة، فأخذنا الكتاب من عقاصها، وأتينا به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإذا هو من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض شأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له: ما هذا يا حاطب؟ فقال: يا رسول الله، لا تعجل عليّ، إني كنت امرأ ملصقا في قريش، ولم أكن من أنفسهم، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابة تحمون بها أموالهم وأهليهم بمكة، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب أن أتّخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي، وما فعلت ذلك

كفرا، ولا ارتدادا عن ديني، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّه قد صدقكم» فقوله: ما فعلت ذلك كفرا، ولا ارتدادا عن ديني، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، من التكرير الحسن، وبعض الجهال يظنه تكريرا لا فائدة فيه، فإن الكفر والارتداد عن الدين سواء، وكذلك الرضا بالكفر بعد الإسلام، وليس كذلك، والذي يدل عليه اللفظ هو أني لم أفعل ذلك وأنا كافر: أي باق على الكفر، ولا مرتدا: أي أني كفرت بعد إسلامي، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام: أي ولا إيثارا لجانب الكفار على جانب المسلمين، وهذا حسن في مكانه، واقع في موقعه؛ وقد يحمل التكرير فيه على غير هذا الفرع الذي نحن بصدد ذكره ههنا، وهو الذي يكون التكرير فيه يدل على معنى واحد، وسيأتي بيانه في الفرع الثاني الذي يلي هذا الفرع الأول، والذي يجوزه أن هذا المقام هو مقام اعتذار وتنصّل عما رمي به من تلك القارعة العظيمة التي هي نفاق وكفر؛ فكرر المعنى في اعتذاره قصدا للتأكيد والتقرير لما ينفي عنه ما رمي به. ومما ينتظم بهذا السلك أنه إذا كان التكرير في المعنى يدلّ على معنيين أحدهما خاص والآخر عام كقوله تعالى: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فإن الأمر بالمعروف داخل تحت الدعاء إلى الخير؛ لأن الأمر بالمعروف خاص، والخير عام، فكل أمر بالمعروف خير، وليس كل خير أمرا بالمعروف، وذاك أن الخير أنواع كثيرة من جملتها الأمر بالمعروف، ففائدة التكرير ههنا أنه ذكر الخاص بعد العام للتنبيه على فضله، كقوله تعالى: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وكقوله تعالى: فيهما فاكهة ونخل ورمان ، وكقوله تعالى: إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها فإن الجبال داخلة في جملة الأرض، لكن لفظ الأرض عام، والجبال خاص، وفائدته ههنا تعظيم شأن الأمانة المشار إليه، وتفخيم أمرها، وقد ورد هذا في القرآن الكريم كثيرا. ومما ورد منه شعرا قول [المقنّع الكنديّ «1» ] من أبيات الحماسة:

الفرع الثاني:

وإنّ الّذي بيني وبين بني أبي ... بين بني عمّي لمختلف جدّا إذا أكلوا لحمي وفرت لحومهم ... وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا وإن ضيّعوا غيبي حفظت غيوبهم ... وإن هم هووا غيّ هويت لهم رشدا فهذا من الخاص والعام؛ فإن كل لحم يؤكل للإنسان فهو تضييع لغيبه، وليس كل تضييع لغيبه أكلا للحمه، ألا ترى أن أكل اللحم هو كناية عن الاغتياب، وأما تضييع الغيب فمنه الاغتياب ومنه التخلي عن النصرة والإعانة ومنه إهمال السعي في كل ما يعود بالنفع كائنا ما كان، وعلى هذا فإن هذين البيتين من الخاص والعام المشار إليه في الآية المقدم ذكرها، وهو موضع يرد في الكلام البليغ ويظن أنه لا فائدة فيه. الفرع الثاني: إذا كان التكرير في المعنى يدل على معنى واحد لا غير، وقد سبق مثال ذلك في أول هذا الباب، كقولك: أطعني ولا تعصني؛ فإن الأمر بالطاعة نهي عن المعصية، والفائدة في ذلك تثبيت الطاعة في نفس المخاطب. والكلام في هذا الموضع كالكلام في الموضع الذي قبله من تكرير اللفظ والمعنى إذا كان الغرض به شيئا واحدا، ولا نجد شيئا من ذلك يأتي في الكلام إلا لتأكيد الغرض المقصود به؛ كقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم فإنه إنما كرّر العفو والصفح والمغفرة، والجميع بمعنى واحد؛ للزيادة في تحسين عفو الوالد عن ولده والزوج عن زوجته، وهذا وأمثاله ينظر في الغرض المقصود به، وهو موضع يكون التكرير فيه أوجز من لمحة الإيجاز وأولى بالاستعمال. وقد ورد في القرآن الكريم كثيرا، كقوله تعالى في سورة يوسف عليه السلام: إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون فإن البثّ والحزن بمعنى واحد، وإنما ههنا لشدة الخطب النازل به، وتكاثر سهامه النافذة في قلبه، وهذا المعنى كالذي قبله. وكذلك ورد قوله تعالى: تلك عشرة كاملة بعد ثلاثة وسبعة تنوب مناب قوله ثلاثة وسبعة مرتين لأن عشرة هي ثلاثة وسبعة، ثم قال (كاملة) وذلك توكيد

ثالث، والمراد به إيجاب صوم الأيام السبعة عند الرجوع في الطريق على الفور، لا عند الوصول إلى البلد كما ذهب إليه بعض الفقهاء، وبيانه أني أقول: إذا صدر الأمر من الأمر على المأمور بلفظ التكرير مجردا من قرينة تخرجه عن وصفه ولم يكن موقّتا بوقت معين كان ذلك حثّا على المبادرة إلى امتثال الأمر على الفور؛ فإنك إذا قلت لمن تأمره بالقيام: قم، قم، قم، فإنما تريد بهذا اللفظ المكرر أن يبادر إلى القيام في تلك الحال الحاضرة. فإن قلت: الغرض بتكرير الأمر أن يتكرر في نفس المأمور أنه مراد منه، وليس الغرض الحثّ على المبادرة إلى امتثال الأمر. قلت في الجواب: إن المرة الواحدة كافية في معرفة المأمور أن الذي أمر به مراد منه، والزيادة على المرة الواحدة لا تخلو: إما أن تكون دالة على ما دلت عليه المرة الواحدة أو دالة على زيادة معنى لم تكن في المرة الواحدة؛ فإن كانت دالة على ما دلت عليه المرة الواحدة كان ذلك تطويلا في الكلام لا حاجة إليه، وقد ورد مثله في القرآن الكريم، كهذه الآية المشار إليها وغيرها من الآيات، والتطويل في الكلام عيب فاحش عند البلغاء والفصحاء، والقرآن معجز ببلاغته وفصاحته، فكيف يكون فيه تطويل لا حاجة إليه، فينبغي أن تكون تلك الزيادة دالة على معنى زائد على ما دلّت عليه المرة الواحدة، وإذا ثبت هذا فتلك الزيادة هي الحث على المبادرة إلى امتثال الأمر؛ فإن سلمت لي ذلك وإلا فبيّن معنى تلك الزيادة ببيان غير ما ذكرته أنا، ولا أراك أن تستطيع ذلك. فإن قلت: إن الواو في قوله تعالى: وسبعة إذا رجعتم لولا أن تؤكد بقوله (تلك عشرة) لظن أنها وردت بمعنى أو: أي فثلاثة أيام في الحج أو سبعة إذا رجعتم، فلما قيل (تلك عشرة) زال هذا الظن، وتحققت الواو أنها عاطفة، وليست بمعنى أو. قلت في الجواب: هذا باطل من أربعة أوجه: الوجه الأول: أن الواو العاطفة لا تجعل بمعنى أو أين وردت من الكلام، وإنما تجعل بمعنى أو حال ضرورة

ترجيح جانبها على جانب جعلها عاطفة؛ لأن الأصل فيها أن تكون عاطفة، فإذا عدل بها عن أصلها احتاج إلى ترجيح، ولا ترجيح ههنا؛ الوجه الثاني: بلاغي، وذاك أن القرآن الكريم منتهى البلاغة والفصاحة لمكان إعجازه، فلو كان معنى الواو في هذه الآية بمعنى أو لقيل فثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم، ولم يحتج إلى هذا التطويل، في قوله فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة الوجه الثالث: أن هذا الصوم حكم من أحكام العبادات، والعبادات يجب فيها الاحتياط أن تؤدّى على أكمل صورة؛ لئلا يدخلها النقص، وإذا كان الأمر على ذلك فكيف يظن أن الواو في هذه الآية بمعنى أو؟ الوجه الرابع: أن السبعة ليست مماثلة للثلاثة، حتى تجعل في قبالتها؛ لأن معنى الآية إذا كانت الواو فيها بمعنى أو إما أن تصوموا ثلاثة أيام في الحج أو سبعة إذا رجعتم. فإن قلت: هذا تعبد لا يعقل معناه كغيره من التعبدات التي لا يعقل معناها. قلت في الجواب: إن لنا من التعبدات ما لا يعقل معناه؛ كعدد ركعات الصلوات، وعدد الطواف والسعي، وأشباه ذلك، ولنا ما يعقل معناه، كهذه الآية، فإنا نعقل التّفاوت بين الصوم في الحضر والسفر، ونعقل التفاوت بين العدد الكثير والعدد القليل، وعلى هذا فلا يخلو: إما أن يكون صوم الأيام السبعة عند الرجوع في الطريق، أو عند الوصول إلى البلد؛ فإذا كان في الطريق فإنه أشق من الصوم بمكة؛ لأن الصوم في السفر أشقّ من الصوم في الحضر؛ فكيف يجعل صوم سبعة أيام في السفر في مقابلة صوم ثلاثة أيام بمكة؟ وإن كان الصوم عند الوصول إلى البلد فلا فرق بين الصوم بمكة والصوم عند الوصول إلى البلد؛ لأن كليهما صوم في المقام ببلد من البلاد لا تفاوت بينهما حتى يجعل صوم ثلاثة أيام في مقابلة سبعة أيام على غير مثال ولا تساو؛ فعلى كلا التقديرين لا يجوز أن تكون الواو في وسبعة إذا رجعتم بمعنى أو؛ فتحقق إذا أنها للعطف خاصة، وإذا كانت للعطف خاصة فتأكيدها بعشرة كاملة دليل على أن المراد وجود صوم الأيام السبعة في الطريق قبل الوصول إلى البلد. فإن قلت: إن الصوم بمكة أشق من الصوم في الظريق؛ لأن الواجب عليه

الصوم بمكة في نصب وتعب بتصريف زمانه في السعي والطواف والصلاة والعمرة وغير ذلك. قلت في الجواب: هذا لا يلزم؛ إذ الواجب عليه سعي واحد، وطواف واحد، لا غير، وما عدا ذلك نافلة لا يلزم، ونحن في هذا المقام ناظرون إلى ما يجب لا إلى النافلة، والذي يجب أداؤه بمكة يفرغ منه في ساعة واحدة، فكيف تجعل الزيادة على ذلك دليلا يورد في هذا المقام؟ هذا غير وارد. هكذا ورد قوله تعالى: فإذا نقر في الناقور. فذلك يومئذ يوم عسير. على الكافرين غير يسير فقوله غير يسير بعد قوله عسير من هذا النوع المشار إليه، وإلا فقد علم أن العسير لا يكون يسيرا، وإنما ذكر ههنا على هذا الوجه لتعظيم شأن ذلك اليوم في عسره وشدّته على الكافرين. وكذلك ورد قوله تعالى: قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآوا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده فإن البغضاء والعداوة بمعنى واحد، وإنما حسن إيرادهما معا في معرض واحد لتأكيد البراءة بين إبراهيم صلوات الله عليه والذين آمنوا به وبين الكفار من قومهم؛ حيث لم يؤمنوا بالله وحده، وللمبالغة في إظهار القطيعة والمصارمة. وورود مثل ذلك في مثل هذا الموضع كالإيجاز في موضعه، ولن ترى شيئا يرد في القرآن الكريم من هذا القبيل إلا وهو لأمر اقتضاه؛ وإن خفي عنك موضع السر فيه فاسأل عنه أهله العارفين به. ومما ورد منه شعرا قول بعضهم في أبيات الحماسة «1»

الضرب الثاني من القسم الثاني:

نزلت على آل المهلّب شاتيا ... بعيدا عن الأوطان في زمن المحل «1» فما زال بي إكرامهم وافتقادهم ... وإحسانهم حتّى حسبتهم أهلي «2» فإن الإكرام والافتقاد داخلان تحت الإحسان، وإنما كرر ذلك للتنويه بذكر الصنيع، والإيجاب لحقه. وعلى هذا ورد قول الأعشى في قصيدته المشهورة التي يمدح بها النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ فقال منها «3» : فآليت لا أرثي لها من كلالة ... ولا من وجى حتّى تلاقي محمّدا فإن الوجى والكلالة معناهما سواء، وإنما حسن تكريره ههنا للإشعار ببعد المسافة. الضرب الثاني من القسم الثاني: في تكرير المعنى دون اللفظ، وهو غير المفيد؛ فمن ذلك قول أبي تمام «4» : قسم الزّمان ربوعها بين الصّبا ... وقبولها ودبورها أثلاثا فإن الصّبا هي القبول، وليس ذلك مثل التكرير في قوله تعالى: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى فيما يرجع إلى تكرير اللفظ والمعنى، ولا مثل التكرير في قوله تعالى: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف فيما يرجع إلى تكرير المعنى دون اللفظ، وقول أبي تمام الصّبا والقبول لا يشتمل إلا على معنى واحد لا غير. وهذا الضرب من التكرير قد خبط فيه علماء البيان خبطا كثيرا، والأكثر منهم

أجازه؛ فقالوا: إذا كانت الألفاظ متغايرة والمعنى المعبر عنه واحدا فليس استعمال ذلك بمعيب، وهذا القول فيه نظر؛ والذي عندي فيه أن الناثر يعاب على استعماله مطلقا إذا أتى لغير فائدة، وأما الناظم فإنه يعاب عليه في موضع دون موضع؛ أما الموضع الذي يعاب استعماله فيه فهو صدور الأبيات الشعرية وما والاها، وأما الموضع الذي لا يعاب استعماله فيه فهو الأعجاز من الأبيات؛ لمكان القافية، وإنما جاز ذلك ولم يكن عيبا لأنه قافية، والشاعر مضطر إليها، والمضطر يحل له ما حرم عليه؛ كقول امريء القيس في قصيدته اللامية التي مطلعها: ألا انعم صباحا أيّها الطّلل البالي فقال: وهل ينعمن إلّا سعيد مخلّد ... قليل الهموم لا يبيت بأوجال وإذا كان قليل الهموم فإنه لا يبيت بأوجال، وهذا تكرير للمعنى، إلا أنه ليس بمعيب؛ لأنه قافية؛ وكذلك ورد قول الحطيئة «1» : قالت أمامة لا تجزع فقلت لها ... إنّ العزاء وإنّ الصّبر قذ غلبا هلّا التمست لنا إن كنت صادقة ... مالا نعيش به في النّاس أو نشبا فالبيت الأول معيب؛ لأنه كرر العزاء والصبر؛ إذ معناهما واحد، ولم يردا قافية؛ لأن القافية هي الباء، وأما البيت الثاني فليس بمعيب؛ لأن التكرير جاء في النّشب وهو قافية. ومما يجري هذا المجرى قول المنخل اليشكري «2» :

ولقد دخلت على الفتا ... ة الخدر في اليوم المطير الكاعب الحسناء تر ... فل في الدّمقس وفي الحرير فإن الدّمقس والحرير سواء، وقد ورد قافية فلا بأس به من أجل ذلك. فإن قيل: إن الحرير هو الإبريسم المنسوج، بدليل قوله تعالى: وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا فإنه لم يرد خيوط إبريسم، وإنما أراد أثوابا من الإبريسم، وأما الدّمقس فإنه خيوط الإبريسم محلولة، بدليل قول امريء القيس: وشحم كهدّاب الدّمقس المفتّل «1» فإنه لم يرد إبريسما منسوجا، وإنما أراد خيوط الإبريسم. فالجواب عن ذلك: أنه لو حمل بيت المنخل على ذلك لفسد معناه؛ لأن المرأة لا ترفل في خيوط من الإبريسم، وإنما ترفل في الأثواب منه، وأما قول امريء القيس «كهداب الدّمقس» فإنه لو كان الدمقس هو الخيوط المحلولة من الإبريسم لما احتاج أن يقول «كهداب» فإن الهدّاب جمع هدب، ثم قال «المفتّل» فدلّ بذلك على أن الدمقس يطلق على الإبريسم، سواء كان منسوجا أو غير منسوج؛ وكذلك الحرير أيضا، وعند الاستعمال يفهم المراد منه بالقرينة، ألا ترى أنه لما قال المنخل «ترفل في الدمقس وفي الحرير» فهم من ذلك أنه أراد أثوابا من الدمقس ومن الحرير؛ لأن الرفول لا يكون في خيوط من الإبريسم، وإنما يكون في أثوابه. ومما يجري على هذا النهج قول الآخر من شعراء الحماسة «2» :

إنّي وإن كان ابن عمّي غائبا ... لمقادف من خلفه وورائه فإن خلفا ووراء بمعنى واحد، وإنما جاز تكرارهما لأنهما قافية. وعلى هذا ورد قول أبي تمام «1» : دمن كأنّ البين أصبح طالبا ... دمنا لدى آرامها وحقودا «2» فإن الدمنة هي الحقد. وكذلك قول أبي الطيب المتنبي «3» : بحر تعوّد أن يذمّ لأهله ... من دهره وطوارق الحدثان فتركته وإذا أذمّ من الورى ... راعاك واستثنى بني حمدان فإن الدهر وطوارق الحدثان سواء، وإنما جاز استعمال ذلك لأنه قافية. وأما ما ورد في أثناء الأبيات الشعرية فكقول عنترة» : حيّيت من طلل تقادم عهده ... أقوى وأقفر بعد أمّ الهيثم

فقوله «أقوى وأقفر» من المعيب؛ لأنهما لفظان وردا بمعنى واحد لغير ضرورة؛ إذ الضرورة لا تكون إلا في القافية كما أريتك. وأما ما ورد من صدور الأبيات فكقول البحتري في قصيدته العينية «1» : ألمّت وهل إلمامها بك نافع ... وزارت خيالا والعيون هواجع فإن قوله «ألمت» وقوله «زارت خيالا» سواء، ولا فرق إذا بين صدر البيت وعجزه. فإن قيل: إنه أراد بالإلمام زيارة اليقظة، ثم قال «وزارت خيالا» . فالجواب عن ذلك أنه لم يرد إلا زيارة المنام في الحالتين؛ لأنه قال «ألمت وهل إلمامها بك نافع» ولو كان الإلمام في اليقظة لما قال «وهل إلمامها بك نافع» ؛ فإنه لا نفع من زيارة المحبوب في اليقظة، وهذا غير خاف لا يحتاج إلى السؤال عنه. فإن قيل: لم أجزت ذلك للناظم وحظرته على الناثر؟. قلت في الجواب: أما الناثر إذا سجع كلامه فالغالب أن يأتي به مزدوجا على فقرتين من الفقر، ويمكنه إبدال تلك الفقرتين بغيرهما، فيسلم منه؛ وأما الشاعر فإنه يصوغ قصيدا ذا أبيات متعددة على قافية من القوافي؛ فإذا تكرر لديه شيء من الكلام في آخر بيت من الأبيات عسر إبداله من أجل القافية، وهذا غير خاف، والسؤال عنه غير وارد. وهذا الذي ذكرته إذا ورد في غير القافية سمي إخلاء، ويقال: إن البحتري كان يخلي كثيرا في شعره، وهو لعمري كذلك، إلا أن حسن سبكه ورونق ديباجته يغفر له ذلك.

ويروى عنه أنه كان إذا مثل بين يدي الفتح بن خاقان وزير المتوكل مادحا له اختال بين يديه معجبا بنفسه، فتقدّم خطوات ثم تأخر، وقال: أيّ شيء تسمعون، فنقم عليه ذلك بعض حسدته، وحمل الفتح بن خاقان عليه، فقال له الفتح: لو رمانا بالحجارة لكان ذلك مغفورا له فيما يقوله.

النوع الثامن عشر في الاعتراض

النوع الثامن عشر في الاعتراض وبعضهم يسميه الحشو. وحدّه: كل كلام أدخل فيه لفظ مفرد أو مركب لو أسقط لبقي الأول على حاله. مثال ذلك أن تقول: زيد قائم؛ فهذا كلام مفيد، وهو مبتدأ وخبر؛ فإذا أدخلنا فيه لفظا مفردا قلنا: زيد والله قائم، ولو أزلنا القسم منه لبقي الأول على حاله، وإذا أدخلنا في هذا الكلام لفظا مركبا قلنا: زيد على ما به من المرض قائم، فأدخلنا بين المبتدأ والخبر لفظا مركبا، وهو قولنا «على ما به من المرض» فهذا هو الاعتراض، وهذا حده. واعلم أن الجائز منه وغير الجائز إنما يؤخذ من كتب العربية؛ فإنه يكون مستقصى فيها، كالاعتراض بين القسم وجوابه، وبين الصفة والموصوف، وبين المعطوف والمعطوف عليه، وأشباه ذلك مما يحسن استعماله، وكالاعتراض بين المضاف والمضاف إليه، وبين إنّ واسمها، وبين حرف الجر ومجروره، وأمثال ذلك مما يقبح استعماله، وليس هذا مكانه؛ لأن كتابنا هذا موضوع لمن استكمل معرفة ذلك وغيره مما أشرنا إليه في صدر الكتاب. وليس المراد ههنا من الاعتراض إلا ما يفرق به بين الجيد والرديء، لا ما يعلم به الجائز وغير الجائز؛ لأن كتابي هذا موضوع لذكر ما يتضمنه الكلام على اختلاف أنواعه من وصفي الفصاحة والبلاغة، فالذي أذكره في باب الاعتراض إنما هو ما اشتمل على شيء من هذين الوصفين المشار إليهما. واعلم أن الاعتراض ينقسم قسمين: أحدهما: لا يأتي في الكلام إلا لفائدة،

فالقسم الأول -

وهو جار مجرى التوكيد، والآخر: أن يأتي في الكلام لغير فائدة؛ فإما أن يكون دخوله فيه كخروجه منه، وإما أن يؤثر في تأليفه نقصا وفي معناه فسادا. فالقسم الأول- وهو الذي يأتي الكلام لفائدة- كقوله تعالى: فلا أقسم بمواقع النجوم. وإنه لقسم لو تعلمون عظيم. إنه لقرآن كريم. في كتاب مكنون ؛ ففي هذا الكلام اعتراضان: أحدهما قوله: وإنه لقسم لو تعلمون عظيم وذلك اعتراض بين القسم الذي هو فلا أقسم بمواقع النجوم وبين جوابه الذي هو إنه لقرآن كريم وفي نفس هذا الاعتراض اعتراض آخر بين الموصوف الذي هو قسم وبين صفته التي هي عظيم وهو قوله: لو تعلمون فذانك اعتراضان كما ترى، وفائدة هذا الاعتراض بين القسم وجوابه إنما هي تعظيم لشأن المقسم به في نفس السامع، ألا ترى إلى قوله: لو تعلمون اعتراضا بين الموصوف والصفة وذلك الأمر بحيث لو علم وفّي حقه من التعظيم، وهذا مثل قولنا: إن هذا الأمر لعظيم بحيث لو تعلم يا فلان عظمه لقدرته حقّ قدره؛ فإن ذلك يكبر في نفس المخاطب، ويظل متطلعا إلى معرفة عظمه. وكذلك ورد قوله تعالى: ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون وتقديره: ويجعلون لله البنات ولهم ما يشتهون؛ فاعترض بين المفعولين «1» بسبحانه، وهو مصدر يدلّ على التنزيه «2» فكأنه قال: ويجعلون لله البنات، وهو منزّه عن ذلك، ولهم ما يشتهون، وفائدة هذا الاعتراض ههنا ظاهرة. وكذلك ورد قوله تعالى في سورة يوسف عليه السلام: قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين فقوله: لقد علمتم اعتراض بين القسم وجوابه، وفائدته تقرير إثبات البراءة من الفساد والنزاهة من تهمة السرقة: أي إنكم قد علمتم هذا منا، ونحن مع علمكم به نقسم بالله على صدقه.

وقد ورد الاعتراض في القرآن كثيرا، وذلك في كل موضع يتعلق بنوع من خصوصية المبالغة في المعنى المقصود. ومن هذا القسم قوله تعالى: وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون فهذا الاعتراض بين إذا وجوابها؛ لأن تقدير الكلام وإذا بدّلنا آية مكان آية قالوا إنما أنت مفتر، فاعترض بينهما بقوله تعالى: والله أعلم بما ينزل وهو مبتدأ وخبر، وفائدته إعلام القائلين إنه مفتر أن ذلك من الله وليس منه، وأنه أعلم بذلك منهم. ومن هذا الباب قوله تعالى: ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن أشكر لي ولوالديك ألا ترى إلى هذا الاعتراض الذي قد طبق مفصل البلاغة، وفائدته أنه لما وصّى بالوالدين ذكر ما تكابده الأم من المشاق في حمل الولد وفصاله؛ إيجابا للتوصية بها، وتذكيرا بحقها، وإنما خصّها بالذكر دون الأب لأنها تتكلّف من أمر الولد ما لا يتكلفه، ومن ثم قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لمن قال له: من أبرّ؟ فقال: «أمّك ثمّ أمّك ثمّ أمّك ثمّ أباك» . ومما جاء على هذا الأسلوب قوله عزّ وجلّ: وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون. فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحى الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون فقوله: والله مخرج ما كنتم تكتمون اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه، وفائدته أن يقرر في نفوس المخاطبين وقلوب السامعين أن تدارؤ بني إسرائيل في قتل تلك النفس لم يكن نافعا لهم في إخفائه وكتمانه؛ لأن الله تعالى مظهر لذلك، ولو جاء الكلام غير معترض فيه لكان: وإذ قتلتم نفسا فادّارأتم فيها فقلنا اضربوه ببعضها، ولا يخفى على البليغ الفرق بين ذلك وبين كونه معترضا فيه. ومما ورد من ذلك شعرا قول امريء القيس «1» :

ولو أنّ ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليل من المال ولكنّما أسعى لمجد مؤثّل ... وقد يدرك المجد المؤثّل أمثالي تقديره: كفاني قليل من المال؛ فاعترض بين الفعل والفاعل بقوله: «ولم أطلب» وفائدته تحقير المعيشة وأنها تحصل بغير طلب ولا عناء، وإنما الذي يحتاج الى الطلب هو المجد المؤثل. وكذلك قول جرير «1» : ولقد أراني والجديد إلى بلى ... في موكب طرف الحديث كرام تقديره: ولقد أراني في موكب طرف الحديث؛ فاعترض بين المفعولين، وإنما جاء بهذا الاعتراض تعزّيا عما مضى من تلك اللذة وذلك النعيم الذي فاز به من عشرة أولئك الأحباب، ولقد أعهدني في كذا وكذا من اللذة، وذلك قد مضى وسلف وبلي جديده، وكذلك كلّ جديد فإنه إلى بلى. والاعتراض إذا كان هكذا كسا الكلام لطفا إن كان غزلا، وكساه أبهة وجلالا إن كان مديحا أو ما يجري مجراه من أساليب الكلام، وإن كان هجاء كساه تأكيدا وإثباتا، كقول كثّير «2» : لو انّ الباخلين وأنت منهم ... رأوك تعلّموا منك المطالا فقوله «وأنت منهم» من محمود الاعتراض ونادره، وفائدته ههنا التصريح بما هو المراد، وتقدير هذا الكلام قبل الاعتراض: لو أن الباخلين رأوك؛ فاعترض بين اسم إنّ وهو الباخلين وبين خبرها وهو رأوك بالمبتدأ والخبر الذي هو «وأنت منهم» . ومن محاسن ما جاء في هذا الباب قول المضرب السعدي «3» :

فلو سألت سراة الحيّ سلمى ... على أن قد تلوّن بي زماني لخبّرها ذوو أحساب قومي ... وأعدائي فكلّ قد بلاني وهذا اعتراض بين «لو» وجوابها، وهو من فائق الاعتراض ونادره، وتقديره: فلو سألت سراة الحي سلمى لخبرها ذوو أحساب قومي وأعدائي، وفائدة قوله: «على أن قد تلوّن بي زماني» أي: أنهم يخبرون عني على تلوّن الزمان بي، يريد تنقّل حالاته من خير وشر، وليس من عجمه الزمان وأبان عن جوهره كغيره ممن لم يعجمه ولا أبان عنه. ومن ذلك قول أبي تمام «1» : وإنّ الغنى لي إن لحظت مطالبي ... من الشّعر إلّا في مديحك أطوع وهذا البيت في اعتراضان: الأول بين اسم «إن» وخبرها، تقديره: وإن الغنى أطوع لي من الشعر، فاعترض بين الاسم والخبر بقوله: «إن لحظت مطالبي» وأما الاعتراض الثاني فقوله: «إلا في مديحك» فجاء بالجملة الاستثنائية مقدمة، وموضعها التأخير، فاعترض بها بين الجملة التي هي خبر إن، وتقدير البيت بجملته: وأن الغنى أطوع لي من الشعر إن لحظت مطالبي إلا في مديحك، وفائدة قوله: «إلا في مديحك» من الاعتراض الذي اكتسب به الكلام [رقة] فائدة حسنة، والمراد به وصف جود الممدوح بالإسراع، ووصف خاطر شعره بالإسراع إذا كان في مدحه خاصة دون غيره، فهذا الاعتراض يتضمن مدح الممدوح والمادح معا، وهو من محاسن ما يجيء في هذا الموضع. وكذلك ورد قوله «2» :

وأما القسم الثاني -

رددت رونق وجهي في صحيفته ... ردّ الصّقال بهاء الصّارم الخذم وما أبالي وخير القول أصدقه ... حقنت لي ماء وجهي أم حقنت دمي فقوله «وخير القول أصدقه» اعتراض بين المفعول والفعل؛ لأن موضع حقنت نصب؛ إذ هو مفعول أبالي، وفائدته إثبات ما ماثل به بين ماء الوجه والدم: أي أن هذا القول صدق ليس بكذب. وأما القسم الثاني- وهو والذي يأتي في الكلام لغير فائدة- فهو ضربان: الضرب الأول: يكون دخوله في الكلام كخروجه منه لا يكتسب به حسنا ولا قبحا؛ فمن ذلك قول النابغة «1» : يقول رجال يجهلون خليقتي ... لعلّ زيادا لا أبالك غافل فقوله «لا أبالك» من الاعتراض الذي لا فائدة فيه، وليس مؤثرا في هذا البيت حسنا ولا قبحا. ومثله جاء قول زهير «2» : سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولا لا أبالك يسأم وقد وردت هذه اللفظة- وهي «لا أبالك» - في موضع آخر فكان للاعتراض بها فائدة حسنة، كقول أبي تمام: عتابك عنّي لا أبالك وأقصدي

الضرب الثاني -

فإنه لما كره عتابها اعترض بين الأمر والمعطوف عليه بهذه اللفظة على طريق الذم. الضرب الثاني- وهو الذي يؤثر في الكلام نقصا، وفي المعنى فسادا- وقد تقدم ذكر أمثاله وأنظاره في باب التقديم والتأخير، وإنما جيء بذكره ههنا مكرّرا لإتمام التقسيم الاعتراضي فيما أفاد وفيما لا يفيد، وقد ذكرت من ذلك مثالا واحدا أو مثالين؛ فمما ورد منه قول بعضهم «1» : فقد والشّكّ بيّن لي عناء ... بوشك فراقهم صرد يصيح فإن هذا البيت من رديء الاعتراض ما أذكره لك، وهو الفصل بين قد والفعل الذي هو بيّن، وذلك قبيح؛ لقوة اتصال قد بما تدخل عليه من الأفعال ألا تراها تعدّ مع الفعل كالجزء منه، ولذلك أدخلت عليها اللام المراد بها توكيد الفعل، كقوله تعالى: لقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك وقوله تعالى: ولقد علموا لمن اشتراه وقول الشاعر «2» : ولقد أجمع رجليّ بها ... حذر الموت وإنّي لفرور «3» إلا إن فصل بين قد والفعل بالقسم فإن ذلك لا بأس به، نحو قوله: قد والله كان ذاك، وقد فصل في هذا البيت أيضا بين المبتدأ الذي هو الشّكّ وبين الخبر الذي هو عناء بقوله بيّن لي، وفصل بين الفعل الذي هو بيّن وبين فاعله الذي هو صرد بخبر المبتدأ الذي هو عناء؛ فجاء معنى البيت كما تراه، كأنه صورة مشوّهة قد نقلت أعضاؤها بعضها إلى مكان بعض.

ومن هذا الضرب قول الآخر: نظرت وشخصي مطلع الشّمس ظلّه ... إلى الغرب حتّى ظله الشمس قد عقل أراد نظرت مطلع الشمس وشخصي ظله إلى الغرب حتى عقل الشمس: أي حاذاها، وعلى هذا التقدير فقد فصل بمطلع الشمس بين المبتدأ الذي هو شخصي وبين خبره الجملة، وهو قوله ظلّه إلى الغرب، وأغلظ من ذلك أنه فصل بين الفعل وفاعله بالأجنبي، وهذا وأمثاله مما يفسد المعاني ويورثها اختلالا. واعلم أن الناثر في استعمال ذلك أكثر ملامة من الناظم، وذاك أن الناظم مضطر إلى إقامة ميزان الشعر، وربما كان مجال الكلام عليه ضيقا، فيلقيه طلب الوزن في مثل هذه الورطات؛ وأما الناثر فلا يضطر إلى إقامة الميزان الشعري، بل يكون مجال الكلام عليه واسعا، ولهذا إذا اعترض في كلامه اعتراضا يفسده توجه عليه الإنكار، وحق عليه الذم.

النوع التاسع عشر في الكناية والتعريض

النوع التاسع عشر في الكناية والتعريض وهذا النوع مقصور على الميل مع المعنى وترك اللفظ جانبا. وقد تكلم علماء البيان فيه؛ فوجدتهم قد خلطوا الكناية بالتعريص، ولم يفرقوا بينهما، ولا حدّوا كلّا منهما بحد يفصله عن صاحبه، بل أوردوا لهما أمثلة من النظم والنثر، وأدخلوا أحدهما في الآخر؛ فذكروا للكناية أمثلة من التعريض، وللتعريض أمثلة من الكناية؛ فممن فعل ذلك الغانمي وابن سنان الخفاجي والعسكري؛ فأما ابن سنان فإنه ذكر في كتابه «1» قول امريء القيس: فصرنا إلى الحسنى ورقّ كلامها ... ورضت فذلّت صعبة أيّ إذلال «2» وهذا مثال ضربه للكناية عن المباضعة، وهو مثال للتعريض. ووجدت في كتاب التذكرة لابن حمدون البغدادي، وكان مشارا إليه عندهم بفضيلة ومعرفة، لا سيما فن الكتابة؛ فوجدت في كتابه ذلك بابا مقصورا على ذكر الكناية والتعريض، وما قيل فيهما نظما ونثرا، وهو محشوّ بالخلط بين هذين القسمين من غير فصل بينهما، وقد أورد أيضا في بعضه أمثلة غثّة باردة.

أما الكناية

وسأذكر ما عندي في الفرق بينهما، وأميز أحدهما عن الآخر؛ ليعرف كل منهما على انفراده؛ فأقول: أما الكناية فقد حدّت بحد؛ فقيل: هي اللفظ الدالّ على الشيء على غير الوضع الحقيقي بوصف جامع بين الكناية والمكنى عنه، كالّلمس والجماع؛ فإن الجماع اسم موضوع حقيقي واللمس كناية عنه، وبينهما الوصف الجامع، إذ الجماع لمس وزيادة، فكان دالا عليه بالوضع المجازي. هذا الحد فاسد؛ لأنه يجوز أن يكون حدّا للتشبيه؛ فإن التشبيه هو اللفظ الدال على غير الوضع الحقيقي لجامع بين المشبه والمشبه به وصفة من الأوصاف؛ ألا ترى أنا إذا قلنا: زيد أسد، كان ذلك لفظا دالا على غير الوضح الحقيقي، بوصف جامع بين زيد والأسد، وذلك الوصف هو الشجاعة، ومن ههنا وقع الغلط لمن أشرت إليه في الذي ذكره في حد الكناية. وأما علماء أصول الفقه فإنهم قالوا في حد الكناية: إنها اللفظ المحتمل، يريدون بذلك أنها اللفظ الذي يحتمل الدلالة على المعنى وعلى خلافه. وهذا فاسد؛ فإنه ليس كل لفظ يدل على المعنى وعلى خلافه بكناية، دليل ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلّم «إذا لم تستح فافعل ما شئت» فإن هذا اللفظ يدلّ على المعنى وعلى خلافه، وبيان ذلك أنه يقول في أحد معنييه: إنك إذا لم يكن لك وازع يزعك عن الحياء فافعل ما شئت، وأما معناه الآخر فإنه يقول: إذا لم تفعل فعلا يستحى منه فافعل ما شئت، وهذا ليس من الكناية في شيء؛ فبطل إذا هذا الحد؛ ومثال الفقيه في قوله «إن الكناية هي اللفظ المحتمل» مثال من أراد أن يحدّ الإنسان فأتى بحد الحيوان؛ فعبر بالأعم وكذلك يقال ههنا، فإن كل كناية لفظ محتمل، وليس كل لفظ محتمل كناية. والذي عندي في ذلك أن الكناية إذا وردت تجاذبها جانبا حقيقة ومجاز، وجاز حملها على الجانبين معا، ألا ترى أن اللمس في قوله تعالى: أو لامستم النساء* يجوز حمله على الحقيقة والمجاز؛ وكل منهما يصح به المعنى، ولا يختلّ، ولهذا ذهب الشافعي رحمه الله ألى أن اللمس هو مصافحة الجسد الجسد، فأوجب

الوضوء على الرجل إذا لمس المرأة، وذلك هو الحقيقة في اللمس، وذهب غيره إلى أن المراد باللمس هو الجماع، وذلك مجاز فيه، وهو الكناية، وكل موضع ترد فيه الكناية فإنه يتجاذبه جانبا حقيقة ومجاز، ويجوز حمله على كليهما معا، وأما التشبيه فليس كذلك، ولا غيره من أقسام المجاز؛ لأنه لا يجوز حمله إلا على جانب المجاز خاصة، ولو حمل على جانب الحقيقة لاستحال المعنى، ألا ترى أنا إذا قلنا: زيد أسد، لا يصح إلا على جانب المجاز خاصة، وذاك أنا شبهنا زيدا بالأسد في شجاعته، ولو حملناه على جانب الحقيقة لاستحال المعنى، لأن زيدا ليس ذلك الحيوان ذا الأربع والذّنب والوبر والأنياب والمخالب. وإذا كان الأمر كذلك فحدّ الكناية الجامع لها هو: أنها كل لفظة دلت على معنى يجوز حمله على جانبي الحقيقة والمجاز، بوصف جامع بين الحقيقة والمجاز. والدليل على ذلك أن الكناية في أصل الوضع أن تتكلم بشيء وتريد غيره، يقال: كنيت بكذا عن كذا، فهي تدل على ما تكلمت به، وعلى ما أردته من غيره، وعلى هذا فلا تخلو: إما أن تكون في لفظ تجاذبه جانبا حقيقة ومجاز، أو في لفظ تجاذبه جانبا مجاز ومجاز، أو في لفظ تجاذبه جانبا حقيقة وحقيقة، وليس لنا قسم رابع، ولا يصح أن تكون في لفظ تجاذبه جانبا حقيقة وحقيقة؛ لأن ذلك هو اللفظ المشترك، وإذا أطلق من غير قرينة تخصصه كان مبهما غير مفهوم، وإذا أضيف إليه القرينة صار مختصا بشيء بعينه، والكناية أن تتكلم بشيء وتريد غيره، وذلك مخالف للفظ المشترك إذا أضيف إليه القرينة؛ لأنه يختص بشيء واحد بعينه لا يتعداه إلى غيره، وكذلك لا يصح أن تكون الكناية في لفظ تجاذبه جانبا مجاز ومجاز؛ لأن المجاز لا بدّ له من حقيقة نقل عنها؛ لأنه فرع عليها، وذلك اللفظ الدال على المجازين إما أن يكون للحقيقة شركة في الدلالة عليه أو لا يكون لها شركة، فإن كان لها شركة في الدلالة فيكون اللفظ الواحد قد دلّ على ثلاثة أشياء أحدها الحقيقة، وهذا مخالف لأصل الوضع؛ لأن أصل الوضع أن تتكلم بشيء وأنت تريد غيره، وههنا تكون قد تكلمت بشيء وأنت تريد شيئين غيره؛ وإن لم يكن للحقيقة شركة في الدلالة كان ذلك مخالفا للوضع أيضا؛ لأن أصل الوضع أن

تتكلم بشيء وأنت تريد غيره؛ فيكون الذي تكلمت به دالا على ما تكلمت به وعلى غيره، وإذا أخرجت الحقيقة عن أن يكون لها شركة في الدلالة لم يكن الذي تكلمت به دالا على ما تكلمت به، وهذا محال؛ فتحقق حينئذ أن الكناية أن تتكلم بالحقيقة وأنت تريد المجاز، وهذا الكلام في حقيقة الدليل على تحقيق أمر الكناية لم يكن لأحد فيه قول سابق. واعلم أن الكناية مشتقة من الستر، يقال: كنيت الشيء؛ إذا سترته، وأجري هذا الحكم في الألفاظ التي يستر فيها المجاز بالحقيقة؛ فتكون دالة على الساتر وعلى المستور معا، ألا ترى إلى قوله تعالى: أو لامستم النساء* فإنه إن حمل على الجماع كان كناية؛ لأنه ستر الجماع بلفظ اللمس الذي حقيقته مصافحة الجسد الجسد، وإن حمل على الملامسة التي هي مصافحة الجسد الجسد كان حقيقة، ولم يكن كناية، وكلاهما يتمّ به المعنى، وقد تأولت الكناية بغير هذا، وهي أنها مأخوذة من الكنية التي يقال فيها: أبو فلان، فإنا إذا نادينا رجلا اسمه عبد الله وله ولد اسمه محمد فقلنا: يا أبا محمد، كان ذلك مثل قولنا: يا عبد الله؛ فإن شئنا ناديناه بهذا، وإن شئنا ناديناه بهذا، وكلاهما واقع عليه، وكذلك يجري الحكم في الكناية، فإنا إذا شئنا حملناها على جانب المجاز، وإذا شئنا حملناها على الحقيقة، إلا أنه لا بدّ من الوصف لجامع بينهما، لئلا يلحق بالكناية ما ليس منها، ألا ترى إلى قوله تعالى: إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فكنى بذلك عن النساء، والوصف الجامع بينهما هو التأنيث، ولولا ذلك لقيل في مثل هذا الموضع: إن أخي له تسع وتسعون كبشا ولي كبش واحد، وقيل: هذه كناية عن النساء، ومن أجل ذلك لم يلتفت إلى تأويل من تأول قوله تعالى: وثيابك فطهر أنه أراد بالثياب القلب، على حكم الكناية؛ لأنه ليس بين الثياب والقلب وصف «1» جامع، ولو كان بينهما وصف جامع لكان التأويل صحيحا.

فإن قيل: فما الدليل على اشتقاق الكناية من كنيت الشيء، إذا سترته، ومن الكنية؟ قلت في الجواب: أما اشتقاقها من كنيت الشي إذا سترته فإن المستور فيها هو المجاز؛ لأن الحقيقة تفهم أولا، ويتسارع الفهم إليها قبل المجاز؛ لأن دلالة اللفظ عليها دلالة وضعية، وأما المجاز فإنه يفهم منه بعد فهم الحقيقة، وإنما يفهم بالنظر والفكرة، ولهذا يحتاج إلى دليل، لأنه عدول عن ظاهر اللفظ؛ فالحقيقة أظهر، والمجاز أخفي، وهو مستور بالحقيقة، ألا ترى إلى قوله تعالى: أو لامستم النساء* فإن الفهم يتسارع فيه إلى الحقيقة التي هي مصافحة الجسد الجسد، واما المجاز الذي هو الجماع فإنه يفهم بالنظر والفكر، ويحتاج الذاهب إليه إلى دليل؛ لأنه عدول عن ظاهر اللفظ. وأما اشتقاقها من الكنية فلأن محمدا في هذه الصورة المذكورة هو حقيقة هذا الرجل: أي الاسم الموضوع بإزائه أولا، وأما أبو عبد الله فإنه طار عليه بعد محمد؛ لأنه لم يكن له إلا بعد أن صار له ولد اسمه عبد الله، وكذلك الكناية؛ فإن الحقيقة لها هو الاسم الموضوع بإزائها أولا في أصل الوضع، وأما المجاز فإنه طار عليها بعد ذلك؛ لأنه فرع، والفرع إنما يكون بعد الأصل، وإنما يعمد إلى ذلك الفرع للمناسبة الجامعة بينه وبين الأصل على ما تقدم الكلام فيه، وهذا القدر كاف في الدلالة على اشتقاق الكناية من ذينك المعنيين المشار إليهما. فإن قيل: إنك قد ذكرت أقسام المجاز في باب الاستعارة التي قدمت ذكرها في كتابك هذا، وحصرتها في أقسام ثلاثة، وهي: التوسع في الكلام، والاستعارة، والتشبيه، ونراك قد ذكرت الكناية في المجاز أيضا، فهل هي قسم رابع لتلك الأقسام الثلاثة أم هي من جملتها؟ فإن كانت قسما رابعا، فذلك نقض للحصر الذي حصرته، وإن كانت من جملتها فقد أعدت ذكرها ههنا مرة ثانية، وهذا المكرر لا حاجة إليه. فالجواب عن ذلك أني أقول: أما الحصر الذي حصرته في باب الاستعارة فهو ذاك، ولا زيادة عليه، وأما الكناية فإنها جزء من الاستعارة، ولا تأتي إلا على حكم الاستعارة خاصة، لأن الاستعارة لا تكون إلا بحيث يطوى ذكر المستعار له،

وكذلك الكناية، فإنها لا تكون إلا بحيث يطوى ذكر المكنى عنه، ونسبتها إلى الاستعارة نسبة خاص إلى عام؛ فيقال: كل كناية استعارة، وليس كل استعارة كناية، ويفرق بينهما من وجه آخر، وهو أن الاستعارة لفظها صريح والصريح هو: ما دل عليه ظاهر لفظه، والكناية: ضد الصريح؛ لأنها عدول عن ظاهر اللفظ، وهذه ثلاثة فروق: أحدهما: الخصوص والعموم، والآخر الصريح، والآخر الحمل على جانب الحقيقة والمجاز. وقد تقدم القول في باب الاستعارة أنها جزء من المجاز، وعلى ذلك فتكون نسبته الكناية إلى المجاز نسبة جزء الجزء وخاص الخاص. وكان ينبغي أن نذكر الكناية عند ذكر الاستعارة في النوع الأول من هذه الأنواع المذكورة في المقالة الثانية، وإنما أفردتها بالذكر ههنا من أجل التعريض؛ لأن من العادة أن يذكرا جميعا في مكان واحد. وقد يأتي في الكلام ما يجوز أن يكون كناية ويجوز أن يكون استعارة، وذلك يختلف باختلاف النظر إليه بمفرده والنظر إلى ما بعده، كقول نصر بن سيار في أبياته المشهورة التي يحرض بها بني أمية عند خروج أبي مسلم: أرى خلل الرّماد وميض جمر ... ويوشك أن يكون له ضرام فإنّ النّار بالزّندين تورى ... وإنّ الحرب أوّلها كلام أقول من التّعجّب: ليت شعري ... أأيقاظ أميّة أم نيام فإن هبّوا فذاك بقاء ملك ... وإن رقدوا فإنّي لا ألام فالبيت الأول لو ورد بمفرده كان كناية؛ لأنه يجوز حمله على جانب الحقيقة وحمله على جانب المجاز: أما الحقيقة فإنه أخبر أنه رأى وميض جمر في خلل الرماد، وأنه سيضطرم، وأما المجاز فإنه أراد أن هناك ابتداء شرّ كامن ومثله بوميض جمر من خلل الرماد، وإذا نظرنا إلى الأبيات جملتها اختصّ البيت الأول منها بالاستعارة دون الكناية.

وأما التعريض:

وكثيرا ما يرد مثل ذلك ويشكل؛ لتجاذبه بين الكناية والاستعارة، على أنه لا يشكل إلا على غير العارف. وأما التعريض: فهو اللفظ الدال على الشيء من طريق المفهوم، لا بالوضع الحقيقي ولا المجازي، فإنك إذا قلت لمن تتوقع صلته ومعروفه بغير طلب: والله إني لمحتاج وليس في يدي شيء وأنا عريان والبرد قد آذاني؛ فإن هذا وأشباهه تعريض بالطلب، وليس هذا اللفظ موضوعا في مقابلة الطلب، لا حقيقة ولا مجازا، إنما دلّ عليه من طريق المفهوم، بخلاف دلالة اللمس على الجماع، وعليه ورد التعريض في خطبة النكاح، كقولك للمرأة: إنّك لخليّة وإني لعزب؛ فإن هذا وأمثاله لا يدلّ على طلب النكاح حقيقة ولا مجازا، والتعريض أخفي من الكناية؛ لأن دلالة الكناية لفظية وضعية من جهة المجاز، ودلالة التعريض من جهة المفهوم لا بالوضع الحقيقي ولا المجازي، وإنما سمي التعريض تعريضا لأن المعنى فيه يفهم من عرضه: أي من جانبه، وعرض كل شيء: جانبه. واعلم أن الكناية تشمل اللفظ المفرد والمركب معا؛ فتأتي على هذا تارة، وعلى هذا أخرى، وأما التعريض فإنه يختص باللفظ المركب، ولا يأتي في اللفظ المفرد ألبتة، والدليل على ذلك أنه لا يفهم المعنى فيه من جهة الحقيقة ولا من جهة المجاز، وإنما يفهم من جهة التّلويح والإشارة، وذلك لا يستقل به اللفظ المفرد، ولكنه يحتاج في الدلالة عليه إلى اللفظ المركب، وعلى هذا فإن بيت امريء القيس «1» الذي ذكره ابن سنان مثالا للكناية هو مثال للتعريض؛ فإن غرض امريء القيس من ذلك أن يذكر الجماع، غير أنه لم يذكره، بل ذكر كلاما آخر يفهم الجماع من عرضه؛ لأن المصير إلى الحسنى ورقة الكلام لا يفهم منهما ما أراده امرؤ القيس من المعنى لا حقيقة ولا مجازا، وهذا لا خفاء به فاعرفه.

وحيث فرقنا بين الكناية والتعريض وميزنا أحدهما عن الآخر فلنفصلهما، ونذكر أقسامهما، ولنبدأ أولا بالكناية؛ فنقول: اعلم أن الكناية تنقسم قسمين: أحدهما: ما يحسن استعماله، والآخر ما لا يحسن استعماله، وهو عيب في الكلام فاحش. وقد ذهب قوم إلى أن الكناية تنقسم أقساما ثلاثة: تمثيلا، وإردافا، ومجاورة. فأما التمثيل فهو أن تراد الإشارة إلى معنى فيوضع لفظ لمعنى آخر، ويكون ذلك مثالا للمعنى الذي أريدت الإشارة إليه، كقولهم: فلان نقيّ الثوب: أي منزّه من العيوب. وأما الإرداف فهو أن تراد الإشارة إلى معنى فيوضع لفظ لمعنى آخر، ويكون ذلك رادفا للمعنى الذي أريدت الإشارة إليه ولازما له، كقولهم: فلان طويل النّجاد: أي طويل القامة؛ فطول النجاد رادف لطول القامة ولازم له، بخلاف نقاء الثوب في الكناية عن النزاهة من العيوب؛ لأن نقاء الثوب لا يلزم منه النزاهة من العيوب، كما يلزم من طول النّجاد طول القامة. وأما المجاورة فهي أن تريد ذكر الشيء فتتركه إلى ما جاوره، كقول عنترة «1» : بزجاجة صفراء ذات أسرّة ... قرنت بأزهر في الشّمال مفدّم يريد بالزجاجة الخمر، فذكر الزجاجة وكنى بها عن الخمر؛ لأنها مجاورة لها. وهذا التقسيم غير صحيح؛ لأن من شرط التقسيم أن يكون كل قسم منه

مختصا بصفة خاصة تفصله عن عموم الأصل، كقولنا: الحيوان ينقسم أقساما منها الإنسان، وحقيقته كذا وكذا، ومنها الأسد وحقيقته كذا وكذا، ومنها الفرس وحقيقته كذا وكذا، ومنها غير ذلك؛ وههنا لم يكن التقسيم كذلك؛ فإن التمثيل على ما ذكر عبارة عن مجموع الكناية؛ لأن الكناية إنما هي أن تراد الإشارة إلى معنى فيوضع لفظ لمعنى آخر، ويكون ذلك اللفظ مثالا للمعنى الذي أريدت الإشارة إليه، ألا ترى إلى قوله تعالى: إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فإنه أراد الإشارة إلى النساء، فوضع لفظا لمعنى آخر، وهو النعاج، ثم مثل به النساء، وهكذا يجري الحكم في جميع ما يأتي من الكنايات؛ لكن منها ما يتّضح التمثيل فيه وتكون الشّبهيّة بين الكناية والمكنىّ عنه شديدة المناسبة، ومنه ما يكون دون ذلك في الشبهية، وقد تأمّلت ذلك، وحقّقت النظر فيه؛ فوجدت الكناية إذا وردت على طريق اللفظ المركب كانت شديدة المناسبة واضحة الشبهية، وإذا وردت على طريق اللفظ المفرد لم تكن بتلك الدرجة في قوة المناسبة والمشابهة، ألا ترى إلى قولهم: فلان نقيّ الثوب، وقولهم اللمس كناية عن الجماع؛ فإن نقاء الثوب أشدّ مناسبة وأوضح شبها؛ لأنا إذا قلنا نقاء الثوب من الدنس كنزاهة العرض من العيوب اتضحت المشابهة ووجدت المناسبة بين الكناية والمكنى عنه شديدة الملاءمة، وإذا قلنا اللمس كالجماع لم يكن بتلك الدرجة في قوة المشابهة، وهذا الذي ذكر من أن من الكناية تمثيلا وهو كذا وكذا غير سائغ ولا وارد، بل الكناية كلها هي ذاك، والذي قدمته من القول فيها هو الحاصر لها، ولم يأت به أحد غيري كذلك. وأما الإرداف فإنه ضرب من اللفظ المركب، إلا أنه اختصّ بصفة تخصه، وهي أن تكون الكناية دليلا على المكنى عنه ولازمه له، بخلاف غيرها من الكنايات، ألا ترى أن طول النّجاد دليل على طول القامة ولازم له، وكذلك يقال: فلان عظيم الرّماد: أي كثير إطعام الطعام، وعليه ورد قول الأعرابية في حديث أم زرع في وصف زوجها: له إبل قليلات المسارح كثيرات المبارك، إذا سمعن صوت

المزهر أيقن أنهن هوالك، وغرض الأعرابية من هذا القول أن تصف زوجها بالجود والكرم، إلا أنها لم تذكر ذلك بلفظه الصريح، وإنما ذكرته من طريق الكناية على وجه الإرداف الذي هو لازم له. وكذلك ورد في الأخبار النبوية أيضا، وذاك أن امرأة جاءت إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فسألته عن غسلها من الحيض، فأمرها أن تغتسل، ثم قال: «خذي فرصة من مسك فتطهّري بها» قالت: كيف أتطهر بها؟ فقال: «تطهّري بها» قالت: كيف أتطهر بها؟ قال: «سبحان الله! تطهّري بها» فاجتذبتها عائشة رضي الله عنها إليها، وقالت: تتبّعي بها أثر الدم، فقولها «أثر الدم» كناية عن الفرج على طريق الإرداف؛ لأن أثر الدم في الحيض لا يكون إلا في الفرج، فهو رادف له. ومما ورد من ذلك شعرا قول عمر بن أبي ربيعة «1» : بعيدة مهوى القرط إمّا لنوفل ... أبوها وإمّا عبد شمس وهاشم فإن بعد مهوى القرط دليل على طول العنق. ومن لطيف هذا الموضع وحسنه ما يأتي بلفظه مثل؛ كقول الرجل إذا نفى عن نفسه القبيح: مثلي لا يفعل هذا: أي أنا لا أفعله، فنفى ذلك عن مثله ويريد نفيه عن نفسه؛ لأنه إذا نفاه عمن يماثله ويشابهه فقد نفاه عن نفسه لا محالة؛ إذ هو ينفي ذلك عنه أجدر، وكذلك يقال: مثلك إذا سئل أعطى: أي أنت إذا سئلت أعطيت، وسبب ورود هذه اللفظة في هذا الموضع أنه يجعل من جماعة هذه أوصافهم تثبيتا للأمر وتوكيدا، ولو كان فيه وحده لقلق منه موضعه، ولم يرس فيه قدمه، وهذا مثل قول القائل إذا كان في مدح إنسان: أنت من القوم الكرام: أي لك في هذا الفعل سابقة، وأنت حقيق به، ولست دخيلا فيه.

وقد ورد هذا في القرآن الكريم، كقوله تعالى: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير والفرق بين قوله ليس كمثله شيء وبين قوله ليس كالله شيء هو ما أشرت إليه، وإن كان الله سبحانه وتعالى لا مثل له حتى يكون لمثله مثل، وإنما ذكر ذلك على طريق المجاز قصدا للمبالغة. وقد يأتي هذا الموضع بغير لفظة مثل وهي مقصودة، كقولك للعربي: العرب لا تخفر الذّمم: أي أنت لا تخفر الذمم، وهذا أبلغ من قولك: أنت لا تخفر الذمم، وهذا أبلغ من قولك: أنت لا تخفر الذمم؛ لما أشرت إليه. وعلى نحو من هذا جاء قول أبي الطيب المتنبي «1» : ألست من القوم الّذي من رماحهم ... نداهم ومن قتلاهم مهجة البخل «2» وإذا فرغت من ذكر الأصول التي قدمت ذكرها فإني أتبعها بضرب الأمثلة نثرا ونظما، حتى يزداد ما ذكرته وضوحا.

فمن ذلك ما ورد في القرآن الكريم، نحو قوله تعالى: أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فإنه كنى عن الغيبة بأكل الإنسان لحم إنسان آخر مثله، ثم لم يقتصر على ذلك حتى جعله ميتا، ثم جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولا بالمحبة؛ فهذه أربع دلالات واقعة على ما قصدت له مطابقة للمعنى الذي وردت من أجله؛ فأما جعل الغيبة كأكل الإنسان لحم إنسان آخر مثله فشديد المناسبة جدا؛ لأن الغيبة إنما هي ذكر مثالب الناس وتمزيق أعراضهم، وتمزيق العرض مماثل لأكل الإنسان لحم من يغتابه؛ لأن أكل اللحم تمزيق على الحقيقة، وأما جعله كلحم الأخ فلما في الغيبة من الكراهة، لأن العقل والشرع مجتمعان على استكراهها آمران بتركها والبعد عنها، ولما كانت كذلك جعلت بمنزلة لحم الأخ في كراهته، ومن المعلوم أن لحم الإنسان مستكره عند إنسان آخر، إلا أنه لا يكون مثل كراهته لحم أخيه، فهذا القول مبالغة في استكراه الغيبة، وأما جعل اللحم ميتا فمن أجل أن المغتاب لا يشعر بغيبته ولا يحس بها، وأما جعله ما هو في الغاية من الكراهة موصولا بالمحبة فلما جبلت عليه النفوس من الميل إلى الغيبة والشّهوة لها مع العلم بقبحها؛ فانظر أيها المتأمل إلى هذه الكناية تجدها من أشد الكنايات شبها؛ لأنك إذا نظرت إلى كل واحدة من تلك الدلالات الأربع التي أشرنا إليها وجدتها مناسبة لما قصدت له. وكذلك ورد قوله تعالى: وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطوها والأرض التي لم يطئوها كناية عن مناكح النساء، وذلك من حسن الكناية ونادره. وكذلك ورد قوله تعالى: أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا فكني بالماء عن العلم وبالأودية عن القلوب وبالزبد عن الضلال، وهذه الآية قد ذكرها أبو حامد الغزالي رحمه الله في كتابه الموسوم ب «إحياء الله علوم الدين» وفي كتابه الموسوم ب «الجواهر» و «الأربعين» وأشار بها إلى أن في القرآن الكريم إشارات وإيماآت لا تنكشف إلا بعد الموت، وهذا يدلّ على أن الغزالي رحمه الله لم يعلم أن هذه الآية من باب الكنايات الذي لفظها يجوز حمله على جانبي الحقيقة والمجاز.

وقد رأيت جماعة من أئمة الفقه لا يحققون أمر الكناية، وإذا سئلوا عنها عبروا عنها بالمجاز، وليس الأمر كذلك، وبينهما وصف جامع، كهذه الآية وما جرى مجراها، فإنه يجوز حمل الماء على المطر النازل من السماء، وعلى العلم، وكذلك يجوز حمل الأودية على مهابط الأرض، وعلى القلوب، وهكذا يجوز حمل الزّبد على الغثاء الرابي الذي تقذفه السيول، وعلى الضلال، وليس في أقسام المجاز شيء يجوز حمله على الطرفين معا سوى الكناية. وبلغني عن الفراء النحوي أنه ذكر في تفسيره آية، وزعم أنها كناية، وهي قوله تعالى: وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال فقال: إن الجبال كناية عن أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما جاء به من الآيات، وهذه الآية من باب الاستعارة، لا من باب الكناية؛ لأن الكناية لا تكون إلا فيما جاز حمله على جانبي المجاز والحقيقة، والجبال ههنا لا يصح بها المعنى إلا إذا حملت على جانب المجاز خاصة؛ لأن مكر أولئك لم يكن لتزول منه جبال الأرض؛ فإن ذلك محال. وأما ما ورد منها في الأخبار النبوية فقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنّه كانت امرأة فيمن كان من قبلنا، وكان لها ابن عمّ يحبّها، فراودها عن نفسها، فامتنعت عليه، حتى إذا أصابتها شدّة فجاءت إليه تسأله، فراودها، فمكنته من نفسها؛ فلما قعد منها مقعد الرجل من المرأة قالت له: لا يحلّ لك أن تفضّ الخاتم إلا بحقه» فقام عنها وتركها، وهذه كناية واقعة في موقعها. ومن ذلك أيضا قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «رويدك سوقك بالقوارير» يريد بذلك النساء، فكنى عنهنّ بالقوارير، وذاك أنه كان في بعض أسفاره وغلام أسود اسمه أنجشة يحدو، فقال له: «يا أنجشة، رويدك سوقك بالقوارير» وهذه كناية لطيفة. وكذلك ورد حديث الحديبية، وذاك أنه لما نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الركية جاءه بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من أهل تهامة، فقال: تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا عداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت، وهذه كناية عن النساء والصبيان، والعوذ: جنع عائذ،

وهي الناقة التي وصعت وقوي ولدها، وهذا يجوز حمله على طريق الحقيقة، كما جاز حمله على طريق المجاز: أي معهم الأموال من الإبل، وهي كانت جلّ أموال العرب: أي أنهم قد أحضروا أموالهم ليقاتلوا دونها؛ ولما جاز حمل العوذ المطافيل على النساء والصبيان وعلى الأموال كان من باب الكناية. ومن ذلك ما ورد في إقامة الحد على الزاني، وهو أن يشهد عليه برؤية الميل في المكحلة، وذلك كناية عن رؤية الفرج في الفرج. ومن لطيف الكناية أن امرأة جاءت إلى عائشة رضي الله عنها فقالت لها: أقيّد جملي؟ فقالت عائشة رضي الله عنها: لا، أرادت المرأة أنها تصنع لزوجها شيئا يمنعه عن غيرها: أي تربطه أن يأتي غيرها، فظاهر هذا اللفظ هو تقييد الجمل، وباطنه ما أرادته المرأة وفهمته عائشة منها. وكذلك يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذاك أنه جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، هلكت، قال: «وما أهلكك» قال: حولت رحلي البارحة، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم «أقبل وأدبر واتّق الدّبر والحيضة» . ويروى أن عمرو بن العاص زوج ولده عبد الله رضي الله عنه، فمكثت المرأة عنده ثلاث ليال لم يدن منها، وإنما كان ملتفتا إلى صلاته، فدخل عليها عمرو بعد ثلاث، فقال: كيف ترين بعلك؟ فقالت: نعم البعل إلا أنه لم يفتّش لنا كنفا ولا قرب لنا مضجعا، فقولها «لم يفتش لنا كنفا ولا قرب لنا مضجعا» من الكناية الغراء الظاهرة. ومن ألطف ما بلغني في هذا قول عبد الله بن سلام، فإنه رأى على رجل ثوبا معصفرا، فقال: لو أن ثوبك في تنّور أهلك أو تحت قدرهم كان خيرا، فذهب الرجل فأحرقه، نظرا ألى حقيقة قول عبد الله وظاهر مفهومه، وإنما أراد المجاز منه، وهو أنك لو صرفت ثمنه إلى دقيق تخبزه أو حطب تطبخ به كان خيرا، والمعنى متجاذب بين هذين الوجهين، فالرجل فهم منه الظاهر الحقيقي فمضى فأحرق ثوبه، ومراد عبد الله غيره.

ومن هذا القسم ما ورد في أمثال العرب كقولهم: إيّاك وعقيلة الملح، وذاك كناية عن المرأة الحسناء في منبت السوء؛ فإن عقيلة الملح هي اللؤلؤة وتكون في البحر، فهي حسنة وموضعها ملح. وكذلك قولهم: لبس له جلد النّمر، كناية عن العداوة، وقد يقاس على هذا أن يقال: ليس له جلد الأسد، ولبس له جلد الذئب، ولبس له جلد الأرقم؛ لأن هذا كله مثل قولهم: لبس له جلد النمر، إذا العداوة محتملة في الجميع. وكذلك قولهم: قلب له ظهر المجنّ، كناية عن تغيير المودة. ومما ورد في ذلك شعرا قول أبي نواس. لا أذود الطّير عن شجر ... قد بلوت المرّ من ثمره وهذا له حكاية، وهو أنه كان لأبي نواس صديقة تغشاه، فقيل له: إنها تختلف إلى آخر من أهل الريب، فلم يصدق ذلك حتى تبعها يوما من الأيام فرآها تدخل منزل ذلك الرجل، ثم إن ذلك الرجل جاءه، وكان صديقا له، فكلمه، فصرف وجهه عنه، ثم نظم قصيدته المشهورة التي مطلعها: أيّها المنتاب عن عفره «1» وهذا البيت من جملة أبياتها. وكذلك ورد قوله أيضا: وناظرة إليّ من النّقاب ... تلاحظني بطرف مستراب كشفت قناعها فإذا عجوز ... مموّهة المفارق بالخضاب فما زالت تحمّسني طويلا ... وتأخذ في أحاديث التّصابي

تحاول أن يقوم أبو زياد ... ودون قيامه شيب الغراب أتت بجرابها تكتال فيه ... فقامت وهي فارغة الجراب فقوله «أتت بجرابها تكتال فيه» من باب الكناية؛ إذا الجراب يجوز حمله على الحقيقة والمجاز، وكذلك الكيل أيضا. ومما جاء من هذا الباب قول أبي تمام في قصيدته التي يستعطف بها مالك بن طوق على قومه؛ ومطلعها: أرض مصرّدة وأرض تثج «1» ... ما لي رأيت ترابكم يبس الثرى ما لي أرى أطوادكم تتهدّم «2» «فيبس الثرى» كناية عن تنكر ذات البين، تقول: يبس الثرى بيني وبين فلان؛ إذا تنكر الود الذي بينك وبينه، وكذلك «تهدّم الأطواد» ؛ فإنه كناية عن خفّة الحلوم وطيش العقول. ومن الكناية الحسنة قول أبي الطيب المتنبي في قصيدته التي يعاتب فيها سيف الدولة بن حمدان التي مطلعها:

واحرّ قلباه ممّن قلبه شبم» ... وشرّ ما قنصته راحتي قنص شهب البزاة سواء فيه والرّحم يشير بذلك إلى أن سيف الدولة يستوي في المنال منه هو وغيره؛ فهو البازي، وغيره الرّخمة، وإن حمل المعنى على جانب الحقيقة كان جائزا. وعلى هذا ورد قول الأقيشر الأسدي ... ، وكان عنيّنا لا يأتي النساء، وكان كثيرا ما يصف ذلك من نفسه، فجلس إليه يوما رجل من قيس، فأنشده الأقيشر «2» : ولقد أروح بمشرف ذي ميعة ... عسر المكرّة ماؤه يتفصّد مرح يطير من المراح لعابه ... ويكاد جلد إهابه يتقدّد ثم قال له: أتبصر الشعر؟ قال: نعم، قال: فما وصفت؟ قال: فرسا، قال: أفكنت تركبه لو رأيته؟ قال: إي والله وأثني عطفه، فكشف له عن أيره، وقال: هذا وصفت، فقم فاركبه، فوثب الرجل عن مكانه، وقال: قبحك الله من جليس سائر اليوم!. وكذلك أيضا يحكى أنه وفد سعيد بن عبد الرحمن على هشام بن عبد الملك، وكان جميل الوجه، فاختلف إلى عبد الصمد بن عبد الأعلى مؤدب الوليد بن يزيد، فراوده عن نفسه، فوثب من عنده، ودخل على هشام مغضبا، وهو يقول: إنّه والله لولا أنت لم ... ينج منّي سالما عبد الصّمد

فقال هشام: ولم ذلك؟ قال: إنّه قد رام منّي خطّة ... لم يرمها قبله منّي أحد قال: ما هي؟ قال: راح جهلا بي وجهلا بأبي ... يدخل الأفعى على حبس الأسد قال: فضحك هشام، وقال: لو فعلت به شيئا لم أنكره عليك. ومن ألطف ما سمعته في هذا الباب قول أبي نواس في الهجاء: إذا ما كنت جار أبي حسين ... فنم ويداك في طرف السّلاح فإنّ له نساء سارقات ... - إذا ما بتن أطراف- الرّماح سرقن وقد نزلت عليه أيري ... فلم أظفر به حتّى الصّباح فجاء وقد تخدّش جانباه ... يئنّ إليّ من ألم الجراح فتعبيره عن العضو المشار إليه بأطراف الرماح تعبير في غاية اللطافة والحسن. وقد أدخل في باب الكناية ما ليس منه، كقول نصيب: فعاجوا فأثنوا بالّذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب وهذا يروى عن الجاحظ، وما أعلم كيف ذهب عليه مع شهرته بالمعرفة بفن الفصاحة والبلاغة؛ فإن الكناية هي ما جاز حمله على جانب الحقيقة كما يجوز حمله على جانب المجاز، وههنا لا يصح ذلك، ولا يستقيم؛ لأن الثناء للحقائب لا يكون إلا مجازا، وهذا من باب التشبيه المضمر الأداة الخارج عن الكناية، والمراد به أن في الحقائب من عطاياك ما يعرب عن الثناء لو سكت أصحابها عنه «1» . وأما القسم المختص بما يقبح ذكره من الكناية، فإنه لا يحسن استعماله؛ لأنه عيب في الكلام فاحش، وذلك لعدم الفائدة المرادة من الكناية فيه.

فما جاء منه قول الشريف الرضي يرثي امرأة: إن لم تكن نصلا فغمد نصال «1» وفي هذا من سوء الكناية ما لا خفاء به؛ فإن الوهم يسبق في هذا الموضع إلى ما يقبح ذكره، وهذا المعنى أخذه من قول الفرزدق فمسخه وشوّه صورته؛ فإن الفرزدق رثى امرأته فقال «2» : وجفن سلاح قد رزئت فلم أنح ... عليه ولم أبعث إليه البواكيا «3» وفي جوفه من دارم ذو حفيظة ... لو انّ المنايا أمهلته لياليا «4» وهذا حسن بديع في معناه، وما كني عن امرأة ماتت بجمع أحسن من هذه الكناية، ولا أفخم شأنا، فجاء الشريف الرضي فأخذ معناها وفعل به ما ترى، وليس كل من تصرف في المعاني أحسن في تصريفها، وأبقى هذه الرموز في تأليفها. وقد عكس هذه القصة مع أبي الطيب المتنبي فأحسن فيما أساء به أبو الطيب طريق الكناية فأخطأ حيث قال «5» :

إنّي على شغفي بما في خمرها ... لأعفّ عمّا في سراويلاتها وهذه كناية عن النزاهة والعفة، إلا أن الفجور أحسن منها. وقد أخذ الشريف الرضي هذا المعنى فأبرزه في أجمل صورة حيث قال «1» : أحنّ إلى ما تضمن الخمر والحلى ... وأصدف عمّا في ضمان المآزر «2» وأمثال هذا كثير، وفيما ذكرناه من هذين المثالين مقنع. وأما التعريض فقد سبق الإعلام به، وعرفناك الفرق بينه وبين الكناية. فما جاء منه قوله تعالى: قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا فسئلوهم إن كانوا ينطقون وغرض إبراهيم صلوات الله عليه من هذا الكلام إقامة الحجة عليهم؛ لأنه قال: فسئلوهم إن كانوا ينطقون وذلك على سبيل الاستهزاء، وهذا من رموز الكلام، والقول فيه أن قصد إبراهيم عليه السلام لم يرد به نسبة الفعل الصادر عنه إلى الضم، وإنما قصد تقريره لنفسه، وإثباته على أسلوب تعريض يبلغ فيه غرضه من إلزام الحجة عليهم، والاستهزاء بهم، وقد يقال في هذا غير ما أشرت إليه، وهو أن كبير الأصنام غضب أن تعبد معه هذه الأصنام الصغار فكسرها، وغرض إبراهيم عليه السلام من ذلك أنه لا يجوز أن يعبد مع الله تعالى من هو دونه؛ فإن من دونه مخلوق من مخلوقاته، فجعل إحالة القول إلى كبير الأصنام مثالا لما أراده. ومن هذا القسم أيضا قوله تعالى: قال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك

إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين فقوله: ما نراك إلا بشرا مثلنا تعريض بأنهم أحقّ بالنبوة منه، وأن الله لو أراد أن يجعلها في أحد من البشر لجعلها فيهم، فقالوا: هب أنك واحد من الملأ ومواز لهم في المنزلة فما جعلك أحق منهم بها؟ ألا ترى إلى قولهم: وما نرى لكم علينا من فضل. وكان مروان بن الحكم واليا على المدينة من قبل معاوية فعزله؛ فلما قدم عليه قال له: عزلتك لثلاث لو لم تكن إلا واحدة منهن لأوجبت عزلك: إحداهن أني أمّرتك على عبد الله بن عامر وبينكما ما بينكما فلم تستطع أن تشتفي منه، والثانية كراهتك أمر زياد، والثالثة أن ابنتي رملة استعدتك على زوجها عمر بن عثمان فلم تعدها؛ فقال له مروان: أما عبد الله بن عامر فإني لا أنتصر منه في سلطاني، ولكن إذا تساوت الأقدام علم أين موضعه، وأما كراهتي أمر زياد فإن سائر بني أمية كرهوه، وأما استعداء رملة على عمر بن عثمان فو الله إنه لتأتي على سنة وأكثر وعندي بنت عثمان فما أكشف لها ثوبا، يريد بذلك أن رملة بنت معاوية إنما استعدت لطلب الجماع، فقال له معاوية: يا ابن الوزغ لست هناك، فقال له مروان: هو ذاك؛ وهذا من التعريضات اللطيفة. ومثله في اللطافة ما يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذاك أنه كان يخطب يوم جمعة، فدخل عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقال عمر: أيّة ساعة هذه؟ فقال عثمان: يا أمير المؤمنين، انقلبت من أمر السوق فسمعت النداء، فما زدت على أن توضأت، فقال عمر: والوضوء أيضا، وقد علمت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يأمرنا بالغسل؛ فقوله «أية ساعة هذه» تعريض بالإنكار عليه لتأخره عن المجيء إلى الصلاة وترك السبق إليها؛ وهو من التعريض المعرب عن الأدب. ووقفت في كتاب العقد على حكاية نعريضية حسنة الموقع، وهي أن امرأة وقفت على قيس بن عبادة؛ فقالت، أشكو إليك قلة الفأر في بيتي؛ فقال: ما أحسن ما ورّت عن حاجتها، املئوا لها بيتها خبزا وسمنا ولحما. ومن خفي التعريض وغامضه ما ورد في الحديث النبوي، وهو أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خرج

وهو محتضن أحد ابني ابنته، وهو يقول: «والله إنكم لتجبنون وتبخلون وتجهلون، وإنكم لمن ريحان الله، وإنّ آخر وطأة وطئها الله بوجّ» اعلم أنّ وجّا واد بالطائف، والمراد به غزاة حنين، وحنين: واد قبل وجّ؛ لأن غزاة حنين آخر غزاة أوقع بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع المشركين، وأما غزوتا الطائف وتبوك اللتان كانتا بعد حنين فلم يكن فيهما وطأة: أي قتال، وإنما كانتا مجرد خروج إلى الغزو من غير ملاقاة عدو ولا قتال، ووجه عطف هذا الكلام وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم «وإن آخر وطأة وطئها الله بوج» على ما قبله من الحديث هو التأسّف على مفارقة أولاده؛ لقرب وفاته؛ لأن غزوة حنين كانت في شوال سنة ثمان، ووفاته صلّى الله عليه وسلّم كانت في ربيع الأول من سنة إحدى عشرة، وبينهما سنتان ونصف، فكأنه قال: وإنكم لمن ريحان الله: أي من رزقه، وأنا مفارقكم عن قريب، إلا أنه صانع عن قوله وأنا مفارقكم عن قريب بقوله «إن آخر وطأة وطئها الله بوج» وكان ذلك تعريضا بما أراده وقصده من قرب وفاته صلّى الله عليه وسلّم. ومما ورد من هذا الباب شعرا قول الشّميذر الحارثي «1» : بني عمّنا، لا تذكروا الشّعر بعد ما ... دفنتم بصحراء الغمير القوافيا «2» وليس قصده ههنا الشعر، بل قصده ما جرى لهم في هذا الموضع من الظهور عليهم والغلبة، إلا أنه لم يذكر ذلك بل ذكر الشعر، وجعله تعريضا بما قصده: أي لا تفخروا بعد تلك الواقعة التي جرت لكم ولنا بذلك المكان. ومن أحسن التعريضات ما كتبه عمرو بن مسعدة الكاتب إلى المأمون في أمر بعض أصحابه، وهو: أما بعد؛ فقد استشفع بي فلان إلى أمير المؤمنين ليتطوّل في إلحاقه بنظرائه من الخاصة، فأعلمته أن أمير المؤمنين لم يجعلني في مراتب المستشفعين، وفي ابتدائه بذلك تعدّي طاعته، فوقّع المأمون في ظهر كتابه: قد عرفت تصريحك وتعريضك لنفسك، وقد أجبناك إليهما.

واعلم أن هذين القسمين من الكناية والتعريض قد وردا في غير اللغة العربية، ووجدتهما كثيرا في اللغة السريانية؛ فإن الإنجيل الذي في أيدي النصارى قد أتى منهما بالكثير. ومما وجدته من الكناية في لغة الفرس أنه كان رجل من أساورة كسرى وخواصه فقيل: إن الملك يختلف إلى امرأتك، فهجرها لذلك، وترك فراشها، فأخبرت كسرى، فدعاه وقال له: قد بلغني أن لك عينا عذبة وأنك لا تشرب منها؛ فما سبب ذلك؟ قال: أيها الملك، بلغني أن الأسد يردها فخفته، فاستحسن كسرى منه هذا الكلام، وأسنى عطاءه.

النوع العشرون في المغالطات المعنوية

النوع العشرون في المغالطات المعنوية وهذا النوع من أحلى ما استعمل من الكلام وألطفه؛ لما فيه من التورية. وحقيقته: أن يذكر معنى من المعاني له مثل في شيء آخر ونقيض، والنقيض أحسن موقعا، وألطف مأخذا. فالأول الذي يكون له مثل يقع في الألفاظ المشتركة، فمن ذلك قول أبي الطيب المتنبي «1» : يشلّهم بكلّ أقبّ نهد ... لفارسه على الخيل الخيار «2» وكلّ أصمّ يعسل جانباه ... على الكعبين منه دم ممار «3» يغادر كلّ ملتفت إليه ... ولبّته لثعلبه وجار «4» فالثعلب: هو هذا الحيوان المعروف، والوجار: اسم بيته، والثعلب أيضا هو طرف

سنان الرمح؛ فلما اتفق الاسمان بين الثعلبين حسن «1» ذكر الوجار في طرف السنان، وهذا نقل المعنى من مثل إلى مثله. وعليه ورد قول المتنبي أيضا «2» : برغم شبيب فارق السّيف كفّه ... وكانا على العلّات يصطحبان «3» أنّ رقاب النّاس قالت لسيفه: ... رفيقك قيسيّ وأنت يماني فإن شبيبا الخارجي الذي خرج على كافور الإخشيدي، وقصد دمشق وحاصرها، وقتل على حصارها؛ كان من قيس، ولم تزل بين قيس واليمن عداوات وحروب، وأخبار ذلك مشهورة، والسيف يقال له «يماني» في نسبته إلى اليمن، ومراد المتنبي من هذا البيت أن شبيبا لما قتل وفارق السيف كفه فكأن الناس قالوا لسيفه: أنت يماني وصاحبك قيسي، ولهذا جانبه السيف وفارقه. وهذه مغالطة حسنة، وهي كالأولى إلا أنها أدق وأغمض. وكذلك ورد قول بعضهم من أبيات يهجو بها شاعرا، فجاء من جملتها قوله: وخلطتم بعض القران ببعضه ... فجعلتم الشعراء في الأنعام ومعنى ذلك أن الشّعراء اسم سورة من القرآن الكريم والأنعام اسم سورة أيضا، والشعراء: جمع شاعر، والأنعام: ما كان من الإبل والبقر.

وكذلك ورد قول بعض العراقيين يهجو رجلا كان على مذهب أحمد بن حنبل رضي الله عنه، ثم انتقل إلى مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه، ثم انتقل إلى مذهب الشافعي رضي الله عنه: من مبلغ عنّي الوجيه رسالة ... وإن كان لا تجدي لديه الرسائل تمذهبت للنّعمان بعد ابن حنبل ... وفارقته إذ أعوزتك المآكل وما اخترت رأي الشّافعيّ تديّنا ... ولكنّما تهوى الّذي منه حاصل وعمّا قليل أنت لا شكّ صائر ... إلى مالك فافطن لما أنا قائل ومالك: هو مالك ابن أنس صاحب المذهب رضي الله عنه، ومالك: هو خازن النار، وهذه مغالطة لطيفة. ومن أحسن ما سمعته في هذا الباب قول أبي العلاء بن سليمان في الإبل: صلب العصا بالضّرب قد دمّاها ... تودّ أنّ الله قد أفناها إذا أرادت رشدا أغواها ... محاله من رقه إياها فالضرب: لفظ مشترك؛ يطلق على الضرب بالعصا، وعلى الضّرب في الأرض، وهو المسير فيها، وكذلك دمّاها فإنه لفظ مشترك يطلق على شيئين: أحدهما يقال: دماه؛ إذا أسال دمه، ودماه؛ إذا جعله كالدّمية، وهي الصورة، وهكذا لفظ الفناء فإنه يطلق على عنب الثّعلب، وعلى إذهاب الشيء إذا لم يبق منه بقية، يقال: أفناه؛ إذا أذهبه، وأفناه؛ إذا أطعمه الفناء، وهو عنب الثعلب، والرشد والغوى: نبتان، يقال: أغواه؛ إذا أضلّه، وأغواه؛ إذا أطعمه الغوى، ويقال: طلب رشدا؛ إذا طلب ذلك النبت، وطلب رشدا؛ إذا طلب الهداية، وبعض الناس يظن هذه الأبيات من باب اللغز، وليس كذلك؛ لأنها تشتمل على ألفاظ مشتركة، وذلك معنى ظاهر يستخرج من دلالة اللفظ عليه، واللغز: هو الذي يستخرج من طريق الحزر والحدس، لا من دلالة اللفظ عليه، وسأوضح ذلك إيضاحا جليّا في النوع الحادي والعشرين، وهو الذي يتلو هذا النوع؛ فليؤخذ من هناك.

ويروى في الأخبار الواردة في غزاة بدر أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان سائرا بأصحابه يقصد بدرا، فلقيهم رجل من العرب، فقال: ممّن القوم؟ فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «من ماء» ، فأخذ ذلك الرجل يفكر ويقول: من ماء، من ماء؛ لينظر أيّ بطون العرب يقال لها ماء، فسار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لوجهته، وكان قصده أن يكتم أمره، وهذا من المغالطة المثلية؛ لأنه يجوز أن يكون بعض بطون العرب يسمى ماء، ويجوز أن يكون المراد أن خلقهم من ماء. وقد جاءني شيء من ذلك من الكلام المنثور. فمنه ما كتبته في فصل من كتاب عند دخولي إلى بلاد الروم أصف فيه البرد والثلج؛ فقلت: ومن صفات هذا البرد أنه يعقد الدر في خلفه، والدمع في طرفه، وربما تعدّى إلى قليب الخاطر فأجفّه أن يجري بوصفه؛ فالشمس مأسورة، والنار مقرورة، والأرض شهباء غير أنها حولية لم ترض، ومسيلات الجبال أنهار غير أنها جامدة لم تخض. ومكان المغالطة من هذا الكلام في قولي: «والأرض شهباء غير أنها حولية لم ترض» فإن الشهباء من الخيل يقال فيها حولية: أي لها حول، ويقال: إنها مروضة: أي ذلّلت للركوب، وهذه الأرض مضى للثلج عليها حول فهي شهباء حولية؛ وقولي: «لم ترض» أي لم تسلك بعد. ومن ذلك ما ذكرته في وصف كريم؛ فقلت: ولقد نزلت منه بمهلّبّي الصّنع، أحنفي الأخلاق، ولقيته فكأني لم أرع ممّن أحبّ بلوعة الفراق، ولا كرامة للأهل والوطن حتى أقول إني قد استبدلت به أهلا ووطنا، وعهدي بالأيام وهي من الإحسان فاطمة فاستولدتها بجواره حسنا. وهذه تورية لطيفة فإن فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والحسن رضي الله عنهما ولدها، وفاطمة: هي اسم فاعلة من الفطام، يقال: فطمت فهي فاطمة، كما يقال: فطم فهو فاطم، والحسن: هو الشيء الحسن. ومن هذا الأسلوب ما كتبته في فصل من كتاب إلى بعض الإخوان، فقلت:

وعهده بقلمي وهو يتحلّى من البيان بأسمائه، وتبرز أنوار المعاني من ظلمائه، وقد أصبحت يدي منه وهي حمّالة الحطب، وأصبح خاطري أبا جهل بعد أن كان أبا لهب. وهذا أحسن من الأول، وأخلب عبارة، فانظر أيها المتأمل إلى ما فيه من التورية اللطيفة، ألا ترى أن الخاطر يحمد فيوصف بأنه وقّاد وملتهب، ويذم فيوصف بأنه بليد وجاهل؛ وأبو لهب وأبو جهل: هما الرجلان المعروفان، وكذلك حمّالة الحطب هي المرأة المعروفة، وإذا ذمّ القلم قيل: إنه حطب، وإن صاحبه حاطب؛ فلما نقلت أنا هذا إلى المعنى الذي قصدته جئت به على حكم المغالطة، وورّيت فيه تورية، والمسلك إلى مثل هذه المعاني وتصحيح المقصد فيها عسر جدا، لا جرم أن الإجادة فيها قليلة. ومما يجري هذا المجرى ما ذكرته في وصف شخص بمعالي الأمور، وهو: من أبرّ مساعيه أنه حاز قفل المكرمات ومفتاحها، فإذا سئل منقبة كان منّاعها وإذا سئل موهبة كان منّاحها، وأحسن أثرا من ذلك أنه أخذ بأعنّة الصّعاب وألان جماحها، فإذا شهد حومة حرب كان منصورها وإذا لقي مهجة خطب كان سفّاحها. والمغالطة في هذا الكلام في ذكر المنصور والسفاح؛ فإنهما لقب خليفتين من بني العباس، والسفاح: أول خلفائهم، والمنصور: أخوه الذي ولي الخلافة من بعده، وهما أيضا من النصر في حومة الحرب والسّفح الذي هو الإراقة، والمهجة: دم القلب؛ فكأني قلت: هو منصور في حومة الحرب، ومريق لدم الخطوب، وقد اجتمع في هذا الكلام المنصور والمنصور، والسفاح والسفاح «1» ، وهذا من المغالطة المثلية لا من النقيضية، ولا خفاء بما فيها من الحسن. ومن ذلك ما كتبته في كتاب إلى بعض الإخوان؛ فقلت: وقد علمت أن ذلك الأنس بقربه يعقب إيحاشا، وأن تلك النّهلة من لقائه تجعل الأكباد عطاشا؛ فإن من شيمة الدهر أن يبدّل الصّفو كدرا، ويوسع أيام عقوقه طولا وأيام برّه قصرا، وما أقول

إلا أنه شعر بتلك المسرة المسروقة فأقام عليها حدّ القطع، ورأى العيش فيها خفضا فأزاله بعامل الرفع. والمغالطة في هذا الكلام هي في ذكر الخفض والرفع؛ فإن الخفض: هو سعة العيش، والخفض: هو أحد العوامل النحوية، والرفع: هو من قولنا: رفعت الشيء، إذا أزلته، والرفع: هو أحد العوامل النحوية أيضا، وهذا من المغالطات الخفية. ومن ذلك ما كتبته في فصل أصف فيه الحمّى، وكنت إذ ذاك بحصن سميساط، وهو بلد من بلاد الأرمن، فقلت: ومما أكره في حال المرض بهذه الأرض أنّ الحمّى خيّمت بها فاستقرّت، ولم تقنع بأهلها حتى سرت إلى تربتها فترى وقد أخذتها النافض فاقشعرّت، ولم يشكل أمرها إلا لأنها حمى أرمنية مستعجمة اللسان، وقد تشتبه الأمراض وأهل بلادها في الأبان، وإذا كانت الحمى كافرة لم تزل للمسلم حربا، وشكاتها لا تسمى شكاة وإنما تسمى طعنا وضربا، ولهذا صارت الأدوية في علاجها ليست بأدوية، وأصبحت أيام نحرها في الناس غير مبتدأة بأيام تروية، وليس موسمها في فصل معلوم بل كلّ فصول العام من مواسمها، ولو كاتبتها نصيبين أو ميافارقين بكتاب لترجمته بعبدها وخادمها. والمغالطة ههنا في قولي: «وأصبحت أيام نحرها في الناس غير مبتدأة بأيام تروية» والمراد بذلك أنها تقبل بغتة من غير تروّ: أي من غير تلبّث، ويوم النحر: هو يوم عيد الأضحى، وقبله يوم يسمّى يوم التروية؛ فالمغالطة حصلت بين نحر الحمى للناس ونحر الضحايا، إلا أن يوم النحر مبتدأ بيوم تروية، ولا خفاء بما في هذه المغالطة من الحسن واللطافة. وأما القسم الآخر- وهو النقيض- فإنه أقل استعمالا من القسم الذي قبله؛ لأنه لا يتهيأ استعماله كثيرا. فمن جملته ما ورد شعرا لبعضهم، وهو قوله: وما أشياء تشريها بمال ... فإن نفقت فأكسد ما تكون

يقال: نفقت السلعة؛ إذا راجت، وكان لها سوق، ونفقت الدابة؛ إذا ماتت، وموضع المناقضة ههنا في قوله: إنها إذا نفقت كسدت، فجاء بالشيء ونقيضه، وجعل هذا سببا لهذا، وذلك من المغالطة الحسنة. ومن ذلك ما كتبته في جملة كتاب إلى ديوان الخلافة يتضمن فتوح بلد من بلاد الكفار؛ فقلت في آخر الكتاب «1» : وقد ارتاد الخادم من يبلغ عنه مشاريح هذه الوقائع التي اختصرها، ويمثّل صورها لمن غاب عنها كما تمثلت لمن حضرها، ويكون مكانه من النباهة كريما كمكانها، وهي عرائس المساعي فأحسن الناس بيانا مؤهّل لإبداع حسانها، والسائر بها فلان وهو راوي أخبار نصرها التي صحّتها في تجريح الرجال، وعوالي إسنادها مأخوذة من طرق العوال، واللّيالي والأيام لها رواة فما الظن برواية الأيام والليال. في هذا الفصل مغالطة نقيضية، ومغالطة مثلية؛ أما المغالطة المثلية فهي في قولي: «وعوالي إسنادها مأخوذة من طرق العوال» «2» وقد تقدم الكلام على هذا وما يجري مجراه في القسم الأول؛ وأما المغالطة النقيضية فهي قولي: «وهو راوي أخبار نصرها التي صحتها في تجريح الرجل» وموضع المغالطة منه أنه يقال في رواة الأخبار: فلان عدل صحيح الرواية، وفلان مجروح: أي سقيم الرواية غير موثوق به، فأتيت بهذا المعنى على وجه النقيض، فقلت: صحة أخبار هذه الفتوح في تجريح الرجل: أي تجريحهم في الحرب، وفي هذا من الحسن ما لا خفاء به. وقد أوردت من هذه الأمثلة ما فيه كفاية ومقنع. فإن قيل: إن الضرب الأول من هذا النوع هو التجنيس الذي لفظه واحد

ومعناه مختلف، كالمثال الذي مثلته في قول أبي الطيب المتنبي ثعلب ووجار؛ فإن الثعلب هو الحيوان المعروف، وهو أيضا طرف السنان، وكذلك باقي الأمثلة. قلت في الجواب: إن الفرق بين هذين النوعين ظاهر، وذاك أن التجنيس يذكر فيه اللفظ الواحد مرتين؛ فهو يستوي في الصورة ويختلف في المعنى، كقول أبي تمام «1» : بكلّ فتى ضرب يعرّض للقنا ... محيّا محلّى حليه الطّعن والضرب فالضّرب: الرجل الخفيف، والضرب: هو الضرب بالسيف في القتال، فاللفظ لا بد من ذكره مرتين والمعنى فيه مختلف، والمغالطة ليست كذلك، بل يذكر فيها اللفظ مرة واحدة، ويدلّ به على مثله، وليس بمذكور.

النوع الحادي والعشرون في الأحاجي

النوع الحادي والعشرون في الأحاجي وهي الأغاليط من الكلام، وتسمى الألغاز، جمع لغز، وهو: الطريق الذي يلتوي ويشكل على سالكه، وقيل: جمع لغز- بفتح اللام- وهو: ميلك بالشيء عن وجهه، وقد يسمى هذا النوع أيضا المعمّى، وهو يشتبه بالكناية تارة، وبالتعريض أخرى، ويشتبه أيضا بالمغالطات المعنوية، ووقع في ذلك عامة أرباب هذا الفن. فمن ذلك أن أبا الفرج الأصفهاني ذكر بيتي الأقيشر الأسدي «1» في جملة الألغاز، وهما: ولقد أروح بمشرف ذي ميعة ... عسر المكرّة ماؤه يتفصّد «2» مرح يطير من المراح لعابه ... ويكاد جلد إهابه يتقدّد «3» وهذان البيتان من باب الكناية؛ لأنهما يحملان على الفرس، وعلى العضو المخصوص، وإذا حمل اللفظ على الحقيقة والمجاز فكيف يعد من جملة الألغاز؟.

وكذلك فعل الحريري في مقاماته؛ فإنه ذكر في الأحاجيّ التي جعلها على حكم الفتاوي كناية ومغالطة معنوية، وظن أنهما من الأحاجيّ الملغزة، كقوله: أيحلّ للصائم أن يأكل نهارا، والنهار: من الأسماء المشتركة بين النهار الذي هو ضد الليل وبين فرخ الحبارى؛ فإنه يسمى نهارا، وإذا كان من الأسماء المشتركة صار من باب المغالطات المعنوية، لا من باب الأحاجيّ، والإلغاز شيء منفصل عن ذلك كله، ولو كان من جملته لما قيل: لغز، وأحجيّة، وإنما قيل: كناية، وتعريض، أو مغالطة، ولكن وجد من الكلام ما يطلق عليه الكناية، ومنه ما يطلق عليه التعريض، ومنه ما يطلق عليه المغالطة، ومنه شيء آخر خارج عن ذلك؛ فجعل لغزا وأحجية. وكنت قدّمت القول بأن الكناية هي اللفظ الدال على جانب الحقيقة وعلى جانب المجاز، فهو يحمل عليهما معا، وأن التعريض هو ما يفهم من عرض اللفظ لا من دلالته عليه حقيقة ولا مجازا، وأن المغالطة هي التي تطلق ويراد بها شيئان: أحدهما دلالة اللفظ على معنيين بالاشتراك الوضعي، والآخر دلالة اللفظ على المعنى ونقيضه. وأما اللغز والأحجية فإنهما شيء واحد، وهو: كل معنى يستخرج بالحدس والحزر، لا بدلالة اللفظ عليه حقيقة ولا مجازا، ويفهم من عرضه؛ لأن قول القائل في الضرس: وصاحب لا أملّ الدّهر صحبته ... يشقى لنفعي ويسعى سعي مجتهد «1» ما إن رأيت له شخصا فمذ وقعت ... عيني عليه افترقنا فرقة الأبد لا يدل على أنه الضرس، لا من طريق الحقيقة، ولا من طريق المجاز، ولا من طريق المفهوم، وإنما هو شيء يحدس ويحزر، والخواطر تختلف في الإسراع والإبطاء عند عثورها عليه.

فإن قيل: إن اللغز يعرف من طريق المفهوم، وهذان البيتان يعلم معناهما بالمفهوم. قلت في الجواب: إن الذي يعلم بالمفهوم إنما هو التعريض، كقول القائل: إني لفقير، وإني لمحتاج؛ فإن هذا القول لا يدلّ على المسألة والطلب، لا حقيقة ولا مجازا، وإنما فهم منه أن صاحبه متعرّض للطلب، وهذان البيتان ليسا كذلك؛ فإنهما لا يشتملان على ما يفهم منه شيء إلا بالحدس والحزر، لا غير، وكذلك كل لغز من الألغاز. وإذا ثبت هذا فاعلم أن هذا الباب الذي هو اللغز والأحجية والمعمّى يتنوع أنواعا: فمنه المصحّف، ومنه المعكوس، ومنه ما ينقل إلى لغة من اللغات غير العربية، كقول القائل: إسمي إذا صحفته بالفارسية آخر، وهذا اسمه اسم تركي، وهو دنكر- بالدال المهملة والنون، وآخر بالفارسية ديكر- بالدال المهملة والياء المعجمة بثنتين من تحت- وإذا صفحت هذه الكلمة صارت دنكر، بالنون، فانقلبت الياء نونا بالتصحيف، وهذا غير مفهوم إلا لبعض الناس دون بعض. وإنما وضع واستعمل لأنه مما يشحذ القريحة، ويحدّ الخاطر؛ لأنه يشتمل على معان دقيقة يحتاج في استخراجها إلى توقّد الذهن، والسلوك في معاريج خفية من الفكر. وقد استعمله العرب في أشعارهم قليلا، ثم جاء المحدثون فأكثروا منه. وربما أتي منه بما يكون حسنا وعليه مسحة من البلاغة، وذلك عندي بين بين؛ فلا أعده من الأحاجيّ، ولا أعدّه من فصيح الكلام. فما جاء منه قول بعضهم: قد سقيت آبالهم بالنّار ... والنّار قد تشقي من الأوار ومعنى ذلك أن هؤلاء القوم الذين هم أصحاب الإبل ذوو وجاهة وتقدم، ولهم وسم معلوم؛ فلما وردت إبلهم الماء عرفت بذلك الوسم؛ فأفرج لها الناس حتى شربت؛ وقد اتفق له أنه أتى في هذا البيت بالشيء وضده، وجعل أحدهما سببا للآخر؛

فصار غريبا عجيبا، وذاك أنه قال: سقيت بالنار، وقال: إن النار تشفي من الأوار، وهو العطش، وهذا من محاسن ما يأتي في هذا الباب. ومما يجري على هذا النهج قول أبي نواس في شجر الكرم «1» : لنا هجمة لا يدّري الذّئب سخلها ... ولا راعها غضّ الفحالة والحظر إذا امتحنت ألوانها مال صفوها ... إلى الحوّ إلّا أنّ أوبارها خضر ومن هذا القبيل قول بعضهم: سبع رواحل ما ينخن من الونا ... شيم تساق بسبعة زهر متواصلات لا الدّءوب يملّها ... باق تعاقبها على الدّهر هذان البيتان يتضمنان وصف أيام الزمان ولياليه، وهي الأسبوع؛ فإن الزمان عبارة عنه، وذلك من الألغاز الواقعة في موقعها. وعلى هذا الأسلوب ورد قول أبي الطيب المتنبي في السن من جملة قصيدته التي مدح بها سيف الدولة عند ذكر عبوره الفرات، وهي: الرّأي قبل شجاعة الشّجعان «2»

فقال: وحشاه عادية بغير قوائم ... عقم البطون حوالك الألوان «1» تأتي بما سبت الخيول كأنّها ... تحت الحسان مرابض الغزلان «2» وهذا حسن في بابه. ومن ذلك قول بعضهم في حجر المحكّ: ومدّرع من صنعة اللّيل برده ... يفوّق طورا بالنّضار ويطلس «3» إذا سألوه عن عويصين أشكلا ... أجاب بما أعيا الورى وهو أخرس

وهذا من اللطافة على ما يشهد لنفسه، وكان سمعه بعض المتأخرين من أهل زماننا، فأجاب عنه ببيتين على وزنه وقافيته، وهما: سؤالك جلمود من الصّخر أسود ... خفيف لطيف ناعم الجسم أطلس أقيم بسوق الصّرف حكما كأنّه ... من الزّنج قاض بالخلوق مطلّس وقد رأيت هذا الشاعر، وهو حائك بجزيرة ابن عمر، وليس عنده من أسباب الأدب شيء سوى أنه قد أصلح لسانه بطرف يسير من علم النحو لا غير، وهو مع ذلك يقول الشعر طبعا، وكان يجيد في الكثير منه. ومن الألغاز ما يرد على حكم المسائل الفقهية، كالذي أورده الحريري في مقاماته، وكنت سئلت عن مسألة منه، وهي: ولي خالة وأنا خالها ... ولي عمّة وأنا عمّها فأمّا الّتي أنا عمّ لها ... فإنّ أبي أمّه أمّها أبوها أخي وأخوها أبي ... ولي خالة هكذا حكمها فأين الفقيه الذي عنده ... فنون الدّراية أو علمها يبيّن لنا نسبا خالصا ... ويكشف للنّفس ما همّها فلسنا مجوسا ولا مشركين ... شريعة أحمد نأتمّها وهذه المسألة كتبت إليّ فتأملتها تأمل غير ملجلج في الفكر، ولم ألبث أن أنكشف لي ما تحتها من اللغز، وهو أن الخالة التي الرجل خالها تصور على هذه الصورة، وذاك أن رجلا تزوج امرأتين: اسم إحداهما عائشة، واسم الأخرى فاطمة، فأولد عائشة بنتا، وأولد فاطمة ابنا، ثم زوج بنته من أبي امرأته فاطمة، فجاءت ببنت، فتلك البنت هي خالة ابنه، وهو خالها؛ لأنه أخو أمها. وأما العمة التي هو عمّها فصورتها أن رجلا له ولد، ولولده أخ من أمه، فزوج أخاه من أمه أمّ أبيه، فجاء بنت، فتلك البنت هي عمته؛ لأنها أخت أبيه، وهو عمها؛ لأنه أخو أبيها، وأما قوله «ولي خالة هكذا حكمها» فهو أن تكون أمها أخته، وأختها أمه، كما قال «أبوها أخي

وأخوها أبي» وصورتها أن رجلا له ولد، ولولده أخت من أمه، فزوجها من أبي أمه، فجاءت ببنت؛ فأختها أمه، وأمها أخته. وأحسن من ذلك كله وألطف وأحلى قول بعضهم في الخلخال: ومضروب بلا جرم ... مليح اللّون معشوق له قدّ الهلال على ... مليح القدّ ممشوق وأكثر ما يرى أبدا ... على الامشاط في السّوق وبلغني أن بعض الناس سمع هذه الأبيات؛ فقال: قد دخلت السوق فما رأيت على الأمشاط شيئا، وظن أنها الأمشاط التي يرجّل بها الشعر، وأن السوق سوق البيع والشراء. واعلم أنه قد يأتي من هذا النوع ما هو ضروب وألوان؛ فمنه الحسن الذي أوردت شيئا منه كما تراه، ومنه المتوسط الذي هو دونه في الدرجة، فلا يوصف بحسن ولا قبح؛ كقول بعضهم «1» : راحت ركائبهم وفي أكوارها ... ألفان من عمّ الأثيل الواعد ما إن رأيت ولا باركب هكذا ... حملت حدائق كالظّلام الرّاكد وهذا يصف قوما وفدوا على ملك من الملوك فأعطاهم نخلا، وكتب لهم بها كتابا، والأثيل: الموضع الذي كتب لهم إليه، والعم: العظام الرءوس من النخيل، والواعد: الأقناء من النخل، فلما حملوا الكتب في أكوارهم فكأنهم حملوا النخل، وهذا من متوسط الألغاز. وقد جاء من ذلك ما هو بشع بارد؛ فلا يستخرج إلا بمسائل الجبر والمقابلة، أو بخطوط الرمل من القبض الداخل أو القبض الخارج والبياض والحمرة وغيرها،

ولئن كان معناه دقيقا يدلّ على فرط الذكاء فإني لا أعده من اللغة العربية، فضلا عن أن يوصف بصفات الكلام المحمودة، ولا فرق بينه وبين لغة الفرس والروم وغيرهما من اللغات في عدم الفهم. وأما ما ورد من الألغاز نثرا فقد ألغز الحريري في مقاماته ألغازا ضمنها ذكر الإبرة والمرود «1» وذكر الدينار، وهي أشهر كما يقال من قفا نبك؛ فلا حاجة إلى إيرادها في كتابي هذا. وقد ورد من الألغاز شيء في كلام العرب المنثور غير أنه قليل بالنسبة إلى ما ورد في أشعارها، وقد تأملت القرآن الكريم فلم أجد فيه شيئا منها، ولا ينبغي أن يتضمن منها شيئا؛ لأنه لا يستنبط بالحدس والحزر كما تستنبط الألغاز. وأما ما ورد للعرب فيروى عن امرىء القيس وزوجته عدة من الألغاز، وذاك أنه سألها قبل أن يتزوجها؛ فقال: ما اثنان وأربعة وثمانية؟ فقالت: أما الإثنان فثديا المرأة، وأما الأربعة فأخلاف النّاقة، وأما الثمانية فأطباء الكلبة؛ ثم إنه تزوجها وأرسل إليها هدية على يد عبد له، وهي حلّة من عصب اليمن ونحي من عسل ونحي من سمن، فنزل العبد ببعض المياه، ولبس الحلة فعلق طرفها بسمرة فانشقّ، وفتح النّحيين وأطعم أهل الماء، ثم قدم على المرأة وأهلها خلوف، فسأل عن أبيها وأمها وأخيها، ودفع إليها الهدية، فقالت له: أعلم مولاك أن أبي ذهب يقرّب بعيدا ويبعد قريبا، وأن أمّي ذهبت تشقّ النفس نفسين، وأن أخي يرقب الشمس، وأخبره أن سماءكم انشقّت، وأن وعاءيكم نضبا؛ فعاد العبد إلى امرىء القيس وأخبره بما قالته له، فقال: أما أبوها فإنه ذهب يحالف قوما على قومه، وأما أمّها فإنها ذهبت تقبل امرأة، وأما أخوها فإنه في سرح يرعاه إلى أن تغرب الشمس، وأما قولها: «إن

سماءكم انشقت» فإن الحلّة انشقت، وأما قولها: «إن وعاءيكم نضبا» فإن النّحيين نقصا، ثم قال للعبد: أصدقني، فقال له: إني نزلت بماء من مياه العرب، وفعلت كذا وكذا. فهذا وأمثاله قد ورد عنهم إلا أنه يسير. وكذلك يروى عن شن بن أقصى، وكان ألزم نفسه ألّا يتزوّج إلا امرأة تلائمه، فصاحبه رجل في بعض أسفاره، فلما أخذ منهما السير قال له شن: أتحملني أم أحملك؟ فقال له الرجل: يا جاهل؛ هل يحمل الراكب راكبا؟ فأمسك عنه، وسارا حتى أتيا على زرع، فقال شن: أترى هذا الزرع قد أكل؟ فقال له: يا جاهل؛ أما تراه في سنبله، فأمسك عنه، ثم سارا، فاستقبلتهما جنازة، فقال شن: أترى صاحبها حيّا؟ فقال له الرجل: ما رأيت أجهل منك! أتراهم حملوا إلى القبر حيّا؟ ثم إنهما وصلا إلى قرية الرجل، فسار به إلى بيته، وكانت له بنت، فأخذ يطرفها بحديث رفيقه، فقالت: ما نطق إلا بالصواب، ولا استفهم إلا عما يستفهم عن مثله، أما قوله: «أتحملني أم أحملك» فإنه أراد أتحدّثني أم أحدثك حتى نقطع الطريق بالحديث، وأما قوله: «أترى هذا الزرع قد أكل» فإنه أراد هل استسلف ربه ثمنه أم لا، وأما استفهامه عن صاحب الجنازة فإنه أراد هل خلّف له عقبا يحيا بذكره أم لا، فلما سمع كلام ابنته خرج إلى شن وحدّثه بتأويلها، فخطبها، فزوّجه إياها. وأدق من هذا كله وألطف ما يحكى عن رجل من المناقذة أصحاب شيرز، وهو أولهم الذي استنقذه من أيدي الروم بالمكر والخديعة، ولذلك قصة ظريفة، وليس هذا موضع ذكرها، وكان قبل ملكه إياها في خدمة محمود بن صالح صاحب حلب، وكان إذ ذاك يلقب بسديد الملك، فنبا به مكانه، وحدثت له حادثة أوجبت له أن هرب ومضى إلى مدينة ترابلس في زمن بني عمار أصحاب البلد، فأرسل إليه ابن صالح واستعطفه ليعود إليه، فخافه ولم يعد، فأحضر ابن صالح رجلا من أهل حلب صديقا لابن منقذ وبينه وبينه لحمة مودّة أكيدة، وأجلسه بين يديه، وأمره أن يكتب إليه كتابا عن نفسه يوثّقه من جهة ابن صالح ليعود، فما وسعه إلا أن يكتب وهو يعلم أن باطن الأمر في ذلك خلاف ظاهره، وأنه متى عاد ابن منقذ إلى حلب

هلك، فأفكر وهو يكتب في إشارة عمياء لا تفهم؛ ليضعها فيه يحذر بها ابن منقذ، فأدّاه فكره أن كتب في آخر الكتاب عند إنهائه «إن شاء الله تعالى» ، وشدد إن وكسرها، ثم سلم الكتاب إلى ابن صالح، فوقف عليه، وأرسله إلى ابن منقذ، فلما صار في يده وعلم ما فيه قال: هذا كتاب صديقي، وما يغشّني، ولولا أنه يعلم صفاء قلب ابن صالح لي لما كتب إليّ ولا غرّني، ثم عزم على العود، وكان عنده ولده، فأخذ الكتاب وكرّر نظره فيه، ثم قال له: يا أبت، مكانك، فإن صديقك قد حذّرك، وقال: لا تعد، فقال: وكيف؟ قال: إنه قد كتب إن شاء الله تعالى في آخر الكتاب، وشدّد إن وكسرها، وضبطها ضبطا صحيحا لا يصدر مثله عن سهو، ومعنى ذلك أنه يقول: إنّ الملا يأتمرون بك ليقتلوك، وإن شككت في ذلك فأرسل إلى حلب. وهذا من أعجب ما بلغني من حدّة الذهن وفطانة الخاطر، ولولا أنه صاحب الحادثة المخوفة لما تفطّن إلى مثل ذلك أبدا؛ لأنه ضرب من علم الغيب، وإنما الخوف دلّه على استنباط ما استنبطه. ووجد لبعض الأدباء لغز في حمّام؛ فمنه ما أجاد فيه؛ كقوله: وقد أظلّتها سماء ذات نجوم، لا استراق لها ولا رجوم، وهي مركبة في فلك صحت استدارته، وسكنت إدارته: أعجب بها من أنجم ... عند الصّباح ظاهره لكنّها إذا بدا ... نجم الظّلام غائره فهي على القياس جنة نعيم، مبنية على لظى جحيم، لا خلود فيها ولا مقام، ولا تزاور بين أهلها ولا سلام، أنهارها متدفقة، ومياهها مترقرقة، والأكواب بها موضوعة، والنمارق عنها منزوعة: يطيع بها المولى أوامر عبده ... ويصبح طوعا في يديه مقاتله ويرفع عنه التّاج عند دخوله ... وتسلب من قبل الجلوس غلائله

هذا اللغز من فصيح الألغاز، ولا يقال: إن صاحبه في العمى صانع العكاز، وإذا تطرز غيره بلمعة من الوشي فهذا كله طراز. ومما سمعته من الألغاز الحسان التي تجري في المحاورات ما يحكى عن عمر بن هبيرة وشريك النميري، وذاك أن عمر بن هبيرة كان سائرا على برذون له، وإلى جانبه شريك النميري على بغلة، فتقدمه شريك في المسير، فصاح به عمر: اغضض من لجامها، فقال: أصلح الله الأمير، إنها مكتوبة «1» ، فتبسم عمر ثم قال له: ويحك! لم أرد هذا، فقال له شريك: ولا أنا أردته. وكان عمر أراد قول جرير «2» : فغضّ الطّرف إنّك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا فأجابه شريك بقول الآخر «3» : لا تأمننّ فزاريّا نزلت به ... على قلوصك واكتبها بأسيار «4» وهذا من الألغاز اللطيفة، وتفطّن كل من هذين الرجلين لمثله ألطف وأحسن. ومما يجري هذا المجرى أن رجلا من تميم قال لشريك النميري: ما في الجوارح أحب إليّ من البازي؟ فقال له شريك: إذا كان يصيد القطا.

وكان التميمي أراد قول جرير «1» ؛ أنا البازي المطلّ على نمير ... أتيح من السّماء لها انصبابا وأراد شريك قول الطّرمّاح «2» : تميم بطرق اللّؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت طرق المكارم ضلّت واعلم أن خواطر الناس تتفاضل كتفاضل الأشخاص، ومن ههنا قيل: سبحان خالق أبي موسى وعمرو بن العاص.

النوع الثاني والعشرون في المبادي والافتتاحات

النوع الثاني والعشرون في المبادي والافتتاحات هذا النوع هو أحد الأركان الخمسة البلاغية المشار إليها في الفصل التاسع من مقدمة الكتاب. وحقيقة هذا النوع: أن يجعل مطلع الكلام من الشعر أو الرسائل دالّا على المعنى المقصود من ذلك الكلام: إن كان فتحا ففتحا، وإن كان هناء فهناء، أو كان عزاء فعزاء، وكذلك يجري الحكم في غير ذلك من المعاني. وفائدته أن يعرف من مبدأ الكلام ما المراد به ولم هذا النوع. والقاعدة التي يبني عليها أساسه أنه يجب على الشاعر إذا نظم قصيدا أن ينظر؛ فإن كانت مديحا صرفا لا يختص بحادثة من الحوادث فهو مخير بين أن يفتتحها بغزل أو لا يفتتحها بغزل، بل يرتجل المديح ارتجالا من أولها، كقول القائل: إن حارت الألباب كيف تقول ... في ذا المقام فعذرها مقبول سامح بفضلك مادحيك فما لهم ... أبدا إلى ما تستحقّ سبيل إن كان لا يرضيك إلّا محسن ... فالمحسنون إذا لديك قليل فإن هذا الشاعر ارتجل المديح من أول القصيدة فأتى به كما ترى حسنا لائقا. وأما إذا كان القصيد في حادثة من الحوادث؛ كفتح مقفل أو هزيمة جيش أو غير ذلك؛ فإنه لا ينبغي أن يبدأ فيها بغزل، وإن فعل ذلك دلّ على ضعف قريحة الشاعر وقصوره عن الغاية، أو على جهله بوضع الكلام في مواضعه. فإن قيل: إنك قلت: يجب على الشاعر كذا وكذا، فلم ذلك؟

قلت في الجواب: إن الغزل رقة محضة، والألفاظ التي تنظم في الحوادث المشار إليها من فحل الكلام ومتين القول، وهي ضدّ الغزل، وأيضا فإن الأسماع تكون متطلعة إلى ما يقال في تلك الحوادث، والابتداء بالخوض في ذكرها، لا الابتداء بالغزل؛ إذ المهم واجب التقديم. ومن أدب هذا النوع ألّا يذكر الشاعر في افتتاح قصيدة المديح ما يتطير منه، وهذا يرجع إلى أدب النفس، لا إلى أدب الدرس؛ فينبغي أن يحترز منه في مواضعه، كوصف الديار بالدّثور والمنازل بالعفاء، وغير ذلك من تشتت الآلاف وذم الزمان، لا سيما إذا كان في التهاني؛ فإنه يكون أشد قبحا، وإنما يستعمل ذلك في الخطوب النازلة والنوائب الحادثة، ومتى كان الكلام في المديح مفتتحا بشيء من ذلك تطيّر منه سامعه. وإنما خصت الابتداءات بالاختيار لأنها أول ما يطرق السمع من الكلام؛ فإذا كان الابتداء لائقا بالمعنى الوارد بعده توفّرت الدواعي على استماعه، ويكفيك من هذا الباب الابتداءات الواردة في القرآن، كالتحميدات المفتتح بها أوائل السور، وكذلك الابتداءات بالنداء، كقوله تعالى في مفتتح سورة النساء: يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وكقوله تعالى في أول سورة الحج: يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم فإن هذا الابتداء مما يوقظ السامعين للإصغاء إليه، وكذلك الابتداءات بالحروف، كقوله تعالى: ألم* وطس وحم* وغير ذلك؛ فإن هذا أيضا مما يبعث على الاستماع إليه؛ لأنه يقرع السمع شيء غريب ليس له بمثله عادة؛ فيكون ذلك سببا للتطلع نحوه والإصغاء إليه. ومن قبيح الابتداءات قول ذي الرمة: ما بال عينك منها الماء ينسكب «1»

لأن مقابلة الممدوح بهذا الخطاب لا خفاء بقبحه وكراهته. ولما أنشد الأخطل عبد الملك بن مروان قصيدته التي أولها: خفّ القطين فراحوا منك أو بكروا «1» قال له عند ذلك: لا، بل منك، وتطير من قوله؛ فغيرها ذو الرمة؛ وقال: خفّ القطين فراحوا اليوم أو بكروا ومن شاء أن يذكر الديار والأطلال في شعره فليتأدب بأدب القطامى على جفاء طبعه، وبعده عن فطانة الأدب؛ فإنه قال: إنّا محيّوك فاسلم أيّها الطّلل «2» فبدأ قبل ذكر الطلل بذكر التحية والدعاء له بالسلامة، وقد قيل: إن امرأ القيس كان يجيد الابتداء، كقوله: ألا انعم صباحا أيّها الطّلل البالي «3» وكقوله: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل «4»

ومما يكره من الابتداءات قول أبي تمام: تجرّع أسى قد أقفر الجرع الفرد «1» وإنما ألقى أبا تمام في مثل هذا المكروه تتبّعه للتجنيس بين تجرع والجرع، وهذا دأب الرجل؛ فإنه كثيرا ما يقع في مثل ذلك. وكذلك استقبح قول البحتري: فؤاد ملاه الحزن حتّى تصدّعا «2» فإن ابتداء المديح بمثل هذا طيرة ينبو عنها السمع، وهو أجدر بأن يكون ابتداء مرئية لا مديح، وما أعلم كيف يخفى على مثل البحتري وهو من مفلقي الشعراء. وحكي أنه لما فرغ المعتصم من بناء قصره بالميدان جلس فيه وجمع أهله وأصحابه، وأمرهم أن يخرجوا في زينتهم؛ فما رأى الناس أحسن من ذلك اليوم؛ فاستأذن إسحق بن إبراهيم الموصلي في الإنشاد، فأذن له، فأنشد شعرا حسنا أجاد فيه، إلا أنه استفتحه بذكر الديار وعفائها، فقال: يا دار غيّرك البلى ومحاك ... يا ليت شعري ما الّذي أبلاك فتطير المعتصم بذلك، وتغامز الناس على إسحق بن إبراهيم كيف ذهب عليه مثل ذلك مع معرفته وعلمه وطول خدمته للملوك، ثم أقاموا يومهم وانصرفوا، فما عاد منهم اثنان إلى ذلك المجلس، وخرج المعتصم إلى سرّ من رأى، وخرب القصر. فإذا أراد الشاعر أن يذكر دارا في مديحه فليذكر كما ذكر أشجع السّلميّ حيث قال:

قصر عليه تحيّة وسلام ... خلعت عليه جمالها الأيّام وما أجدر هذا البيت بمفتتح شعر إسحق بن إبراهيم الذي أنشده للمعتصم؛ فإنه لو ذكر هذا أو ما جرى مجراه لكان حسنا لائقا. وسئل بعضهم عن أحذق الشعراء، فقال: من أجاد الابتداء والمطلع؛ ألا ترى إلى قصيدة أبي نواس التي أولها: يا دار؛ ما فعلت بك الأيّام ... لم تبق فيك بشاشة تستام فإنها من أشرف شعره وأعلاه منزلة، وهي مع ذلك مستكرهة الابتداء؛ لأنها في مدح الخليفة الأمين، وافتتاح المديح بذكر الديار ودثورها مما يتطيّر منه، لا سيما في مشافهة الخلفاء والملوك. ولهذا يختار في ذكر الأماكن والمنازل ما رقّ لفظه، وحسن النطق به، كالعذيب والغوير ورامة وبارق والعقيق، وأشباه ذلك. ويختار أيضا أسماء النساء في الغزل نحو سعاد وأميم وفوز، وما جرى هذا المجرى. وقد عيب على الأخطل في تغزّله بقذور، وهو اسم امرأة؛ فإنه مستقبح في الذكر، وقد عيب على غيره التغزل باسم تماضر، فإنه وإن لم يكن مستقبحا في معناه فإنه ثقيل على اللسان، كما قال البحتري: إنّ للبين منّة لا تؤدّى ... ويدا في تماضر بيضاء فتغزله بهذا الاسم مما يشوّه رقّة الغزل، ويثقل من خفته، وأمثال هذه الأشياء يجب مراعاتها والتحرز منها. وقد استثنى من ذلك ما كان اسم موضع تضمن وقعة من الوقائع؛ فإن ذكره لا يكره، وإن كان في اسمه كراهة، كما ذكر أبو تمام في شعره مواضع مكروهة الأسماء لضرورة ذكر الوقائع التي كانت بها، كذكر الحشال وعقوقس وأمثالهما، وكذلك ذكر أبو الطيب المتنبي هنزيط وشميصاط وما جرى مجراهما، وهذا لا عيب

في ذكره؛ لمكان الضرورة التي تدعو إليه، وهكذا يسامح الشاعر والكاتب أيضا في ذكر ما لا بد من ذكره وإن قبح، ومهما أمكنه من التورية في هذا المقام فليسلكها، وما لا يمكنه فإنه معذور فيه. واعلم أنه ليس من شرط الابتداء ألّا يكون مما يتطير منه فقط؛ فإن من الابتداءات ما يستقبح وإن لم يتطير منه، كقول أبي تمام: قدك اتّئب أربيت في الغلواء «1» وكقوله «2» : تقي جماتي لست طوع مؤنّبى «3» وكقول أبي الطيب المتنبي: أقلّ فعالي بله أكثره مجد «4» وكقوله: كفّي أراني ويك لومك ألوما «5»

والعجب أن هذين الشاعرين المفلقين يبتدئان بمثل ذلك، ولهما من الابتداءات الحسنة ما أذكره. أما أبو تمام فإنه افتتح قصيدته التي مدح بها المعتصم عند فتحه مدينة عمّورية فقال: السّيف أصدق أنباء من الكتب ... في حدّه الحدّ بين الجدّ والّلعب بيض الصّفائح لا سود الصّحائف في ... متونهنّ جلاء الشّكّ والرّيب وهذه الأبيات لها قصة، وذاك أنه لما حضر المعتصم مدينة عمورية زعم أهل النّجامة أنها لا تفتح في ذلك الوقت، وأفاضوا في هذا، حتى شاع، وصار أحدوثة بين الناس، فلما فتحت بنى أبو تمام مطلع قصيدته على هذا المعنى، وجعل السيف أصدق من الكتب التي خبّرت بامتناع البلد واعتصامها؛ ولذلك قال فيها: والعلم في شهب الأرماح لامعة ... بين الخميسين لا في السّبعة الشّهب أين الرّواية أم أين النّجوم وما ... صاغوه من زخرف فيها ومن كذب تخرّصا وأحاديثا ملفّقة ... ليست بنبع إذا عدّت ولا غرب وهذا من أحسن ما يأتي في هذا الباب. وكذلك قوله في أول قصيدة يمدحه بها أيضا، ويذكر فيها خروج بابك الخرمي عليه، وظفره به، وهي من أمهات شعره، فقال: الحقّ أبلج والسّيوف عوار ... فحذار من أسد العرين حذار وكذلك قوله متغزلا: عسى وطن يدنو بهم ولعلّما ... وأن تعتب الأيّام فيهم فربّما وهذا من الأغزال الحلوة الرائقة، وهو من محاسن أبي تمام المعروفة. وكذلك قوله في أول مرثية: أصمّ بك النّاعي وإن كان أسمعا ... وأصبح مغنى الجود بعدك بلقعا

وأما أبو الطيب فإنه أكثر من الابتداءات الحسنة في شعره؛ كقوله في قصيدة يمدح بها كافورا؛ وكان قد جرت بينه وبين ابن سيده نزغة، فبدأ قصيدته بذكر الغرض المقصود، فقال: حسم الصّلح ما اشتهته الأعادي ... وأذاعته ألسن الحسّاد وهذا من بديع الابتداء ونادره. وكذلك ورد قوله في سيف الدولة، وكان ابن الشّمشقيق «1» حلف ليلقينّه كفاحا، فلما التقيا لم يطق ذلك، وولى هاربا، فافتتح أبو الطيب قصيدته بفحوى الأمر، فقال: عقبى اليمين على عقبى الوغى ندم ... ماذا يزيدك في إقدامك القسم وفي اليمين على ما أنت واعده ... ما دلّ أنّك في الميعاد متّهم وكذلك قوله وقد فارق سيف الدولة وسار إلى مصر، فجمع بين ذكر فراقه إياه ولقائه كافورا في أول بيت من القصيدة، فقال: فراق ومن فارقت غير مدمّم ... وأمّ ومن يمّمت خير ميمّم ومن البديع النادر في هذا الباب قوله متغزلا في مطلع قصيدته القافية، وهي: أتراها لكثرة العشّاق ... تحسب الدّمع خلقة في المآقي وله مواضع أخر كثيرة لا حاجة إلى ذكرها.

ومن محاسن الابتداءات التي دلت على المعنى من أول بيت في القصيدة ما قرأته في كتاب الروضة لأبي العباس المبرد، فإنه ذكر غزوة غزاها الرشيد هرون رحمه الله في بلاد الروم، وأن نقفور ملك الروم خضع له، وبذل الجزية، فلما عاد عنه واستقر بمدينة الرقة وسقط الثلج نقض نقفور العهد، فلم يجسر أحد على إعلام الرشيد؛ لمكان هيبته في صدور الناس، وبذل يحيى بن خالد للشعراء الأموال على أن يقولوا أشعارا في إعلامه، فكلّهم أشفق من لقائه بمثل ذلك، إلا شاعرا من أهل جدة يكنى أبا محمد، وكان شاعرا مفلقا، فنظم قصيدا وأنشدها الرشيد، أولها: نقض الّذي أعطيته نقفور ... فعليه دائرة البوار تدور أبشر أمير المؤمنين فإنّه ... فتح أتاك به الإله كبير نقفور؛ إنّك حين تغدر- أن نأى ... عنك الإمام- لجاهل مغرور أظننت حين غدرت أنّك مفلت ... هبلتك أمّك! ما ظننت غرور فلما أنهى الأبيات قال الرشيد: أو قد فعل؟ ثم غزاه في بقية الثلج وفتح مدينة هرقلة. وقرأت في كتاب الأغاني لأبي الفرج الإصبهاني ما رواه من شعر سديف في تحريض الخليفة السّفّاح رحمه الله علي بني أمية، فقال: قدم سديف من مكة إلى الحيرة، والسفاح بها، ووافق قدومه جلوس السفاح للناس، وكان بنو أمية يجلسون عنده على الكراسي تكرمة لهم؛ فلما دخل عليه سديف حسر لثامه، وأنشده أبياتا من الشعر؛ فالتفت رجل من أولاد سليمان بن عبد الملك، وقال لآخر إلى جانبه: قتلنا والله العبد، فلما أنهى الأبيات أمر بهم السفاح فأخرجوا من بين يديه وقتلوا عن آخرهم، وكتب إلى عماله بالبلاد يأمرهم بقتل من وجدوه منهم، ومن الأبيات: أصبح الدّين ثابتا في الأساس ... بالبهاليل من بني العبّاس «1»

أنت مهديّ هاشم وهداها ... كم أناس رجوك بعد إياس لا تقيلنّ عبد شمس عثارا ... واقطعن كلّ رقلة وغراس أنزلوها بحيث أنزلها الله ... بدار الهوان والإتعاس خوفهم أظهر التّودّد فيهم ... وبهم منكم كحزّ المواسي أقصهم أيّها الخليفة واحسم ... عنك بالسّيف شأفة الأرجاس واذكرن مصرع الحسين وزيد ... وقتيلا بجانب المهراس «1» ولقد ساءني وساء سوائي ... قربهم من منابر وكراسي وهذه الأبيات من فاخر الشعر ونادره افتتاحا وابتداء وتحريضا وتأليبا، ولو وصفتها من الأوصاف بما شاء الله وشاء الإسهاب والإطناب لما بلغت مقدار ما لها من الحسن. ومن لطيف الابتداءات ما ذكره مهيار «2» ، وهو:

أما وهواها عذرة وتنصّلا ... لقد نقل الواشي إليها فأمحلا سعى جهده، لكن تجاوز حدّه ... وكثّر فارتابت، ولو شاء قللا فإنه أبرز الاعتذار في هيئة الغزل، وأخرجه في معرض النسيب، وكان وشي به إلى الممدوح، فافتتح قصيدته بهذا المعنى فأحسن. ومما جاء على نحو من ذلك قول بعض المتأخرين من العراقيين: وراءك أقوال الوشاة الفواجر ... ودونك أحوال الغرام المخامر ولولا ولوع منك بالصّدّ ما سعوا ... ولولا الهوى لم أنتدب للمعاذر فسلك في هذا القول مسلك مهيار، إلا أنه زاد عليه زيادة حسنة، وهي المعاتبة على الإصغاء إلى أقوال الوشاة والاستماع منهم، وذلك من أغرب ما قيل في هذا المعنى. ومن الحذاقة في هذا الباب أن تجعل التحميدات في أوائل الكتب السلطانية مناسبة لمعاني تلك الكتب، وإنما خصصت الكتب السلطانية دون غيرها لأن التحاميد لا تصدر في غيرها؛ فإنها تكون قد تضمنت أمورا لائقة بالتحميد، كفتح مقفل أو هزيمة جيش، أو ما جرى هذا المجرى. ووجدت أبا إسحق الصابي- على تقدمه في فن الكتابة- قد أخلّ بهذا الركن الذي هو من أوكد أركان الكتابة، فإذا أتى بتحميدة في كتاب من هذه الكتب لا تكون مناسبة لمعنى ذلك الكتاب، وإنما تكون في واد والكتاب في واد، إلا ما قل من كتبه. فما خالف فيه مطلع معناه «1» أنه كتب كتابا يتضمن فتح بغداد وهزيمة الأتراك «2» عنها، وكان ذلك فتحا عظيما؛ فابتدأ بالتحميد، فقال: الحمد لله رب

العالمين، الملك الحقّ المبين، الوحيد الفريد، العلي المجيد، الذي لا يوصف إلا بسلب الصفات، ولا ينعت إلا برفع النعوت، الأزلي بلا ابتداء، الأبدي بلا انتهاء، القديم لا منذ أمد محدود، الدائم لا إلى أجل معدود، الفاعل لا من مادة استمدّها، ولا بآلة استعملها، الذي لا تدركه الأعين بلحاظها، ولا تحدّه الألسن بألفاظها، ولا تخلقه العصور بمرورها، ولا تهرمه الدهور بكرورها، ولا تضارعه الأجسام بأقطارها، ولا تجانسه الصور بأعراضها، ولا تجاريه أقدام النظر أو الأشكال، ولا تزاحمه مناكب القرناء والأمثال، بل هو الصّمد الذي لا كفء له، والفذّ الذي لا توأم معه، والحي الذي لا تخرمه المنون، والقيوم الذي لا تشغله الشئون، والقدير الذي لا تئوده المعضلات، والخبير الذي لا تعييه المشكلات. وهذه التحميدة لا تناسب الكتاب الذي افتتح بها، ولكنها تصلح أن توضع في صدر مصنّف من مصنفات أصول الدين، ككتاب الشامل للجويني، أو كتاب الاقتصاد، أو ما جرى مجراهما، وأما أن توضع في صدر كتاب فتح فلا. وهو وإن أساء في هذا الموضع فقد أحسن في مواضع أخر، وذاك أنه كتب كتابا عن الخليفة الطائع رحمه الله تعالى إلى الأطراف عند عوده إلى كرسي ملكه، وزوال ما نزل به وبأبيه المطيع رحمه الله من فادحة الأتراك؛ فقال «1» : الحمد لله ناظم الشمل بعد شتاته، وواصل الحبل بعد بتاته، وجابر الوهن إذا ثلم «2» ، وكاشف الخطب إذا أظلم، والقاضي للمسلمين بما يضمّ نشرهم، ويشدّ أزرهم، ويصلح ذات بينهم «3» ، ويحفظ الألفة عليهم، وإن شابت ذلك في الأحيان شوائب من الحدثان فلن يتجاوز «4» بهم الحد الذي يوقظ غافلهم، وينبّه ذاهلهم، ثم إنهم عائدون إلى فضل «5» ما أولاهم الله وعوّدهم، ووثّق لهم ووعدهم، من إيمان

سربهم «1» ، وإعذاب شربهم، وإعزاز جانبهم، وإذلال مجانبهم، وإظهار دينهم على الدين كله ولو كره المشركون. وهذه تحميدة مناسبة لموضوع الكتاب، وإن كانت المعاني فيها مكررة كالذي أنكرته عليه وعلى غيره من الكتّاب، وقدمت القول فيه في باب السجع؛ فليؤخذ من هناك. ومن المبادي التي قد أخلقت وصارت مزدراة أن يقال في أوائل التقليدات: إن أحق الخدم بأن ترعى خدمة كذا وكذا، وإن أحق من قلّد الأعمال من اجتمع فيه كذا وكذا؛ فإن هذا ليس من المبادي المستحسنة، ومن استعمله أوّلا فقد ضعفت فكرته عن اقتراح ما يحسن استعماله من المبادىء، والذي تبعه في ذلك إما مقلّد ليس عنده قوة على أن يختار لنفسه، وإما جاهل لا يفرق بين الحسن والقبيح والجيد والرديء، وأهل زماننا هذا من الكتاب قد قصروا مبادي تقاليدهم على هذه الفاتحة دون غيرها، وإن أتوا بتحميدة من التحاميد كانت مباينة لمعنى التقليد الذي وضعت في صدره، وكذلك قد كان الكتاب يستعملون في التقليدات مبدأ واحدا لا يتجاوزونه إلى غيره، وهو «هذا ما عهد فلان إلى فلان» والتحميد خير ما افتتح به التقليدات وكتب الفتوح وما جرى مجراهما، وقد أنكرت ذلك على مستعمله في مفتتح تقليد أنشأته بولاية وال فقلت: كانت التقليدات تفتتح بكلام ليس بذي شأن، ولا يوضع في ميزان، ولا يجتنى من أفنان، وغاية ما يقال هذا ما عهد فلان إلى فلان، وتلك فاتحة لم تكن جديدة فتخلق بتطاول الأيام، ولا حسنة النظم فيضاهى بمثلها من ذوات النّظام، وهذا التقليد مفتتح بحمد الله الذي تكفّل لحامده بالزيادة، وبدأ النعمة ثم قرنها من فضله بالإعادة، وهو الذي بلغ بنا [من] مآرب الدينا منتهى الإرادة، وسلّم إلينا مقاده فذلل لنا بها كل مقادة، ووسّد الأمر منا إلى أهله فاستوطأت الرعايا منه على وسادة، ونرجو أن يجمع لنا بين سعادة الأولى والأخرى حتى تتصل هذه السعادة بتلك السعادة، ثم نصلّي على نبيه محمد الذي ميّزه الله

على الأنبياء بشرف السيادة، وجعل انشقاق القمر له من آيات النبوة وانشقاق الإيوان من آيات الولادة، وعلى آله وأصحابه الذين شادوا الدين من بعده فأحسنوا في الإشادة، وبسطت عليهم الدنيا كما بسطت على الذين من قبلهم فلم يحولوا عن خلق الزّهادة، أما بعد كذا وكذا، ثم أنهيت التقليد إلى آخره. ومن الحذاقة في هذا الباب أن يجعل الدعاء في أول الكتاب من السلطانيات والإخوانيات وغيرهما مضمّنا من المعنى ما بني عليه ذلك الكتاب، وهذا شيء انفردت بابتداعه، وتراه كثيرا فيما أنشأته من المكاتبات؛ فإني توخّيته فيها وقصدته. فمن ذلك ما كتبته في الهناء بفتح، وهو: هذا الكتاب مشافه بخدمة الهناء للمجلس السامي الفلاني جدّد الله له في كل يوم فتحا، وبدل عرش كل ذي سلطان لديه صرحا، وجعل كلّ موقف من مواقف جوده وبأسه يوم فطر ويوم أضحى، وكتب له على لسان الإسلام ولسان الأيام ثناء خالدا ومدحا، وأسكنه بعد العمر الطويل دارا لا يظمأ فيها ولا يضحى، ثم أخذت بعد ذلك في إنشاء الكتاب المتضمن ما يقتضيه معاني ذلك الفتح. ومن ذلك ما ذكرته في الهناء بمولود، وهو: جدّد الله مسرّات المجلس السامي الفلاني ووصل صبوح هنائه بغبوقه، وأمتعه بسليله المبشّر بطروقه، وأبقاه حتى يستضىء بنوره ويرمي عن فوقه، وسرّ به أبكار المعاني حتى تخلق أعطافها بخلوقه، وجعله كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه، ثم أخذت في إتمام الكتاب بالهناء بالمولود على حسب ما اقتضاه ذلك المعنى. فتأمل ما أوردته ههنا من هذين المثالين، وانسج على منوالهما فيما تقصده من المعاني التي تبني عليها كتبك؛ فإن ذلك من دقائق هذه الصناعة. وأما فواتح الكتب التي أنشأتها فمنها ما اخترعته اختراعا ولم أسبق إليه، وهي عدة كثيرة، وقد أوردت ههنا بعضها. فمن ذلك مفتتح كتاب إلى ديوان الخلافة، وهو: نشأت سحابة من سماء الديوان العزيز النبوي جعل الله الخلود لدولته أوطانا، والحدود لها أركانا، ونصب

أيامها في أيام الدهر أحيانا، وصوّرها في وجهه عينا وفي عينه إنسانا، ومدّ ظلّها على الناس عدلا وإحسانا، وجمع الأمم على دين طاعتها وإن تفرّقوا أديانا، وأتاها من معجزات سلطانه ما لم ينزل به لغيرها سلطانا، فارتاح الخادم لا لتقائها، وبسط يده لاستسقائها، وقال: رحمة مرسلة لا تخشى رعودها، ولا تخلف وعودها، ومن شأنها ترويض الصنائع التي تبقي آثارها، لا الحمائل التي تذوي أزهارها، وقد يعبر عن الكتاب ونائله، بالسحاب ووابله؛ فإن صدر عن يد كيد الديوان العزيز فقد وقع التشبيه موقع الصواب، وصدق حينئذ قول القائل: إن البحر عنصر السحاب، لكن فرق بين ما يجود بمائه، وما يجود بنعمائه، وبين ما يسم الأرض الماحلة، وبين ما يسمي الأقدار الخاملة، وما زالت كتب الديوان العزيز تضرب لها الأمثال، وتصرف نحوها الآمال، ويرى الحسد فيها حسدا وإن عدّ في غيرها من سييء الأعمال. وهذا فصل من أول الكتاب. ومن جملة الكتب المشار إليها مفتتح كتاب كتبته إلى بعض الإخوان وأرسلته إليه من الموصل إلى أرض الشمال من بلاد الروم، وهو: طلع كوكب من أفق المجلس السامي لا خلت سيادته من عدو وحاسد، ولا شينت بتوأم يخرجها عن حكم الواحد، ولا عدمت صحبة الجدود المتيقّظة في الزمن الراقد، ولا أوحشت الدينا من ذره الخالد الذي هو عمر خالد، ولا زال مرفوعا إلى المحل الذي يعلم به أن الدهر للناس ناقد، والكواكب تختلف مطالعها في الشمال والجنوب؛ فمنها ما يطلع دائما في أحدهما وهو في الآخر دائم الغروب، وكتاب المجلس كوكب لم ير بهذه الأرض مطلعه، وإن علم من السماء أين موضعه، ولما ظهر الآن للخادم سبّح له حامدا، وخرّ له ساجدا، وقال: قد عبدت الكواكب من قبلي فلا عجب أن أكون لهذا الكوكب عابدا، وها أنا قد أصبحت بالعكوف على عبادته مغرى، وقال الناس: هذا ابن كبشة الكتاب «1» لا ابن أبي كبشة الشّعرى. وهذا مطلع غريب، والسياقة التالية لمطلعه أغرب، ومن أغرب ما فيها قولي «وها أنا قد أصبحت بالعكوف على عبادته مغرى، وقال الناس هذا ابن كبشة

الكتاب لا ابن أبي كبشة الشعري» والمراد بذلك أن ابن كبشة «1» كان رجلا في الجاهلية يعبد الشّعرى فخالف بذلك دين قومه، ولما بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم قالت قريش: هذا قد خالف ديننا، وسموه «ابن أبي كبشة» أي أنه قد خالفنا كما خالف أبو كبشة قومه في عبادة الشعرى، فأخذت أنا هذا المعنى وأودعته كتابي هذا فجاء كما تراه مبتدعا غريبا. ومن جملة الكتب المشار إليها مفتتح كتاب كتبته إلى بعض الإخوان بالشام، وهو: طلعت من الغرب شمس فقيل: قد آذنت أشارط الساعة بالاقتراب، ولم يعلم أن تلك الأنوار إنما هي أنوار الكتاب، لم تألف الأبصار من قبله أن تطلع الشمس من المغرب، وليس ذلك إلا كتاب المجلس لا سلبه الله مزية هذا الوصف الكريم، وأتاه من الفضل ما يقال معه وفوق كلّ ذي علم عليم، وأحيا النفوس من كلمها بروح كلمه كما شفي غليلها من أقلامه بسقيا الكليم، ولما ورد عن الخادم صار ليله نهارا، وأصبح الناس في الحديث به أطوارا، والمنصف منهم يقول: قد جرت الشمس إلى مستقرّها والشمس لا تجد قرارا. وهذا الكتاب في الحسن والغرابة كالذي قبله. ومن جملة الكتب المشار إليها مفتتح كتاب كتبته إلى بعض الإخوان، وهو: تأوّب زور من جانب المجلس السامي أدنى الله داره، وجعل كلماته التامة جاره، وأشهد أفعال التقوى ليله وأفعال المكارم نهاره، ووهبه من أعوام العمر طواله ومن أعوام العيش قصاره، ولا أقدر السابقين إلى المعالي أن يجروا معه ولا أن يشقوا غباره، وليس ذلك الزّور إلا سطورا في قرطاس، ولا فرق بين الكتاب وبين مرسله في ملاطفة الإيناس، والله لا يصغر ممشى هذا الزائر، ويقر عيني برؤيته حتى لا أزال به قرير الناظر، ومع هذا فإني عاتب لتأخره وههنا مظنة العتاب، ومن تأخر عنه كتاب صديقه فلا بدّ أن يخطر له خاطر الارتياب، والضّنين بالمودّة «2» لا يرى إلا ظنينا، وقد قيل إنها وديعة وقليلا ما تجد على الودائع أمينا.

وهذا فصل من أول الكتاب. ومن جملة الكتب المشار إليها مفتتح كتاب كتبته إلى بعض الإخوان، وهو: سنحت روضة من جانب المجلس السامي جعل الله المعالي له رداء، ونهايات المساعي له ابتداء، وفداه بمن يقصر عن درجته حتى تكون الأكارم له فداء، وهدى المحامد لأفعاله وأهدى البقاء لأيامه حتى يجتمع له الأمران هدى وإهداء، وأتاه من السيادة ما يجعل أعداءه أصادق ومن السعادة ما يجعل أصدقاءه أعداء، فاستنشق الخادم رباها، وتلقى بالتحية محيّاها، واستمتع بأزهارها التي أنبتها سقيا الأقلام لا سقي الغمام، وقال: هذا ربيع الأرواح لا ربيع الأجسام، ولو رام الإحاطة بوصفها لكانت الأقوال المطولة فيها مختصرة، ولكنه اكتفى بأن رفعها على رأسه حتى يتمثل أن الجنة في شجرة، ومن أوصافها أنها جاءت رائدة ومن شأن الروض أن يرتاد، وحلت محاسنها التي هي في غيرها من حظ البصر وفيها من حظ السمع والبصر والفؤاد، ولما سرّح فيها نظره وجد شوقه حمامة تغرد في أكنافها، وتردّد الشّجى لبعد أليفها إذا رددته الحمائم لقرب ألّافها، وهذا قول له عند إخوان الصفاء علامة، وإذا تمثل كتاب الحبيب روضة فهل يتمثل شوق محبّه إلا حمامة، وأيّ فرق بين هذه وبين أخواتها من ذوات الأطواق؟ لولا أنها تملي شجوها على صفحات القلوب وتلك تمليه على عذبات الأوراق. وهذا فصل من الكتاب، وهو غريب عجيب، وفيه معنيان مبتدعان، وأعجبهما وأغربهما قولي: «حتى يتمثل أن الجنة في شجرة» وهذا مستخرج من الحديث النبوي. ومن جملة الكتب المشار إليها مفتتح كتاب كتبته إلى بعض الإخوان، وهو: تضوّعت نفحة من تلقاء المجلس السامي رعى الله عهده وسقاه، وصان ودّه ووفاه، ويسر لي إلقاء العصا بملقاه، فعطرت الطريق التي سايرتها، والريح التي جاورتها، وأتت فأفرشتها خدي، وضممت عليها ودي، وجعلتها درعا لجيبي ولطيمة لردني وسخابا لعقدي، وعلمت أنها ليست بنفحة طيب، ولكنها كتاب حبيب، فإن مناشق الأرواح غير مناشق الأجسام، ولا يستوي عرف الطّيب وعرف الأقلام، ثم مددت

يدي إلى الكتاب بعد أن صافحت يد موصله، كما صافحت عبقة مندله، وقلت: أهلا بمن أدنى من الحبيب مزارا، وأهدى لعيني قرّة ولقلبي قرارا. وهذا في الغرابة كأخواته التي تقدمت. ولم أستقص ما اخترعته من هذا الباب في مطالع الكتب. وأما ما أتيت فيه بالحسن من المعاني ولكنه غير مخترع؛ فمن ذلك مطلع كتاب كتبته عن الملك نور الدين أرسلان بن مسعود صاحب الموصل إلى الملك الأفضل علي بن يوسف يتضمن تعزية وتهنئة: أما التعزية فبوفاة أخيه الملك العزيز عثمان صاحب مصر، وأما التهنئة فبوراثة الملك من بعده، وهو: لا يعلم القلم أينطق بلسان التعزية أم بلسان التهنية، لكنه جمعهما جميعا فأتى بهما على حكم التثنية، وفي مثل هذا الخطب يظل القلم حائرا، وقد وقف موقف السخط والرضا فسخط أولا ثم رضي آخرا، وهذا البيت الناصريّ يتداول درجات العلى فما تمضي إلا وإليه ترجع، وشموسه وأقماره تتناقل مطالع السعود فما يغيب منها غائب إلا وآخر يطلع، والناس إن فجعوا بماجد ردفه من بعده ماجد، وإن قيل إن الماضي كان واحدا قيل بل الآتي هو الواحد. وهذا فصل من أول الكتاب، ثم كتبت في هذا المعنى كتابين آخرين، وفي الذي أوردته من هذا الفصل مقنع. ومن هذا الأسلوب ما كتبته إلى بعض الإخوان جوابا عن كتابه، وكانت الكتب قد انقطعت بيني وبينه زمانا، وهو: لقاء كتب الأحباب كلقاء الأحباب، وقد تأتي بعد يأس منها فيشتبه لها دمع السرور بدمع الاكتئاب، ومن أحسنها كتاب المجلس السامي الفلاني جعل الله الليالي له صحبا والمعاني له عقبا، ورفع مجده فوق كل ماجد حتى تكون حسناتهم لدى حسناته ذنبا، ولا زال اسمه في الأفواه عذبا وذكره في الألسنة رطبا، ووده لكل إنسان إنسانا ولكل قلب قلبا. ثم انتهيت إلى آخر الكتاب على هذا النّسق. وإنما ذكرت ههنا مبتدأه لأنه الغرض المقصود في هذا الموضع. ومن ذلك ما كتبته إلى بعض الإخوان جوابا عن كتابه، وهو: البشرى تعطى

للكتاب كما تعطى لمرسله، وكل منهما يوفّى حق قدره وينزل في منزله، وكذلك فعل الخادم بكتاب المجلس السامي الفلاني لا زال محله أنيسا، وذكره للفرقدين جليسا، وسعيه على المكارم حبيسا، ومجده جديد الملابس إذا كان المجد لبيسا. وههنا ذكرت من هذا الكتاب «1» كما ذكرته من الذي قبله فإني لم أذكر إلا مبدأه الذي هو الغرض. ومما ينتظم في هذا السلك ما كتبته في صدر كتاب يتضمن تعزية، وهو: لو لم يلبس قلمي ثوب الحداد لهجر مداده، ونضي عنه سواده، وبعد عن قرينته، وعاد إلى طينته، وحرم على نفسه أن يمتطي يدا، أو يجري إلى مدى، لكنه أحدّ فندب، وبكى فسكب، وسطر هذا الكتاب من دموعه، وضمنه ما حملته أحناء ضلوعه، وإنما استعار ذلك من صاحبه الذي أعداه، وأبدى إليه من حزنه ما أبداه، وهو نائب عنه في تعزية سيدنا أحسن الله صبره، ويسر أمره، وأرضى عنه دهره.. ثم أنهيت الكتاب إلى آخره. ومن محاسن هذا الباب أن يفتتح الكتاب بآية من القرآن الكريم، أو بخبر من الأخبار النبوية، أو ببيت من الشعر، ثم يبني الكتاب عليه. فمن ذلك ما كتبته في ابتداء كتاب يتضمن البشرى بفتح، وهو: ومن طلب الفتح الجليل فإنّما ... مفاتيحه البيض الخفاف الصّوارم «2» وقد أخذنا بقول هذا الشاعر الحكيم، وجعلنا السيف وسيلة إلى استنتاج الملك العقيم، وراية المجد لا تنصب إلا على النّصب، والراحة الكبرى لا تنال إلا على جسر من التعب «3» ، وكتابنا هذا وقد استولينا على مملكة فلانة، وهي المملكة التي

تمسي الآمال دونها صرعى، وإذا قيس إليها غيرها من الممالك كانت أصلا وكان غيرها فرعا. وهذا فصل من أول الكتاب. ومن ذلك ما كتبته في مفتتح تقليد بالحسبة، وهو: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون هذا أمر يشتمل على معنى الخصوص دون العموم، ولا يختصّ به إلا ذوو الأوامر المطاعة وذوو العلوم، وقد جمع الله لنا هذين الوصفين كليهما، وجعلنا من المستحلفين عليهما، فلنبدأ أولا بحمده الذي هو سبب للمزيد، ثم لنأخذ في القيام بأمره الذي هو على كل نفس منه رقيب عتيد، ولا ريب أن إصلاح العباد يسري إلى الأرض حتى تزكو بطونها وتنام عيونها، ويشترك في بركات السماء ساكنها ومسكونها، والأمر بذلك حمل إن لم تتوزّعه الأكفّ ثقل على الرقاب، وإذا انتشرت أطراف البلاد فإنها تفتقر إلى مساعدة من مستنيب ومستناب، وقد اخترنا لمدينة فلانة رجلا لم نأل في اختياره جهدا، وقدّمنا فيه خيرة الله التي إذا صدقت نيتها صادفت رشدا، وهو أنت أيها الشيخ فلان، فابسط يدك بقوة إلى أخذ هذا الكتاب، وكن كحسنة من حسناتنا التي يرجح بها ميزان الثواب، وحقّق نظرنا فيك فإنه من نور الله الذي ليس دونه حجاب. فتأمل كيف فعلت في هذه الآية التي بنيت التقليد عليها، وهو من محاسن المبادي والافتتاحات. وكذلك فعلت في موضع آخر، وهو مفتتح كتاب كتبته إلى شخص كلفته السفارة إلى مخدومه في حاجة عرضت، وهو: إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا هذا القول تتبع آثاره، وتحمل عليه أنظاره، وأولى الناس بسيدنا من شاركه في لحمة أدبه، وإن لم يشاركه في لحمة نسبه؛ فإن المناقب أقارب والمآثر أواصر: وليس يعرف لي فضلي ولا أدبي ... إلّا امرؤ كان ذا فضل وذا أدب ونتيجة هذه المقدمة بعث خلقه الكريم على عوارف أفضاله، واستهداء صنيعة جاهه

التي هي أكرم من صنيعة ماله «1» ، ولا تجارة أربح من هذه التجارة، والساعي فيها شريك في الكسب بريء من الخسارة. وأما الأخبار النبوية فيسلك بها هذا المسلك: بأن يذكر الخبر في صدر الكتاب، ثم يبني عليه. ولنذكر منها ولو مثالا واحدا، وهو توقيع كتبته لولد رجل من أصحاب السلطان توفي والده ونقل ما كان باسمه إليه، فقلت: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن مات وترك مالا فلورثته ومن ترك دينا أوكلّا أو ضياعا فإليّ وعليّ» وهذا خلق من الأخلاق النبوية لا مزيد على حسنه، وأساليب المكارم بأسرها موضوعة في ضمنه، ونحن نرجو أن نمشي على أثره فنتنزل منزلة رديفه، أو أن نتشبه به فنبلغ مبلغ مدّه أو نصيفه، وقد أرانا الله ذلك في قوم صحبونا فأسعفناهم بمباغي الإنعام، وأحمدناهم صحبة الليالي والأيام، وتكفّلنا أيتامهم من بعدهم حتى ودّوا أن يكونوا هم الأيتام، وهذا فلان ابن فلان رحمه الله ممن كان له في خدمة الدولة قدم صدق، وأولية سبق، وحفظ كتاب المحافظة عليها فقيل له في تلاوته اقرأ وارق؛ ثم أنهيت التوقيع إلى آخره، فتأمل مفتتح هذا التوقيع فإنه تضمن نصّ الخبر من غير تغيير، وقد ضمنته بعض خبر آخر من الأخبار النبوية، وهو قوله «اقرأ وارق» قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يقال لصاحب القرآن اقرأ وارق ورتّل كما كنت ترتّل في الدّنيا فإنّ منزلتك عند آخر آية تقرؤها» . وقد مثلت لك ههنا أمثالا يقتدى بها، فاحذ حذوها، وامض على نهجها. والله الموفق للصواب.

النوع الثالث والعشرون في التخلص والاقتضاب

النوع الثالث والعشرون في التخلص والاقتضاب وهذا النوع أيضا كالذي قبله في أنه أحد الأركان الخمسة التي تقدمت الإشارة إليها في الفصل التاسع من مقدمة الكتاب. وينبغي لك أيها المتوشح لهذه الفضيلة أن تصرف إليه جلّ همتك؛ فإنه مهمّ عظيم من مهمات البلاغة. أما التخلص- وهو أن يأخذ مؤلّف الكلام في معنى من المعاني فبينا هو فيه إذ أخذ في معنى آخر غيره وجعل الأول سببا إليه- فيكون بعضه آخذا برقاب بعض؛ من غير أن يقطع كلامه، ويستأنف كلاما آخر، بل يكون جميع كلامه كأنما أفرغ إفراغا، وذلك مما يدلّ على حذق الشاعر، وقوة تصرفه؛ من أجل أن نطاق الكلام يضيق عليه، ويكون متبعا للوزن والقافية فلا تواتيه الألفاظ على حسب إرادته، وأما الناثر فإنه مطلق العنان يمضي حيث شاء؛ فلذلك يشقّ التخلص على الشاعر أكثر مما يشق على الناثر. وأما الاقتضاب فإنه ضدّ التخلص، وذاك: أن يقطع الشاعر كلامه الذي هو فيه ويستأنف كلاما آخر غيره من مديح أو هجاء أو غير ذلك، ولا يكون للثاني علاقة بالأول. وهو مذهب العرب ومن يليهم من المخضرمين، وأما المحدثون فإنهم تصرفوا في التخلص فأبدعوا وأظهروا منه كل غريبة. فمن ذلك قول أبي تمام «1» :

يقول في قومس صحبي وقد أخذت ... منّا السّرى وخطا المهريّة القود «1» أمطلع الشّمس تبغي أن تؤمّ بنا ... فقلت: كلّا! ولكن مطلع الجود «2» وهذان البيتان من بديع ما يأتي في هذا الباب ونادره وكذلك قوله «3» أيضا في وصف أيام الربيع ثم خرج من ذكر الربيع وما وصفه به من الأوصاف؛ فقال: خلق أطلّ من الرّبيع كأنّه ... خلق الإمام وهديه المتنشّر «4» في الأرض من عدل الإمام وجوده ... ومن النّبات الغضّ سرج تزهر «5» تنسي الرّياض وما يروّض؛ جوده ... أبدا على مرّ اللّيالي يذكر «6»

وهذا من ألطف التخلصات وأحسنها. وكذلك قوله في قصيدته الفائية التي أولها: أمّا الرّسوم فقد أذكرن ما سلفا «1» فقال فيها: غيداء جاد وليّ الحسن سنّتها ... فصاغها بيديه روضة أنفا يضحي العذول على تأنيبه كلفا ... بعذر من كان مشغوفا بها كلفا ودّع فؤادك توديع الفراق فما ... أراه من سفر التّوديع منصرفا تجاهد الشّوق طورا ثمّ تجذبه ... جهاده للقوافي في أبي دلفا وهذا أحسن من الذي قبله، وأدخل في باب الصنعة. وكذلك جاء قوله «2» : زعمت هواك عفا الغداة كما عفت ... منها طلول بالّلوى ورسوم لا والّذي هو عالم أنّ النّوى ... أجل وأنّ أبا الحسين كريم «3» ما حلت عن سنن الوداد ولا غدت ... نفسي على إلف سواك تحوم «4» وهذا خروج من غزل إلى مديح أغزل منه. ومن البديع في هذا الباب قول أبي نواس من جملة قصيدته المشهورة التي أولها:

أجارة بيتينا أبوك غيور «1» فقال عند الخروج إلى ذكر الممدوح: تقول الّتي من بيتها خفّ مركبي ... عزيز علينا أن نراك تسير أما دون مصر للغنى متطلّب ... بلى إن أسباب الغنى لكثير فقلت لها واستعجلتها بوادر ... جرت فجرى في جريهنّ عبير: ذريني أكثّر حاسديك برحلة ... إلى بلد فيها الخصيب أمير ومما جاء من التخلصات الحسنة قول أبي الطيب المتنبي في قصيدته الدالية التي أولها: عواذل ذات الخال فيّ حواسد «2» وأورد نفسي والمهنّد في يدي ... موارد لا يصدرن من لا يجالد ولكن إذا لم يحمل القلب كفه ... على حالة لم يحمل الكفّ ساعد خليليّ إنّي لا أرى غير شاعر ... فكم منهم الدّعوى ومنّي القصائد فلا تعجبا إنّ السّيوف كثيرة ... ولكنّ سيف الدّولة اليوم واحد وهذا هو الكلام الآخذ بعضه برقاب بعض؛ ألا ترى إلى الخروج إلى مدح الممدوح في هذه الأبيات كأنه أفرغ في قالب واحد؛ ثم إن أبا الطيب جمع بين مدح نفسه ومدح سيف الدولة في بيت واحد، وهو من بدائعه المشهورة.

وكذلك قوله أيضا، وهو من أحسن ما أتى به من التخلصات؛ وهو في قصيدته التي أولها: سرب محاسنه حرمت ذواتها «1» فقال في أثنائها: ومطالب فيها الهلاك أتيتها ... ثبت الجنان كأنّني لم آتها ومقانب بمقانب غادرتها ... أقوات وحش كنّ من أقواتها أقبلتها غرر الجياد كأنّما ... أيدي بني عمران في جبهاتها الثّابتين فروسة كجلودها ... في ظهرها والطّعن في لبّاتها فكأنّها نتجت قياما تحتهم ... وكأنّهم ولدوا على صهواتها تلك النّفوس الغالبات على العلا ... والمجد يغلبها على شهواتها سقيت منابتها الّتي سقت الورى ... بيدي أبي أيّوب خير نباتها فانظر إلى هذين التخلصين البديعين؛ فالأول خرج به إلى مدح قوم الممدوح، والثاني خرج به إلى نفس الممدوح، وكلاهما قد أغرب فيه كل الإغراب. وعلى هذا جاء قوله «2» : إذا صلت لم أترك مصالا لفاتك ... وإن قلت لم أترك مقالا لعالم «3»

وإلّا فخانتتي القوافي وعاقني ... عن ابن عبيد الله ضعف العزائم والشعراء متفاوتون في هذا الباب، وقد يقصر عنه الشاعر المفلق المشهور بالإجادة في إيراد الألفاظ واختيار المعاني، كالبحتري؛ فإن مكانه من الشعر لا يجهل، وشعره هو السهل الممتنع الذي تراه كالشمس قريبا ضوؤها بعيدا مكانها، وكالقناة ليّنا مسّها خشنا سنانها، وهو على الحقيقة قينة الشعراء في الإطراب، وعنقاؤهم في الإغراب، ومع هذا فإنه لم يوفّق في التخلص من الغزل إلى المديح، بل اقتضبه اقتضابا، ولقد حفظت شعره فلم أجد له من ذلك شيئا مرضيا إلا اليسير، كقوله في قافية الباء من قصيدة «1» : وكفاني إذا الحوادث أظل ... من شهابا بغرّة ابن شهاب وكقوله في قافية الدال من قصيدة «2» : قصدت لنجران العراق ركابنا ... يطلبن أرحبها محلّة ما جد «3» آليت لا تلقين جدّا صاعدا ... في مطلب حتّى تناخ بصاعد «4» وكقوله في قصيدته التي أولها: حلفت لها بالله يوم التّفرّق «5»

فإنه تشوّق فيها إلى العراق من الشام، ووصف العراق ومنازله ورياضه، فأحسن في ذلك كله، ثم خرج إلى مدح الفتح بن خاقان بسياقة آخذ بعضها برقاب بعض، فقال: رباع من الفتح بن خاقان لم تزل ... غنى لعديم أو فكاكا لموثق ثم أخذ في مدحه بعد ذلك بضروب من المعاني. وكذلك ورد قوله في قصيدته التي أولها «1» : ميلوا إلى الدّار من ليلى نحيّيها فإنه وصف البركة فأبدع في أوصافها، ثم خرج منها إلى مدح الخليفة المتوكل؛ فقال: كأنّها حين لجّت في تدفّقها ... يد الخليفة لما سال واديها وأحسن ما وجدته له، وهو مما لطف فيه كل التلطيف، قوله في قصيدته التي يمدح بها ابن بسطام ومطلعها: نصيب عينك من سحّ وتسجام فقال عند تخلصه إلى المديح: هل الشّباب ملمّ بي فراجعة ... أيّامه لي في أعقاب أيّام لو أنّه بابل عمر يجاذبه ... إذا تطلّبته عند ابن بسطام وهذا من الملائح في هذا الباب. وله مواضع أخرى يسيرة بالنسبة إلى كثرة شعره.

وقال أبو العلاء محمد بن غانم المعروف بالغانمي: إن كتاب الله خال من التخلص. وهذا القول فاسد؛ لأن حقيقة التخلص إنما هي الخروج من كلام [إلى] آخر غيره بلطيفة تلائم بين الكلام الذي خرج منه والكلام الذي خرج إليه، وفي القرآن الكريم مواضع كثيرة من ذلك، كالخروج من الوعظ والتذكير بالإنذار والبشارة بالجنة إلى أمر ونهي ووعد ووعيد، ومن محكم إلى متشابه، ومن صفة لنبي مرسل وملك منزل إلى ذم شيطان مريد وجبّار عنيد، بلطائف دقيقة، ومعان آخذ بعضها برقاب بعض. فما جاء من التخلص في القرآن الكريم قوله تعالى: واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون. قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين. قال هل يسمعونكم إذ تدعون. أو ينفعونكم أو يضرون. قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون. قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون. أنتم وآباؤكم الأقدمون. فإنهم عدو لي إلا رب العالمين. الذي خلقني فهو يهدين. والذي هو يطعمني ويسقين. وإذا مرضت فهو يشفين. والذي يميتني ثم يحيين. والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين. رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين. واجعل لي لسان صدق في الآخرين. واجعلني من ورثة جنة النعيم. واغفر لأبي إنه كان من الضالين. ولا تخزني يوم يبعثون. يوم لا ينفع مال ولا بنون. إلا من أتى الله بقلب سليم. وأزلفت الجنة للمتقين. وبرزت الجحيم للغاوين. وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون. من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون. فكبكبوا فيها هم والغاوون. وجنود إبليس أجمعون. قالوا وهم فيها يختصمون. تالله إن كنا لفي ضلال مبين. إذ نسويكم برب العالمين. وما أضلنا إلا المجرمون. فما لنا من شافعين. ولا صديق حميم. فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين. هذا كلام يسكر العقول، ويسحر الألباب، وفيه كفاية لطالب البلاغة، فإنه متى أنعم فيه نظره وتدبر أثناءه ومطاوي حكمته على أن في ذلك غنى عن تصفح الكتب

المؤلفة في هذا الفن، ألا ترى ما أحسن ما رتّب إبراهيم عليه السلام كلامه مع المشركين حين سألهم أولا عمّا يعبدون سؤال مقرّر لا سؤال مستفهم، ثم أنحى على آلهتهم؛ فأبطل أمرها بأنها لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع، وعلى تقليد آبائهم الأقدمين فكسره وأخرجه من أن يكون شبهة فضلا عن أن يكون حجة، ثم أراد الخروج من ذلك إلى ذكره الإله الذي لا تجب العبادة إلا له، ولا ينبغي الرجوع والإنابة إلا إليه، فصوّر المسألة في نفسه دونهم، بقوله: فإنهم عدو لي على معنى إني فكرت في أمري فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو وهو الشيطان؛ فاجتنبتها، وآثرت عبادة من الخير كله في يده، وأراهم بذلك أنها نصيحة ينصح بها نفسه؛ لينظروا فيقولوا: ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه، فيكون ذلك أدعى لهم إلى القبول لقوله، وأبعث على الاستماع منه، ولو قال فإنهم عدو لكم لم يكن بتلك المثابة، فتخلص عند تصويره المسألة في نفسه إلى ذكر الله تعالى؛ فأجرى عليه تلك الصفات العظام: من تفخيم شأنه وتعديد نعمه مر لدن خلقه وأنشأه إلى حين وفاته مع ما يرجى في الآخرة من رحمته؛ ليعلم من ذلك أنّ من هذه صفاته حقيق بالعبادة، واجب على الخلق الخضوع له، والاستكانة لعظمته؛ ثم خرج من ذلك إلى ما يلائمه ويناسبه، فدعا الله بدعوات المخلصين، وابتهل إليه ابتهال الأوّابين؛ لأن الطالب من مولاه إذا قدّم قبل سؤاله وتضرعه الاعتراف بالنعمة كان ذلك أسرع للإجابة، وأنجح لحصول الطّلبة، ثم أدرج في ضمن دعائه ذكر البعث ويوم القيامة، ومجازاة الله تعالى من آمن به واتقاه بالجنة ومن ضل عن عبادته بالنار، فجمع بين الترغيب في طاعته والترهيب من معصيته؛ ثم سأل المشركين عما كانوا يعبدون سؤالا ثانيا عند معاينة الجزاء، وهو سؤال موبّخ لهم مستهزىء بهم، وذكر ما يدفعون إليه عند ذلك من الندم والحسرة على ما كانوا فيه من الضلال، وتمنى العودة؛ ليؤمنوا؛ فانظر أيها المتأمل إلى هذا الكلام الشريف الآخذ بعضه برقاب بعض، مع احتوائه على ضروب من المعاني فيخلص من كل واحد منها إلى الآخر بلطيفة ملائمة، حتى كأنه أفرغ في قالب واحد، فخرج من ذكر الأصنام وتنفير أبيه وقومه من عبادتهم إياها مع ما هي فيه من التّعرّي عن صفات الإلهيّة حيث لا تضرّ ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع إلى ذكر الله تعالى فوصفه بصفات الإلهية فعظّم شأنه

وعدّد نعمه؛ ليعلم بذلك أن العبادة لا تصحّ إلا له، ثم خرج من هذا إلى دعائه إياه وخضوعه له؛ ثم خرج منه إلى ذكر يوم القيامة وثواب الله وعقابه، فتدبر هذه التخلصات اللطيفة المودعة في أثناء هذا الكلام. وفي القرآن مواضع كثيرة من التخلصات، كالذي ورد في سورة الأعراف؛ فإنه ذكر فيها قصص الأنبياء والأمم الخالية من آدم إلى نوح عليهما السلام، وكذلك إلى قصة موسى عليه السلام، حتى انتهى إلى آخرها الذي هو واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين. واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون. الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون. هذا تخلص من التخلصات الحسان؛ فإن الله تعالى ذكر الأنبياء والقرون الماضية إلى عهد موسى عليه السلام؛ فلما أراد ذكر نبينا صلوات الله عليه وسلامه ذكره بتخلّص انتظم به بعض الكلام ببعض؛ ألا ترى أنه قال موسى عليه السلام: (واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة) فأجيب بقوله تعالى: قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين من حالهم كذا وكذا، ومن صفتهم كيت وكيت، وهم الذين يتبعون الرسول النبي الأمي ثم وصفه صلوات الله عليه بصفاته إلى آخر الكلام. ويالله العجب!! كيف يزعم الغانمي أن القرآن خال من التخلص؟ ألم يكفه

سورة يوسف عليه السلام فإنها قصة برأسها، وهي مضمّنة شرح حاله مع إخوته من أول أمره إلى آخره، وفيها عدة تخلصات في الخروج من معنى إلى معنى، وكذلك إلى آخرها! ولو أخذت في ذكر ما في القرآن الكريم من هذا النوع لأطلت، ومن أنعم نظره فيه وجد من ذلك أشياء كثيرة. وقد جاءني من التخلصات في الكلام المنثور أشياء كثيرة، وسأذكر ههنا نبذة يسيرة منها. فمن ذلك ما أوردته في كتاب إلى بعض الإخوان أصف فيه الربيع، ثم خرجت من ذلك إلى ذكر الأشواق، فقلت: وكما أنّ هذه الأوصاف في شأنها بديعة، فكذلك شوقي في شأنه بديع، غير أنه لحرّه فصل مصيف وهذا فصل ربيع، فأنا أملي أحاديثه العجيبة على النوى، وقد عرفت حديث من قتله الشوق فلا أستفض حديث من قتله الهوى. ومن هذا الأسلوب ما كتبته في كتاب إلى بعض الإخوان أيضا، وأرسلته إليه من بلاد الروم، وهو كتاب يشتمل على وصف البرد وما لاقيته منه، ثم خرجت من ذلك إلى ذكر الشوق، فقلت: ومما أشكوه من بردها أن الفرو لا يلبس إلا في شهر ناجر، وهو قائم مقام الظل الذي يتبرّد به من لفح الهواجر، ولفظ شدّته لم أجد ما يحققه فضلا عما يذهبه، فإن النار المعدّة له تطلب من الدفء أيضا ما أطلبه، لكن وجدت نار أشواقي أشدّ حرا فاصطليت بجمرها التي لا تذكي بزناد ولا تئول إلى رماد، ولا يدفع البرد الوارد على الجسد بأشدّ من حرّ الفؤاد، غير أني كنت في ذلك كمن سد خلة بخلة، واستشفى من علة بعلة، وأقتل ما أغلّك ما شفاك «1» فما ظنك بمن يصطلي نار الأشواق، وقد قنع من أخيه بالأوراق فضن عليه بالأوراق.

ومما ينتظم في هذا العقد ما ذكرته في مفتتح كتاب يتضمن عناية ببعض المتظلمين، فاستطردت فيه المعنى إذ ذكر المكتوب إليه؛ وهو: هدايا المكارم أنفس من هدايا الأموال، وأبقى على تعاقب الأيام والليال، وقد حمل هذا الكتاب منها هدية تورث حمدا وتكسب مجدا، وهي خير ثوابا وخير مردّا، ولا يسير بها إلا سجية طبعت على الكرم، وخلقت من عنصر الدّيم، كسجية مولانا أعلاه الله علوّا تفخر به الأرض على السماء، وتحسده شمس النهار ونجوم الظلماء، ولا زالت أياديه مخجلة صوب الغمام، معدية على نوب الأيام. مغنية بشرف فضلها على شرف الأخوال والأعمام، وتلك الهديّة هي تجريد الشفاعة في أمر فلان ومن إيمان المرء سعيه في حاجة أخيه، وإن لم يمسّه بشيء من أسباب أواخيه؛ فإن المؤمنين إخوة وإن تباينت مناسبهم، وتفاوتت مراتبهم، ومن صفتهم أن يسعى بذمّتهم أدناهم، وخيرهم من عناه من الأمر ما عناهم. ثم مضيت على هذا النهج إلى آخر الكتاب. ومن ذلك ما كتبته من كتاب إلى صديق استحدثت مودته، وهو من أهل العراق، وكنت اجتمعت به بالموصل ثم سارعنّي، فكتبت إليه أستهديه رطبا؛ فقلت: هذه المكاتبة ناطقة بلسان الشوق الذي تزف كلمه زفيف الأوراق، وتسجع سجع ذوات الأطواق، وتهتف وهي مقيمة بالموصل فتسمع من هو مقيم بالعراق، وأبرح الشوق ما كان عن فراق غير بعيد، وودّ استجدت حلته واللذة مقترنة بكل شيء جديد، وأرجو ألّا يبلى قدم الأيام لهذه الجدة لباسا، وأن يعاذ من نظرة الجن والإنس حتى لا يخشى جنة ولا بأسا، وقد قيل: إن للمودّات طعما كما أن لها وسما، وإن ذا اللب يصادق نفسا قبل أن يصادق جسما، وإني لأجد لمودّة سيدنا حلاوة يستلذ دوامها، ولا يمل استطعامها، وقد أذكرتني الآن بحلاوة الرطب الذي هو من أرضها، وغير عجيب لمناسبة الأشياء أن يذكّر بعضها ببعضها، إلا أن هذه الحلاوة تنال بالأفواه وتلك تنال بالأسرار، وفرق بين ما يغترس بالأرض وما يغترس بالقلب في شرف الثمار؛ فلا ينظر سيدنا عليّ في هذا التمثيل، ولربما كان ذلك تعريضا ينوب مناب التطفيل. وهذا من التخلصات البديعة؛ فانظر أيها المتأمل كيف سقت الكلام إلى

استهداء الرطب، وجعلت بعضه آخذا برقاب بعض، حتى كأنه أفرغ في قالب واحد؟ وكذلك فليكن التخلص من معنى إلى معنى. وهذا القدر من الأمثلة كاف للمتعلم. ومما أستظرف من هذا النوع في الشعر قول ابن الزمكرم الموصلي، وهو: وليل كوجه البرقعيديّ مظلم ... وبرد أغانيه وطول قرونه سريت ونومي فيه نوم مشرّد ... كعقل سليمان بن فهد ودينه على أولق فيه التفات كأنه ... أبو جابر في خبطه وجنونه إلى أن بدا ضوء الصّباح كأنّه ... سنا وجه قرواش وضوء جبينه وهذه الأبيات لها حكاية، وذاك أن هذا الممدوح، وهو شرف الدولة قرواش ملك العرب، وكان صاحب الموصل؛ فاتفق أنه كان جالسا مع ندمائه في ليلة من ليالي الشتاء، وفي جملتهم هؤلاء الذين هجاهم الشاعر، وكان البرقعيدي مغنيا، وسليمان بن فهد وزيرا، وأبو جابر حاجبا، فالتمس شرف الدولة من هذا الشاعر أن يهجو المذكورين ويمدحه؛ فأنشد هذه الأبيات ارتجالا، وهي غريبة في بابها: لم يسمع بمثلها، ولم يرض قائلها بصناعة التخلص وحدها، حتى رقي في معانيه المقصودة إلى أعلى منزلة، فابتدأ البيت الأول يهجو البرقعيدي؛ فجاءه في ضمن مراده ذكر أوصاف ليل الشتاء جميعها، وهي الظلمة والبرد والطول، ثم إن هذه الأوصاف الثلاثة جاءت ملائمة لما شبهت به مطابقة له، وكذلك البيت الثاني والثالث، ثم خرج إلى المديح بألطف وجه، وأدقّ صنعة، وهذا يسمى الاستطراد، وما سمعت في هذا الباب بأحسن من هذه الأبيات. ومما يجري على هذا الأسلوب ما ورد لابن الحجاج البغدادي، وهي أبيات لطيفة جدا «1» : ألا يا ماء دجلة لست تدري ... بأنّي حاسد لك طول عمري

ولو أنّي استطعت سكرت سكرا ... عليك فلم تكن يا ماء تجري فقال الماء: ما هذا عجيب ... بم استوجبته يا ليت شعري «1» فقلت له: لأنّك كلّ يوم ... تمرّ على أبي الفضل بن بشر تراه ولا أراه، وذاك شيء ... يضيق عن احتمالك فيه صبري وما علمت معنى في هذا المقصد ألطف ولا أرقّ ولا أعذب ولا أحلى من هذا اللفظ، ويكفي ابن الحجاج من الفضيلة أن يكون له مثل هذه الأبيات. ولا تظن أن هذا شيء انفرد به المحدثون لما عندهم من الرقة واللطافة، وفات من تقدّمهم لما عندهم من قشف العيش وغلظ الطبع، بل قد تقدم أولئك إلى هذا الأسلوب، وإن أقلوا منه وأكثر منه المحدثون، وأي حسن من محاسن البلاغة والفصاحة لم يسبقوا إليه؟ وكيف لا وهم أهله، ومنهم علم، وعنهم أخذ؟ فمن ذلك ما جاء للفرزدق، وهو «2» : وركب كأنّ الرّيح تطلب عندهم ... لها ترة من جذبها بالعصائب «3» سروا يخبطون اللّيل وهي تلفّهم ... إلى شعب الأكوار من كلّ جانب «4»

إذا آنسوا نارا يقولون ليتها ... وقد خصرت أيديهم نار غالب «1» فانظر إلى هذا الاستطراد ما أفحله وأفخمه!!. واعلم أنه قد يقصد الشاعر التخلص فيأتي به قبيحا، كما فعل أبو الطيب المتنبي في قصيدته التي أولها: ملثّ القطر أعطشها ربوعا «2» فقال عند الخروج من الغزل إلى المديح: غدا بك كلّ خلو مستهاما ... وأصبح كلّ مستور خليعا أحبّك أو يقولوا جرّ نمل ... ثبيرا وابن إبراهيم ريعا وهذا تخلّص كما تراه بارد، ليس عليه من مسحة الجمال شيء، وههنا يكون الاقتضاب أحسن من التخلص؛ فينبغي لسالك هذه الطريق أن ينظر إلى ما يصوغه؛ فإن واتاه التخلّص حسنا كما ينبغي وإلا فليدعه، ولا يستكرهه حتى يكون مثل هذا، كما فعل أبو الطيب، ولهذا نظائر وأشباه، وقد استعمل ذلك في موضع آخر في قصيدته التي أولها: أحيا وأيسر ما قاسيت ما قتلا «3»

فقال: علّ الأمير يرى ذلّي فيشفع لي ... إلى الّتي تركتني في الهوى مثلا «1» والإضراب عن مثل هذا التخلص خير من ذكره، وما ألقاه في هذه الهوّة إلا أبو نواس؛ فإنه قال «2» : سأشكو إلى الفضل بن يحيى بن خالد ... هواك لعلّ الفضل يجمع بيننا «3» على أن أبا نواس أخذ ذلك من قيس بن ذريح، لكنه أفسده ولم يأت به كما أتى به قيس، ولذلك حكاية، وهو أنه لما هام بلبنى في كل واد وجنّ بها رقّ له الناس ورحموه، فسعى له ابن أبي عتيق إلى أن طلقها من زوجها، وأعادها إلى قيس، فزوجها إياه؛ فقال عند ذلك: جزى الرّحمن أفضل ما يجازي ... على الإحسان خيرا من صديق وقد جرّبت إخواني جميعا ... فما ألفيت كابن أبي عتيق سعى في جمع شملي بعد صدع ... ورأي حرت فيه عن طريقي وأطفى لوعة كانت بقلبي ... أغصّتني حرارتها بريقي وبين هذا الكلام وبين كلام أبي نواس بون بعيد؛ وقد حكي عن ابن أبي عتيق أنه قال: يا حبيبي أمسك عن هذا المديح فما يسمعه أحد إلا ظنني قوّادا.

وأما الاقتضاب فهو الذي أشرنا إليه في صدر هذا النوع، وهو: قطع الكلام واستئناف كلام آخر غيره؛ بلا علاقة تكون بينه وبينه. فمن ذلك ما يقرب من التخلص، وهو فصل الخطاب، والذي أجمع عليه المحققون من علماء البيان أنه «أما بعد» ؛ لأن المتكلم يفتتح كلامه في كل أمر ذي شأن بذكر الله وتحميده، فإذا أراد أن يخرج إلى الغرض المسوق إليه فصل بينه وبين ذكر الله تعالى بقوله «أما بعد» . ومن الفضل الذي هو أحسن من الوصل لفظه «هذا» وهي علاقة وكيدة بين الخروج من كلام إلى كلام آخر غيره، كقوله تعالى: واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار. إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار. وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار. واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار. هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب. جنات عدن مفتحة لهم الأبواب ألا ترى إلى ما ذكر قبل هذا ذكر من ذكر من الأنبياء عليهم السلام، وأراد أن يذكر على عقبه بابا آخر غيره، وهو ذكر الجنة وأهلها، فقال: هذا ذكر ثم قال: وإن للمتقين لحسن مآب ثم لما أتمّ ذكر أهل الجنة وأراد أن يعقبه بذكر أهل النار قال: هذا وإن للطاغين لشر مآب وذلك من فصل الخطاب الذي هو ألطف موقعا من التخلص. وقد وردت لفظة «هذا» في الشعر إلا أن ورودها فيه قليل بالنسبة إلى الكلام المنثور؛ فمن ذلك قول الشاعر المعروف بالخباز البلدي في قصيدة أولها: العيش غضّ والزّمان غرير ... إنّي ليعجبني الزّنا في سحرة ويروق لي بالجاشريّة زيره ... وأكاد من فرح السّرور إذا بدا ضوء الصّباح من السّتور أطير ... وإذا رأيت الجوّ في فضية للغيم في جنباتها تكسير ... منقوشة صدر البزاة كأنّه فيروزج قد زانه بلّور

نادت بي الّلذّات ويحك فانتهز ... فرص المنى يأيّها المغرور مل بي إلى جور السّقاة فإنّني ... أهوى سقاة الكأس حين تجور هذا، وكم لي بالجنينة سكرة ... أنا من بقايا شربها مخمور باكرتها وغصونها مغروزة ... والماء بين مروزها مذعور في ستّة: أنا، والنّديم، وقينة، ... والكأس، والمزمار، والطّنبور هذه الأبيات حسنة، وخروجها من شدق هذا الرجل الخبّاز عجيب، ولو جاءت في شعر أبي نواس لزانت ديوانه. والاقتضاب الوارد في الشعر كثير لا يحصى، والتخلص بالنسبة إليه قطرة من بحر؛ ولا يكاد يوجد التخلص في شعر الشاعر المجيد إلا قليلا بالنسبة إلى المقتضب من شعره. فمن الاقتضاب قول أبي نواس في قصيدته النونية التي أولها «1» : يا كثير النّوح في الدّمن وهذه القصيدة هي عين شعره والملاحة للعيون، وهي تنزل منه منزلة الألف لا منزلة النون، إلا أنه لم يكمل حسنها بالتخلص من الغزل إلى المديح، بل اقتضبه اقتضابا؛ فبينا هو يصف الخمر ويقول: فاسقني كأسا على عذل ... كرهت مسموعه أذني من كميت اللّون صافية ... خير ما سلسلت في بدني ما استقرّت في فؤاد فتى ... فدرى ما لوعة الحزن

حتى قال: تضحك الدّنيا إلى ملك ... قام بالآثار والسّنن سنّ للنّاس النّدى فندوا ... فكأنّ البخل لم يكن فأكثر مدائح أبي نواس مقتضبة هكذا، والتخلص غير ممكن في كل الأحوال، وهو من مستصعبات علم البيان. ومن هذا الباب الذي نحن بصدد ذكره قول البحتري في قصيدته المشهورة بالجودة التي مدح بها الفتح بن خاقان وذكر لقاءه الأسد وقتله إياه، وأولها: أجدّك ما ينفكّ يسري لزينبا «1» وهي من أمهات شعره، ومع ذلك لم يوفق فيها للتخلص من الغزل إلى المديح، فإنه بينما هو في تغزله وهو يقول: عهدتك إن منّيت موعدا ... جهاما وإن أبرقت أبرقت خلّبا وكنت أرى أنّ الصّدود الّذي مضى ... دلال فما إن كان إلّا تجنّبا فوا أسفا حتّام أسأل مانعا ... وآمن خوّافا وأعتب مذنبا حتى قال في أثر ذلك: أقول لركب معتفين تدرّعوا ... على عجل قطعا من اللّيل غيهبا ردوا نائل الفتح بن خاقان إنّه ... أعمّ ندى فيكم وأيسر مطلبا فخرج إلى المديح بغير وصلة ولا سبب. وكذلك قوله في قصيدته المشهورة بالجودة التي مدح بها الفتح بن خاقان

أيضا، وذكر نجاته عند انخساف الجسر به، وقد أغرب فيها كل الإغراب، وأحسن كل الإحسان، وأولها: متى لاح برق أو بدا طلل قفر «1» فبينا هو في غزلها حتى قال: لعمرك ما الدّنيا بناقصة الجدى ... إذا بقي الفتح بن خاقان والقطر فخرج إلى المديح مقتضبا له، لا متعلقا به، وأمثال هذا في شعره كثير.

النوع الرابع والعشرون في التناسب بين المعاني

النوع الرابع والعشرون في التناسب بين المعاني وينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: في المطابقة. وهذا النوع يسمى البديع أيضا، وهو في المعاني ضد التجنيس في الألفاظ؛ لأن التجنيس هو أن يتّحد اللفظ مع اختلاف المعنى، وهذا هو أن يكون المعنيان ضدين. وقد أجمع أرباب هذه الصناعة على أن المطابقة في الكلام هي الجمع بين الشيء وضده؛ كالسواد والبياض، والليل والنهار. وخالفهم في ذلك قدامة بن جعفر الكاتب فقال: المطابقة إيراد لفظين متساويين في البناء والصيغة مختلفين في المعنى. وهذا الذي ذكره هو التجنيس بعينه، غير أن الأسماء لا مشاحّة فيها، إلا إذا كانت مشتقة. ولننظر نحن في ذلك، وهو أن نكشف عن أصل المطابقة في وضع اللغة، وقد وجدنا الطّباق في اللغة من طابق البعير في سيره؛ إذا وضع رجله موضع يده، وهذا يؤيد ما ذكره قدامة؛ لأن اليد غير الرجل، لا ضدها، والموضع الذي يقعان فيه واحد، وكذلك المعنيان يكونان مختلفين واللفظ الذي يجمعهما واحد؛ فقدامة سمى هذا النوع من الكلام مطابقا، حيث كان الاسم مشتقا مما سمي به، وذلك مناسب وواقع في موقعه، إلا أنه جعل للتجنيس اسما آخر، وهو المطابقة، ولا بأس به، إلا إن كان مثّله بالضدين؛ كالسواد والبياض؛ فإنه يكون قد خالف الأصل الذي أصّله بالمثال الذي مثّله.

فأما الأول - وهو مقابلة الشيء بضده،

وأما غيره من أرباب هذه الصناعة فإنهم سمّوا هذا الضرب من الكلام مطابقا لغير اشتقاق ولا مناسبة بينه وبين مسماه، هذا الظاهر لنا من هذا القول، إلا أن يكونوا قد علموا لذلك مناسبة لطيفة لم نعلمها نحن. ولنرجع إلى ذكر هذا القسم من التأليف وإيضاح حقيقته؛ فنقول: الأليق من حيث المعنى أن يسمى هذا النوع المقابلة؛ لأنه لا يخلو الحال فيه من وجهين: إما أن يقابل الشيء بضده، أو يقابل بما ليس بضده، وليس لنا وجه ثالث. فأما الأول- وهو مقابلة الشيء بضده، كالسواد والبياض، وما جرى مجراهما- فإنه ينقسم قسمين: أحدهما مقابلة في اللفظ والمعنى، والآخر مقابلة في المعنى دون اللفظ. أما المقابلة في اللفظ والمعنى فكقوله تعالى: فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا ؛ فقابل بين الضحك والبكاء والقليل والكثير، وكذلك قوله تعالى: لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم ؛ وهذا من أحسن ما يجيء في هذا الباب، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خير المال عين ساهرة لعين نائمة» . ومن الحسن المطبوع الذي ليس بمتكلف قول علي رضي الله عنه لعثمان رضي الله عنه: إن الحق ثقيل مرىء والباطل خفيف وبيء، وأنت رجل إن صدقت سخطت، وإن كذبت رضيت؛ فقابل الحق بالباطل، والثقيل المريء بالخفيف الوبيء، والصدق بالكذب، والسخط بالرضا. وهذه خمس مقابلات في هذه الكلمات القصار. وكذلك ورد قوله رضي الله عنه لما قال الخوارج: لا حكم إلا لله تعالى: هذه كلمة حقّ أريد بها باطل. وقال الحجاج بن يوسف لسعيد بن جبير رضي الله عنه وقد أحضره بين يديه ليقتله، فقال له: ما اسمك؟ قال: سعيد بن جبير، قال: بل أنت شقي بن كسير،

وقد كان الحجاج من الفصحاء المعدودين، وفي كلامه هذا مطابقة حسنة؛ فإنه نقل الاسمين إلى ضدهما، فقال في سعيد: شقي، وفي جبير: كسير وهذا النوع من الكلام لم تختص به اللغة العربية دون غيرها من اللغات. ومما وجدته في لغة الفرس أنه لما مات قباذ أحد ملوكهم قال وزيره: حرّكنا بسكونه. وأول كتاب الفصول لأبقراط في الطب قوله: العمر قصير، والصناعة طويلة. وهذا الكتاب على لغة اليونان. ومن كلامي في هذا الباب ما كتبته في صدر مكتوب إلى بعض الإخوان، وهو: صدر هذا الكتاب عن قلب مقيم وجسد سائر، وصبر مليم وجزع عاذر، وخاطر أدهشته لوعة الفراق فليس بخاطر. وكذلك كتبت إلى بعض الإخوان أيضا، فقلت: صدر هذا الكتاب عن قلب مأنوس بلقائه، وطرف مستوحش لفراقه، فهذا مروّع بكآبة إظلامه، وهذا ممتنع ببهجة إشراقه، غير أن لقاء القلوب لقاء عنيت بمثله خواطر الأفكار، وتتناجى به من وراء الأستار، وذلك أخو الطّيف الملمّ في المنام، الذي يموّه بلقاء الأرواح على لقاء الأجسام. ومن هذا النوع ما ذكرته في كتاب أصف المسير من دمشق إلى الموصل على طريق المناظر، فقلت من جملته: ثم نزلت أرض الخابور فغرّبت الأرواح وشرّقت الجسوم، وحصل الإعدام من المسار والإنزال من الهموم، وطالبتني النفس بالعود والقدرة مفلسة، وأويت إلى ظل الآمال والآمال مشمسة. ومن ذلك ما ذكرته في جملة كتاب إلى بعض الإخوان، وعرضت فيه بذكر جماعة من أهل الأدب، فقلت: وهم مسئولون ألّا ينسوني في نادي فضلهم الذي هو منبع الآمال، وملتقط اللآل، فوجوه ألفاظه مشرقة بأيدي الأقلام المتسودة، وقلوب معانيه مستنبطة بنار الخواطر المتوقدة، والواغل إليه يسكر من خمرته التي تنبه العقول من إغفائها، ولا يشربها أحد غير أكفائها.

وهذه الفصول المذكورة لا خفاء بما تضمنته من محاسن المقابلة. ومما ورد من هذا النوع شعرا قول جرير «1» : وأعور من نبهان أمّا نهاره ... فأعمى، وأمّا ليله فبصير وهكذا ورد قول الفرزدق «2» ؛ قبح الإله بني كليب إنّهم ... لا يغدرون ولا يفون بجار «3» يستيقظون إلى نهيق حمارهم ... وتنام أعينهم عن الأوتار «4» فقابل بين الغدر والوفاء، وبين التيقظ والنوم، وفي البيت الأول معنى يسأل عنه. وكذلك ورد قول بعضهم «5» ؛

فلا الجود يفني المال والجدّ مقبل ... ولا البخل يبقي المال والجدّ مدبر وقد أكثر أبو تمام من هذا في شعره فأحسن في موضع وأساء في موضع؛ فمن إحسانه قوله «1» : ما إن ترى الأحساب بيضا وضّحا ... إلّا بحيث ترى المنايا سودا وكذلك قال من هذه القصيدة أيضا: شرف على أولى الزّمان وإنّما ... خلق المناسب ما يكون جديدا «2» وعلى هذا النهج ورد قوله «3» : إذا كانت النّعمى سلوبا من امرىء ... غدت من خليجي كفّه وهي متبع «4» وإن عثرت بيض اللّيالي وسودها ... بوحدته ألفيتها وهي مجمع «5» ويوم يظلّ العزّ يحفظ وسطه ... بسمر العوالي والنّفوس تضيّع «6» مصيف من الهيجا ومن جاحم الوغى ... ولكنّه من وابل الدّم مربع «7»

ومن هذا الأسلوب قوله أيضا «1» : تقرّب الشّقّة القصوى إذا أخذت ... سلاحها وهو الإرقال والرّمل إذا تظلّمت من أرض فصلت بها ... كانت هي العزّ إلّا أنّها ذلل المرضياتك ما أرغمت آنفها ... والهادياتك وهي الشّرّد الضّلل وعلى هذا النحو ورد قوله «2» : وناضرة الصّباحين اسبكرّت ... طلاع المرط والدّرع البديّ تشكّى الأين من نصف سريع ... إذا قامت ومن نصف بطيّ وقد جاء لأبي نواس ذلك فقال: أقلني قد ندمت على الذّنوب ... وبالإقرار عدت من الجحود أنا استهديت عفوك من قريب ... كما استعفيت سخطك من بعيد فقابل بين الأضداد: من الجحود والإقرار، والعفو والسخط، والقرب والبعد.

وعلى نحو من ذلك ورد قول علي بن جبلة في أبي دلف العجلي، وهو: أيم المهير ونكاح الأيّم ... يوماك يوم أبؤس وأنعم وجمع مجد وندى مقسّم وكذلك قوله أيضا: هو الأمل المبسوط والأجل الّذي ... يمرّ على أيّامه الدّهر أو يحلو ولا تحسن الأيّام تفعل فعله ... وإن كان في تصريفها النّقض والفعل فعش واحدا أمّا الشّراء فمسلم ... مباح وأمّا الجار فهو حمى بسل «1» ومما جاء من هذا القسم قول البحتري «2» : أحسن الله في ثوابك عن ثغر مضاع أحسنت فيه البلاء كان مستضعفا فعزّ ومحرو ... ما فأجدى ومظلما فأضاء ومن أحسن ما ورد له في هذا الباب قوله «3» : أشكو إليك أناملا ما تنطوي ... بخلا وإملاقا تقصفها اليد «4»

أرضيهم قولا ولا يرضونني ... فعلا وتلك قضيّة لا تقصد فأذمّ منهم ما يذمّ وربّما ... سامحتهم فحمدت ما لا يحمد وعلى هذا النهج ورد قوله «1» : وتوقّعي منك الإساءة جاهدا ... والعدل أن أتوقّع الإحسانا وكما يسرّك لين مسّي راضيا ... فكذاك فاخش خشونتي غضبانا وأما أبو الطيب المتنبي فإنه استعمل هذا النوع قليلا في شعره؛ فمن ذلك قوله «2» : ثقال إذا لاقوا خفاف إذا دعوا ... كثير إذا شدّوا قليل إذا عدّوا وكذلك قوله «3» : إلى ربّ مال كلّما شنتّ شمله ... تجمّع في تشتيته للعلا شمل

ومما استعذبته من قوله في هذا الباب «1» : كأنّ سهاد اللّيل يعشق مقلتي ... فيينهما في كلّ هجر لنا وصل ومما جاء من هذا الباب: لمّا اعتنقنا للوداع وأعربت ... عبراتنا عنّا بدفع ناطق فرّقن بين معاجر ومحاجر ... وجمعن بين بنفسج وشقائق وهذا تحته معنى يسأل عنه غير المقابلة. وذهب بعض أهل العلم إلى أن المراد بالبنفسج والشقائق هو عارض الرجل وخد المرأة؛ لأن من العادة أن يشبه العارض بالبنفسج. وهذا قول غير سائغ؛ لأن العارض إنما يشبه بالبنفسج عند أول ظهوره، فإذا طرّ وظهرت خضرته في ابتداء سن الشباب شبّه بالبنفسج؛ لأنه يكون بين الأخضر والأسود، وليس في الشعر ما يدل على أن المودّع كان شابا قد طرّ عارضه؛ والذي يقتضيه المعنى أن المرأة قامت للوداع فمزّقت خمارها ولطمت خدها؛ فجمعت بين أثر اللطم، وهو شبيه بالبنفسج، وبين لون الخد، وهو شبيه الشقائق، وفرّقت بين خمارها وبين وجهها بالتمزيق ولها وموجدة على الوداع؛ هذا هو معنى البيت، لا ما ذهب إليه هذا الرجل. وأما المقابلة في المعنى دون اللفظ في الأضداد فمما جاء منه قول المقنّع الكنديّ من شعراء الحماسة «2» .

وأما مقابلة الشيء بما ليس بضده

لهم جلّ مالي إن تتابع لي غنى ... وإن قلّ مالي لم أكلّفهم رفدا فقوله «تتابع لي غنى» بمعنى قوله «كثر مالي» فهو إذا مقابلة من جهة المعنى؛ لا من جهة اللفظ؛ لأن حقيقة الأضداد اللفظية إنما هي في المفردات من الألفاظ، نحو: قام وقعد، وحلّ وعقد، وقل وكثر؛ فإن القيام ضد القعود، والحلّ ضد العقد، والقليل ضد الكثير؛ فإذا ترك المفرد من الألفاظ وتوصل إلى مقابلته بلفظ مركب كان ذلك مقابلة من جهة المعنى، لا من جهة اللفظ؛ كقول هذا الشاعر «تتابع لي غنى» في معنى كثر مالي، وهذه مقابلة معنوية، لا لفظية، فاعرف ذلك. وأما مقابلة الشيء بما ليس بضده فهي ضربان: أحدهما ألّا يكون مثلا، والآخر أن يكون مثلا. فالضرب الأول يتفرع إلى فرعين: الأول: ما كان بين المقابل والمقابل نوع مناسبة وتقارب، كقول قريط بن أنيف «1» :

الفرع الثاني: ما كان بين المقابل والمقابل به بعد،

يجزون من ظلم أهل الظّلم مغفرة ... ومن إساءة أهل السّوء إحسانا فقابل الظلم بالمغفرة، وليس ضدا لها، وإنما هو ضد العدل، إلا أنه لما كانت المغفرة قريبة من العدل حسنت المقابلة بينها وبين الظلم. وعلى هذا جاء قوله تعالى: أشداء على الكفار رحماء بينهم ؛ فإن الرحمة ليست ضدا للشدة، وإنما ضد الشدة اللين، إلا أنه لما كانت الرحمة من مسبّبات اللين حسنت المقابلة بينها وبين الشدة. وكذلك ورد قوله تعالى: إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ؛ فإن المصيبة سيئة؛ لأن كل مصيبة سيئة، وليس كل سيئة مصيبة؛ فالتقابل ههنا من جهة العام والخاص. الفرع الثاني: ما كان بين المقابل والمقابل به بعد، وذاك مما لا يحسن استعماله، كقول أم النّحيف «1» ، وهو سعد بن قرط «2» ، وقد تزوج امرأة كانت نهته عنها، فقالت من أبيات تذمّها فيها «3» : تربّص بها الأيّام علّ صروفها ... سترمي بها في جاحم متسعّر فكم من كريم قد مناه إلهه ... بمذمومة الأخلاق واسعة الحر

فقولها «بمذمومة الأخلاق واسعة الحر» من المقابلة البعيدة، بل الأولى أن كانت قالت «بضيقة الأخلاق واسعة الحر» حتى تصح المقابلة. وهذا مما يدل على أن العربيّ غير مهتد إلى استعمال ذلك بصنعته، وإنما يجيء له منه ما يجيء بطبعه، لا بتكلفه، وإذا أخطأ فإنه لا يعلم الخطأ، ولا يشعر به، والدليل على ذلك أنه لو أبدلت لفظة مذمومة بلفظة ضيقة لصح الوزن، وحصلت المقابلة، وإنما يعذر من يعذر في ترك المقابلة في مثل هذا المقام إذا كان الوزن لا يواتيه. وأما المحدثون من الشعراء فإنهم اعتنوا بذلك خلاف ما كانت العرب عليه، لا جرم أنهم أشدّ ملامة من العرب. فمن ذلك قول أبي الطيب المتنبي «1» : لمن يطلب الدّنيا إذا لم يرد بها ... سرور محبّ أو مساءة مجرم «2» فإن المقابلة الصحيحة بين المحب والمبغض، لا بين المحب والمجرم، وليست متوسطة أيضا حتى يقرب الحال فيها، وإنما هي بعيدة؛ فإنه ليس كل من أجرم إليك كان مبغضا لك.

ومما يتصل بهذا الضرب ضرب من الكلام يسمى «المواخاة بين المعاني، والمواخاة بين المباني» وكان ينبغي أن نعقد له بابا مفردا لكنا لما رأيناه ينظر إلى التقابل من وجه وصلناه به. أما المواخاة بين المعاني فهو: أن يذكر المعنى مع أخيه، لا مع الأجنبي؛ مثاله أن تذكر وصفا من الأوصاف، وتقرنه بما يقرب منه ويلتئم به، فإن ذكرته مع ما يبعد منه كان ذلك قدحا في الصناعة، وإن كان جائزا. فمن ذلك قول الكميت «1» : أم هل ظعائن بالعلياء رافعة ... وإن تكامل فيها الدّلّ والشّنب «2» فإن الدّلّ يذكره مع الغنج وما أشبهه، والشّنب يذكر مع اللّعس وما أشبهه، وهذا موضع يغلط فيه أرباب النظم والنثر كثيرا، وهو مظنّة الغلط؛ لأنه يحتاج إلى ثاقب فكرة وحذق بحيث توضع المعاني مع أخواتها، لا مع الأجنبي منها. وقرأت في كتاب الأغاني لأبي الفرج «3» أنه اجتمع نصيب والكميت وذو الرّمّة، فأنشد الكميت «أم هل ظعائن- البيت» فقعد نصيب واحدة؛ فقال له الكميت: ماذا تحصي؟ قال: خطأك؛ فإنك تباعدت في القول، أين الدّلّ من الشّنب؟ ألّا قلت كما قال ذو الرمة.

لمياء في شفتيها حوّة لعس ... وفي اللّثاث وفي أنيابها شنب ورأيت أبا نواس يقع في ذلك كثيرا؛ كقوله في وصف الديك «1» : له اعتدال وانتصاب قدّ ... وجلده يشبه وشي البرد كأنّها الهدّاب في الفرند ... محدودب الظّهر كريم الجدّ فإنه ذكر الظهر وقرنه بذكر الجد، وهذا لا يناسب هذا؛ لأن الظهر من جملة الخلق، والجدّ من النسب، وكان ينبغي أن يذكر مع الظهر ما يقرب منه ويواخيه أيضا. وكذلك أخطأ أبو نواس في قوله: وقد حلفت يمينا ... مبرورة لا تكذّب بربّ زمزم والحو ... ض والصّفا والمحصّب فإن ذكر الحوض مع زمزم والصّفا والمحصّب غير مناسب، وإنما يذكر الحوض مع الصراط والميزان، وما جرى مجراهما، وأما زمزم والصّفا والمحصّب فيذكر معها الرّكن والحطيم، وما جرى مجراهما.

وعلى هذا الأسلوب ورد قوله أيضا: أحسن من منزل بذي قار ... منزل حمّارة وحمّار «1» . وشمّ ريحانة ونرجسة ... أحسن من أينق بأكوار فالبيت الثاني لا مقارنة بين صدره وعجزه، وأين شمّ الريحان من الأينق بالأكوار؟ وكان ينبغي له أن يقول: شمّ الريحان أحسن من شم الشّيح والقيصوم، وركوب الفتيات الرّود أحسن من ركوب الأينق بالأكوار، وكلّ هذا لا يتفطن لوضعه في مواضعه في كل الأوقات، وقد كان يغلب عليّ السهو في بعض الأحوال حتى أسلك هذه الطريق في وضع المعاني مع غير أنسابها وأقاربها، ثم إني كنت أتأمل ما صنعته بعد حين فأصلح ما سهوت عنه. وأما المواخاة بين المباني فإنه يتعلق بمباني الألفاظ. فمن ذلك قول أبي تمام في وصف الرماح «2» : مثقّفات سلبن العرب سمرتها ... والرّوم زرقتها والعاشق القضفا «3»

وهذا البيت من أبيات أبي تمام الأفراد، غير أن فيه نظرا، وهو قوله العرب والروم ثم قال العاشق، ولو صح أن يقول العشاق لكان أحسن؛ إذ كانت الأوصاف تجري على [سنن] واحد، وكذلك قوله سمرتها وزرقتها ثم قال القضفا، وكان ينبغي أن يقول: قضفها أو دقتها. وعلى هذا ورد قول مسلم بن الوليد: نفضت بك الأحلاس نفض إقامة ... واسترجعت نزّاعها الأمصار فاذهب كما ذهبت غوادي مزنة ... يثني عليها السّهل والأوعار والأحسن أن يقال: السّهل والوعر؛ أو السهول والأوعار؛ ليكون البناء اللفظي واحدا: أي أن يكون اللفظان واردين على صيغة الجمع أو الإفراد، ولا يكون أحدهما مجموعا والآخر مفردا. وكذلك ورد قول أبي نواس في الخمر «1» : صفراء مجّدها مرازبها ... جلّت عن النّظراء والمثل «2» فجمع وأفرد في معنى واحد، وهو أنه قال «النظراء» مجموعا ثم قال «المثل» مفردا، وكان الأحسن أن يقول: النظير والمثل، أو النظراء والأمثال. وعلى ذلك ورد قوله أيضا، والإنكار يتوجّه فيه أكثر من الأول، وهو «3» :

ألا يا ابن الّذين فنوا فماتوا ... أما والله ما ماتوا لتبقى ومالك فاعلمن فيها مقام ... إذا استكملت آجالا ورزقا وموضع الإنكار ههنا أنه قال «آجالا ورزقا» وكان ينبغي أن يقول: أرزاقا، أو أن يقول: أجلا ورزقا، وقد زاده إنكارا أنه جمع الأجل فقال «آجالا» والإنسان ليس له إلا أجل واحد، ولو قال أجلا وأرزاقا لما عيب؛ لأن الأجل واحد والأرزاق كثيرة؛ لاختلاف ضروبها وأجناسها. وإذا أنصفنا في هذا الموضع وجدنا الناثر مطالبا به دون الناظم؛ لمكان إمكانه من التصرف. وقد كنت أرى هذا الضرب من الكلام واجبا في الاستعمال، وأنه لا يحسن المحيد عنه، حتى مر بي في القرآن الكريم ما يخالفه، كقوله تعالى في سورة النحل: أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيوا ظلاله عن اليمين والشمائل ولو كان الأحسن لزوم البناء اللفظي على سنن واحد لجمع اليمين كما جمع الشمال أو أفرد الشمال كما أفرد اليمين، وكذلك ورد قوله تعالى: أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون فجمع القلوب والأبصار وأفرد السمع، وكذلك ورد قوله تعالى: حتى إذا ما جاوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم فذكر السمع بلفظ الإفراد وذكر الأبصار والجلود بلفظ الجمع؛ وفي القرآن الكريم مواضع كثيرة هكذا، ولو كان هذا معتبرا في الاستعمال لورد في كلام الله تعالى الذي هو أفصح من كل كلام، والأخذ في مقام الفصاحة

الضرب الثاني: في مقابلة الشيء مثله،

والبلاغة إنما يكون منه، والمعوّل عليه، وما ينبغي أن يقاس على هذا قوله تعالى: وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين وربما قيل: إن هذه الآية اشتملت على تثنية وجمع وإفراد، وظن أنها من هذا الباب، وليس كذلك: لأنها مشتملة على خطاب موسى وهرون عليهما السلام أولا في اتخاذ المساجد لقومهما، ثم ثنّى الخطاب لهما ولقومهما جميعا، ثم أفرد موسى عليه السلام ببشارة المؤمنين؛ لأنه صاحب الرسالة. الضرب الثاني: في مقابلة الشيء مثله، وهو يتفرع إلى فرعين: أحدهما: مقابلة المفرد بالمفرد، والآخر مقابلة الجملة بالجملة. الفرع الأول: كقوله تعالى: نسوا الله فنسيهم وكقوله تعالى: ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وقد روعي هذا الموضع في القرآن الكريم كثيرا؛ فإذا ورد في صدر آية من الآيات ما يحتاج إلى جوانب كان جوابه مماثلا، كقوله تعالى: من كفر فعليه كفره* وكقوله تعالى: وجزاء سيئة سيئة مثلها وهذا هو الأحسن، وإلا فلو قيل من كفر فعليه ذنبه كان ذلك جائزا، لكن الأحسن هو ما ورد في كتاب الله تعالى، وعليه مدار الاستعمال. وهذا الحكم يجري في النظم والنثر من الأسجاع والأبيات الشعرية. فأما إن كان ذلك غير جواب؛ فإنه لا يلتزم فيه هذه المراعاة اللفظية، ألا ترى أنه قد قوبلت الكلمة بكلمة هي في معناها، وإن لم تكن مساوية لها في اللفظ، وهذا يقع في الألفاظ المترادفة؛ ولذا يستعمل ذلك في الموضع الذي ترد فيه الكلمة غير جواب. فما جاء منه قوله تعالى: ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون ولو كان لا تورد الكلمة إلا مثلا لقيل وهو أعلم بما تعملون، وكذلك قوله تعالى: وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فقال لا تخف بعد قوله

ففزع ولما كان هذا في معنى هذا قوبل أحدهما بالآخر، ولم يقابل اللفظ بنفسه. وكذلك جاء قوله تعالى: ولئن سالتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزون فذكر الاستهزاء الذي هو في معنى الخوض واللعب وقابل به الخوض واللعب، ولو ذكره على حد المماثلة والمساواة لقال: أفي الله وآياته ورسوله كنتم تخوضون وتلعبون. فإن قيل: إنك قد احتججت بالقرآن الكريم فيما ذكرته، ونرى قد ورد في القرآن الكريم ما ينقضه، كقوله تعالى: والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها ولم يقل جزاء سيئة سيئة مثلها. الجواب عن ذلك أني أقول: أردت أن تنقض عليّ ما ذكرته فلم تنقضه، ولكنك شيّدته، والذي ذكرته هو دليل لي لا لك، ألا ترى أنه لا فرق بين قوله تعالى جزاء سيئة بمثلها وبين قوله جزاء سيئة سيئة مثلها؛ إذ المعنى واحد لا يختلف، ولو جاء عوضا عن السيئة لفظة أخرى في معناها كالأذى والسوء أو ما جرى مجراهما لصح لك ما ذهبت إليه. وقد ذهب بعض المتصدرين في علم البيان أنه إذا ذكرت اللفظة في أول كلام يحتاج إلى تمام، وإن لم يكن جوابا كالذي تقدم؛ فينبغي أن تعاد بعينها في آخره، ومتى عدل عن ذلك كان معيبا، ثم مثل ذلك بقول أبي تمام وقول أبي الطيب المتنبي، فقال: إن أبا تمام أخطأ في قوله «1» : بسط الرّجاء لنا برغم نوائب ... كثرت بهنّ مصارع الآمال «2»

الفرع الثاني في مقابلة الجملة بالجملة:

فحيث ذكر الرجاء في صدر البيت فكان ينبغي أن يعيد ذكره أيضا في عجزه، أو كان ذكر الآمال في صدر البيت وعجزه، وكذلك أخطأ أبو الطيب المتنبي في قوله «1» : إنّي لا علم واللّبيب خبير ... أنّ الحياة وإن حرصت غرور فإنه قال «إني لأعلم واللبيب خبير» وكان ينبغي أن يقول: إني لأعلم واللبيب عليم؛ ليكون ذلك تقابلا صحيحا. وهذا الذي ذكره هذا الرجل ليس بشيء، بل المعتمد عليه في هذا الباب أنه إذا كانت اللفظة في معنى أختها جاز استعمالها في المقابلة بينهما، والدليل على ذلك ما قدمناه من آيات القرآن الكريم، وكفى به دليلا. وهذه الرموز التي هي أسرار الكلام لا يتفطّن لاستعمالها إلا أحد رجلين: إما فقيه في علم البيان قد مارسه، وإما مشقوق اللسان في الفصاحة قد خلق عارفا بلطائفها مستغنيا عن مطالعة صحائفها، وهذا لا يكون إلا عربيّ الفطرة يقول ما يقوله طبعا، على أنه لا يسدد في جميع أقواله، ما لم تكن معرفته الفطرية ممزوجة بمعرفته العرفية. الفرع الثاني في مقابلة الجملة بالجملة: اعلم أنه إذا كانت الجملة من الكلام مستقبلة قوبلت بمستقبلة، وإن كانت ماضية قوبلت بماضية، وربما قوبلت الماضية بالمستقبلة، والمستقبلة بالماضية؛ إذا كانت إحداهما في معنى الأخرى. فمن ذلك قوله تعالى: قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي فإن هذا تقابل من جهة المعنى، ولو كان التقابل من جهة اللفظ لقال: وإن اهتديت فإنما أهتدي لها، وبيان تقابل هذا الكلام من جهة المعنى

هو أن النفس كل ما عليها فهو بها؛ أعني أن كل ما هو وبال عليها وضارّ لها فهو بسببها ومنها: لأنها الأمارة بالسوء، وكل ما هو لها مما ينفعها فبهداية ربها وتوفيقه إياها، وهذا حكم عام لكل مكلّف، وإنما أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يسند ذلك إلى نفسه لأن الرسول إذا دخل تحته مع علوّ محله وسداد طريقته كان غيره أولى به. ومن هذا الضرب قوله تعالى: ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا فإنه لم يراع التقابل في قوله ليسكنوا فيه ومبصرا؛ لأن القياس يقتضي أن يكون والنهار لتبصروا فيه، وإنما هو مراعى من جهة المعنى، لا من جهة اللفظ، وهذا النظم المطبوع غير المتكلف؛ لأن معنى قوله مبصرا لتبصروا فيه طرق التقلّب في الحاجات. واعلم أن في تقابل المعاني بابا عجيب الأمر، يحتاج إلى فضل تأمل، وزيادة نظر، وهو يختص بالفواصل من الكلام المنثور، وبالأعجاز من الأبيات الشعرية. فما جاء من ذلك قوله تعالى في ذم المنافقين: وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون. ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون وقوله تعالى وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون ألا ترى كيف فصل الآية الأخرى بيعلمون والآية التي قبلها بيشعرون، وإنما فعل ذلك لأن أمر الديانة والوقوف على أن المؤمنين على الحق وهم على الباطل يحتاج إلى نظر واستدلال حتى يكتسب الناظر العلم والمعرفة بذلك، وأما النفاق وما فيه من البغي المؤدّي إلى الفتنة والفساد في الأرض فأمر دنيويّ مبني على العادات معلوم عند الناس خصوصا عند العرب وما كان فيهم من التحارب والتغاور، وفهو كالمحسوس عندهم، فلذلك قال فيه لا يشعرون وأيضا فإنه لما ذكر السفه في الآية الأخيرة وهو جهل كان ذكر العلم معه أحسن طباقا فقال لا يعلمون. وآيات القرآن جميعها فصلت هكذا، كقوله تعالى: ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير وكقوله:

له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد وكقوله: ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لروف رحيم فإنه إنما فصلت الآية الأولى بلطيف خبير لأن ذلك في موضع الرحمة لخلقه بإنزال الغيث وغيره، وأما الآية الثانية فإنما فصلت بغني حميد لأنه قال: له ما في السماوات وما في الأرض له لا لحاجة، بل هو غني عنها، جوّاد بها؛ لأنه ليس كل غنيّ نافعا بغناه إلا إذا كان جوادا منعما، وإذا جاد وأنعم حمده المنعم عليه، واستحق عليه الحمد، فذكر الحميد ليدل على أنه الغنيّ النافع بغناه خلقه، وأما الآية الثالثة «1» فإنها فصلت برءوف رحيم؛ لأنه لما عدّد للناس ما أنعم به عليهم من تسخير ما في الأرض لهم وإجراء الفلك في البحر بهم وتسييرهم في ذلك الهول العظيم وخلقه السماء فوقهم وإمساكه إياهن الوقوع حسن أن يفصل ذلك قوله لروف رحيم أي: أنّ هذا الفعل فعل رؤوف بكم رحيم لكم. واعلم أيها المتأمل لكتابنا هذا أنه قلمّا توجد هذه الملاءمة والمناسبة في كلام ناظم أو ناثر. ومن الآيات ما يشكل فاصلته فيحتاج إلى فكرة وتأمل، كقوله تعالى: والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين. والخامسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين. ويدروا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين. والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين. ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم فإنّه قد وردت الفاصلة في غير هذا الموضع بتواب رحيم، ويظن الظان أن هذا كذا، ويقول: إن التوبة مع الرحمة، لا مع الحكمة؛ وليس كما يظن، بل الفاصلة بتوّاب حكيم أولى من توّاب رحيم؛ لأن الله عز وجل حكم بالتلاعن على الصورة التي أمر بها، وأراد بذلك ستر هذه الفاحشة على عباده، وذلك حكمة منه،

ففصلت الآية الواردة في آخر الآيات بتواب حكيم، فجمع فيها بين التوبة المرجوّة من صاحب المعصية وبين الحكمة في سترها على تلك الصورة. وهذا الباب ليس في علم البيان أكثر منه نفعا، ولا أعظم فائدة. ومما جاء من هذا الباب قول أبي الطيب المتنبي: وقفت وما في الموت شكّ لواقف ... كأنّك في جفن الرّدى وهو نائم تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمة ... ووجهك وضّاح وثغرك باسم وقد أوخذ على ذلك، وقيل: لو جعل آخر البيت الأول آخرا للبيت الثاني وآخر البيت الثاني آخر للبيت الأول لكان أولى. ولذلك حكاية، وهي أنه لما استنشده سيف الدولة يوما قصيدته التي أولها: على قدر أهل العزم تأتي العزائم «1» فلما بلغ إلى هذين البيتين قال: قد انتقدتهما عليك كما انتقد على امرىء القيس قوله «2» : كأنّي لم أركب جوادا للذّة ... ولم أتبطّن كاعبا ذات خلخال ولم أسبإ الزّقّ الرّويّ ولم أقل ... لخيلي كرّي كرّة بعد إجفال فبيتاك لم يلتئم شطراهما، كما لم يلتئم شطرا بيتي امرىء القيس، وكان ينبغي لك أن تقول: وقفت وما في الموت شكّ لواقف ... ووجهك وضّاح وثغرك باسم تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمة ... كأنّك في جفن الرّدى وهو نائم

القسم الثاني: في صحة التقسيم وفساده.

فقال المتنبي: إن صح أن الذي استدرك على امرىء القيس هذا هو أعلم بالشعر منه فقد أخطأ امرؤ القيس وأخطأت أنا، ومولانا يعلم أن الثوب لا يعلمه البزّاز كما يعلمه الحائك؛ لأن البزاز يعرف جملته، والحائك يعرف تفاصيله، وإنما قرن امرؤ القيس النساء بلذة الركوب للصيد؛ وقرن السماحة بسباء الخمر للأضياف بالشجاعة في منازلة الأعداء، وكذلك لما ذكرت الموت في صدر البيت الأول اتبعته بذكر الردى في آخره، ليكون أحسن تلاؤما، ولما كان وجه المنهزم الجريح عبوسا وعينه باكية قلت «ووجهك وضّاح وثغرك باسم» لأجمع بين الأضداد. القسم الثاني: في صحة التقسيم وفساده. ولسنا نريد بذلك ههنا ما تقتضيه القسمة العقلية، كما يذهب إليه المتكلمون؛ فإن ذلك يقتضي أشياء مستحيلة، كقولهم: الجواهر لا تخلو: إما أن تكون مجتمعة، أو مفترقة، أو لا مجتمعة ولا مفترقة، أو مجتمعة ومفترقة معا، أو بعضها مجتمعة وبعضها مفترقة؛ ألا ترى أن هذه القسمة صحيحة من حيث العقل؛ لاستيفاء الأقسام جميعها وإن كان من جملتها ما يستحيل وجوده. وإنما نريد بالتقسيم ههنا ما يقتضيه المعنى مما يمكن وجوده من غير أن يترك منها قسم واحد، وإذا ذكرت قام كلّ قسم منها بنفسه، ولم يشارك غيره، فتارة يكون التقسيم بلفظة «إما» وتارة بلفظة بين كقولنا: بين كذا وكذا، وتارة منهم، كقولنا: منهم كذا، ومنهم كذا، وتارة بأن يذكر العدد المراد أولا بالذكر، ثم يقسم؛ كقولنا: فانشعب القوم شعبا أربعة؛ فشعبة ذهبت يمينا، وشعبة ذهبت شمالا، وشعبة وقفت بمكانها، وشعبة رجعت إلى ورائها. فمما جاء من هذا القسم قوله تعالى: ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات وهذه قسمة صحيحة؛ فإنه لا يخلو أقسام العباد من هذه الثلاثة: فإما عاص ظالم لنفسه، وإما مطيع مبادر إلى الخيرات، وإما مقتصد بينهما. ومن ذلك أيضا قوله تعالى: وكنتم أزواجا ثلاثة. فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة. وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة. والسابقون السابقون

وهذه الآية منطبقة المعنى على الآية التي قبلها؛ فأصحاب المشأمة هم الظالمون لأنفسهم، وأصحاب الميمنة هم المقتصدون، والسابقون هم السابقون بالخيرات. وعلى نحو من ذلك جاء قوله تعالى: هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا فإن الناس عند رؤية البرق بين خائف وطامع، وليس لنا قسم ثالث. فإن قيل: إن استيفاء الأقسام ليس شرطا، وترك بعض الأقسام لا يقدح في الكلام، وقد ورد في القرآن الكريم، كقوله تعالى: لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون فذكر أصحاب الجنة دون أصحاب النار. فالجواب عن ذلك أني أقول: هذا لا ينقض على ما ذكرته؛ فإن استيفاء الأقسام يلزم فيما استبهم الإجمال فيه، ألا ترى إلى قوله تعالى: ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم فإنه حيث قال فمنهم لزم استيفاء الأقسام الثلاثة، ولو اقتصر على قسمين منها لم يجز، وأما هذه الآية التي هي لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة فإنه إنما خصّ أصحاب الجنة بالذكر للعلم بأن أصحاب النار لا فوز لهم، ولو خص أصحاب النار بالذكر لعلم أيضا ما لأصحاب الجنة، وكذلك كل ما يجري هذا المجرى؛ فإنه إنما ينظر فيه إلى المستبهم وغير المستبهم، فاعرفه. وكان جماعة من أرباب هذه الصناعة يعجبون بقول بعض الأعراب، ويزعمون أن ذلك من أصح التقسيمات، وهو قولهم: النّعم ثلاثة: نعمة في حال كونها، ونعمة ترجى مستقبلة، ونعمة تأتي غير محتسبة، فأبقى الله عليك ما أنت فيه، وحقّق ظنك فيما ترتجيه، وتفضّل عليك بما لم تحتسبه. وهذا القول فاسد؛ فإن في أقسام النعم التي قسمها نقصا لا بد منه، وزيادة لا حاجة إليها، فأما النقص فإغفال النعمة الماضية، وأما الزيادة فقوله بعد المستقبلة: ونعمة تأتي غير محتسبة؛ لأن النعمة التي تأتي غير محتسبة داخلة في قسم النعمة المستقبلة، وذاك أن النعمة المستقبلة تنقسم قسمين: أحدهما يرجى

حصوله، والآخر لا يحتسب، فقوله: ونعمة تأتي غير محتسبة؛ يوهم أن هذا القسم غير المستقبل، وهو داخل فيه، وعلى هذا فكان ينبغي له أن يقول النعم ثلاث: نعمة ماضية، ونعمة في حال كونها، ونعمة تأتي مستقبلة؛ فأحسن الله آثار النعمة الماضية، وأبقى عليك النعمة التي أنت فيها، ووفّر حظك من النعمة التي تستقبلها؛ ألا تراه لو قال ذلك لكان قد طبق به مفصل الصواب؟ وقد استوفى أبو تمام هذا المعنى في قوله «1» : جمعت لنا فرق الأماني منكم ... بأبرّ من روح الحياة وأوصل «2» فصنيعة في يومها وصنيعة ... قد أحولت وصنيعة لم تحول كالمزن من ماء الرّباب فمقبل ... متنظّر ومخيّم متهلّل «3» ووقف أعرابي على مجلس الحسن البصري رضي الله عنه فقال: رحم الله عبدا أعطى من سعة، أو آسى من كفاف، أو آثر من قلّة، فقال الحسن البصري: ما ترك لأحد عذرا. وقد عاب أبو هلال العسكري على جميل قوله «4» :

لو كان في قلبي كقدر قلامة ... حبّا وصلتك أو أتتك رسائلي «1» فقال أبو هلال «2» : إن إتيان الرسائل داخل في جملة الوصل. وليس الأمر كما وقع له؛ فإن جميلا إنما أراد بقوله وصلتك أي أتيتك زائرا وقاصدا أو كنت راسلتك مراسلة، وبالوصل لا يخرج عن هذين الوصفين: إما زيارة، وإما رسالة. ومن أعجب ما وجدته في هذا الباب ما ذكره أبو العلاء محمد بن غانم المعروف بالغانمي، وهو قول العباس بن الأحنف «3» : وصالكم هجر وحبّكم قلا ... وعطفكم صدّ وسلمكم حرب «4» ثم قال الغانمي: هذا والله أصحّ من تقسيمات إقليدس، ويالله العجب! أين التقسيم من هذا البيت؟ هذا والله في واد والتقسيم في واد، ألا ترى أنه لم يذكر شيئا تحصره القسمة، وإنما ذم أحبابه في سوء صنيعهم به، فذكر بعض أحواله معهم، ولو قال أيضا: ولينكم عنف وقربكم نوى ... وإعطاؤكم منع وصدقكم كذب لكان هذا جائزا، وكذلك لو زاد بيتا آخر لجاز، ولو أنه تقسيم لما احتمل زيادة، والأولى أن يضاف هذا البيت الذي ذكره الغانمي إلى باب المقابلة؛ فإنه أولى به؛ لأنه قابل الوصل بالهجر، والعطف بالصد، والسلم بالحرب. ومن فساد التقسيم قول البحتري في قصيدته التي مطلعها:

ذاك وادي الأراك فاحبس قليلا «1» فقال: قف مشوقا أو مسعدا أو حزينا ... أو معينا أو عاذرا أو عذولا فإن المشوق يكون حزينا، والمسعد يكون معينا، وكذلك يكون المسعد عاذرا، وكثيرا ما يقع البحتري في مثل ذلك. وكذلك ورد قول أبي الطيب المتنبي، وهو «2» : فافخر فإنّ النّاس فيك ثلاثة ... مستعظم أو حاسد أو جاهل «3» فإن المستعظم يكون حاسدا، والحاسد يكون مستعظما. ومن شرط التقسيم ألّا تتداخل أقسامه بعضها في بعض. ومن هذا الأسلوب ما ورد في أبيات الحماسة، وهو «4» :

وكنت امرأ إمّا ائتمنتك خاليا ... فخنت وإمّا قلت قولا بلا علم «1» فأنت من الأمر الّذي قد أتيته ... بمنزلة بين الخيانة والإثم فإن الخيانة من الإثم، وهذا تقسيم فاسد. ومما جاء من ذلك نثرا قول بعضهم في ذكر منهزمين: فمن جريح متضرج بدمائه، وهارب لا يلتفت إلى ورائه؛ فإن الجريح قد يكون هاربا، والهارب قد يكون جريحا، ولو قال: فمن بين قتيل ومأسور وناج؛ لصح له التقسيم، أو لو قال: فمن بين قتيل ومأسور؛ لصح له التقسيم أيضا؛ لعدم الناجي بينهما. وقد أحسن البحتري في هذا المعنى حيث قال: غادرتهم أيدي المنيّة صبحا ... بالقنا بين ركّع وسجود فهم فرقتان بين قتيل ... قنصت نفسه بحدّ الحديد أو أسير غدا له السّجن لحدا ... فهو حيّ في حالة الملحود فرقة للسّيوف ينفذ فيها الحكم قصدا وفرقة للقيود ومن فساد التقسيم قول أبي تمام «2» : وموقف بين حكم الذّلّ منقطع ... صاليه أو بحبال الموت متّصل «3» فإنه جعل صالي هذا الموقف إما ذليلا عنه أو هالكا فيه، وههنا قسم ثالث، وهو ألا يكون ذليلا ولا هالكا، بل يكون مقدما فيه ناجيا. وفي هذا نظر على من ادعى فساد تقسيمه؛ فإن أبا تمام قصد الغلو في وصف

هذا الموقف، فقال: إن الناس فيه أحد رجلين: إما ذليل عن مورده، وإما هالك فيه: أي أنه لا ينجو منه أحد يرده، وهذا تقسيم صحيح لا فساد فيه. القسم الثالث: في ترتيب التفسير، وما يصح من ذلك وما يفسد. اعلم أن صحة الترتيب في ذلك أن يذكر في الكلام معان مختلفة، فإذا عيد إليها بالذكر لتفسر قدم المقدم وأخر المؤخر، وهو الأحسن، إلا أنه قد ورد في القرآن الكريم وغيره من الكلام الفصيح ولم يراع فيه تقديم المقدم ولا تأخير المؤخر؛ كقوله تعالى: أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء إن في ذلك لآية لكل عبد منيب ولو قدم تفسير المقدم في هذه الآية وأخر تفسير المؤخر لقيل: إن يشأ يسقط عليهم كسفا من السماء أو يخسف بهم الأرض. وكذلك ورد قوله تعالى: يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون. وأما الذين ابيضت وجوههم فقدم المؤخر وأخر المقدم. والقسمان قد وردا جميعا في القرآن الكريم: فمما روعي فيه تقديم المقدم وتأخير المؤخر قوله تعالى: وما نؤخره إلا لأجل معدود. يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد. فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق. خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد. وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ. ومن ذلك قوله تعالى: وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة. وكذلك قوله تعالى: ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه

ولتبتغوا من فضله فلما قدم الليل في الذكر على النهار قدم سبب الليل، وهو السكون، على سبب النهار، وهو التعيش. ومن ذلك ما كتبته في كتاب تعزية، وهو فصل منه، قلت: ولقد أوحشت منه المعالي كما أوحشت المنازل، وآتت المكارم كما آمت الحلائل، وعمّت لوعة خطبه فما تشتكي ثكلى إلا إلى ثاكل، وما أقول فيمن عدمت الأرض منه حياها، والمحامد محياها، فلو نطق الجماد بلسان، أو تصور المعنى لعيان؛ لأعربت تلك من ظمأ صعيدها، وبرزت هذه حاسرة حول فقيدها. ومن ذلك ما كتبته في فصل من كتاب إلى بعض الإخوان؛ فقلت: وما زالت أيادي سيدنا متنوعة في زيادة جودها وكتابها، فهذه متطوّلة بترقية وردها وهذه آخذة بسنة أغبابها، وأحسن ما في الأولى أنها تأتي متحلية بفواضل الإكثار، وفي الثانية أنها تأتي متحلية بفضائل الاختصار؛ فاختصار هذه في فوائد أقلامها، كتطويل تلك في عوائد إنعامها، وقد أصبحت خواطري مستغرقة بإنشاء القول المبتكر، في شكر الفضل المطول وجواب البيان المختصر، وما جعل الله لها من سلطان البلاغة ما يستقلّ بأداء حقوق تنقل على الرقاب، ومقابلة بلاغات تثقل على الألباب. ومما جاء من ذلك شعرا قول إبراهيم بن العباس «1» : لنا إبل كوم يضيق بها الفضا ... ويفترّ عنها أرضها وسماؤها فمن دونها أن تستباح دماؤنا ... ومن دوننا أن تستباح دماؤها «2» حمى وقرى فالموت دون مراحها ... وأيسر خطب يوم حقّ فناؤها «3» وهذه الأبيات من نادر ما يجيء في هذا الباب معنى وترتيب تفسير.

ومما جاء منه أيضا قول أبي تمام «1» . وما هو إلّا الوحي أو حدّ مرهف ... تميل ظباه أخدعي كلّ مائل «2» فهذا دواء الدّاء من كلّ عالم ... وهذا دواء الدّاء من كلّ جاهل وكذلك قوله أيضا: وكان لهم غيثا وعلما فمعدم ... فيسأله أو باحث فيسائله وهذا من بديع ما يأتي في هذا الباب. ومما ورد منه قول علي بن جبلة: فتى وقف الأيّام بالسّخط والرّضا ... على بذل عرف أو على حدّ منصل ومن الحسن في هذا الباب قول أبي نواس «3» : يرجو ويخشى حالتيك الورى ... كأنّك الجنّة والنّار وكذلك ورد قول بعض المتأخرين، وهو القاضي الأرجاني «4» :

يوم المتيّم فيك حول كامل ... يتعاقب الفضلان فيه إذا أتى ما بين حرّ جوى وماء مدامع ... إن حنّ صاف وإن بكى وجدا شتا ومما أخذ على الفرزدق في هذا الباب قوله «1» : لقد جئت قوما لو لجأت إليهم ... طريد دم أو حاملا ثقل مغرم «2» لألفيت منهم معطيا أو مطاعنا ... وراءك شزرا بالوشيج المقوّم «3» لأنه أصاب في التفسير وأخطأ في الترتيب، وذاك أنه أتى بتفسير ما هو أول في البيت الأول ثانيا في البيت الثاني، والأولى أن كان أتى بتفسير ذلك مرتبا؛ ففسر ما هو أول في البيت الأول بما هو ثان في البيت الثاني. واعلم أن الناظم لا ينكر عليه مثل هذا ما ينكر على الناثر؛ لأن الناظم يضطره الوزن والقافية إلى ترك الأولى. وأما فساد التفسير فإنه أقبح من فساد ترتيبه، وذاك أن يؤتى بكلام ثم يفسر تفسيرا لا يناسبه، وهو عيب لا تسامح فيه بحال، وذلك كقول بعضهم «4» : فيأيّها الحيران في ظلمة الدّجى ... ومن خاف أن يلقاه بغي من العدى

تعال إليه تلق من نور وجهه ... ضياء ومن كفّيه بحرا من النّدى وكان يجب لهذا الشاعر أن يقول بإزاء بغي العدا ما يناسبه من النصرة والإعانة، أو ما جرى مجراهما؛ ليكون ذلك تفسيرا له، كما جعل بإزاء الظلمة الضياء وفسرها به، فأما أن جعل بإزاء ما يتخوف منه بحرا من الندى فإن ذلك غير لائق.

النوع الخامس والعشرون في الاقتصاد والتفريط والإفراط

النوع الخامس والعشرون في الاقتصاد والتفريط والإفراط اعلم أن هذه المعاني الثلاثة من الاقتصاد والتفريط والإفراط توجد في كل شيء: من علم، وصناعة، وخلق؛ ولا بد لنا من ذكر حقيقتها في أصل اللغة حتى يتبين نقلها إلى هذا النوع من الكلام. فأما الاقتصاد في الشيء فهو من القصد الذي هو الوقوف على الوسط الذي لا يميل إلى أحد الطرفين، قال الله تعالى: فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات فظلم النفس والسبق بالخيرات طرفان، والاقتصاد وسط بينهما، وقال تعالى: والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما فالإسراف والإقتار طرفان، والقوام وسط بينهما، وقال الشاعر «1» : عليك بالقصد فيما أنت فاعله ... إنّ التّخلّق يأتي دونه الخلق وأما التفريط فهو التقصير والتضييع، ولهذا قال الله تعالى: ما فرطنا في الكتاب من شيء أي: ما أهملنا ولا ضيعنا. وأما الإفراط فهو: الإسراف وتجاوز الحد، يقال: أفرط في الشيء؛ إذا أسرف وتجاوز الحد.

والتفريط والإفراط هما الطرفان البعيدان، والاقتصاد هو الوسط المعتدل؛ وقد نقلت هذه المعاني الثلاثة إلى هذا النوع من علم البيان. أما الاقتصاد فهو: أن يكون المعنى المضمر في العبارة على حسب ما يقتضيه المعبر عنه في منزلته. أما التفريط والإفراط فهما ضدان: أحدهما: أن يكون المعنى المضمر في العبارة دون ما تقتضيه منزلة المعبر عنه، والآخر: أن يكون المعنى فوق منزلته. والتفريط في إيراد المعاني الخطابية قبيح لا يجوز استعماله بوجه من الوجوه، والإفراط يجوز استعماله؛ فمنه الحسن، ومنه دون ذلك. فمما جاء من التفريط قول الأعشى «1» : وما مزبد من خليج الفرا ... ت جون غواربه تلتطم «2» بأجود منه بماعونه ... إذا ما سماؤهم لم تغم «3»

فإنه مدح ملكا بالجود بماعونه، والماعون: كل ما يستعار من قدوم أو قصعة أو قدر، أو ما أشبه ذلك، وليس للملوك في بذله مدح، ولا لأوساط الناس أيضا، وفي مدح السوقة به قولان، ومدح الملوك به عيب وذم فاحش، وهذا من أقبح التفريط. ومما يجري هذا المجرى قول الفرزدق «1» : ألا ليتنا كنّا بعيرين لا نرد ... على حاضر إلّا نشلّ ونقذف «2» كلانا به عرّ يخاف قرافه ... على النّاس مطليّ المساعر أخشف «3»

هذا رجل ذهب عقله حين نظم هذين البيتين؛ فإن مراده منهما التغزل بمحبوبه، وقد قصر تمنيه على أن يكون هو ومحبوبه كبعيرين أجربين: لا يقربهما أحد، ولا يقربان أحدا، إلا طردهما، وهذا من الأمانيّ السخيفة، وله في غير هذه الأمنية مندوحات كثيرة، وما أشبه هذا بقول القائل: يا ربّ إن قدّرته لمقبّل ... غيري فللأقداح أو للأكؤس وإذا حكمت لنا بعين مراقب ... في الدّهر فلتك من عيون النّرجس فانظركم بين هاتين الامنيتين. ومما أخذ على أبي نواس في قصيدته الميمية الموصوفة التي مدح بها الأمين محمد بن الرشيد، وهو قوله «1» ؛ أصبحت يابن زبيدة ابنة جعفر ... أملا لعقد حباله استحكام «2» فإن ذكر أمّ الخليفة في مثل هذا الموضع قبيح. وكذلك قوله في موضع آخر «3» . وليس كجدّتيه أمّ موسى ... إذا نسبت ولا كالخيزران «4»

وهذا لغو من الحديث لا فائدة فيه؛ فإن شرف الأنساب إنما هو إلى الرجال، لا إلى النساء، وياليت شعري أما سمع أبو نواس قول قتيلة بنت النضر في النبي صلّى الله عليه وسلّم «1» : أمحمّد؛ ولأنت نجل كريمة ... من قومها والفحل فحل معرق ما كان ضرّك لو مننت وربّما ... منّ الفتى وهو المغيظ المحنق فإنها ذكرت الأم بغير اسم الأم، وأبرزت هذا الكلام في هذا اللباس الأنيق. وكذلك فليكن المادح إذا مدح، وأبو نواس- مع لطافة طبعه، وذكائه، وما كان يوصف به من الفطنة- قد ذهب عليه مثل هذا الموضع مع ظهوره. وليس لقائل أن يعترض على ما ذكرته بقوله تعالى حكاية عن موسى وأخيه هرون عليهما السلام: ل يا بن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي فإن الفرق بين الموضعين ظاهر؛ لأن المنكر على أبي نواس إنما هو التلفظ باسم الأم، وهي زبيدة، وكذلك اسم الجدة، وهي الخيزران، وليس كذلك ما ورد في الآية. فإن قيل: قد ورد في القرآن الكريم ما يسوّغ لأبي نواس مقالته، وهو قوله تعالى: إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله فناداه باسم أمه. قلت: الجواب عن ذلك من وجهين: أحدهما أن عيسى عليه السلام لم يكن له أب، فنودي باسم أمه ضرورة؛ إذ لو كان له أب لنودي باسم أبيه؛ الوجه الآخر:

أن هذا النداء إنما هو من الأعلى إلى الأدنى؛ إذ الله سبحانه وتعالى هو الربّ، وعيسى عليه السلام عبده، وهذا لا يكون تفريطا؛ لأنه لم يعبر عنه بما هو دون منزلته. على أن أبا نواس لم يوقعه في هذه العثرة إلا ما سمعه عن جرير في مدح عمر بن عبد العزيز، كقوله «1» : وتبني المجد يا عمر ابن ليلى ... وتكفي الممحل السّنة الجمادا «2» وكذلك قال فيه كثير عزة أيضا «3» . وليس المعيب من هذا بخاف؛ فإن العرب قد كان يعير بعضها بعضا بنسبته إلى أمه دون أبيه، ألا ترى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقال له: ابن حنتمة، وإنما كان يقول ذلك من يغضّ منه، وأما قول النبي صلّى الله عليه وسلّم للزبير بن صفية: «بشّر قاتل ابن صفيّة بالنّار» فإن صفية كانت عمة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإنما نسبه إليها رفعا لقدره في قرب نسبه منه، وأنه ابن عمته، وليس هذا كالأول في الغض من عمر رضي الله عنه في نسبه إلى أمه.

وقد عاب بعض من يتهم نفسه بالمعرفة قول أبي نواس في قصيدته السينية التي أولها: نبّه نديمك قد نعس «1» فقال من جملتها: ورث الخلافة خامسا ... وبخير سادسهم سدس قال: وفي ذكر السادس نظر، ويا عجبا له! مع معرفته بالشعر كيف ذهب عليه هذا الموضع؟ أما قرأ سورة الكهف، يريد قوله تعالى: ويقولون خمسة سادسهم كلبهم وهذا ليس بشيء؛ لأنه قد ورد في القرآن الكريم ما ينقضه، وهو قوله تعالى: ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم. ومما عبته على البحتري قوله في مدح الفتح بن خاقان في قصيدته المشهورة عند لقائه الأسد التي مطلعها: أجدّك ما ينفكّ يسري لزينبا «2» فقال: شهدت لقد أنصفته حين تنبري ... له مصلتا عضبا من البيض مقضبا «3» فلم أر ضرغامين أصدق منكما ... عراكا إذا الهيّابة النّكس كذّبا «4»

قوله «إذا الهيابة النكس» تفريط في المدح، بل كان الأولى أن يقول: إذا البطل كذب، وإلا فأيّ مدح في إقدام المقدم في الموضع الذي يفرّ منه الجبان؟ وألّا [قال] كما قال أبو تمام «1» : فتى كلّما أرتاد الشّجاع من الرّدى ... مفرّا غداة المأزق ارتاد مصرعا «2» وعلى أسلوب البحتري ورد قول بعضهم من شعراء الحماسة «3» : وإنّي لقوّال لعافيّ مرحبا ... وللطّالب المعروف إنّك واجده وإنّي لممّن أبسط الكفّ بالنّدى ... إذا شنجت كفّ البخيل وساعده «4» وهذا معيب من جهة أنه لا فضل في بسط يده عند قبض يد البخيل، وإنما الفضيلة في بسطها عند قبض الكرام أيديهم.

ومن هذا الباب قول أبي تمام «1» : يقظ وهو أكثر النّاس إغضا ... ء على نائل له مسروق «2» فإنه أراد أن يمدح فذمّ. ومما هو أقبح من ذلك قوله أيضا «3» : تثفّى الحرب منه حين تغلي ... مراجلها بشيطان رجيم «4»

وقد استعمل هذا في شعره حتى أفحش، كقوله «1» ؛ أنت دلو وذو السّماح أبو مو ... سى قليب وأنت دلو القليب ومراده من ذلك أنه جعله سببا لعطاء المشار إليه كما أن الدلو سبب في امتياج الماء من القليب، ولم يبلغ هذا المعنى من الإغراب إلى حدّ يدندن أبو تمام حوله هذه الدّندنة، ويلقيه في هذا المثال السخيف، على أنه لم يقنع بهذه السقطة القبيحة في شعره، بل أوردها في مواضع أخرى منه؛ فمن ذلك قوله «2» : ما زال يهذي بالمكارم والعلا ... حتّى ظننّا أنّه محموم «3» فإنه أراد أن يبالغ في ذكر الممدوح باللهج بالمكارم والعلا، فقال «ما زال يهذي» وما أعلم ما كانت حاله عند نظم هذا البيت. وعلى نحو منه جاء قول بعض المتأخرين:

ويلحقه عند المكارم هزّة ... كما انتفض المجهود من أمّ ملدم وهذا وأمثاله لا يجوز استعماله، وإن كان المعنى المقصود به حسنا، وكم ممن يتأول معنى كريما فأساء في التعبير عنه حتى صار مذموما، كهذا وأمثاله. ومن أحسن ما قيل في مثل هذا الموضع قول ابن الرومي: ذهب الّذين تهزّهم مدّاحهم ... هزّ الكماة عوالي المرّان كانوا إذا مدحوا رأوا ما فيهم ... فالأريحيّة منهم بمكان ومن شاء أن يمدح فليمدح هكذا، وإلا فليسكت. ووجدت أبا بكر محمد بن يحيى المعروف بالصولي قد عاب على حسان بن ثابت رضي الله عنه قوله: لنا الجفنات الغرّ يلمعن في الضّحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما «1»

وقال: إنه جمع الجفنات والأسياف جمع قلة، وهو في مقام فخر، وهذا مما يحطّ من المعنى ويضع منه، وقد ذهب إلى هذا غيره أيضا، وليس بشيء؛ لأن الغرض إنما هو الجمع؛ فسواء أكان جمع قلة أم جمع كثرة، ويدل على ذلك قوله تعالى: إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين. شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم أفترى نعم الله أكانت قليلة على إبراهيم صلوات الله عليه، وكذلك ورد قوله عز وجل في سورة النمل: أدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين. فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين. وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين فقال: واستيقنتها أنفسهم فجمع النفس جمع قلة، وما كان قوم فرعون بالقليل حتى تجمع نفوسهم جمع قلة، بل كانوا مئين ألوفا، وهذا أيضا مما يبطل قول الصولي وغيره في مثل هذا الموضع؛ وكذلك ورد قوله عز وجل: الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها والنفوس المتوفاة والنائمة لا ينتهي إلى كثرتها كثرة؛ لأنها نفوس كل من في العالم. واعلم أن للمدح ألفاظا تخصّه، وللذم ألفاظا تخصّه، وقد تعمّق قوم في ذلك حتى قالوا: من الأدب ألّا تخاطب الملوك ومن يقاربهم بكاف الخطاب، وهذا غلط بارد؛ فإن الله الذي هو ملك الملوك قد خوطب بالكاف في أول كتابه العزيز فقيل: إياك نعبد وإياك نستعين وقد ورد أمثال هذا في مواضع من القرآن غير محصورة، إلا أني قد راجعت نظري في ذلك، فرأيت الناس بزمانهم أشبه منهم بأيامهم، والعوائد لا حكم لها، ولا شك أن العادة أوجبت للناس مثل هذا التعمق في ترك الخطاب بالكاف، لكني تأملت أدب الشعراء والكتّاب في هذا الموضع فوجدت الخطاب لا يعاب في الشعر ويعاب في الكتابة إذا كان المخاطب دون المخاطب درجة، وأما إن كان فوقه فلا عيب في خطابه إياه بالكاف؛ لأنه ليس من التفريط في شيء.

فمن خطاب الكاف قول النابغة «1» : وإنّك كاللّيل الّذي هو مدركي ... وإن خلت أنّ المنتأى عنك واسع «2» وكذلك قوله أيضا «3» : حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب «4» وعليه جاء قول بعض المتأخرين أيضا؛ فقال أبو نواس «5» : إليك أبا المنصور عذّبت ناقتي ... زيارة خلّ وامتحان كريم «6» لأعلم ما تأتي وإن كنت عالما ... بأنّك مهما نأت غير ملوم «7»

وكذلك ورد قول السلامي: إليك طوى عرض البسيطة جاعل ... قصارى المطايا أن يلوح لها القصر «1» وبشّرت آمالي بملك هو الورى ... ودار هي الدّنيا ويوم هو الدّهر وعليه ورد قول البحتري «2» : ولقد أتيتك طالبا فبسطت من ... أملي وأطلب جود كفّك مطلبي «3» وجلّ خطاب الشعراء للممدوحين إنما هو بالكاف، وذلك محظور على الكتاب؛ فإنه ليس من الأدب عندهم أن يخاطب الأدنى الأعلى بالكاف، وإنما يخاطبه مخاطبة الغائب، لا مخاطبة الحاضر، على أن هذا الباب بجملته يوكل النظر فيه إلى فطانة الخطيب والشاعر، وليس مما يوقف فيه على المسموع خاصة. ومن ألطف ما وجدته أنك إذا خاطبت الممدوح أن تترك الخطاب بالأمر بأن تقول: افعل كذا وكذا، وتخرجه مخرج الاستفهام، وهذا الأسلوب حسن جدا، وعليه مسحة من جمال، بل عليه الجمال كله. فما جاء منه قول البحتري في قصيدة أولها: بودّي لو يهوى العذول ويعشق «4»

فقال منها: فهل أنت يا ابن الرّاشدين مختّمي ... بياقوتة تبهى عليّ وتشرق «1» وهذا من الأدب الحسن في خطاب الخليفة؛ فإنه لم يخاطبه بأن قال: ختّمني بياقوتة، على سبيل الأمر، بل خاطبه على سبيل الاستفهام، وقد أعجبني هذا المذهب، وحسن عندي. وقد حذا حذو البحتري شاعر من شعراء عصرنا فقال في مدح الخليفة الناصر لدين الله أبي العباس أحمد من قصيدة له على قافية الدال؛ فقال من أبيات يصف بها قصده: أمقبولة يا ابن الخلائف من فمي ... لديك بوصفي غادة الشّعر رؤده فقوله «أمقبولة» من الأدب الحسن الذي نسج فيه على منوال البحتري. وهذا باب مفرد، وهو باب الاستفهام في الخطاب، وإذا كان الشاعر فطنا عالما بما يضعه من الألفاظ والمعاني تصرّف في هذا الباب بضروب التصرفات، واستخرج من ذات نفسه شيئا لم يسبقه إليه أحد. واعلم أن من المعاني ما يعبر عنه بألفاظ متعددة ويكون المعنى المندرج تحتها واحدا؛ فمن تلك الألفاظ ما يليق استعماله بالمدح ومنها ما يليق استعماله

بالذم، ولو كان هذا الأمر يرجع إلى المعنى فقط لكانت جميع الألفاظ الدالة عليه سواء في الاستعمال، وإنما يرجع في ذلك إلى العرف دون الأصل. ولنضرب له مثالا فنقول: هل يجوز أن يخاطب الملك فيقال له: وحقّ دماغك؛ قياسا على وحقّ رأسك؟ وهذا يرجع إلى أدب النفس دون أدب الدرس. فإذا أراد مؤلف الكلام أن يمدح ذكر الرأس والهامة والكاهل، وما جرى هذا المجرى، فإذا أراد أن يهجو ذكر الدّماغ والقفا والقذال، وما جرى هذا المجرى، وإن كانت معاني الجميع متقاربة، ومن أجل ذلك حسنت الكناية في الموضع الذي يقبح فيه التصريح. ومن أحسن ما بلغني من أدب النفس في الخطاب أن عثمان بن عفان رضي الله عنه سأل قباث بن أشيم، فقال له: أنت أكبر أم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فقال: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أكبر مني وأنا أقدم منه في الميلاد، فانظر إلى أدب هذا العربي الذي من شأنه وشأن أمثاله جفاء الأخلاق والبعد عن فطانة الآداب. وأما الإفراط فقد ذمه قوم من أهل هذه الصناعة، وحمده آخرون، والمذهب عندي استعماله؛ فإن أحسن الشعر أكذبه، بل أصدقه أكذبه، لكنه تتفاوت درجاته؛ فمنه المستحسن الذي عليه مدار الاستعمال، ولا يطلق على الله سبحانه وتعالى؛ لأنه مهما ذكر به من المعاملات في صفاته فإنه دون ما يستحقه. ومما ورد من ذلك في الشعر قول عنترة «1» : وأنا المنيّة في المواطن كلّها ... والطّعن منّي سابق الآجال «2»

وقد يروى بالياء، وكلا المعنيين حسن، إلا أن الياء أكثر غلوا. ومما جاء على نحو من ذلك قول بشار «1» : إذا ما غضبنا غضبة مضريّة ... هتكنا حجاب الشّمس أو قطرت دما «2» ومنه ما يستهجن، كقول النابغة الذبياني «3» : إذا ارتعشت خاف الجبان رعاثها ... ومن يتعلّق حيث غلّق يفرق «4» وهذا يصف طول قامتها، لكنه من الأوصاف المنكرة التي خرجت بها المغالاة عن حيز الاستحسان. وكذلك ورد قول أبي نواس «5» :

وأخفت أهل الشّرك حتّى إنّه ... لتخافك النّطف الّتي لم تخلق «1» وهذا أشد إفراطا من قول النابغة. ويروى أن العتابي لقي أبا نواس فقال له: أما استحييت الله حيث تقول، وأنشده البيت، فقال له: وأنت ما راقبت الله حيث قلت: ما زلت في غمرات الموت مطرحا ... يضيق عنّي وسيع الرّأي من حيلي فلم تزل دائبا تسعى بلطفك لي ... حتّى اختلست حياتي من يدي أجلي قال له العتابي: قد علم الله وعلمت أن هذا ليس مثل قولك، ولكنك قد أعددت لكل ناصح جوابا، وقد أراد «2» أبو نواس هذا المعنى في قالب آخر، فقال «3» : كدّت منادمة الدّماء سيوفه ... فلقلّما تحتازها الأجفان «4» حتّى الّذي في الرّحم لم يك صورة ... لفؤاده من خوفه خفقان «5» وما يجيء في هذا الباب ما يجري هذا المجرى. وقد استعمل أبو الطيب المتنبي هذا القسم في شعره كثيرا، فأحسن في مواضع منه؛ فمن ذلك قوله «6» :

عجاجا تعثر العقبان فيه ... كأنّ الجوّ وعث أو خبار «1» ثم أعاد هذا المعنى في موضع آخر؛ فقال «2» : عقدت سنابكها عثيرا ... لو تبتغي عنقا عليه لأمكنا «3» وهذا أكثر مغالاة من الأول. ومن ذلك قوله أيضا «4» : كأنّما تتلقّاهم لتسلكهم ... فالطّعن يفتح في الأجواف ما يسع «5»

وعلى هذا ورد قول قيس بن الخطيم: ملكت بها كفّي فأنهرت فتقها ... يرى قائم من دونها ما وراءها «1» لكن أبو الطيب أكثر غلوا في هذا المعنى، وقيس بن الخطيم «2» أحسن؛ لأنه قريب من الممكن؛ فإن الطعنة تنفذ حتى يتبين فيها الضوء، وأما أن يجعل المطعون مسلكا يسلك كما قال أبو الطيب؛ فإن ذلك مستحيل، ولا يقال فيه بعيد. وأما الاقتصاد فهو وسط بين المنزلتين، والأمثلة به كثيرة لا تحصى؛ إذ كل ما خرج عن الطرفين من الإفراط والتفريط فهو اقتصاد، ومن أحسنه أن يجعل الإفراط مثلا، ثم يستثنى فيه بلو أو بكاد وما جرى مجراهما؛ فمن ذلك قوله تعالى: يكاد البرق يخطف أبصارهم وكذلك قوله عزّ وجل: وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا ؛ وقد ورد هذا في القرآن الكريم كثيرا، ومما ورد منه شعرا قول الفرزدق «3» : يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم

وكذلك ورد قول البحتري «1» : لو أنّ مشتاقا تكلّف فوق ما ... في وسعه لسعى إليك المنبر وهذا هو المذهب المتوسط.

النوع السادس والعشرون في الاشتقاق

النوع السادس والعشرون في الاشتقاق اعلم أن جماعة علماء البيان يفصلون الاشتقاق عن التجنيس، وليس الأمر كذلك، بل التجنيس أمر عام لهذين النوعين من الكلام، وذاك أن التجنيس في أصل الوضع من قولهم: جانس الشيء الشيء؛ إذا ماثله وشابهه، ولما كانت الحال كذلك ووجدنا من الألفاظ ما يتماثل ويتشابه في صيغته وبنائه علمنا أن ذلك يطلق عليه اسم التجنيس، وكذلك لما وجدنا من المعاني ما يتماثل ويتشابه علمنا أن ذلك يطلق عليه اسم التجنيس أيضا؛ فالتجنيس إذن ينقسم قسمين: أحدهما تجنيس في اللفظ، والآخر تجنيس في المعنى؛ فأما الذي يتعلق باللفظ فإنه لم ينقل عن بابه ولا غير اسمه، وقد تقدم ذكره في باب الصناعة اللفظية، وأما الذي يتعلق بالمعنى فإنه نقل عن بابه في التجنيس، وسمي الاشتقاق: أي أحد المعنيين مشتق من الآخر. وهو على ضربين: صغير، وكبير. فالصغير: أن تأخذ أصلا من الأصول فتجمع بين معانيه، وإن اختلفت صيغه ومبانيه، كترتيب س ل م؛ فإنك تأخذ منه معنى السلامة في تصرفه؛ نحو سلم وسالم وسلمان وسلمى، والسّليم اللديغ أطلق عليه ذلك تفاؤلا بالسلامة. والأصل في ذلك أن يضع واضع اللغة اسما أولا لمسمى أول، ثم يجد مسمى آخر أو مسميات شبيهة بالمسمى الأول فيضع لها اسما كالاسم الأول، كقوله ضرير اسم للأعمى، والضر: ضد النفع، والضّرّاء: الشدة من الأمر، والضر- بالضم-: الهزال وسوء الحال، والضرر: الضيق، والضّرّة: إحدى الزوجتين؛ فإن هذه المسميات كلها تدلّ على الأذى والشر، وأسماؤها متشابهة لم تخرج عن الضاد والراء، إلا أنا الآن لا نعلم ما هو الأول منها حتى نحكم على الثاني أنه مشتق منه،

لكن نعلم في السليم اللديغ أنه مشتق من السلامة؛ لأنه ضدها؛ قيل: من أجل التفاؤل بالسلامة، وعلى هذا جاء غيره من الأصول، كقولنا: هشمك هاشم، وحاربك محارب، وسالمك سالم، وأصاب الأرض صيّب، فهذه الألفاظ كلها لفظها واحد ومعناها واحد؛ أما هاشم فإنه لم يسم بهذا الاسم إلا لأنه هشم الثريد في عام محل فسمي بذلك، وأما محارب فإنه اسم فاعل من حارب فهو محارب، وأما سالم فمن السلامة، وهو اسم فاعل من سلم، وأما الصّيّب فهو المطر الذي يشتد صوبه: أي وقعه على الأرض، ولا يقاس على ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلّم «أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله، وعصيّة عصت الله» فإن أسلم وغفار وعصية أسماء قبائل، ولم تسمّ أسلم من المسالمة، ولا غفار من المغفرة، ولا عصية من تصغير عصا، وهذا هو التجنيس، وليس بالاشتقاق، والنظر في مثل ذلك يحتاج إلى فكرة وتدبر كي لا يختلط التجنيس بالاشتقاق. ومما جاء من ذلك شعرا قول البحتري: أمحلّتي سلمى بكاظمة اسلما» وكذلك قول الآخر «2» : وما زال معقولا عقال عن النّدى ... وما زال محبوسا عن الخير حابس «3» وربما ظن أن هذا البيت وما يجري مجراه تجنيس؛ حيث قيل فيه: معقول وعقال، ومحبوس وحابس، وليس الأمر كذلك، وهذا الموضع يقع فيه الاشتباه كثيرا على من لم يتقن معرفته.

وقد تقدم القول أن حقيقة التجنيس هي: اتفاق اللفظ واختلاف المعنى، وعقال ومعقول وحابس ومحبوس اللّفظ فيهما واحد والمعنى أيضا واحد، فهذا مشتق من هذا: أي قد شق منه. وكذلك ورد قول عنترة «1» : لقد علم القبائل أنّ قومي ... لهم حدّ إذا لبس الحديدا «2» فإن حدّا وحديدا لفظهما واحد ومعناهما واحد. وأما الاشتقاق الكبير فهو: أن تأخذ أصلا من الأصول فتعقد عليه وعلى تراكيبه معنى واحدا يجمع تلك التراكيب وما تصرف منها وإن تباعد شيء من ذلك عنها ردّ بلطف الصنعة والتأويل إليها. ولنضرب لذلك مثالا؛ فنقول: إن لفظة «ق م ر» من الثلاثي لها ست تراكيب، وهي: ق ر م، ق م ر، ر ق م، ر م ق، م ق ر، م ر ق؛ فهذه التراكيب الست يجمعها معنى واحد، وهو القوة والشدة، فالقرم: شدة شهوة اللحم، وقمر الرجل؛ إذا غلب من يقامره، والرّقم: الداهية، وهي الشدة التي تلحق الإنسان من دهره، وعيش مرمّق: أي ضيق، وذلك نوع من الشدة أيضا، والمقر: شبه الصبر، يقال: أمقر الشيء، إذا أمرّ، وفي ذلك شدة على الذائق وكراهة، ومرق السهم؛ إذا نفذ من الرمية، وذلك لشدة مضائه وقوّته. واعلم أنه إذا سقط من تراكيب الكلمة شيء فجائز ذلك في الاشتقاق؛ لأن الاشتقاق ليس من شرطه كمال تركيب الكلمة، بل من شرطه أن الكلمة كيف تقلبت بها تراكيبها من تقديم حروفها وتأخيرها أدت إلى معنى واحد يجمعها؛ فمثال ما سقط من تركيب الثلاثي لفظة «وس ق» فإن لها خمس تراكيب، وهي: وس ق،

وق س، س وق، ق س و، ق وس، وسقط من جملة التراكيب قسم واحد، وهو س ق و، وجميع الخمسة المذكورة تدل على القوة والشدة أيضا؛ فالوسق من قولهم: استوسق الأمر: أي اجتمع وقوي، والوقس: ابتداء الجرب «1» . وفي ذلك شدة على من يصيبه وبلاء، والسّوق: متابعة السير، وفي هذا عناء وشدة على السائق والمسوق، والقسوة: شدة القلب وغلظه، والقوس معروفة، وفيها نوع من الشدة والقوة؛ لنزعها السهم وإخراجه إلى ذلك المرمى المتباعد. واعلم أنا لا ندّعي أن هذا يطرد في جميع اللغة، بل قد جاء شيء منها كذلك، وهذا مما يدل على شرفها وحكمتها؛ لأن الكلمة الواحدة تتقلّب على ضروب من التقاليب، وهي مع ذلك دالّة على معنى واحد، وهذا من أعجب الأسرار التي توجد في لغة العرب وأغربها، فاعرفه. إلا أن الاستعمال في النظم والنثر إنما يقع في الاشتقاق الصغير دون الكبير، وسبب ذلك أن الاشتقاق الصغير تكثر الألفاظ الواردة عليه، والاشتقاق الكبير لا يكاد يوجد في اللغة إلا قليلا، وأيضا فإن الحسن اللفظي الذي هو الفصاحة إنما يقع في الاشتقاق الصغير، ولا يقع في الاشتقاق الكبير، ألا ترى إلى هذين الأصلين الواردين ههنا، وهما «ق ر م» و «وس ق» إذا نظرنا إلى تراكيبهما وأردنا أن نسبكهما في الاستعمال لم يأت منهما مثل ما يأتي في الاشتقاق الصغير حسنا ورونقا؛ لأن ذاك لفظه لفظ تجنيس، ومعناه معنى اشتقاق، والاشتقاق الكبير ليس كذلك.

النوع السابع والعشرون في التضمين

النوع السابع والعشرون في التضمين وهذا النوع فيه نظر بين حسن يكتسب به الكلام طلاوة وبين معيب عند قوم، وهو عندهم معدود من عيوب الشعر، ولكل من هذين القسمين مقام. فأما الحسن الذي يكتسب به الكلام طلاوة فهو: أن يضمن الآيات والأخبار النبوية، وذلك يرد على وجهين: أحدهما: تضمين كلي، والآخر تضمين جزئي. فأما التضمين الكلي فهو: أن تذكر الآية والخبر بجملتهما، وأما التضمين الجزئي فهو: أن تدرج بعض الآية والخبر في ضمن كلام؛ فيكون جزأ منه كالذي أوردته في حل الآيات والأخبار في الفصل العاشر من مقدمة الكتاب، وقد قيل: إنه لا يجوز درج آيات القرآن الكريم في غضون الكلام من غير تبيين، كي لا يشتبه، وهذا القول لا أقول به؛ فإن القرآن الكريم أبين من أن يحتاج إلى بيان، وكيف يخفى وهو المعجز الذي لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله، فإن كانت المفاوضة في التفرقة بينه وبين غيره من الكلام إذا أدرج فيه مع جاهل لا يعرف الفرق فذاك لا كلام معه، وإن كان الكلام مع عالم بذلك فذاك لا يخفي عنه القرآن الكريم من غيره. ومذهبي في هذا هو ما تقدم ذكره في الفصل العاشر من مقدمة الكتاب، وهو أحسن الوجهين عندي، وذاك أنه لا تؤخذ الآية بكمالها، بل يؤخذ جزء منها ويجعل أوّلا لكلام أو آخرا، هذا إذا لم يقصد به التضمين؛ فأما إذا قصد التضمين فتؤخذ الآية بكمالها وتدرج درجا، وهذا ينكره من لم يذق ما ذقته من طعم البلاغة، ولا رأى ما رأيته.

وأما المعيب عند قوم فهو تضمين الإسناد، وذلك يقع في بيتين من الشعر، أو فصلين من الكلام المنثور، على أن يكون الأول منهما مسندا إلى الثاني؛ فلا يقوم الأول بنفسه، ولا يتم معناه إلا بالثاني، وهذا هو المعدود من عيوب الشعر، وهو عندي غير معيب؛ لأنه إن كان سبب عيبه أن يعلّق البيت الأول على الثاني فليس ذلك بسبب يوجب عيبا؛ إذ لا فرق بين البيتين من الشعر في تعلق أحدهما بالآخر وبين الفقرتين من الكلام المنثور في تعلق إحداهما بالأخرى؛ لأن الشعر هو: كل لفظ موزون مقفّى دلّ على معنى، والكلام المسجوع هو: كل لفظ مقفى دل على معنى؛ فالفرق بينهما يقع في الوزن لا غير. والفقر المسجوعة التي يرتبط بعضها ببعض قد وردت في القرآن الكريم في مواضع منه؛ فمن ذلك قوله عز وجل في سورة الصافات: فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون. قال قائل منهم إني كان لي قرين. يقول أإنك لمن المصدقين. أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمدينون فهذه الفقر الثلاث الأخيرة مرتبط بعضها ببعض؛ فلا تفهم كل واحدة منهن إلا بالتي تليها، وهذا كالأبيات الشعرية في ارتباط بعضها ببعض، ولو كان عيبا لما ورد في كتاب الله عز وجل. وكذلك ورد قوله تعالى في سورة الصافات أيضا: فإنكم وما تعبدون. ما أنتم عليه بفاتنين. إلا من هو صال الجحيم فالآيتان الأوليان لا تفهم إحداهما إلا بالأخرى. وهكذا ورد قوله عز وجل في سورة الشعراء: أفرأيت إن متعناهم سنين. ثم جاءهم ما كانوا يوعدون. ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون فهذه ثلاث آيات لا تفهم الأولى ولا الثانية إلا بالثالثة، ألا ترى أن الأولى والثانية في معرض استفهام يفتقر إلى جواب، والجواب هو في الثالثة. ومما ورد من ذلك شعرا قول بعضهم:

ومن البلوى الّتي لي ... س لها في النّاس كنه أنّ من يعرف شيئا ... يدّعي أكثر منه ألا ترى أن البيت الأول لم يقم بنفسه ولا تمّ معناه إلا بالبيت الثاني: وقد استعملته العرب كثيرا، وورد في شعر فحول شعرائهم؛ فمن ذلك قول امرىء القيس «1» : فقلت له لمّا تمطّى بصلبه ... وأردف أعجازا وناء بكلكل: ألا أيّها اللّيل الطّويل ألا انجلي ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل وكذلك ورد قول الفرزدق «2» : وما أحد من الأقوام عدّوا ... عروق الأكرمين إلى التّراب «3» بمحتفظين إن فضّلتمونا ... عليهم في القديم ولا غضاب «4»

وكذلك ورد قول بعض شعراء الحماسة «1» : لعمري لرهط المرء خير بقيّة «2» ... عليه وإن عالوا به كلّ مركب من الجانب الأقصى وإن كان ذا غنى ... جزيل ولم يخبرك مثل مجرّب الضرب الثاني من التضمين: وهو أن يضمن الشاعر شعره والناثر نثره كلاما آخر لغيره؛ قصدا للاستعانة على تأكيد المعنى المقصود، ولو لم يذكر ذلك التضمين لكان المعنى تاما، وربما ضمن الشاعر البيت من شعره بنصف بيت، أو أقلّ منه، كما قال جحظة: قم فاسقنيها يا غلام وغنّني ... ذهب الّذين يعاش في أكنافهم «3» ألا ترى أنه لو لم يقل في هذا البيت «ذهب الذين يعاش في أكنافهم» لكان المعنى تاما لا يحتاج ألى شيء آخر، فإن قوله «قم فاسقنيها يا غلام وغنني» فيه كفاية؛ إذ لا حاجة له إلى تعيين الغناء؛ لأن في ذلك زيادة على المعنى المفهوم، لا على الغرض المقصود. وقد ورد هذا في عدة مواضع من شعر أبي نواس في الخمريات، كقوله في مخاطبة بعض خلطائه على مجلس الشراب «4» : فقلت هل لك في الصّهباء تأخذها ... من كفّ ذات حر فالعيش مقتبل «5»

حيريّة كشعاع الشّمس صافية ... تطير بالكأس من لألائها شعل «1» فقال هات وغنّينا على طرب ... ودّع هريرة إنّ الرّكب مرتحل «2» وكذلك قوله أيضا «3» : وظبي خلوب اللّفظ حلو كلامه ... مقبّله سهل وجانبه وعر نحلت له منها فخرّ لوجهه ... وأمكن منه ما يحيط به الأزر «4» فقمت إليه والكرى كحل عينه ... فقبّلته والصّبّ ليس له صبر إلى أن تجلّى نومه عن جفونه ... وقال كسبت الذّنب قلت لي العذر

فأعرض مزورّا كأنّ بوجهه ... تفقّؤ رمّان وقد برد الصّدر فما زلت أرقيه وألثم خدّه ... إلى أن تغنّى راضيا وبه سكر ألا يا اسلمي يا دارميّ على البلى ... ولا زال منهلّا بجرعائك القطر «1» وقد استعمل هذا الضرب كثيرا الخطيب عبد الرحمن بن نباتة رحمه الله؛ فمن ذلك قوله في بعض خطبه، وهو: فيأيّها الغفلة المطرقون، أما أنتم بهذا الحديث مصدّقون، فما لكم منه لا تشفقون، فو ربّ السماء والأرض إنه لحقّ مثل ما أنكم تنطقون. وكذلك قوله في ذكر يوم القيامة، وهو: فيومئذ تغدو الخلائق على الله بهما، فيحاسبهم على ما أحاط به علما، وينفذ في كل عامل بعمله حكما، وعت الوجوه للحيّ القيوم وقد خاب من حمل ظلما. ألا ترى إلى براعة هذا التضمين الذي كأنه قد رصع في هذا الموضع رصعا. وعلى نحو من ذلك جاء قوله في ذكر يوم القيامة، وهو: هناك يقع الحساب على ما أحصاه الله كتابا، وتكون الأعمال المشوبة بالنفاق سرابا، يوم يقوم الروح والملائكة صفّا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا. ومما ينتظم بهذا السلك قوله في خطبة أخرى، وهو: أسكتهم الله الذي أنطقهم، وأبادهم الذي خلقهم وسيجدهم كما أخلقهم، ويجمعهم كما فرّقهم، يوم يعيد الله العالمين خلقا جديدا، ويجعل الظالمين لنار جهنم وقودا، يوم تكونون شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا، يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا. ومن هذا الباب قوله أيضا: هنالك يرفع الحجاب، ويوضع الكتاب، ويجمع من وجب له الثواب، ومن حق عليه العقاب، فيضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب. وأمثال هذه التضمينات في خطبه كثيرة، وهي من محاسن ما يجيء في هذا النوع.

النوع الثامن والعشرون في الإرصاد

النوع الثامن والعشرون في الإرصاد وحقيقته: أن يبني الشاعر البيت من شعره على قافية قد أرصدها له: أي أعدها في نفسه، فإذا أنشد صدر البيت عرف ما يأتي به في قافيته. وذلك من محمود الصنعة؛ فإن خير الكلام ما دلّ بعضه على بعض، وفي الافتخار بذلك يقول ابن نباتة السعدي: خذها إذا أنشدت في القوم من طرب ... صدورها عرفت منها قوافيها ينسى لها الرّاكب العجلان حاجته ... ويصبح الحاسد الغضبان يطريها فمن هذا الباب قول النابغة «1» : فداء لامريء سارت إليه ... بعذرة ربّها عمّي وخالي ولو كفّي اليمين بغتك خونا ... لأفردت اليمين عن الشّمال «2» ألا ترى أنه يعلم إذا عرفت القافية في البيت الأول أن في البيت الثاني ذكر الشمال. وكذلك جاء قول البحتري «3» :

أحلّت دمي من غير جرم وحرّمت ... بلا سبب يوم اللّقاء كلامي «1» فليس الّذي حلّلته بمحلّل ... ليس الّذي حرّمته بحرام فليس يذهب على السامع وقد عرف البيت الأول وصدر البيت الثاني أن عجزه هو ما قاله البحتري. وقد جاء الإرصاد في الكلام المنثور كما جاء في الشعر؛ فمن ذلك قوله تعالى: وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون فإذا وقف السامع على قوله تعالى لقضي بينهم فيما فيه عرف أن بعده يختلفون لما تقدم من الدلالة عليه. ومن ذلك أيضا قوله عز وجل: فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. على نحو منه جاء قوله تعالى: مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت فإذا وقع السامع على قوله عز وجل وإن أوهن البيوت يعلم أن بعده بيت العنكبوت. ورأيت أبا هلال العسكري «2» قد سمى هذا النوع التّوشيح؛ وليس كذلك، بل

تسميته بالإرصاد أولى، وذلك حيث ناسب الاسم مسمّاه، ولاق به، وأما التوشيح فإنه نوع آخر من علم البيان، وسيأتي ذكره بعد هذا النوع، إن شاء الله تعالى. واعلم أنه قد اختلف جماعة من أرباب هذه الصناعة في تسمية أنواع علم البيان، حتى إنّ أحدهم يضع لنوع واحد منه اسمين، اعتقادا منه أن ذلك النوع نوعان مختلفان، وليس الأمر كذلك، بل هما نوع واحد. فممن غلط في ذلك الغانمي؛ فإنه ذكر بابا من أبواب علم البيان وسمّاه التّبليغ وقال: هو أن يأتي الشاعر بالمعنى في البيت تاما من غير أن يكون للقافية فيما ذكره صنع، ثم يأتي بها لحاجة الشعر إليها حتى يتم وزنه، فيبلغ بذلك الغاية القصوى في الجودة؛ كقول امريء القيس «1» : كأنّ عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الّذي لم يثقّب «2» فإنه أتى بالتشبيه تاما قبل القافية، ثم لما جاء بها بلغ الأمد الأقصى في المبالغة. ثم إن الغانمي ذكر بعد هذا الباب بابا آخر، وسماه الإشباع، فقال: هو أن يأتي الشاعر بالبيت معلق القافية على آخر أجزائه، ولا يكاد يفعل ذلك إلّا حذّاق الشعراء، وذاك أن الشاعر إذا كان بارعا جلب بقدرته وذكائه وفطنته إلى البيت وقد

تمت معانيه واستغنى عن الزيادة فيه قافية متممة لأعاريضه ووزنه فجعلها نعتا للمذكور، كقول ذي الرّمّة «1» : قف العيس في أطلال ميّة فاسأل ... رسوما كأخلاق الرّداء المسلسل «2» هذا كلام الغانمي بعينه. والبابان المذكوران سواء، لا فرق بينهما بحال؛ والدليل على ذلك أن بيت امريء القيس يتمّ معناه قبل أن يؤتى بقافيته، وكذلك بيت ذي الرمة، ألا ترى أن امرأ القيس لما قال: كأنّ عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع ... ... أتى بالتشبيه قبل القافية، ولما احتاج إليها جاء بزيادة حسنة، وهي قوله «لم يثقّب» ، وهكذا ذو الرمة، فإنه لما قال: قف العيس في أطلال ميّة فاسأل ... رسوما كأخلاق الرّداء ... ... أتى بالتشبيه أيضا قبل أن يأتي بالقافية، ولما احتاج إليها جاء بزيادة حسنة وهي قوله «المسلسل» . واعلم أن أبا هلال العسكري قد سمى هذين القسمين بعينهما الإيغال؛ وقال «3» : هو أن يستوفي الشاعر معنى الكلام قبل البلوغ إلى مقطعه، ثم يأتي

بالمقطع فيزيد فيه معنى آخر، وأصل الإيغال من أوغل في الأمر؛ إذا أبعد الذهاب فيه، ثم مثل أبو هلال ذلك بقول ذي الرمة: قف العيس في أطلال ميّة فاسأل البيت. وهذا أقرب أمرا من الغانمي؛ لأنه ذكره في باب واحد، وسماه باسم واحد، ولم يذكره في باب آخر كما فعل الغانمي، وليس الأخذ على الغانمي في ذلك مناقشة على الأسماء، وإنما المناقشة على أن ينتصب لإيراد علم البيان وتفصيل أبوابه، ويكون أحد الأبواب التي ذكرها داخلا في الآخر فيذهب عليه ويخفي عنه، وهو أشهر من فلق الصّباح. وههنا ما هو أغرب من ذاك؛ وذلك أنه قد سلك قوم في منثور الكلام ومنظومه طرقا خارجة عن موضوع علم البيان، وهي بنجوة عنه؛ لأنها في واد وعلم البيان في واد. فممن فعل ذلك الحريري صاحب المقامات؛ فإنه ذكر تلك الرسالة التي هي

كلمة معجمة وكلمة مهملة، والرسالة التي حرف من حروف ألفاظها معجم والآخر غير معجم، ونظم غيره شعرا آخر كل بيت منه أول للبيت الذي يليه، وكل هذا- وإن تضمن مشقة من الصناعة- فإنه خارج عن باب الفصاحة والبلاغة؛ لأن الفصاحة هي ظهور الألفاظ مع حسنها، على ما أشرت إليه في مقدمة كتابي هذا، وكذلك البلاغة فإنها الانتهاء في محاسن الألفاظ والمعاني؛ من قولنا: بلغت المكان؛ إذا انتهيت إليه، وهذا الكلام المصوغ بما أتى به الحريري في رسالته وأورده ذلك الشاعر في شعره لا يتضمن فصاحة ولا بلاغة، وإنما يأتي ومعانيه غثّة باردة، وسبب ذلك أنها تستكره استكراها، وتوضع في غير مواضعها، وكذلك ألفاظه؛ فإنها تجيء مكرهة أيضا غير ملائمة لأخواتها، وعلم البيان إنما هو الفصاحة والبلاغة في الألفاظ والمعاني، فإذا خرج عنه شيء من هذه الأوضاع المشار إليها لا يكون معدودا منه، ولا داخلا في بابه، ولو كان ذلك مما يوصف بحسن في ألفاظه ومعانيه لورد في كتاب الله عز وجل الذي هو معدن الفصاحة والبلاغة، أو ورد في كلام العرب الفصحاء، ولم نره في شيء من أشعارهم ولا خطبهم. ولقد رأيت رجلا أديبا من أهل المغرب، وقد تغلغل في شيء عجيب، وذاك أنه شجر شجرة ونظمها شعرا، وكل بيت من ذلك الشعر يقرأ على ضروب من الأساليب اتباعا لشعب تلك الشجرة وأغصانها؛ فتارة تقرأ كذا، وتارة تقرأ كذا، وتارة يكون جزء منه ههنا، وتارة ههنا، وتارة يقرأ مقلوبا، وكل ذلك الشعر وإن كان له معنى يفهم إلا أنه ضرب من الهذيان، والأولى به وبأمثاله أن يلحق بالشّعبذة والمعالجة والمصارعة، لا بدرجة الفصاحة والبلاغة. ورأيت أبا محمد عبد الله بن سنان الخفاجي قد ذكر بابا من الأبواب في كتابه؛ فقال «1» : ينبغي ألّا تستعمل في الكلام المنظوم والمنثور ألفاظ المتكلمين والنحويين والمهندسين، ومعانيهم، ولا الألفاظ التي تختصّ بها بعض المهن والعلوم؛ لأن الإنسان إذا خاض في علم وتكلم في صناعة وجب عليه أن يستعمل

ألفاظ أهل ذلك العلم وأصحاب تلك الصناعة، ثم مثل ذلك بقول أبي تمام «1» : مودّة ذهب أثمارها شبه ... وهمّة جوهر معروفها عرض «2» وبقوله أيضا «3» : خرقاء يلعب بالعقول حبابها ... كتلعّب الأفعال بالأسماء «4»

وهذا الذي أنكره ابن سنان هو عين المعروف في هذه الصناعة: إنّ الّذي تكرهون منه ... هو الّذي يشتهيه قلبي وسأبين فساد ما ذهب إليه، فأقول: أما قوله «إنه يجب على الإنسان إذا خاض في علم أو تكلم في صناعة أن يستعمل ألفاظ أهل ذلك العلم وأصحاب تلك الصناعة» فهذا مسلم إليه، ولكنه شذ عنه أن صناعة المنظوم والمنثور مستمدّة من كل علم وكل صناعة؛ لأنها موضوعة على الخوض في كل معنى، وهذا لا ضابط له يضبطه، ولا حاصر يحصره، فإذا أخذ مؤلف الشعر أو الكلام المنثور في صوغ معنى من المعاني وأدّاه ذلك الى استعمال معنى فقهي أو نحوي أو حسابي أو غير ذلك فليس له أن يتركه ويحيد عنه؛ لأنه من مقتضيات هذا المعنى الذي قصده، ألا ترى إلى قول أبي تمام في الاعتذار «1» : فإن يك جرم عنّ أو تك هفوة ... على خطإ منّي فعذري على عمد «2»

فإن هذا من أحسن ما يجيء في باب الاعتذار عن الذنب، وكان ينبغي له- على ما ذكره ابن سنان- أن يترك ذلك ولا يستعمله، حيث فيه لفظتا «الخطأ» و «العمد» اللتان هما من أخصّ ألفاظ الفقهاء. وكذلك قول أبي الطيب المتنبي «1» : ولقيت كلّ الفاضلين كأنّما ... ردّ الإله نفوسهم والأعصرا «2» نسقوا لنا نسق الحساب مقدّما ... وأتى فذلك إذ أتيت مؤخّرا وهذا من المعاني البديعة، وما كان ينبغي لأبي الطيب أن يأتي في مثل هذا الموضع بلفظة «فذلك» التي هي من ألفاظ الحساب، بل كان يترك هذا المعنى الشريف الذي لا يتم إلا بتلك اللفظة موافقة لابن سنان فيما رآه وذهب إليه، وهذا محض الخطأ وعين الغلط. وأما ما أنكره على أبي تمام في قوله: مودّة ذهب أثمارها شبه ... وهمّة جوهر معروفها عرض فإن هذا البيت ليس منكرا لما استعمل فيه من لفظتي الجوهر والعرض اللتين هما من خصائص ألفاظ المتكلمين، بل لأنه في نفسه ركيك؛ لتضمنه لفظة «الشبه» فإنها لفظة عامية ركيكة، وهي التي أسخفت بالبيت بجملته، ورب قليل أفسد كثيرا، وأما لفظتا الجوهر والعرض فلا عيب فيهما، ولا ركاكة عليهما.

وأما البيت الآخر، وهو: خرقاء يلعب بالعقول حبابها ... كتلعّب الأفعال بالأسماء فليس بمنكر، وهل يشك في أن التشبيه الذي تضمنه واقع في موقعه؟ ألا ترى أن الفعل ينقل الاسم من حال إلى حال، وكذلك تفعل الخمر بالعقول في تنقلّ حالاتها، فما الذي أنكره ابن سنان من ذلك؟ وقد جاء لبعض المتأخرين من هذا الأسلوب ما لا يدافع في حسنه، وهو قوله: عوامل رزق أعربت لغة الرّدى ... فجسم له خفض ورأس له نصب فإنه لما حصل له المشابهة في الاسمية بين عوامل الرماح والعوامل النحوية حسن موقع ما ذكره من الخفض والنصب، وعلى ما ذكره ابن سنان فإن ذلك غير جائز، وهو من مستحسنات المعاني، هذا من أعجب الأشياء!!. وعلى هذا الأسلوب ورد قول بعضهم: وفتى من ازن ... فاق أهل البصره أمّه معرفة ... وأبوه نكره وهل يشك في حسن هذا المعنى ولطافته؟. وكذلك ورد من هذا النوع في شعر بعض العراقيين يهجو طبيبا فقال: قال حمار الطّبيب توما ... لو أنصفوني لكنت أركب «1» لأنّني جاهل بسيط ... وراكبي جهله مركّب وهذا من المعنى الذي أغرب في الملاحة، وجمع بين خفة السخرية ووقار

الفصاحة. وقد تقدم القول في صدر كتابي هذا أنه يجب على صاحب هذه الصناعة أن يتعلّق بكل علم وكل صناعة، ويخوض في كل فن من الفنون؛ لأنه مكلّف بأن يخوض في كل معنى من المعاني؛ فاضمم يدك على ما ذكرته ونصصت عليه، واترك ما سواه؛ فليس القائل بعلمه واجتهاده كالقائل بظنه وتقليده. وهذا النوع إذا استعمل على الوجه المرضي كان حسنا، وإذا استعمل بخلاف ذلك كان قبيحا، كما جاء في كلام أبي العلاء بن سليمان المعرّيّ، وهو قوله في رسالة كتبها إلى بعض إخوانه: حرس الله سعادته ما أدغمت التاء في الظاء، وتلك سعادة بغير انتهاء؛ وهذا من الغث البارد، لكن قد جاءه في الشعر ما هو حسن فائق، كقوله «1» : فدونكم خفض الحياة فإنّنا ... نصبنا المطايا في الفلاة على القطع والخفض والنصب من الإعراب النحوي، والخفض: رفاهة العيش، والقطع: من منصوبات النحو، والقطع: قطع الشيء، يقال: قطعته؛ إذا بترته.

النوع التاسع والعشرون في التوشيح

النوع التاسع والعشرون في التوشيح وهو: أن يبني الشاعر أبيات قصيدته على بحرين مختلفين؛ فإذا وقف من البيت على القافية الأولى كان شعرا مستقيما من بحر على عروض، وأذا أضاف إلى ذلك ما بنى عليه شعره من القافية الأخرى كان أيضا شعرا مستقيما من بحر آخر على عروض، وصار ما يضاف إلى القافية الأولى للبيت كالوشاح، وكذلك يجري الأمر في الفقرتين من الكلام المنثور؛ فإن كل فقرة منهما تصاغ من سجعتين. وهذا لا يكاد يستعمل إلا قليلا، وليس من الحسن في شيء، واستعماله في الشعر أحسن منه في الكلام المنثور؛ فمن ذلك قول بعضهم «1» :

اسلم ودمت على الحوادث ما رسا ... ركنا ثبير، أو هضاب حراء ونل المراد ممكّنا منه على ... رغم الدّهور، وفز بطول بقاء وهذا من الجيد الذي يأتي في هذا النوع، إلا أن أثر التكلف عليه باد ظاهر، وإذا نظر إلى هذين البيتين، وجدا وهما يذكران على قافية أخرى وبحر آخر، وذاك أن يقال: اسلم ودمت على الحوا ... دث مارسا ركنا ثبير ونل المراد ممكّنا ... منه على رغم الدّهور وقد استعمل ذلك الحرير في مقاماته، نحو قوله: يا خاطب الدّنيا الدّنيّة إنّها ... شرك الرّدى، وقرارة الأكدار دار متى ما أضحكت في يومها ... أبكت غدا، بعدا لها من دار وإذا أظلّ سحابها لم ينتفع ... منه صدى، لجهامه الغرّار واعلم أن هذا النوع لا يستعمل إلا متكلفا عند تعاطي التمكن من صناعة النظم، وحسنه منوط بما فيه من الصناعة، لا بما فيه من البراعة؛ ألا ترى أنه لو نظم عليه قصيد من أوله إلى آخره يتضمن غزلا ومديحا على ما جرت به عادة القصائد أليس أنه كان يجيء باردا غثّا لا يسلم منه على محكّ النظر عشره؟ والعشر كثير، وما كان على هذه الصورة من الكلام فإنما يستعمل أحيانا على الطبع، لا على التكلف، وهو وأمثاله لا يحسن إلا إذا كان يسيرا، كالرقم في الثوب أو الشّية في الجلد.

النوع الثلاثون في السرقات الشعرية

النوع الثلاثون في السرقات الشعرية ولربما اعترض معترض في هذا الموضوع فقال: قد تقدم نثر الشعر في أول الكتاب، وهو أخذ الناثر من الناظم، ولا فرق بينه وبين أخذ الناظم من الناظم، فلم يكن إلى ذكر السرقات الشعرية إذن حاجة. ولو أنعم هذا المعترض نظره لظهر له الفرق، وعلم أن نثر الشعر لم يتعرض فيه إلى وجوه المأخذ وكيفية التوصل إلى مداخل السرقات؛ وهذا النوع يتضمن ذكر ذلك مفصلا. واعلم أن الفائدة من هذا النوع أنك تعلم أين تضع يدك في أخذ المعاني؛ إذ لا يستغني الآخر عن الاستعارة من الأول، لكن لا ينبغي لك أن تعجل في سبك اللفظ على المعنى المسروق فتنادي على نفسك بالسرقة، فكثيرا ما رأينا من عجل في ذلك فعثر، وتعاطى فيه البديهة فعقر، والأصل المعتمد عليه في هذا الباب التورية والاختفاء بحيث يكون ذلك أخفى من سفاد الغراب، وأظرف من عنقاء مغرب في الإغراب. وقد ذهب طائفة من العلماء إلى أنه ليس لقائل أن يقول: إن لأحد من المتأخرين معنى مبتدعا؛ فإن قول الشعر قديم منذ نطق باللغة العربية، وإنه لم يبق معنى من المعاني إلا وقد طرق مرارا. وهذا القول وإن دخل في حيز الإمكان إلا أنه لا يلتفت إليه؛ لأن الشعر من الأمور المتناقلة، والذي نقلته الأخبار وتواردت عليه أن العرب كانت تنظم المقاطيع من الأبيات فيما يعنّ لها من الحاجات، ولم يزل الحال على هذه الصورة إلى عهد امريء القيس، وهو قبل الإسلام بمائة سنة زائدا فناقصا؛ فقصّد القصائد، وهو أول من قصّد، ولو لم يكن له معنى اختص به سوى أنه أول من قصّد القصائد لكان في ذلك كفاية، وأي فضيلة أكبر من هذه الفضيلة؟ ثم تتابع المقصّدون، واختير من

القصائد تلك السبع التي علقت على البيت، وانفتح للشعراء هذا الباب في التقصيد، وكثرت المعاني المقولة بسببه، ولم يزل الأمر ينمي ويزيد ويؤتي بالمعاني الغريبة، واستمر ذلك إلى عهد الدولة العباسية وما بعدها ألى الدولة الحمدانية؛ فعظم الشعر، وكثرت أساليبه، وتشعبت طرقه، وكان ختامه على الثلاثة المتأخرين، وهم: أبو تمام حبيب بن أوس، وأبو عبادة الوليد بن عبيد البحتري، وأبو الطيب المتنبي؛ فإذا قيل: إن المعاني المبتدعة سبق إليها ولم يبق معنى مبتدع؛ عورض ذلك بما ذكرته. والصحيح أن باب الابتداع للمعاني مفتوح إلى يوم القيامة، ومن الذي يحجر على الخواطر وهي قاذفة بما لا نهاية له؟ إلا أن من المعاني ما يتساوى الشعراء فيه، ولا يطلق عليه اسم الابتداع لأول قبل آخر؛ لأن الخواطر تأتي به من غير حاجة إلى اتباع الآخر الأول، كقولهم في الغزل: عفت الدّيار وما عفت ... آثارهنّ من القلوب وكقولهم: إن الطيف يجود بما يبخل به صاحبه؛ وإن الواشي لو علم بمرار الطيف لساءه، وكقولهم في المديح: إن عطاءه كالبحر، وكالسحاب، وإنه لا يمنع عطاء اليوم عطاء غد، وإنه يجود ابتداء من غير مسألة، وأشباه ذلك وكقولهم في المراثي: إن هذا الرزء أول حادث، وإنه استوى فيه الأباعد والأقارب، وإن الذاهب لم يكن واحدا وإنما كان قبيلة، وإن بعد هذا الذاهب لا يعد للمنية ذنب، وأشباه ذلك. وكذلك يجري الأمر في غير ما أشرت إليه من معان ظاهرة تتوارد الخواطر عليها من غير كلفة، وتستوي في إيرادها، ومثل ذلك لا يطلق على الآخر فيه اسم السرقة من الأول، وإنما يطلق اسم السرقة في معنى مخصوص، كقول أبي تمام: لا تنكروا ضربي له من دونه ... مثلا شرودا في النّدى والباس فالله قد ضرب الأقلّ لنوره ... مثلا من المشكاة والنّبراس فإن هذا معنى مخصوص ابتدعه أبو تمام، وكان لابتداعه سبب، والحكاية فيه مشهورة، وهي أنه لما أنشد أحمد بن المعتصم قصيدته السينية التي مطلعها:

ما في وقوفك ساعة من باس «1» انتهى إلى قوله: إقدام عمرو في سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء إياس فقال الحكيم الكندي: وأي فخر في تشبيه ابن أمير المؤمنين بأجلاف العرب؟ فأطرق أبو تمام ثم أنشد هذين البيتين معتذرا عن تشبيهه إياه بعمرو وحاتم وإياس، وهذا معنى يشهد به الحال أنه ابتدعه، فمن أتى من بعده بهذا المعنى أو بجزء منه فإنه يكون سارقا له. وكذلك ورد قول أبي الطيب المتنبي في عضد الدولة وولديه «2» : وأنت الشّمس تبهر كلّ عين ... فكيف وقد بدت معها اثنتان فعاشا عيشة القمرين يحيا ... بضوئهما ولا يتحاسدان ولا ملكا سوى ملك الأعادي ... ولا ورثا سوى من يقتلان وكان ابنا عدوّ كاثراه ... له ياءي حروف أنيسيان وهذا معنى لأبي الطيب، وهو الذي ابتدعه: أي أن زيادة أولاد عدوّك كزيادة التصغير؛ فإنها زيادة نقص. وما ينبغي أن يقال إن ابن الرومي ابتدع هذا المعنى الذي هو «3» :

تشكو المحبّ وتلفى الدّهر شاكية ... كالقوس تصمي الرّمايا وهي مرنان «1» فإن علماء البيان يزعمون أن هذا المعنى مبتدع لابن الرومي، وليس كذلك، ولكنه مأخوذ من المثل المضروب، وهو قولهم: يلدغ ويصي، ويضرب ذلك لمن يبتديء بالأذى ثم يشكو، وإنما ابن الرومي قد ابتدع معاني أخر غير ما ذكرته، وليس الغرض أن يؤتى على جميع ما جاء به هو ولا غيره من المعاني المبتدعة، بل الغرض أن يبين المعنى المبتدع من غيره. والذي عندي في السرقات أنه متى أورد الآخر شيئا من ألفاظ الأول في معنى من المعاني، ولو لفظة واحدة؛ فإن ذلك من أدلّ الدليل على سرقته. واعلم أن علماء البيان قد تكلموا في السرقات الشعرية فأكثروا، وكنت ألفت فيه كتابا، وقسمته ثلاثة أقسام: نسخا، وسلخا، ومسخا. أما النسخ فهو: أخذ اللفظ والمعنى برمته، من غير زيادة عليه، مأخوذا ذلك من نسخ الكتاب. أما السلخ فهو: أخذ بعض المعنى، مأخوذا ذلك من سلخ الجلد الذي هو بعض الجسم المسلوخ. وأما المسخ فهو: إحالة المعنى إلى ما دونه، مأخوذا ذلك من مسخ الآدميين قردة. وههنا قسمان آخرن أخللت بذكرهما في الكتاب الذي ألفته؛ فأحدهما: أخذ المعنى مع الزيادة عليه، والآخر عكس المعنى إلى ضده؛ وهذان القسمان ليسا بنسخ ولا سلخ ولا مسخ.

وكل قسم من هذه الأقسام يتنوّع ويتفرّع، وتخرج به القسمة إلى مسالك دقيقة، وقد استأنفت ما فاتني من ذلك في هذا الكتاب، والله الموفق للصواب. ومن المعلوم أن السرقات الشعرية لا يمكن الوقوف عليها إلا بحفظ الأشعار الكثيرة التي لا يحصرها عدد، فمن رام الأخذ بنواصيها، والاشتمال على قواصيها، بأن يتصفح الأشعار تصفحا، ويقتنع بتأملها ناظرا؛ فإنه لا يظفر منها إلا بالحواشي والأطراف؛ وكنت سافرت إلى الشام في سنة سبع وثمانين وخمسمائة، ودخلت مدينة دمشق؛ فوجدت جماعة من أدبائها يلهجون ببيت من شعر ابن الخياط في قصيد له أولها «1» : خذا من صبا نجد أمانا لقلبه ويزعمون أنه من المعاني الغريبة، وهو: أغار إذا آنست في الحيّ أنّة ... حذارا عليه أن تكون لحبّه فقلت لهم: هذا البيت مأخوذ من شعر أبي الطيب المتنبي في قوله «2» :

لو قلت للدّنف المشوق فديته ... ممّا به لأغرته بفدائه «1» وقول أبي الطيب أدق معنى، وإن كان قول ابن الخياط أرق لفظا، ثم إني وقفتهم على مواضع كثيرة من شعر ابن الخياط قد أخذها من شعر المتنبي. وسافرت الى الديار المصرية في سنة ست وتسعين فوجدت أهلها يعجبون ببيت من الشعر يعزونه إلى شاعر من أهل اليمن يقال له عمارة، وكان حديث عهد بزماننا هذا في آخر الدولة العلوية بمصر، وذلك البيت من جملة قصيدة له يمدح بها بعض خلفائها عند قدومه عليه من اليمن، وهو «2» : فهل درى البيت أنّي بعد فرقته ... ما سرت من حرم إلّا إلى حرم فقلت لهم: هذا البيت مأخوذ من شعر أبي تمام في قوله مادحا لبعض الخلفاء في حجة حجها، وذلك بيت من جملة أبيات حسنة: يا من رأى حرما يسري إلى حرم ... طوبى لمستلم يأتي وملتزم ثم قلت في نفسي: بالله العجب! ليس أبو تمام وأبو الطيب من الشعراء الذين درست أشعارهم، ولا هما ممن لم يعرف ولا اشتهر أمره، بل هما كما يقال: أشهر من الشمس والقمر، وشعرهما دائر في أيدي الناس، بخلاف غيرهما، فكيف خفي على أهل مصر ودمشق بيتا ابن الخياط وعمارة المأخوذان من شعرهما؟

وعلمت حينئذ أن سبب ذلك عدم الحفظ للأشعار، والاقتناع بالنظر في دواوينهما، ولمّا نصبت نفسي للخوض في علم البيان ورمت أن أكون معدودا من علمائه علمت أن هذه الدرجة لا تنال إلا بنقل ما في الكتب الى الصدور والاكتفاء بالمحفوظ عن المسطور: ليس بعلم ما حوى القمطر ... ما العلم إلّا ما حواه الصّدر ولقد وقفت من الشعر على كل ديوان ومجموع، وانفدت شطرا من العمر في المحفوظ منه والمسموع، فألفيته بحرا لا يوقف على ساحله، وكيف ينتهي إلى إحصاء قول لم تحص أسماء قائله، فعند ذلك اقتصرت منه على ما تكثر فوائده، وتتشعب مقاصده، ولم أكن ممن أخذ بالتقليد والتسليم، في اتباع من قصر نظره على الشعر القديم؛ إذ المراد من الشعر إنما هو إيداع المعنى الشريف، في اللفظ الجزل واللطيف، فمتى وجد ذلك فكل مكان خيمت فهو بابل، وقد اكتفيت في هذا بشعر أبي تمام حبيب بن أوس وأبي عبادة الوليد وأبي الطيب المتنبي، وهؤلاء الثلاثة هم لات الشعر وعزّاه ومناته، الذين ظهرت على أيديهم حسناته ومستحسناته، وقد حوت أشعارهم غرابة المحدثين إلى فصاحة القدماء، وجمعت بين الأمثال السائرة وحكمة الحكماء. أما أبو تمام فإنه ربّ معان، وصيقل ألباب وأذهان، وقد شهد له بكل معنى مبتكر، لم يمش فيه على أثر؛ فهو غير مدافع عن مقام الإغراب، الذي برز فيه على الأضراب، ولقد مارست من الشعر كل أول وأخير، ولم أقل ما أقول فيه إلا عن تنقيب وتنقير؛ فمن حفظ شعر الرجل وكشف عن غامضه وراض فكره برائضه أطاعته أعنة الكلام، وكان قوله في البلاغة ما قالت حذام؛ فخذ مني في ذلك قول حكيم، وتعلّم ففوق كل ذي علم عليم. وأما أبو عبادة البحتري فإنه أحسن في سبك اللفظ على المعنى، وأراد أن يشعر فغنّى، ولقد حاز طرفي الرقة والجزالة على الإطلاق، فبينا يكون في شظف نجد إذ تشبث بريف العراق، وسئل أبو الطيب المتنبي عنه، وعن أبي تمام، وعن نفسه؛ فقال: أنا وأبو تمام حكيمان، والشاعر البحتري، ولعمري إنه أنصف في

حكمه، وأعرب بقوله هذا عن متانة علمه؛ فإن أبا عبادة أتى في شعره بالمعنى المقدود من الصخرة الصماء، في اللفظ المصوغ من سلاسة الماء، فأدرك بذلك بعد المرام، مع قربه إلى الأفهام، وما أقول إلا أنه أتى في معانيه بأخلاط الغالية، ورقى في ديباجة لفظه إلى الدرجة العالية. وأما أبو الطيب المتنبي فإنه أراد أن يسلك مسلك أبي تمام فقصرت عنه خطاه، ولم يعطه الشعر من قياده ما أعطاه، لكنه حظي في شعره بالحكم والأمثال، واختصّ بالإبداع في وصف مواقف القتال، وأنا أقول قولا لست فيه متأثما، ولا منه متلثما، وذاك أنه إذا خاض في وصف معركة كان لسانه أمضى من نصالها، وأشجع من أبطالها، وقامت أقواله للسامع مقام أفعالها، حتى تظن الفريقين قد تقابلا، والسلاحين قد تواصلا، فطريقه في ذلك تضلّ بسالكه، وتقوم بعذر تاركه، ولا شك أنه كان يشهد الحروب مع سيف الدولة ابن حمدان فيصف لسانه، ما أدّى إليه عيانه، ومع هذا فإني رأيت الناس عادلين فيه عن سنن التوسط، فإما مفرط في وصفه وإما مفرّط، وهو وإن انفرد بطريق صار أبا عذره، فإن سعادة الرجل كانت أكبر من شعره، وعلى الحقيقة فإنه خاتم الشعراء، ومهما وصف به فهو فوق الوصف وفوق الإطراء، ولقد صدق في قوله من أبيات يمدح بها سيف الدولة «1» : لا تطلبنّ كريما بعد رؤيته ... إن الكرام بأسخاهم يدا ختموا ولا تبال بشعر بعد شاعره ... قد أفسد القول حتّى أحمد الصّمم ولما تأملت شعره بعين المعدلة البعيدة عن الهوى، وعين المعرفة التي ما ضل صاحبها وما غوى، وجدته أقساما خمسة؛ خمس في الغاية التي انفرد بها دون غيره، وخمس من جيد الشعر الذي يساويه فيه غيره، وخمس من متوسط الشعر، وخمس دون ذلك، وخمس في الغاية المتقهقرة التي لا يعبأ بها وعدمها خير من

فأما النسخ

وجودها، ولو لم يقلها أبو الطيب لوقاه الله شرها، فإنها هي التي ألبسته لباس الملام، وجعلت عرضه شارة لسهام الأقوام. ولسائل ههنا أن يسأل ويقول: لم عدلت إلى شعر هؤلاء الثلاثة دون غيرهم؟ فأقول: إني لم أعدل إليهم اتفاقا، وإنما عدلت إليهم نظرا واجتهادا، وذلك أني وقفت على أشعار الشعراء قديمها وحديثها حتى لم أترك ديوانا لشاعر مفلق يثبت شعره على المحل إلا وعرضته على نظري، فلم أجد أجمع من ديوان أبي تمام وأبي الطيب للمعاني الدقيقة، ولا أكثر استخراجا منهما للطيف الأغراض والمقاصد، ولم أجد أحسن تهذيبا للألفاظ من أبي عبادة، ولا أنقش ديباجة، ولا أبهج سبكا، فاخترت حينئذ دواوينهم، لاشتمالها على محاسن الطرفين من المعاني والألفاظ، ولما حفظتها ألغيت ما سواها مع ما بقي على خاطري من غيرها. وقد أوردت في هذا الموضع من السرقات الشعرية ما لم يورده غيري، ونبهت على غوامض منها. وكنت قدمت القول أني قسمتها ألى خمسة أقسام؛ منها الثلاثة الأول، وهي: النسخ، والسلخ، والمسخ، ومنها القسمان الآخران، وها أنا أبين ما تنقسم إليه هذه الأقسام من تشعبها وتفريعها؛ فأقول: فأما النسخ فإنه لا يكون إلا في أخذ المعنى واللفظ جميعا، أو في أخذ المعنى وأكثر اللفظ؛ لأنه مأخوذ من نسخ الكتاب، وعلى ذلك فإنه ضربان: الأول: يسمى وقوع الحافر على الحافر، كقول امريء القيس «1» : وقوفا بها صحبي عليّ مطيّهم ... يقولون لا تهلك أسى وتحمّل وكقول طرفة «2» :

وقوفا بها صحبي عليّ مطيّهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجلّد وقد أكثر الفرزدق وجرير من هذا في شعرهما، فمنه ما وردا فيه مورد امريء القيس وطرفة في تخالفهما في لفظة واحدة، كقول الفرزدق: أتعدل أحسابا لئاما حماتها ... بأحسابنا إنّي إلى الله راجع وكقول جرير: أتعدل أحسابا كراما حماتها ... بأحسابكم إنّي إلى الله راجع ومنه ما تساويا فيه لفظا بلفظ، كقول الفرزدق: وغرّ قد نسقت مشهّرات ... طوالع لا تطيق لها جوابا «1» بكلّ ثنيّة وبكلّ ثغر ... غرائبهنّ تنتسب انتسابا بلغن الشّمس حين تكون شرقا ... ومسقط رأسها من حيث غابا وكذلك قال جرير من غير أن يزيد. وقد حكي أن امرأة من عقيل يقال لها «ليلى» كان يتحدث إليها الشباب، فدخل الفرزدق إليها، وجعل يحادثها، وأقبل فتى من قومها كانت تألفه، فدخل إليها، فأقبلت عليه وتركت الفرزدق، فغاظه ذلك، فقال للفتى: أتصارعني؟ فقال: ذاك إليك، فقام إليه، فلم يلبث أن أخذ الفرزدق فصرعه، وجلس على صدره، فضرط، فوثب الفتى عنه، وقال: يا أبا فراس، هذا مقام العائذ بك والله ما أردت ما جرى، فقال: ويحك! والله ما بي أنك صرعتني، ولكن كأني بابن الأتان- يعني جريرا- وقد بلغه خبري فقال يهجوني: جلست إلى ليلى لتحظى بقربها ... فخانك دبر لا يزال يخون

الضرب الثاني من النسخ:

فلو كنت ذا حزم شددت وكاءه ... كما شدّ جربان الدّلاص قيون قال: فو الله ما مضى إلا أيام حتى بلغ جريرا الخبر، فقال فيه هذين البيتين، وهذا من أغرب ما يكون في مثل هذا الموضع وأعجبه. ويقال: إن الفرزدق وجريرا كانا ينطقان في بعض الأحوال عن ضمير واحد. وهذا عندي مستبعد؛ فإن ظاهر الأمر يدلّ على خلافه، والباطن لا يعلمه إلا الله تعالى. وإلا فإذا رأينا شاعرا متقدم الزمان قد قال قولا ثم سمعناه من شاعر أتى من بعده علمنا بشهادة الحال أنه أخذه منه، وهب أن الخواطر تتفق في استخراج المعاني الظاهرة، المتداولة؛ فكيف تتفق الألسنة أيضا في صوغها الألفاظ؟. ومما كنت أستحسنه من شعر أبي نواس قوله من قصيدته التي أولها: دع عنك لومي فإنّ اللّوم إغراء دارت على فتية ذلّ الزّمان لهم ... فما يصيبهم إلّا بما شاءوا وهذا من عالي الشعر، ثم وقفت في كتاب الأغاني لأبي الفرج على هذا البيت في أصوات معبد، وهو: لهفي على فتية ذلّ الزّمان لهم ... فما أصابهم إلّا بما شاءوا وما أعلم كيف هذا. الضرب الثاني من النسخ: وهو الذي يؤخذ فيه المعنى وأكثر اللفظ، كقول بعض المتقدمين يمدح معبدا صاحب الغناء: أجاد طويس والسّريجيّ بعده ... وما قصبات السّبق إلّا لمعبد ثم قال أبو تمام: محاسن أصناف المغنّين جمّة ... وما قصبات السّبق إلا لمعبد

وأما السلخ:

وهذه قصيدة أولها: غدت تستجير الدّمع خوف نوى غد «1» فقال: وقائع أصل النّصر فيها وفرعه ... إذا عدّد الإحسان أو لم يعدّد فمهما تكن من وقعة بعد لا تكن ... سوى حسن ممّا فعلت مردّد محاسن أصناف المغنين جمة البيت. وأما السلخ: فإنه ينقسم إلى اثني عشر ضربا، وهذا تقسيم أوجبته القسمة، وإذا تأملته علمت أنه لم يبق شيء خارج عنه. فالأول: أن يؤخذ المعنى ويستخرج منه ما يشبهه، ولا يكون هو إياه، وهذا من أدقّ السرقات مذهبا، وأحسنها صورة، ولا يأتي إلا قليلا. فمن ذلك قول بعض شعراء الحماسة: لقد زادني حبّا لنفسي أنّني ... بغيض إلى كلّ امريء غير طائل أخذ المتنبي هذا المعنى واستخرج منه معنى آخر غيره إلا أنه شبيه به، فقال: وإذا أتتك مذمّتي من ناقص ... فهي الشّهادة لي بأنّي فاضل والمعرفة بأن هذا المعنى أصله من ذاك المعنى عسر غامض، وهو غير متبين إلا لمن أعرق في ممارسة الأشعار، وغاص في استخراج المعاني، وبيانه أن الأول يقول: إن بغض الذي هو غير طائل إياي مما زاد نفسي حبا إلى: أي جمّلها في عيني وحسنها عندي كون الذي هو غير طائل مبغضي والمتنبي يقول: إن ذمّ الناقص إياي شاهد بفضلي؛ فذم الناقص إياه كبغض الذي هو غير طائل ذلك الرجل، وشهادة ذم الناقص إياه بفضله كتحسين بغض الذي هو غير طائل نفس ذلك الرجل عنده.

الضرب الثاني من السلخ:

ومن هذا الضرب ما هو أظهر مما ذكرته وأبين، كقول أبي تمام: رعته الفيافي بعد ما كان حقبة ... رعاها وماء الرّوض ينهلّ ساكبه أخذ البحتري هذا المعنى واستخرج منه ما يشابهه، كقوله في قصيدة يفخر فيها بقومه: شيخان قد ثقل السّلاح عليهما ... وعداهما رأي السّميع المبصر ركبا القنا من بعد ما حملا القنا ... في عسكر متحامل في عسكر فأبو تمام ذكر أن الجمل رعى الأرض ثم سار فيها فرعته: أي أهزلته، فكأنها فعلت به مثل ما فعل بها، والبحتري نقل هذا إلى وصف الرجل بعلو السن والهرم؛ فقال: إنه كان يحمل الرمح في القتال ثم صار يركب عليه: أي يتوكأ منه على عصا، كما يفعل الشيخ الكبير. وكذلك ورد قول الرجلين أيضا؛ فقال أبو تمام: لا أظلم النّأي قد كانت خلائقها ... من قبل وشك النّوى عندي نوى قذفا أخذه البحتري فقال: أعاتك، ما كان الشّباب مقرّبي ... إليك فألحى الشّيب إذ هو مبعدي وهذا أوضح من الذي تقدمه، وأكثر بيانا. الضرب الثاني من السلخ: أن يؤخذ المعنى مجردا من اللفظ، وذلك مما يصعب جدا، ولا يكاد يأتي إلا قليلا. فمنه قول عروة بن الورد من شعراء الحماسة: ومن يك مثلي ذا عيال ومقترا ... من المال يطرح نفسه كلّ مطرح ليبلغ عذرا أو ينال رغيبة ... ومبلغ نفس عذرها مثل منجح أخذ أبو تمام هذا المعنى فقال:

الضرب الثالث من السلخ:

فتى مات بين الضّرب والطّعن ميتة ... تقوم مقام النّصر إذ فاته النّصر فعروة بن الورد جعل اجتهاده في طلب الرزق عذرا يقوم مقام النجاح، وأبو تمام جعل الموت في الحرب الذي هو غاية اجتهاد المجتهد في لقاء العدو قائما مقام الانتصار، وكلا المعنيين واحد، غير أن اللفظ مختلف. وهذا الضرب في سرقات المعاني من أشكلها، وأدقها، وأغربها، وأبعدها مذهبا، ولا يتفطن له ويستخرجه من الأشعار إلا بعض الخواطر دون بعض. وقد يجيء منه ما هو ظاهر لا يبلغ في الدقة مبلغ هذه الأبيات المشار اليها؛ كقول ابن المقفع في باب الرثاء من كتاب الحماسة: فقد جرّ نفعا فقدنا لك؛ أنّنا ... أمنّا على كلّ الرّزايا من الجزع وجاء بعده من أخذ هذا المعنى فقال: وقد عزّى ربيعة أنّ يوما ... عليها مثل يومك لا يعود وهذا من البديع النادر. وههنا ما هو أشد ظهورا من هذين البيتين في هذا الضرب من السرقات الشعرية؛ وذلك يأتي في الألفاظ المترادفة التي يقوم بعضها مقام بعض، وذاك الاعتداد به لمكان وضوحه، لكن قد يجيء منه ما هو صفة من صفات الترادف لا الاسم نفسه، فيكون حسنا، كقول جرير: ولا يمنعك من أرب لحاهم ... سواء ذو العمامة والخمار أخذ أبو الطيب المتنبي هذا المعنى فقال: ومن في كفّه منهم قناة ... كمن في كفّه منهم خضاب الضرب الثالث من السلخ: وهو أخذ المعنى ويسير من اللفظ، وذلك من أقبح السرقات وأظهرها شناعة على السارق.

فمن ذلك قول البحتري في غلام. فوق ضعف الصّغير إن وكل الأمر إليه ودون كيد الكبار سبقه أبو نواس فقال: لم يخف من كبر عمّا يراد به ... من الأمور ولا أزرى من الصّغر وكذلك قوله أيضا: كلّ عيد له انقضاء؛ وكفّي ... كلّ يوم من جوده في عيد أخذه من علي بن جبلة [في قوله] : للعيد يوم من الأيّام منتظر ... والنّاس في كلّ يوم منك في عيد وكذلك قوله: جاد حتّى أفنى السّؤال؛ فلمّا ... باد منّا السّؤال جاد ابتداء أخذه من علي بن جبلة [في قوله] : أعطيت حتّى لم تدع لك سائلا ... وبدأت إذ قطع العفاة سؤالها وقد افتضح البحتري في هذه المآخذ غاية الافتضاح، هذا على بسطة باعه في الشعر وغناه عن مثلها، وقد سلك هذه الطريق فحول الشعراء ولم يستنكفوا من سلوكها؛ فممن فعل ذلك أبو تمام؛ فإنه قال: قد قلّصت شفتاه من حفيظته ... فخيل من التّعبيس مبتسما سبقه عبد السلام بن رغبان المعروف بديك الجن فقال: وإذا شئت أن ترى الموت في صو ... رة ليث في لبدتي رئبال فالقه غير أنّما لبدتاه ... أبيض صارم وأسمر عال تلق ليثا قد قلّصت شفتاه ... فيرى ضاحكا لعبس الصّيال

وكذلك قال أبو تمام: فلم أمدحك تفحيما بشعري ... ولكنّي مدحت بك المديحا أخذه من حسان بن ثابت في مدحه للنبي صلّى الله عليه وسلّم حيث قال: ما إن مدحت محمّدا بمقالتي ... لكن مدحت مقالتي بمحمّد ولا شك أن أبا بكر رضي الله عنه سمع قول حسان حيث استخلف عمر رضي الله عنه؛ فقال له عمر: استخلف غيري، فقال أبو بكر رضي الله عنه: ما حبوناك بها وإنما حبوناها بك. وهكذا فعل ابن الرومي؛ فمما جاء له قوله: جرحته العيون فاقتصّ منها ... بجوى في القلوب دامي النّدوب سبقه أبو تمام فقال: أدميت باللّحظات وجنته ... فاقتصّ ناظره من القلب وكذلك قول ابن الرومي: وكّلت مجدك في اقتضائك حاجتي ... وكفى به متقاضيا ووكيلا سبقه أبو تمام فقال: وإذا المجد كان عوني على المر ... ء تقاضيته بترك التّقاضي وكذلك قال ابن الرومي: ومالي عزاء عن شبابي علمته ... سوى أنّني من بعده لا أخلّد سبقه منصور النمري فقال: قد كدت أقضي على فوت الشّباب أسا ... لولا تعزّي أنّ العيش منقطع

وكذلك فعل أبو الطيب المتنبي؛ فمما جاء منه قوله: فدى نفسه بضمان النّضار ... وأعطى صدور القنا الذّابل أخذه من قول الفرزدق: كان الفداء له صدور رماحنا ... والخيل إذ رهج الغبار مثار وكذلك قوله أيضا: أين أزمعت أيّهذا الهمام ... نحن نبت الرّبا وأنت الغمام أخذه من بشار حيث قال: كأنّ النّاس حين تغيب عنهم ... نبات الأرض أخطأه القطار وكذلك قوله: فلا زالت ديارك مشرقات ... ولا دانيت يا شمس الغروبا لأصبح آمنا فيك الرّزايا ... كما أنا آمن فيك العيوبا أخذه من ابن الرومي حيث قال: أسالم قد سلمت من العيوب ... ألا فاسلم كذاك من الخطوب والذي عندي في الضرب المشار إليه أنه لا بدّ من مخالفة المتأخر المتقدم: إما بأن يأخذ المعنى فيزيده معنى آخر، أو يوجز في لفظه، أو يكسوه عبارة أحسن من عبارته. ومن هذا الضرب ما يستعمل على وجه يزداد قبحه، وتكثر البشاعة به، وهو: أن يأخذ الشاعرين معنى من قصيدة لصاحبه على وزن وقافية؛ فيودعه قصيدة له على ذلك الوزن وتلك القافية، ومثاله في ذلك كمن سرق جوهرة من طوق أو نطاق ثم صاغها في مثل ما سرقها منه، والأولى به أن كان نظم تلك الجوهرة في عقد، أو صاغها في سوار أو خلخال؛ ليكون أكتم لأمرها.

الضرب الرابع من السلخ:

وممن فعل ذلك من الشعراء فافتضح أبو الطيب المتنبي حيث قال في قصيدته التي أولها: غيري بأكثر هذا النّاس ينخدع لم يسلم الكرّ في الأعقاب مهجته ... إن كان أسلمها الأصحاب والشّيع وهذه القصيدة مصوغة على قصيدة لأبي تمام في وزنها وقافيتها أولها: أيّ القلوب عليكم ليس ينصدع وهذا المعنى الذي أورده أبو الطيب مأخود من بيت منها، وهو: ما غاب عنكم من الإقدام أكرمه ... في الرّوع إذ غابت الأنصار والشّيع وليس في السرقات الشعرية أقبح من هذه السرقة؛ فإنه لم يكتف الشاعر فيها بأن يسرق المعنى حتى ينادي على نفسه أنه قد سرقه. الضرب الرابع من السلخ: وهو أن يؤخذ المعنى فيعكس، وذلك حسن يكاد يخرجه حسنه عن حد السرقة. فمن ذلك قول أبي نواس: قالوا عشقت صغيرة فأجبتهم ... أشهى المطيّ إليّ ما لم يركب كم بين حبّة لؤلؤ مثقوبة ... لبست وحبّة لؤلؤ لم تثقب فقال مسلم بن الوليد في عكس ذلك: إنّ المطيّة لا يلذّ ركوبها ... حتّى تذلّل بالزّمام وتركبا والحبّ ليس بنافع أربابه ... حتّى يفصّل في النّظام ويثقبا ومن هذا الباب قول ابن جعفر: ولمّا بدا لي أنّها لا تريدني ... وأنّ هواها ليس عنّي بمنجلي تمنّيت أن تهوى سواي لعلّها ... تذوق صبابات الهوى فترقّ لي

الضرب الخامس من السلخ:

وقال غيره: ولقد سرّني صدودك عنّي ... في طلابيك وامتناعك منّي حذرا أن أكون مفتاح غيري ... وإذا ما خلوت كنت التّمنّي أما ابن جعفر فإنه تداءب وألقى عن منكبه رداء الغيرة، وأما الآخر فجاء بالضد من ذلك وتغالى به غاية الغلو. وكذلك ورد قول أبي الشيص: أجد الملامة في هواك لذيذة ... شغفا بذكرك فليلمني الّلوّم أخذ أبو الطيب المتنبي هذا المعنى وعكسه فقال: أأحبّه وأحبّ فيه ملامة ... إنّ الملامة فيه من أعدائه وهذا من السرقات الخفية جدا، ولأن يسمى ابتداعا أولى من أن يسمى سرقة. وقد توخيته في شيء من شعري فجاء حسنا؛ فمن ذلك قولي: لولا الكرام وما سنّوه من كرم ... لم يدر قائل شعر كيف يمتدح أخذته من قول أبي تمام: لولا خلال سنّها الشّعر ما درى ... بناة العلى من أين تؤتى المكارم الضرب الخامس من السلخ: وهو أن يؤخذ بعض المعنى؛ فمن ذلك قول أمية بن أبي الصلت يمدح عبد الله بن جدعان: عطاؤك زين لامريء إن حبوته ... ببذل وما كلّ العطاء يزين وليس بشين لامريء بذل وجهه ... إليك كما بعض السّؤال يشين أخذه أبو تمام فقال: تدعى عطاياه وفرا وهي إن شهرت ... كانت فخارا لمن يعفوه مؤتنفا

ما زلت منتظرا أعجوبة زمنا ... حتّى رأيت سؤالا يجتني شرفا «1» فأمية بن أبي الصلت أتى بمعنيين اثنين: أحدهما أن عطاءك زين، والآخر أن عطاء غيرك شين، وأما أبو تمام فإنه أتى بالمعنى الأول لا غير ومن هذا الضرب قول علي بن جبلة: وآثل ما لم يحوه متقدّم ... وإن نال منه آخر فهو تابع فقال أبو الطيب المتنبي: ترفّع عن عون المكارم قدره ... فما يفعل الفعلات إلّا عذاريا فعليّ بن جبلة اشتمل ما قاله على معنيين أحدهما أنه فعل ما لم يفعله أحد ممن تقدمه، وإن نال منه الآخر شيئا فإنما هو مقتد به، وتابع له، وأما أبو الطيب المتنبي فإنه لم يأت إلا بالمعنى الواحد، وهو أنه يفعل ما لا يفعله غيره، غير أنه أبرزه في صورة حسنة. ومن ذلك قول أبي تمام: كلف بربّ المجد يعلم أنّه ... لم يبتدأ عرف إذا لم يتمم «2» فقال البحتري: ومثلك إن أبدى الفعال أعاده ... وإن صنع المعروف زاد وتمّما فأبو تمام قال: إن الممدوح يرب صنيعه: أي يستديمه، ويعلم أنه إذا لم يستدمه فما ابتدأه، والبحتري قال: إنه يستديم صنيعه لا غير، وذلك بعض ما ذكره أبو تمام.

الضرب السادس من السلخ:

وكذلك قال البحتري: ادفع بأمثال أبي غالب ... عادية العدم أو استعفف أخذه ممن تقدمه حيث قال: انتج الفضل أو تخلّ عن الدّنيا ... فهاتان غاية الهمم فالبحتري أخذ بعض هذا المعنى ولم يستوفه. وكذلك ورد قول ابن الرومي: نزلتم على هام المعالي إذا ارتقى ... إليها أناس غيركم بالسّلالم أخذه أبو الطيب المتنبي فقال: فوق السّماء وفوق ما طلبوا ... فإذا أرادوا غاية نزلوا وهذا بعض المعنى الذي تضمنه قول ابن الرومي؛ لأنه قال: إنكم نزلتم على هام المعالي، وإن غيركم يرقى إليها رقيا، وأما المتنبي فإنه قال: إنكم إذا أردتم غاية نزلتم، وأما قوله «فوق السماء» فإنه يغني عنه قول ابن الرومي «نزلتم على هام المعالي» ؛ إذ المعالي فوق كل شيء؛ لأنها مختصة بالعلوّ مطلقا. الضرب السادس من السلخ: وهو أن يؤخذ المعنى فيزاد عليه معنى آخر. فمما جاء منه قول الأخنس بن شهاب «1» : إذا قصرت أسيافنا كان وصلها ... خطانا إلى أعدائنا فنضارب أخذه مسلم بن الوليد فزاد عليه، وهو قوله: إن قصّر الرّمح لم يمش الخطا عددا ... أو عرّد السّيف لم يهمم بتعريد وكذلك ورد قول جرير في وصف أبيات من شعره:

غرائب آلاف إذا حان وردها ... أخذن طريقا للقصائد معلما أخذه أبو تمام فزاد عليه؛ إذ قال في وصف قصيد له وقرن ذلك بالممدوح: غرائب لاقت في فنائك أنسها ... من المجد فهي الآن غير غرائب وكذلك ورد قول ولد مسلمة بن عبد الملك: أذلّ الحياة وكره الممات ... وكلّا أراه طعاما وبيلا فإن لم يكن غير إحداهما ... فسيرا إلى الموت سيرا جميلا أخذه أبو تمام فقال: مثّل الموت بين عينيه وال ... ذّلّ وكلّا رآه خطبا عظيما ثمّ سارت به الحميّة قدما ... فأمات العدا ومات كريما فزاد عليه بقوله: فأمات العدا ومات كريما ويروى أنه نظر عبد الله بن علي رضي الله عنه عند قتال المروانية ألى فتى عليه أبهة الشرف، وهو يبلي في القتال بلاء حسنا، فناداه: يا فتى، لك الأمان ولو كنت مروان بن محمد، فقال: إلّا أكنه فلست بدونه، قال: فلك الأمان ولو كنت من كنت، فأطرق ثم تمثل بهذين البيتين المذكورين. وكذلك ورد قول أبي تمام: يصدّ عن الدّنيا إذا عنّ سودد ... ولو برزت في زيّ عذراء ناهد أخذه من قول المعذل بن غيلان: ولست بنظّار إلى جانب العلا ... إذا كانت العلياء في جانب الفقر إلا أنه زاده زيادة حسنة بقوله:

ولو برزت في زيّ عذراء ناهد ومما يجري هذا المجرى قول البحتري: خلّ عنّا فإنّما أنت فينا ... واو عمرو أو كالحديث المعاد أخذه من قول أبي نواس: قل لمن يدّعي سليما سفاها ... لست منها ولا قلامة ظفر إنّما أنت ملصق مثل واو ... ألحقت في الهجاء ظلما بعمرو إلا أن البحتري زاد على أبي نواس في قوله «أو كالحديث المعاد» . هكذا ورد قول البحتري أيضا: ركبوا الفرات إلى الفرات وأمّلوا ... جذلان يبدع في السّماح ويغرب أخذه من مسلم بن الوليد في قوله: ركبت إليه البحر في مؤخراته ... فأوفت بنا من بعد بحر إلى بحر إلا أن البحتري زاد عليه بقوله: جذلان يبدع في السماح ويغرب وكذلك ورد قول أبي نواس: وليس لله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد «1» وهذا البيت قد لهج به الناس لهجا كثيرا، ومنهم من ظنه مبتدعا لأبي نواس، ويحكى عن أبي تمام أنه دخل على ابن أبي داود، فقال له: أحسبك عاتبا يا أبا

تمام، فقال: إنما يعتب على واحد وأنت الناس جميعا، قال: من أين هذه يا أبا تمام؟ قال: من قول الحاذق أبي نواس، وأنشده البيت، وهذه الحكاية عندي موضوعة؛ لأن أبا تمام كان عارفا بالشعر، حتى إنه قال: لم أنظم شعرا حتى حفظت سبعة عشر ديوانا للنساء خاصة دون الرجال، وما كان يخفى عنه أن هذا المعنى ليس لأبي نواس، وإنما هو مأخوذ من قول جرير: إذا غضبت عليك بنو تميم ... حسبت النّاس كلّهم عضابا إلا أنّ أبا نواس زاده زيادة حسنة، وذاك أن جريرا جعل الناس كلهم بني تميم، وأبا نواس جعل العالم كله في واحد، وذلك أبلغ. ومما ينتظم في هذا السلك قول الفرزدق: علام تلفّتين وأنت تحتي ... وخير النّاس كلّهم أمامي متى تأتي الرّصافة تستريحي ... من الأنساع والدّبر الدّوامي أخذه أبو نواس فصار أملك به، وأحسن فيه غاية الإحسان، فقال: وإذا المطيّ بنا بلغن محمّدا ... فظهورهنّ على الرّجال حرام فالفرزدق قال: «تستريحي من الأنساع والدبر الدوامي» وليس استراحتها بمانعة من معاودة إتعابها مرة أخرى: وأما أبو نواس فإنه حرّم ظهورهن على الرجال: أي أنها تعفى من السفر إعفاء مستمرّا، ولا شك أن أبا نواس لم يتنبه لهذه الزيادة إلا من فعل العرب في السّائبة والبحيرة. وعلى هذا الأسلوب ورد قول المتنبي: وملمومة زرد ثوبها ... ولكنّه بالقنا مخمل أخذه من أبي نواس في قوله: أمام خميس أرجوان كأنّه ... قميص محوك من قنا وجياد فزاد أبو الطيب زيادة صار بها أحق من أبي نواس بهذا المعنى.

الضرب السابع من السلخ:

وكذلك قال أبو الطيب المتنبي: وإن جاد قبلك قوم مضوا ... فإنّك في الكرم الأوّل فأخذته أنا وزدت عليه؛ فقلت: أنت في الجود أوّل وقضى اللّ ... هـ بألّا يرى لك الدّهرثان وهذا النوع من السرقات قليل الوقوع بالنسبة إلى غيره. الضرب السابع من السلخ: وهو أن يؤخذ المعنى فيكسى عبارة أحسن من العبارة الأولى وهذا هو المحمود الذي يخرج به حسنه عن باب السرقة؛ فمن ذلك قول أبي تمام: جذلان من ظفر حرّان إن رجعت ... مخضوبة منكم أظفاره بدم أخذه البحتري؛ فقال: إذا احتربت يوما ففاضت دماؤها ... تذكّرت القربى ففاضت دموعها ومن هذا الأسلوب قولهما أيضا؛ فقال أبو تمام: إنّ الكرام كثير في البلاد وإن ... قلّوا كما غيرهم قلّوا وإن كثروا وقال البحتري: قلّ الكرام فصار يكثر مدّهم ... ولقد يقلّ الشّيء حتّى يكثرا «1»

وعلى هذا النحو ورد قول أبي نواس: يدلّ على ما في الضّمير من الفتى ... تقلّب عينيه إلى شخص من يهوى أخذه أبو الطيب المتنبي؛ فقال: وإذا خامر الهوى قلب صبّ ... فعليه لكلّ عين دليل ومما ينتظم في هذا السلك قول أبي الطيب المتنبي: إذا ما ازددت من بعد التّناهي ... فقد وقع انتقاصي في ازدياد «1» أخذه ابن نباتة السعديّ؛ فقال: إذا كان نقصان الفتى من تمامه ... فكلّ صحيح في الأنام عليل وكذلك ورد قول أبي العلاء بن سليمان في مرثية: وما كلفة البدر المنير قديمة ... ولكنّها في وجهه أثر اللّطم «2» أخذه الشاعر المعروف بالقيسراني، فقال: وأهوى الّتي أهوى لها البدر ساجدا ... ألست ترى في وجه أثر التّرب وكذلك قول ابن الرومي: إذا شنئت عين امريء شيب نفسه ... فعين سواه بالشّناءة أجدر أخذه من تأخر زمانه عنه؛ فقال: إذا كان شيبي بغيضا إليّ ... فكيف يكون إليها حبيبا

الضرب الثامن من السلخ:

ومما ينخرط في هذا السلك قول بعضهم: مخصّرة الأوساط زانت عقودها ... بأحسن ممّا زيّنتها عقودها أخذه أبو تمام؛ فقال: كأنّ عليها كلّ عقد ملاحة ... وحسنا وإن أضحت وأمست بلا عقد ثم أخذه البحتري؛ فقال: إذا أطفأ الياقوت إشراق وجهها ... فإنّ عناء ما توخت عقودها أمثال هذا كثيرة، وفيما أوردناه مقنع. الضرب الثامن من السلخ: وهو أن يؤخذ المعنى ويسبك سبكا موجزا. وذلك من أحسن السرقات؛ لما فيه من الدلالة على بسطة الناظم في القول، وسعة باعه في البلاغة؛ فمن ذلك قول بشار: من راقب النّاس لم يظفر بحاجته ... وفاز بالطيّبات الفاتك اللهج أخذه سلم الخاسر، وكان تلميذه، فقال: من راقب النّاس مات غمّا ... وفاز بالّلذّة الجسور فبين البيتين لفظتان في التأليف: ومن هذا الأسلوب قول أبي تمام: برّزت في طلب المعالي واحدا ... فيها تسير مغوّرا ومنجّدا عجب بأنّك سالم في وحشة ... في غاية ما زلت فيها مفردا «1»

أخذه ابن الرومي؛ فقال: غرّبته الخلائق الزّهر في النّا ... س وما أوحشته بالتّغريب وكذلك ورد قول أبي نواس: وكّلت بالدّهر غير غافلة ... من جود كفّك تأسو كلّ ما جرحا أخذه ابن الرومي؛ فقال: الدّهر يفسد ما استطاع وأحمد ... يتتبّع الإفساد بالإصلاح وعلى هذا ورد قول ابن الرومي: كأنّي أستدني بك ابن حنية ... إذا النّزع أدناه من الصّدر أبعدا أخذه بعض شعراء الشام، وهو ابن قسيم الحموي، فقال: فهو كالسّهم كلّما زدته منك دنوّا بالنّزع زادك بعدا ولقيت جماعة من الأدباء بالشام، ووجدتهم يزعمون أن ابن قسيم هو الذي ابتدع هذا المعنى، وليس كذلك، وإنما هو لابن الرومي. ومما يجري هذا المجرى قول أبي العتاهية: وإنّي لمعذور على فرط حبّها ... لأنّ لها وجها يدلّ على عذري أخذه أبو تمام؛ فقال: له وجه إذا أبصر ... ته ناجاك عن عذري فأوجز في هذا المعنى غاية الإيجاز. ومما يجري على هذا النهج قول أبي تمام: كانت مساءلة الرّكبان تخبرني ... عن أحمد بن سعيد أطيب الخبر

الضرب التاسع من السلخ:

حتّى التقينا فلا والله ما سمعت ... أذني بأحسن ممّا قد رأى بصري أخذه أبو الطيب المتنبي فأوجز؛ حيث قال: وأستكبر الأخبار قبل لقائه ... فلمّا التقينا صغّر الخبر الخبر وكذلك قولهما في موضع آخر؛ فقال أبو تمام: كم صارما عضبا أناف على قفا ... منهم لأعباء الوغى حمّال سبق المشيب إليه حتّى ابتزّه ... وطن النّهى من مفرق وقذال أخذه أبو الطيب فزاد وأحسن؛ حيث قال: يسابق القتل فيهم كلّ حادثة ... فما يصيبهم موت ولا هرم ومن هذا الضرب قول بعض الشعراء؛ أمن خوف فقر تعجّلته ... وأخّرت إنفاق ما تجمع فصرت الفقير وأنت الغنيّ ... وما كنت تعدو الّذي تصنع أخذه أبو الطيب المتنبي؛ فقال: ومن ينفق السّاعات في جمع ماله ... مخافة فقر فالّذي فعل الفقر الضرب التاسع من السلخ: وهو أن يكون المعنى عاما فيجعل خاصا، أو خاصا فيجعل عاما. وهو من السرقات التي يسامح صاحبها؛ فمن ذلك قول الأخطل «1» :

الضرب العاشر من السلخ:

لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم أخذه أبو تمام؛ فقال: أألوم من بخلت يداه وأغتدي ... للبخل تربا؟ ساء ذاك صنيعا وهذا من العام الذي جعل خاصا؛ ألا ترى أن الأول نهى عن الإتيان بما ينهى عنه مطلقا، وجاء بالخلق منكرا فجعله شائعا في بابه؛ وأما أبو تمام فإنه خصص ذلك بالبخل، وهو خلق واحد من جملة الأخلاق. وأما جعل الخاص عاما فكقول أبي تمام: ولو حاردت شول عذرت لقاحها ... ولكن منعت الدّرّ والضّرع حافل أخذه أبو الطيب المتنبي فجعله عاما إذ يقول: وما يؤلم الحرمان من كفّ حارم ... كما يؤلم الحرمان من كفّ رازق الضرب العاشر من السلخ: وهو زيادة البيان مع المساواة في المعنى؛ وذلك بأن يؤخذ المعنى فيضرب له مثال يوضحه، فمما جاء منه قول أبي تمام: هو الصّنع إن يعجل فنفع وإن يرث ... فللّريث في بعض المواطن أنفع أخذه أبو الطيب فأوضحه بمثال ضربه له، وذلك قوله: ومن الخير بطء سيبك عنّي ... أسرع السّحب في المسير الجهام وهذا من المبتدع، لا من المسروق، وما أحسن ما أتى بهذا المعنى في المثال المناسب له!. وكذلك قولهما في موضع آخر؛ فقال أبو تمام «1» :

الضرب الحادي عشر من السلخ:

قد قلّصت شفتاه من حفيظته ... فخيل من شدّة التّعبيس مبتسما أخذه أبو الطيب المتنبي؛ فقال: وجاهل مدّه في جهله ضحكي ... حتّى أتته يد فرّاسة وفم إذا رأيت نيوب الّليث بارزة ... فلا تظنّنّ أنّ اللّيث مبتسم ومما ينخرط في هذا السلك قول أبي تمام: وكذاك لم تفرط كآبة عاطل ... حتّى يجاورها الزّمان بحال أخذه أبو عبادة البحتري؛ فقال: وقد زادها إفراط حسن جوارها ... لأخلاق أصفار من المجد خيب وحسن دراريّ الكواكب أن ترى ... طوالع في داج من الّليل غيهب فإنه أتى بالمعنى مضروبا له هذا المثال الذي أوضحه وزاده حسنا. الضرب الحادي عشر من السلخ: وهو اتّحاد الطريق واختلاف المقصد، ومثاله أن يسلك الشاعران طريقا واحدة، فتخرج بهما إلى موردين أو روضتين وهناك يتبين فضل أحدهما على الآخر. فمما جاء من ذلك قول أبي تمام في مرثية بولدين صغيرين: مجد تأوّب طارقا حتّى إذا ... قلنا أقام الدّهر أصبح راحلا نجمان شاء الله ألّا يطلعا ... إلّا ارتداد الطّرف حتّى يأفلا إنّ الفجيعة بالرّياض نواضرا ... لأجلّ منها بالرّياض ذوابلا لهفي على تلك الشّواهد فيهما ... لو أخّرت حتّى تكون شمائلا إنّ الهلال إذا رأيت نموّه ... أيقنت أن سيكون بدرا كاملا قل للأمير وإن لقيت موقرا ... منه يريب الحادثات حلاحلا إن ترز في طرفي نهار واحد ... رزأين هاجا لوعة وبلابلا

فالثقل ليس مضاعفا لمطيّة ... إلّا إذا ما كان وهما بازلا لا غرو إن فننان من عيدانه ... لقيا حماما للبريّة آكلا «1» إنّ الأشاء إذا أصاب مشذّب ... منه اتمهلّ ذرا وأثّ أسافلا شمخت خلالك أن يواسيك امرؤ ... أو أن تذكّر ناسيا أو غافلا إلّا مواعظ قادها لك سمحة ... إسجاح لبّك سامعا أو قائلا هل تكلف الأيدي بهزّ مهنّد ... إلّا إذا كان الحسام القاصلا وقال أبو الطيب في مرثية بطفل صغير: فإن تك في قبر فإنّك في الحشا ... وإن تك طفلا فالأسى ليس بالطّفل ومثلك لا يبكى على قدر سنّه ... ولكن على قدر الفراسة والأصل ألست من القوم الّذي من رماحهم ... نداهم ومن قتلاهم مهجة البخل بمولودهم صمت اللّسان كغيره ... ولكنّ في أعطافه منطق الفصل تسلّيهم علياؤهم عن مصابهم ... ويشغلهم كسب الثّناء عن الشّغل عزاءك سيف الدّولة المقتدى به ... فإنّك نصل والشّدائد للنّصل تخون المنايا عهده في سليله ... وتنصره بين الفوارس والرّجل بنفسي وليد عاد من بعد حمله ... إلى بطن أمّ لا تطرّق بالحمل بدا وله وعد السّحابة بالرّوى ... وصدّ وفينا غلّة البلد المحل وقد مدّت الخيل العتاق عيونها ... إلى وقت تبديل الرّكاب من النّعل وريع له جيش العدوّ وما مشى ... وجاشت له الحرب الضّروس وما تغلي فتأمل أيها الناظم إلى ما صنع هذان الشاعران في هذا المقصد الواحد، وكيف هام كل واحد منهما في واد منه، مع اتفاقهما في بعض معانيه؟.

وسأبين لك ما اتفقا فيه، وما اختلفا، وأذكر الفاضل من المفضول، فأقول: أما الذي اتفقا فيه فإن أبا تمام قال: لهفي على تلك الشّواهد فيهما ... لو أخّرت حتّى تكون شمائلا وأما أبو الطيب فإنه قال: بمولودهم صمت اللّسان كغيره ... ولكنّ في أعطافه منطق الفضل فأتى بالمعنى الذي أتى به أبو تمام، وزاد عليه بالصناعة اللفظية، وهي المطابقة في قوله «صمت اللسان» و «منطق الفصل» . وقال أبو تمام: نجمان شاء الله ألّا يطلعا ... إلّا ارتداد الطّرف حتّى يأفلا وقال أبو الطيب: بدا وله وعد السّحابة بالرّوى ... وصدّ وفينا غلّة البلد المحل فوافقه في المعنى، وزاد عليه بقوله: وصدّ فينا غلّة البلد المحل لأنه بين قدر حاجتهم إلى وجوده وانتفاعهم بحياته. وأما ما اختلفا فيه فإن أبا الطيب أشعر فيه من أبي تمام أيضا، وذاك أن معناه أمتن من معناه، ومبناه أحكم من مبناه، وربما أكبر هذا القول جماعة من المقلدين الذين يقفون مع شبهة الزمان وقدمه، لا مع فضيلة القول وتقدمه، وأبو تمام وإن كان أشعر عندي من أبي الطيب فإن أبا الطيب أشهر منه في هذا الموضع؛ وبيان ذلك أنه قد تقدّم القول على ما اتفقا فيه من المعنى، وأما الذي اختلفا فيه فإن أبا الطيب قال: عزاءك سيف الدّولة المقتدى به ... فإنّك نصل والشّدائد للنّصل

وهذا البيت بمفرده خير من بيتي أبي تمام اللذين هما: إن ترز في طرفي نهار واحد ... رزأين هاجا لوعة وبلا بلا فالثقل ليس مضاعفا لمطيّة ... إلّا إذا ما كان وهما بازلا فإن قول أبي الطيب «والشدائد للنصل» أكرم لفظا ومعنى من قول أبي تمام: إن الثقل إنما يضاعف من المطايا، وقوله أيضا: تخون المنايا عهده في سليله ... وتنصره بين الفوارس والرّجل وهذا أشرف من بيتي أبي تمام اللذين هما: لا غرو إن فننان من عيدانه ... لقيا حماما للبريّة آكلا إنّ الأشاء إذا أصاب مشذّب ... منه اتمهلّ ذرا وأثّ أسافلا وكذلك قال أبو الطيب: ألست من القوم الّذي من رماحهم ... نداهم ومن قتلاهم مهجة البخل تسلّيهم علياؤهم عن مصابهم ... ويشغلهم كسب الثّناء عن الشغل وهذان البيتان خير من بيتي أبي تمام اللذان هما: شمخت خلالك أن يواسيك امرؤ ... أو أن تذكّر ناسيا أو غافلا إلّا مواعظ قادها لك سمحة ... إسجاح لبّك سامعا أو قائلا واعلم أن التفضيل بين المعنيين المتفقين أيسر خطبا من التفضيل بين المعنيين المختلفين. وقد ذهب قوم إلى منع المفاضلة بين المعنيين المختلفين، واحتجوا على ذلك بأن قالوا: المفاضلة بين الكلامين لا تكون إلا باشتراكهما في المعنى؛ فإن اعتبار التأليف في نظم الألفاظ لا يكون إلا باعتبار المعاني المندرجة تحتها؛ فما لم يكن بين الكلامين اشتراك في المعنى حتى يعلم مواقع النظم في قوة ذلك المعنى

أو ضعفه واتّساق ذلك اللفظ أو اضطرابه، وإلّا فكلّ كلام له تأليف يخصه بحسب المعنى المندرج تحته، وهذا مثل قولنا: العسل أحلى من الخل؛ فإنه ليس في الخل حلاوة حتى تقاس حلاوة العسل عليها. وهذا القول فاسد؛ فإنه لو كان ما ذهب إليه هؤلاء من منع المفاضلة حقا لوجب أن تسقط التفرقة بين جيد الكلام ورديئه وحسنه وقبيحه، وهذا محال، وإنما خفي عليهم ذلك لأنهم لم ينظروا إلى الأصل الذي تقع المفاضلة فيه، سواء اتفقت المعاني أو اختلفت، ومن ههنا وقع لهم الغلط. وسأبين ذلك فأقول: من المعلوم أن الكلام لا يختص بمزية من الحسن حتى تتصف ألفاظه ومعانيه بوصفين هما الفصاحة والبلاغة، فثبت بهذا أن النظر إنما هو في هذين الوصفين اللذين هما الأصل في المفاضلة بين الألفاظ والمعاني على اتفاقهما واختلافهما؛ فمتى وجدا في أحد الكلامين دون الآخر أو كانا أخص به من الآخر حكم له بالفضل. وقرأت في كتاب الأغاني لأبي الفرج في تفضيل الشعر أشياء تتضمن خبطا كثيرا، وهو مروي عن علماء العربية، لكن عذرتهم في ذلك؛ فإن معرفة الفصاحة والبلاغة شيء خلاف معرفة النحو والإعراب. فمما وقفت عليه أنه سئل أبو عمرو بن العلاء عن الأخطل فقال: لو أدرك يوما واحدا من الجاهلية ما قدمت عليه أحدا. وهذا تفضيل بالأعصار، لا بالأشعار، وفيه ما فيه، ولو [لا] أن أبا عمرو عندي بالمكان العلى لبسطت لساني في هذا الموضع. وسئل جرير عن نفسه وعن الفرزدق والأخطل، فقال: أما الفرزدق ففي يده نبعة من الشعر وهو قابض عليها، وأما الأخطل فأشدّنا اجتراء وأرمانا للقرائض، وأما أنا فمدينة الشعر. وهذا القول في التفضيل قول إقناعيّ لا يحصل منه على تحقيق، لكنه أقرب حالا مما روي عن أبي عمرو بن العلاء. وسئل الأخطل عن أشعر الناس، فقال: الذي إذا مدح رفع، وإذا هجا وضع، فقيل: فمن ذاك؟ قال: الأعشى، قيل: ثم من؟ قال: طرفة. وهذا قول فيه بعض

التحقيق؛ إذ ليس كل من رفع بمدحه ووضع بهجائه كان أشعر الناس؛ لأن المعاني الشعرية كثيرة والمدح والهجاء منها. وسئل الشريف الرضي عن أبي تمام وعن البحتري وعن أبي الطيب، فقال: أما أبو تمام فخطيب منبر، وأما البحتري فواصف جؤذر، وأما المتنبي فقاتل عسكر، وهذا كلام حسن واقع في موقعه؛ فإنه وصف كلا منهم بما فيه من غير تفضيل. ويروى عن بشار أنه وصف نفسه بجودة الشعر والتقدم على غيره، فقيل له: ولم ذاك؟ فقال: لأني نظمت اثني عشر ألف قصيدة وما تخلو واحدة منهن من بيت واحد جيد، فيكون لي حينئذ اثنا عشر ألف بيت؛ وقد تأملت هذا القول فوجدته على بشار لا له؛ لأن باقلا الذي يضرب به المثل في العي لو نظم قصيدا لما خلا من بيت واحد جيد، ومن الذي ينظم قصيدا واحدا من الشعر ولا يسلم له منه بيت واحد؟! لكن كان الأولى ببشار أن قال: لي اثنتا عشرة ألف قصيدة ليس واحدة منهن إلا وجيدها أكثر من رديئها، وليس في واحدة منهم ما يسقط؛ فإنه لو قال ذلك وكان محقا لاستحق التقدم على الشعراء، ومع هذا فقد وصل إليّ ما في أيدي الناس من شعره مقصّدا ومقطّعا فما وجدته بتلك الغاية التي ادعاها، لكن وجدت جيده قليلا بالنسبة إلى رديئة، وتندر له الأبيات اليسيرة. وبلغني عن الأصمعي وأبي عبيد وغيرهما أنهم قالوا: هو أشعر الشعراء المحدثين قاطبة، وهم عندي معذورون؛ لأنهم ما وقفوا على معاني أبي تمام، ولا على معاني أبي الطيب، ولا وقفوا على ديباجة أبي عبادة البحتري، وهذا الموضع لا يستفتى فيه علماء العربية، وإنما يستفتى فيه كاتب بليغ، أو شاعر مفلق؛ فإنّ أهل كل علم أعلم به، وكما لا يسأل الفقيه عن مسألة حسابية فكذلك لا يسأل الحاسب عن مسألة فقهية، وكما لا يسأل أيضا النحوي عن مسألة طيبة فكذلك لا يسأل الطبيب عن مسألة نحوية، ولا يعلم كل علم إلا صاحبه الذي قلب ظهره لبطنه وبطنه لظهره. على أن علم البيان من الفصاحة والبلاغة محبوب إلى الناس قاطبة، ما من أحد إلّا ويحبّ أن يتكلم فيه، حتى إني رأيت أجلاف العامة ممن لم يخطّ بيده

ورأيت أغتام الأجناس ممن لا ينطق بالكلمة صحيحة، كلهم يخوض في فن الكتابة والشعر، ويأتون فيه بكل مضحكة، وهم يظنون أنهم عالمون به، ولا لوم عليهم فإنه بلغني عن ابن الأعرابي وكان من مشاهير العلماء- أنه عرض عليه أرجوزة أبي تمام اللامية التي مطلعها: وعاذل عذلته؟ في عذله وقيل له: هذه لفلان، من شعراء العرب، فاستحسنها غاية الاستحسان، وقال: هذا هو الديباج الخسرواني، ثم استكتبها، فلما أنهاها قيل له: هذه لأبي تمام؛ فقال: من أجل ذلك أرى عليها أثر الكلفة، ثم ألقى الورقة من يده، وقال: يا غلام، خرّق، فإذا كان ابن الأعرابي مع علمه وفضله لا يدري أيّ طرفيه أطول في هذا الفن ولا يعلم أين يضع يده فيه ويبلغ به الجهل إلى أن يقف مع التقليد الشنيع الذي هذا غايته فما الذي يقول غيره؟! وما الذي يتكلم فيه سواه؟! والمذهب عندي في تفضيل الشعراء أن الفرزدق وجريرا والأخطل أشعر العرب أولا وآخرا، ومن وقف على الأشعار ووقف على دواوين هؤلاء الثلاثة علم ما أشرت اليه، ولا ينبغي أن يوقف مع شعر امريء القيس وزهير والنابغة والأعشى؛ فإن كلا من أولئك أجاد في معنى اختص به، حتى قيل في وصفهم: امرؤ القيس إذا ركب، والنابغة إذا رهب، وزهير إذا رغب، والأعشى إذا شرب؛ وأما الفرزدق وجرير والأخطل فإنهم أجادوا في كل ما أتوا من المعاني المختلفة، وأشعر منهم عندي الثلاثة المتأخرون، وهم: أبو تمام، وأبو عبادة البحتري، وأبو الطيب المتنبي؛ فإن هؤلاء الثلاثة لا يدانيهم مدان في طبقة الشعراء، أما أبو تمام وأبو الطيب فربّا المعاني، وأمّا أبو عبادة فربّ الألفاظ في ديباجتها وسبكها. وبلغني أن أبا عبادة البحتري سأل ولده أبا الغوث عن الفرزدق وجرير أيهما أشعر، فقال: جرير أشعر، قال: وبم ذلك؟ قال: لأن حوكه شبيه بحوكك، قال: ثكلتك أمك! أو في الحكم عصبية؟ قال: يا أبت، فمن أشعر؟ قال: الفرزدق، قال: وبم ذاك؟ قال: لأن أهاجي جرير كلها تدور على أربعة أشياء: هي القين، والزنا، وضرب الرومي بالسيف، والنفي من المسجد، ولا يهجو الفرزدق بسوى

ذلك، وأما الفرزدق فإنه يهجو جريرا بأنحاء مختلفة ففي كل قصيد يرميه بسهام غير السهام التي يرميه بها في القصيد الآخر؛ وأنا أستكذب راوي هذه الحكاية، ولا أصدقه؛ فإن البحتري عندي ألبّ من ذلك، وهو عارف بأسرار الكلام، خبير بأوساطه وأطرافه، وجيده ورديئه، وكيف يدعي على جرير أنه لم يهج الفرزدق إلا بتلك المعاني الأربعة التي ذكرها وهو القائل: لمّا وضعت على الفرزدق ميسمي ... وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل «1» فجمع بين هجاء هؤلاء الثلاثة في بيت واحد. ولقد تأملت كتاب النقائض فوجدت جريرا ربّ تغزل ومديح وهجاء وافتخار، وقد كسا كل معنى من هذه المعاني ألفاظا لائقة به ويكفيه من ذلك قوله: وعاو عوى من غير شيء رميته ... بقافية أنفاذها تقطر الدّما «2» وإنّي لقوّال لكلّ غريبة ... ورود إذا السّاري بليل ترنّما خروج بأفواه الرّواة كأنّها ... شبا هندوانيّ إذا هزّ صمّما «3» غرائب آلاف إذا حان وردها ... أخذن طريقا للقصائد معلما ولو لم يكن لجرير سوى هذه الأبيات لتقدم بها الشعراء. وسأذكر من هجاء الفرزدق ما ليس فيه شيء من تلك المعاني الأربعة التي أشار البحتري إليها؛ فمن ذلك قوله: وقد زعموا أنّ الفرزدق حيّة ... وما قتل الحيّات من أحد قبلي

ألم تر أنّي لا أنبّل رميتي ... فمن أرم لا تخطيء مقاتله نبلي «1» رأيتك لا تحمي عقالا ولم ترد ... قتالا فما لاقيت شرّ من القتل «2» وقوله: أبلغ هديّتي الفرزدق إنّها ... عبء تزاد على حسير مثقل «3» إنّي انصببت من السّماء عليكم ... حتّى اختطفتك يا فرزدق من عل وقوله: زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا ... أبشر بطول سلامة يا مربع ورأيت نبلك يا فرزدق قصّرت ... ورأيت قوسك ليس فيها منزع إنّ الفرزدق قد تبيّن لؤمه ... حيث التقت خششاؤه والأخدع وقوله: أحارث؛ خذ من شئت منّا ومنهم ... ودعنا نقس مجدا تعدّ فضائله «4» لبست سلاجي والفرزدق لعبة ... عليه وشاحا كرّج وجلاجله فلست بذي عزّ ولا ذي أرومة ... وما تعط من ضيم فإنّك قابله وقوله: لا يخفينّ عليك أنّ مجاشعا ... لو ينفخون من الخؤرة طاروا قد يؤسرون فلا يفكّ أسيرهم ... ويقتّلون فتسلم الآثار

وقوله: بني مالك؛ إنّ الفرزدق لم يزل ... يلقّي المخازي من لدن أن تيفّعا «1» مددت له الغايات حتّى تركته ... قعود القوافي ذا علوب موقّعا «2» وقوله: ألا إنّما كان الفرزدق ثعلبا ... ضغا وهو في أشداق ليث ضبارم «3» وقوله: مهلا فرزدق إنّ قومك فيهم ... خور القلوب وخفّة الأحلام «4» الظّاعنون على العمى بجميعهم ... والنّازلون بشرّ دار مقام وقوله: إذا سفرت يوما نساء مجاشع ... بدت سوأة ممّا تجنّ البراقع مباشيم عن غبّ الهرير كأنّما ... تصوّت في أعفاجهنّ الضّفادع رأت مللا مثل الفرزدق قصّرت ... عن العلو لا يأبى عن العلو بارع أتعدل أحسابا كراما حماتها ... بأحسابكم إنّي إلى الله راجع إذا قيل أيّ النّاس شرّ قبيلة ... وأعظم عارا قيل تلك مجاشع

وقوله: علق الأخيطل في حبالي بعد ما ... عثر الفرزدق؛ لا لعا للعاثر! لقي الفرزدق ما لقيت وقبله ... طاح التّعيس بغير عرض وافر وإذا رجوا أن ينقضوا لي مرّة ... مرست قواي عليهم ومرائري ولجرير مواضع كثيرة في هجاء الفرزدق غير هذه؛ ولولا خوف الإطالة لاستقصيتها جميعها، ولو سلمت إلى البحتري ما زعم من أن جريرا ليس له في هجاء الفرزدق إلا تلك المعاني الأربعة لاعترضت عليه بأنه قد أقرّ لجرير بالفضيلة، وذاك أن الشاعر المفلق أو الكاتب البليغ هو الذي إذا أخذ معنى واحد تصرّف فيه بوجوه التصرفات، وأخرجه في ضروب الأساليب، وكذلك فعل جرير؛ فإنه أبرز من هجاء الفرزدق بالقين كلّ غريبة، وتصرف فيه تصرّفا مختلف الأنحاء؛ فمن ذلك قوله: ألهى أباك عن المكارم والعلا ... ليّ الكتائف وارتفاع المرجل قوله: وجد الكتيف ذخيرة في قبره ... والكلبتان جمعن والمنشار «1» يبكي صداه إذا تصدّع مرجل ... أو إن تفلّق برمة أعشار قال الفرزدق رقّعي أكيارنا ... قالت وكيف ترقّع الأكيار وقوله: إذا آباؤنا وأبوك عدّوا ... أبان المقرفات من العراب «2»

فأورثك العلاة وأورثوني ... رباط الخيل أفنية القباب وسيف أبي الفرزدق فاعلموه ... قدوم غير ثابتة النّصاب فانظر أيها الواقف على كتابي هذا إلى هذه الأساليب التي تصرّف فيها جرير وأدارها على هجاء الفرزدق بالقين؛ فقال أولا: إن أباه شغل عن المكارم بصناعة القيون، ثم قال ثانيا: إنه يبكي عليه ويندبه بعد الموت المرجل والبرمة الأعشار التي يصلحها، ثم قال ثالثا: إن أباك أورثك آلة القيون، وأورثني أبي رباط الخيل؛ وقد أورد جرير هذا المعنى على غير هذه الأساليب الذي ذكرتها، ولا حاجة إلى التطويل بذلك ههنا، وهذا القدر فيه كفاية. وحيث انتهى بنا القول إلى ههنا فلنرجع إلى النوع الذي نحن بصدد ذكره، وهو اتحاد الطريق واختلاف المقصد؛ فمما جاء منه قول النابغة: إذا ما غزا بالجيش حلّق فوقه ... عصائب طير تهتدي بعصائب جوانح قد أيقنّ أنّ قبيله ... إذا ما التقى الجمعان أوّل غالب وهذا المعنى قد توارد عليه الشعراء قديما وحديثا، وأوردوه بصروب من العبارات؛ فقال أبو نواس: تتمنّى الطّير غزوته ... ثقة بالّلحم من جزره وقال مسلم بن الوليد: قد عوّد الطّير عادات وثقن بها ... فهنّ يتبعنه في كلّ مرتحل وقال أبو تمام: وقد ظلّلت أعناق أعلامه ضحى ... بعقبان طير في الدّماء نواهل أقامت مع الرّايات حتّى كأنّها ... من الجيش إلّا أنّها لم تقاتل وقد ذكر في هذا المعنى غير هؤلاء، إلا أنهم جاءوا بشيء واحد لا تفاضل بينهم

فيه، إلا من جهة حسن السبك، أو من جهة الإيجاز في اللفظ، ولم أر أحدا أغرب في هذا المعنى فسلك هذه الطريق مع اختلاف مقصده إليها إلا مسلم بن الوليد، فقال: أشربت أرواح العدا وقلوبها ... خوفا فأنفسها إليك تطير لو حاكمتك فطالبتك بذحلها ... شهدت عليك ثعالب ونسور فهذا من المليح البديع الذي فضل به مسلم غيره في هذا المعنى؛ وكذلك فعل أبو الطيب المتنبي؛ فإنه لما انتهى الأمر إليه سلك هذه الطريق التي سلكها من تقدّمه «1» ، إلا أنه خرج فيها إلى غير المقصد الذي قصدوه، فأغرب وأبدع، وحاز الإحسان بجملته، وصار كأنه مبتدع لهذا المعنى دون غيره، فمما جاء من قوله: يفدّي أتمّ الطّير عمرا سلاحه ... نسور الملا أحداثها والقشاعم وما ضرّها خلق بغير مخالب ... وقد خلقت أسيافه والقوائم ثم أورد هذا المعنى في موضع آخر من شعره؛ فقال: سحاب من العقبان ترجف تحتها ... سحاب إذا استسقت سقتها صوارمه وهذا معنى قد حوى طرفي الإغراب والإعجاب؛ وقال في موضع آخر: وذي لجب لا ذو الجناح أمامه ... بناج ولا الوحش المثار بسالم تمرّ عليه الشّمس وهي ضعيفة ... تطالعه من بين ريش القشاعم إذا ضوؤها لاقى من الطّير فرجة ... تدوّر فوق البيض مثل الدّراهم وهذا من إعجاز أبي الطيب المشهور، ولو لم يكن له من الإحسان في شعره إلا هذه الأبيات لاستحق بها فضيلة التقدم. ومما ينتظم بهذا النوع ما توارد عليه أبو عبادة البحتري وأبو الطيب المتنبي في وصف الأسد، وقصيدتاهما مشهورتان؛ فأول إحداهما:

أجدّك ما ينفكّ يسري لزينبا «1» وأول الأخرى: في الخدّ إن عزم الخليط رحيلا «2» أما البحتري فإنه ألم بطرف مما ذكر بشر بن عوانة في أبياته الرائية التي أولها: أفاطم لو شهدت ببطن خبت ... وقد لاقى الهزبر أخاك بشرا وهذه الأبيات من النمط العالي الذي لم يأت أحد بمثلها، وكل الشعراء لم تسم قرائحهم إلى استخراج معنى ليس بمذكور فيها، ولولا خوف الإطالة لأوردتها بجملتها، لكن الغرض إنما هو المفاضلة بين البحتري وأبي الطيب فيما أورداه من المعاني في هذا المقصد المشار إليه. فمما جاء للبحتري من قصيدته: وما تنقم الحسّاد إلّا أصالة ... لديك وعزما أريحيّا مهذّبا «3» وقد جرّبوا بالأمس منك عزيمة ... فضلت بها السّيف الحسام المجرّبا «4» غداة لقيت اللّيث واللّيث مخدر ... يحدّد نابا للّقاء ومخلبا إذا شاء غادى عانة أو عدا على ... عقائل سرب أو تقنّص ربربا شهدت لقد أنصفته حين تنبري ... له مصلتا عضبا من البيض مقضبا

فلم أر ضرغامين أصدق منكما ... عراكا إدا الهيّابة النّكس كذّبا زبرا مشى يبغي هزبرا وأغلبا ... من القوم يغشى باسل الوجه أغلبا أدلّ بشغب ثمّ هالته صولة ... رآك لها أمضى جنانا وأشغبا فأحجم لمّا لم يجد فيك مطمعا ... وأقدم لمّا لم يجد عنك مهربا فلم يثنه أن كرّ نحوك مقبلا ... ولم ينجه أن حاد عنك منكّبا حملت عليه السّيف لا عزمك انثنى ... ولا يدك ارتدّت ولا حدّه نبا ومما جاء لأبي الطيب المتنبي في قصيدته: أمعفّر الّليث الهزبر بسوطه ... لمن ادّخرت الصّارم المصقولا ورد إذا ورد البحيرة شاربا ... ورد الفرات زئيره والنّيلا متخضّب بدم الفوارس لابس ... في غيله من لبدتيه غيلا ما قوبلت عيناه إلّا ظنّتا ... تحت الدّجى نار الفريق حلولا في وحدة الرّهبان إلّا أنّه ... لا يعرف التّحريم والتّحليلا يطأ البرى مترفّقا من تيهه ... فكأنّه آس يجسّ عليلا ويردّ غفرته إلى يافوخه ... حتّى تصير لرأسه إكليلا قصرت مخافته الخطا فكأنّما ... ركب الكميّ جواده مشكولا ألقى فريسته وزمجر دونها ... وقربت قربا خاله تطفيلا فتشابه القربان في إقدامه ... وتخالفا في بذلك المأكولا أسد يرى عضويه فيك كليهما ... متنا أزلّ وساعدا مفتولا ما زال يجمع نفسه في زوره ... حتّى حسبت العرض منه الطّولا وكأنّما غرّته عين فادّنى ... لا يبصر الخطب الجليل جليلا أنف الكريم من الدّنيّة تارك ... في عينه العدد الكثير قليلا والعار مضّاض وليس بخائف ... من حتفه من خاف ممّا قيلا

خذلته قوّته وقد كافحته ... فاستنصر التّسليم والتّجديلا سمع ابن عمّته به وبحاله ... فمضى يهرول أمس منك مهولا وأمرّ ممّا فرّ منه فراره ... وكقتله ألّا يموت قتيلا تلف الّذي اتّخذ الجراءة خلّة ... وعظ الّذي اتّخذ الفرار خليلا وسأحكم بين هاتين القصيدتين، والذي يشهد به الحق وتتقيه العصبية أذكره، وهو أن معاني أبي الطيب أكثر عددا، وأسدّ مقصدا، ألا ترى أن البحتري قد قصر مجموع قصيدته على وصف شجاعة الممدوح: في تشبيهه بالأسد مرة، وتفضيله عليه أخرى، ولم يأت بشيء سوى ذلك، وأما أبو الطيب فإنه أتى بذلك في بيت واحد، وهو قوله: أمعفّر الّليث الهزبر بسوطه ... لمن ادّخرت الصّارم المصقولا ثم إنه تفنن في ذكر الأسد؛ فوصف صورته وهيئته، ووصف أحواله في انفراده في جنسه وفي هيئة مشيه واختياله، ووصف خلق نجله مع شجاعته، وشبه الممدوح به في الشجاعة، وفضّله عليه بالسخاء، ثم إنه عطف بعد ذلك على ذكر الأنفة والحمية التي بعثت الأسد على قتل نفسه بلقاء الممدوح، وأخرج ذلك في أحسن مخرج، وأبرزه في أشرف معنى، وإذا تأمل العارف بهذه الصناعة أبيات الرجلين عرف ببديهة النظر ما أشرت إليه، والبحتري وإن كان أفضل من المتنبي في صوغ الألفاظ وطلاوة السبك فالمتنبي أفضل منه في الغوص على المعاني، ومما يدلك على ذلك أنه لم يعرض لما ذكره في أبياته الرائية لعلمه أن بشرا قد ملك رقاب تلك المعاني واستحوذ عليها، ولم يترك لغيره شيئا يقوله فيها، ولفطانة أبي الطيب لم يقع فيما وقع فيه البحتري من الانسحاب على ذيل بشر؛ لأنه قصر عنه تقصيرا كثيرا، ولما كان الأمر كذلك عدل أبو الطيب عن سلوك الطريق وسلك غيرها، فجاء فيما أورد مبرزا. واعلم أن من أبين البيان في المفاضلة بين أرباب النظم والنثر أن يتوارد اثنان منهما على مقصد من المقاصد يشتمل على عدة معان؛ كتوارد البحتري والمتنبي

ههنا على وصف الأسد، وهذا أبين في المفاضلة من التوارد على معنى واحد يصوغه هذا في بيت من الشعر وفي بيتين ويصوغه الآخر في مثل ذلك؛ فإن بعد المدى يظهر ما في السوابق من الجواهر، وعنده يتبين ربح الرابح وخسر الخاسر. فإذا شئت أن تعلم فضل ما بين هذين الرجلين فانظر إلى قصيدتهما في مراثي النساء التي مفتتح إحداهما. يا أخت خير أخ يا بنت خير أب ... كناية عن أكرم العرب «1» وهي لأبي الطيب، ومفتتح الأخرى: غروب دمع من الأجفان ينهمل ... وحرقة بغليل الحزن تشتعل وهي للبحتري؛ فإن أبا الطيب انفرد بابتداع ما أتى به من معاني قصيدته، والبحتري أتى بما أكثره غث بارد، والمتوسط منه لا فرق فيه بين رثاء امرأة أو رجل. ومن الواجب أنه إذا سلك الناظم أو الناثر مسلكا في غرض من الأغراض ألّا يخرج عنه، كالذي سلكه هذان الرجلان في الرثاء بامرأة، فإن من حذاقة الصنعة أن يذكر ما يليق بالمرأة دون الرجل، وهذا الموضع لم يأت فيه أحد بما يثبت على المحكّ إلا أبو الطيب وحده، وأما غيره من مفلقي الشعراء قديما وحديثا فإنهم قصروا عنه. وله في هذا المعنى قصيدة أخرى مفتتحها: نعدّ المشرفيّة والعوالي ... وتقتلنا المنون بلا قتال وكفى بهما شاهدا على ما ذكرته من انفراده بالإبداع فيما أتى به، والفتيا عندي بينه وبين البحتري أن أبا الطيب أنفذ في المضيق، وأعرف باستخراج المعنى الدقيق، وأما البحتري فإنه أعرف بصوغ الألفاظ، وحوك ديباجتها، وقد قدمت أن الحكم بين

وأما المسخ فهو: قلب الصورة الحسنة إلى صورة قبيحة.

الشاعرين في اتفاقهما في المعنى أبين من الحكم بينهما فيما اختلفا فيه؛ لأنهما مع الاتفاق في المعنى يتبين قولاهما، ويظهران ظهورا يعلم ببديهة النظر ويتسارع إليه فهم من ليس بثاقب الفهم، وأما اختلافهما في المعنى فإنه يحتاج في الحكم بينهما فيه إلى كلام طويل يعز فهمه، ولا يتفطن له إلا بعض الناس دون بعض، بل لا يتفطن له إلا الفذّ الواحد من الناس، ولي في هذا مقالة مفردة ضمنتها الحكم بين المعنيين المختلفين، وتكلمت عليه كلاما طويلا عريضا، وأقمت الدليل على ما نصصت عليه، وما منعني من إيرادها في كتابي هذا إلا أنها سنحت لي بعد تصنيفه وشياعه في أيدي الناس، وتناقل النسخ به. وعلى هذا الأسلوب توارد البحتري والشريف الرضي على ذكر الذئب في قصيدة للبحتري دالية أولها: سلام عليكم لا وفاء ولا عهد ومقطوعة للشريف الرضي أولها: وعاري الشّوى والمنكبين من الطّوى ... أتيح له بالّليل عاري الأشاجع وقد أجاد البحتري في وصف حاله مع الذئب، والشريف أجاد في وصف الذئب نفسه. وأما المسخ فهو: قلب الصورة الحسنة إلى صورة قبيحة. والقسمة تقتضي أن يقرن إليه صده، وهو قلب الصورة القبيحة إلى صورة حسنة. فالأول كقول أبي تمام: فتى لا يرى أنّ الفريصة مقتل ... ولكن يرى أنّ العيوب مقاتل وقول أبي الطيب المتنبي: يرى أنّ ما مابان منك لضارب ... بأقتل ممّا بان منك لعائب

فهو وإن لم يشوه المعنى فقد شوّه الصورة؛ ومثاله في ذلك كمن أودع الوشي شملا، وأعطى الورد جعلا، وهذا من أرذل السرقات، وعلى نحو منه جاء قول عبد السلام بن رغبان: نحن نعزّيك ومنك الهدى ... مستخرج والصّبر مستقبل قول بالعقل وأنت الّذي ... نأوي إليه وبه نعقل إذا عفا عنك وأودى بنا ... الدّهر فذاك المحسن المجمل أخذه أبو الطيب فقلب أعلاه أسفله، فقال: إن يكن صبر ذي الرّزيّة فضلا ... فكن الأفضل الأعزّ الأجلّا أنت يا فوق أن تعزّى عن الأح ... باب فوق الّذي يعزّيك عقلا وبألفاظك اهتدى فإذا عزّ ... اك قال الّذي له قلت قبلا والبيت الأخير من هذه الأبيات هو الآخر قدرا، وهو المخصوص بالمسخ. وأما قلب الصورة القبيحة إلى صورة حسنة فهذا لا يسمى سرقة، بل يسمى إصلاحا وتهذيبا. فمن ذلك قول أبي الطيب المتنبي: لو كان ما تعطيهم من قبل أن ... تعطيهم لم يعرفوا التّأميلا وقول ابن نباتة السعدي: لم يبق جودك لي شيئا أؤمّله ... تركتني أصحب الدّنيا بلا أمل وعلى هذا النحو ورد قول أبي نواس في أرجوزة يصف فيها اللعب بالكرة والصولجان فقال من جملتها: جنّ على جنّ وإن كانوا بشر ... كأنّما خيطوا عليها بالإبر ثم جاء المتنبي فقال:

فكأنّها نتجت قياما تحتهم ... وكأنّهم ولدوا على صهواتها وبين القولين كما بين السماء والأرض؛ فإنه يقال: ليس للأرض إلى السماء نسبة محسوسة، وكذلك يقال ههنا أيضا؛ فإن بقدر ما في قول أبي نواس من النزول والضعف، فكذلك في قول أبي الطيب من العلو والقوة. وربما ظن بعض الجهال أن قول الشماخ: إذا بلّغتني وحملت رحلي ... عرابة فاشرقي بدم الوتين وقول أبي نواس: وإذا المطيّ بنا بلغن محمّدا ... فظهورهنّ على الرّجال حرام من هذا القبيل الذي هو قلب الصورة القبيحة إلى صورة حسنة، وليس كذلك؛ فإن قلب الصورة القبيحة إلى صورة حسنة هو أن يؤخذ المعنى الواحد فيكسى عبارتين إحداهما قبيحة والأخرى حسنة؛ فالحسن والقبح إنما يرجع إلى التعبير، لا إلى المعنى نفسه، وقول أبي نواس هو عكس قول الشماخ، وقد تقدم مثل ذلك فيما مضى من ضروب السرقات؛ ألا ترى الى قول أبي الطيب المتنبي وقول الشريف الرضي؛ فقال أبو الطيب: إنّي على شغفي بما في خمرها ... لأعفّ عمّا في سراويلاتها وقول الشريف الرضي: أحنّ إلي ما تضمن الخمر والحلى ... وأصدف عمّا في ضمان المآزر فالمعنى واحد، والعبارة مختلفة في الحسن والقبح. وهذه السرقات- وهي ستة عشر نوعا- لا يكاد يخرج عنها شيء، وإذا أنصف الناظر في الذي أتيت به ههنا علم أني قد ذكرت ما لم يذكره غيري، وأنا أسأل الله التوفيق لأن أكون لفضله شكورا، وألا أكون مختالا فخورا. وإذ فرغت من تصنيف هذا الكتاب، وحررت القول في تفصيل أقسام

الفصاحة والبلاغة والكشف عن دقائقهما وحقائقهما، فينبغي أن أختمه بذكر فضليهما؛ فأقول: اعلم أن هذا الفن هو أشرف الفضائل، وأعلاها درجة، ولولا ذلك لما فخر به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في عدة مواقف، فقال تارة: «أنا أفصح من نطق بالضّاد» ، وقال تارة: «أعطيت خمسا لم يعطهنّ أحد قبلي: كان كلّ نبيّ يبعث في قومه بعثت إلى كلّ أحمر وأسود، وأحلّت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طيّبة وطهورا، ونصرت بالرّعب بين يدي مسيرة شهر، وأوتيت جوامع الكلم» ؛ وما سمع بأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم افتخر بشيء من العلوم سوى علم الفصاحة والبلاغة، فلم يقل إنه أفقه الناس، ولا أعلم الناس بالحساب، ولا بالطب، ولا بغير ذلك، كما قال: «أنا أفصح من نطق بالضاد» . وأيضا فلو لم تكن هذه الفضيلة من أعلى الفضائل درجة لما اتصل الإعجاز بها دون غيرها؛ فإن كتاب الله تعالى نزل عليها، ولم ينزل بمعجز من مسائل الفقه، ولا من مسائل الحساب، ولا من مسائل الطب، ولا غير ذلك من العلوم. ولما كانت هذه الفضيلة بهذه المكانة صارت في الدرجة العالية، والمنثور منها أشرف من المنظوم؛ لأسباب: من جملتها أن الإعجاز لم يتصل بالمنظوم، وإنما اتصل بالمنثور؛ الآخر: أن أسباب النظم أكثر، ولهذا نجد المجيدين منهم أكثر من المجيدين من الكتاب، بل لا نسبة لهؤلاء إلى هؤلاء، ولو شئت أن تحصي أرباب الكتابة من أول الدولة الإسلامية إلى الآن لما وجدت منهم ممن يستحق اسم الكاتب عشرة، وإذا أحصيت الشعراء في تلك المدة وجدتهم عددا كثيرا، حتى لقد كان يجتمع منهم في العصر الواحد جماعة كثيرة كل منهم شاعر مفلق، وهذا لا نجده في الكتاب، بل ربما ندر الفرد الواحد في الزمن الطويل، وليس ذلك إلا لوعورة المسلك من النثر، وبعد مناله، والكاتب هو أحد دعامتي الدولة؛ فإن كل دولة لا تقوم إلا على دعا متين من السيف والقلم؛ وربما لا يفتقر الملك في ملكه إلى السيف إلا مرّة أو مرتين، وأما القلم فإنه يفتقر إليه على الأيام، وكثيرا ما يستغني به عن السيف، وإذا سئل عن الملوك الذين غبرت أيامهم لا يوجد منهم من

حسن اسمه من بعده، إلا من حظي بكاتب خطب عنه، وفخّم أمر دولته، وجعل ذكرها خالدا يتناقلة الناس، رغبة في فصل خطابه، واستحسانا لبداعة كلامه، فيكون ذكرها في خفارة ما دوّنه قلمه، ورقمته أساطيره، وليس الكاتب بكاتب حتى يضطر عدوّ الدولة أن يروي أخبار مناقبها في حفله، ويصبح ولسانه حامدا لمساعيها وبقلبه ما به من غله، ولقد أحسن أبو تمام في هذا المعنى حيث قال: سأجهد حتّى أبلغ الشّعر شأوه ... وإن كان طوعا لي ولست بجاهد فإن أنا لم يحمدك عنّي صاغرا ... عدوّك فاعلم أنّني غير حامد وهذا الذي ذكرته حق وصدق، لا ينكره إلا جاهل به، وأنا أسأل الله الزيادة من فضله، وإن لم أكن أهلا له فإنه هو من أهله. ووقفت على كلام لأبي إسحق الصابي في الفرق بين الكتابة والشعر، وهو جواب لسائل سأله؛ فقال: إن طريق الإحسان في منثور الكلام يخالف طريق الإحسان في منظومه، لأن الترسّل هو ما وضح معناه، وأعطاك سماعه في أول وهلة ما تضمنته ألفاظه، وأفخر الشعر ما غمض فلم يعطك غرضه إلا بعد مماطلة منه. ثم قال بعد ذلك: ولسائل أن يسأل فيقول: من أية جهة صار الأحسن في معنى الشعر الغموض، وفي معاني الترسّل الوضوح؛ فالجواب) أن الشعر بني على حدود مقررة، وأوزان مقدرة، وفصلت أبياته؛ فكان كل بيت منها قائما بذاته، وغير محتاج إلى غيره، إلا ما جاء على وجه التضمين، وهو عيب، فلما كان النّفس لا يمتد في البيت الواحد بأكثر من مقدار عروضه وضربه، وكلاهما قليل؛ احتيج إلى أن يكون الفصل في المعنى، فاعتمد أن يلطف ويدق، والترسّل مبنيّ على مخالفة هذه الطريق؛ إذ كان كلاما واحدا لا يتجزأ ولا يتفصل إلا فصولا طوالا، وهو موضوع وضع ما يهذهذ أو يمر به على أسماع شتى من خاصة ورعية، وذوي أفهام ذكية وأفهام غبية؛ فإذا كان متسلسلا ساغ فيها وقرب، فجميع ما يستحب في الأول يكره في الثاني، حتى إن التضمين عيب في الشعر، وهو فضيلة في الترسل. ثم قال بعد ذلك: والفرق بين المترسلين والشعراء أن الشعراء إنما أغراضهم

التي يرمون إليها وصف الديار والآثار، والحنين إلى الأهواء والأوطار، والتشبيب بالنساء، والطلب والاجتداء، والمديح والهجاء، وأما المترسلون فإنما يترسّلون في أمر سداد ثغر، وإصلاح فساد، أو تحريض على جهاد، أو احتجاج على فئة، أو مجادلة لمسألة، أو دعاء إلى ألفة، أو نهي عن فرقة، أو تهنئة بعطية، أو تعزية برزية، أو ما شاكل ذلك. هذا ما انتهى إليه كلام أبي إسحق في الفرق بين الترسل والشعر. ولقد عجبت من مثل ذلك الرجل الموصوف بذلاقة اللسان، وبلاغة البيان، كيف يصدر عنه مثل هذا القول الناكب عن الصواب الذي هو في باب ونصى النظر في باب؟ اللهم غفرا، وسأذكر ما عندي في ذلك، لا إرادة للطعن عليه، بل تحقيقا لمحل النزاع، فأقول: أما قوله «إن الترسل هو ما وضح معناه والشعر ما غمض معناه» فإن هذه دعوى لا مستند لها، بل الأحسن في الأمرين معا إنما هو الوضوح والبيان، على أن إطلاق القول على هذا الوجه من غير تقييد لا يدل على الغرض الصحيح، بل صواب القول في هذا أن يقال: كل كلام من منثور ومنظوم فينبغي أن تكون مفردات ألفاظه مفهومة؛ لأنها إن لم تكن مفهومة فلا تكون فصيحة، لكن إذا صارت مركبة نقلها التركيب عن تلك الحال في فهم معانيها؛ فمن المركب منها ما يفهمه الخاصة والعامة، ومنه ما لا يفهمه إلا الخاصة، وتتفاوت درجات فهمه، ويكفي من ذلك كتاب الله تعالى، وتتفاوت درجات فهمه، ويكفي من ذلك كتاب الله تعالى؛ فإنه أفصح الكلام، وقد خوطب به الناس كافة من خاص وعام، ومع هذا فمنه ما يتسارع الفهم إلى معانيه، ومنه يغمض فيعز فهمه، والألفاظ المفردة ينبغي أن تكون مفهومة، سواء كان الكلام نظما أو نثرا، وإذا تركبت فلا يلزم فيها ذلك، وقد تقدم في كتابى هذا أدلة كثيرة على هذا؛ فتؤخذ من مواضعها. وأما الجواب الذي أجاب به في الدلالة على غموض الشعر ووضوح الكلام المنثور فليس ذلك بجواب، وهب أن الشعر كان كل بيت منه قائما بذاته، فلم كان مع ذلك غامضا؟ وهب أن الكلام المنثور كان واحدا لا يتجزأ، فلم كان مع ذلك

واضحا؟ ثم لو سلمت إليه هذا، فماذا يقول في الكلام المسجوع الذي كل فقرة منه بمنزلة بيت من شعر؟ وأما قوله في الفرق بين الشاعر والكاتب «إن الشاعر من شأنه وصف الديار والآثار والحنين إلى الأهواء والأوطار والتشبيب بالنساء والطلب والاجتداء والمديح والهجاء، وإن الكاتب من شأنه الإفاضة في سداد ثغر أو إصلاح فساد أو تحريض على حياد أو احتجاج على فئة أو مجادلة لمسألة أو دعاء إلى ألفة أو نهي عن فرقة أو تهنئة بعطية أو تعزية برزية» فإن هذا تحكم محض لا يستند الى شبهة، فضلا عن بينة، وأي فرق بين الشاعر والكاتب في هذا المقام؟ فكما يصف الشاعر الديار والآثار، ويحنّ إلى الأهواء، فكذلك يكتب الكاتب في الاشتياق إلى الأوطان، ومنازل الأحباب والإخوان، ويحنّ إلى الأهواء والأوطار؛ ولهذا كانت الكتب الإخوانيات بمنزلة الغزل والنسيب من الشعر وكما يكتب الكاتب في إصلاح فساد، أو سداد ثغر، أو دعاء إلى ألفه، أو نهي عن فرقة، أو تهنئة، أو تعزية؛ فكذلك الشاعر؛ فإن شذ عن الصابي قصائد الشعراء في أمثال هذه المعاني فكيف خفي عنه قصيدة أبي تمام في استعطاف مالك بن طوق على قومه التي مطلعها: لو أنّ دهرا ردّ رجع جوابي «1» أم كيف أخلّ بالنظر في ديوان أبي الطيب المتنبي، وهما في زمن واحد، فما تأمّل قصيدته في الإصلاح بين كافور الإخشيدي وبين مولاه الذي مطلعها: حسم الصّلح ما اشتهته الأعادي «2» وكذلك لا شك أنه لم يقف على قصيدة أبي عبادة البحتري في غزو البحر التي مطلعها:

ألم تر تغليس الرّبيع المبكّر «1» ولو أخذت في تعداد قصائد الشعراء في الأغراض التي أشار إليها وخصّ بها الكاتب لأطلت وذكرت الكثير الذي يحتاج إلى أوراق كثيرة، وكل هذه الفروق التي نصّ عليها وعدّدها فليست بشيء، ولا فرق بين الكتابة والشعر فيها. والذي عندي في الفرق بينهما هو من ثلاثة أوجه: الأول: من جهة نظم أحدهما ونثر الآخر، وهذا فرق ظاهر. الثاني: أن من الألفاظ ما يعاب استعماله نثرا، ولا يعاب نظما، وذلك شيء استخرجته، ونبهت عليه في القسم الأول المختص باللفظة المفردة في المقالة الأولى من هذا الكتاب «2» ، وسأعيد ههنا منه شيئا؛ فأقول: قد ورد في شعر أبي تمام قوله: هي العرمس الوجناء وابن ملمّة ... وجأش على ما يحدث الدّهر خافض وكذلك ورد في شعر أبي الطيب المتنبي، كقوله: ومهمه جبته على قدمي ... تعجزعه العرامس الذّلل فلفظة المهمه والعرامس لا يعاب استعمالها في الشعر، ولو استعملا في كتاب أو خطبة كان استعمالها معيبا، وكذلك ما يشاكلهما ويناسبهما من الألفاظ؛ وكل ذلك قد ضبطته بضوابط وحددته بحدود تفصله من غيره من الألفاظ؛ فليؤخذ من المقالة الأولى، ولولا خوف التكرار لأعدته ههنا. الثالث: أن الشاعر إذا أراد أن يشرح أمورا متعددة ذوات معان مختلفة في شعره واحتاج إلى الإطالة بأن ينظم مائتي بيت أو ثلاثمائة أو أكثر من ذلك فإنه لا يجيد في الجميع، ولا في الكثير منه، بل يجيد في جزء قليل، والكثير من ذلك

رديء غير مرضيّ، والكاتب لا يؤتي من ذلك، بل يطيل في الكتاب الواحد إطالة واسعة تبلغ عشر طبقات من القراطيس، أو أكثر، وتكون مشتملة على ثلاثمائة سطر أو أربعمائة أو خمسمائة، وهو مجيد في ذلك كله، وهذا لا نزاع فيه؛ لأننا رأيناه، وسمعناه وقلناه. وعلى هذا فإني وجدت العجم يفضلون العرب في هذه النكتة المشار إليها؛ فإن شاعرهم يذكر كتابا مصنفا من أوله إلى آخره شعرا، وهو شرح قصص وأحوال، ويكون مع ذلك في غاية الفصاحة والبلاغة في لغة القوم، كما فعل الفردوسيّ في نظم الكتاب المعروف بشاه نامه، وهو ستون ألف بيت من الشعر، يشتمل على تاريخ الفرس، وهو قرآن القوم، وقد أجمع فصحاؤهم على أنه ليس في لغتهم أفصح منه، وهذا لا يوجد في اللغة العربية على اتساعها وتشعب فنونها وأغراضها، وعلى أن لغة العجم بالنسبة إليها كقطرة من بحر. اللهم صل على سيدنا محمد النبي الأمي وآله وصحبه الطيبين الطاهرين، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.

قد تم- بحمد الله تعالى، وحسن توفيقه- الجزء الثاني من كتاب: المثل السائر، في أدب الكاتب والشاعر الذي صنفه الوزير أبو الفتح نصر الله ضياء الدين المعروف بابن الأثير المتوفى في عام 637 من الهجرة

فهرس الأبواب الواردة في الجزء الثاني من كتاب «المثل الثائر، في أدب الكاتب والشاعر»

فهرس الأبواب الواردة في الجزء الثاني من كتاب «المثل الثائر، في أدب الكاتب والشاعر» الموضوع الصفحة النوع الرابع: في الالتفات 3 النوع الخامس: في توكيد الضميرين 17 النوع السادس: في عطف المظهر على ضميره والإفصاح به بعده 22 النوع السابع: في التفسير بعد الإبهام 24 النوع الثامن: في استعمال العام في النفي، والخاص في الإثبات 29 النوع التاسع: في التقديم والتأخير 35 النوع العاشر: في الحروف العاطفة والجارة 46 النوع الحادي عشر: في الخطاب بالجملة الفعلية، والجملة الاسمية والفرق بينهما 51 النوع الثاني عشر: في قوة اللفظ لقوة المعنى 56 النوع الثالث عشر: في عكس الظاهر 61 النوع الرابع عشر: في الاستدراج 64 النوع الخامس عشر: في الإيجاز 68 النوع السادس عشر: في الإطناب 119 النوع السابع عشر: في التكرير 146 النوع الثامن عشر: في الاعتراض 172

الموضوع الصفحة النوع التاسع عشر: في الكتابة والتعريض 180 النوع العشرون: في المغالطات المعنوية 203 النوع الحادي والعشرون: في الأحاجي 211 النوع الثاني والعشرون: في المبادي والافتتاحات 223 النوع الثالث والعشرون: في التخلص والاقتضاب 244 النوع الرابع والعشرون: في التناسب بين المعاني 264 النوع الخامس والعشرون: في الاقتصاد والتفريط والإفراط 298 النوع السادس والعشرون: في الاشتقاق 319 النوع السابع والعشرون: في التضمين 223 النوع الثامن والعشرون: في الإرصاد 329 النوع التاسع والعشرون: في التوشيح 340

§1/1