المال والحكم في الإسلام

عبد القادر عودة

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الخامسة: 1397 هـ - 1977 م

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]. {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108].

من نور كتاب الله: • {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227]. • {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]. • {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19]. • {وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِفْ فِي القَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33]. • {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 - 29]. • {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 23].

تقديم المؤلف

تَقْدِيمُ المُؤَلِّفِ: الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. والصلاة والسلام على سيدنا محمد عبده ورسوله الذي أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون. وبعد، فإن المسلمين في كل أنحاء العالم قد جهلوا الإسلام وانحرفوا عن طريقه الواضح، حتى لم يعد في الدنيا كلها بلد يقام فيه الإسلام كما أنزله الله، سواء في الحكم، والسياسة، أو الاقتصاد والاجتماع، أو غير ذلك مما يمس مصالح الأفراد والجماعات، ويقوم عليه نظام الجماعة، ويدعو إلى صلاحها وإسعادها. ولقد ظل المسلمون ينحرفون عن الإسلام حتى هجروا أحكامه، ثم اتخذوا لأنفسهم أحكامًا تقوم على أهوائهم ومنافعهم، فأدى ذلك إلى التحلل والفساد، وملأ بلادهم بالشرور والآثام، وعاد على جماعتهم بالبؤس والشقاء. وفي ظلال هذه المحنة التي امتحن بها الإسلام نبت دعاة الإسلام الحقيقيون فدعوا الناس إلى الإسلام الصحيح، وَرَبُّوا

الشباب عليه، وجعلوا كل مسلم داعية إلى الإسلام بعمله وقوله وسيرته، وصبروا على ما امتحنوا به حتى فتح الله عليهم، فانتشر الوعي الإسلامي، وتيقظ المسلمون، وتحقق ذوو البصائر أن لا حياة للمسلمين بغير الإسلام، وأن صلاح حالهم وسعادة جماعاتهم لن تكون إلا إذا رجعوا للإسلام وأقاموا أمرهم عليه، وحكموه في كل شؤونهم. والمسلمون اليوم أحوج ما يكونون إلى معرفة حقائق الإسلام وقد تكالب عليهم الاستعمار والشيوعية، وزينت لهم الديمقراطية والاشتراكية، ليعلموا أن لا عاصم لهم من الاستعمار والشيوعية إلا الإسلام، وأنه لا يحقق العدالة والمساواة في بلادهم إلا الإسلام. وواجب كل مسلم مستطيع أن يبين للمسلمين ما خفي عليهم من أحكام الإسلام، وأن يعرضه عليهم في لغة سهلة يهضمونها، وفي أسلوب عصري يقبلون عليه. وإني لأرجو أن أكون قد قدمت للمسلمين في هذا الكتاب ما يجب أن يعمله كل مسلم عن نظرية الإسلام في الحكم، وأسلوبه في الشورى، كما أرجو أن يعلم المسلمون بعد الاطلاع على هذا الكتاب أن أسلوب الإسلام في الحكم هو خير ما عرفه العالم وأن كل نظريات الشورى الوضعية ليست شيئًا يذكر بجانب نظرية الإسلام. واللهَ أسألُ أن يوفقنا جميعًا إلى الخير، وأن يجمع كلمتنا على الإسلام. عبد القادر عودة.

الخلق والتسخير

الخَلْقُ وَالتَّسْخِيرُ: • هذا الكون خلقه الله. • هذا الكون مسخر للبشر. • البشر مسخر بعضهم لبعض.

هذا الكون خلقه الله

هَذَا الكَوْنُ خَلَقَهُ اللهُ: هذا الكون الذي نعيش فيه، ونعمره، ونتسلط على ما فيه من حيوان ونبات وجماد، ونحاول أن نحصل على ما فيه من خيرات، ونستغل ما فيه من قوى، هذا الكون ليس من صنع البشر ولا من عمل أيديهم، وما في استطاعتهم خلقه ولا خلق ما دونه، وما كانوا في يوم من الأيام أهلاً لذلك ولن يكونوا، فما هم إلا بشر خلقهم خالق كل مخلوق، {بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة: 18]. وما في قدرة المخلوقات أن تخلق ولو تظاهرت على الخلق، ولو اجتمع كل البشر على أن يخلقوا أحقر الذباب على الخلق وأضعفه لعجزوا، ولو سلبهم أضعف الذباب وأحقره شيئًا لما منعوه عنه ولا استنقذوه منه {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73]. هذا الكون الذي نعيش فيه ونعمره خلقه الله الذي خلق الناس من تراب ثم سوهم بشرًا وصورهم ذكورًا وإناثًا فأحسن صورهم وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة لعلهم ينظرون ويتفكرون فيذكروا نعمة الله عليهم، ويشكروه على ما خلقهم ورزقهم وأسبغ عليهم من فضله {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا} [فاطر: 11]. {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ

مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 6 - 8]. {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر: 64]. {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78]. هذا الكون الذي نعيش فيه خلقه الله - جَلَّ شَأْنُهُ - خالق كل شيء مما نعلم ومما لا نعلم، ومما ندرك ومما لا ندرك، ومما نستطيع تصوره ومما نعجز عن تصوره والإحاطة بكنهه {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ} [الأنعام: 102]. فهو الذي خلق السماوات والأرض وما فيهما من مخلوقات وما بينهما من أجرام لا يحيط بها العلم، ولا يدركها الوصف، ولا يحصيها العد، وهو القادر على أن يخلق غيرها إن شاء، إذ الخلق متعلق بمشيئته، وراجع لأمره {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [المائدة: 17]، {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 120]. وهو الذي خلق الأزواج كلها من النبات والحيوان والإنسان، ومما نحيط بعلمه ومما لا نعلم عنه شيئًا، ورتب على اتصالها اللقاح والإحبال فالإثمار والإنسال حفظًا للنوع واستبقاء للحياة {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} [يس: 36]. وهو الذي جعل الظلمات والنور، وخلق الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم وهو الذي ربط الظلمات بالليل، والنور بالنهار. وجعل الشمس دليلاً على النهار، وجعل

هذا الكون مسخر للبشر

القمر والنجوم لنهتدي بها في ظلمات البر والبحر: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1]. {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} [الأنبياء: 33]. وهو الذي خلق الموت والحياة. وجعل بعد الموت البعث والنشور ليبلو الناس فيما آتاهم وليجزيهم بما كانوا يعملون: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاض} [الملك: 2]. هذا الكون مسخر للبشر: والله الذي خلق هذا الكون قد سخره لخدمة البشر وسلطهم عليه بما وهبهم من أبصار وأسماع وعقول تساعدهم على استخدام ما في الكون من خيرات، واكتشاف ما فيه من قوى، واستغلال ذلك كله في سبيل نفعهم واسعاد أنفسهم {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20]. فالله قد سخر للبشر - وهم يعيشون على وجه الأرض - كل ما في السماوات وما في الأرض، وكل ما في البر وما في البحر، فالسحاب مسخر لخدمتهم يحمل الماء المتجمع من البحار والأنهار ثم يرسله مَطَرًا يحيي به الأرض بعد موتها، وتنبت فيها من كل الثمرات رزقًا للعباد، والبحار والأنهار مسخرة لخدمة البشر، منها يتكون السحاب، وعلى

البشر مسخر بعضهم لبعض

مائها يعيش النبات والإنسان وكل الحيوان، وعليها تسير الفلك تحمل الناس إلى بلد لم يكونوا بالغيه بغيرها، وفي أعماقها تعيش مخلوقات أخرى يتخذ منها الناس طعامًا وحلية، والشمس والقمر مسخران لخدمة البشر، يمدان الكون بالضوء والحرارة، وهما ضرورتان من ضرورات الحياة، وكل ما في الكون من صغير وكبير، ومعلوم ومجهول، مسخر لخدمة البشر، لهم الحق في استطلاع أسراره والسيطرة عليه، واستغلال منافعه ما استطاعوا لذلك سبيلاً، فالكون مذلل لهم بإذن الله، وهم مسلطون عليه بأمر الله {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الجاثية: 12]،. {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 23 - 34] البشر مسخر بعضهم لبعض: وإذا كان الله - جَلَّ شَأْنُهُ - قد سَخَّرَ الكون للبشر، فإنه قد سَخَّرَ بعض البشر لبعض ليستطيعوا أن يعضئسوا في جماعة منظمة متعاونة، وليكونوا أقدر على استغلال الكون

المسخر لهم والانتفاع بخيراته، والمساهمة في بناء حياة إنسانية مرضية {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32]. وما سخر الله بعض البشر لبعض إلا لتتم حكمته فيهم وليبلوهم فيما آتاهم، فمن أحسن فلنفسه ومن أساء فعليها ومن كفر فعليه كفره، ومن آمن نفعه ايمانه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 165]. {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتًا وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَارًا} [فاطر: 39]. ولم يجعل الله تسخير بعض البشر لبعض قائمًا على التحكم تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، وإنما ربط التسخير بطبائعهم وظروف إمكانهم، فجعلهم درجات بما اختلفوا من قوة وضعف، وعلم وجهل، وجد وخمول، وغير ذلك من وجوه الاختلاف المشتقة من طبائعهم ومعارفهم وظروفهم وبيناتهم، ولن يمنع ذلك من كان في درجة دنيا أن يرتفع بعمله وإيمانه إلى درجة أعلى من درجته وأن يصل إلى القمة في عشيرته وأمته، فإن العبرة في الإسلام بالأعمال والإيمان، ولن يضيع الله عمل مؤمن: {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [آل عمران: 195]. ما دام العامل قد أحسن عمله ووصل به

إلى درجة الإحسان: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف: 30]. ولقد آلى الله على نفسه لَيُحْيِيَنَّ حياة طيبة كل من عمل عملاً صالحًا وهو مؤمن فقال - جَلَّ شَأْنُهُ -:" {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]. ودعا اللهُ المؤمنين إلى العمل وحثهم عليه: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105]. ورتب على العمل درجاتهم فمن رفعه العمل فلا يحطه شيء، ومن حطه العمل فلا يرفعه شيء: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 132].

الاستخلاف في الأرض: • البشر مستخلفون في الأرض. • استخلاف البشر مقيد بقيود. • أنواع الاستخلاف. • سنة الله في استخلاف الحكم. • أمثلة من المستخلفين السابقين. • مركز المستخلفين في الأرض. • واجبات المستخلفين في الأرض.

البشر مستخلفون في الأرض

البَشَرُ مُسْتَخْلَفُونَ فِي الأَرْضِ: ولقد خلق الله البشر في الأرض واستعمرهم فيها {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]. فلا حرج أن نقول أن مكان البشر في الأرض هو مكان المستعمر فيها، المسلط عليها، وأن الأرض بما فيها مسخرة لهم، مُذَلَّلَةُ بإذن ربهم، وأن حقوقهم وواجباتهم يحددها الله الذي استعمرهم في الأرض، ومنحهم حق التسلط عليها، ولكننا نفضل أن نصفهم بصفة الاستخلاف التي وصفهم بها الله أكثر من مرة. والقرآن صريح في أن الله - جَلَّ شَأْنُهُ - خلق آدم أبا البشر ليكون خليفة في الأرض {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]. والمفسرون مختلفون في ماهية خلافة الآدميين (¬1) خلفوا جنسًا سابقًا كان يسكن الأرض فأفسد فيها وسفك الدماء، ومن ثم فالخلافة على هذا الرأي خلافة جنس سابق، والبعض يرى أن الخلافة عن الله - جَلَّ شَأْنُهُ - ¬

_ (¬1) " تفسير المنار ": جـ 1 ص 257 - 261.

استخلاف البشر مقيد بقيود

لا عن جنس آخر، وأن الله سلط الإنسان على الأرض يقيم فيها سننه، ويظهر عجائب صنعه، وأسرار خليقته، وبدائع حكمه، ومنافع أحكامه. وسنرى فيما بعد أن هذا الاختلاف لا أهمية له في بحثنا. اِسْتِخْلاَفُ البَشَرِ مُقَيَّدٌ بِقُيُودٍ: ولا جدال في أن الله أوجب على البشر حين أسكنهم الأرض أن يطيعوا أمره وأن ينتهوا بنهيه، وأنه عهد إليهم ألا يعبدوا إلا إياه، وألا يخشوا غيره، وأن يتحلوا بالتقوى، وأن يحذروا فتنة الشيطان، وأعلمهم من اتبع هدى الله فقد اهتدى، ومن كفر بآيات الله وكذب برسله فقد ضل وغوى، وأنه جعل للمهتدين الأمن، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وجعل للكافرين المكذبين النار هم فيها خالدون، " {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 38، 39]. {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ، قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ، يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ، يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ، وَإِذَا فَعَلُوا

أنواع الاستخلاف

فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ، قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ، فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأعراف: 24 - 30]. وغدًا يحاسب الله البشر على زيفهم وضلالهم، وعلى تركهم طاعة الله واتباعهم الشيطان، ويسألهم فلا يجدوا لأنفسهم حُجَّةً. ثم يقذف بهم أفواجًا إلى النار يَصْلَوْنَ حَرَّهَا جزاء ما عصوا الله وكفروا بآياته ولم يقوموا بعهده {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ، وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ، اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [يس: 60 - 64]. أَنْوَاعُ الاِسْتِخْلاَفِ: واستخلاف البشر في الأرض نوعان: استخلاف عام، واستخلاف خاص. فالاستخلاف العام هو استخلاف البشر في الأرض باعتبارهم مستعمرين فيها ومسلطين عليها {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]، وقد بدأ هذا الاستخلاف بآدم - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - ومن بعده كل ذريته فهم جميعًا مستعمرون في

الأرض، استعمرهم الله - جَلَّ شَأْنُهُ - فيها، وَسَخَّرَ لهم وسلطهم عليها بإذنه {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]. والاستخلاف الخاص هو الاستخلاف في الحكم، وهو نوعان: استخلاف الدول واستخلاف الأفراد، والاستخلاف في الحكم هو بنوعيه مِنَّةٌ أخرى يمن الله بها على من يشاء من عباده أُمَمًا وَأَفْرَادًا بعد أن مَنَّ عليهم جميعًا بنعمة الاستخلاف في الأرض {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5]، {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]. واستخلاف الدول معناه الأول تحرير الأمة واستقلالها بحكم نفسها وجعلها دولة لها من السلطان ما يحمي مصالح الأمة وَيُعْلِي كلمتها، ومعناه الثاني اتساع سلطان الدولة حتى يشمل فوق أبناء الأمة أممًا وشعوبًا أخرى. واستخلاف الدول إذا كان بإذن الله وبأمره مِنَّةً يَمُنُّ بها على الأمم، إلاَّ أن للاستخلاف مسبباته التي تباشرها الأمم والشعوب فتؤهلهم للاستخلاف، وتمكن لهم في الأرض، وتتم بذلك سُنَّةُ اللهِ في خلقه ولن تجد لسنته تحويلاً. فلا يمكن أن يجيء الاستخلاف اعتباطًا وبلا عمل، وإنما يجيء نتيجة العمل الشاق والجهد المستمر، ولقد وعد الله - جَلَّ شَأْنُهُ - الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالاستخلاف في الأرض، فلم يجعل الإيمان وحده

هو الذي يرشح المؤمنين للاستخلاف، وإنما وعد المؤمنين بالاستخلاف إذا عملوا الصالحات، والمقصود بالصالحات كل ما يصلح شأنهم في الدنيا من الإعداد والاستعداد والتفوق، وما يصلح شأنهم في الآخرة من الطاعة واجتناب المعاصي. {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 55]. واستخلاف الأفراد هو الاستخلاف في الرئاسة وَقَدْ يُسَمَّى المُسْتَخْلَفُ خَلِيفَةً كما سمي داوود - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26]. وَقَدْ يُسَمَّى المُسْتَخْلَفُ إِمَامًا كما سمي ابراهيم - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - وبعض رؤساء بني إسرائيل:" {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124]. {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 73]. وَقَدْ يُسَمَّى المُسْتَخْلَفُ مَلِكًا {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 20]، {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} [البقرة: 247].

سنة الله في استخلاف الحكم

سُنَّةُ اللهِ فِي اِسْتِخْلاَفِ الحُكْمِ: وَسُنَّةُ اللهِ - جَلَّ شَأْنُهُ - في استخلاف الدول والأفراد أن يستخلف الأمة ما كانت أَهْلاً للاستخلاف، وأن يستخلف الأفراد ما كانوا أَهْلاً لذلك، يبتليهم جميعًا فيما آتاهم {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام: 165]، فإن استقام المُسْتَخْلَفُونَ على أمر الله، ودعوا إليه، وعبدوه وحده لا شريك له، وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وفعلوا الخيرات واجتنبوا السيئات، وأمروا بالمعروف وَنَهَوْا عن المنكر {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 41]، {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]، {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 73]، إذا فعل المستخلفون ذلك مكن الله لهم في الأرض، وآتاهم من كل شيء سَبَبًا، كما مكن لذي القرنين وقومه {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف: 84]، وكما مَكَّنَ ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء مِمَّا لم يكن يحلم به أو يتخيله {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ} [يوسف: 56]، وكما مكن لبني إسرائيل في الأرض على ضعفهم وقوة أعدائهم، بعد أن عبدهم الفراعنة واستعبدوهم، وساموهم سوء العذاب يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، فمنحهم الله - جَلَّ شَأْنُهُ - القوة وَبَوَّأَهُمْ

السلطان، ورزقهم من الطيبات وجعل فيهم النبوة والملك، وآتاهم مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا من العالمين {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [يونس: 93]، {يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 20]، وكما مكن لقوم يونس لما آمنوا فأصلح لهم أحوالهم في الحياة الدنيا ومتعهم إلى حين، {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: 98] والله - جَلَّ شَأْنُهُ - غني عن العالمين، رحيم بهم، فإذا أمرهم أن يأتوا أو يدعوا فإنما يأمرهم بما فيه صلاحهم، بما يؤدي إلى نفعهم، وهو القادر على أن يذهب بالمكذبين ويستخلف أناسًا غيرهم، ولن يعجزه ذلك وقد جاءوا من ذرية غيرهم: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} [الأنعام: 133]. وما استقام المستخلفون في الأرض على أمر الله فهم عند وعد الله لهم في تمكين وعزة، يأتيهم رزقهم رَغَدًا من كل مكان، حتى إذا ما كفروا بأنعم الله وكذبوا بآياته وخرجوا على ما أرسل به رسله، وظلموا وبغوا وافتتنوا بالقوة والسلطان والعلم، أخذهم اللهُ بغتة وهم لا يشعرون، فسلبهم نعمتهم، وأذهب دولتهم واستخلف غيرهم، ولم تغن عنهم عقولهم ولا علومهم ولا أموالهم من شيء، لما جاء أمر ربك وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا

أمثلة من المستخلفين السابقين

ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ، ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 13، 14]، {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [الأنعام: 6]، {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأحقاف: 26]. أَمْثِلَةٌ مِنَ المُسْتَخْلَفِينَ السَّابِقِينَ: ولقد ضرب اللهُ لنا من الأمثلة ما فيه مزدجر، وَبَيَّنَ لنا من أخبار السابقين ما فيه غناء لكل ذي لب، فهؤلاء قوم نوح كذبوه واستضعفوه ومن معه فاستحلف الله هؤلاء الضعفاء وأهلك الأقوياء الذين غرتهم قوتهم وحملهم الغرور على تكذيب آيات الله {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} [يونس: 73]. وهذا هود يدعو قومه عَادًا ويذكرهم ما حدث لقوم نوح ويخوفهم منه فيقول لهم: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} [الأعراف: 69] أي اذكروا كيف استخلفكم اللهُ في الأرض بعد أن أهلك قوم نوح بمثل ما تفعلون، فلما

يئس من إصلاحهم قال لهم: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [هود: 57]. وهذا صالح يُذَكِّرُ قومه بما أنعم اللهُ عليهم، وجعلهم خلفاء من بعد عَادٍ، ويحذرهم عاقبة البغي والفساد في الأرض {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الأعراف: 74]. وموسى يشكو له قومه ما نالهم من أذى فرعون وما أصابهم من بغيه وبطشه، فيبشرهم بأن سُنَّةَ اللهِ لا بد آتية، ويظهر خشيته من أن تأتيهم نعمة الله فيكفروا بها ويفعلوا ما كان يفعله غيرهم من المعاصي {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129]. وقارون وفرعون وهامان، تجبروا في الأرض واستكبروا بغير الحق، ونسوا نعمة الله عليهم، فلم ينفعهم ما يملكون وما يعبدون من دون الله شيئًا، وأخذهم الله بذنوبهم، فمنهم من أخذته الصيحة، ومنهم من خسفت به الأرض، ومنهم من غرق {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ، فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ

مركز المستخلفين في الأرض

لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 39، 40]. مَرْكَزُ المُسْتَخْلَفِينَ فِي الأَرْضِ: علمنا أن الله - جَلَّ شَأْنُهُ - استخلف البشر في الأرض، وسخر لهم ما في السماوات والأرض جميعًا وألزمهم أن يتبعوا هُدَاهُ وأن يطيعوا أمره وينتهوا بنهيه، ومقتضى ذلك أن الاستخلاف في الأرض رتب للبشر حقوقًا وألزمهم واجبات، فإذا أردنا أن نحدد مركز المستخلفين في الأرض فينبغي أن نعرف معنى الاستخلاف اللغوي وأن نستخرج معناه الفقهي. والاستخلاف لغة هو إقامة خلف يقوم مقام المستخلف أو مقام الغير على شيء ما، فإذا طبقنا هذا المعنى اللغوي على استخلاف الله - جَلَّ شَأْنُهُ - لآدم وذريته في الأرض قلنا أن البشر إما خلفاء لله أو لغيره. وهذه النتيجة هي التي انتهى إليها المفسرون في تفسيرهم لقوله تعالى {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]، فبعض المفسرين كما قلنا من قبل يرى أن البشر خلفوا خَلْقًا آخر كان يسكن الأرض فأفسد فيها وسفك الدماء والبعض يرى أن الخلافة عن الله - جَلَّ شَأْنُهُ - لا عن خلق آخر. ولكن الكثيرين لا يجيزون أن يقال لبشر خليفة الله، وَحُجَّتُهُمْ أنه إنما يستخلف من يغيب أو يموت، والله لا يغيب

ولا يموت، كما يحتجون بأن أبا بكر قيل له يا خليفة الله، فقال: «لَسْتُ خَلِيفَةَ اللهِ وَلَكِنِّي خَلِيفَةُ رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» بينما يجيز غيرهم أن يقال لبشر خليفة الله ما دام قائمًا بأمر الله في خلقه، ولقوله - جَلَّ شَأْنُهُ - {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الأنعام: 165]. ولا شك أن الرأي الأخير هو الأصح، فما ينبغي أن يقاس بالبشر من ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وإذا كان شأن الله أَنْ يُسْتَخْلَفَ وهو شاهد لا يغيب حتى لا يموت، ويكفي قوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، وقوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ} [الأنعام: 165]، ليجوز القول بأن البشر خلفاء الله خصوصًا وأنه استخلفهم في ملكه وسخره لهم {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ} [المائدة: 120]، {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13]. وإذا صح هذا فلا يهمنا أن نتحقق مِمَّا إذا كان البشر خَلَفُوا خَلْقًا سَابِقًا عليهم أم لا، لأن هذا الخلق السابق إنما استخلفه الله في الأرض كما استخلف البشر فإذا خلف البشر من كانوا خلفاء لله فالبشر قد صاروا بذلك خلفاء للهِ أيضًا، ومن ثم تنتهي في كل الأحوال إلى أن خلافة البشر عن الله - جَلَّ شَأْنُهُ - وليست عن غيره. أما معنى الاستخلاف الفقهي فهو النيابة أو القوامة بحسب مدركات البشر الفقهية ذلك أن الله استخلف البشر في الأرض بقوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]. وقد حدد اللهُ - جَلَّ شَأْنُهُ -

وظيفة البشر في هذا الاستخلاف بقوله: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]. والاستعمار معناه التمكين والتسلط، وهذان المعنيان ظاهران في قوله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} [الأعراف: 10]. وقوله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 41]. وقوله: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13]. والبشر في تسلطهم على الكون وانتفاعهم بما سخر الله لهم من مخلوقات مقيدون بطاعة الله والاهتداء بهديه والابتعاد عما نهى عنه. {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38]. {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس: 60، 61]. والبشر بعد ذلك ليسوا إلا بعض ما خلق الله {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [الروم: 40]. خلقهم من تراب وجعلهم بشرًا ينتشرون في الأرض {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} [الروم: 20]. وما خلقهم ليعبدوه حق عبادته {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. وسماهم عباده وعبيده، وهو القاهر فوقهم، يجيزهم بما قدمت أيديهم، فمن أحسن

فلنفسه ومن أساء فعليها {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 18]. {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]. فاستخلاف البشر في الأرض معناه أن الله - جَلَّ شَأْنُهُ - أسكنهم الأرض واستعمرهم فيها ومنحهم حق التسلط على ما في الكون للانتفاع بما فيه من خيرات في حدود أمر الله ونهيه، وإذا كان الله قد أسكن عبيده في أرضه وسخر لهم ما في الكون منحة منه فإن ما في أيدي هؤلاء العبيد من ملك الله إنما هو من الناحية الفقهية عارية ينتفع بها البشر، والقيام على العارية في فقه البشر نيابة، وإن كانت نيابة العبد عن ربه والمملوك عن مالكه، وإذن فكل فرد من أفراد البشر يعتبر نائبًا عن ربه - جَلَّ شَأْنُهُ - فيما سخر الله للبشر من الكون وما سلطهم عليه وهو مقيد في كل تصرفاته بحدود هذه النيابة. وهكذا لا يكاد معنى استخلاف البشر في الأرض لغة يختلف عنه فقهًا، ونتيجة ذلك أن مركز المستخلفين في الأرض هو مركز الخليفة أو النائب، وأن الخلافة أو النيابة هي عن الله - جَلَّ شَأْنُهُ -، وهي قائمة في حدود ما سخر الله للبشر من مخلوقاته وما سلطهم عليه من ملكه، وما خولهم في ذلك كله من الاستغلال والانتفاع. ويجب أن لا يفوتنا أن تسخير الكون للبشر وتسليطهم على ملك الله لا يخرج هذا الذي سخر لهم وسلطوا عليه من سلطان الله، ولا يحد من هذا السلطان شيئًا، فالبشر مثلاً يحرثون،

واجبات المستخلفين في الأرض

الأرض، ويلقون فيها الحب ولكنهم يرجون الإثبات والإثمار من الله، وما يحرثون ويلقون الحب إلا بما منحهم الله من حياة، وبما ركب فيهم من عقول، وبما علمهم من علم، فهم يستخدمون نعمة الله للانتفاع بنعمة الله، وما لهم في ذلك من سلطان إلا سلطانًا منحهم الله اياه. وَاجِبَاتُ المُسْتَخْلَفِينَ فِي الأَرْضِ: والبشر لم يستعمروا في الأرض ولم يستخلفوا عليها ليفعلوا ما يشاءون دون قيد ولا شرط، وليتركوا ما يشاءون دون حسيب ولا رقيب، إنما استعمرهم الله في الأرض واستخلفهم عليها ليعبدوه وحده لا شريك له، وليطيعوا أمره، وينتهوا بنهيه، فإذا كان استخلافهم في الأرض قد منحهم بعض الحقوق، فإنه قد حَمَّلَهُمْ كثيرًا من الواجبات. ولقد أوجب الله على البشر عامة يوم أسكنهم الأرض أن يهتدوا بهديه، وأن يتبعوا أمره. {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38]. وعهد إليهم ألا يعبدوا الشيطان، وأن يعبدوا الله {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس: 60، 61]. وكل من هذين النصين أمر عام باتباع ما أنزل الله وتحريم ما عداه. ووعد الله - جَلَّ شَأْنُهُ - المؤمنين به، المهتدين بهيده، أن يبدل خوفهم أمنًا، وضعفهم قوة، وأن يستخلفهم في الحكم كما

استخلف الذين من قبلهم، وَأَنْ يُمَكِّنَ لَهُمْ ويجعل لهم دولة في الأرض وسلطانًا على الناس والدول، ما داموا قائمين بأمر الله، يعبدونه لا يشركون به شيئًا، ولا ينحرفون عن طاعته، قليلاً ولا كثيرًا {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55]. وبين الله لنا واجبات المستخلفين في الحكم في أخصر عبارة وأجمعها فقال: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 41]. فمن واجبات المستخلفين في الحكم دُوَلاً وَأَفْرَادًا أن يقيموا الصلاة، ولا يقيمها إلا مؤمن يعترف بأن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وهذا الاعتراف يقتضي واجبات لا حصر لها. ومن واجبات المستخلفين في الحكم إيتاء الزكاة، ولا يؤتي الزكاة إلا مؤمن يسلم بما عليه من واجبات، ويعترف بما في ذمته للغير من حقوق. ومن واجبات المستخلفين في الحكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من استقام على أمر الله، وتمسك بحبله، وحرص على طاعته. وقد اقتصرت الآية على هذه الواجبات الثلاث، لأن توفرها دليل على توفير غيرها مِمَّا يوجبه الإسلام، [فإقامة] الصلاة

جزاء تعدي حدود الاستخلاف

في الأمة دليل على الإيمان والطاعة، وإيتاء الزكاة دليل على أخذ النفس بالحق ورد الحقوق لأربابها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دليل على الاستمساك بما أمر الله ودعوة الغير إليه وكفهم عن الفسوق والعصيان. والمستخلفون في الحكم ليسوا إلا بشرًا مستخلفين في الأرض، فإذا وجب عليهم كحاكمين أن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر فإنه يجب عليهم كبشر مستخلفين في الأرض أن يطيعوا الله ويهتدوا بهديه، وينتهوا عما نهى عنه. ونخلص من كل ما سبق أن المستخلفين في الأرض سواء كان استخلافهم عَامًّا أو خَاصًّا عليهم واجبات عديدة تدخل كلها تحت عنوان هام هو طاعة الله، أي الائتمار بأمره والانتهاء عما نهى عنه. جَزَاءُ تَعَدِّي حُدُودَ الاِسْتِخْلاَفِ: رأينا فيما سبق أن الله استخلف البشر في الأرض وسخر لهم مخلوقاته وسلطهم على ملكه وخولهم استغلاله والانتفاع به، وانه قيدهم بطاعته، والاهتداء بهديه، والانتهاء عما نهى عنه، وانتهينا إلى أن مركز المستخلفين في الأرض هو مركز الخليفة والنائب، وأن الخلافة والنيابة هي عن الله جل شانه. ومنطق الفطرة يقضي بان الخليفة او النائب إذا خرج عن حدود ما منحه من سلطان أوما قيد به من قيود فعمله باطل

بطلانا لا شك فيه، ولا يصح منه إلا ما يدخل في حدود الخلافة أو النيابة. وهذا هو نفسه منطق الإسلام دين الفطرة، فنصوص القرآن قاطعة في أن الشرك بالله وكراهة ما أنزل وتكذيب آياته والكفر بعد الإيمان، كل ذلك محبط للأعمال: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65]. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 9]. {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [الأعراف: 147]. {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [البقرة: 217]. وحبوط العمل معناه ضياع العمل وبطلانه بحيث يعتبر كأن لم يكن له وجود، وهذا ما نسميه في عرفنا بالبطلان المطلق أي البطلان الذي لاي قبل التصحيح. وكما يترتب البطلان على الشرك بالله وكراهة ما أنزل وعلى الإلحاد والكفر بعد الإيمان، فانه يترتب أيضًا على عصيان المؤمنين أمر الله ورسوله، فكل مؤمن بالله ورسوله عصى الله ورسوله في أمر صغير أو كبير أو خرج على الطاعة في أي شيء فعمله الذي عصى به الله ورسوله أو خرج به على الطاعة إنما هو عمل باطل لا يقبل التصحيح، وذلك قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]. وقول الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً

لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» أي من عمل عملاً خارجًا على ما جئنا به فعلمه مردود لا أثر له. ويستخلص من النصوص السابقة أن كل عمل خارج عن حدود الله هو عمل باطل بطلانًا مطلقًا ولا أثر له من الوجهة الشرعية، سواء كان العمل حاصلاً من مؤمن أو كافر ومن معترف بالله أو منكر له، وليس لمسلم أن يعترف بهذا العمل أو يصححه أو يقوم بتنفيذه، أَيًّا كان نوع العمل حُكْمًا أو إدارة أو سياسة أو اقتصادًا أو تثقيفًا أو غير ذلك، وسواء كان تصرفًا شرعيًا أو فعلاً ماديًا، وسواء وقع في دار الإسلام أو في دار غيره. ذلك هو حكم الإسلام الذي جعله الله للناس دينًا: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران: 19]. وأعلمهم أنه لا يقبل منهم التدين بغيره: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]. ودعاهم إلى أن يتمسكوا به ويموتوا عليه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].

المال مال الله

المَالُ مَالُ اللهِ: • ماذا يملك البشر في هذا الكون. • المال لله وللبشر حق الانتفاع. • حدود حق البشر في الانتفاع بمال الله. • ما يترتب على كون المال لله. • ما يترتب على حق البشر في الانتفاع بمال الله. • حقوق الغير في مال الله: - الزكاة. - الإنفاق. - أنواع الإنفاق. - الإنفاق في سبيل الله. - الإنفاق على ذوي الحاجة. - إنفاق التطوع. - حد الإنفاق.

ماذا يملك البشر في هذا الكون؟

مَاذَا يَمْلِكُ البَشَرُ فِي هَذَا الكَوْنِ؟: رأينا فيما سبق أن هذا الكون خلقه الله الذي خلق كل شيء وأنه سخره لمنفعة البشر، وسلطهم عليه بما وهبهم من عقول، وأنه استخلف البشر واستعمرهم في الأرض ولكنه قيدهم بطاعته والاهتداء بهديه. ولا شك أن البشر في تسلطهم على الكون، واستغلال ما فيه من قوى، والانتفاع بما فيه من خيرات، ويحتاجون في حفظ حياتهم والاحتفاظ بقوتهم ونشاطهم إلى طعام ودواء ولباس وفراش ومأوى، كما يحتاجون إلى ما يستعينون به على استغلال الكون من أدوات وآلات وحيوانات. واستغلال الكون بعد ذلك يقتضي البشر أن يسيطروا على بعض الأرض يستنبتون فيها الزرع أو يرعون ما فيها من حشائش أو يستغلون ما فيها من أشجار، أو يستخرجون ما فيها من معادن أو زيوت، أو يقيمون عليها مساكنهم ومخازنهم ومتاجرهم ومصانعهم وَقُرَاهُمْ وَمُدُنَهُمْ. ثم إن عجز البشر في طفولتهم وشيخوختهم ومرضهم يدعوهم لأن يدخروا لأبنائهم ما يحييهم في طفولتهم، وإلى أن يدخروا لأنفسهم ما يعينهم على شيخوختهم ومرضهم. وقد تنمو الرغبة في إدخال القليل وتتحول إلى رغبة في

المال لله وللبشر حق الانتفاع

ادخار الكثير، وهذا المدخر يتشكل أشكالاً مختلفة بحسب ظروف كل شخص فيكون عقارًا أو منقولاً أو حيوانات أو معادن. فهل يمتلك البشر كل هذا الذي يحتاجونه أو يجتازونه أو يدخرونه؟ ما حدود ملكيتهم؟ وهل هي ملكية تامة أو هي مليكة ناقصة؟ وهل هي ملكية مطلقة أم هي مليكة مقيدة؟ المَالُ للهِ وَلِلْبَشَرِ حَقُّ الاِنْتِفَاعِ: ونستطيع في سهولة ويسر إذا رجعنا إلى ما لدينا من نصوص ورتبنا معلوماتنا ترتيبًا منطقيا أن نصل إلى نتيجة واحدة هي أن المال كله لله وأن البشر لا يملكون منه إلا حق الانتفاع به. فالله - جَلَّ شَأْنُهُ - هو الذي خلق وما بينهما وما فيهما من شيء {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ فالله - جَلَّ شَأْنُهُ - هو الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما من شيء {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 102]. {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]. {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [إبراهيم: 32]. ومنطقنا البشري يقتضي أن يكون خالق الشيء هو مالكه، وبهذا المنطق نفسه جاءت نصوص القرآن، فهي قاطعة في أن الله له ملك السموات والأرض وما بينهما: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [المائدة: 17 و 18]، وأنه يملك كل شيء في السماوات وكل شيء في الأرض من صغير وكبير سواء كان له قيمة مالية أو لم يكن له قيمة مالية {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ

وَمَا فِيهِنَّ} [المائدة: 120]، وأنه - جَلَّ شَأْنُهُ - يملك كل هذا وحدة دون أن يكون له في ملكه شريك من البشر أو غير البشر، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الإسراء: 111]. ولكن الله - جَلَّ شَأْنُهُ - استعمر البشر في الأرض: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]، وجعلهم خلائف فيها على ما سبق بيانه: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ} [فاطر: 39]،، وسخر لهم كل ما خلق في السموات والأرض وسلطهم عليه بقدر ما يستطيعون من استغلاله واستثماره: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20]،. {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13]. ولم يسخر الله ملكه لفرد دون فرد، أو لفئة دون فئة، وإنما سخره للبشر جميعا وجعله مشاعا بين عباده الذين استخلفهم في الأرض ليعيشوا فيه وينتفعوا به، فما يعيش أحد منهم في ملكه، وما ينتفع إلا بملك الله، وليس أحد منهم احق بملك الله من غيره، وقدجعل الله منفعته لكل البشر: فهم فيه سواء. ولقد بين الله لعباده الذين استخلفهم في الأرض انهم حينما يستغلون ما خلق وشمتثمرونه ويحصلون على منافعه لا ياتون بشيء من عندهم، وانما هورزق من الله يسوقه إليهم، وفضل آخر يغمرهم به: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ

وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} [سبأ: 24]، {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [فاطر: 3]. وإذا لم يكن ثمة من يرزق غير الله فعلى البشر أن يطلبوا الرزق من الله وحده، وأن يبتغوه عنده {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت: 17]، فهو الرازق القوي على خلق الرزق وإيصاله للمرزوقين {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58]. فملك الله مسخر لمنفعة البشر، ولهم جميعًا أن ينتفعوا به ويستغلوه ويستثمروه ويعملوا فيه، والله مؤتيهم ثمرات الملك وغلته وأجورهم رزقًا من عنده، وما لرزقه من نفاد، وما جعل الله هذا كله إلا نعمة منه على البشر، ما يعود عليه من نفع، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرًا. ولقد علمنا فيما سبق أن ما في أيدي البشر من ملك الله وثمراته إنما هو عارية ينتفع بها البشر، وأن القيام على العارية في فقه البشر نيابة وإن كانت نيابة العبد عن ربه والمملوك عن ماله، كذلك علمنا أن مركز المستخلفين في الأرض هو مركز الخليفة أو النائب، وأن الخلافة أو النيابة هي عن الله - جَلَّ شَأْنُهُ -، وهي قائمة في حدود ما سخر الله للبشر من مخلوقاته، وما سلطهم عليه من ملكه، وما خولهم في ذلك كله من الاستغلال والانتفاع. واذا كان الله - جَلَّ شَأْنُهُ - وهو مالك كل شيء قد سخر ما يملك لينتفع به عامة البشر الذين استخلفهم في الأرض، فإنه - جَلَّ شَأْنُهُ - هو الذي يمنح كل فرد منهم ما في يده من هذا

الملك الواسع {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 247]. سواء كان ما في يد الفرد قليلاً لا يزيد على حاجته أو كثيرًا يكفي العشرات والمئات {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد: 26]. وما تغير هذه المنح أَيًّا كانت صفة الممنوحين، فما هم إلا بعض أفراد البشر المستخلفين في الأرض يقومون على ملك الله، وما هذا الملك إلا عارية في أيديهم، وما مركزهم من هذا الملك إلا مركز النائب أو الخليفة، وما لهم من سلطان على هذا الملك إلا ما خولهم الله من استغلاله والانتفاع به. ولقد فرض الله على البشر أن ينفقوا من ماله الذي استخلفهم فيه وجعلهم قوامًا عليه {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7]. ولم يترك لهم الخيار في الإنفاق، وعجب ألا ينفقوا، وما ينفقون إلا مِمَّا رزقهم الله وآتاهم إياه {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} [النساء: 39]. وما أمر الله البشر أن ينفقوا إلا ذكرهم أنهم ينفقون من ماله الذي آتاهم، ورزقه الذي ساقه إليهم، والنصوص في ذلك كثيرة منها قوله {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [المنافقون: 10]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ} [البقرة: 254]. {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً} [إبراهيم: 31]. {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3].

وإذا كان المال مال الله وهو عارية في يد البشر الذين استخلفهم عليه فليس للبشر أن يتأخروا عن إنفاذ أمر الله في هذا المال فإذا أمرهم أن يؤتوا فئات من الناس شيئًا من هذا المال فعليهم أن يبادروا بذلك ما يؤتونهم إلا من مال الله {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33]. وعلى كل فرد في يده شيء من المال - وكل مال هو مال الله - أن يطيع أمر الله فيه، سواء قَلَّ مَا فِي يَدِهِ أَوْ أَكْثَرَ {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]. ولا يظنن أحد أن ما في يده من مال الله هو رزق خصها الله به فيمنعه عن غيره، ويبخل به على من يستحقه، فإن الله يرزق الناس ويؤتيهم ملكه ليقوموا عليه في حدود أمره ونهيه، وإذا فضل الله بعض الناس على بعض في الرزق فلا يحسبن صاحب الرزق الكثير إذا أنفق أو أعطى غيره أنه ينفق أو يعطي من رزقه، وليعلم أنه ينفق من مال الله، وأنه لا يعطي شيئًا من عنده، وإنما هو وسيط أعطى غيره من مال الله كما أخذ لنفسه من مال الله {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [النحل: 71]. ولا يفوتنا أن نلاحظ أن بعض نصوص القرآن نسبت المال لأفراد البشر من ذلك قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]، وقوله: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2].

وقوله: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 186]. وقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103]. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111]. وقوله: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 19]. وإضافة المال للبشر في هذه النصوص وغيرها لا تفيد أن البشر ملكوا المال، وإنما تفيد أنهم ملكوا حق الانتفاع به، فالمال مال الله كما قدمنا، وهو مالك كل شيء، وإنما سخره للبشر لينتفعوا به، فإذا أضيف إليهم فالإضافة لا يقصد منها إلا ملك الانتفاع. والقاعدة أن الإضافة يكفي فيها أدنى الأسباب، ولقد أضاف القرآن مال السفهاء إلى أوليائهم، لا لأنهم ملكوا المال، ولكن لأنهم يملكون حق التصرف فيه بما لهم من حق الولاية، فقال - جَلَّ شَأْنُهُ -: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا} [النساء: 5]. فإضافة مال الله للبشر لأن لهم حق الانتفاع به هو نوع إضافة مال السفهاء إلى أوليائهم، لأن لهم حق التصرف فيه. وبعد فإن النصوص لا يصح أن تفسر على ظاهرها ما دام هناك نصوص أخرى تناقضها .. والقاعدة أن نصوص القرآن لا يترك بعضها لبعض، وإنما تؤخذ جملة وتفسر مجتمعة، والتفسير الصحيح الذي يرفع التناقض يقتضي اعتبار نسبة المال للبشر نسبة مجازية، وأنه نسب إليهم لوجوده في أيديهم، ولما لهم من حق الانتفاع به في الحدود التي رسمها الله.

حدود حق البشر في الانتفاع بمال الله

ونخلص من ذلك كله لأن ما في يد البشر من مال على اختلاف أنواعه وأشكاله ومقاديره وما ينتجه هذا المال من أموال إنما هي جميعًا مال الله لا مالهم وملكه لا ملكهم أقامهم عليه واستخلفهم فيه فما يملكون من هذا المال إلا حق الانتفاع به وما يستتبع حق الانتفاع بمال من استهلاكه والتصرف فيه. حُدُودُ حَقِّ البَشَرِ فِي الاِنْتِفَاعِ بِمَالِ اللهِ: للبشر حق الانتفاع بما في أيديهم من مال الله وهو الحق الوحيد الذي لهم على هذا المال .. والانتفاع بالمال قد يكون باستغلاله أو استثماره كما هو الحال في الأراضي الزراعية والمناجم والمحاجر، وقد يكون باستهلاك المال كما هو الحال في الطعام والشراب والثمار، وقد يكون بالتصرف في المال تصرفًا شرعيًا كالبيع والوصية والهبة. وللبشر أن ينتفعوا بمال الله على هذه الوجوه كلها، ولن يخرجهم عن كونهم منتفعين بالمال أن لهم حق استهلاك بعضه، ذلك أن لهم حق الانتفاع فإذا لم يكن الانتفاع ممكنًا إلا بالاستهلاك كان الاستهلاك هو عين الانتفاع، ولقد أباح الله - جَلَّ شَأْنُهُ - للبشر أن يستهلكوا من ماله كل ما يقتضي الانتفاع به أن يستهلك، فأباح لهم استهلاك الطعام والشراب والثمار واللباس والأثاث، كما أباح لهم استهلاك جميع الطيبات، وجميع ما تقتضي ظروف حياتهم استهلاكه، والنصوص في ذلك صريحة منها قوله - جَلَّ شَأْنُهُ -: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا} [المائدة: 88].

{كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ} [البقرة: 60]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]. {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام: 141]. {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ، وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [النحل: 80، 81]. {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} [إبراهيم: 34]. {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]. وحق البشر في الانتفاع بمال الله ليس حقًا مطلقًا، وإنما هو حق مقيد بقيود، فليس لهم أن ينتفعوا بهذا المال كما يشاؤون، وإنما لهم أن ينتفعوا به فقط في حدود حاجتهم لهذا المال وبالقدر الذي يكف عنهم الحاجة ويدفعها، بشرط أن يكون ذلك كله في حدود الاعتدال دون سرف أو تقتير، فليس لهم أن يسرفوا في طعامهم وشرابهم ولباسهم وأمور معيشتهم، وما يجوز لهم أن يقتروا على أنفسهم، وعليهم أن يتوسطوا بين الأمرين وأن لا يتجاوزوا الاعتدال، فقد حرم الله عليهم السرف وبسط اليد في المال كما حرم عليهم التقتير وقبض اليد عن النفس بما هي محتاجة إليه. {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلاَ تَطْغَوْا فِيهِ} [طه: 81]. {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ

ما يترتب على كون المال لله

بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]. {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29]. وإذا كان للفرد أن يأخذ من مال الله ما يكفي حاجته، فإن له أيضًا أن يأخذ من هذا المال ما يكفي حاجة أهله الذين تلزمه نفقتهم كالزوجة والأولاد والأبوين، وله أيضا أن يأخذ بعض مال الله لينفقه في حفظ بقية المال، وفي استغلاله وتثميره، وله أن يفعل ذلك كله في حدود الاعتدال دون سرف أو تقتير. مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى كَوْنِ المَالِ للهِ: يترتب على أن المال مال الله النتائج الآتية: 1 - لا يجوز لأحد كائنًا من كان أن يتملك المال تملكًا نهائيًا، ولا يجوز لأحد أن يكون له على المال إلا ملك المنفعة، لأن حقوق الله ثابتة له - جَلَّ شَأْنُهُ -، وليس لأحد من البشر أن يتصرف فيها أو يتنازل عنها حاكمًا كان أو محكومًا فردًا أو جماعة. 2 - إن للجماعة بواسطة ممثليها من الحكام وأهل الشورى أن تنظم طريقة الانتفاع بالمال، إذ المال وإن كان لله إلا أنه جعله لمنفعة الجماعة، والقاعدة في الإسلام أن كل ما ينسب من الحقوق لله إنما هو لمنفعة الجماعة وهي التي تشرف عليه دون الأفراد.

ما يترتب على حق البشر في الانتفاع بمال الله

3 - إن للجماعة بواسطة ممثليها من الحكام وأهل الشورى أن ترفع يد مالك المنفعة من المال إذا اقتضت ذلك مصلحة عامة، بشرط أن تعوضه عن ملكية المنفعة تعويضًا مناسبًا، إذ الإسلام لا يجيز الغصب ولا يحل أخذ المال بغير طيب نفس صاحبه، كما لا يحل أخذه بالباطل وذلك قول الله تعالى {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]. وقول الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ»، وقوله: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ». 4 - أن الإسلام وإن كان يبيح حرية التملك إلى غير حد، إلا أنه يجيز للجماعة بواسطة ممثليها وباعتبارها القائمة على حقوق اللهو تنظيم الانتفاع بها أن تحدد ما يملكه الشخص من مال معين اذا اقتضت ذلك مصلحة عامة كتحديد الملكية الزراعية بقدر معين أو ملكية أراضي البناء. مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى حَقِّ البَشَرِ فِي الاِنْتِفَاعِ بِمَالِ اللهِ: ويترتب على أن للبشر الانتفاع بمال الله وتملك حق الانتفاع نتائج هي: 1 - إذا كانت الجماعة قائمة على حق الله وهو ملكية المال، فليس لها أن تمس ملكية الانتفاع ليس لها أن تحرم ملكية الانتفاع التي جعلها الله للأفراد.

حقوق الغير في مال الله

2 - أن ملكية المنفعة تتصل بالعين كما تتصل بالشخص فيجوز لمالك المنفعة أن ينقلها إلى غيره بالبيع والرهن والوصية وغيرها من التصرفات الشرعية، كما أنها تنتقل عن المالك بوفاته إلى ورثته. 3 - أن ملكية المنفعة الدائمة في أصلها بالنسبة للأفراد أي أنها غير مقيدة بمدة معينة، فيصح أن يظل الشيء في حيازة شخص معين ينتفع به حتى يموت ثم يتوارثه عنه أولاده وأولادهم حتى ينقرضوا كما هو الحال في الوقف. 4 - أن ملكية المنفعة إنما جعلت لينتفع بها الفرد بطريق مباشر، ولتنتفع بها الجماعة من طريق غير مباشر، فإذا عطل المنتفع المال فلم ينتفع به فقد عطل انتفاع الجماعة، وكان للجماعة أن ترفع يده عنه بشرط أن تعوضه عنه بما يقابل قيمته. حُقُوقُ الغَيْرِ فِي مَالِ اللهِ: وإذا كان لكل فرد حق الانتفاع بما في يده من مال الله في الحدود التي بناها، فإن للغير حقوقًا فرضها الله في هذا المال وأوجب على من في يده المال أن يقوم بها باعتباره مستخلفًا في مال الله، وهذه الحقوق هي: [1] الزَّ كَاةُ: وهي فريضة في مال الله، فعلى كل فرد في يده شيء من

مال الله أن يخرجها من هذا المال إذا بلغ قدرًا معينًا، ويؤديها إلى الحاكم ليردها على ذوي الحاجة طبقًا لنصوص القرآن. والزكاة كالصلاة من مباني الإسلام، يقول الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ البَيْتِ» لمن استطاع إليه سبيلاً. وأكثر النصوص تجمع بين الصلاة والزكاة، كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 83]. وقوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] وكقول الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّ الإِسْلاَمِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ». والزكاة فريضة في المال، ولذلك تجب على الرجال والنساء والصغار والكبار، لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]. ومقدارها يختلف باختلاف المال، فقد تصل إلى عشر المال كما في المستنبت المقتات، وقد تصل إلى 2.5 % من المال كما في الحلي والنقود، وقد تكون أقل من ذلك كما في زكاة الأنعام. وتجب الزكاة في كل مال حال عليه الحول، أي مضى عليه عام في يد المستخلف عليه، لقول رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لاَ زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الحَوْلُ».

[2] الإنفاق

[2] الإِنْفَاقُ: وإنفاق المال يعتبر في الإسلام صفة من الصفات الدالة على الإسلام وعلى الإيمان وعلى طاعة الله والقيام بأمره، وحينما وصف الله المتقين وصفهم بأنهم: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3]، فسوى - جَلَّ شَأْنُهُ - بين الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة والإنفاق وجعلها جميعًا علامة على التقوى. ووصف الله المؤمنين بأنهم هم الذين يخشون ربهم فإذا ذكر وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا على إيمانهم، وأنهم يعملون ويحسنون عملهم ما استطاعوا ثم يتوكلون بعد ذلك على ربهم، وأنهم الذين يقيمون الصلاة وينفقون مِمَّا رزقهم الله، وأكد الله لنا أن هذه الأوصاف هي أوصاف المؤمن الحقيقي، فالإنفاق إذن صفة من صفات المؤمن، وعلامة على الإيمان الحق {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال: 2 - 4]. بل إن الإنفاق يعتبر في الإسلام أصلاً من أصول البِرِّ أي الخير، فلا يتم الخير إلا بالإنفاق، لقوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ

وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]. ويلاحظ على نص الآية أولاً: جعل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر أصلاً من أصول البر أي الخير، وجعل الأعمال الصالحة المترتبة على الإيمان والتي هي نتيجة له أصلاً ثانيًا للبر أي الخير. فالخير هو ما يهدف إليه الإسلام، والأصول التي يقوم عليها هي الإيمان المجرد ثم إتيان ما يقتضيه الإيمان من الأعمال. ومثل ذلك قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]، فالغاية هي الدعوة إلى الخير والوسائل هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويدخل تحتها كل ما جاء به الإسلام، ومن ذلك قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [المائدة: 48]، فغاية الأديان ليست إلا الخير، وما تدعو الناس إلا إلى الاستباق في عمل الخير، ووسائلها إلى ذلك هي الإيمان بالله، والعمل طبقًا لما أمر الله. ويلاحظ على نص الآية ثانيًا: أنه جعل الإنفاق على رأس الأعمال الصالحة التي تؤدي إلى الخير وهو غاية الإسلام

أنواع الإنفاق

وهدفه، كذلك قدم النص الإنفاق على الصلاة والزكاة، ويكفي هذا دليلاً على مكانة الإنفاق في الإسلام، ودليلاً على أن الإسلام لا يتحقق في مسلم يمتنع عن الإنفاق. وقد بين لنا الله - جَلَّ شَأْنُهُ - أننا لن نصل إلى ما يهدف إليه الإسلام وهو الخير حتى ننفق من أحب أموالنا وأكرمها علينا، فقال - جَلَّ شَأْنُهُ -: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، ومن أنفق مِمَّا يحب هان عليه ما دونه. ويتبين مِمَّا سبق غاية الإسلام هي الخير، وأن وسائله للخير هي الايمان والأعمال الصالحة، وأن الإنفاق هو أول الأعمال الصالحة، وأن الامتناع عن الإنفاق يحول دون الوصول إلى غاية الإسلام وهي الخير، وإذا كان الإنفاق وسيلة من وسائل الإسلام إلى الخير ونتيجة من نتائج الإيمان بالله، فإن المسلم الذي يمتنع عن الإنفاق يشهد على نفسه بأنه يعصي الله، وأنه يعطل الإسلام، وأنه لم يؤمن بالله حق الايمان. أنواع الإنفاق: والإنفاق نوعان: إنفاق الفريضة، وإنفاق التطوع، وإنفاق الفريضة نوعان: إنفاق في سبيل الله، وإنفاق على ذوي الحاجة. وإنفاق الفريضة هو ما يجب إنفاقه من المال، وما للحاكم أن يأخذه ليصرفه في مصارفه، رضي ذلك المستخلف على المال

الإنفاق في سبيل الله

أم كرهه، أما إنفاق التطوع فهو ما ترك للمستخلف أن ينفقه دون أن يجبره على إنفاقه أحد. الإنفاق في سبيل الله: والإنفاق في سبيل الله فريضة واجبة، ويشمل كل ما ينفق لإعلاء كلمة الإسلام، والدفاع عنه، ونشر الإسلام بين الناس وإقامة أحكامه، ومن واجب كل مستخلف على مال الله أن ينفق منه في هذه السبيل، ومن حق الحكومة الإسلامية أن تقتطع من الثروات والأموال التي في يد الأفراد ما تراه كافيًا لاعلاء كلمة الله، ويستوي أن يصرف في الإعداد للعدو أو دفعه أو رفع مستوى المسلمين عامة علميًا او اجتماعيًا أو رياضيًا أو نشر الإسلام وإقامة أحكامه بين الناس فكل ذلك إنما هو إنفاق في سبيل الله، إذ أن سبيل الله هي طاعته في كل ما أمر به من الجهاد وحكم ومساواة وعدل وغير ذلك. والإنفاق في سبيل الله جهاد، إذ كما يكون الجهاد بالنفس يكون بالمال ويكون بهما مَعًا، ولقد أمر الله المسلمين أن ينفروا خِفَافًا وَثِقَالاً وأن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيله، فقال - جَلَّ شَأْنُهُ -: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41]، وجعل الله الجهاد بالمال والنفس علامة إيمان الشخص والدليل على صدق هذا الإيمان: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا

بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15]. ولقد اشترى الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111]، وجعل هذا البيع التجارة الرابحة المنجية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [الصف: 10، 11]. واعتبر الامتناع عن الإنفاق في سبيل الله إلقاء بالنفس في التهلكة {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]. فإذا لم يبذل المسلمون في سبيل الله، وتأييد دينه وإعلاء كلمته كل ما يستطيعون من قوة ومال فقد أهلكوا أنفسهم، ومكنوا لأعدائهم من رقابهم، وروى عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال: هذه الآية نزلت فينا معشر الأنصار، لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه. قال بعضنا لبعض سِرًّا: إن أموالنا قد ضاعت، إن الله قد أعز الإسلام، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله الآية يرد علينا ما قلنا، فالتهلكة هي الإقامة على الأموال وإصلاحها والضن بها أن تنفق في سبيل الله. وإذا كان الله - جَلَّ شَأْنُهُ - قد فضل المجاهدين بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله على المجاهدين في سبيل الله بأموالهم فقط، فإنه وعد كلا الفريقين الحسنى {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء: 95]. فعلى كل من كان في يده شيء من مال الله أن ينفق منه في سبيله ويجاهد به لإعلاء كلمة الله وحياطة الإسلام، ومن فاته الجهاد بنفسه فلا يفوته الجهاد بالمال، فإن من فاته الجهاد بالنفس والمال وهو قادر عليهما فقد فاتته رحمة الله وقدم نفسه لنار جهنم، ولقد كره البعض في عهد رسول رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله فوعدهم الله نار جهنم، ومنع رسوله أن يصلي على من مات منهم أو يقوم على قبره. {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ، فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ، وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 81 - 84]. ولقد أعد الله للذين يكنزون المال في سبيل الله عذابًا أليمًا فقال - جَلَّ شَأْنُهُ - " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم"وتلك هي التهلكة التي يلقي الناس بأنفسهم إليها حين يبخلون ولا ينفقون في سبيل الله. وكل مسلم مطالب بالإنفاق ما دام يجد ما ينفقه في سبيل الله، فإذا لم يجد فما عليه من حرج، ويكفيه النصح لله

الإنفاق على ذوي الحاجة

ولرسوله ولجماعة المسلمين، لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، ولا يؤاخذ الله محسنًا أحسن عمله أو قوله بقدر ما يستطيع {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 91]. الإنفاق على ذوي الحاجة: يدخل الإنفاق على ذوي الحاجة في الجماعة الإسلامية تحت الإنفاق في سبيل الله، لأن سبيل الله هي طاعته، فكل إنفاق يطاع فيه الله هوإنفاق في سبيل الله، ولكنا أفردنا للإنفاق على ذوي الحاجة مكانًا خاصًا وعنوانًا مستقلاً لأن الله - جَلَّ شَأْنُهُ - خصه بنصوص خاصة من ذلك قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} (¬1) [البقرة: 177]. وقول: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [الإسراء: 26]. وقوله: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ ¬

_ (¬1) المساكين: هم الفقراء المتعففون، وقد عَرَّفَ الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسكين بقوله: «لَيْسَ المِسْكِينُ [بِهَذَا الطَّوَّافِ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ] تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ» [قَالُوا: فَمَا المِسْكِينُ؟] قَالَ: «الذِي لاَ يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ وَلاَ يُفْطَنُ لَهُ، فَيُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ وَلاَ يَقُومُ فَيَسْأَلَ النَّاسَ». وابن السبيل: هو المنقطع في السفر لا يتصل بأهل ولا قرابة، والسائلون هم من تدفعهم الحاجة إلى تكفف الناس، والسؤال محرم شرعًا إلا عند الضرورة. وفي الرقاب: أي في تحريرها وعتقها كافتداء الأسرى.

السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 36]. وقوله: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ [المدثر: 42 - 44]، وقوله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8]، وقوله: {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [البقرة: 215]. {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273]. وقوله: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 19]. والإنفاق على ذوي الحاجة فريضة افترضها الله في المال فليس لمستخلف على مال الله أن يمنعها، وللحكومات الحق في أن تأخذ من أموال الأغنياء ما يكفي حاجة الفقراء فإن لم تفعل فقد عصت أمر الله وحرمت ذوي الحاجة حقوقهم التي فرضها لهم الله. ولا يشترط أن يكون الفقراء وذوو الحاجة معدمين لا يملكون شيئًا أصلاً حتى يستحقوا الإنفاق عليهم، وإنما الشرط أن لا يكون لديهم ما يكفي حاجتهم، فكل من كان إيراده لا يكفي حاجته فهو من ذوي الحاجة وعلى الحكومة الإسلامية أن تأخذ من فضول أموال الأغنياء ما يرد حاجة ذوي الحاجة. والإنفاق على ذوي الحاجة يعبر عنه بالصدقة كما يعبر عن الزكاة بالصدقة، وذوو الحاجة الذين يجب لهم الإنفاق هم تقريبًا الذين فرضت لهم الزكاة في قوله تعالى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ

وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} [التوبة: 60]. وقد دعا هذا الى اشتباه الأمر على البعض، فظن أن ليس في المال لذوي الحاجة سوى الزكاة، وهذا خطأ لا شك فيه، لأن الزكاة ليست هي كل ما في المال من حق، وإنما هي الحق الأول لذي الحاجة، فإن كفتهم فبها، وإلا فقد وجب الإنفاق فريضة من الله حتى تكف الحاجة عن ذوي الحاجة. وليس أدل على صحة ما نقول من أن القرآن فَرَّقَ بين الإنفاق والزكاة في نص واحد واعتبر كليهما من الأعمال التي يقتضيها الإيمان ويقوم من أجلها الإسلام، وذلك قوله تعالى {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} [البقرة: 177]. فجاء النص صريحًا في وجوب الإنفاق وفي وجوب الزكاة. والفصل بين الإنفاق والزكاة بالصلاة دليل على الاختلاف بين الإنفاق والزكاة، والنص على كل من الإنفاق والزكاة على حدة في آية واحدة قاطع بأن كليهما يختلف عن الآخر وأنهما فريضتان مختلفتان، ومن ادعى أن الزكاة نسخت الإنفاق كفريضة فإنه يدعي ما لا حجة له عليه، فالزكاة فرضت في مكة والآية التي سبق ذكرها مدنية، فكيف تنسخ الفريضة السابقة اللاحقة؟ بل كيف ينسخ بعض النص الواحد بعضه الآخر؟ ولقد جاءت السُنَّةُ بنفس ما جاء به القرآن من المخالفة

إنفاق التطوع

بين الإنفاق والزكاة وجعلها فريضتين مختلفتين، فيروى عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلاً مِنْ تَمِيمٍ أَتَى رَسُولَ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي ذُو مَالٍ كَثِيرٍ، وَذُو أَهْلٍ وَمَالٍ، وَحَاضِرَةٍ، فَأَخْبِرْنِي كَيْفَ أَصْنَعُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تُخْرِجُ الزَّكَاةَ، فَإِنَّهَا طُهْرَةٌ تُطَهِّرُكَ، وَتَصِلُ أَقْرِبَاءَكَ، وَتَعْرِفُ حَقَّ المِسْكِينِ، وَالجَارِ، وَالسَّائِلِ»، ففرق الرسول بين الزكاة وبين صلة الأقارب وإعطاء المساكين والجيران والسائلين حقوقهم التي أوجبها الله لهم بعد الزكاة. وروت فاطمة بنت قيس أن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «إِنَّ فِي المَالِ لَحَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ»، ثُمَّ تَلاَ هَذِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {لَيْسَ البِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة: 177] الخ الآيَةَ. فالإنفاق إذن فريضة غير فريضة الزكاة، وقد افترضه الله لسد ما لم تسده الزكاة من حاجات، ومن الممكن أن تسد فريضة الزكاة حاجة ذوي الحاجة كما حدث في عهود الإسلام الأولى، وقد تزيد عن حاجتهم كما حدث في عهد عمر بن العزيز فقد كانت الدولة لا تجد المحتاجين من تنفق عليهم بعض حصيلة الزكاة. فإذا لم تقم فريضة الزكاة بسد حاجة ذوي الحاجة ففريضة الإنفاق تقوم بما لن تتسع له فريضة الزكاة. إنفاق التطوع: هذا النوع من الإنفاق يأتي بعد أداء إنفاق الفريضة بنوعيه، وهو متروك لاختيار المنفق إن شاء أنفق وإن شاء امتنع، ولذلك سميناه إنفاق التطوع ويسمى صدقة التطوع،

حد الإنفاق

فإن أنفق فله أجر الإنفاق وإن لم ينفق لم يأثم. ولقد حض الإسلام الإنفاق وحببه إلى الناس وأعد لهم أفضل الجزاء {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261]. وأعلمهم أن ما ينفقون من خير فإنما يعود عليهم {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 272]. ودعاهم إلى أن ينفقوا من أموالهم في كل وقت من أوقات الليل والنهار وفي السر والعلانية وضمن لهم الأجر الجزيل والجزاء الأوفى {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274]. وسنة الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تنهج نهج القرآن في الحض على الإنفاق فَمِمَّا روي عنه قوله: «تَصَدَّقُوا وَلَوْ بِتَمْرَةٍ، فَإِنَّهَا تَسُدُّ مِنَ الجَائِعِ، وَتُطْفِئُ الخَطِيئَةَ، كَمَا يُطْفِئُ المَاءُ النَّارَ»، وقوله: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا، فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ»، وقوله: «مَا مِنْ عَبْدٍ [مُسْلِمٍ] يَتَصَدَّقُ بِصَدَقَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ - وَلاَ يَقْبَلُ اللَّهُ إِلاَّ الطَّيِّبَ - إِلاَّ كَانَ اللَّهُ [يَأْخُذُهَا] بِيَمِينِهِ فَيُرَبِّيهَا لَهُ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ [فَلُوَّهُ أَوْ] فَصِيلَهُ حَتَّى تَبْلُغَ التَّمْرَةُ مِثْلَ أُحُدٍ» وقوله: «كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ». حد الإنفاق: جعل الإسلام للإنفاق حدين: الحد العادي، وحد الضرورة سواء كان الإنفاق فريضة أو تطوعًا.

فأما الحد العادي للإنفاق فيمتد إلى كل ما يزيد عن حاجة المستخلف على المال فما زاد على حاجته فهو محل للإنفاق أَيًّا كان مقداره، والأصل في ذلك قول الله - جَلَّ شَأْنُهُ -: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219]، وقوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]. والعفو هو الفضل أي ما عفت عنه الحاجة وما فضل بعد سدها. وروي في أسباب نزول الآية الأولى أن نفرًا من الصحابة سألوا رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن حد الإنفاق فأجيبوا على لسان الوحي أن ينفقوا العفو أي ما زاد عن حاجتهم. ولقد حاول بعض المفسرين أن يفسر العفو بمعنى آخر، فقال: إن العفو نقيض الجهد فيكون معنى الآية أنهم ينفقون مِمَّا سهل عليهم وتيسر لهم مِمَّا يكون فاضلاً عن حاجتهم وهو تفسير متكلف يخالف ظاهر النص ويخالف ما ورد عن الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قوله: «يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ أَنْ تَبْذُلَ الفَضْلَ خَيْرٌ لَكَ، وَأَنْ تُمْسِكَهُ شَرٌّ لَكَ، وَلاَ تُلاَمُ عَلَى كَفَافٍ» والفضل ما زاد عن الحاجة، والكفاف ما كف عن الحاجة ويزيد عن قدرها. وقول الرسول: «طُوبَى لِمَنْ عَمِلَ بِعِلْمِهِ، وَأَنْفَقَ الفَضْلَ مِنْ مَالِهِ وَأَمْسَكَ الفَضْلَ مِنْ قَوْلِهِ»، وقوله: «الأَيْدِي ثَلاَثَةٌ، فَيَدُ اللَّهِ العُلْيَا، وَيَدُ الْمُعْطِي التِي تَلِيهَا، وَيَدُ السَّائِلِ السُّفْلَى، فَأَعْطِ الْفَضْلَ، وَلاَ تَعْجَزْ عَنْ نَفْسِكَ» فهذا رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفسر العفو بأنه الفضل وما زاد عن الحاجة، ويدعو إلى إنفاقه جميعًا ويحذر من إمساكه، ويقول في صراحة أنه ملام على الاحتفاظ بما يكفي الحاجة، وإنما الملام على ما زاد عن ذلك.

ولقد حدد بعضهم حاجة المستخلف على المال بالحاجة اليومية، وحددها البعض بالحاجة الشهرية وحددها آخرون بحاجة السَّنَةِ، وحجتهم أن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ادَّخَرَ لأهله قوت سَنَةٍ. وإذا كان كل ما زاد عن حاجة المستخلف على المال محلاً للإنفاق فينبغي أن تعلم أن إنفاق هذا الزائد لا يجب إلا إذا استوجب الإنفاق حاجة الغير إليه، فإذا لم يكن بالغير حاجة إلى الفضل كان لمن في يده المال أن ينفق منه طَوْعًا ما شاء ولو أتى على كل الفضل، أما إذا كان بالغير حاجة إلى الفضل فليس لمن في يده المال أن يأخذ من الفضل شيئًا وإلا كان آخذًا غير حقه، وهذا ما فهمه أبوسعيد الخدري صاحب رسول الله حين سمعه يقول: «مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلُ زَادٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ زَادَ لَهُ». قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: «فَذَكَرَ - أي الرسول - مِنْ أَصْنَافِ المَالِ مَا ذَكَرَ حَتَّى رَأَيْنَا أَنْ لاَ حَقَّ لأَحَدٍ مِنَّا فِي فَضْلٍ». وللحكومة الإسلامية بعد أن تأخذ من فضول أموال الأغنياء فتردها على الفقراء ولو لم يكونوا بحاجة إليها إذا اقتضت مصلحة عامة تحقيقًا لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]. وهذا هو ما رآه عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قبيل وفاته، فقد أثر عنه قال: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ، لأَخَذْتُ فُضُولَ أَمْوَالِ الأَغْنِيَاءِ، فَقَسَمْتُهَا عَلَى الفُقَرَاءِ».، وكان عمر يرى هذا

بالرغم من أنه فرض لكل شخص في بيت المال حتى الأطفال، فلم تكن حاجة الغير إلى فضول أموال الأغنياء هي التي تدعو عمر إلى القول برد هذه الفضول للفقراء، وإنما رأى عمر أن ثروات الأغنياء تضخمت وخشي عليهم الترف والبطر، وخشي على الفقراء الحسد والفتنة، فود لو حسم الأمر كله برد فضول أموال الأغنياء على الفقراء، ولو طال عمره وفعل هذا لتغير تاريخ الإسلام. وحاجة الغير لفضول الأموال لا تتحدد فقط بما يكفي حاجة الأفراد متفرقين، وإنما تتحدد أيضًا بما يكف حاجتهم مجتمعين، أو بتعبير آخر تتحدد الحاجة إلى فضول الأموال بما يسد حاجة الجماعة بعد حاجة الأفراد، وحاجات الجماعة لا تنتهي ولا حد لإشباعها، فكلما تقدمت الجماعة وقويت زادت حاجتها إلى التقدم والقوة لتحتفظ بمكانتها بين الجماعات، وكلما أقامت الجماعة أمر الله تجددت حاجتها إلى إقامة أمر الله لمواجهة المستحدث من الفساد والعصيان. وإذن ففضول الأموال رهن بما يسد حاجة الأفراد وحاجة الجماعة فليس لمن في يدهم هذه الفضول أن ينفقوا منها شيئًا على أنفسهم وإلا كانوا آخذين غير حقهم وليس لهم أن ينفقوا منها تطوعًا إلا بعد أن يأخذ الأفراد والجماعة ما يجب لهم فيها، ولو أن إنفاق التطوع يعود على الغير بالنفع ذلك أن صدقة التطوع تترك لمشيئة المتطوع، يوزعها كيف يشاء، أما إنفاق الفريضة فيجب أن يصيب من لهم الحق في المال دون غيرهم.

أما حد الضرورة في الإنفاق فانه يمتد من الفضول إلى نفس الجزء المخصص لسد حاجة المستخلف على المال، فيصبح للغير من الأفراد للجماعة الحق في أخذ ما تدعو الضرورة لأخذه من هذا الجزء قل المأخوذ أو كثر لسد بعض حاجة الآخرين ولتوفير المال الضروري لصيانة أمن الدولة الخارجي والداخلي. ولا ينتقل حد الإنفاق إلى الجزء المخصص لسد حاجة المستخلف على المال إلا لضرورات تقتضي هذا الانتقال. ونستطيع أن نضرب على هذه الضرورات أمثلة حدثت في مطلع العهد الإسلامي. وأول هذه الأمثلة كان في عهد الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقد أمر المسلمين بالهجرة من مكة إلى المدينة فهجروا مكة متسللين تاركين أموالهم نَهْبًا لمشركي قريش ودخلوا المدينة وأكثرهم لا يملك قوت يومه، وما ترك المهاجرون كل أموالهم إلا استجابة لأمر الله، وجهادًا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8]. فلما وصل الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة آخى بين المهاجرين والأنصار، وأنزل المهاجرين على الأنصار يشاركونهم في كل ما يملكون، ويقاسمونهم القليل والكثير، ولم تكن أموال الأنصار التي تتسع لهم وللمهاجرين ولكنهم رحبوا بالمهاجرين وآثروهم على أنفسهم وهم في أشد الحاجة إلى ما يؤثرون به غيرهم، وما فعلوا

ذلك إلا استجابة للهِ وجهادًا في سبيله فاستحقوا بذلك قول الله فيهم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]. هذا هو المثل الأول يبين لنا أن مصلحة الإسلام اقتضت أن يضحي المهاجرون بكل أموالهم فضحوا بها طيبة نفوسهم، وأن المصلحة اقتضت أن يضحي الأنصار بالكثير مِمَّا هم في أشد الحاجة إليه فنزلوا على أمر الله وآثروا المهاجرين على أنفسهم. أما المثل الثاني فكان في عهد عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - حين حدثت المجاعة في سنة ثماني عشرة من الهجرة، واشتد الجوع حتى جعلت الوحش تأوي إلى الأنس وحتى جعل الرجل يذبح الشاه فيعافها من قبحها، فآلى عمر على نفسه أن لا يذوق سمنًا ولا لبنًا ولا لحمًا حتى يحيى الناس، وكان يقول: «لَوْ لَمْ أَجِدْ لِلنَّاسِ مَا يَسَعُهُمْ إِلاَّ أَنْ أُدْخِلَ عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ عِدَّتَهُمْ فَيُقَاسِمُونَهُ أَنْصَافَ بُطُونِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِحَيًا لَفَعَلْتُ؛ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْلِكُوا عَلَى أَنْصَافِ بُطُونِهِمْ». وما قال ذلك إلا بعد أن كتب إلى أمراء الأمصار يستمدهم، فكان أول من قدم إليه أبو عبيدة بن الجراح في أربعة آلاف راحلة من طعام، وبعث عمروبن العاص الطعام في السفن وعلى الإبل، فبعث عشرين سفينة وألف بعير محملة بالدقيق، كما بعث خمسة آلاف كساء، وبعث معاوية ثلاثة آلاف بعير محملة كما بعث ثلاثة

آلاف عباءة، وبعث سعد بن أبي وقاص ألف بعير محملة بالدقيق، وكل ذلك وزع على المحتاجين والفقراء ولكنه لم يكد يسد حاجتهم فرأى عمر أن يدخل على كل أهل بيت عدتهم من المحتاجين ليقاسموهم طعامهم ويعيش الجميع على أنصاف بطونهم. وقد استلهم عمر في هذا الاتجاه روح الإسلام وتأسى بما فعله رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار وأنزل المهاجرين على الأنصار حتى يسر الله للمهاجرين وأذهب عنهم الفاقة. أما المثل الثالث فبطله أبو عبيدة بن الجراح - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - كان هو وثلاثمائة من صحابة الرسول في سفر ففنيت أزواد بعضهم فأمرهم أبو عبيدة فجمعوا أزوادهم في مزودين وجعل يقوتهم إياها على السواء. وهكذا يحمل الإسلام الناس في الأزمات والمجاعات وعند الضرورات أن يسع بعضهم بعضًا فيما هم في حاجة إليه وفيما يقيم أودهم ويحفظ حياتهم، وفي هذا روي عن الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قوله: «مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ (إلى الطعام) بِثَالِثٍ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ أَرْبَعَةٍ فَلْيَذْهَبْ بِخَامِسٍ أَوْ سَادِسٍ». والأصل في ذلك كله أن المال مال الله، وأن الإسلام فرض على المسلمين أن يتعاونوا على البر والتقوى: {وَتَعَاوَنُوا

عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، كما أن الإسلام يقيم المجتمع الإسلامي على أساس التضامن الاجتماعي، فيجعل في أموال الأغنياء حَقًّا للفقراء: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 19]. {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [الإسراء: 26]. حتى ليبرأ الله من كل جماعة أصبح فيهم فرد جائعًا، وذلك قول رسول الله: «أَيُّمَا أَهْلُ عَرْصَةٍ أَصْبَحَ فِيهِمُ امْرُؤٌ جَائِعًا، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ». ويجعل الإسلام المسلمين بمثابة البنيان يشد بعضه بعضًا، ويقيم بعضه البعض الآخر، بل يجعل المسلمين جميعًا جسدًا واحدًا إذا أصيب منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وفي ذلك يقول الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» ويقول: «مَثَلُ المُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالحُمَّى» .. ويوجب الإسلام على كل مسلم أن يرحم أخاه المسلم، وأن لا يظلمه ولا يسلمه وذلك قول الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ لاَ يَرْحَمِ النَّاسَ، لاَ يَرْحَمْهُ اللهُ»، وقوله: «المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ»، فمن كان له فضل مال ورأى أخاه جائعًا فلم يغثه فما رحمه بلا شك، ومن تركه يجوع ويعرى وهو قادر على إطعامه وكسوته فقد أسلمه لا جدال في ذلك.

بحث محدود

بحث محدود: هذه هي خلاصة نظرية الإسلام في ملكية المال، وتلك هي الأصول التي تقوم عليها، وما نريد أن نتعرض لما لا محل له في هذا الكتاب، وما تعرضنا لنظرية المال إلا بقدر ما نستبين حق الحكومات على ما في يد الأفراد من مال وحق الأفراد في هذا المال، ونرجو أن يوفقنا الله لوضع كتاب خاص نبسط فيه النظرية وتطبيقاتها وما يتصل بها من نظريات اقتصادية إسلامية، وما يمكن أن يترتب على هذه النظريات في المجتمع الإسلامي.

لله الحكم والأمر

للهِ الحُكْمُ وَالأَمْرُ: • لمن الحكم؟ • الحكم من طبيعة الإسلام. • الإسلام عقيدة ونظام. • الإسلام دين ودولة.

لمن الحكم؟

لِمَنْ الحُكْمُ؟: هذا سؤال لا تصعب الإجابة عليه بعد أن علمنا أن الله هو خالق الكون ومالكه، وأنه استعمر البشر واستخلفهم في الأرض، وأمرهم أن يتبعوا هداه، وأن لا يستجيبوا لغيره، فكل ذي منطق سليم لا يستطيع أن يقول بعد أن علم هذا إلا أن الحكم لله، وأنه - جَلَّ شَأْنُهُ - هو الحاكم في هذا الكون ما دام هو خالقه ومالكه، وأن على البشر أن يتحاكموا إلى ما أنزل ويحكموا به، لأنهم من وجه قد استخلفوا في الأرض استخلافًا مقيدًا باتباع هدى الله، ولأنهم من وجه آخر خلفاء لله في الأرض، وليس للخليفة أن يخرج على أمر من استخلفه. وقد جاءت نصوص القرآن مؤيدة لهذا المنطق البشري السليم، فهي تلزم البشر باتباع ما جاء من عند الله، وَتُحَرِّمُ عليهم تحريمًا قاطعًا اتباع ما يخالفه: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 106]. {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف: 3]. وقد علمنا الله أن الحق شيء واحد لا يتعدد، وأنه ليس في الدنيا إلا حق أو باطل، وليس بعد الحق إلا الضلال

{فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 32]. كما علمنا أنه أرسل رسوله محمدًا - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحق {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [البقرة: 119]. وأن الكتاب الذي أنزل عليه جاء بالحق: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [آل عمران: 3]. {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [النساء: 105]. وإذا كان الله قد أرسل رسوله بالهدى ودين الحق: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة: 33]. فإن الذين يستجيبون للرسول ولما جاء به إنما يستجيبون للحق ويتبعون الهدى. أما الذين لا يستجيبون للرسول ولما جاء به من الحق فقد علمنا الله أنهم لا يستجيبون للضلال ويتبعون أهواءهم، وأن أعظم الناس ضلالاً هو من اتبع هواه ولم يهتد بهدى الله: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50]. وقد جعل الله ما أنزله على رسوله شريعة لنا، وأوجب علينا أن نتبعها ونلتزم حدودها، ونهانا عن اتباع تشريعات الناس وقوانينهم فما هي أهواؤهم وضلالاتهم يصوغونها تشريعات وقوانين يضلون بها البشر ويصرفونهم عن شريعة الله، وهم مهما تعلموا وعلموا لا يعلمون شيئًا في جنب علم الله الذي أحاط بكل شيء علمًا، والذي يعلم ما فيه هداية

البشر وخيرهم: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18]. والشريعة التي أنزلها الله على رسوله وألزمنا اتباعها والعمل بها ليست إلا كتاب الله الذي يقرأه المسلمون ويستمعون إليه في كل صباح ومساء {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام: 155]. وهذا الكتاب هو القرآن الكريم: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت: 3]. ولقد كان في النصوص السابقة ما يكفي للقطع بأن الحكم في البلاد الإسلامية يجب أن يكون طبقًا للشريعة الإسلامية، لأن اتباع ما أنزل الله يقتضي أن يكون الحكم بما أنزل الله، وأن يكون الحكام قائمين على أمر الله فيما يتصل بذواتهم وفيما هو في أيديهم فما يستطيعون أن يتبعوه عند الاختلاف، وإذا استطاعوا أن يتبعوا أمر الله فيما هو للأفراد فكيف يستطيعون أن يتبعوه فيما هو للحكام إذا لم يكن الحكام مقيدين باتباع ما أنزل الله؟ وكان يكفي أن نعلم أن الله أوجب علينا عند التنازع والاختلاف أن نتحاكم إلى ما أنزل الله ونحكم في المتنازع عليه والمختلف فيه بحكم الله {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ

إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]. {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10]، كان يكفي أن نعلم هذا لنقطع بأن الحكم لله، وأن الحكام والمحكومين في كل بلد إسلامي يجب أن يتقيدوا في كل تصرفاتهم واتجاهاتهم باتباع ما أنزل الله، وأن يجعلوا دستورهم الأعلى كتاب الله. ولكن الله - جَلَّ شَأْنُهُ -، وهو أعلم بالإنسان، وبأنه أكثر شيء جدلاً جاءنا بنصوص لا سبيل فيها إلى جدال أو استنتاج، تقضي أن الحكم لله في الدنيا وفي الآخرة {وَهُوَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 70]. وتبين لنا أن الله لم يرسل الرسل إلا مبشرين ومنذرين، ولم ينزل الكتب إلا ليتخذها الناس دستورًا في حياتهم الدنيا، يحكمونها ويحكمون بمقتضاها في كل شؤونهم {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213]. ومن هذه النصوص القاطعة نعرف أن الله أنزل القرآن على نبيه محمد - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليكون دستور البشرية وقانونها الأعلى، وليقضي الرسول بين الناس على مقتضى أحكامه كما علمه الله {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105]. ونعرف أن الله - جَلَّ شَأْنُهُ - نفى الإيمان عن العباد وأقسم بنفسه على ذلك حتى يحكموا الرسول فيما يشجر بينهم

ليحكم فيه بحكم الله، ولم يكتف الله تعالى في إثبات الإيمان لهم بهذا التحكيم المجرد بل اشترط لاعتبارهم مؤمنين أن ينتفي عن صدورهم الحرج والضيق من قضاء الرسول وحكمه، وأن يسلموا تسليمًا وينقادوا انقيادًا لما حكم به، ولن يحكم إلا بما أنزل الله وبما أراه إياه {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. ومن هذه النصوص القاطعة نعرف أن الله أمر أن يتحاكم الناس إلى ما أنزله على رسوله ويحكموا به وأنه تعالى حذر من اتباع الأهواء والحكم بها، وأمر أن يكون الحكم كله مطابقًا لما أوحي به، كما حذر الحاكم من أن يترك بعض ما أنزل الله أو أن يفتن عنه {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 48]. {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49]. {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ} [الرعد: 37]. ومن هذه النصوص نعرف أن الله جعل الحكم بما أنزله أحسن حكم وأفضله، وأنه نسب الحكم بما أنزل إلى نفسه فجعله حكم الله وأنه جعل الحكم بما عداه حكمًا جاهليًا يقوم على الباطل، وأنه وصف من يبتغي غير حكم الله بأنه يبغي حكم الجاهلية القائم على الأهواء والضلال {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].

ومن هذه النصوص القاطعة نعرف أن الله حَرَّمَ الحكم بغير ما أنزل، كما حَرَّمَ عليهم الكفر والظلم والفسوق والعصيان، وجعل من لم يحكم بما أنزل الله كافرًا وظالمًا وفاسقًا، فقال - جَلَّ شَأْنُهُ - {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47]. ولقد عبر القرآن عن الكفر بلفظ الظلم، ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، وقوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254]. كذلك عبر القرآن عن الكفر والظلم بالفسق من ذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ} [البقرة: 99]، وقوله: {إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84]، وقوله: {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55]. وقوله: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [البقرة: 59]. وقوله: {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 165]. وإذا كان الظلم والفسق بمعنى الكفر فيكون فسق من لم يحكم بما أنزل الله وظلمه هو الكفر، ويكون من لم يحكم بما أنزل الله كافرًا في كل الأحوال بنص القرآن. ولكن بعض المفسرين يفسرون الظلم بالإنحراف عن الحق، ويفسرون الفسق بالعصيان، ويجمعون بين الآيات

الحكم من طبيعة الإسلام

الثلاث في التفسير، فيرون أن من يستحدث من المسلمين أحكامًا غير ما أنزل الله ويترك بالحكم بها كل أو بعض ما أنزل الله من غير تأويل يعتقد صحته، فإنه يصدق عليه ما قاله الله، كل بحسب حاله، فمن أعرض عما أنزل الله لأنه يفضل عليه غيره من أوضاع البشر فهو كافر قطعًا، ومن لم يحكم به لعلة أخرى غير الجحود والنكران فهو ظالم إن كان في حكمه مُضَيِّعًا لحق أو تاركًا لعدل أو مساواة، وإلا فهو فاسق. الحُكْمُ مِنْ طَبِيعَةِ الإِسْلاَمِ: هذه بعض نصوص القرآن التي تعرضت للحكم، وليس بعد ما ذكرنا حُجَّةً لمحتج ولا سبيل لجدال، فليعرف المسلمون أحكام دينهم ونصوص شريعتهم، ثم ليأخذوا عن بَيِّنَةٍ وليدعوا عَنْ بَيِّنَةٍ، أما أن ينطلقوا وراء تلاميذ المبشرين وأذناب المستعمرين ويدعون مثلهم أن الإسلام لا علاقة له بالحكم، ولم ترد فيه نصوص عن الحكم فذلك هو الجهل المطبق والجدل المنكر، وأي جهل أشد من جهل رجل يدعي لنفسه صفة لا يعرف ماهيتها، فيدعي لنفسه الإسلام وهو يجهل حقيقة الإسلام، وأي جدل أنكر من جدال جاهل يحتج على الناس بجهله، ويريد منهم أن ينكروا ما علموه لأنه يجهل أو لا يريد أن يتعلمه. إن الإسلام يلزم الناس باتباع ما أنزل الله ويوجب عليهم أن يتحاكموا إلى ما جاء من عند الله ويحكموا به وحده

الإسلام عقيدة ونظام

دون غيره، وليس لذلك معنى إلا أن الحكم هو الأصل الجامع في الإسلام، والدعامة الأولى التي يقوم عليها الإسلام. إن كل من له إلمام بالإسلام يعلم حق العلم أن الحكم في الإسلام تقضي به طبيعة الإسلام أكثر مِمَّا تقضي به نصوص القرآن، ففي طبيعة الإسلام أن يسيطر على الأفراد والجماعات ويوجههم ويحكم تصرفاتهم، وفي طبيعة الإسلام، أن يعلو ولا يعلى عليه، وأن يفرض حكمه على الدول، وأن يبسط سلطانه على العالم كله. إن الإسلام ليس عقيدة فقط، ولكنه عقيدة ونظام، وليس دينًا فحسب ولكنه دين ودولة، ومن المؤلم حقًا أن يجهل أكثر المسلمين ذلك لأنهم يجهلون كل شيء عن حقيقة الإسلام، ولا يعلمون عنه إلا عبادات يتلقونها عن طريق التقليد والمحاكاة. الإِسْلاَمُ عَقِيدَةٌ وَنِظَامٌ: والإسلام عقيدة ومبدأ ما في ذلك شك ولكنه ما كان عقيدة تعتقد ومبدأ يعتنق إلا بعد أن استوى نظامًا دقيقًا شاملاً ينظم كل شأن من شؤون النفس البشرية، وينظم كل ما تحيط به النفوس من المعاني وما تدركه من المحسوسات، سواء اتصلت بالأفراد أو الجماعات، وسواء اتصلت بدنيانا التي نعيش فيها أو بالحياة الأخرى التي نرجوها حياة طيبة. والإسلام كعقيدة هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه

ورسله واليوم الآخر، ولكنه كنظام يسيطر على الإنسان سيطرة تامة ويرسم له منهاجًا في الحياة وهدفه منها، كما يرسم له طرائق العمل التي تؤدي إلى السعادة في الدنيا والآخرة. الإسلام كنظام يسيطر على المسلم في كل حركاته وسكناته، يسيطر عليه في تفكيره ونيته، وفي قوله وعمله، يسيطر عليه في سره وجهره وفي خلوته وجلوته، يسيطر عليه في قيامه وقعوده وفي نومه ويقظته، يسيطر عليه في طعامه وشرابه وفي ملبسه وحليته، يسيطر عليه في بيعه وشرائه وفي تصرفاته ومعاملاته، يسيطر عليه في جده ولهوه وفي فرحه وحزنه وفي رضاه وغضبه، يسيطر عليه في بأسائه ونعمته وفي مرضه وصحته وفي ضعفه وقوته، يسيطر عليه غنيًا وفقيرًا صغيرًا وكبيرًا عظيما وحقيرًا، يسيطر عليه في بَنِيهِ وَأَهْلِهِ وفي صداقته وعداوته وفي سلمه وحربه، يسيطر عليه فردًا وفي جماعة وحاكمًا ومحكومًا ومالكًا وصعلوكًا، وليس ثمة تصرف يتصوره العقل أو حال يكون عليها الإنسان إلا سيطر فيها الإسلام على المسلم ووجهه الوجهة التي رسمها. والذين يظنون أن الإسلام عقيدة وليس نظامًا إنما هم جهال لا يعلمون من الإسلام شيئًا، أو هم أغبياء لا يستطيعون أن يفقهوا حقيقة الإسلام، فالإسلام في حقيقته صبغة يصبغ الله بها عباده المؤمنين {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة: 138]. ولا يكون المسلم مسلمًا إلا إذا اصطبغ

بصبغة الإسلام، وَلَوَّنَ نفسه وأهله وتصرفاته وما يحيط به باللون الإسلامي الخالص. وأجهل من هؤلاء وأشد غباء من يظنون أن مصلحة المسلمين في أن يحافظوا على الإسلام عقيدة وينبذوه نظامًا، ذلك أن العقائد والمبادئ الإسلامية لا يمكن أن تعيش وتنتشر إلا في ظل النظام الإسلامي الذي تكفل بوضعه الخلاق العليم. ولست أدري كيف يؤمن هؤلاء بالإسلام عقيدة ولا يؤمنون به نظامًا، أتراه عقيدة من عند الله، ونظامًا من عند غير الله؟ {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78]. إن الله الذي جعل الإسلام دينًا هو الذي جعله عقيدة ونظامًا، وأن الله ليأبى على الناس أن يبتغوا لأنفسهم دينًا غير هذا الدين {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]. ولقد أكمل الله الدين الإسلامي وأتم بإكماله نعمته على الخلق ورضيه دينًا للناس فما يجوز لهم أن يزيدوا فيه أو ينقصوا منه، وما يجوز لهم أن يرضوا لأنفسهم غير ما رضيه الله لهم {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3]. وإذا كان اللهُ - جَلَّ شَأْنُهُ - قد اختار الإسلام دينًا ورضيه

للناس عقيدة ونظامًا، فكيف يكون لمؤمن أن يختار وقد حرم الله عليه الاختيار: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]. أفلا يعلم هؤلاء أن أحكام الإسلام لا تتجزأ ولا تقبل الإنفصال، وأن نصوصه تمنع من العمل ببعضها وإهمال البعض الآخر كما تمنع من الإيمان ببعضها والكفر ببعض، وأن الله - جَلَّ شَأْنُهُ - توعد من يفعل ذلك بالخزي في الحياة الدنيا وبالعذاب الشديد في الآخرة {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} [البقرة: 85]. ولقد تمنى قوم في عهد رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يترك الرسول بعض ما أنزل الله ليحكم بما يتفق مع أهوائهم فنزل الوحي يأمر الرسول بأن يتمسك بما أنزل الله ويحذره من اتباع أهواء هؤلاء الفساق، ويعلمه أن تحكيم الأهواء هو حكم الجاهلية، وأن أفضل حكم وأحسنه هو ما اختاره الله لعباده " {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ، {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 49، 50].

إن الذين يريدون أن يفصلوا بين العقيدة الإسلامية والنظام الإسلامي إنما هم أعداء الإسلام عن عمد أو جهل، فالنظام الإسلامي أشبه ما يكون بالآلة التي تنتج الكهرباء والعقيدة الإسلامية هي النور الذي تعمل الآلة لإنتاجه، فإذا عطلت الآلة انقطع النور وانتهى الإسلام. إن الدين الإسلامي يمتاز بأنه استطاع أن يوحد بين الأجناس والألوان والأمم، وأن يوجههم جميعًا وجهة واحدة، وأن يحملهم على نهج واحد وغاية واحدة، وما استطاع الدين الإسلامي أن يصل لهذا إلا لأنه عقيدة ونظام. ولقد جاءنا الإسلام بعقائد معينة ولكنه لم يأتنا بها مجردة، وإنما أتى معها بالنظام الذي تقوم عليه وتحيا به، وألزمنا اتباعه والتزامه، وهو نظام دقيق من التربية والتوجيه، يشمل كل شيء كما قدمنا، ويتدخل في كل حالة من حالات الإنسان، وينتقل بالفرد من مرحلة إلى مرحلة حتى ينتهي به إلى مرحلة التخلي عن أنانيته وأهوائه ويصل به إلى مرحلة التجرد لخدمة المبادئ القرآنية والفناء فيها. وهكذا يربي الإسلام المسلمين تربية واحدة ويوجههم توجيهًا موحدًا، ويجردهم لخدمة أهداف واحدة، فما يطلبه أحدهم هو ما يطلبه الآخر، وما تعمل له مجموعة منهم هو نفسه ما تعمل له كل مجموعة أخرى، وما يأمله صغيرهم هو ما يأمله كبيرهم، وما يضر أحدهم يضر مجموعهم، فهم على تعدد أشخاصهم وتباعد بلادهم نفس واحدة، وقلب واحد،

الإسلام دين ودولة

ورجل واحد، وعلى هذا الأساس شبه الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسلمين بـ «الجَسَدِ الوَاحِدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى». وإذا كان الإسلام في حقيقته عقيدة ونظامًا، فإن طبيعته تقتضيه أن يكون حكمًا، ذلك أن قيام العقيدة يقتضي قيام النظام الذي أعد لخدمتها، ولا يمكن أن يقوم النظام الإسلامي إلا في ظل حكم إسلامي يماشي النظام الإسلامي ويؤازره، إذ أن كل حكم غير إسلامي لا بد أن يؤدي إلى تعطيل النظام الإسلامي، وإذا كان قيام النظام الإسلامي يقتضي قيام حكم إسلامي فمعنى ذلك أن الحكم الإسلامي من مقتضيات الإسلام أو هو من طبيعة الإسلام. الإِسْلاَمُ دِينٌ وَدَوْلَةٌ: والإسلام ليس دينًا فحسب وإنما هو دين ودولة وفي طبيعة الإسلام أن تكون له دولة، ولو حذفنا النصوص الصريحة التي أوردناها فيما سبق والتي توجب الحكم بما أنزل الله، لما غير ذلك شيئًا من طبيعة الإسلام التي تقتضي قيام الحكم الإسلامي والدولة الإسلامية، فكل أمر في القرآن وَالسُنَّةِ يقتضي تنفيذه قيام حكم إسلامي ودولة إسلامية لان تنفيذه كما يجب غير مأمون إلا في ظل حكم إسلامي خالص ودولة إسلامية تقوم على أمر الله. وقيام الإسلام نفسه في الحدود التي رسمها الله وبينها الرسول يقتضي قيام دولة إسلامية تقيم الإسلام في حدوده المرسومة، وذلك منطق لا يجحده إلا مكابر، إذ أن الإسلام لا يمكن أن يقوم على وجهه الصحيح في ظل دولة غير إسلامية لا يهمها أن يقام، ولا يضرها أن ينتقص منه، ولا

يمنعها شيء من تعطيله أو الانحراف به، وإنما يقوم الإسلام على وجهه الصحيح في ظل دولة تقوم على مبادئ الإسلام وتتقيد بحدوده. وأكثر ما جاء به الإسلام لا يدخل تنفيذه في اختصاص الأفراد وإنما هو اختصاص الحكومات وهذا وحده يقطع بأن الحكم من طبيعة الإسلام ومقتضياته وأن الإسلام دين ودولة. فالإسلام قد أتى بتحريم كثير من الأفعال، واعتبر اتيانها جريمة يعاقب عليها، وفرض لهذه الجرائم عقوبات، ومن هذه الجرائم القتل العمد وعقوبته القصاص: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178]. والسرقة عقوبتها قطع اليد: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]. والقذف وعقوبته الجلد: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4].ولا جدال في تحريم الأفعال واعتبارها جرائم وفرض العقوبات عليها إنما هو من مسائل الحكم ومن أخص ما تقوم به الدولة، ولو لم يكن الإسلام دينًا ودولة لما سلك هذا المسلك. ولا شك أن القرآن لم يأت بالنصوص الخاصة بالجرائم عَبَثًا، وإنما جاء بها لتنفذ وتقام، وإذا كان القرآن قد أوجب على المسلمين إقامة هذه النصوص وتنفيذها، فقد أوجب عليهم أن يقيموا حكومة ودولة تسهر على إقامة هذه النصوص، وتعتبر تنفيذها بعض ما يجب عليها.

والإسلام يوجب المساواة بين الناس في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، وفي قول الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «النَّاسُ سَوَاسِيَةٌ كَأَسْنَانِ المُشْطِ الوَاحِدِ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ إِلاَّ بِالتَّقْوَى» وأخذ الناس بالمساواة داخل في اختصاص الحكومات ولا يدخل في اختصاص الأفراد. والقرآن يوجب العدالة في الحكم: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58]. والعدالة في الحكم من أخص شؤون الحكومات والدول. والإسلام يحرم الاحتكار في قول الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لاَ يَحْتَكِرُ إِلاَّ خَاطِئٌ». ويحرم الربا في قوله: تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]. ويحرم استغلال النفوذ والرشوة في قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188]. وتحريم الاحتكار والربا والاستغلال والرشوة من أول ما تعمل له الحكومات الصالحة ومن أهم اختصاصاتها. والإسلام يفرض ضرائب على الأموال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَ} [التوبة: 103]. ويفرض في أموال الأغنياء حقوقًا للفقراء {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 24، 25]. ويحمل الثروات أحمالاً

من الضرائب التي تنفق في سبيل الله وعلى ذوي الحاجة على ما رأينا في فصل المال ويقيد من يدهم المال بقيود شتى، وكل هذا من أخص أعمال الحكومات في أقدم العهود وأحدثها بل هو أهم ما يقيم الحكومات ويسقطها. والإسلام يوجب أن يكون الحكم شورى بقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]. وقوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159]. وإقامة حكم الشورى تقتضي قيام حكم إسلامي ودولة إسلامية، ولو لم يكن الإسلام دينًا ودولة لما تعرض لشكل الحكومة وَبَيَّنَ نوعها. والإسلام بعد ذلك قد جاء بنصوص يصعب حصرها تنظم صِلاَتَ الأفراد بالحكومات، وصلة الحكومات بالأفراد، وتنظم التصرفات والمعاملات من بيع وإيجار وهبة ووصية وزواج وطلاق إلى غير ذلك، وتنظم الإدارة والاقتصاد، وتحكم الفتن الداخلية والمنازعات الدولية، والسلم والحرب والصلح والمعاهدات، وتحكم كل شأن من شؤون الأفراد وشؤون الجماعات، وتقيم الجماعة على أساس من المساواة والتعاون والتضامن الاجتماعي، وهذه النصوص في مجموعها تكون دستورًا للحكم يَبُذُّ كل دستور وضعي عرف حتى الآن وتكون شريعة تحكم كل التصرفات هي أسمى ما عرف إلى اليوم من تشريعات، وكل هذه أمور لا يقوم عليها ولا يمكن أن يضطلع بها إلا الحكومات والدول، فإذا جاء بها الإسلام وأوجبها، فقد جاء بالحكومة وأوجب قيام الدولة، ما يجادل في ذلك عاقل ولا يستسيغ غيره عقل.

وإذا قلنا أن الإسلام دين ودولة، فقد يذهب الظن بالبعض إلى أن الإسلام يفرق بين الدين والدولة، وهذا ظن خاطئ، فإن الإسلام مزج بين الدين بالدولة، ومزج الدولة بالدين، حتى لا يمكن التفريق بينهما، وحتى أصبحت الدولة في الإسلام هي الدين، وأصبح الدين في الإسلام هو الدولة. فالإسلام يقيم شؤون الدنيا كلها على أساس من الدين، ويتخذ من الدين سندًا للدولة ووسيلة لضبط شؤون الحكم وتوجيه الحكام والمحكومين. والدولة المثالية في الإسلام هي الدولة التي تقيم أمور الدنيا بأمر الدين، فتأخذ رعاياها بما أمر الله، وتمنعهم عما نهى الله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 41]. والدين في الإسلام ضروري للدولة، والدولة ضرورة من ضرورات الدين، فلا يقام بغير الدولة، ولا تصلح الدولة بغير الدين.

الحكومة الإسلامية، وظيفتها ومميزاتها

الحُكُومَةُ الإِسْلاَمِيَّةُ، وَظِيفَتُهَا وَمُمَيِّزَاتُهَا: • الحكومة التي تقيم أمر الله: • منطق التجارب. • وظيفة الحكومة إقامة أمر الله. • مميزات الحكومة الإسلامية: - حكومة قرآنية. - حكومة شورى. - حكومة خلافة أو إمامة. • نوع الحكومة الإسلامية.

الحكومة التي تقيم أمر الله

الحُكُومَةُ التِي تُقِيمُ أَمْرَ اللهِ: إذا كان الله - جَلَّ شَأْنُهُ - قد أوجب علينا أن نتحاكم إلى ما أنزل على رسوله، وأن نحكم به، فقد وجب على المسلمين أن ينصبوا عليهم حكومة تقيم فيهم أمر الله وترعاه، ويتعبد أفرادها بإقامة الحكم طبقًا لما أنزل الله كما يتعبدون بالصوم والصلاة. والأصل في الحكومات أنها ضرورة اجتماعية لا مفر منها فإذا كان الحكم يتميز بصفات معينة، فقد وجب أن تتصف الحكومة القائمة عليه بنفس هذه الصفات ضمانًا لنجاح الحكم فما يستطيع فاقد الشيء أن يعطيه، وما يحسن القيام على الفكرة إلا مؤمن بها. وعلى هذا فإذا وجب أن يقوم الحكم طبقًا لشريعة الإسلام فقد وجب أن تكون الحكومة إسلامية، يؤمن أفرادها جميعًا بالمبادئ التي يقوم عليها الحكم ويحرصون على العمل بها. وإذا وجب أن يكون الحكم اشْتِرَاكِيًّا فمن البلاهة أن يترك الحكم لمن لا يؤمنون بالاشتراكية.

منطق التجارب

وإذا وجب أن يكون الحكم ديموقراطيًا فلن يصلح له حكام يؤمنون بالديكتاتورية. ذلك هو منطق الناس، وتلك طبائع الأشياء، فمن أراد أن يقيم الإسلام بحكومة تتحاكم إلى غير شريعة الإسلام فإنما يعمل على تحطيم الإسلام. مَنْطِقُ التَّجَارِبِ: ولقد أثبتت التجارب في البلاد الإسلامية أنه لا يكفي لإقامة الإسلام أن يكون الحكام مسلمين، وإنما يجب أن يتحاكموا إلى الإسلام، ويتخذوا القرآن دستورًا للحاكمين والمحكومين، وأمامنا البلاد الإسلامية كلها ليس فيها بلد واحد يقيم حكم الإسلام ويخضع له في كل الشؤون بالرغم من أن حكامها وأغلب سكانها من المسلمين. بل لقد أثبتت التجارب أن الحكام المسلمين الذين يجهلون الإسلام ولا يعملون على إقامة أحكامه كانوا وما زالوا حربًا على الإسلام وآلة طيعة في يد أعداء الله الذين يكيدون للمسلمين والإسلام، وفي عهود هؤلاء الحكام الجهال استبيحت حرمات الإسلام فحرم ما أحل الله وأحل ما حرم الله، وانتشر الفساد في المجتمع الإسلامي وشاعت الفاحشة، وانحسر مد الإسلام وذهبت ريحه، وسيطر على بلاده وأهله من لم يكن يطمع فيهم بالأمس بل ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه. هذا هو منطق البشر ومنطق الواقع ومنطق التجارب

وظيفة الحكومة إقامة أمر الله

كل ذلك يقضي بأن قيام الحكم الإسلامي يستوجب أن تؤلف الحكومات ممن يؤمن بالنظام الإسلامي وممن لا هم له إلا إقامة الإسلام وتثبيت دعائمه، وسنرى فيما يأتي أن هذا هو منطق القرآن نفسه. وَظِيفَةُ الحُكُومَةِ إِقَامَةُ أَمْرِ اللهِ: ولقد جعل الإسلام وظيفة الحكومة الإسلامية إقامة الإسلام حيث افترض القرآن في الحكومة الإسلامية أن تقضي على الشرك وتمكن للإسلام، وأن تقيم الصلاة وتأخذ الزكاة، وأن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وأن تسوس أمور الناس في حدود ما أنزل الله، وذلك قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55]. وقوله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 41]. والأمر بالمعروف هو الترغيب في كل ما ينبغي قوله أو فعله طبقًا للإسلام والنهي عن المنكر هو الترغيب في ترك ما ينبغي تركه أو تغيير ما ينبغي تغييره طبقًا لما رسمه الإسلام، فإذا قامت الحكومة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد أقامت كل ما أمر به الإسلام وهدمت كل ما يخالف الإسلام. ولقد أوجب علينا القرآن أن نطيع الحكام والحكومات

ولكنه أوجب على الحاكمين والمحكومين إذا تنازعوا في شيء أن يردوه إلى حكم الله، وأن يحكموا فيه بما أنزل الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ (¬1) فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]. ورد المتنازع فيه إلى حكم الله يقتضي أن تكون الحكومة والحكام قائمين على أمر الله حاكمين بما أنزل الله على رسوله. وإعطاء المحكومين حق منازعة الحكام ورد المتنازع فيه إلى أمر الله يقتضي أن يكون الحكام مقيدين بأمر الله لا يسمح لهم بالانحراف عما أنزل الله. وإذا كانت الحكومات تقوم على طاعة المحكومين وكان من مبادئ الإسلام أن يطيع المحكومين أولي الأمر فيهم والقائمين على شؤونهم من الحكام، فإن مبادئ الإسلام أيضا أن يخلع المحكومون طاعة الحاكمين إذا ما خرج الحاكمون على طاعة الله وفي ذلك يقول الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الخَالِقِ». وبذلك ربط الإسلام طاعة المحكومين للحاكمين بطاعة الحاكمين لأمر الله، فالحكومة الإسلاميةيجب أن تقوم على أمر الله وليس لها بأية حال أن تنحرف عما أنزل الله والا فقدت حقها في الطاعة وبالتالي حقها في الحكم. واذا كان حق الحكومة في الطاعة وفي الحكم ثابتا كلما كانت نازلة على أمر الله، فيتعين أن تكون وظيفتها هي القيام على أمر الله والعمل بكتابه. ¬

_ (¬1) يفسر البعض «أولي الأمر» بالحكام، ويفسرها غيرهم بأهل الشورى.

ميزات الحكومة الإسلامية

مِيزَاتُ الحُكُومَةِ الإِسْلاَمِيَّةِ: تختلف الحكومة الإسلاميةعن كل حكومة موجودة في العالم الآن، وعن كل حكومة وجدت من قبل، فهي حكومة فريدة في نوعها متميزة عن كل حكومة غيرها. وتتصف الحكومة الإسلامية بثلاث صفات لا توجد في غيرها من الحكومات فهي أولاً: حكومة قرآنية، وهي ثانيًا: حكومة شورى، وهي ثالثًا: حكومة خلافة أو إمامة. الصفة الأولى: حكومة قرآنية: تتميز الحكومة الإسلامية بأنها حكومة قرآنية أي أنها خاضعة للقرآن وهو الكتاب الذي أنزله الله على نبيه مُحَمَّدٍ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والقرآن هو دستور الحكومة الإسلامية الأعلى، يحكم تصرفاتها ويحدد حقوقها وواجباتها بصفة عامة، ويرسم لها الخطوط والمناهج العامة التي لا يصح لها أن تتعداها، ويدع لها ما دون ذلك من المناهج والتفصيلات. كما أن القرآن في الوقت نفسه يبين حقوق الأفراد وواجباتهم، ويحدد علاقتهم بالحكومة ومدى سلطانها عليهم ومدى خضوعها لسلطانهم. ويتميز القرآن بميزات متعددة تخالف بينه وبين أي دستور آخر عرفه البشر، ويهمنا من هذه الميزات ما يأتي:

1 - أنه كلام الله أوحى به إلى نبيه محمد النبي الأمي ليبلغه للناس نورًا يخرجهم من الظلمات وهدى يعصمهم من الضلال: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ، وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى: 51 - 53]. {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الشورى: 7] {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]. 2 - أن المسلمين مكلفون باتباع ما جاء به القرآن وبالاستمساك به، وليس لهم أن يخرجوا عليه بأية حال {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يونس: 109]. {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [الأحزاب: 2]. {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزخرف: 43]. {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف: 3]. {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 106]. 3 - أن القرآن لا يقبل التبديل ولا التعديل لأنه من عند الله ولا مبدل لكلمات الله {قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا

ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس: 15]. {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الكهف: 27]. " {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 115]. {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [يونس: 64]. 4 - أن القرآن لا يقبل الزيادة ولا يقبل النقص لأنه كمل وتم بوفاة الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وانقطاع الوحي، أو تم وكمل قبيل وفاته يوم أنزل الله عليه قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3]. 5 - أن القرآن لا يقبل النسخ، لما سبق، ولأن الله - جَلَّ شَأْنُهُ - ختم برسالة مُحَمَّدٍ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرسالات، وجعله خاتم النبيين {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]، ولأن البشر وهو مستخلفون في الأرض ليس لهم أن يخرجوا على أوامر الله الذي استخلفهم، وليس في استطاعتهم أن ينسخوا كلامه أو يبطل العمل به، فإن فعلوا فعملهم باطل بطلانًا مطلقًا لخروجهم على حدود وظيفتهم وتعرضهم لما ليس من شأنهم. ونستطيع أن ندلل على عدم قابلية القرآن للنسخ من وجه آخر، وهو القاعدة الأساسية في الشريعة الإسلامية

الصفة الثانية: حكومة شورى

وفي القوانين الوضعية هي أن النصوص لا ينسخها إلا نصوص في مثل قوتها أو أقوى منها، أي نصوص صادرة من الشارع نفسه أو من هيئة لها من سلطان التشريع - على الأقل - مثل ما للهيئة التي أصدرت النصوص المراد نسخها، فالنصوص الناسخة للقرآن يجب أن تكون قرآنًا من عند الله، وليس بعد الرسول قرآن حيث انقطع الوحي، ولا يمكن أن يقال إن ما يصدر من هيئاتنا التشريعية البشرية في درجة القرآن أو أن لها من سلطان التشريع ما للهِ وللرسولِ، وعلى هذا فليس في طوق البشر أن ينسخوا كلام الله أو يعطلوا العمل به. الصفة الثانية: حكومة شورى: جعل الله الشورى من لوازم الإيمان، حيث جعلها صفة من الصفات اللاصقة بالمؤمنين المميزة لهن عن غيرهم {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 38]، فلا يكمل إيمان المسلمين إلا بوجود صفة الشورى فيهم، ولا يجوز لجماعة مسلمة أن تقوم أو ترضى إقامة أمرها على غير الشورى وإلا كانت آثمة مضيعة لأمر الله. وأمر الله رسوله أن يشاورهم في الأمر {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159]. وما أمر الله رسوله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمشاورتهم لحاجة منه إلى رأيهم. وإنما هي

فريضة عليهم، ففرض على الحاكم أن يستشير في كل ما يمس الجماعة وفرض على الجماعة أن تبدي رأيها في كل أمورها، فليس للحاكم أن يستبد برأيه في الشؤون العامة، وليس للجماعة أن تسكت فيما يمس مصالح الجماعة، وهذا يتفق مع ما يفرضه القرآن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104]. وإذا كانت الشورى فريضة من الفرائض الإسلامية فإنها ليست مطلقة بحيث تمتد إلى كل أمر، وإنما تجب فقط فيما لم يقطع فيه القُرْآنُ وَالسُنَّةُ برأي، أما ما قطع فيه القُرْآنُ وَالسُنَّةُ برأي فهو خارج عن نطاق الشورى إلا أن تكون الشورى في حدود التنفيذ والتنظيم لما نص عليه القرآن وَبَيَّنَتْهُ السُنَّةُ. والشورى ليست مطلقة من كل قيد فيما تجب فيه، وإنما هي مقيدة بأن لا تخرج عن حدود ما جاء به القُرْآنُ وَالسُنَّةُ، فلا يجوز بأية حال أن تؤدي الشورى إلى مخالفة نصوص التشريع الإسلامي أو إلى الخروج على روح التشريع، ويجب دائمًا أن تجيء الشورى مطابقة للتشريع الإسلامي ومتابعة لاتجاهاته وروحه. والتقيد بالتشريع الإسلامي وباتجاهاته وروحه يقتضي أن يكون الحكام وأهل الشورى، أو أكثرهم، ممن يلمون

الصفة الثالثة: حكومة خلافة أو إمامة

بالتشريع الإسلامي ويفهمون روحه واتجاهاته، ومعنى هذا أن تنحصر الشورى فيمن تتوفر فيهم صفات معينة. الصفة الثالثة: حكومة خلافة أو إمامة: رأ ينا في باب الاستخلاف أن الله استخلف البشر في الأرض وأن الاستخلاف على ثلاثة أنواع: استخلاف عام، واستخلاف دول، واستخلاف أفراد، وقلنا أن استخلاف الأفراد هو الاستخلاف في الرئاسة، وأن المستخلف قد يسمى خليفة كما سمي داوود - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26]، وقد يسمى المستخلف إِمَامًا كما سمي إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - وبعض رؤساء بني إسرائيل {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124]، {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء: 73]، وقد يسمى المستخلف مَلِكًا {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} [المائدة: 20]، {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} [البقرة: 247]. والخلافة والإمامة والملك لا يقصد منها في نصوص القرآن إلا الرئاسة بمعناها العام، ولا يقصد منها الدلالة على نظام معين من أنظمة الحكم، ذلك أن داوود سمي في القرآن خليفة وسمي مَلِكًا {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً} [ص: 26].

{وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} [البقرة: 251]، كما أن إبراهيم سمي في موضع إمامًا ووعد أن يكون المهتدون من ذريته أئمة {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124]. بينما وصف ذريته في موضع آخر بوصف الملوك {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء: 54]. وَوُعِدَ بنو إسرائيل أن يكونوا أئمة بعد استضعافهم واستبعاد فرعون لهم {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5].فلما تخلصوا من ظلم فرعون وَكَوَّنُوا لأنفسهم دولة مستقلة أخذ موسى يذكرهم بنعمة الله عليهم ويقول لهم: {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} [المائدة: 20]، فالخلافة والملك والإمامة مترادفات تدل على الرئاسة العليا للدولة ولا تدل على أكثر من ذلك. ونظام الحكم الوحيد الذي يعرفه الإسلام هو الحكم القائم على دعامتين: أحدهما: طاعة أمر الله واجتناب نواهيه، والثانية: الشورى أي أن يكون أمر الناس شورى بينهم. فإذا قام الحكم على هاتين الدعامتين فهو حكم إسلامي خالص، وليسمى بعد ذلك بالخلافة أو الإمامة أو الملك فكل هذه التسميات تسميات صحيحة لا غبار عليها. أما إذا قام الحكم على غير هاتين الدعامتين فهو حكم لا ينتسب للإسلام بنسب ولا يتصل به بسبب ولو سمي خلافة

أو إمامة، وأقرب الأمثلة على ذلك حكم الخلفاء الأتراك في عهودهم المتأخرة فقد كان رؤساء الدولة يسمون أنفسهم خلفاء وتسمى دولتهم دولة الخلافة وتسمى حكومتهم حكومة الخلافة ولكنهم كانوا هم ودولتهم وحكومتهم أبعد شيء عن نظام الحكم الإسلامي. ولقد استقر أمر العالم كله قبل أن يجيء الإسلام على أن يكون نظام الحكم الملكي وراثيًا يتوارثه الأبناء عن الآباء، وأصبحت لهذا النظام سمات وعلامات تميزه عن غيره من أنظمة الحكم، فهو يتميز فضلاً عن الوراثة بتعالي الملوك واستعلائهم المستمر على الرعايا، ويتميز بما يحيك الملوك أنفسهم به من الترف الذي يهيء لسقوط الهمم وفساد الاخلاق وتفشي المنكرات، ويتميز أخيرًا بأنه يؤدي بطبيعته إلى الفساد العام. ولما كان هدف الإسلام هو الاصلاح والتسوية بين الناس وتوفير الخير وإشاعته بينهم فقد كره لهم التعالي، وحرم عليهم أن يريدوا الاستعلاء، كما حرم عليهم كل ما يؤدي إلى الفساد، ونبه المسلمين إلى أن هذه الصفات ليست من صفات المتقين المؤمنين في شيء {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]. ولقد جاء الإسلام بالشورى ففرضها على المسلمين وألزمهم أن يجعلوا كل أمورهم شورى بينهم {وَأَمْرُهُمْ

شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]. والشورى تقتضي أن تختار الأمة رئيس الدولة وأن تعزله إذا وجد منه ما يستلزم عزله، وهذا وحده يتنافى مع ما استقر عليه نظام الحكم الملكي من توارث الحكم. ولأن نظام الحكم الملكي كان عندما جاء الإسلام متميزًا بالوراثة وبالعلو في الأرض والإفساد فقد كره المسلمون أن يسموا أنفسهم ملوكًا، وكان أول من كره ذلك هو الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقد روى عنه أنه قال لرجل وقف بين يديه فأخذته رعدة «هَوِّنْ عَلَيْكَ فَمَا أَنَا بِمَلِكٍ وَلاَ جَبَّارٍ» وجرى على ذلك خلفاؤه من بعده، حتى إذا أخذ معاوية البيعة لابنه يزيد أخذ أصحاب الرسول والتابعون يرمون معاوية خاصة وبني أمية عامة بأنهم حَوَّلُوا الحكم الإسلامي إلى ملك عضوض وإلى حكومة كسروية، أو هرقلية نسبة إلى كسرى ملك الفرس وهرقل ملك الروم. وإذا كان التباين بين الحكم الإسلامي في طبيعته ونظام الحكم الملكي في أوضاعه المستقرة قد اقتضى المسلمين أن يكرهوا تسمية أنفسهم بالملوك وتسمية نظام الحكم بالملك، فقد اقتضاهم أيضًا أن يبحثوا في تسميات أخرى، فأسعفتهم النصوص القرآنية الواردة في استخلاف الحكم بما يريدون، فسموا نظام الحكم بالخلافة أو الإمامة، وسموا رئيس الدولة بالخليفة أو الإمام. وقد جرت العادة على أن تسمى إمامة الحكم بالإمامة العظمى

تمييزًا لها عما عداها من الإمامات كإمامة الصلاة، وتبعًا لذلك يسمى رئيس الدولة بالإمام الأعظم أي الإمام الذي ليس فوقه إمام. ويري البعض أن لفظ الخلافة اختير لنظام الحكم الإسلامي وأن رئيس الدولة سمي بالخليفة، لأن من جاء بعد النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلف النبي في رئاسة الدولة فسمي خليفته وسمي منصبه بالخلافة بدليل أن المسلمين كانوا ينادون أبا بكر بخليفة رسول الله، وهذا في الحقيقة ليس شيئًا ولكنهم راعوا في التسمية نصوص القرآن، وسموا رئيس الدولة خليفة وإمامًا متأثرين بالنصوص، ولقد كان أبوبكر رئيس دولة فاعتبر بنص القرآن خليفة وإمامًا، وكان في الوقت نفسه خليفة لرسول الله لأنه خلفه في الحكم. ولا يفوتنا في هذا المقام أن نلاحظ أن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يجمع في رئاسته للدولة بين النبوة وخلافة الحكم، فهو نبي باعتبار ما يوحى إليه وخليفة باعتباره رئيس الدولة فإذا خلفه أحد في الحكم فهو خليفته باعتباره خلفًا له، وهو خليفة باعتباره مستخلفًا من الله في الحكم. والأصل أن البشر كلهم مستخلفون في الأرض استخلافًا عَامًّا، فهم نواب عن الله - عَزَّ وَجَلَّ - في الأرض وعليهم أن يقوموا على أمره ونهيه، ولكنهم لا يستطيعون أن يقيموا أمر الله على ما ينبغي إذا كانوا أفرادًا لا تربطهم رابطة، ولا يجمعهم سلطان يخضع له قويهم ويفيء إليه ضعيفهم، كما أن طبيعة الاجتماع

والضرورات الاجتماعية تقتضي أن يقيموا حكومة تفصل بينهم في مشاكلهم وتنوب عنهم جميعًا في القيام بأمر الله وبما يرتبه عليهم واجب الاستخلاف في الأرض وواجب الاستخلاف في الحكم. وإذا كانت الحكومة نائبة عن الجماعة لتقيم فيهم أمر الله، ولتشرف على مصالح الجماعة، وكان الخليفة أو الإمام هو ممثل الحكومة الأول، فإنه يعتبر نائبًا عن الجماعة كلها في وظيفة الخلافة التي جعلت لإقامة ما يجب على الجماعة كلها من أداء حق الله وإنفاذ أمره، وللفصل في خصومات الأفراد، وكف قويهم عن ضعيفهم ونشر العدالة والمساواة بينهم، وأخذهم بالتعاون والتضامن وتوجيههم إلى الخير والبر كل ذلك في حدود ما أمر الله واجتناب ما نهى عنه. ولا يعتبر الخليفة نائبًا عن الله - جَلَّ شَأْنُهُ - إلا بقدر ما يعتبر أي فرد آخر على وجه الأرض. وإذا قيل أن الخليفة بنيابته عن الجماعة التي تنوب عن الله يعتبر النائب عن الله فإنه يرد على ذلك بأن نيابة الخليفة عن الله في هذا الوجه هي نيابة غير مباشرة ولم ينظر إليها في إقامة الخليفة، وما أقامت الجماعة الخليفة إلا ليكون نائبًا عنها، وما استمد ولا يستمد سلطانه إلا من نيابته عن الجماعة التي أقامته والتي تملك حق مراقبته ومنعه من الخروج على حدود نيابته، بل للجماعة أن تقيد تصرفاته، وأن ترسم له الطريق التي يسلكها في تأدية واجب النيابة عنها، وقواعد النيابة تقضي بذلك، كما أن

الإسلام يفرضه على الناس حيث أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمنع الحكام من الظلم والتعسف في استعمال حقوقهم، ولمنعهم من الإهمال في أداء واجباتهم، ولمراقبة الحكام والمحكومين في إقامة أمر الله وإنفاذه على وجهه {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104]. وولاية الخلافة لا تتم إلا باختيار الجماعة للخليفة، ليس ذلك لأنه منطق الضرورات الاجتماعية الذي سبق بيانه، ولكن لأن القرار فرض على المسلمين أن يكون أمرهم شورى بينهم " {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]. فلا يصح أن يستأثر بأمر المسلمين أحد بغير رضاء جماعتهم، ولا تعتبر ولاية الخليفة قائمة إلا باختيار ممن لهم حق اختيار الخليفة، وبالقبول من جانب الشخص الذي وقع عليه الاختيار. واختيار الخليفة على هذا الوجه يؤكد أن الخلافة ليست إلا عقد نيابة يتم بين الجماعة والخليفة، فَتَكِلُ الجَمَاعَةُ إلى الخليفة أن يقوم فيها بأمر الله، وأن يدير شؤونها في حدود ما أنزل الله، ويقبل الخليفة أن يقوم بالأمر في الجماعة طبقًا لما أمر به الله. وولاية الخلافة ليست محدودة بمدة معينة، فما دام الخليفة قائمًا بأمر الله وعلى قيد الحياة فهو خليفة. فإذا خرج على أمر

نوع الحكومة الإسلامية

الله، أو قامت فيه صفة تستوجب العزل كان للجماعة عزله وتولية غيره، وإذا مات انتهت ولايته بموته. نَوْعُ الحُكُومَةِ الإِسْلاَمِيَّةِ: قلنا فيما سبق أن الحكومة الإسلامية فريدة في نوعها، متميزة عن غيرها، وإنها تختلف عن كل حكومة موجودة في العالم الآن، وعن كل حكومة وجدت من قبل .. وسنبين فيما يلي أن الحكومة الإسلامية لا يمكن إدخالها تحت أي نوع من أنواع الحكومات التي عرفها العالم، وأنها حكومة لا مثيل لها. فالحكومة الإسلامية كما عرفنا مقيدة باتخاذ القرآن دستورًا لها، وملزمة بالنزول على أحكامه التي لا تقبل تبديلاً ولا تعديلاً ولا تعطيلاً، فهي بذلك ليست من نوع الحكومات المستبدة المطلقة من كل قيد، كما أنها ليست من نوع الحكومات القانونية، لأن الحكومات القانونية تخضع لقوانين وأنظمة يضعها البشر وهم متأثرون بأهوائهم وشهواتهم، والقوانين والأنظمة التي يضعها البشر قابلة للتبديل والتعديل والإلغاء إذا ما قضت بذلك أهواء البشر وشهواتهم. أما أحكام القرآن فهي من عند الله، وهي دائمة إلى الأبد لا تماشي أهواء الحكام ولا أهواء المحكومين، وإنما تعدل الفريقين وتوفي كُلاًّ حَقَّهُ في حدود العدل الخالص مع حفظ مصلحة الجماعة. ولتكون الموازنة كاملة ينبغي أن تعلم أن نصوص القرآن جاءت بالأحكام الكلية، ورسمت المناهج العامة للحكم والإدارة،

وتركت ما دون ذلك لأولي الأمر ينظمونه بقوانين يضعونها ولكن هذه القوانين، وهي من وضع البشر يجب أن يراعى فيها ألا تخرج على الإسلام العامة، وأن تكون تطبيقًا دقيقًا لروح الشريعة الإسلامية، فهذه القوانين التي يضعها أولو الأمر ليست في الحقيقة إلا صدى القرآن وظله، وهناك فرق كبير بينها وبين القوانين التي يضعها البشر غير مقيدين إلا بأرائهم وأهوائهم ومصالحهم. وإذا كان من أخص صفات الحكومة الإسلامية أنها حكومة شورى فإنها لا تشبه في شيء الحكومات النيابية، كما أنها تخالف في طبيعتها الحكومات غير النيابية، وإذا كان أساس الحكومات النيابية في العالم هو الشورى إلا أن الشورى في الحكومات الإسلامية لا تشبه في شكلها، ولا نوعها، ولا الغرض منها، تلك الشورى التي تقوم عليها الحكومات النيابية. وإذا كان من وظيفة الحكومة الإسلامية أن تقيم الدين فإنها لا تعتبر من نوع الحكومات الدينية التي يسميها الفقه الدستوري حكومات ثيوقراطية، إذ أن الحكومة الإسلامية لا تستمد سلطانها من الله وإنما تستمده من الجماعة. وهي لا تصل للحكم ولا تنزل عنه إلا برأي الجماعة، وهي مقيدة في كل أعمالها وتصرفاتها برأي الجماعة. والتزام الحكومة حدود الدين الإسلامي لا يغير من هذه النتيجة شيئًا ما، لأن الدين الإسلامي يدعو الناس أن يعملوا لدنياهم قبل أن يدعوهم ليعملوا لأخراهم، بل إنه من يرتب الحياة الأخرى على ما يعمله

المرء في حياته الدنيا فهو دُنْيَا قبل أن يكون دينًا، وهو أُولَى قبل أن يكون آخرة، وإذا كان الإسلام قد حد للناس حدودًا لا يتعدونها، ووضع لهم أحكامًا ألزمهم اتباعها فإنه لم يسلبهم حريتهم في العمل، ولم يملك عليهم كل أمرهم، بل ترك لهم أن يفكروا في أنفسهم وأن يدبروا حياتهم وأن يعملوا بوسائلهم، وترك لهم أن ينظموا أنفسهم وأن يرعوا مصالحهم الخاصة والعامة، وأن يعدوا لمستقبلهم ما يشاؤون من الخطط التي تؤدي إلى رقيهم وإسعادهم وتفوقهم. ونستطيع أن نقول في غير تجوز إن الإسلام ترك للبشر الحرية كاملة فيما يأخذون وما يدعون، ولم يقيدهم إلا بأن تكون حياتهم قائمة على الفضائل حتى يحيوا حياة فاضلة تسودها العدالة والمساواة والحب والتضامن وغير ذلك من المبادئ الإنسانية العليا التي جاء بها الإسلام والتي يدعي العالم كله أنه يعمل لتحقيقها وما يستطيع أن يحققها بعد أن انسلخ عن الدين واتبع الأهواء والشهوات، تلك المبادئ التي نسميها إنسانية وماعرفها أهل الأرض إلا عن طريق السماء ورسالات الأنبياء. ولقد فرض الله الشورى على المسلمين وجعلها عمادًا لحياتهم العامة، ولو كانت الحكومة الإسلامية حكومة ثيوقراطية لما كانت الشورى، ولما ألزم الله رسوله أن يشاورهم في الأمر {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159]. وهو في غنى عن

مشاورة البشر بالوحي الإلهي، ولما ألزم الرسول نفسه نتائج المشورة المخالفة لرأيه الخاص كما فعل في غزوة بدر وغزوة أحد وغيرهما من المواقف، وإنما ألزم الله رسوله المشورة ليضع للناس قواعد الشورى، وألزم الرسول نفسه بنتائج المشورة ليسن لمن بعده أن يلتزم نتائجها ويتقيد بها. ولو كانت الحكومة الإسلامية ثيوقراطية لكان للخليفة أن يفعل ما يشاء ويترك ما يشاء، ولكن الخليفة وكل حاكم إسلامي مقيد، فيما ورد فيه نص، بنصوص القرآن والسنة، وفيما لم يرد فيه نص بما تسفر عنه الشورى. وإذا كان نظام الحكم الديموقراطي يشبه نظام الحكم الإسلامي فيما يوجبه من اختيار الحكام بمعرفة ممثلي الأمة وفيما يوجبه من قيام الحكم على العدل والمساواة وفيما يطلقه من حرية العقول والأفكار، فإن نظام الحكم الإسلامي يختلف عن الديموقراطية في أنه يقيد الحاكمين والمحكومين بقيود تمنعهم من الإنطلاق وراء الأهواء وتحول بينهم وبين الخضوع للشهوات. كذلك يختلف الإسلام عن الديموقراطية في أنه لا يترك مقاييس العدالة والمساواة وغير ذلك من الفضائل الإنسانية في يد البشر يرسمون حدودها فيوسعونها تارة ويضيقون منها أخرى نزولاً على أهواءهم وخضوعًا لشهواتهم، وإنما يرسم الإسلام حدود الفضائل والمبادئ الإنسانية ويضع مقاييسها ويخضع البشر لهذه المقاييس العلوية، وبذلك حمى الإسلام الحياة العامة من الفساد، وكبح الأهواء، وأقام

الحكم على أسس من الفضيلة يسلم بها الجميع ويحترمونها ولا يأنفون من الخضوع لها. أما الديموقراطية فتترك للبشر أن يرسموا حدود كل شيء وأن يضعوا المقاييس للحياة البشرية ومن ثم جمحت بهم الأهواء والشهوات وتغلبت عليهم المصالح والمنافع وانقلبت المجتمعات الديموقراطية إلى مجتمعات متحللة فاسدة تشيع فيها الرذائل وتعيش على مسخ المعاني السامية والفضائل الإنسانية، فالعدالة لا تقاس بمقياس القرابة والزلفى والحقوق لا تصل لأربابها إلا عن طريق الرشوة والمحسوبية، والتحرر العقلي معناه الانطلاق من الحياة والدين والأخلاق وهدم كل ما يميز الإنسان العاقل عن الأنعام والسوائم. وإذا كان النظام الجمهوري يشبه النظام الإسلامي من حيث اختيار الرئيس الأعلى للجمهورية فإنه لا يوجد أي نظام جمهوري يسمح بانتخاب رئيس الدولة لمدى الحياة كما يسمح بذلك النظام الإسلامي، فضلاً عما سبق بيانه من وجوه الخلاف بين النظام الإسلامي والأنظمة الديموقراطية. وليس بين النظام الإسلامي وبين الأنظمة الديكتاتورية أي وجه من وجوه المشابهة، فالنظام الإسلامي يقوم على البيعة والشورى، وعلى حدود مرسومة بين الحاكمين والمحكومين، وعلى جواز عزل الحاكم، ولا تسمح الأنظمة الديكتاتورية بشيء من ذلك.

ويختلف نظام الحكم الإسلامي عن أنظمة الحكم الملكية، فما يورث الحكم والسلطان في الإسلام، وإنما يترك للجماعة أن تختار للحكم من تراه أصلح الناس له وأقدرهم عليه وحسبنا دليلاً على ذلك أن النبي لقي ربه فما تولى الحكم بعده أحد من أهله وإنما خلفه أبو بكر، فلما توفي لم يخلفه أحد من أهله وإنما خلفه عمر، فلما قتل خلفه عثمان وهو من غير أهله، فلما قتل خلفه عَلِيٌّ وما كان من أهل عثمان. وأخيرًا فان كل من يحاول الادعاء بأن نظام الحكم الإسلامي يماثل نظامًا معينًا من أنظمة الحكم التي عرفها العالم قديمًا وحديثًا فإنما يتكل ويدعي ما لا يعلم ويبعد عن الحق، فالنظام الإسلامي نظام فريد في نوعه أوجده الإسلام ولم يحاول أحد أن يقلد المسلمين فيه، بل إن المسلمين أنفسهم لم يطبقوا النظام الإسلامي بعد وفاة النبي إلا في عهد الخلفاء الراشدين، ثم حولت الأهواء هذا النظام الإلهي إلى ملك عضوض لا يتورع أن يعطل أحكام الإسلام، ويحل حرمات الله ليمكن للأطفال والفساق والظلمة من رقاب المسلمين.

§1/1