المآخذ على شراح ديوان أبي الطيب المتنبي

المهلبي، أبو العباس

الجزء الأول المآخذ على شرح ابن جني الموسوم بالفسر

الجزء الأول المآخذ على شرح ابن جني الموسوم بالفسر

نص الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي شرف الإنسان بنطق اللسان على سائر الحيوان، وفضل اللغة العربية على سائر اللغات بالبيان والتبيان، وألقى في صدف الآذان من جوهر بحار الأذهان ما يربي على الدر والمرجان، وألهم من الكلم المنظوم ما يوفي على المنثور إلا على القرآن، وجعل الشعراء يتسابقون في حلبة الشعر كالخيل يوم الرهان: فمنهم مجل نبرز، وسكيت مقصر عن مدى ذلك الميدان، وميز بين الفكر الصحيح والسقيم في استخراج دفائن معان كالعقيان، فلا يهتدي لإصابة عيون تلك المحاسن إلا المحسنو النضال والطعان، وصلى الله على الكامل المبعوث من عدنان، بأكمل الأديان إلى الإنس والجان، وعلى آله وصحبه أولي الضل والإفضال واليمن والإيمان، وبعد: فإني لما رأيت ما حظي به أبو الطيب أحمد بن الحسين المتنبي من اعتناء الناس بشعره؛ العالم منهم والجاهل، ولهجهم بذكره؛ النبيه فيهم والخامل، والتقييد لأوابد أمثاله السيارة، والتنقيب عن غوامض معانيه الحسنة المختارة، والتمثيل بأبياته الشوارد، والترتيل لآياتها في المشاهد، والتضمين لها في صدور الكتب والرسائل، والتزيين بها في قلوب المجالس والمحافل، وكثرة الشارحين لها من الفضلاء، والحانين عليها من الأدباء، حتى لقد كادت تنسيهم أشعار الأوائل وتلهيهم عن تلك الفضائل، فتهدم منها ذلك المنار، وتطفئ منها تلك النار. وقد قال في ذلك بعض شعراء أهل العصر: (الرمل) يَا أبَا الطَّيَّب أَهْدَيْ ... تَ لنا من فِيكَ طِيبَا مَنْطِقاً نَظْماً كَنظْم ال ... درَّ في الدُّرَّ غَرِيَبا أَطْرَبَ الأنْفُسَ لَّما ... راحَ للرَّاح نَسِيَبا مُنْسِيا ذِكْراهُ من ذِكْ ... رى حَبِيبٍ وحَبيبَا

إلا أنهم قصروا في بعض المعاني فهدموا بها تلك المباني، وأشكل عليهم بعض الأبيات، فخفيت عنهم تلك الآيات. فرأيت أن أضع كتابا مختصرا ينبه على ما أغفلوه، ويهدي إلى ما أضلوه، ويبين ما جهلوه، من غير أن أكون زاريا عليهم أو مهدي اللوم إليهم، كيف وقد سهلت أقدامهم من وعره، وبينت أفهامهم من سره، فأصابوا الجم الغفير، وأخطئوا النزر اليسير: (الطويل) ومَنْ ذَا الذي حَازَ الكمالَ فيَكْمُلاَ والشروح التي تتبعها، واستخرجت مآخذها وجمعتها خمسة شروح: شرح ابن جني. شرح أبي العلاء المعري. شرح الواحدي. شرح التبريزي. شرح الكندي. لأن هذه المشهورة الدائرة في أيدي الناس، المحفوظة المنقولة بألسن الرواة الأكياس، فإذا وقف الطالب على هذا المختصر، وتأمله ممعنا فيه النظر، تبين أن قد حلت له تلك المعاني المشكلة، وفتحت له تلك الأبواب المقفلة، وتناول بعد ذلك ما سواها في هذه الشروح على ثقة بالصواب، ويقين لدى السؤال بصحة الجواب. وربما وقع فيها قول لغير من ذكرته فبينت الصحيح من السقيم، والمعوج من القويم، إلا أن هذا الخطر الذي تجشمته، والعبء الذي تحملته مرام بعيد، ومقام شديد، ليس من شأن من استنفد عمره في معرفة وجوه الإعراب، واستفرغ جهده في ضبط لغة الأعراب، ولا من نظم

أبياتا في صدر كتاب أو رد جواب، أو استزارة صديق، أو استهداء رحيق وما أشبه ذلك مما لم ينعم فيه النظر، ويتعب به الفكر. ولكن هذا من شأن من أطال معاركة المعاني والقوافي، فبات منها على مثل الأشافي ودفع إلى سلوك مضائقها، وحماية حقائقها، وجاب سهولها وحزونها، وراض ذلولها وحرونها، وافترع أبكارها وعونها، وفجر أنهارها وعيونها، وأبرم حبال وقصيدها، وأحكم نظام درها وفريدها، وأطال إبالة حيلها وعشارها، وأجال قداحه على أعشارها، وكسع شولها بأغبارها، فإذا وصل إلى هذه الفضيلة، ورقي هذه الرتبة الجليلة، وأحس من نفسه بلوغ كمالها، وإحراز خصالها، فعند ذلك فليتعاظ شرح أشعار الفحول، وليعان استنباط معاني فروعها والأصول، وأحكام علم جملها والفصول. ولست بمدع إدراك هذه المنزلة، وإحراز هذه التكملة، ولكني حاطيها لعلى ممن يدانيها، ويبلي فيها (فيسلك بعض شعابها، ويتمسك ببعض أسبابها)، فإن أصبت الصواب فبيمن من وسمت باسمه هذا الكتاب، وإن زلت قدمي عن الطريق، فمنه استمد الهداية والرشد والتوفيق، ومن الله تلتمس لإعانة، وتقتبس الإبانة. فأول ما ينبغي أن يبتدأ به من المآخذ في شروح ديوان أبي الطيب، المآخذ على الشيخ أبي الفتح عثمان بن جني؛ لأنه هو المبتدئ لشرحه، المفتتح لفسره، المسند إليه رواياته، المأخوذ عنه حكاياته، وقد طول في الشواهد وقصر في المعاني، وسأبين ذلك في مواضعه إن شاء الله تعالى.

فمن ذلك ما ذكره في خطبة الكتاب من قوله: (الخفيف) حَسَنٌ في عيونِ أعدائِهِ أَقْ ... بَحُ مِنْ ضَيْفِهِ رَأَتْهُ السَّوامُ قال: الذي يسبق إلى النفس من هذا؛ أنه حسن في عيون أعدائه، وأنه أقبح من ضيفه رأته السوام. وليس الأمر كذلك بل بضده. وإنما معناه: حسن: أي: هو حسن، وتم الكلام. ثم كأنه قال: هو أقبح في عيون أعدائه من ضيفه في وقت رؤية السوام له، وهو المال الراعي؛ لأنه ينحره للأضياف، وكذلك يهلك الأعداء ويبرهم. وأقول: إن هذا الذي فسره وجه صالح، وليس أن يرد التفسير الأول، وقد ذكره الشيخ أبو العلاء، وهو أن أعداءه يرونه حسن الصورة قبيح الفعل فهم في هذا يرونه قبيحا حسنا، وفي الوجه الآخر يرونه قبيحا. فتفسير أبي العلاء أمدح لإثبات الحسن له (عند كل أحد)، وأصنع لإثبات الحسن له والقبح، (وأخذه) من وجهين مختلفين. ومن ذلك في الخطبة أيضا قوله:

قال: تم الكلام على أصغره أي: استكبروه منه واستصغروه هو. ثم قال مبتدئا: . . . . . . . . . ... أكبرُ من فعِلِهِ الذي فَعَلَهْ أي: فاعل الفعل أكبر من الفعل، فكأنه قال: هو أكبر من فعله. وأقول: هذا وجه حسن، وثم وجه آخر قد ذكره غيره، وهو أن يكون أكبر من فعله فاعلا العامل فيه أصغره، كأنه قال: وأصغره رجل أو فارس أكبر من فعله. ومن ذلك في الخطبة أيضا تفسيره قوله: (الطويل) وقد عَادَتِ الأجْفَانُ قُرحاً من البُكا ... وعادَ بَهَاراً في الخُدودِ الشَّقَائقُ قال: ومما استدللت به حصافة لفظه وصحة صنعته ودقة فكره؛ أنني سألته عن قوله في البيت، فقلت: أقرحى: مما أم قرحا: منون؟ فقال: قرحا: منون، ثم قال: ألا ترى أن بعده: وعاد بهارا؟ يقول: فكما أن بهارا جمع بهارة وإنما بينهما الهاء، فكذلك قرحا جمع قرحة فإنما بينهما الهاء.

وأقول: لعل أبا الطيب لم يرد الذي ذكره من الجمع بينهما بالجمع الذي بينه وبين مفرده الهاء، وإنما أراد بالتنوين المبالغة في المعنى، فجعل الأجفان قرحا ولم يصفها بقرحى؛ لأن الأول أبلغ (كما كان بهارا كذلك)، ويكون من باب: (البسيط) . . . . . . . . . ... فإنَّما هي إقْبَالٌ وإدبارُ لأن الوصف بالمصدر أبلغ من الوصف باسم الفاعل، ومنه رجل فطر وصوم، أو يكون أراد تحسين الألفاظ فصرف الكلمتين؛ لأن ذلك أحسن في الذوق وأعذب في السمع. ومن ذلك قوله: وإني لأعجب ممن يجهل فضله، أو يستجيز تجاهله وهو الذي يقول: (الطويل) إذَا كان شَمُّ الرَّوح أدنى إليكم ... فلا بَرِحَتْني رَوْضَةٌ وقَبُولُ فأي محدث يتعالى في عذوبته إلى أن يقول: . . . . . . . . . . ... فلا بَرِحتَنْي رَوْضَةٌ وقَبْولُ فيقال له: إذا كان تفسير هذا كما ذكرته وهو: فلا برحت روضة وقبول إياي، لم يكن فبه عذوبة ولا عليه طلاوة، وأما المعنى فلم يقع موقعه من الغزل لذكر الموت وذلك قوله قبله: (الطويل)

وإنَّ رَحِيلاً واحداً حالَ بيْنَنَا ... وفي المَوْتِ من بعد الرَّحيلِ رَحيِلُ ومن ذلك قوله في شرح قوله: (الكامل) وَهَبِ المَلامَةَ في اللَّذَاذةِ كالكَرَى ... مَطْرُودةً بسُهَادِهِ وبكائِهِ قال: يقول: أجعل ملامتك إياه في التذاذكها كالنوم في لذته، فاطردها عنه بما عنده من السهاد والبكاء، أي: لا تجمع عليه اللوم والسهاد والبكاء، أي: فكما أن السهاد والبكاء قد أزالا كراه، فاترك ملامتك إياه.

وأقول: هذا ليس بشيء! والمعنى: أنه قال لعاذله: إن الكرى الذي يستلذ به الإنسان قد طردته عن عيني بالسهاد والبكاء؛ فاجعل الملامة المستلذة عنه كالكرى مطرودة عني بهما. ويحتمل أن يكون المعنى: هب الملامة التي لا استلذ بها، بل استضر بها، كاكرى في اللذاذة، أفليس الكرى المستلذ به مطرودا بالسهاد والبكاء؟ فما ظنك بالملامة؟ فاجعلها كذلك؛ (والوجه الأ (ول) هو الصواب). وقوله: (الكامل) وشَكِيَّتي فَقْدُ السَّقَام لأنَّهُ ... قد كانَ لَّما لي أَعْضَاءُ قال: يقول: إنما كنت أحس السقام بأعضائي، فلما فنيت وتلفت للضر والمشقة شكوت فقد السقام؛ لأن السقيم، على كل حال، موجود والفاني معدوم، والعدم اعظم من السقم؛ هذا يقتضيه ظاهر اللفظ. ومحصول البيت أنه يطلب أعضاءه لا السقام.

وأقول: إن تفسيره البيت صواب إلى قوله: والعدم اعظم من السقم. وقوله: ومحصول البيت أنه يطلب أعضائه لا السقام ليس بشيء! بل محصول البيت أنه يطلب حالا اصلح من الحال التي هو فيها وإن غير صالحتين، أي: أنا في حال العدم، فمن لي أن أرجع إلى حال السقام! وهذا مثل قوله: (الطويل) ومن لي بَيوْمٍ يَوْمٍ كَرِهْتُهُ ... قَرُبْتُ به عند الوَدَاعِ من البُعْدِ وقوله: (الكامل) لا تكْثُرُ الأمْواتُ كثْرَةَ قِلَّةِ ... إلاَّ إذا شَقِيتْ بكَ الأحْيَاءُ قال: قوله: كثرة قلة: يقول: إنما تكثر الأموات إذا قل الأحياء، فكثرتهم كأنها، في الحقيقة، قلة. وقوله: شقيت بك أي: شقيت بفقدك، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، وهذا كقوله تعالى: (ولكن البر من آمن بالله). وقوى ذلك بما حكاه عن أبي عمرو السلمي قال: عدت أبا علي في علته التي مات فيها فاستنشدني: لا تكثُرُ الأموات. . . البيت. . . فلم أزل أنشده وهو يستعيده إلى أن مات!

قال الواحدي: وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أنه إذا مات واحد لا يكون ذلك كثرة قلة. والآخر: أنه لا يخاطب الممدوح بمثل هذا. قال: ولكن المعنى أنه أراد بالأموات القتلى، لا اللذين ماتوا قبل الممدوح. ومعنى شقيت بك أي: بغضبك عليهم، وقتلك إياهم. يقول: لا تكثر القتلى إلا إذا قاتلت الأحياء، وشقوا بغضبك، فإذا غضبت عليهم وقاتلتهم قتلتهم كلهم. وأقول: إن قوله: إنه أراد بالأموات القتلى لا اللذين ماتوا بغير قتل خطأ؛ لأن في ذلك صرف الكلام عن ظاهره، وحمله على المجاز من غير علة محوجة. والمعنى: لا تكثر الأموات الذين في القبور إلا إذا غضبت على الأحياء وقتلتهم، فحينئذ تكثر الأموات (بمن قتلته لإضافتهم إليهم،) وتلك الكثرة قلة؛ لأنه لا فائدة لهم فيها ولا انتفاع بها. وقوله: (الخفيف) وأنا مِنْكَ لا يُهَنَّئ عُضْوٌ ... بالمَسَرَّاتِ سَائرَ الأعْضَاءِ

قال: يقول: أنا منك أهنئك؟ وهل رأيت عضوا من جملة هنأ سائر الأعضاء منها؟ وأقول: هذا الذي أنكره مستبعدا قد جاء لأبي نواس أحسن مجيء على وجه المجاز والاستعارة وهو قوله: (البسيط) قَنِعْتُ إذْ نِلْتُ من أَحْبَابِي النَّظرا ... وقلتُ: يا ربَّ ما أعطيتَ ذّا بَشَرا لم يَبْقَ مِنَّيَ من قَرْنٍ إلى قَدَمِ ... شيءٌ سوى القَلْبِ إلاَّ هَنَّأ البَصَرا وقوله: (الطويل) سُبِقْنَا إلى الدُّنْيَا فَلَوْ عَاش أَهْلُهَا ... مُنِعْنَا بها من جَيْئَةٍ وذُهُوبِ قال: أي لو عاش من قبلنا لما أمكننا نحن المجيء والذهاب، لأن الله - تعالى - بنى الدنيا على الكون والفساد ولم يخصصها بأحدهما وليس ذلك في الحكمة. وأقول: الظاهر أنه أراد: أي لو عاش أهل الدنيا فلا يموتون لامتلأت الأرض من الخلق فتعذرت الحركة عليها؛ المجيء والذهاب، لكثرة الخلق. وفي هذا تسلية لسيف الدولة بكثرة من مات.

وقوله: (الطويل) ولا فَضْلَ فيها للشَّجاعة والنَّدَى ... وصَبْرِ الفَتَى لَوْلاَ لِقاءُ شَعُوبِ قال: يقول: لو أمن الناس الموت لما كان للشجاع فضل؛ لأنه قد أيقن بالخلود فلا خوف عليه، وكذلك الصابر والسخي، لأن في الخلود وتنقل الأحوال من عسر إلى يسر، وشدة إلى رخاء ما يسكن النفوس، ويسهل البؤس. وأقول: إن قوله في الشجاع صواب، وفي الصابر والسخي بما علله من العسر واليسر وغير ذلك غير صواب. والصحيح؛ أن يعلل أمر الصابر والسخي بما علل به أمر الشجاع، فيقال إن الشجاع لو لم يتخوف الموت، ويجوز وقوع الهلاك، لما كان لإقدامه فضل. وكذلك الصابر؛ لأنه بمنزلة الشجاع لأن الصبر شجاعة، والشجاعة صبر. وكذلك يقال في الجواد: إنه إذا أعطى ماله وهو واثق بالسلامة في غزو الأعداء، وسلب الأموال، واقتحام الأخطار في الأسفار بقطع البحار، وجوب القفار، لم يكن له بالجود فضل؛ لأنه قادر على خلف ما يعطي من غير خوف هلاك، ولا تجويز تلف. (وهذا مثل قوله أيضا: (البسيط) لولا المَشَقَّةُ سَادَ النَّاسُ كلهُمُ ... الجُودُ يُفْقِرُ والإقدَامُ قَتَّالُ)

وقوله: (الطويل) وكَمْ لَكَ جَدا لم تَرَ العَيْنُ وَجْهَهُ ... فَلَمْ تَجْرِ في آثارهِ بِغُروبِ قال: يقول: إذا لم تعاين الشيء لم تعتدد به أكثر الأحوال، فلذلك ينبغي لك أن تتسلى عن عينك، كما لم تحزن لأجداد الماضين الذين لم ترهم. وأقول: إن هذا الذي ذكره ليس بشيء! والمعنى أنه أراد تسلية سيف الدولة فقال: كم لك جدا فقد عن بعد لم تبكه، فاجعل هذا الذي فقد عن قرب بمنزلته؛ لأنه قد شاركه في الفقد، وسواء في ذلك القريب والبعيد. وقوله: (الطويل) نَزَلْنَا عن الأكْوَارِ نَمْشِي كَرامةً ... لِمَنْ بانَ عنه أن نُلِمَّ به رَكْبا لم يذكر معنى البيت وهو من أغرب المعاني وأحسنها. يقول: نزلنا عن إبلنا نمشي إكراما للمحبوب الذي بان عنه؛ أي: لم يعلم أن نلم به، أي: بالربع، ركبا،

أي: لو ألممنا به راكبين، لم يعلم بذلك لبعده عنه، ولكننا ألممنا به ماشين كرامة له. فأن والفعل في موضع رفع بأنه فاعل بان عنه. وقوله: (الطويل) لَقَدْ لَعَبَ البَيْنُ المُشِتُّ بها وبي ... وزَوَّدني في السَّيْرِ ما زَوَّدَ الضَّبَّا قال: الضب لا يرد الماء، وأنشد رجزا وضع على لسانه وقد قال هـ الحوت: رد

يا ضب فقال: (منهوك الرجز) أصْبَح قَلْبي صَرِدَا لا يَشْتَهِي أَنْ يَرِدَا إلا عَرَادا عَرِدَا وصلِيَاناً بَرِدا وعَنْكَثاً مُلْتَبِدَا قال: والمعنى لم يزودني البين شيئا استعين به على السير. ضربه مثلا. وأقول: إن الضب يوصف بالذهول، وقد قالوا: أذهل من ضب وذلك أنه إذا خرج من جحره راعاه بطرفه، فإذا غاب عنه ذهل وحار! يقول: زودني البين الذهول والحيرة بفراق الأحباب.

وقوله: (الطويل) ومَنْ تَكُنِ الأسْدُ الضَّواري جُدودَهُ ... يَكُنْ ليلُهُ صُبْحا ومَطْعَمُهُ غَصبْا لم يذكر ابن جني تعلق هذا البيت بما قبله واتصاله به. وأقول: إنه لما ذكر في البيت الذي قبله لعب البين به، وأخبر أنه كثير الأسفار، قلق في البلاد، قال: فأنا في ذلك ليلي نهار ومطعمي غصب، وذلك فعل الأسد؛ لأن أجدادي أسود. وليت شعري! كيف ساغت له هذه الدعوى في أجداده بأنهم أسود، وهم يقصرون عن أن يكونوا ثعالب؟! وكأنه عاد عن هذه الدعوى فيما بعد مخافة الإكذاب؛ فشط، فاستفهم، فقال: (الطويل) ولستُ أبَالي بَعْدَ إدْرَاكي العُلا ... أكانَ تُراثا مَا تَنَاولتُ أم كَسْبَا يقول: إذا أدركت العلا فلا أبالي أورثته عن آبائي أم أدركته بنفسي. وقوله: (الطويل) فَبُورِكتَ من غَيْثِ كأَنَّ جُلُودَنَا ... به تُنبتُ الدَّيباجَ والوَشْيَ والعَصْبَا قال: جعله كالغيث، وجعل جلودهم كالأرض التي تنبت إذا أصابها الغيث؛ يريد كثرة ما يعطيهم من الكسي والتحف.

وأقول إنه لم يرد كثرة الكسي والتحف، ولكن أراد ألوانها المختلفة؛ وذلك أن الغيث إذ أصاب الأرض أنبتت ألوانا مختلفة من الزهر، فكذلك الكسي التي يعطيها، ولذلك جعلها من الوشي والعصب، وهي برود اليمن، تحوي ألوانا مختلفة، والديباج عمل الروم كذلك. وقوله: (الطويل) فَحُبُّ الجَبَانِ النَّفْسَ أورَدَهُ التُّقَى ... وحُبُّ الشُّجاع النفسَ أورَدَهُ الحَرْبَا قال: يرد الشجاع الحرب (إما) ليبلي بلاء يشرف ذكره في حياته به، وإما يقتل فيذكر بالصبر والأنفة بعد موته. وأنشد على ذلك أبياتا للعرب والمحدثين، وقال: المحدثون يستشهد بهم في المعاني كما يستشهد (بالقدماء) في الألفاظ. وفسر البيت الذي بعده، وهو قوله: (الطويل) ويختَلِفُ الرَّزقانِ والفِعْلُ واحِدٌ ... إلى أنْ تَرَى إحسانَ هذا لِذَا ذَنْبَا بأن قال: إن الرجلين ليفعلان فعلا واحدا، فيرزق أحدهما ويحرم الآخر؛ فكأن الإحسان الذي رزق به هذا، هو الذنب الذي حرم به هذا.

قال: وهذا مثل قول الشاعر: (الوافر) وكَمْ مِنْ مَوْقِفٍ حَسَنٍ أُحِيلتْ ... مَحَاسِنُهُ فَعُدَّ من الذنُوبِ قال: ومثله: (الطويل) يَخِيبُ الفَتَى مِن حيثُ يُرْزَقُ غيرُهُ ... وَيُعْطَى الفَتَى مِن حيثُ يُحْرَمُ صَاحِبُهْ وأقول: إنه لم يفهم معنى البيتين، ولا ترتيب الآخر منهما على الأول. ومعنى البيت الأول، أن الجبان يحب نفسه فيحجم طلبا للبقاء، والشجاع يحب نفسه فيقدم طلبا للثناء، والبيت الثاني مفسر للأول. يقول: فالجبان رزق بحبه نفسه الذم لإحجامه، والشجاع رزق بحبه نفسه المدح لإقدامه، فكلاهما محسن إلى نفسه بحبه لها؛ فاتفقا في الفعل الذي هو حب النفس، واختلفا في الرزقين اللذين هما الذم والمدح، حتى إن الشجاع لو أحسن إلى نفسه بترك الإقدام، كفعل الجبان، لعد ذلك له ذنبا. فهذا هو المعنى، وهو في غاية الإحكام بل في غاية الإعجاز، لا ما فسره.

وقوله: (الطويل) وخَيْل تُثَنَّي كُلَّ طَوْد كأنها ... خَرِيقُ رِياحٍ واجَهَتْ غُصُناً رطْبا قال: وقريب من قوله: (يثني كل طود) قول أبي النجم في صفة ناقة بثقل الوطء: (الرجز) تُغَادِرُ الصَّمْدَ كَظَهْرِ الأَجْزَلِ قال: والصمد: ما غلظ من الأرض، والأجزل: البعير المنفضخ السنام. كأنه يريد أن الجيش لكثرته إذا مر بجبل جعله اثنين لشدة الوطء وكثرة الحافر. وأقول: أحسن من هذا أن يكون يثني بمعنى يعطف، شدد للتكثير والمبالغة؛ أي: يجعل الطود الذي يمر به (متثنيا) كالغصن الرطب في اللين والانعطاف إذا مرت به الريح الشديدة. وقوله: (الطويل)

أهذا جزاءُ الصِّدقِ إن كنتُ صَادِقا ... أهَذا جَزَاءُ الكِذْبِ (إن كنتُ كاذَبا) ويقوي هذا قوله فيما يليه: (البسيط) بياضُ وَجْهٍ يُرِيِكَ الشَّمْسَ حَالِكَةً ... ودُرُّ لَفْظِ يُرِيكَ الدُّرَّ مَشْخَلَبَا وقال في تفسير هذا البيت: وقد تصف العرب بالبياض كما تصف بالآدمة. قال زهير: (الطويل) وابيضَ فَيَّضٍ يداهُ غَمَامَةٌ ... على مُعْتَفِيِهِ ما تُغِبُّ نَوافِلُهْ

وأقول: إن العرب إذا وصفت الرجل بالبياض، مادحة له، لم ترد اللون على الحقيقة، وإنما تكني به عن وضوح شرف الممدوح وبيانه. وقد فسر قول حسان: (الكامل) بِيضُ الوُجُوهِ كَرِيمَةٌ أَحْسَابُهُمْ ... شُمُّ الأنُوفِ من الطَّرازِ الأوَّلِ على ذلك، فكنى عن ظهور شرفهم وبيانه ببياض وجوههم. وقيل: إنه كنى في النصف الثاني عن إبائهم وحميتهم بشمم أنوفهم، ذلك لتناسب الصفتين في النصفين. وفسر بيت زهير أيضا على ذلك، وهو أشبه بكلام العرب. وقوله: (البسيط) وكُلَّما لَقِي الدَّينَارُ صاحِبَهُ ... في مِلْكِهِ افْتَرقَا من قَبْلِ يَصطْحِبا قال: قوله: افترقا من قبل يصطحبا مع قوله: وكلما لقي الدينار صاحبه صحيح المعنى على ما في ظاهر لفظه من مقارنة التناقض، وذلك أنه يمكن أن يقع التقاء من غير اصطحاب ومواصلة، لأن الصحبة مقرونة بالمواصلة؛ يقول: فإنما يلتقيان مجتازين لا مصطحبين. وأقول: إنه لم ينفصل من التناقض؛ وذلك أنه اثبت الصحبة بقوله: لقي الدينار صاحبه في ملكه، ثم قال: افترقا من قبل يصطحبا فنفى المصاحبة، فالمناقضة باقية بحالها وإنما كانت المناقضة إذا قدر اسم الفاعل الذي هو صاحبه عاملا في

الجار والمجرور الذي هو قوله: في ملكه؛ لأن بذاك تثبت المصاحبة بينهما، وإنما العامل في الجار والمجرور قوله: لقي، والتقدير: وكلما لقي الدينار في ملكه صاحبه قديما في ملك غيره (أو دينارا آخر مثله) افترقا هنا قبل أن يصطحبا. فالصحبة بينهما إنما كانت في ملك غيره (أو يكون صاحبه بمعنى كغيره أو مثله في كونه دينارا). والملاقاة، كما ذكر، تكون من غير اصطحاب كقولهم: لقيته منحدرا مصعدا، فلا مناقضة حينئذ، وهذا بين لمن تدبره وأجال فيه نظره. وقوله: (البسيط) مَالٌ كاَنَّ غُرابَ البَيْنِ يَرْقُبُهُ ... فَكُلَّما قِيَلَ: هَذا مُجْتَد، نَعَبَا قال: بعد أن فرق بين صياح الغراب، فقال: يقال: نعب: إذا مد عنقه وصاح، ونعق: إذا صاح ولم يمد عنقه - هذا معنى حسن. يقول: فكما أن غراب البين لا يهدأ من الصياح، فكذلك الممدوح لا يفتر عن العطاء. وأقول: هذا ليس بشيء! والمعنى: أنه يصف الممدوح بكثرة تفريق ماله على المجتدين، وضرب لماله بتفريقه مثلا ما ذكر من صياح الغراب وتفريقه بين الأصحاب فقال: مال الممدوح كأن غراب

البين موكل به يرقبه، فإذا جاء مجتد نعب هنالك؛ فتفرق ماله لصياحه كما يتفرق الأحباب عند صياح الغراب. وقوله: (البسيط) إنَّ المَنِيَّةَ لو لاقَتْهُمُ وَقَفَتْ ... خَرْقَاَء تَتَّهِمُ الإقْدَامَ والهَرَبَا قال: يقول: لو لاقتهم لبقيت متحيرة؛ تتهم الإقدام مخافة الهلكة، والهرب مخافة العار. وأقول: هذا ليس بشيء! لأن التهمة إنما تكون فيما يشك فيه، والعار في الهرب متيقن. وإنما جعل المنية إذا لاقته بمنزلة القرن الخائف من قرنه، الحائر في أمره يخشى إن اقدم الهلاك، وإن هرب الإدراك. وقوله: (البسيط) مُبَرْقِعِي خَيْلَهمْ بالبِيضِ قد جَعَلوا ... هَامَ الكُمَاةِ على أرمَاحِهِمْ عَذَبَا

قال: أي: قد جعلوا مكان براقع خيلهم حديدا على وجوهها؛ ليقيها الحديد إن توصل إليها. وأقول: ليس لهم في هذا مزية على غيرهم، وكيف عبر عن صفائح الحديد التي على وجوه الخيل بالبيض؛ وهذا استعمال لم يستعمله أحد؟ والمعنى (أن) هؤلاء لا براقع لخيلهم، على الحقيقة، تقي وجوهها من السيوف والرماح، ولكن بيضهم، أي سيوفهم، تقوم مقام البراقع في حفظ رؤوسها، لنجدتهم وحسن مراسهم في الحرب، ولإحجام أعدائهم عن الإقدام عليهم، وهذا مثل قوله: (الوافر) لقوه حَاسِراً في دِرْعِ ضَرْبٍ ... . . . . . . . . . وكقوله: (الطويل) . . . . . . . . . . . . . . . لَبِسْنَا إلى حَاجَاتِنَا (الضرَّبَ والطَّعْنَا) وقوله: (الكامل) حَاوَلْن تَفْدِيتَي وخِفْنَ مُراقِباً ... فَوَضَعْنَ أيْدِيهُنَّ فَوْقَ تَرائِبَا

قال: أي أشرن إلي من بعيد، ولم يجهرن بالسلام والتحية خوف الوشاة والرقباء. وقال الواحدي: الإشارة بالسلام، لا تكون بوضع اليد على الصدر. وإنما المعنى: أنهن طلبن أن يقلن لي: نفديك بأنفسنا، وخفن الرقيب، فنقلن التفدية من القول إلى الإشارة بوضع الأيدي على الترائب (وهو الصحيح). وقوله: (الوافر) شَدِيدُ الخُنْزُوانةِ لا يُبَالي ... أصَابَ إذا تَنَمَّرَ أَمْ أُصِيَبا قال: أراد: أأصاب، فحذف همزة الاستفهام ضرورة، وقد جاء مثله، وأنشد سيبويه: (الطويل) لَعَمْرُكَ مَا ادْري وإنْ كُنْتُ دَاريا ... شُعَيْبُ بن سَهْمٍ أم شُعيبُ بن مِنْقَرِ

وأقول: ليس حذف الهمزة هنا بضرورة، وليس هذا مثل البيت الذي استشهد به، وذلك أنه يقال: وصاب بمعنى؛ لغتان، وقد قال أبو الطيب: (الكامل) ورَمَى وما رَمَتَا يداه فَصَابني. . . . . . . . . فقد جمع، في هذا، بين اللغتين كما قال: (الكامل) . . . . . . . . . أَسْرَتْ إليكَ ولم تَكُنْ تَسْري وقوله: (الوافر) كأن دُجَاهُ يَجْذِبُهَا سُهَادي ... فَلَيْسَ تَغيبُ إلاَّ أنْ يَغِيبا قال: أي: فكما أن سهادي لا تغيب عني فكذلك هذا الليل لا يغيب عني لتعلق أحدهما بصاحبه. واقول: المعنى، أن سهادي ثابت لا يزول، وكأن الدجى متصلة بسهادي متعلقة به، فهو يجذبها ويمنعها من أن تغيب، أي: من الزوال والانقضاء. فإذا كان سهادي ثابتا لا يغيب، أي: لا يزول، فالدجى ثابتة لا تزول، لأنها متصلة به كالسبب والمسبب، وكأن هذا من قول امرئ القيس: (الطويل) فيالكَ من لَيْلٍ كأنّ نجومَهُ ... بكُلَّ مُغَارِ الفَتْلِ شُدَّتْ بَيذْبُلِ

وقوله: (الوافر) ولما قَلَّتِ الإبلُ امْتَطَيْنَا ... إلى ابن أبي سُليمانَ الخُطوبَا قال: يقول: كأن هذه الشدائد أكلتني، فكنت بمنزلة أرض أكل جميع ما كان عليها من نبت فأجدبت. وأقول: أنه عرض للممدوح بإقتاره ورقة حاله بقوله: ولما قلت الإبل لأن الإبل ليست بقليلة إلا على المعسرين، أي: ركبنا ما لا يشبه الإبل، وهي الشدائد، لأن الإبل ترتع في نبت الأرض، والشدائد ترتع فينا، أي: تنهك أجسامنا وأموالنا، ولما استعار للخطوب الرعي استعار لجسمه الجدب، للمناسبة التي بينهما، وذكر أنه فارق الشدائد، بوصوله إلى الممدوح (في قوله بعد ذلك: (الوافر) . . . . . . . . . . . . فما فارَقْتُها إلاَّ جَديبَا) ليلزمه الإحسان إليه، والإنعام عليه. وقوله: (الطويل) إليك فإني لستُ مِمنْ إذا اتَّقَى ... عِضَاضَ الأفَاعي نَامَ فوقَ العَقَاربِ

قال: يقول: لست ممن إذا اتقى عظيمة صبر على مذلة وهوان؛ تشبه العظيمة بالأفاعي، ويشبه الذل بالعقارب، وكل مهلك، أي: إذا كرهت أمرا عظيما، لم أصبر على مكروه دونه، بل أبى الجميع، صغيره وكبيره. وأقول: (هذا بضد شرحه لقوله: . . . . . . . . . ولم تَدْرٍ أنَّ العارَ شَرُّ العَواقِبِ بقوله: أي: تخوفني الهلاك وهو عندي دون العار الذي أمرتني بارتكابه. . . . . .). ولو شبه الأفاعي بالمهالك، والعقارب بالأذى والنمائم والمكائد لكان أولى، وقد قال أبو النشناش: (الطويل) وللْمَوْتُ خَيْرٌ للفَتَى من قُعودِهِ ... عَديماً، ومن مَوْلى تَدِبُّ عَقارِبِهُ أي: لست ممن يصبر على الأذى والضيم لخوف المهالك.

وقوله: (الطويل) بأيَّ بلاَدٍ لم أَجُرَّ ذَوَائبي ... وأيّ مَكَانٍ لم تَطَأهُ رَكَائبي قال: أي: لم أدع من الأرض موضعا إلا جولت فيه، إما متغزلا أو غازيا. وأقول: إن قوله: لم تطأه ركائبي لا يدل على (الغزو)، ولو قال: سوابقي لأنه يحتمل أن يكون لوفادة أو لغيرها. وقوله: (الطويل) يقولونَ تأثيرُ الكَواكبِ في الوَرَى ... فما بَالُهُ تأثيرُهُ في الكَواكِبِ! قال: يقول: هو يؤثر في الكوكب، فكيف قال الناس: إن الكواكب تؤثر في الناس؟! يعجب من ذلك ويعظم أمره؛ وذلك أنه يبلغ من الأمر ما أراد فكأن الكواكب تبع له. وأقول: هذا المعنى الظاهر. وقد قال غيره: إنه أراد، بتأثيره في الكواكب، تغطيتها وإخفاءها بما تثيره سنابك الخيل من العجاج حتى يخفى (نور) الشمس في

النهار فتظهر الكواكب، فإن كان المعنى ذلك فهو من قوله: (البسيط) والشَّمسُ طَالعةٌ لَيسَتْ بكاسِفِةٍ ... تَبْكِي عَلَيْكَ نُجومَ اللَّيْلِ والقَمَرا وقوله: (الطويل) حَمَلْتُ إليه من لِسَاني حَدِيقَةً ... سَقَاهَا الحِجَى سَقْيَ الرَّياضِ السَّحَائبِ قال: جعل لسانه حديقة مجازا، وتشبيها للثناء بنور الروضة. وأقول: إن اللسان يحتمل أن يكون العضو الذي يتكلم به، وأن يكون الكلام نفسه كقول، الحطيئة: (الوافر) نَدِمْتُ على لِسَانٍ كانَ مِنَّي ... فليتَ بأنَّهُ في جَوْفِ عِكْمِ فإذا جعل اللسان الكلام كان هو الحديقة (كما ذكر). وإن جعل اللسان العضو لم يكن الحديقة، وكانت الحديقة منه، وهي النظم يحسنه ويزينه.

وقوله: (البسيط) كأنَّ كلَّ سؤالٍ في مَسَامِعِهِ ... قميصُ يُوسُفَ في أجفَانِ يَعْقُوبِ قال: يقول: يفرح بكل سؤال فرحة يعقوب بقميص يوسف؛ كرما وسخاء. وأقول: المعنى أن سمعه ينتفع بسؤال العفاة، كانتفاع أجفان يعقوب بقميص يوسف، وذلك إشارة إلى قوله تعالى: (فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا). فإن قيل: فهذا يناقض قوله في مكان آخر: (الخفيف) والجِرَاحَاتُ عندَهُ نَغَماتٌ ... سَبَقتْ قَبْلَ سَيَبْهِ بسُؤالِ أي: يستضر بنغمات السؤال قبل العطاء؛ كاستضراره بالجراحات. فيقال: لا يع هذا تناقضا وعيبا، ولكن يعد هذا حذقا وتوسعا وصناعة من الشاعر، فيمدح بشيء في موضع، ويجعله ذما في موضع آخر. ألا ترى إلى مديح الشعراء الشجعان والأجواد بتشبيههم لهم بالأسود والبحار، وإلى قول أبي الطيب: (الطويل) ولَوْلاَ احْتِقَارُ الأُسْدِ شَبَّهْتها بهم ... ولكنَّها مَعْدُودَةٌ في البَهَائم وإلى قول بعض شعراء المغرب: (الطويل) سألتُ أخَاهُ البَحْرَ عنه فقال لي ... ضقِيقِيَ إلاَّ انَّهُ السَّاكِنُ العَذْبُ لنا دِيمَتَا ماءٍ ومَالٍ فَديمَتي ... تَمَاسَكُ أَحْيَاناً ودِيَمَتُهُ سَكْبُ

وقوله: (الطويل) وأخْلاقُ كافُورٍ إذا شِئْتُ مَدْحَهُ ... وإنْ لَمْ أَشَاْ تُملِي عليَّ وأكْتُبُ قال: قوله: شئت مَدْحَهُ وإنْ لم أشَأْ فأخلاقه تعرب عن فضله وكرمه. وقوله: وإن لم أشأ فيه ضرب من الهزء، وهكذا عامة شعره فيه. وأقول: إن قوله: وإن لم أشأ ليس فيه ضرب من الهزء، كما ذكر، بل فيه ضرب من الجد؛ يقول: تلزمني أخلاقه مديحه، وإن لم أرده، فكأنها هي المادحة له؛ لأنها تملي علي وأنا أكتب، وهذا ينظر إلى قوله: (الطويل) يُقِرُّ له بالفَضلِ من لا يَوَدُّهُ. . . . . . . . . (وهو) من قول الآخر: (الكامل) . . . . . . . . . والفَضْلُ ما شَهِدَتْ به الأعداءُ

وقوله: (الطويل) أَبَا المِسْكِ هَلْ في الكأسِ فَضْلٌ لشَارِبٍ ... فإنَّي أُغَني منذُ حِينٍ وتشربُ قال: ضرب هذا له مثلا؛ يقول: مديحي يطربك كما يطرب الغناء الشارب. وأقول: إنه جعل الملك (أو الغنى) في يده كالكأس، وجعل مديحه له كالغناء الذي يطربه، وجعل نفسه بإنشاده كالمغني، وهو يشرب ولا يسقيه، وذلك بخلاف ما تقتضيه العادة والمروءة وهذا فيه توبيخ له. وقوله: منذ حين استبطاء لمعروفه. وقوله: (الطويل) إذَا لَمْ تَنُطْ بي ضَيْعَةً أوْ وِلاَيَةً ... فَجُودُكَ يَكْسُوني وشُغلُكَ يَسْلُبُ قال: إذا لم تنط بي، أي: تسند إلي جيشا، ولم تهب لي ضيعة، فليس في دخلي كفاء لخرجي؛ يريد كثرة مئونته وقلة فائدته. وأقول: ليس في كلامه ما يدل على أن ليس في دخله كفاء لخرجه، ولا على كثرة

المؤونة وقلة الفائدة، وإنما كان كافور قد وعده بأن يوليه ويقطعه، فجعل يسوفه ويمطله، وجعل يعطيه الشيء بعد الشيء ما يقوم بمئونته ومؤونة دوابه وغلمانه، فلما طال عليه ذلك قال له: إذا لم تنط بي ما وعدتني، وأعطيتني شيئا لا يبقى لي، ولا يفضل عني لأني أخرجه أولا فأولا، فكأنك لم تصنع شيئا، فجعل جوده في إعطائه له هذا الشيء اليسير بمنزلة الكسوة، وشغله له وقطعه عن التسبب بمنزلة السلب، فهذا هو المعنى. (وقد روي: وشغلك، بفتح الشين، وذلك مما يدل على ما قلت). وقوله: (الطويل) وكُلُّ تمرْئ يُولي الجميلَ مُحَبَّبٌ ... وكُلُّ مَكَانٍ يُنْبِتُ العِزَّ طَيَّبُ قال: قوله: ينبت العز استعارة حسنة؛ أي: من حصل بين يديك عز وعلا قدره. وأقول: لا شك أن الاستعارة حسنة، ولكنه لم يفهم معنى البيت. ومعناه: أنه لما ذكر أهله وأوطانه فيما قبله، وذكر حنينه اليهم، وفضل كافورا عليهم في مقامه عنده، وانقطاعه إليه قال: لا ينبغي للإنسان أن يحن إلى الأهل والوطن إذا لم يوافق، وإن كان الأهل محببين، والوطن طيبا، بل المرء الذي يولي الجميل هو المحبب على الحقيقة، وكذلك المكان الذي ينبت العز هو الطيب، ويعني بذلك مقامه عند كافور لأنه بهذه المثابة.

وقوله: (الطويل) وعَنْ ذَمَلانِ العِيس إنْ سامَحَتْ به ... وإلاّ فَفِي أَكْوارِهِنَّ عُقَابُ قال: يقول: إن سمحت العيس لي بسيرها وإلا ففي أكوارها مني عقاب، فلا حاجة لي إلي سيرها؛ فأنا أقطع المفاوز على قدمي. وأقول: إنه لم يفهم المعنى، ولا تنبه له أحد من بعده (والتقدير: أنا غني عن الأوطان والحنين إليها وعن ذملان العيس، وإلا اغن عنهما - لما يعرض لي من سوء المقام عند من أنا مقيم عنده - فإني خفيف في السير والاضطراب، كأني في أكوار العيس عقاب، فجعل الكور كالوكر له وهو آلف له معتاد كالعقاب). (وقوله: (الطويل) وأَكْثرُ مَا تَلْقَى، أبا المِسْكِ بِذلَة ... إذا لم يَصُنْ إلاَّ الحَديدَ ثِيَابُ

قال: يقول: إذا تكفرت الأبطال فلبست الثياب فوق الحديد خشية واستظهارا؛ فذلك الوقت أشد ما يكون تبذلا للضرب والطعن شجاعة وإقداما. وأقول: ليس المعنى في التقدير كما. . .) وقوله: (السريع) لو دَرَتِ الدُّنيَا عندَهُ ... لاسْتَحْيَت الأيامُ من عَتْبِهِ قال: يقول: لو علمت الدنيا بما عنده من الفضل والنفاسة، لاستحيت الأيام من عتبه عليها. وأقول: إنها تعلم بما عنده من الفضل والنفاسة، ولكنها لا تعلم ما عنده من الحزن والكآبة، (ولهذا) اعتذر لها بما ذكره فيما بعد. وقوله: (الكامل) هُنَّ الثَّلاثُ المَانِعَاتِيِ لذتي ... في خَلْوَتي لا الخَوْفُ من تَبِعَاتِهَا

قال: يقول: إنما أترك لذتي في خلوتي، لما في المروءة والفتوة والأبوة، لا لما يتخوف من تبعات اللذة، وهذا سرف نعوذ بالله منه. وأقول إن أبا الطيب أطلق اللفظ بذكر التبعات، ولم يقيد بالتبعات التي تتخوف من قبل أهل المحبوب من قتل وقتال، وتوعد وتهدد، فذلك أراد، ولم يرد التبعات التي تلحقه من الآثام التي يكون الله - سبحانه - هو المطالب بها والمجازي عليها في الآخرة. وقوله: (الكامل) عَجَباً لهُ حَفِظَ العِنَانَ بأَنْمُلٍ ... ما حِفْظُهَا الأشْياَء من عَادَاتِها! قال: يقول: كيف حفظ العنان بأصابعه، وإنما من شأنها، ابدا، العطاء والبذل، لا الحفظ. وأقول: إن كان أراد بالحفظ إمساك الشيء ولزومه طويلا، كإمساك المال، فليس من عاداتها. وإن أراد بالحفظ إمساك الشيء ولزومه، على الجملة، كلزوم السيف في الحرب وحفظه، وإمساك الرمح والقلم والكتب، فهي كذلك وهو من عاداتها. وكأنه أراد بقوله: الأشياء التي تتمول وتقتنى من الذهب والفضة، ونفائس الذخائر من الثياب والجواهر والخيل والعبيد، فإن ذلك ليس من عاداتها، فأطلق بقوله:

الأشياء وهو يريد بعضها، وهذا كثير في استعمالهم كقوله - تعالى -: (وأوتيت من كل شيء) وقوله: (تدمر كل شيء) وقول أبي الطيب: (الوافر) يقولُ لِيَ الطَّبيبُ أكَلْتَ شَيْئاً. . . . . . . . . أي: شيئا ضارا. وقوله: (الكامل) لا تَعذُلُ المَرَضَ الذي بِكَ شائِقٌ ... أنْتَ الرَّجَالَ وِشَائقٌ عِلاتِها أقول: إن هذه (الأبيات) في وصف المرض من أغث شعر قيل فيه وأبرده، وأناه عن الصواب وأبعده. ومثلها الأبيات التي في فصد بدر بن عمار، بل تلك تربي عليها في الثقالة وتزيد في الإحالة، (وهي التي منها: (المنسوخ) لم تُبْقِ إلاَّ فَبيلَ عافيةٍ ... قَدْ وفَدَتْ تَجْتَديكَها العِلَلُ وتلك بشارة. . . .) وهذا إنما يوقعه فيه طلب التدقيق، فيخرجه عن المجار والتحقيق، فلا يأتي منه بما يستفاد، فضلا عما يستجاد.

وقوله: (الوافر) ووَجْهُ البَحْرِ يُعْرَفُ من بَعِيدٍ ... إذَا يَسْجُو، فكيفَ إذا يَموجُ! قال: قوبه: يموج لأنه رآه يدير الرمح فشبهه بالبحر المائج. وأقول: الأظهر أنه وصف الجيش بالبحر وجعل سيف الدولة وجهه، لأنه أعلاه ومقدمه؛ فيكون فيه مدح له ولجيشه بأن جعل جيشه كالبحر في عظمه وتموجه، وسيف الدولة وجهه لعلوه، وشرفه وإقدامه. وقوله: (الكامل) نَازَعْتُهُ قُلُصَ الرَّكابِ ورَكْبُهُ ... خَوْفَ الهَلاكِ، حُدَاهُمُ التَّسْبِيحُ قال: نازعته، أي أخذت منه بقطعي إياه، وأعطيته ما نال من الركاب.

وأقول: الذي قاله ليس بشيء! وإنما هو من نازعت فلانا الشيء إذا جاذبته إياه. يقول: نازعت هذا البلد الطويل الإبل لاستنقذها منه؛ لأنه يجذبها ليهلكها، وأنا أجذبها لأنجيها وأنجو عليها. وهذا من أفصح كلام وأحسن استعارة، (وقلما يقع لمحدث مثله). وقوله: (الكامل) جَهْدُ المُقِلَّ فَكَيْفَ بابْنِ كَريمةٍ ... تُوليهِ خَيْراً واللَّسَانُ فَصيِحُ قال: يقول: الشكر جهد المقل، فكيف ظنك بكريم شاعر فصيح؛ يعني نفسه! وأقول: إن قوله: الشكر جهد المقل خطأ، وإنما يريد ما ذكره من وصف الرياض في البيت الذي قبله، وهو قوله: (الكامل) وذَكيُّ رائحةِ الرَّياضِ كَلامُهَا ... يَبْغي الثَّنَاَء على الحَيَا فَيَفُوحُ قال الواحدي: ذاك (من الرياض) جهد المقل؛ لأنها لا تملك النطق ولا تقدر من

شكر السحاب إلا على ما يفوح منها من الروائح الطيبة، فكيف ظنك بابن كريمة - يعني نفسه - تحسين إليه وله لسان فصيح يقدر في الثناء (على) ما لا تقدر عليه الرياض؟ وقوله: (الرياض) يَرُدُّ يداً عن ثَوبِهَا وهو قَادِرٌ ... ويَعْصي الهَوَى في طَيْفِها وهو رَاقِدُ قال: لو أمكنه في موضع قادر يقظان لكان حسنا لكنه لما لم يجد إليه سبيلا، شحا على الوزن، جاء بلفظ كأنه مقلوب راقد، وهو قادر لقرب اللفظ في التجانس. على أن في البيت شيئا وهو أن الراقد قادر أيضا لأنه قد يتحرك في نومه ويصيح، ولكن لما كان ذلك لغير قصد وإرادة صار كأنه غير قادر. ومعنى البيت: إنه يعصي الهوى من منازعته إياها راقدا ويقظان؛ يصف نفسه بالنزاهة. وأقول في قوله: لو أمكنه في موضع قادر يقظان لكان حسنا: لو أراد ذلك

لأمكنه أن يجعل موضع يقظان لأنه في معناه وأحسن منه لأنه على وزن راقد وليس كذلك يقظان، ولم يرد ذلك لأن اليقظان قد يكون غير قادر، والقادر على الملامسة لا يكون إلا يقظان، وهذا يفسد قوله في النائم إنه قادر، فالأخذ الذي أخذه عليه غير صحيح، والصحيح ما ذكره أبو الطيب؛ (يقول: يعف عن الحبيب في اليقظة وعن طيفه في النوم. وهذا من قول الآخر: (الكامل) ماذا يُريدُ النَّاسُ مِنْ رَجُلٍ ... خَلُصَ العَفافُ الأنامِ لَهُ إن هَمَّ في حُلْم بفاحِشَةٍ ... زَجَرْتهُ عِفَّتُهُ فينتَبِهُ وقوله: (الطويل) وأورِدُ نَفْسي والمُهَنَّدُ في يَدِي ... كَوَارِدَ لا يُصْدِرْنَ من لا يُجَالِدُ قال: أي: من وقف مثل موقفي في الحرب، ولم يكن شجاعا جلدا هلك. وأقول: لم يفهم المعنى وهو: إني أورد نفسي موارد من الحرب لا ينجي فيها الفرار، لشدتها وضيقها وصعوبتها، ولا ينجي غيها إلا الجلاد. وكأن أبا الطيب وقف على قول

المهلب لابنه يزيد في بعض أيامه من الخوارج - وكان على رأسه (فوق البيضة) قلنسوة محشوة، وإن قطنها ليتطاير من ضرب السيوف -: هذا يوم لا ينجو فيه إلا من صبر! ذكر ذلك أبو العباس في الكامل. وقوله: (الطويل) وغَلَّسَ في الوَادي بهنَّ مُشَيَّعٌ ... مُبَاركُ ما تَحْتَ اللَّثَامَيْنِ عَابِدُ (أقول): اشتغل (ابن جني) بذكر الفرق بين اللثام واللفام، فذكر عن الفراء وأبي زيد أن الذي على طرف الأنف بالثاء، والذي على الأنف بالفاء، عن معنى قوله: تحت اللثامين وهما: لثام العمامة ولثام المغفر، ومبارك ما تحتهما يعني وجهه، يقال: فلان مبارك الوجه وميمون النقيبة، فيكنى بذلك عن الجملة كقوله - تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة) و (وجوه يومئذ ناعمة). وقوله: (الطويل) فَتَى يَشْتَهِي طولَ البِلادِ وَوَقِتِه ... تَضيقُ به أَوقَاتُهُ والمَقَاصدُ

قال: أي يشتهي طول البلاد ووقته، والزمان يظهر ما عنده من الفضل والكمال، ومع ذلك تضيق به مقاصده. وأقول: ليس في اللفظ ما يدل على ما ذكره من إظهار الزمان ما عنده من الفضل والكمال. ولكن: تضيق في موضع الحال. يقول: إن الممدوح، لعظمه وعظم همته يشتهي طول البلاد وطول وقته، في حال ضيق أوقاته به ومقاصده ليبلغ من ذلك ما يليق به (وما يشابهه. ومثله قوله فيه: (البسيط) ضَاقَ الزَّمَانُ وَوَجْهُ الأرضِ عن كَلِكِ ... ملءِ الزَّمان وملءِ السَّهْلِ والجَبَلِ) وقوله: (الطويل) أَخُو غَزَواتٍ ما تُغِبُّ سيُوفُهُ ... رِقَابَهُمُ إلاَّ وسَيْحانُ جَامِدُ قال: أي: ما يغبهم إلا لجمود الماء. وأقول: هذه عبارة ليست بتلك الجيدة؛ لأنه يقال: فجمود ماء شيحان مما يعينه على غزوهم، ويسهل له الدخول إليهم، (لأنه، كما ذكر أنه يجمد بحيث تدخل عليه المارة

والناس والدواب فيحملهم). ولو قال: ما يغبهم إلا لشدة البرد بهجوم الشتاء، كان أجود، وذلك أن قوله: وسيحان جامد في موضع الحال، أي: في حال جمود نهرهم المعروف سيحان، وذلك يدل على شدة البرد فيمتنع الغزو. وقوله: (الطويل) ذِكِيٌّ تَظَنَّيهِ طَلِيعةُ عَيْنِهِ ... يَرَى قَلْبُهُ في يَومهِ ما تَرَى غَدا قال: يقول: لصحة ذهنه وفرط ذكائه إذا ظن شيئا رآه بعينه لا محالة، وهذا كقول دريد: (الطويل) قليلُ التَّشَكَّي للمَصِيِبَات حَافظٌ ... من اليَومِ أعقْابَ الأَحَاديث في غَدِ وأقول: إن بينهما فرقا. وذلك أن دريدا يصف أخاه بأنه متنبه للمكارم، باكتساب المحامد واجتناب الملاوم، لأن قوله: . . . . . . حافظٌ ... من اليَوْمِ أعقابَ الأحاديثِ في غَدِ

أي: ما يعقب الأحاديث التي يذكر بها الإنسان (بعد موته) من حمد إن كانت خيرا أو ذم إن كانت شرا. ومن ذلك ما حدث به أبو تمام عن بعض المهلبيين قال: قال يزيد بن المهلب: والله الحياة أحب إلي من الموت، ولثناء حسن أحب إلي من الحياة، ولو أنني أعطيت ما لم يعط أحد لأحببت أن تكون لي أذن تسمع ما يقال في غدا إذا أنا مت! وأبو الطيب يصف الممدوح بصحة الحدس وحدة الذهن كقوله: (الكامل) مُسْتَنْبطٌ من عِلْمهِ ما في غَدٍ ... فكأنَّما سَيكونُ فيهِ دُونا ولو قال: هذا كقول أوس: (المنسرح) الأَلْمعِيَّ الذي يَظُنُّ لك الظَّ ... نَّ كأنْ قد رأى وقد سَمِعَا كان أولى من بيت دريد. وقوله: (الطويل) عَرَضْتَ له دونَ الحَياةِ وطَرْفِهِ ... وأبْصَرَ سَيْفَ اللَّهِ منكَ مُجَرَّدا قال: لما رآك لم تسمع عينه غيرك لعظمك في نفسه، وحلت بينه وبين حياته فصار كالميت في بطلان حواسه إلا منك.

(وأقول:) وهذا الذي ذكره ليس بشيء! والمعنى: أن الدمستق لما رأى سيف الدولة خاف منه؛ فلشدة خوفه كأنه حال بين طرفه وحياته وقد: . . . . . . . . . . . . أَبْصَرَ سَيْفَ اللَّهِ منه مُجَرَّدا أي: في تلك الحال، وقد هاهنا مقدرة، أي: سيف الله لا سيف خلقه، كقوله: (المتقارب) فيا سيف ربك لا خلقه. . . . . . . . .

وقوله: (الطويل) رَأَيْتُكَ مَحْضَ الحِلْمِ في مَحْضِ قُدْرَةٍ ... ولو شئتَ كانَ الحِلُمُ منكَ المُهَنَّدا قال: أي حلمك عن الجهال عن قدرة، ولو شئت لسللت عليهم السيف. وأقول: الجيد لو قال: (لقتلتهم) بالسيف. وقوله: . . . . . . . . . ... . . . كان الحِلْمُ منك المُهَنَّدا

فمن قولهم: عتابك السيف. وقول عمرو: (الوافر) وخَيْلٍ قد دَلَفْتُ لها بِخَيْلٍ ... تَحِيَّةُ بَيْنهمْ ضَرْبٌ وَجيعُ وقوله: (الكامل) اليَوْمَ عَهْدُكُمُ فأينَ المَوْعِدُ ... هَيْهاتَ ليس ليَوم عَهْدِكمُ غَدُ قال: أي: أموت وقت فراقكم فلا أعيش إلى غد ذلك اليوم، فليس لذلك اليوم غد عندي. وأقول: لهم يفهم معنى هذا البيت، ولا فهمه أحد ممن جاء بعده! ومعناه: كأنه سأل أحبته: متى الوصال؟ فقالوا: في غد، فلما حضر قال: اليوم عهدكم بالوصال فأين الموعد؟ أي: في أي مكان يكون. ثم كأنه تبين له منهم الخلف فقال: هيهات! أي: استبعد أن يكون ليوم عهدهم بالوصال غد. وهذا مثل قول بعضهم: (الكامل) في كلَّ يَوْمٍ قائِلٌ لي في غَدٍ ... يَفْنَى الزَّمَانُ ومَا تَرَى عَيْني غدا

وقوله: (الكامل) المَوْتُ أقْرَبُ مِخْلبا من بَيْنِكُمْ ... والعَيْشُ أبْعَدُ منكُمُ لا تَبْعُدُوا قال: (أي: قبل أن تبينوا عني أموت خوفا لبينكم. قال: وهذا مثل قوله: (الوافر) أَرَى أسَفِي ومَا سِرْنا شَديداً ... فكَيْفَ إذا غَدا السَّيرُ ابْتراكَا) يقول: فإذا بعدتم كان العيش أبعد منكم؛ لأنه يعدم البتة وأنتم موجودون، وإن كنتم بعداء عني فالعيش إذا أبعد منكم لأن بكم الحياة. وأقول: أخصر من هذه العبارة (وأبين) أن يقول: الموت مني قريب ببينكم، وبينكم أيضا مني قريب. إلا أن الموت أقرب منه، وعيشي إذا بعدتم بعيد، وأنتم بعيدون إلا أن العيش ابعد منكم، فدعا لهم أن لا يبعدوا، وإنما الدعاء له في الحقيقة لأن ببعدهم بعد حياته وبقربهم قربها. وقوله: (الكامل) قالَتْ، وقد رأَتِ اصفرارِي: مَنْ بهِ؟ ... وتَنَهَّدَتْ، فأَجَبْتُها: المُتَنَهَّدُ

قال: أي: من المطالب به؟ كذا معناه. وأقول: ليس كذا معناه، ومعنى: من به، أي: من في قلبه أو من يهوى؟ فأجبتها: المتنهد، أي: أنت، وهذا أمثل من قوله؛ لأن المطالبة تكون بالقتل، والاصفرار يدل على الهوى (لا على القتل) وهو مثل قول الآخر: (الكامل) ظَلَّتْ تُسَائِلُ بالمُتَيَّمِ أهْلَهُ ... وهي التي فَعَلَتْ بهِ أفْعَالَها وقوله: (الكامل) فَرَأيتُ قَرْنَ الشَّمسِ في قَمَرِ الدُّجَى ... مُتَأوَّداً غُصْنٌ به يتأوَّدُ قال: قرن الشمس: أعلاها؛ أي: قد جمعت حسن الشمس والقمر. وأقول: المعنى غير ذلك، وهو أنه شبه صفرتها من الحياء بقرن الشمس، وهو أول ظهورها وشروقها، وشبه بياضها بالقمر، فكانت مصفرة الحياء في بياض وجهها كالشمس في القمر. وقوله: (الكامل) أبْلَتْ مَوَدَّتَها اللَّيالي بَعْدَنَا ... ومَشَى عَلَيْهَا الدَّهْرُ وهو مُقَيَّدُ

قال: هذا مثل واستعارة، وذلك أن المقيد يتقارب خطوه، فيريد أن الدهر دب إليها فغيرها كما قال أبو تمام: (الوافر) فَيَا حُسْنَ الدَّيارِ وما تَمَشَّى ... إليهَا الدَّهْرُ في صُورَ البُعَادِ وقال الواحدي في قوله: . . . . . . . . . وَمَشى عَلَيْهَا الدهرُ وهو مُقَيَّدُ وهو الصحيح، أنه أراد المبالغة في الإبادة؛ أي وطئها وطأ ثقيلا، كما قال الحارث بن وعلة: (الكامل) وَوَطئتَنَا وَطأ على حَنَقٍ ... وَطْأَ المُقَيَّدِ نَابِتَ الهَرْمِ وقوله: (الكامل) أبْرَحْت يا مَرَضَ الجُفُونِ بِمُمْرَضٍ ... مَرِضَ الطَّبِيبُ له وَعيِدَ العُودُ قال: يعني بالممرض جفنها. و: . . . . . . . . . ... وَرِضَ الطَّبيبُ له وعِيدَ العُوَّدُ

مثل، ولا طبيب هناك ولا عود، ولكن لما جعل الممرض جفونا، جعل لها طبيبا وعودا. (وأقول:) وهذا ليس بشيء! والمعني بالممرض نفسه، ووصفها بالمبالغة في المرض إلى أن مرض الطبيب والعود رحمة له وخوفا عليه. والمعنى أن مرض جفون المعشوق أبرح بالممرض، الذي هو العاشق، أي: اشتد وتجاوز في الأذى والألم، فجعل مرض (الجفن) الذي هو ضعيف يشتد على العاشق ويبالغ في أذاه. وذلك عجب وهو من أحسن معنى. ويدل على أن الممرض نفسه، الضمير الذي يليه في البيت الذي بعده وهو: فَلَهُ بَنْو عبد العزيز. . . . . . . . . وقوله: (الكامل) نَظَرَ العُلوجُ فلم يَرَوْا مَنْ حَوْلَهُمْ ... لَّما رأَوْكَ وقيلَ: هذا السَّيدُ قال: لما رأوك تشاغلوا بالنظر إليك، وبرقت أبصارهم فلم يروا أحدا لديك. وأقول: لا حاجة إلى ذكر البرق، بل لما رأوا الممدوح لم يروا من دونه؛ لعظمته، اشتغالا به عمن سواه.

وقوله: (الكامل) كُنْ حَيثُ شِئْتَ تَسِرْ إليك رِكابُنا ... فالأرضُ واحدةٌ وأنتَ الأوْحَدُ قال: قوله: فالأرض واحدة: أي ليس للسفر علينا مشقة لإلفنا إياه، وهذا كقوله: (الوافر) ألِفتُ تَرَحُّلي وجَعَلْتُ أرْضِي ... قُتُودي والغُرَيْرِيَّ الجُلالاَ وأقول: لم يرد ذلك، وليس بين البيتين مشابهة. وكيف يقول: ليس علينا في السفر مشقة؟ والمعروف المألوف من الشعراء في أشعارهم أنهم يذكرون للممدوح ما يلقونه من الضرر ومشقة السفر بسلوك القفار، وتحمل الأخطار، يمتون بذلك إليه، ويدلون عليه، فمن ذلك قول الأعشى: (المتقارب) إلى المَرْءِ قَيْسٍ أُطِيلُ السُّرى ... وآخذُ من كُلَّ حَيَّ عُصُمْ وقول علقمة: (الطويل) إليكَ أَبَيْتَ اللَّعْنَ كان وَجِيفُهَا ... بمُشْتَبِهاتٍ هَوْلُهُنَّ مهِيبُ وقول الحطيئة: (الطويل) إليكَ سَعِيدَ الخَيرِ جُبتُ مَهَامِها ... يُقَابِلُني آلٌ بهَا وتَنُوفُ وما أشبه ذلك. وإنما المعنى: كن حيث شئت من البعد، فإنا نصل إليك على كل حال؛ لأن الأرض

واحدة فلا بد من قطعها، وأنت الأوحد فلا بد من الوصول إليك، فلا نعدل عنك إلى غيرك. وقوله: (الكامل) وصُنِ الحُسَام فلا تُذلِهُ فإنَّهُ ... يشكُو يَمِينَكَ والجَمَاجِمُ تَشْهَدُ قال: يشكو يمينك من كثرة ما يضرب به. والإذالة: ضد الصون. وقوله: صنه أي: لا تذله. لأنه به يدرك الثار ويحمى الذمار. (وأقول): وقال ابن فورجة: كيف أمن أن يقول: ما أذلته إلا لأدرك (ثأري) وأحمي ذماري؟ ثم ذكر وجها من عنده غير حسن! وأقول: المعنى أن السيف يتنزل من الشجاع منزلة الأخ؛ لطول مصاحبته وملازمته له، وذلك في كلامهم مشهور كقول طرفة: (الطويل) أخي ثِقَةٍ لا يَنْثَني عن ضَرِيبةٍ ... إذَا قيلَ مَهْلاً قالَ حَاجِزُهُ ثَدِي فيلزمه حينئذ صونه وحفظه؛ لأنه أخوه وصاحبه، وهو قد أذاله بكثرة ضربه للجماجم حتى شكا يمينه لذلك. وجعل الجماجم تشهد لأنها المباشرة له، فجعل السيف

والجماجم، بالشكوى والشهادة، بمنزلة من يحسن ويعقل ويتكلم. كل هذا استعارة ومبالغة، وكأن هذا ينظر إلى قوله: (الوافر) لِمَنْ مَالٌ تُمَزَّقُهُ العَطايَا ... وتَشْرَكُ في رَغَائبِه الأنَامُ ولا ندْعوك صَاحِبهُ فَتَرضَى ... لأنَّ بِصُحْبةٍ يَجِبُ الذَّمامُ وقوله: (المتقارب) تُعَجَّلُ قِيَّ وُجُوبَ الحُدودِ ... وَحَدَّيَ قَبْلَ وُجُوبِ السُّجودِ قال: أي: إنما تجب الحدود على البالغ، وأنا صبي لم تجب علي الصلاة، فكيف أحد؟ وليس يريد، في الحقيقة، أنه صبي غير بالغ، إنما يصغر أمر نفسه عند الوالي. ألا ترى أن صبيا لا يظن به اجتماع الناس إليه للشقاق والخلاف. وأقول: إن تأويله، وصرف الكلام عن ظاهره هو الواجب، ولكن ليس كما قال من أنه يصغر أمر نفسه عند الوالي، ولكن ضرب ذلك مثلا في الظلم. يقول:

أنا فيما فعل بي من الحبس، وأنا غير مستحق له، بمنزلة صبي حد، وبما قيل عني من الكذب وأنه مستحيل، بمنزلة من قيل عنه، وهو طفل لم يبلغ القعود، إنه ظلم الناس، وهو تفسير البيت الذي يليه. وقوله: (الوافر) أُحَادٌ أمْ سُداسٌ في أحَادِ ... لُيَيْلَتُنَا المَنُوطَةُ بالتَّنادي قال: كأنه قال: أواحدة أم ست؛ لأن ستا في واحدة ست. والتنادي: يريد تنادي أصحابه بما يهم به؛ ألا ترى إلى قوله: (الوافر) أُفَكَّرُ في مُعَاقَرِة المَنَايا. . . . . . . . . وأقول: إن هذا الذي ذكره ليس فيه طائل ولا له معنى سائغ. وقد كثر الاختلاف في تفسير هذا البيت، والأظهر فيه ما ذكره الواحدي وهو أنه أراد بقوله: سداس في أحاد: سبعة لأنه جعل (الواحد) طرفا للستة ولم يرد الضرب الحسابي، وتلك أيام الأسبوع تدور إلى آخر الدهر. والتنادي: يريد به يوم القيامة، فكأنه قال لما استطال ليلته: أهذه الليلة واحدة أم أيام الأسبوع التي تدور أبدا فهي متصلة بيوم القيامة؟

وقوله: (الوافر) جَزَى اللَّهُ المَسيرَ إليه خَيْراً ... وإنْ تَرَك المَطَايا كالمَزادِ قال: أي: قد أنضاها وهزلها، وأراد المزاد البالية، فحذف الصفة لأن المعهود منهم أن يشبه النضو المهزول بالمزادة، وأنشد: (الرجز) كأنَّها والشَّوْلُ كالشَّنانِ تَمِيسُ في حُلَّةِ أرْجُوانِ (وأقول:) وقال ابن فورجة: لا دليل على حذف الصفة، وأراد: كالمزاد التي تحملها في مسيرها إذ قد خلت من الماء والزاد لطول السفر، والألف واللام في المزاد للعهد، ولم يدل على ذلك، والدليل (عليه) أنهما في المطايا كذلك، لأنه يريد مطاياهم ولم يرد جميع المطايا. قال: والمعنى أن المسير إليه، أذهب لحوم مطايانا، وأفنى ماء اسقيتنا، فلم يبق في المطية لحم، ولا في المزادة ماء.

وقوله: (الوافر) كأنَّ عطاَءكَ الإسلامُ تَخْشَى ... إذَا مَا حُلْتَ عاقِبَةَ ارتدادِ قال: يقول: أنت تقوم على سخائك، وتتعهده كما يحفظ الإنسان دينه. وأقول: إنه أراد المبالغة في محافظته على جوده، فشبه رجوعه عنه برجوعه عن الإسلام في الدنيا عار، وفي الآخرة نار! وقوله: (الوافر) لقُوكَ بأَكْبُدِ الإبلِ الأَبَابَا ... فَسُقْتَهُمُ وحَدُّ السَّيفِ حَادي قال: الأبايا: جمع أبية، فسقتهم وحد السيف حاديك، ضربه مثلا. وهكذا قال أبو الطيب. وأقول: المعنى: إنه لما ذكر هؤلاء الذين بغوا وعصوا في اللاذقية شبههم بالإبل في إبائهم وغلظ أكبادهم، وجعل السيف حاديهم وسائقهم بخلاف الإبل فإنها تساق وتحدى بالعصا، (فغلظ عليهم مقابلة لأفعالهم).

وقوله: (الوافر) فإنَّ الماَء يَخْرُجُ من جَمادٍ ... وإنَّ النَّارَ تَخْرُجُ من زِنَادِ قال: يقول: إن الأشياء تكمن؛ فإذا استترت ظهرت. وأقول: هذا ليس بشيء! وإنما يقول: لا تغتر بلين القول من عدو؛ فإنه يخرج من قلب قاس كالماء من الصخر. ولا تحقر عدوا ضئيلا ضعيفا فربما كبر أذاه واشتد إلى أن يلحقك ضرره، كالنار تخر من عود. وقوله: (المتقارب) كأَنَّ عطاءكَ بعضُ القَضاءِ ... فما تُعْطِ منه نَجِدْهُ جُدُودا قال: أي: إذا وصلت أحدا ببر، سعد ببرك وبركتك، وشرف بعطيتك

فصارت جدا. وهذا قريب من قول أبي تمام: (البسيط) وأقول: لا خلاف في النصف الآخر من البيت أنه كما قال، وأن (عطاء إذا) حصل لإنسان عده حظا وسعادة. وإنما الكلام في النصف الأول وهو قوله: كأنَّ عَطَاءَكَ بعضُ القَضَاء. . . . . . . . . وما معنى بعض القضاء؟ فإن ابن جني لم يذكره. وقال الواحدي: (المعنى:) إن القضاء سعد ونحس، ونوالك سعد كله فهو أحد شقي القضاء. وأقول: إنه كما ذكر الواحدي، وذلك أن القضاء فيه خير وشر، ونفع وضر، وعطاء ومنع، كقوله - سبحانه: (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير) وذلك (كله) من الباري - تبارك وتعالى - عدل وحكمة، وشطر ذلك من الممدوح خير وجود.

وقوله: (المتقارب) فأنْفَدْتَ من عَيْشِهِنَّ البَقَاَء ... وأَبْقَيْتَ مما مَلَكْتَ النُّفُودَا قال: أي: أنفذت بقاء نفوس العدا، وأبقيت نفاد ما تملكه بسخائك وجودك. وأقول: هكذا قال أبو الطيب، فلم تزد عليه إلا بتكرار اللفظ! وإنما جعل نفاذ ما يملكه بقاء لأجل الذكر الذي يبقى له به، والقول الذي يثنى به عليه دائما. وقوله: (المتقارب) كأنَّكَ بالفَقْرِ تَلْغي الغِنَى ... وبالمَوْتِ في الحَرْبِ تَبْغي الخُلُودا قال: يقول: كأنك لإفراط سرورك ببذلك وهبات مالك، إنما تبغي بذلك الغنى؛ لأنك تسر بما تعطيه سرور غيرك بما يأخذه، وكأنه عندك أن الفقر هو الغنى، وكأنك إذا مت في الحرب أنك مخلد وهذا من قول الحصين: (الطويل) تَأخَّرْتُ أسْتبَقِي الحَيَاةَ فلم أَجِدْ ... لِنَفْسِي حَيَاةٌ مثلَ أَنْ أتَقَدَّما

وأقول: إنه أراد المبالغة فعكس المعنى، (وذلك) أن الإنسان يريد الغنى والحياة، ويكره الفقر والموت، فجعل الممدوح، لكثرة عطائه، وقلة إبقائه على ماله بإنفاده وإنفاقه، وشهوته لذلك وسروره به، كأنه يبغي بذلك الغنى. ولذلك جعله لشدة إقدامه، وإلقاء نفسه في المهالك، وقلة إبقائه عليها من المتالف، كأنه يبغي بذلك البقاء، وهذا مثل قوله: (البسيط) ضرَبَتْهُ بِصدورِ الخَيْلِ حَامِلَةً ... قوماً إذا تَلفُوا قُدْماً فَقَدْ سَلِمُوا وقوله: (المتقارب) خَلائِقُ تَدْعُو إلى رَبَّها ... وآيةُ مَجْد أرَاها العَبِيَدا قال: أي: هذه تدعو إلى صاحبها، وتدل على معرفته وعلامة مجد أراها الناس لأنهم عبيد له. وأقول: لو أن هذا البيت في صفة الباري - جلت عظمته - لكان أولى وأحرى من أن يكون في صفة غيره؛ لما فيه من الحكمة والإتقان بأن يكون موضع خلائق بدائع؛ لأن بالصناعة يستدل على الصانع، وعظم الآية من المجد والملك يستدل بها على عظم صاحبها.

وقوله: (المتقارب) مُهَذَّبَةٌ حُلوَةٌ مُرَّةٌ ... حَقَرْنَا البِحَارَ بها والأسُودا قال: مهذبة لا عيب فيها؛ حلوة؛ لأن كل أحد يستحسنها ويعشقها، ومرة؛ لأن الوصول إليها صعب لبذل المال والمخاطرة بالنفس. ومثل قوله: حلوة مرة قول أبي تمام: (الطويل) هو المرْكَبُ المُدْني إلى كُلَّ سُؤدَدٍ ... وعَلْيَاَء إلا أنَّهُ المركَبُ الصَّعْبُ وأقول: أنه أراد بذلك حلوة للأولياء بالمنافع، مرة للأعداء بالمضار، وهذا من قول لبيد: (الرمل) مُمْقِرٌ مُرٌّ على أَعْدَائِهِ ... وعلى الأذْنَيْنَ حُلْوٌ كالعَسَلْ وقوله: (الطويل) وطَعْنٍ كأنَّ الطَّعْنَ لا طَعْنَ عِنْدَهُ ... وضَرْبٍ كَنَّ النَّارَ من حَرَّهِ بَرْدُ قال: الهاء في عنه تعود على طعن الأول من صفته. والطعن الثاني اسم كأن، وخبرها الجملة بعده، والعائد عليه منها محذوف للعلم به، فكأنه قال: وطعن كأن الطعن لا (طعن) منه أو به عنده.

وأقول: ليس الأمر على ما ذكر في العائد، بل العائد على اسم كأن معنوي، وذلك أن لا لما كانت تنفي نفيا عاما في قوله: لا طعن عنده كان الطعن داخلا تحته (وذلك كقوله: (الطويل) وأمَّا الصُّدورُ لا صُدورَ لجعْفَرٍ ... ولكنَّ أعجازا شديداً ضريرها) وقد شبه الشيخ أبو علي به قولهم: نعم الرجل عبد الله، في أحد الوجهين وقال: فأما الراجع إلى المبتدأ فإن الرجل لما كان شائعا ينتظم الجنس كان عبد الله داخلا تحته وصار بمنزلة الذكر الذي يعود عليه، (وكذلك قال في البيت لعموم النفي). وقوله: (الطويل) وأَكْرَمُهُمْ كَلْبٌ وأَبْصَرُهُمْ عَمٍ ... وأسْهَدُهُمْ فَهْدٌ وأَشْجَعُهمْ قِرْدُ وأقول: لو قال: وأبصرهم خلد لكان مناسبا للأجناس الثلاثة التي ذكرها (وتكون الهمزة في ابصرهم غير معتد بها لزيادتها، أو تكون: أنضرهم، بالنون والضاد، وذلك أحسن في الاستعارة)، ويكون البيت مصرعا، أو يكون إذا نون

خلد مثل قوله: (الطويل) تَفَكُّرُهُ عِلْمٌ ومنطِقُهُ حُكْمٌ ... وبَاطِنُهُ دِينٌ وظاهرهُ ظَرْفُ وقوله: (الطويل) تَلَجُّ دُمُوعي بالجُفُونِ كأنَّما ... جُفُوني لِعَيْنَيْ كلَّ باكِية خَدُّ قال: أي: كلما بكت باكية فكأن دموعها تمر بجفوني كما تمر بخدها، فلست أخلو من بكاء ودموع، كما لا تخلو الدنيا من باكية يجري دمعها. وأقول: هذا ليس بشيء! والمعنى: وصف جفونه بكثرة الدموع؛ يقول: يفيض على جفوني من دموع عيني مثلما يفيض على خد كل باكية. وقوله: (الطويل) بِنَفسِيَ من لا يُزْدَهَى بِخَدِيعَةٍ ... وإنْ كَثُرَتْ فيها الذَّرائعُ والقَصْدُ قال: كأنه قال: بنفسي غيرك أيها الممدوح، لأني أزدهيك بالخديعة، وأسخر منك

بهذا القول. وهذا مذهبه في أكثر شعره، لأنه يطوي المديح على الهجاء، حذقا منه بصنعة الشعر. ثم ذكر من مديحه في كافور أبياتا تحتمل التوجيه، وأضاف إلى ذلك قوله: (البسيط) مَدَحْتُ قَوْماً وإنْ عِشْنَا نَظَمْتُ بهم ... قصائِداً من إنَاثِ الخَيْلِ والحُصُنِ وليس بينه وبين تلك مناسبة؛ لأنه يقول في هذا: مدحت قوما لا يستحقون المديح بقصائد من نظم، وإن عشت نظمت لهم قصائد من خيل، محاربا لهم ومغيرا عليهم، إما لأنهم لم يتجاوزه (على قدر مدحه) وإما لأنهم لا يستحقون ما هم فيه، وأنه أولى به منهم. وأقول: إن قوله: وهذا كان مذهبه في أكثر شعره يطوي المديح على الهجاء، وصف لأبي الطيب بالطبع الرديء والخلق الدنيء، وتخرض منه عليه؛ لأن هذا لم يقع (منه) إلا في مدح كافور؛ لأنه كان عبدا أسود خصيا؛ ترك مثل سيف الدولة في الشرف والفضل والكرم، وقصده رجاء الزيادة عنده فوقع في النقص. وهذا الممدوح - قال ابن فورجة - ذكره الواحدي - من صميم بني تميم، عربي ممدح، ينتابه الشعراء، لا يبعد من فهم. فكيف يسوغ لأبي الطيب ذلك في حقه؟ ولو كان المعني في هذا البيت غيره، وقد أتبعه بأوصاف كثيرة على نسق واحد، لكانت هذه القصيدة خالية أو أكثرها من مدحه.

والصحيح أن معنى قوله: لا يزدهي بخديعة أي: لا يستخف بها وإن كثرت فيها الوسائل توصلا إلى أخذ غرته؛ يصفه بصحة فطنته، وحصافة عقله، ورزانة لبه. وينبغي أن تكون هذه الخديعة في غير المكارم؛ لأن المكارم ينبغي للكريم أن ينخدع (منها) كقوله: (البسيط) . . . . . . . . . ... والحُرُّ يُخْدَعُ أحْيَاناً فَيَنْخَدِعُ وكما يحكى عن معاوية، أنه دخل عليه رجل من أهل الكوفة، فشكا إليه زيادا فقال: يا أمير المؤمنين إن زيادا غصبني داري، وقد اشتريت ساجها بكذا وكذا ألف درهم، وقد دخلها أمير المؤمنين سنة كذا وكذا ورآها! قال: فكتب له: ردها له، وبما ذكره من قيمة ساجها، فلما خرج من عنده أقبل معاوية على أصحابه وقال: والله ما أعرف مما يقول شيئا، وإنما يخادعوننا فننخدع! وقوله: (الطويل) ألومُ به مَنْ لاَمَني في وِدادِهِ ... وحُقَّ لِخَيْرِ الخَلْقِ من خَيْرِهِ الوُدُّ قال: أي: هو خير الخلق وأنا كذلك، وحقيق أهل الخير أن يود بعضهم بعضا، فحقيق علي إذا أن أوده.

وأقول: إنه يحتمل أن يكون من خيره راجعا إلى آباء الممدوح، كأنه قال: هو خير الخلق من خير الخلق، وهذا الأقرب والأشبه بغرضه، لأن وصفه نفشه بأنه خير الناس من أقصى الرقاعة، وأقبح الشناعة! وقوله: (الطويل) وسَيْفي لأنْتَ السَّيفُ لا ما تَسُلُّهُ ... لِضَرْبٍ ومَّما السَّيفُ منه لك الغِمْدُ قال: أقسم بسيفه ثم أقبل على الممدوح فقال: لأنت السيف لا السيف الذي تسله لتضرب به الأعداء؛ أي: أنت في الحقيقة سيف، لا السيف المطبوع من الحديد، لأنك أمضى منه: . . . . . . . . . وممَّا السَّيْفُ منه لك الغِمْدُ أي: ومن الحديد الذي تطبع منه السيوف غمدك. يقول: إذا لبست الحديد، كالدرع والجوشن ونحوهما، كنت فيه كالسيف، وكان كالغمد. وأقول: إن في قوله: . . . . . . . . . . . . وممَّا السَّيْفُ منه لك الغِمْدُ تفضيلا للممدوح على السيف، وذلك أن السيف من الحديد، والحديد للممدوح غمد؛ أي: درع، والسيف أشرف من الغمد لأن الغمد لأن الغمد للسيف كالخادم فوجب أن يكون أشرف من السيف لأن الذي السيف منه، وهو الحديد، وهو جنسه، له غمد، وهذا كما يقال: زيد من تميم، وتميم لعمرو عبيد، فوجب أن يكون زيد لعمرو عبدا.

وقوله: (الطويل) وعِنْدَي قَبَاطيُّ الهُمامِ ورِفْدُهُ ... وعندهُمُ مما ظفِرتُ به الجَحْدُ قال: قوله: . . . . . . . . . وعندهُمُ مما ظفِرتُ به الجَحْدُ دعاء عليهم بأن لا يرزقوا شيئا، حتى إذا قيل لهم: هل عندكم خير أو بر من هذا الممدوح؟ قالوا: لا، فذلك هو الجحد؛ لأن لا حرف نفى هنا، أو يجحدوا ما رزقوا، إن كانوا رزقوا شيئا، ليكون ذلك سببا لانقطاع الخير عنهم. وأقول: إنه لم يفهم المعنى، وذلك أن قوله في البيت الذي قبله: (الطويل) . . . . . . . . . وفي يَدِهِمْ غَيْظٌ وفي يَدِيَ الرَّفْدُ والبيت الثاني، إلى آخره، في موضع حال من الضمير في ألقى من قوله: (الطويل) فلا زِلْتُ ألْقَى الحَاسِدين بِمِثْلِها. . . . . . . . . أي: بمثل أياديه التي هي ثناء ثناءٌ.

وقوله: . . . . . . . . . ... وعندهُمُ مِمّا ظَفِرتُ به الجَحْدُ أي: عندي الظفر برفد الممدوح وليس عندهم مما ظفرت به إلا الجحد له، أي: ليس عندهم من ذلك العطاء شيء إلا جحدهم له حسدا لي عليه، وكذلك يفعل الضد، والحاسد إما يقلل ما صار إلى محسوده أو ينفيه رأسا، فالجحد إذا إنما وقع من الحاسدين، فيما صار إلى أبي الطيب لا فيما صار إليهم ولا هو دعاء عليهم. وقوله: (الطويل) ومَّي استفادَ الناسُ كُلَّ فَضِيلَةٍ ... فَجازُوا بِتَرْكِ الذَّمَّ إن لم يَكُنْ حَمْدُ قال: قوله: فجازوا، كما تقول: هذا الدرهم يجوز على خبث نقده؛ أي: يتسمح به، أي: فغايتهم أن لا يذموا، وأما أن يحمدوا فلا. وأقول: إنه قد عابوا عليه هذا التفسير وقيل: كيف يزعم أنه قد أحكم سماع شعر أبي الطيب منه، وقراءته عليه ويقول هذا القول؟ وإنما قوله: فجازوا أمر من المجازاة لا من الجواز، أي: فجازوا على ما استفدتم مني من الغرائب بترك الذم لي إن لم يكن منكم حمد. (وهو مثل قوله: (البسيط) إنَّا لَفِي زَمَنٍ القَبيحِ به ... من أكْثَرِ النَّاسِ إحْسَانٌ وإجمالُ)

وقوله: (الخفيف) قد يُصيبُ الفَتَى المُشيرُ ولم يَجْ ... هَدْ ويُخْطِي الصَّوابَ بعد اجتْهَادِ قال: هم، وإن كانوا قد اعملوا الرأي، فإنهم قد أخطؤوا فيه وإن أصبته عفوا. وأقول: هذا ليس بشيء!؛ وذلك أن هذا القول (إنما) ضربه مثلا لمشير وكافور هنا هو المشار عليه فليس المثل له، وذلك أن قوما أشاروا عليه بالشقاق والقتال لابن سيده، فأبى ذلك عليهم، ويدل على ذلك ما قبله من قوله: (الخفيف) ولَعَمْرَي لقد هُزِرتَ. . . والبيت الذي بعده. والمعنى أن القوم الذي أشاروا عليه بالخلاف، اجتهدوا في ذلك الرأي وأخطؤوا، وقد يصيب الإنسان الرأي عفوا من غير اجتهاد، فالمثل الذي ضربه بالإصابة والإخطاء لشيء واحد، وليس ذلك لكافور وللمشير عليه (كأنه يقول: أنت فعلت الصواب وقد أشير عليك بالخطأ).

وقوله: (البسيط) ما يَقْبِضُ المَوْتُ نَفْساً من نُفُوسِهِمُ ... إلاَّ وفي يَدِهِ من نَتْنِهَا عُودُ قال: أي: لا يباشر الموت أنفسهم وقت قبضه إياها. وأقول: إن قوله: لا يباشر الموت أنفسهم كأنه يريد: لا يمسها بيده استقذارا لها، ولكن يمسها بعود. وكذلك قال غير ابن جني، وهذا ليس بشيء! والمعنى أن أنفس هؤلاء الكذابين المخلفين البخلاء، الذين ذكرهم أولا، أنفس منتنة، فإذا قبضها الموت وظفر بها فكأن في يده من نتنها عودا؛ أي: لا يعد ذلك نتنا بل طيبا؛ فرحا بها وسرورا بأخذها؛ وذلك أن اللئيم صعب الموت طويل العمر. (وكأن هذا المعنى من قول الراجز: (الرجز) يا رِيَّهَا إذا بَدَا صُنَانِي كأنَّني (جَانِي عَبَثْرَانِ) وقد جاء ذلك كثيرا في أشعارهم، منه قول أبي تمام: (البسيط) فالماءُ غيرُ عَجيبٍ أنَّ أَعْذَبَهُ ... يَفْنَى وَيْمتَدُّ عُمْرُ الآسِنِ الأَجِنِ

وقول: الأول: (الطويل) لَعَمْرُكَ أنَّي بالخَليل الذي له ... عَلَىَّ دَلالٌ وَاجب لمُفَجَّعُ وإنَّي بالمَوْلى ليس نَافعي ... ولا ضَائري فُقْدانُهُ لَمُمَتَّعُ وقوله: (البسيط) إنَّ امْرءاً أَمَةٌ حُبْلَى تُدَبَّرُهُ ... لمُسْتَضَامٌ سَخِينُ العَيْنِ مَفؤودُ قال: يعرض بابن الإخشيد، يعني ابن سيده. وأقول: لم يعن بذلك إلا نفسه، فالضمير في تدبره راجع إلى أبي الطيب، ويدل على ذلك ما قبله وهو قوله: (البسيط) جَوعَانُ ياكُلُ من زَادي ويُمْسِكُني. . . . . . . . . وما بعده وهو قوله، متعجبا من ضيزه عليه وإقامته عنده: (البسيط) وَيْلُ أمَّهَا خُطَّةً وَيْلُ أمَّ قَابِلها ... . . . . . . . . .

وقوله: (الخفيف) يَنْثَني عنكَ آخرَ اليَوْمِ (منهُ ... نَاظِرٌ أنتَ طَرْفُهُ وَسُهَادُهْ قال: أي: إذا انصرف عنك آخر اليوم) خلف عندك طرفه فبقي بعدك بلا طرف ولا نوم إلى أن يعود، وهذا مثل، وقد أحسن فيه. (وأقول): هذا ليس بشيء! وقد قال الواحدي: قال العروضي: هذا هجاء قبيح للممدوح إن أخذنا بقول أبي الفتح؛ لأنه يراه وينصرف عنه أعمى عديم النوم. ومعناه أنه استفاد منه النظر والرقاد وهما اللذان تستطيبهما العين. وقوله: (الخفيف) نحنُ في أَرْضِ فَارسٍ في سُرورٍ ... ذَا الصبَّاحُ الذي يُرَى ميلادُهْ

قال: أي: نحن كل يوم في سرور؛ لأن الصباح كل يوم يرى؛ يريد اتصال سرورهم. (وأقول): وقال الواحدي: قال العروضي: ليس كما ذهب إليه، وإنما يريد أن يخص صباح النيروز بالفضل فقال: ميلاد السرور إلى مثله من السنة هذا اليوم. وقال ابن فورجة: يريد: أنا في سرور، ميلاده في هذا الصباح؛ يعني: صباح نيروز؛ لأن السرور يولد في صباحه لفرح الناس الشائع في النيروز. وقوله: (الخفيف) كيفَ يرتَدُّ مَنْكِبي عن سَمَاءٍ ... والنَّجادُ الذي (عليه نِجادُهْ قال: يريد طول حمائل سيفه لطوله، وقد تجتوز في هذا قول أبي نواس: (الطويل) أشَمُّ طُوَالُ السَّاعِدَيْنِ كأَنَّمَا ... يُنَاطُ نِجَادا سيفهِ بِلِواءِ

وأقول: هذا ليس بشيء! ولم يتعرض ها هنا لطول نجاده ولا قصره، وإنما أراد علو شرفه، فوضع نجاد سيف ابن العميد على منكبه وقد وهبه له). (وقوله:) (الخفيف) مَثَّلُوهُ في جَفْنِه خَشيْةَ الفَقْ ... - دِ فَفي مِثْلِ أُثْرِهِ إغْمَادُهْ قال: كان جفن هذا السيف مغشى فضة منسوجة عليه صونا له من الفقد لئلا يأكل جفنه. وأقول: المعنى غير ما ذكره، وهو ان معنى مثلوه أي جعلوه قائما في جفنه خشية أن يفقد؛ لأن الشمس تزعم أنها رئده، أي: مثله وتربه فتذهب به، أي: تأخذه وتستلبه (للمناسبة التي بيتها وبينه)، وهذا البيت على هذا التفسير مرتب على ما قبله وهو الصحيح، ولم أسبق إليه!

وقوله: . . . . . . . . . . . . ففي مِثْلِ أثْرِهِ إغْمَادُهْ أي: جوهره أفخر الجواهر، فكذلك غمده لأنه ذهب لا فضة كما قالوا، ويدل عليه قوله: مُنْعَلٌ لا من الحَفَا ذَهَباً ... . . . . . . . . . وقوله: (الخفيف) فَرَّسَتْنَا سَوَابِقٌ كُنَّ فيه ... فَارَقَتْ لِبْدَهُ وفيها طِرَادُهْ قال: أي: جعلتنا فرسانا خيل كن في نداه، أي: كانت في جملة ما أعطانا خيل سوابق. فارقت لبده، أي: انتقلت إلى سرحي وفارقت سرح ابن العميد. وفيها طراده: أي: قد سرت معه كأحد من في حملته، فإذا سار إلى موضع سرت معه، وطاردت بين يديه، فكأنه هو المطارد عليها؛ لأن ذلك بأمره وطلب الحظوة عنده. (وأقول): وقال الواحدي: قال العروضي: هذا كلام من لم يتنبه من سنة الغفلة! إنما هو: فارقت هذه الخيل لبده وفيها تأديبه وتقويمه.

وقوله: (الخفيف) إنَّني أَصْيَدُ البُزَاة ولكِنَّ أَجَلَّ النُّجُومِ لا أَصْطَادُهْ قال: لو استوى له أن يقول: ولكن أعلى النجوم لكان أليق. وأقول: إن أبا الطيب لو أراد ذلك لاستوى له بأن يقول: ولكني أعلى النجوم، بزيادة الياء، ولو قال ذلك لدخل عليه نجوم خفية كالسها وما أشبهه، وذلك قبيح، ولكنه أراد بأجل النجوم الشمس؛ لأنها أعظم الكواكب وأضوؤها وأنفعها. وقال: الواحدي: عنى بأجل الكواكب زحل. وقوله: (الخفيف) ما تَعَوَّدْتُ أنْ أَرَى كأبي الفَضْ ... - لِ (وهذا الذي أتَاهُ اعْتِيادُهْ قال: أي (لم أمدح مثله فلذلك قصرت عن كنه وصفه و) هذا الذي أتاه من الكرم عادة له لم يتخلق لي به. (وأقول:) وقال الواحدي: هذا ليس المعنى، لأنه ليس في وصف كرمه، إنما يعتذر عن التقصير في مدحه.

وقوله:) (الخفيف) غَمَرَتْني فَوَائِدٌ شَاَء فيها ... أنْ يكونَ الكلامُ مِمَّا أفَادُهْ قال: أي: تعلمت منه حسن القول؛ يصفه بالبلاغة والخطابة. وأقول: إن أبا الطيب أشار إلى مواضع كان قد أخذها عليه في حال إنشاده: بادٍ هواك. . . يقول: أعطاني عطايا كثيرة، وأفادني فوائد جليلة من أموال، وتحف أراد أن يكون فيها فوائد الكلام، وهذا من قول أبي تمام: (المنسوخ) . . . . . . . . . ... نأخُذُ من مَالِهِ ومِنْ أدَبِهْ وقوله: (الخفيف) ما سَمِعْنَا بمن أحَبَّ العَطَايا ... فاشْتَهَى أَنْ يَكونَ فيها فُؤادُهْ قال: يقول: هذا الكلام الحسن الذي عنده نتيجة عقله وقلبه؛ فكأنه إذا أفاد إنسانا فقد وهب له عقلا ولبا وفؤادا.

وأقول: إنه لم يفهم معنى البيت؛ لأنه جعل الكلام الحسن الذي يفيده فؤاده، وليس كذلك، ولو كان الأمر على ما يقول، لكان بين البيت الأول والثاني تناقض، وذلك أنه قال في الأول: (الخفيف) غَمَرَتَني مواهبٌ شَاَء فيها ... أنْ يكونَ الكَلامُ ممَّا أَفَادُهْ فقد أراد بهذا البيت و: شاء أن يفاد كلامه، والبيت الثاني: (الخفيف) ما سَمِعْنَا بمن أحَبَّ العَطَايا ... فاشْتَهى أنْ يكونَ فيها فؤادُهْ أي: لا يشتهي ولا يريد أن يكون فيها فؤاده، أي: كما ذكر. وهذا التناقض إنما وقع في حمله البيت الثاني على الأول وتعلقه به، فجعل الفؤاد كلاما وليس بينهما تعلق. والبيت الثاني من قول مسلم: (البسيط) يَجُودُ بالنَّفْس إنْ ضَنَّ الجوادُ بها ... والجُودُ بالنَّفسِ أقْصَى غَايةِ الجُودِ وهذا المعنى كثير ظاهر لكل بصير. (وقوله: (الخفيف) خَلَقَ اللَّهُ أَفْصَحَ النَّاسِ طُرَّا ... في مَكَانٍ أَعْرابُهُ أكْرَادُهْ

لأنهم أفسد الناس لغة وأردأهم لسانا، فقد خرق الله العادة بهذا الممدوح أن خلقه أفصح الناس من أنكر الناس. ولم يعرف ابن جني هذا المعنى فروى: أفضل، والصحيح: أفصح). وقوله: (الخفيف) وأحقَّ الغُيُوثِ نَفْساً بحمْدٍ ... في زَمَانٍ كل النُّفُوسِ جَرادُهْ قال: جعله كالغيث، وجعل جميع الناس كالجراد. أي: لأنه يعطيهم، وجميعهم يأخذ منه وهو سبب حياته. وأقول: الصواب؛ أن يجعله كالغيث لعموم نفعه، ويجعل الناس كالجراد لظهور فسادهم في الأرض، ويدل على ذلك قوله فيما يليه: (الخفيف) مِثْلَمَا أحْدَثَ النُّبُوَّةَ في العَا ... لَمِ والبَعْثَ حين شَاعَ فَسَادُهْ (وهو من قول ابن أبي عيينه: (الطويل) أبُوكَ لنَا غَيْثٌ نَعِيشُ لِظِلِهِ ... وأنتَ جَرادٌ لستَ تُبقِي ولا تَذَرْ)

وقوله: (الطويل) نَسِيتُ وما أَنْسَى عتاباً الصَّدَّ ... ولا خجَلاً زادَتْ به حُمْرةُ الخَدَّ قال: وفيت بمن غدر بعهدي. وأقول: إنه فسر البيت على نسيت، بضم النون، ولم يجد التفسير، والجيد فتحها. يقول: نسيت كل شيء ولا أنسى عتاب الحبيب على صده، ولا أنسى خفره عند ذلك وحمرة خده. وهم كثيرا ما يذكرون أيام (الوصال) والوداع ولياليها، وما جرى بينهم وبين أحبابهم فيها، كقوله: (الطويل) وما أَنْسَ مِ الأشياءِ لا أنْسَ قَوْلَهَا ... وأدْمُعُها يُذْرين حَشْوَ المكَاحِلِ تَمَتَّعْ بِذا القَصِيرِ فإنَّهُ ... رَهينٌ بأيَّامِ الشُّهورِ الأطَاوِلِ (وأشباه ذلك)

وقوله: (الطويل) يَحُلُّ القَنا يومَ الطَّعَانِ بِعَقْوَتي ... فَاَحْرِمُهُ عِرْضِي وأُطعِمُهُ جِلْدَي قال: يقول: إذا أحاط بي الطعن لم أهرب إشفاقا من أن يعاب حسبي أو يطعن، بل أنصب نفسي وأعرض وجهي له، فإما هلك وإما ملك. وهو قريب من قول الآخر: (الوافر) نُعَرَّضُ للطَّعَانِ إذَا التَقَيْنَا ... وجُوها لا تُعَرَّضُ للسِبَابِ وأقول: إن هذه العبارة غير مرضية في تفسير هذا المعنى المرضي!؛ وذلك أنه يصف نفسه بالشجاعة والأنفة من الفرار، ولما جعل الرماح بمنزلة الأضياف التي تحل بعقوته، جعل قراها إطعامه جلده دون عرضه. يعني أن تخريقها جلده بالطعن أسهل من تخريقها عرضه بالذم للفرار. وقوله: (الطويل) إذَا مَا اسْتَحَيْنَ المَاَء يَعْرِضُ نَفْسَهُ ... كَرَعْنَ بِسِبْتٍ في إناءٍ من الوَرْدِ

قال: يقول: إذا مرت هذه الإبل بالمياه التي غادرتها السيول، فلكثرتها كأنها تعرض أنفسها على الإبل فتشرب منها مستحيية منها لكثرة عرضها نفوسها عليها، وإن كان لا عرض هناك ولا استحياء في الحقيقة، ولكنه جرى مثلا. ويعني بالسبت مشافرها للينها ونقائها، وجعل الموضع المتضمن للماء، لكثرة الزهر فيه، كإناء من ورد (وأقول:) وقال الواحدي: إن أبا الفضل العروضي روى عن جماعة عن أبي الطيب أن أبا الفتح صحف استحين وبسبت وإنما هو استجبن وبشبيب، أي: إذا ما استجبن الماء، والاستجابة بالعرض أشبه وأوفق في المعنى؛ هذا يعرض نفسه وذلك يجيب. والكرع بالشيب: أن ترشف الماء، وحكاية صوت مشافرها: شيب شيب، ومنه قول ذي الرمة: (الطويل) تَدَعَيْنَ باسْمِ الشَّيبِ في مُتَثَلَّمٍ ... جَوانِبُهُ من بَصْرَةٍ وسِلاَمِ قال الواحدي: وليس ما قال ابن جني ببعيد من الصواب. وأقول: إنه نقص في الإعراب وذلك أن استحين أصله: استحيين، يقال: استحيى يستحي فهو مستحى، كقوله - تعالى -: (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا) فيقع الحذف لغير علة. واستجبن ليس فيه حذف والمعنى معه صحيح مستقيم فكان (هو) الصواب، ويكون استجبن بمعنى اجبن؛ قال كعب بن سعد: (الطويل)

وَداعٍ دَعَا: هَلْ مُجيبٍ إلى النَّدَى ... فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عند ذَاكَ مُجِيبُ أي: فلم يجبه. وقوى الواحدي رواية ابن جني بسبت وقال: مشافر الإبل، تشبه في صحتها ولينها بالسبت، وهي جلود تدبغ بالقرظ، واحتج على ذلك بقول طرفة: (الطويل) وخَدَّ كقِرطاسِ الشَّامي ومِشْفَرٍ ... كَسِبْتِ اليَمَاني قِدُّهُ لم يُجَرَّدِ وضعف الرواية بشيب وقال: لا يقال: كرعت الإبل في الماء بشيب. فيقال له: ولم لا يقال: كرعن بشيب؟، إذا جعله في مكان الحال، والعامل في الجار والمجرور محذوف، كأنه قال: كرعن مصوتة بشيب، فإن ذلك جائز حسن. وإذا قيل: كرعن بسبت، كان الجار والمجرور في مكان المفعول به والعامل فيه الفعل. وقوله: (الطويل) يُعَلَّلُنَا هَذَا الزَّمانُ بذا الوَعْدِ ... ويَخدَعُ عمَّا في يَديْهِ من النَّقْدِ قال: يقول: قد طال انتظارنا لهذا المهدي المتوقع، ولسنا نرى لذلك أثرا، فكأن الزمان يسخر منا ويخدعنا، ولا حقيقة لما يدعيه أناس من ذلك. وأقول: إن هذه العبارة ليست بحسنة، والحسنة عبارة الواحدي، قال يقول: هذا الزمان يعدنا خروج المهدي فيعللنا بوعد طويل، ويخدعنا عما عنده من النقد

بالوعد. يعني: أن الممدوح هو المهدي نقدا حاضرا، ومن ينتظر خروجه وعد وتعليل وخداع، ثم أكد ذلك بالبيت الذي بعده. وقوله: (الطويل) وكُلُّ شَرِيكٍ في السُّرور بمُصبَحي ... أَرَى بَعْدَهُ من لا يَرَى مِثْلَهُ بَعْدي قال: أي: وكل من يشاركني في السرور بمصبحي عنده إذا عدت إليه من أهلي وغيرهم، فرأى ما أفدتنيه وحظيت به منك، أرى أنا بعده منك - يا ابن العميد - إنسانا لا يرى هو مثله بعد مفارقتي إياه، لأنه لا نظير لك في الدنيا. وأقول: هذا الذي ذكره ليس بشيء! لأنه لم ينتبه على معودات الضمائر. والمعنى: أن كل شريك لي في السرور بمصبحي عند ابن العميد أرى بعد المصبح، أو بعد الشريك إنسانا لا يرى مثل شريكي بعدي، لما حصل لي وله من الفوائد والشرف، وأنا أفضل منه ومقدم عليه. وقوله: (الكامل)

أنا بالوُشَاةِ إذَا ذَكَرْتُكَ أَشْبَهُ ... تَأْتي النَّدَى ويُذاعُ عَنْكَ فَتَكْرَهُ وإذَا رأيتُكَ دونَ عِرْضٍ عَارِضاً ... أيْقَنْتُ أنَّ اللَّهَ يَبْغي نَصْرَهُ قد أطال الشيخ أبو الفتح الكلام في قافية هذين البيتين، وأثبت أن الروي قيهما الراء لأن ما قبل هاء الإضمار إذا كان محركا لم يكن إلا رويا احترازا من مثل قول الحطيئة: (البسيط) يا دَارَ هِنْدٍ عَفَتْ إلاَّ أثَافِيها ... بين الطَّوِيَّ فَصَاراتٍ فَواديها (أو ما أشبه ذلك) وإذا ثبت أن حرف الروي (الراء) من فتكره ونصره بطلت التقفية في المصراع الأول من البيتين، وذلك لأن ما قبل الهاء، التي هي وصل، الباء. ثم إنه جوز ذلك من ثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون الواو في أشبه ملحقة على لغة من يقف بالواو والياء على المرفوع والمجرور كما يقف بالألف على المنصوب. والثاني: أنه أشبع الضمة فنشأت الواو كقوله: (البسيط) . . . . . . . . . من حيثما سَلَكُوا أدنو فَأنْظُور والوجه الثالث، وهو أبعدها: أن يكون أكفاء بالحروف المتباعدة المخارج كما جاء عن بعضهم: (الطويل)

خليلَيّ حُلاَّ واترُكَا الرَّحْلَ إنَّني ... بمَهْلكَةٍ والدَّائِراتُ تَدُورُ فبَيْنَاهُ يَشْري رَحْلَهُ قالَ قائِلٌ ... لِمَنْ جَمَلٌ رِخْوْ المِلاطِ نَجِيبُ فجمع بين الراء والباء رويا كما جاء لأبي الطيب. وأقول: إنه يحتمل وجها رابعا: وهو أن لا يعتد بالمخالفة في التصريع والتقفية اعتداد ما في أواخر الأبيات فلا يبلغان في القوة، من المراعاة لهما والمثابرة عليهما، مبلغ آخر البيت، فإذا لا يعد ذلك إكفاء، ألا ترى إلى قول امرئ القيس: (الطويل) خَلِيلي مُرَّا بِي على أمّ جُنْدَبِ. . . . . . . . . وقوله في البيت الثاني: (الطويل) . . . . . . . . . . . . تَنْفَعْني لدَى أمَّ جُنْدَبِ ولم يعد ذلك إيطاء، وإلى قول الآخر: (البسيط) أَلْمِمْ بَجَوْهَرَ بالقضبان والمَدَرِ ... وبالعِصِيَّ التي في رأسِهَا عَجَرُ وقول أبي نواس: (البسيط) تَخَاصَمَ الحُسْنُ والجَمَالُ ... فيكَ فصارا إلى جِدَالِ ولم يعد ذلك إقواء.

وقوله: (المتقارب) وأعلمُ أني إذا ما اعتذَرْتُ ... إليك أرادَ اعتذَاري اعْتِذَارا قال: أي: اعتذاري من غير ذنب منكر، ينبغي أن اعتذر منه. وقال الواحدي: أي: إذا اعتذرت إليك من غير جناية، كان ذلك كذبا، والكذب مما يعتذر منه. وأقول: الاعتذار إنما يكون من القبيح الذي يصل إلى من يتعذر إليه، إذ الحسن لا يعتذر منه، وإنما يفعله الإنسان إلى صاحبه حسن أدب ولطف تأت استبقاء لوده، واستلالا لضغنه. فالاعتذار إذا من غير ذنب ذنبٌ لأنه إقرار بالقبيح على نفسه، والعاقل لا يقر على نفسه بالقبيح ثم يعتذر منه! وهذا - لعمري - قد يحسن مع الملوك والأحباء؛ لأنه ربما أفضى بهم الدلال والإدلال إلى التجني على الإنسان بذنوب لم يقترفها، فيحتاج إذا إلى الاعتذار منها، بل ربما جرى بينه وبينهم أشياء، كان الذنب لهم فيها فجعله لنفسه استبقاء للود، وخوفا على النفس، ورجاء للنفع، وقد قال الشاعر: (البسيط) إذَا مَرِضنَا أَتَيْناكُم نَعُودكُمُ ... وتُذنِبونَ فَنأْتيكمْ فنعتَذِرُ

وقال عروة: (الطويل) ويُضْمِرُ عُذْرَهَا ويُعِينُها ... عليَّ، فما لي في الفؤادِ نَصِيبُ وقوله: (البسيط) تَشْبيهُ جُودكَ بالأَمْطَارِ غَادِيَةً ... جُودٌ لِكَفَّكَ ثَانٍ نَالَهُ المَطَرُ قال: أي: قد أفرطت كفك في الجود، حتى جادت على المطر بأن شبه بها. (وأقول:) وقال الواحدي: أي: إذا شبهنا جودك بالأمطار التي تأتي بالغدوات، وهي أغزرها، كان ذلك جودا ثانيا لكفك، لأن المطر يسر ويفتخر أن يشبه بجودك. وأقول: المعنى أنك إذا جدت على إنسان بجود استكثره فشبه، لكثرته، بالمطر، وتشبيهه بالمطر بعد جوده على الطالب جود ثان على المطر بأن شبه به وهو أغزر منه. ومن عادة الأقل أن يشبه بالأكثر ولا ينعكس، فلما شبه الأكثر بالأقل كان ذلك بمنزلة الجود عليه.

(وقوله: (الوافر) وكنتَ السَّيْفَ قائِمُهُ إليهم ... وفي الأعْدَاء حَدُّكَ والغرارُ فأمْسَتْ بالبَدِيَّةِ شَفْرَتَاهُ ... وأَمْسَى خَلْفَ قائِمِهِ الحِيَارُ قال: الحيار أقرب إلى العمارة من البدية، والبدية أدخل في البر من الحيار، فلما خالفوه ضربهم بالسيف الذي كانوا يضربون به أعداءهم، ثم عظم حال لسيف فقال: كان الحيار خلف قائمه؛ أي: قائمة أدنى إلى العمارة من الحيار وكانت شفرتاه، وقت كون قائمه دون الحيار بالبدية، وبين الحيار والبدية مسيرة ليلة، فطال السيف إليهم لطول باع حامله وراءهم، فكأنه مد يده إليهم فلم يفوتوه. فيقال له: إذا كان الحيار أقرب إلى العمارة - كما ذكرت - وكان خلف قائمه، فكيف يكون قائمه أدنى إلى العمارة من الحيار وهو خلفه؟! هذا خلف من القول! والمعنى: إنه

كان سيفا في أيديهم حين الطاعة، فلما عصوه صار سيفا فيهم، وذلك أنه جاوز الحيار إليهم وهم في البدية فأوقع فيهم.). وقوله: (الوافر) يُغادِرُ كلَّ مُلْتَفِتٍ إليه ... ولَبَّتهُ لِثَعْلبهِ وِجَارُ قال: يقول: يطردهم بكل رمح، إذا التفت الفارس المنهزم لينظر أين هو منه طعنه في لبته، فصارت لبته لطرف الرمح، وهو ثعلبه، بمنزلة الوجار للثعلب؛ أي: دخل السنان وما في جبته من طرف الرمح في لبته. وأقول: إن هذه استعارة حسنة، ما علمت أنه سبق إليها. وذلك أنه لما ذكر الثعلب من الرمح جعل الطعنة في لبة الفارس وجارا لدخوله فيها وللمناسبة التي بينهما. وقد استعملت بهده هذه الاستعارة كثيرا، من ذلك قول بعض أهل العصر: (الرمل) ضَبَحَ الثَّعْلَبُ من خَطَّيَّهِ ... في وِجَارِ الصَّدْرِ لَّما وَلَغَا فزاد عليه في ذلك زيادتين وهما: الضبح والولوغ. وقوله: (الوافر) إذَا صَرَفَ النَّهارُ الضَّوَْء عنهم ... دَجَا لَيْلاَنِ لَيْلٌ والغُبَارُ

قال: أي: إذا زال ضوء النهار، دخلوا في سواد الليل وظلمة الغبار، فكأن هناك ليلين. وكذا قال في البيت الذي يليه (في صفة الليل) وهو قسيمه في معناه. قال: وقد أتى النابغة بمعنى هذين البيتين في بيت واحد في قوله في وصف الجيش (البسيط) تَبْدو كَوَاكِبُهُ والشَّمْسُ طَالِعَةٌ ... نُوراً بِنُورٍ وإظْلاما بإظلامِ وأقول: هذا المعنى قد جاء كثيرا، وكأن معنى أبي الطيب وترتيبه من قول أبي تمام: (البسيط) ضَوْءٌ من النَّارِ والظَّلْمَاءُ عَاكِفَةٌ ... وظُلْمَةٌ من دُخَانٍ في ضُحى شَجِبِ فالشَّمْسُ طَالِعَةٌ مِنْ ذَا وقَدْ أفَلَتْ ... والشَّمْسُ واجِبةٌ مِنْ ذَا ولم تَجِبِ إلا أن بيتي أبي الطيب أقصر وزنا، وأظهر معنى، وأقل كلفة، فإن كان أخذ المعنى منه، فقد زاد عليه فيه، وإن كان وارده (فيه) فهو أحق به منه. والأظهر أن أبا الطيب لم يكن ليعتمد إلا على ما يجلبه فكره ويستنتجه خاطره.

وقوله: (الوافر) فكانُوا الأُسْدَ لَيْسَ لهَا مَصَالٌ ... على طَيْرٍ وليسَ لهَا مَطَارُ قال: أي: كانوا قبل ذلك أسدا، فلما غضبت عليهم وقصدتهم لم تكن لهم صولة على طير لضعفهم، ولم يقدروا أيضا على الطيران فأهلكتهم. وأقول: ليس هذا بشيء! لأنه جعل الضمير في لها التي في صدر البيت، ولها التي في عجزه (للفرسان)، وليس كذلك بل الأولى للفرسان والثانية للخيل. يقول: هؤلاء الأعراب كانوا كالأسد في الشدة والشجاعة، ولكن ليس لها مصال على خيل كالطير في السرعة، وليس لتلك الخيل مطار؛ إما لما حل بها من الإعياء والكلال، أو لما لحقهم من الخذلان والخوف (والخبال) بلحاق سيف الدولة لهم، (وهذا المعنى والتفسير لم أسبق إليه، ولا ثم معنى سواه). وقوله: (الوافر) فَهُمْ حِزَقٌ على الخابور صَرْعَى ... بهم من شُربِ غَيْرِهِمُ خُمَارُ

قال: ومعنى البيت انهم ظنوا ان قد قصدهم فهربوا من بين يديه فتقطعوا. وأقول: إن هذا مثل ضربه، وذلك أن العادة جارية بحدوث الخمار فيمن يشربون الخمر فتحدث لهم سكرا وصرعا بالنون، لا فيمن لم يشربها. وهؤلاء - بنو نمير الذين أجفلوا خوفا من سيف الدولة مما صنع ببني كلاب الذين أوقع (بهم) - بمنزلة الذين صرعوا سكرا وخمارا من شرب غيرهم. وقوله: (الوافر) تَصَاهَلُ خَيْلُهُ مُتَجَاوِبَاتٍ ... وما من عَادَة الخَيْلِ السَّرارُ قال: يقول: كأن بعضها يسر إلى بعض شكيته، لما يجشمها من ملاقاة الحروب وقطع المفاوز، ألا ترى إلى قوله: (الكامل) نَطَقَتْ بسُؤدَدِكَ الحَمَامُ تَغَنَّياً ... وبِمَا تُجَشَّمُهَا الجِيَادُ صَهِيلاَ ويجوز أن يكون معناه أن خيله مؤدبة فتصاهلها سرارا هيبة له كقوله في أبي شجاع يصف خيله ورجاله: (الرجز) ما يَتَحَّركْنَ سِوَى انْسِلاَلِ فَهُنَّ يُضْرَبْنَ على التَّصْهَالِ كُلُّ عَليلٍ فَوْقَهَا مُخْتَالِ يُمْسِكُ فاهُ خَشْيَةَ السُّعَالِ

وأقول: إنه فهم المعنى مقلوبا! قال الواحدي: قال ابن فورجة: لفظ البيت لا يساعده على واحد من التفسيرين؛ فإنه ليس في البيت ذكر التشاكي ولا المسارة في الصهيل، ولكن المعنى أنها تتصاهل من غير سرار، وليس السرار من عادة الخيل، أي: إن سيف الدولة لا يباغت العدو ولا يطلب أن يكتم قصده العدو لاقتداره وتمكنه، والذي يطلب المباغتة والتستر عن عدوه يضرب فرسه على الصهيل كما قال: (المتقارب) إذا الخَيْلُ صَاحَتْ صِياحَ النُّسور ... حَزَزْنَا شَراسِيفَها بالجِذَمْ وقوله: (الوافر) لَهُمْ حَقٌّ بِشَركِكَ في نِزَارٍ ... وأَدْنَى الشَّركِ في أَصْلٍ جِوَارُ قال: يقول: أنت تجتمع معهم في نزار، فهذه قرابة لهم تعطفك عليهم. وأقول: إنه فسر النصف الأول ولم يفسر الثاني، ومعناه: أن هؤلاء؛ بني كلاب، لهم حق عليك بمشاركتهم لك في نزار، وأقل ما يوجبه حق الشركة، (في الأصل)، أن تجيرهم بالعفو عنهم.

وقوله: (الوافر) لعَلَّ بَنِيهمُ لِبَنيكَ جُنْدٌ ... فأوَّلُ قُرَّحِ الخَيلِ المِهَارُ قال: أي: الأمور أوائلها صغار وأواخرها كبار. وأقول: ليس هذا المعنى، وإنما هو ما ذكره الواحدي؛ قال: يستعطفه عليهم ويحثه على العفو عنهم؛ يقول: لعل أبناءهم يكونون جندا أبنائك، فالمهار من الخيل تصير قرحا، أي: الصغير يصير كبيرا، كما قال بعض العرب: (الرجز) وإنَّما القَرْمُ مِنَ الأفِيلِ وسُحُقُ النَّخْلِ من الفَسِيلِ وقوله: (البسيط) فَقَدْ تَيَقَّنَّ أَنَّ الحَقَّ في يَدِهِ ... وقَدْ وَثِقْنَ بأَنَّ اللَّهِ ناصِرُهُ قال: هذا مثل قول النابغة: (الطويل)

جَوَانِحُ قد أيْقَنَّ أنَّ قَبِيلَهُ ... إذَا ما التَقَى الجَمْعَانِ أوَّلُ غَالِبِ وأقول له: إن الطير وصفهن باليقين لما ذكره فيما بعد من قوله: (الطويل) لَهُنَّ عَلَيْهِمْ عَادَةٌ قَدْ عَرَفْنَهَا ... إذَا عُرَّضَ الخطيُّ فَوْقَ الكَوائِبِ وأنت فلم تذكر لم وصفهن أبو الطيب باليقين والثقة، وكان ينبغي أن يقول: إنما وصفهن بذلك لما قبله من قوله: (البسيط) تَحْمَى السُّيُوفُ على أَعْدَائِه مَعَهُ ... كأَنَّهُنَّ بَنُوهُ أَوْ عَشَائرُهُ (إذَا انْتَضَاهَا لَحْرْبٍ لم تَدَعْ جَسَداً ... إلاَّ (وباطُنُهُ للعَيْنِ ظاهِرُهُ) وقوله: (الطويل) رَأَتْ وَجْهَ مَنْ أَهْوَى بِلَيْلٍ عَوَاذِلي ... فَقُلْنَ: نَرَى شَمْساً ومَا طَلَع الفَجْرُ قال: إنما خص العواذل هنا دون غيرهن؛ لأنهن لم يعترفن له بهذا إلا لما فاق عندهن الوجوه، فعذرنه في محبته، وذلك الغاية في معناه. (وأقول:) وقال الواحدي: وخص العواذل لأنهن إذا اعترفن بهذا، مع إنكارهن عليه حبها، كان ذلك أدل على حسنها.

وأقول: إن العواذل إنما يعذلن العاشق شفقة عليه ورحمة له، فمن شأنهن أن يصغرن حال المحبوب عنده، ويقبحنه في عينه، ويخدعنه عنه ليزهد فيه؛ فيحصل لهن الغرض الذي قصدنه منه. وكأن عواذل أبي الطيب لم يرين محبوبه قبل تلك الليلة، فلما رأينه بهرهن وجهه بالحسن الذي أراهن، كأن الشمس طالعة بالليل، فلم يقدرن على المخادعة والمغالطة، ووصفنه بذلك فعدن، بعد إذ كن يعذلنه؛ يغرينه، لأن وصف المحبوب إغراء به وتعريض لعشقه كما قال الشاعر: (الوافر) وَلسْتُ بواصِفِ أَبداً حَبِيباً ... أُعَرَّضُهُ لأَهْوَاءِ الرَّجَالِ (وقوله: (الكامل) أو يَرْغَبُوا بقصُورِهِمْ عن حُفْرَةٍ ... حَيَّاهُ فيها مُنْكَرٌ ونَكِيرُ قال: أعيذهم أن يتركوا زيارة قبره ويلزموا قصورهم. وقال الواحدي: قال العروضي: ما أبعد ما وقع، وإنما أراد: لا يحسبوا قصورهم أوفق له من الحفرة التي صارت من رياض الجنة حتى حياه فيها الملكان. وأقول: ما العجب (من وقوعه) في مثل هذا، بل سلامته!)

وقوله: (الكامل) غَاضَتْ أنَامِلُهُ وَهُنَّ بُحورُ ... وخَبَتْ مَكائِدُهُ وهُنَّ سَعِيرُ قال: أي: لما مات بطلت أفعاله، إلا من الذكر الجميل. وأقول: هذا الاستثناء (الذي ذكره) لا يدل عليه اللفظ، وإنما ذكر غيض أنامله وهن بحور، وخبو مكائده وهن سعير، على وجه الإعظام والتعحب للبحار، مع كثرة مائها كيف تغيض، وللنار مع شدة اضطرامها (- ويعني نار جهنم -) كيف تخبو؟! (والواو في وهن المكررة للحال.) والمعنى: أنه يصفه بكثرة الجود على الأولياء، وبكثرة الانتقام من الأعداء. وقوله: (الكامل) طَارَ الوُشَاةُ على صَفَاءِ ودادِهِمْ ... وكذا الذُّبَابُ على الطَّعام يَطِيرُ قال: معنى طاروا: ذهبوا وهلكوا، لما لم يجدوا بينهم مدخلا.

قال الواحدي: وقال أبو علي بن فورجة: كيف يعني بقوله: طاروا: ذهبوا وهلكوا وقد شبه طيرانهم على صفاء الوداد بطيران الذباب على الطعام؟ وإنما يعني أن الوشاة تعرضوا لما بينهم، وجهدوا أن يفسدوا ودهم، كما أن الذهاب يطير على الطعام، ومثله قول الآخر: (البسيط) وَجَلَّ قَدْرِيَ فاسْتَحْلَوا مُسَاجَلَتي ... إنَّ الذُّبَابَ على المَاذِيّ وَقاعُ قال الواحدي: والمعنى أن اجتماع الوشاة وسعيهم فيما بينهم بالنمائم، دليل على ما بينهم من المودة كالذباب، لا يجتمع إلا على طعام، كذلك الوشاة إنما يتعرضون للأحباء المتوادين. قال: وقال العروضي، فيما أملاه علي: يظلم نفسه ويغر غيره من يفسر شعر المتنبي بهذا النحو، ألا تراه يقول: . . . . . . . . . . وكذَا الذُّبابُ على الطَّعَامِ يطِيرُ أذهاب هذا عنه أم اجتماع عليه؟! وقال: طَارَ الوُشَاةُ عَلَى. . . . . . . . . . . . ولو أراد ما قال أبو الفتح لقال: (طار) عنه. وأقول: هذا (الذي) أخذوه على ابن جني حسن، إلا أنهم لم يبينوا المعنى ويكملوه؛ وهو أن الوشاة تعرضوا لإفساد ما بينهم من الوداد، ولا يعبأ بهم لحقارتهم عندهم، فكانوا بينهم بمنزلة الذباب الذي يطير على الطعام متعرضا لفساده فلا يعبأ به ويطرد عنه.

وقوله: (الطويل) مَرَتْكَ - ابنَ إبراهيمَ - صَافِيَةُ الخَمْرِ ... وهُنَّئْتَهَا من شَارِبٍ مُسْكِرِ السّكْرِ قال: معنى مسكر السكر: إما لأنك لا يغلبك السكر، ومن عادته أن يغلب كل شيء، فكأنك قد غلبته، وإما أنه استحسن شمائلك فسكر لحسنها، وكلاهما يحتمله البيت. وأقول: الصحيح الوجه (الأول)، والثاني ليس بشيء! والمعنى أنه أراد المبالغة فعكس فجعله يسكر السكر الذي من عادته أن يسكر، ولا يسكره السكر. وهو مثل قوله: (الطويل) طِوَالُ الرُّدَيْنياتِ يَقْصفُها دَمي ... وبيضُ السُّريْجِياتِ يَقْطَعُها لَحْمِي وقوله: (الوافر) عَدُويَّي كُلُّ فيكَ حَتَّى ... لَخِلْتُ الأُكْمَ مَوُغَرةَ الصُّدُورِ

قال: وقوله: . . . . . . . . . لَخِلْتُ الأكْمَ مُوغَرَةَ الصُّدُورِ يحتمل أمين: أحدهما: أنه يريد أن الأكم تنبو به فلا يستقر فيها، ولا تطمئن به فكأنه ذلك لعداوة بينهما. والآخر، وهو الوجه: أن يكون أراد شدة ما يقاسي فيها من الحر والبرد، وأنها موغرة الصدور من شدة حرارتها، ويؤكد هذا قوله في هذه القطعة أيضا: (الوافر) . . . . . . . . . وأَنْصِبُ حُرَّ وَجْهي للهَجِيرِ وذكر الواحدي عن ابن فورجة تزييف الوجهين؛ بأن قال: لم يرد أن يستقر في الأكم فتنبو به وبئس ما يختار لداره ومقامه، وكيف خص الأكم بشدة الحر، والمكان الضاحي للشمس أولى بالحر؟ وللأكم ظل فهي أبرد من المكان الذي لا ظل فيه. ثم إنه ذكر وجها ثالثا ليس يحسن كالوجهين الأولين يذكر في شرح الواحدي. وأقول: إنما خص الأكم، ويريد بها الجبال، وجعلها موغرة الصدور لحسدها له حيث يفضلها في العلو والثبات والرصانة، وقوله: كل شيء أطلق وأراد التخصيص أي: كل شيء حسن عال غال، كقوله - تعالى: (وأوتيت من كل شيء).

وقوله: (الوافر) ولو كُنْتَ امْرءاً يُهْجَى هَجَوْنا ... ولكِنْ ضَاقَ فِتْرٌ عن مَسِيرِ قال: أي لست ممن يستحق الهجاء. وأقول: هذه عبارة ناقصة، والمعنى: أنت أقل من أن تهجى، كما أن الفتر أضيق من أن يسار فيه؛ كأنه يقول: ليس لك (عرض)، وإنما يهجى من له عرض. وقوله: (الطويل) ذَرِ النَّفْسَ تأخُذْ وُسْعَهَا قبلَ بَيْنِهَا ... فمُفْتَرِقٌ جَارانِ دَرُهُمَا عُمْرُ (قال: أي: إنما النفس مجاورة لهذا الجسم مدة العمر، ثم يفترقان إذا فني العمر.) وأقول: فسر عجز البيت، وعجز أن يفسر صدره وهو: دع نفسك تأخذ ما تطيق مما تريد من لذة أو مال أو حرب؛ فإنها غير باقية مع الحسد.

وقوله: (الطويل) إذَا الفَضْلُ لم يرفَعْكَ عن شُكْرِ نَاقِصٍ ... عَلَى هِبَةٍ فالفَضْلُ فِيمَن له الشُّكْرُ قال: أي: إذا اضطرتك الحال وشدة الزمان إلى شكر الأصاغر من الناس على ما تتبلغ به إلى إمكان الفرصة، فالفضل فيك ولك، لا للممدوح المشكور. وأقول: هذا الذي ذكره ليس بشيء! وقال الواحدي: قال أبو الفضل العروضي: يقول أبي الطيب: الفضل فيمن له الشكر، ويقول أبو الفتح: الفضل فيك ولك فيغير اللفظ ويفسد المعنى، وإنما أوقعه في ذلك أنه توهم قوله، فالفضل فيمن له الشكر أنه الشاكر، وإنما هو المشكور. والذي أراد أبو الطيب أن الفضل إذا لم يرفعك عن شكرك الناقص على هبة، فالناقص هو الفاضل؛ يشير إلى الترفع عن هبة الناقص لئلا يلتزم شكره. وقوله: (الطويل) وكَمْ من جِبَالِ جُبْتُ تَشْهَدُ أنَّني ال ... جِبَالُ وبَحْرٍ شَاهِدٍ أَنَّي البَحْرُ لم يفسر البيت لظهوره. إلا أن قوله: أنني البحر يسبق إلى الوهم أنه في الجود، ولم يكن أبو الطيب

ليدعي ذلك، ولا يدعى له، وإنما أراد: في العلم. وأقول: لو كان (قال): وكم من جِبَالٍ جُبْتُ تَشْهَدُ أنَّني ... أخُوهَا. . . . . . . . . لكان (أقل كلفة، وأوقع تشبيها،) وأحسن من الإدماج في البيت، وتشبيه الواحد بالجمع. ولكنه لما قال: . . . . . . . . . . . . . وبَحْرٍ شَاهدٍ أنَّني البَحْرُ أراد أن يكون الأول مثل الآخر في ازدواج اللفظ فأوقعه في ذلك، والتكلف ظاهر فيه مع سوء التشبيه. وقوله: (الطويل) وخَرْقٍ مكانُ العِيسِ منهُ مَكَانُنَا ... مِنَ العِيسِ فيه واسِطُ الكُورِ والظَّهْرُ قال: ومعنى البيت: أن هذه الإبل كأنها واقفة في هذا الخرق، وهو المتسع من الأرض، ليست تذهب فيه ولا تجيء، وذلك لسعته، فكأنها ليست تبرح منه كما قال آخر في صفة خرق: (الرجز) يُمْسِي به القَوْمُ بِحَيْثُ أَصبْحَوا

أي: فكما أنا نحن في ظهور هذه الإبل، فكذلك هي، كأن لها من أرض هذه الخرق كورا وظهرا، فقد أقامت به لا تبرحه. وأقول: هذا كلام من لم يشم رائحة هذا المعنى فضلا عن أن يذوقه! وهو ما قاله الواحدي، ويقوله كل من له أدنى تأمل!: أنه توسط هذا الخرق راكبا ظهر البعير في جوزه، فمكانه من ظهر البعير من الخرق. والمعنى: نحن في وسط ظهور الإبل والإبل في وسط الخرق، ولم يتعرض في هذا البيت لوقوفها ولا لبراحها، ثم ذكر سيرها في البيت الثاني. وقوله: (الطويل) ولا يَنْفَعُ الإمكانُ لولا سَخَاؤه ... وهَلْ نَافِعٌ لولا الأكُفُّ القَنَا السُّمْرُ قال: يقول: لولا سخاؤه لما انتفع الناس بإمكانه؛ لأنه قد يكون الإمكان مع الشح فلا ينفع، كما أن القنا لو لم تحفزها الأكف لم تقتل. وأقول: الصحيح؛ أن الانتفاع راجع إلى الممدوح لا إلى الناس. يقول: لولا سخاؤه لما انتفع بكثرة ماله، وضرب مثلا للثراء والسخاء بالقنا السمر والأكف، فالثراء لا ينتفع (به) لولا السخاء، كما أن القنا السمر لا ينتفع به لولا الأكف.

وقوله: (الطويل) كأَنَّكَ بَرْدُ المَاءِ لا عَيْشَ دَونَهُ ... ولو كُنْتَ بَرْدَ لم يكُنِ العِشْرُ قال: يقول: لو كان برد الماء مثلك لما وردت الإبل العشر؛ أي: كانت تتجاوز مدة العشر لغنائها بعذوبتك وبردك. وأقول: إنه فهم المعنى مقلوبا! والمعنى: أنه شبهه ببرد الماء؛ لأنه لا حياة دونه ولا صبر عنه. ثم قال: ولو كنت برد الماء حقيقة لم يكن العشر؛ أي: لم تصبر الإبل عنك مدة العشر كالصبر عن الماء لأن النفع بك والحاجة إليك أمس من الماء، فجعله أفضل من الماء يصبر عنه، وهو لا يصبر عنه. وقوله: (الكامل) أَنتَ الوَحِيدُ إذَا ارْتَكبتَ طريقةً ... فَمَنِ الرَّديفُ وقد رَكِبْتَ غَضَنْفرا

قال: يقول: قد ركبت من خلائقك وطرائقك (أمرا) لا يتبعك فيه أحد مخافة الفضيحة لتقصيره عن مداك وتأخره عن مغزاك. وأقول: الأحسن في هذا تفسير الشيخ أبي الحسن الواحدي: قال: يقول: أنت فرد الطريقة في كل أمر تقصده، لا يقدر أحد أن يقتدي بك في طريقتك، كراكب الأسد لا يقدر أحد أن يكون رديفا له، وعلى هذا القول: الغضنفر مركوب. ويجوز أن يكون (راكبا بأن يكون) حالا لممدوح: يقول: لا يقدر أحد أن يكون رديفا لك وأنت غضنفر. وقوله: (الكامل) أَرَأَيْتَ هِمَّةَ نَاقتي في نَاقَةٍ ... نَقَلَتْ يداً سُرُحاً وخُفا مُجْمَرَا لم يذكر ابن جني معنى هذا البيت ولا الذي بعده، وهو معنى لطيف، واشتغل بذكر الغريب من المجمر والرمث وطول فيهما بتكثير الاستشهاد. قال الواحدي: أخبر عن علو همة ناقته إذ قصدته، وذلك إخبار عن علو همة نفسه بأنها تركت دخان الرمث الذي توقده الأعراب؛ أي: تركت الأعراب وأتت قوما

وقودهم العنبر. وهذا مثل قول البحتري: (الكامل) نَزَلُوا بأرضِ الزَّعفَرانِ وجَانَبُوا ... أرْضاً تَرُبُّ الشَّيحَ والقَيْصُومَا وقوله: (الكامل) وتَرَى الفَضِيلةَ لا تَرُدُّ فَضِيلَةً ... الشّمْسَ تُشْرِقُ والسَّحَابَ كنَهْوَرَا

قال: وروي: لا ترد، أي: وترى الفضيلة فيك مشرقة واضحة غير مشكوك فيها؛ كما ترى الشمس إذا اشرقت، والسحاب إذا كان متكاثفا عظيما. وقوله: لا ترد أي: مقبولة غير مردودة. ونصب الشمس والسحاب بفعل مضمر؛ كأنه قال: ترى، برؤية فضائلك، الشمس والسحاب، ونصب فضيلة على الحال. وخبط تخبيطا كثيرا يرغب عن ايراده! (وأقول): وإنما أوقع في هذا التفسير أبا الفتح، تصحيف الضم من الفتح! ولولاه لما احتاج إلى هذا الخبط الشديد، والتعسف لتقدير الإعراب البعيد! ونصب فضيلة ب ترد مفعولة، فاعلها الضمير فيها، والشمس والسحاب بدلا من الفضيلة. والمعنى ما قاله غير أن جني، أي: الفضيلة لا ترد ضدها من الفضائل على ما عهد في المتضادين. ثم فسر ذلك فقال: ترى الشمس مشرقة كنهورا؛ أي: في حال واحدة يريك هذا الممدوح هذين المتضادين؛ إذ وجهه كالشمس (إشراقا)، ونائله كالسحاب إغداقا، ومع (ذلك) لا يتنافيان في حاله كالضدين. قال الواحدي: وقد أوضح ابن الرومي هذا المعنى حيث يقول: (الكامل) يُلْقَى مُغِيماً مُشْمِساً في حَالهٍ ... هَطِلَ الإغَامَةِ نَيَّر الإشْمَاسِ

قال: وتبعه البحتري فقال: (الطويل) وأبيضُ وَضَّاحٌ إذَا ما تَغَيَّمَتْ ... يَداه تَجَلّى وَجْهُهُ فتَقَشَّعَا وأقول: إن تسبيه وجهه بالشمس، لا ينبغي أن يكون من أصل الخلقة؛ لأن ذلك ليس بفضيلة للممدوح، وقد قال أبو الطيب: وتَرَى الفَضِيلَةَ لا تُرُدُّ فَضِيلةً ... . . . . . . . . . فأثبت له فضيلتين لا ترد إحداهما الأخرى، وينبغي أن يراد بالشمس ما في وجهه من البشر (والطلاقة)، والتهلل والبشاشة، عند العطاء؛ وذلك أن الإنسان إذا أعطى ناله، والأول بمنزلة الروح، فربما تعير وجهه، وهذا الممدوح قد جمع بين كثرة البشر فشبه (وجهه) بالشمس (مشرقة)، وبين كثرة العطاء فشبه جوده بالسحاب كثيرا عزيرا فجمع بين هاتين الفضيلتين ولم ترد إحداهما الأخرى. وقوله: (الخفيف) سَلَّهُ الرَّكْضُ بعد وَهْنٍ بِنَجْدٍ ... فَتَصدَّى للغَيْثِ أَهْلُ الحِجَازِ

قال: أي: ظنوا لمعانه ضوء برق فتعرضوا للغيث. قال: قال - يعني المتنبي: وإنما خصصت أهل الحجاز لأن فيهم طمعا. ولم أسمع هذا منه، فإن يكن على ما حكي، وإلا فالذي قاده إليه القافية كقول الراجز: (الرجز) رَعَيْتُهَا أكْرَمَ عُودٍ عُودَا الصَّلَّ والصَّفْصَلَّ واليَعضِيدا والخَاز بازِ السَّنِمَ المجُودَا بحيثُ يَدْعو عَامِرٌ مَسْعُودا ولم يرد رجلين على الحقيقة، اسم أحدهما عامر واسم الآخر مسعود، ولو كانت القافية نونية لجاز أن يقول: بحيث يَدْعو عَامِرٌ سَعْدَانَا وكذلك لو كانت ميمية لجاز أن يقول: بحيث يَدعُو عَامِرٌ تَمِيمَا وأقول: إنه قد منع أن يكون ثم وجها ثالثا يحمل عليه قوله: أهل الحجاز، وفر مما لا معنى له إلى مثله؛ لأن تلك اللفظة - كما قال: - لا معنى لها، وإنما قاده إليها

القافية. والمعنى بتلك اللفظة، اظهر من أن يخفى على من له أدنى نظر، وذلك الحجاز بلاد شديدة الحر؛ قليلة المطر، مجاورة لنجد؛ فلما سل الركض السيف بليل أومض فظن أهل الحجاز أنه برق، والبرق مظنة الغيث، فتصدوا له. وقوله: (الخفيف) تَقْضَمُ الجَمْرَ والحَدِيدَ الأعادي ... دونَهُ قَضْمَ سُكَّرِ الأَهْوَازِ قال: أي تقضمها حنقا عليه، وقصورا عنه كقول الأعشى: (الطويل) فَعَضَّ جديدَ الأَرْضِ إن كُنتَ سَاخِطا ... بِفيكَ وأَحْجارَ الكُلابِ الرَّواهِصَا وأقول: إنما خص الجمر والحديد بالذكر دون غيرهما؛ لأنه جعل أعداءه، من خوفه، بمنزلة النعام تأكل الجمر والحديد، والنعام يوصف بذلك، كقوله: (الخفيف) إنَّما مُرَّةُ بنُ عَوْفِ بن سَعْدٍ ... جَمَراتُ لا تَشْهِيهَا النَّعامُ ويوصف بالخوف والذعر كقول يزيد بن قفافة: (الطويل) كأَنَّ بصَحراءِ المُريط نعامَةً ... تبادِرُهَا جِنْحَ الظَّلامِ نَعَائِمُ أعَارَتْكَ رِجْليْهَا وهَافِيَ لُبَّهَا ... وقد جُرَّدَتْ بِيضُ السيوف صَوَارِمُ

وقوله: (البسيط) إنْ تَرْمِني نَكَباتُ الدَّهْرِ عن عُوضٍُ ... تَرْمِ امرءاً غَيْرَ رِعْديد ولا نَكِسِ قال: النكس: الساقط الفسل من الرجال. وأصله أن السهم يرمي به فينكسر فينكس؛ أي: يجعل رأسه أسفله. وقال الواحدي: لم اسمع بالنكس بمعنى النكس إلا في هذا البيت. وأقول: إن لم يسمع النكس - بفتح النون - فينبغي أن يكون بكسرها، ويكون أصله: نكس بسكون الكاف، فنقلت الكسرة التي على اللام إلى العين وحمل الوصل على الوقف كقوله: (مشطور السريع) بِبَازِلٍ وَجْنَاءَ أو عَيْهَلَّ. . . . . . . . . ويكون مثل قوله: (الرجز)

علَّمَنا إخوانُنَا بَنُو عِجِلْ شُرْبَ النَّبِيذِ واصْطِفَاقاً بالرَّجِلْ وقوله: (الكامل) هذي بَرَزْتِ لنَا فَهِجْتِ رَسِيسَا ... ثم انْصَرَفْتِ وما شَفَيْتِ نَسيسَا قال: هذي: أي: يا هذي؛ ناداها وحذف حرف النداء ضرورة؛ لأن هذي تصلح أن تكون وصفا لأي، ألا تراك تقول: يا أيتهاذي، كما يقال: يا أيها الرجل. فلما كان كذلك كرهوا حذف أي ويا جميعا. قال: وذلك يجوز في ضرورة الشعر كقوله: (الرجز) جارَيَ لا تَسْتَنْكِر] عّذِيري أراد: يا جارية. و (أقول): قال أبو العلاء: هذي موضوعة موضع المصدر، وإشارة إلى البرزة

الواحدة، كأنه يقول: هذه البرزة برزت لنا، كأنه يستحسن تلك البرزة، وأنشد: (الرجز) يا إبلي إما سَلِمْتِ هّذي فَاسْتَوسِقي لصَارِمٍ هَذَّاذِ وطَارقٍ في الدَّجْنِ والرَّذَاذِ يريد: هذه الكرة. وهذا التأويل يخرج قول أبي الطيب من الضرورة في الشعر إلى الجائز في الكلام. وقوله: (الكامل) إنْ كُنْتِ ظَاعِنَةً فإنَّ مدامِعي ... تَكْفِي مَزَادَكُمُ وتُروي العِيسَا قال: وهذا نقيض قوله: (البسيط) ولا سَقَيْتُ الثَّرَى، والمُزْنُ مُخْلِفُهُ، ... دَمْعاً يُنَشَّعُهُ من لَوْعةٍ نَفَسِي لأن هناك، ذكر أن نفسه ينشف دموعه فيذهب به، وهاهنا ذكر أن مدامعه تكفي المزاد وهذا يدل على كثرتها. وما عدمت هذا الشعراء، ألا ترى أنهم ذهبوا (37/أ)

من قول زهير: (البسيط) قِفْ بالدَّيَارِ التي لم يَعْفُها القِدَمُ ... بَلَى وغَيَّرها الأرْوَاحُ والدَّيَمُ إلى أنه رد على نفسه. وكذلك قول امرئ القيس: (الطويل) فَتُوضِحَ قالمقراةِ لم يَعْفُ رَسْمُهَا ... لِمَا نَسَجتْهَا من جَنُوبٍ وشَمْأَلِ ثم قال: . . . . . . . . . فَهَلْ عند رسْمٍ دارسٍ من مُعَوَّلِ وأقول: إن ابن جني طبعه تكثير الكلام، وغرضه تكبير الكتاب، فما يبالي بعد ذلك أخطأ أم أصاب! والجواب عن ذلك سأذكره فيما بعد، فإنه قد نقل عنه، وأخذ منه، وأعجب به غيره ممن هو في الفطانة مثله!

وقوله: (السريع) وإنما يُظهِرُ تَحْكيِمَهُ ... لِيُحْكِمَ الإفْسَادَ في حِسَّهِ قال، يقول: إذا اعتقد تحكيم العبد على نفسه، ورضي به في الظاهر كما رضي به في الباطن؛ فقد حقق عند الناس فساد حسه لقبح اختياره. وأقول: ليس في كلام أبي الطيب ما يدل على الرضا لا ظاهرا ولا باطنا، وإنما يقول: إن من حكم عبدا لئيما جاهلا عليه يتصرف به تصرف المالك، وأظهر تحكيمه للناس؛ فقد بالغ في إفساد حسه. هذا فيمن روى: ليحكم، ومن روى: ليظهر، وهو الأظهر، فيقول: من أظهر تحكيم العبد على نفسه مثلي، فقد أظهر فساد عقله للناس! وفي هذا توبيخ لنفسه، وزراية على فعله بقصده كافورا وانقطاعه إليه، وما بعده يدل عليه. وقوله: (السريع) فلا تُرَجَّ الخَيْرَ عند امْرئٍ ... مَرَّتْ يَدُ النَّحَّاس في رَأسَهِ

قال: وهمز عين الفعل من رأسه لأن القافية غير مردفة كما قال: (الطويل) يقولُ ليَ الحَدَّادُ وهو يَقُودني ... إلى السَّجنِ: لا تَجْزَعْ فما بك من بَأسِ ألا تراه يقول في هذه القصيدة: (الطويل) . . . . . . . . . ويتركُ عُذري وهو أَضْوَا من الشَّمْسِ فجعل همزة بأس بازاء ميم شمس. وأقول: إنما فعل ذلك لأن عين رأس أصلها الهمز فأتى بها على الأصل، وإذا كانت كذلك فهي موازية موازنة لجميع الحروف الصحاح، الميم وغيرها، وإنما الكلام فيها إذا خرجت عن أصلها فجاءت في قصيدة مردفة ردفا كقول الحطيئة: (البسيط) أزْمَعْتُ يأساً مُرِيحاً من نَوالِكُمُ ... ولن تَرَى طارداً للحُرَّ كاليَاسِ من قوله: (البسيط) واللهِ ما مَعْشَرٌ لأَمُوا امْرَءا جُنُباً ... في آلِ لأْيِ بن شَمَّاسٍ بأْكَياسِ فحينئذ يقال: إنما ترك الهمز هاهنا، وهو أصل، لأجل الردف، إذ القصيدة مردفة. فالشيء إنما يعلل إذا خرج عن أصله، وإنما الشيخ جار على طريقته المألوفة، وشنشنته المعروفة، في كثرة الكلام بالتمويه والإيهام!

وقوله: (الوافر) فَما خَاشيكَ للتَّكذِيبِ رَاجٍ ... ولا رَاجيكَ للتَّخْييبِ خَاشي قال: ليس يرجو من يخشاك أن يلقى من يكذبه ويخطئه في خوفك، لأن الناس مجمعون على خوفك. ومعنى راج: خائف، كقوله تعالى: (وقال الذين لا يرجون لقاءنا)، وقال الشاعر:. (الطويل) إذَا لَسِعَتْهُ النَّحْلُ لم يرْجُ لَسْعَهَا ... وخَالَفَهَا في بَيْتِ نُوبٍ عَوامِلِ وأقول: إن الذي ذكره في هذا البيت من جنس كلامه قبله في إيهامه، ونفخه وجفخه، باطلاعه على غريب اللغة، واستخراجه منها ما يخفى على غيره في راج أنه بمعنى خائف، واستشهاده على ذلك بالآية والبيت. وليس راج إلا من الرجاء، وهو الطمع، وصنعة البيت بتركيبه وترتيبه يدل عليه، وهو قلب صدره على عجزه! والمعنى أن خاشيك في الحرب لا يرجو التكذيب من نفسه أو من غيره، وراجيك في الجود لا يخشى التخييب؛ لأنه واثق منك بالعطاء وبلوغ الرجاء.

وقوله: (الوافر) بُلِيتُ بهِمْ بَلاَء الوَرْدِ يَلْقَى ... أُنُوفاً هُنَّ أوْلَى بالخِشَاشِ قال: أي: تأذيت بلقاء غيرك من الرؤساء، ولم يليقوا بي، كما لا يليق الورد بأنوف الإبل. وأقول: إنه يريد ببليت بهم أي: اضطررت إليهم، وامتحنت بهم، وهم لئام صعاب جهال لا يلائمونني ولا يليقون بي، فتأذيت بهم كالورد الذي يقرب من أنوف الإبل لتشمه (وهي لا تفهمه) فيتأذى بها، وهي بتقريب الخشاش إليها أولى ليذلها ويقودها. وقوله: (الكامل) فَعَلَتْ بِنَا فِعْلَ السَّماءِ بأرْضِهِ ... خِلَعُ الأَميرِ وحَقَّهُ لم نَقْضِهِ أقول: إنه لم يذكر معناه، فكأنه استغنى عن ذكره بذكر مثله وهو قوله: (طويل) فَبُورِكْتَ من غَيْثٍ كأنَّ جُلُودَنَا ... به تُنْبِتُ الدَّيبَاجَ والوشيَ والعَصْبَا قال في هذا: جعله كالغيث، وجلودهم كالأرض التي تنبت إذا أصابها (38ب) وأقول: إنه يحتمل البيتان معنى آخر، وهو أن الغيث إذا أصاب الأرض أنبتت

أنواعا من الزهر، وألوانا مختلفة، فجعل الخلع في اختلاف ألوانها بمنزلة الزهر في اختلاف ألوانه، وهذا أجود من المعنى الأول. وقوله: (الكامل) وإذا وَكَلْتَ إلى كَريمٍ رأيَهُ ... في الجُودِ بَانَ مَذيقُهُ من مَحْضِهِ فأقول: لم يذكر معنى هذا البيت أيضا وهو مثل قوله: (الطويل) وللنَّفْسِ أَخْلاقٌ تَدُلُّ على الفَتَى ... أكانَ سَخَاءً ما أَتَى أم تَسَاخِيَا كأنه جعل الكرم المحض الذي هو بطبعه ومن تلقاء نفسه، والمذيق الذي هو باقتضاء أو بشافع، وهذا معنى كثير مطروق. وهو ينظر إلى قول امرئ القيس: (الطويل) على هَيْكَلٍ يُعطِيكَ قَبْلَ سُؤالِه ... أفَانِينَ جَرْيٍ غْيرَ كَزَّ ولا وَانِ وقوله: (الطويل) مَضى اللَّيْلُ والفَضْلُ الذي لك يَمْضِي ... ورؤيتكَ أَحْلى في العُيونِ من الغُمْضِ على أنَّني طُوَّقْتُ منكَ بنعمةٍ ... شَهيدٌ بها بَعْضِي لغَيْري على بَعْضِي

قال: أمدحك وأثني عليك على ما طوقتنيه من نعمك؛ أي: أفعل هذا الفعل لها، فحذف أول الكلام للدلالة عليه. وإن شئت كان تقديره: مضى الليل على هذه الحال؛ أي: على أنني ملتبس بنعمتك. وإن شئت كان المعنى: على أنني طوقت بنعمتك، أهدي إليك سلاما وتحية. ألا تراه يقول بعد هذا البيت: (الطويل) سَلام الذي فوقَ السَّموات عَرْشُهُ. . . . . . . . . وأقول: الأجود في هذا أن يكون على بمعنى اللام كقول الراعي: (الوافر) رَعَتْهُ أشْهُراً وخَلاَ عَلَيْهَا ... فطَارَ النَّيُّ فيهَا واستغَارَا ويكون هذا تعليلا لما قبله من قوله: . . . والفَضْلُ الذي لك يَمْضي. . . . . . . . . (أي: لتطويقك إياي) وقد أنكر بعضهم قوله: لغيري وقال: إنه حشو رديء لا يحتاج إليه. والصحيح، أنه يحتاج إليه لتصحيح المعنى أو لتكميله، وذلك أن الشهيد لابد أن يكون لشيء وعلى شيء، فلغيري هو الذي له الشهادة، وهو الممدوح، وبه يتم المعنى.

وقوله: (البسيط) ولو رآهُ حَوارِ يُّهُمُ لبَنَوْا ... على مَحَبَّتِه الشَّرْعَ الذي شَرَعُوا (قال:) الحواريون: أصحاب عيسى - عليه السلام. وإنما أضافهم إليهم؛ لما بينهم من التناسب بلزومهم شرعهم، واتباعهم ملتهم عندهم. وأقول: إن هذه عبارة سيئة! ولو قال: لادعائهم ملتهم وانتسابهم إلى شرعتهم، لكان أولى وأسلم. وقوله: (البسيط) وَجَدْتُمُوهُمْ نياماً في دِمَائِكُمُ ... كأنَّ قَتْلاكُمُ إياهُمُ فَجَعُوا

قال: حدثني أبو الطيب قال: لما هزم سيف الدولة الدمستق، وقتل أصحابه جاء المسلمون إلى القتلى يتخللونهم، ينظرون من كان به رمق قتلوه. قال: وكانوا يقولون لهم: رميس رميس، ليوهموهم أنهم من الروم، فإذا تحرك أحدهم اجهزوا عليه، فبينا هم كذلك، أكب المشركون عليهم لاشتغال سيف الدولة فلذلك قال: وَجَدتُموهُمْ نِياماً في دِمائِكُمُ. . . . . . . . . أي: في دماء قتلاكم، وكأن قتلاهم قد فجعوهم فهم قعود بينهم يتوجعون لهم. وأقول: تأمل - هداك الله - هذه الخرافة المتناقضة التي ينقض آخرها أولها! وذلك أن هؤلاء المسلمين الذين كانوا يجهزون على من وجدوا به رمقا من جرحى الكفار لا يستحقون أن يسلموا إليهم، وقد قال أبو الطيب: (البسيط) قُلْ للدُّمُسْتُقِ: إنَّ المُسلمين لكُمْ ... خَانُوا الأميرَ فَجَازَاهُمْ بما صَنَعُوا لأن إجهازهم على الكفار ليس بخيانة، وإنما الخيانة بما ذكره بعد من قوله: وجدتُموهُمْ نياماً في دمَائِكُمُ ... كأنَّ قتلاكُمُ إياهُمُ فَجَعُوا أي: من قصورهم في القتال، وفتورهم في الطلب جعلهم نياما وليسوا نياما على الحقيقة. وقوله: في دمائكم أي: في طلب دمائكم، لا كما ذكروا من التلطخ بدماء القتلى للنوم بينهم خوفا من الروم. وهذه الحكايات التي تؤخذ من ظاهر الألفاظ لا يعتد بها السباق من الشعراء، ولا يغتر بها الحذاق من الأدباء، وأبو الفتح فيهم ليس بعريق النسب ولا بغزير النشب!

وقوله: (البسيط) لا تَحْسِبُوا من أَسَرْتُمْ كانَ ذَا رَمَقٍ ... فَلَيْسَ تأكُلُ إلاَّ المَيَّتَ الضَّبُعُ (قال:) أي: إنما أسرتموهم وهم ضعاف مغترون. وأقول: إن تفسيره هذا، الأولى أن يكون أراد بالضبع (- كناية عن الروم لضعفهم واغترارهم -) لا بمن تأكله الضبع؛ وذلك أن الضبع تغتر (وتوصف بالاغترار) كقول أمير المؤمنين - عليه السلام: والله لا أكون كالضبع تنام على طول اللدم حتى يصل إليها طالبها، ويختلها راصدها. (جعل الروم بمنزلة الضبع في الضعف من بين السباع، والاغترار بأن الذي أسروه به شجاعة وله غناء، وليس كذلك بل هم كالم (سلمين) (؟) والروم في أخ (ذهم) (؟) كالضبع) وقد أخذ على أبي الطيب قوله: . . . . . . . . . وليسَ تأكُلُ إلاَّ المَيَّتَ الضَّبُعُ

وقيل: إنها تأكل الميت وغير الميت، وإنها أخبث الوحوش؛ تدخل على الغنم فتخنق عشرا حتى تأكل واحدة، وقد استفاض ذلك من أخبارها وكثر في أشعارها، وقال الراجز: (الرجز) سَلَّطْ على أُولئِكَ الأَغْنَامِ سَمَيْدَعاً مُعَاوِدَ الإقْدَام أو جَيْأرً ظَلَّتْ بذَاتِ الهَامِ تَلُفُّهَا مُدْ لَمَّسَ الظَّلامِ لَفَّ العَجُوزِ قَرَدَ القُمَامِ وإنما أراد أبو الطيب الميت من الناس، دون غيرهم فأطلق، وذلك المهور في أشعارهم، كقول الشنفري: (الطويل) إذا احتَمَلَتْ رأسي وفي الرأس أكْثَري ... وغودِرَ عند الملتقَى ثَمَّ سَائري وقول متمم: (الكامل) يا لَهْفَ من عَرْفَاَء ذاتِ فَلِيلةٍ ... جاَءتْ إليَّ على ثَلاثٍ تَخْمَعُ وغيرهما. وغيرها من السباع يأكل الحي والميت (والناس)، كالأسد والنمر والذئب.

وقوله: (البسيط) رَضِيتَ منهم بَأنْ زُرْتَ الوَغَى فَرأَوْا ... وأنْ قَرَعْتَ حَبِيكَ البِيضِ فَاسْتَمَعُوا قال: يعرض بأضداده من الشعراء وغيرهم، أي: أنا أضرب معك بالسيف وهم متخلفون عنك. وأقول: هذا على رواية رضيت بالفتح، وزرت وقرعت بالفتح، ويكون الضمير في منهم عائدا على دني. والجيد أن يكون الضمير راجعا إلى الملوك، ويكون رضيت بالضم، (وكذلك زرت وقرعت) ويعني نفسه. أي: رضيت من الملوك - أي: من عطاء الملوك - ويعني به سيف الدولة، أن زرت الوغى، فرأى فيها قتالي، واستمع ضربي حبيك البيض. وفي هذا تقريع لسيف الدولة وتوبيخ له وعتب عليه. وهذا التفسير يشهد له بالصحة ما قبله وما بعده. وأما من روى فتح الضمائر الثلاثة فليس تحته معنى طائل. وقوله: (الطويل) أَبَحْرٌ يَضُرُّ المُعْتفِينَ وطَعْمُهُ ... زُعَاقٌ كبَحْرٍ لا يَضُرُّ وينْفَعُ

قال: فيه قبح لأن المشهور عندهم أن ينسب الممدوح إلى المنفعة لأوليائه، والمضرة لأعدائه؛ ألا ترى إلى قول الآخر: (الطويل) ولكِنْ فَتَى الفِتْيَانِ من رَاحَ واغتَدَى ... لِضَرَّ عَدُوَّ أو لنَفْعِ صَدِيقِ وقال الآخر: (الرجز) كَفَّاك كَفٌّ ما تُلِيقُ درهما جوداً وأُخْرى تُقْطِرُ السَّيفَ دَمَا فيقال له: ليس في هذا قبح، وإنما فيه مبالغة، وقد جاء هذا المعنى لغيره قبله وكأنه مأخوذ منه وهو: (الكامل) عند المُلوكِ مَضَرَّةٌ ومنافِعٌ ... وأرَى البرامِكَ لا تَضُرُّ وتَنْفَعُ وبيت المتنبي أسلم من هذا؛ وذلك أنه لما جعله كالبحر في جوده وسعة كرمه، وهذه صفة حسنة، نفى عنه ما يكره منه، وهو الملوحة، وما يؤذي ويضر؛ كالغرق وغيره، وهذه مبالغة في المدح، ونهاية في الحذق.

وقوله: (الطويل) ألاَ أيُّهَا القَيْلُ المُقِيمُ بِمَنْبِجٍ ... وهمَّتُهُ فَوْقَ السَّمَاكَيْنِ تُوضِعُ قال: القيل: دون الملك. وأقول: بل القيل الملك نفسه، وكذلك قال ابن السكيت: والقيل: الملك من ملوك حمير. وقال ابن فارس: أقوال حمير ملوكها. وقد وافق ابن حماد ابن جني فقال في القيل مثل قوله، وهو مأخوذ منه. وكأن ابن جني أخذ ذلك من الاشتقاق من قولهم: فلان يتقبل أباه، أي: يتبعه، فجعله، فجعله يتبع الملك بمنزلة الردف للملك. والاشتقاق صحيح؛ إلا أنه من أن الثاني يتبع الأول. ومنه أيضا تبايعه اليمن، لأنه في معناه. ولم يذكر ما قال ابن جني، الخليل ولا ابن دريد. وقوله: (الكامل) وَمَا وَجَدْتُّمْ في الصَّراةِ مُلوُحَةً ... مِمَّا أُرَقْرِقُ في الفُراتِ دُمُوعي

قال: وذلك أن دمع الفرح حلو ودمع الحزن ملح. وأقول: إن هذا شيء لم يرد في الاستعمال، ولم يعلم بالاختبار. وقد ذكرت ما فيه في شرح التبريزي. وقوله: (الكامل) ما زلتُ أَحْذَرُ من وداعِكَ جَاهداً ... حَتَّى اغْتَدَى على التَّوديعِ قال: هذا قريب من قوله: (الكامل) أَسَفي على أَسَفي الذي دَلَّهْتِنِي ... عن عِلْمِهِ فَبِهِ عَليَّ خَفَاءُ وأقول: لو قال: من البيت الذي بعده لكان أقرب وهو: (الكامل) وَشَكِيَّتي فَقْدُ السَّقَام لأنَّه ... قَدْ كانَ لَّما كانَ لي أَعْضَاءُ

وقوله: (الوافر) مُلِثَّ القَطْرِ أَعْطِشْهَا رُبُوعا ... وإلاَّ فاسْقِهَا السَّمَّ النَّقِيعا أُسَائِلُها عن المُتَدَيَّرِيها ... فَلاَ تَدْرِي ولا تُذْرِي دُمُوعا قال: دعا عليها لأنها لم تجبه ولم تبك على أهلها الماضين عنها. وقال غيره: بلى! قد اجابته لو سمع، وبكت عليهم لو فهم، كما فهم غيره كلام الربوع، وبكاءها على أهلها، ولكنه سلك مسلك الجفاء، وما لا يطرب من النسيب. وأقول: إن معنى قول هذا الآخذ على أبي الطيب أن الديار تجيب وتبكي (يعني): بلسان الحال؛ كقول أمير المؤمنين - عليه السلام: ولو استنطقوا عنهم عرصات تلك الديار الخاوية، والربوع الخالية، لقالت: ذهبوا في الأرض ضلالا، وذهبتم في أعقابهم جهالا. وقوله: (الوافر) وليس مُؤدَّباً إلاَّ بِسَيْفٍ ... كَفَى الصَمْصَامةُ التَّعَبَ القَطِيعَا

قال: أي أغنى السيف السوط عن التعب؛ فقد أقم سيفه في التأديب مقام سوطه. وقد قيل: إنه وصفه على هذا التفسير بالخرق، واستواء الذنوب صغيرها وكبيرها، وهذا ذم لا مدح. وأقول: كأنه يقول: هذا الممدوح أمير كبير عظيم الشأن لا يؤدب (43: أ) بالسوط فعل الشرطي، وإنما يؤدب بالسيف من يستحق القتل فيرتدع من دونه وهو من استحق الجلد فلا يتعب السوط؛ أي: لا يؤدب به. وقوله: (الوافر) عَلِيٌّ قَاتِلُ البَطَلِ المُفَدَّى ... ومُبْدِلُهُ من الزَّرَد النَّجِيعا قال: أي: يقتل قرنه، ويسلبه درعه، ويلبسه الدم. وأقول: أحسن من هذا التفسير، أن لا يلبسه درعه كقول (أمير المؤمنين - عليه السلام - ويعني عمرو بن عبد ود: (الكامل) وعَفَفْتُ عن أثوابهِ ولَوَ أنَّني ... كنْتُ المُقَطَّرَ بَزَّنِي أَثوابِي وقول) أبي تمام: (البسيط) إنَّ الأُسُودَ - أسودَ الغَابٍ - هِمَّتُهَا ... يَوْمَ الكَريهِة في المَسْلوبِ لا السَّلَبٍ ولكن يهتكُ الدرعَ عليه بالضرب، ويبدله منها الدم.

وقوله: (الوافر) قد اسْتَقْصَيْتَ في سَلْبِ الأعَادي ... فَرُدَّ لهم من السَّلَبِ الهُجُوعَا قال: أي سلبت أعاديك كل شيء حتى النوم، فلاد عليهم الهجوع. فيقال له: ولم يرد عليهم سلب النوم، وهو أضر الأسلاب لهم، وهم اعداؤه؟ وإنما المعنى ما ذكرته في شرح الواحدي. وقال في قوله: (الوافر) فلا عَزَلٌ وأنتَ بلا سِلاحٍ ... لَحاظُكَ ما تكونُ به مَنِيعا العزل: مصدر الأعزل؛ وهو الذي لا سلاح معه، وجمع اعزل: عزل وقالوا: عزل وأعزل ومعازيل، وأنشد أبياتا استشهادا على ذلك. فيقال له: معازيل ليس بجمع أعزل، وإنما هو جمع معزال؛ قال الأعشى: (الخفيف) تُذْهِل الشيخَ عن بينه وتَلوي ... بسُوَامِ المِعْزَابة المِعْزَالِ

وقال: (الكامل) وإذَا هَلكتُ فلا تُرِيدي عَاجِزاً ... غُساً ولا بَرَماً ولا مِعْزَالاَ وقوله: (الكامل) رُدَّي الوِصَالَ سقَى طُلُولَكِ عَارِضٌ ... لو كانَ وَصْلُكِ مثلَهُ ما أَقْشَعَا قال: وكان الأليق بمثل هذا في صناعة الشعر، أن يقول: لو كان وصلك مثله ما هجرت، ولكن الضرورة حملته على هذا وهو جائز. وأقول: ليس في هذا ضرورة، ولكن إتقان صناعة، وإحكام صياغة، كما ذكرته في شرح التبريزي.

قوله: (الكامل) ترَكَ الصَّنَائعَ كالقَواطِع باترا ... - تٍ، والمَعَالي كالعَوالي شُرَّعَا (قال): أي: جعل الصنائع مشرقة والمعالي مشرفة. وقال غيره: ليس غرضه في قوله: كالقواطع وكالعوالي الإشراق والإشراف، وقد كان يجد ما هو أشد إشراقا من هذه وإشرافا، وإنما أراد أنها شهرها على أعدائه فغلبهم بها. وأقول: ويكون على هذا التفسير ينظر إلى قوله: (الخفيف) ولَهُ في جَماجِم المَالِ ضَرْبٌ ... وَقْعُهُ في جَماجِمِ الأبْطَالِ

وقوله: (الكامل) مُتَبَسَّماً لعُفَاتِهِ عن وَاضِحٍ ... تُعْشِي لوَامِعُهُ البرُوقَ اللُّمَّعَا قال: الواضح: ثغرة. وتعشي: تذهب بنور إبصارها؛ استعار لها العشا، وأحسبه نقله من قول القحيف: (الكامل) مُتَسَربْلينَ سَوابِغاً مَاذِيَّةً ... تُعْشِي القَوانِسُ فوقَهَا الأبصَارا وأقول: إن هذا المعنى، وهو إعشاء الأبصار، قد جاء كثيرا في القرآن والشعر، فلا معنى لتخصيصه بأخذه من القحيف، وإنما المعنى فيه الإغراق والمبالغة بجعل البروق، التي من شأن لوامعها أن تعشي الأبصار، معشية بلوامع ثغره، وهذا من المقلوب كقوله: (المجتث) ما مَسَّكِ الطَّيبُ إلاَّ ... أهْدَيْتِ للطَّيبِ طِيبَا وأمثاله. وقوله: (الكامل) الكاتِبَ اللَّبِقَ الخَطِيبَ الواهِبَ النَّدُسَ الْ ... لبِيبَ الهِبْرِزِيَّ المِصْقَعَا

قال لبيق ولبق بمعنى. وأقول: إنه ذكرهما بمعنى واحد، واستشهد على أحدهما، وهو لبق، بأبيات للعرب، وبأبيات في حكاية عن امرأة من المحدثين. وكأنه استشهد على صحة هذه اللفظة، وأنها منقولة عنهم مقولة، ولم يستشهد على لبيق، وهي أقل من لبق، والاستشهاد عنه على ذلك! يقول عبد يغوث: (الطويل) وكنتُ إذَا ما الخيل شَمَّصَها القَنَا ... لَبِيقاً بِتَصرِيفِ العِنَانِ بَنَانِيَا وقوله: (الكامل) إنْ كانَ لا يَسْعَى لجُودٍ ماجِدٌ ... إلاَّ كَذَا فالغَيْثُ أبْخَلُ من سَعَى قال: أي: لما لم يصح سعي ماجد لجود حتى يفعل مثل فعلك، وجب أن يكون الغيث أبخل الساعين لبعد ما بينك وبينه، ووقوعه دونك. فإن قيل: فلم جعل الغيث إذا قصر عن جوده أبخل الساعين، وهلا كان كأحدهم؟ فإنما جاء هذا على المبالغة كما تقول: فالغيث لم يمرر بشيء من الجود. وأقول: إن جاء على المبالغة ولكن ليس على ما قال، وإنما من المعلوم

أن الغيث أجود الساعين، فإذا أراد أن يسعى الممدوح صار أبخل الساعين، وذلك أن من بخل حاتما كان بخله أفحش من بخل غيره، وهذا ظاهر مسلم لا خلف فيه. وقوله: (الكامل) النَّوْمُ بعد أبي شُجَاعٍ نافِرٌ ... والليلُ مُعْيٍ والكواكِبُ ظُلَّعُ (قال:) ضرب هذا مثلا؛ أي: لو كان الليل والكواكب مما يؤثر فيه حزن لأثر فيها موته. وأقول: هذا ليس بشيء! وإنما يصف كثرة سهره وطول ليله لحزنه، فجعله كالبعير المعيي، والكواكب فيه كالأبل الظالعة. وكأنه من قول سويد بن أبي كاهل: (الرمل) يَسْحَبُ اللَّيلُ نجوماً ظُلَّعاً ... فَتَوَالِيها بَطِيئاتُ التَّبَعْ وهو من قول امرئ القيس: (الطويل) فقلتُ له لمَّا تَمَطَّى بِصُلْبِهِ ... وأردَفَ أعجازاً ونَاَء بكلكلِ

وقوله: (الكامل) أيْدٍ مُقَطَّعَةٌ حَوَاليْ رأسِهِ ... وَقَفاً يَصيحُ بها أَلا مَنْ يَصْفَعُ! قال: الصفع (ليس) من كلام العرب، وقد أولعت به العامة فقالوا: صفعته، أصفعه، ورجل صفعان؛ كأنه دخيل مولد لا أعرف له في اللغة العربية أصلا. وأقول: قد ذكره الخليل! قال: يقال صفعت فلانا أصفعه صفعا؛ إذا ضربت بجمع كفك قفاه، ورجل مصفعاني: يفعل ذلك به. وأما استشهاده على حوالي بقوله: (الطويل) فلو كنتَ مَوْلى العِزَّ أو في ظِلالِه ... ظَلَمْتَ ولكِنْ لا يَدَي لك في الظلم وأنه لجرير، فليس له إنما هو الفرزدق يخاطب به عمر بن لجأ، وكان قد رفده بأبيات يهجو بها جريرا ففطن أنها للفرزدق. والقصة مشهورة ذكرها الصولي في أول

شرح ديوان أبي نواس. وقبل هذا البيت: (الطويل) ما أنتَ إنْ قَرْما تَمِيمٍ تخاطَرا ... أخَا التَّيْمِ إلا كاوَشيظة في العَظْم فيقال: إن جريرا قال: ما انصفني الفرزدق في شيء إلا في هذا! يعني قوله: قرما تميم. وقوله: (الكامل) فاليومَ قَرَّ لكُلَّ وَحْشٍ نَافرٍ ... دَمُهُ وكانَ كأنَّهُ يَتَطَلَّعُ قال: أي: كأنه يهم بالظهور والخروج من غير أن يظهر ويخرج خوفا وجزعا. ونحو هذا أن الحمار إذا أروح الأسد واشتد فزعه قصده وطلبه دهشا وتحيرا. وأنشد أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي لحبيب بن خالد: (الوافر) سِلاحُ مُجَرَّبِ شَاكٍ إذ مَا ... نفوسُ القَوْمِ هَمَّتْ باطَّلاعِ أي: من الخوف كما قال الآخر: (الطويل) وخَفَّضْتُ من نَفْس وَقُورٍ كَريمةٍ ... إذا جَعَلتْ نَفْسُ الجَبَانِ تَطَلَّعُ

وأقول: كأنه أنشد هذين البيتين على أن النفس الدم، وجعلهما مثل الأول ولم يرد بالنفس هاهنا الدم وإنما أراد الروح، وهي مما يوصف حال الخوف بالتطلع؛ قال عمرو بن معدي كرب: (الطويل) وجاشَتْ إليَّ النفسُ أولَ مَرَّةٍ ... ورُدَّتْ مَكْروهِها فاسْتَقرَّتِ وكذلك القلوب كقوله تعالى: (وبلغت القلوب الحناجر). فالدم لا يتطلع؛ وإنما الدم عند الخوف يغور، والنفس تفور. ويحتمل أن يكون أبو الطيب جعل الدم النفس التي هي الروح أو بمنزلتها توسعا ومجازا، فقر دم الوحش بموته أمنا، وكان يتطلع إلى الخروج خوفا؛ يصفه بكثرة الصيد. ويكون بيت أبي الطيب من بيت عمرو المذكور. وأما ضربه لذلك مثلا بالحمار فليس بينهما مقاربة. وقوله: (الكامل) وتصَالَحتْ ثَمَرُ السَّياطِ وخَيْلُهُ ... وأَوَتْ إليها سُوقُها والأذْرُعُ قال: ثمر السياط: أطرافها، وهذه استعارة حسنة لأنه كان يديم ضربه إياها إما لقصد

عدو، وإما لإدمان طرد، وإما لإغاثة مستصرخ، قال سلامة بن جندل: (البسيط) كُنَّا إذَا ما أتَانَا طَارِقٌ فَزِعٌ ... كان الصُّراخُ له قَرْعَ الظَّنَابيبِ أي: قرعها بالسياط لمعونته. وأقول: ليس في هذا مما يستشهد به على ضرب الخيل؛ لأن قرع الظنابيب مثل يضرب للعزم على الأمر والجد فيه؛ يقال: قرع لذلك الأمر ظنوبه، وضرب جروته، وشد له حزيمه. وهذا البيت (- أعني بيت أبي الطيب -) ينظر إلى قول أبي صخر الهذلي (الطويل) عَجِبتُ لِسَعي الدَّهْرِ بيني وبينَها ... فلمَّا انْقَضى ما بَينَنَا سَكَنَ الدَّهْرُ ومثله قول بعض شعراء العصر: (المتقارب) وبَعْدَكِ ضَنَّتْ غداةَ الطَّرا ... دِ أيدي الجِيادِ بما تُسْألُ وزُرْقِ اللَّهاذِمِ أضْحَتْ لَقّى ... وبِيضُ الصَّوارِمِ لا تُحْمَلُ وأما تشبيهه:

. . . وأوَتْ إليها سُوقُها والأذْرُعُ بقول أبي النجم: (الرجز) يَأْوِي إلى مُلْطٍ (له) وكَلْكَلِ فليس بينهما مشابهة. وذلك أن قوله: وأوت إليها سوقها معناه أنها كأنها (كانت) سلبتها، أو أخذت منها، أو غلبت عليها، فرجعت إليها بقرارها من كثرة الطراد وإدمان القتال. ومعنى بيت أبي النجم: إن (هذا الجمل) يعتمد على اعظائه ويستأند إليها لشدته وقوته. وقوله: (المنسرح) أَهْوِنْ بطُولِ الثَّواءِ والتَّلَفِ ... والسَّجنِ يا أبا دُلَفِ غيرَ اختيارٍ قَبِلْتُ بِرَّكَ بي ... والجُوعُ يُرْضِي الأسودَ بالجِيَفِ قال: أبو دلف هذا صديق له، بره ولاطفه، وهو في سجن الوالي الذي كتب إليه: (المتقارب) أيَا خَدَّدَ اللَّهُ وَرْدَ الخُدودِ. . . . . . . . .

فيقال: إذا كان أبو دلف صديقه، وقد بره ولاطفه وأحسن إليه، فكيف يحسن به أن يهجوه؟ ولو أنه غير صديق ولا ذو معرفة وقد أحسن إليه لما ساغ له أن لا يشكره فضلا عن أن يكون صديقه ويهجوه! وإنما هذا غير صديق؛ لعله أراد بحبائه إياه إذلاله فقال له ذلك، وأراد بالبر العطاء. وقوله: (الطويل) نَفُورٌ عَرَتْها نَفْرَةٌ فَتَجاذَبَتْ ... سَوَالِفها والحَلْيُ والخَضْرُ والرَّدْفُ قال: هذا مثل قوله: (الوافر) إذا ماسَتْ رأيتَ لها ارتجاجا ... له - لولا سَواعِدُهَا - نَزُوعَا وأقول: الأقرب أن يكون مثل قوله: (المنسرح) يَجْذِبُهَا تحت خَصْرِهَا عَجُزٌ ... كأنَّهُ مِنْ فِراقِها وَجِلُ

وقوله: (الطويل) وخَبَّلَ منها مِرْطُهَا فكأنَّها ... تَثَنَّى لنا خُوطٌ ولا حَظَنَا خِشْفُ قال: المرط: الثوب والقميص ونحوه، وأنشد الطوسي عن ابن الأعرابي: (الطويل) تَسَاهَمَ ثَوْباهَا ففي الدَّرْعِ رأدَةٌ ... وفي المِرْطِ لفَّاوانِ رِدْفُهما عَبْلُ وأقول: المرط في قول الخليل: كساء من خز أو كتان. وفي قول ابن دريد: ملحفة يؤتزر بها. والبيت الذي أنشده يدل على ذلك من قوله: . . . . . . . . . وفي المِرْطِ لفَّاوانِ. . . لأنه يريد: فخذان لفاوان، والفخذ يكون في المئزر وما أشبهه، وإنما قال في البيت: ثوباها ثم فسر (أحد القسمين) بالمرط (فلأن) ذلك مجاز لأنهما كلاهما يلبس ويستر الجيد.

وقوله: (الطويل) يُفَدُّونَهُ حتى كأنَّ دِمَاَءهُمْ ... لجَاري هَوَهُ في عُرُوقِهِمُ تَقْفُو قال: أي: كأن محبة الناس له أشد تقدما عند أنفسهم واختصاصا بهم من دمائهم. وأقول: إن هذا مثل قوله: (الطويل) جَرَى حُبُّهَا مَجْرى دَمي في مَفَاصِلي. . . . . . . . . وفيه زيادة بجعله الدماء التي بها الحياة تقفو هواه وهو متقدم عليها. وقوله: (الطويل) تَفَكُّرُهُ عِلْمٌ ومَنْطِقُهُ حُكْمٌ ... وباطِنُهُ دِينٌ وظاهرُهُ ظَرْفُ قال: هذه القصيدة من الضرب الأول من الطويل. وعروض الطويل مقبوضة على مفاعلن إلا أن يصرع البيت فيكون ضربه مفاعيلن أو فعولن فيتبع العروض الضرب، وليس هذا البيت مصرعا، وقد جاء بعروضه على مفاعيلن وهو تخليط

منه. وأقرب ما يصرف إليه هذا أن يقال: إنه رد مفاعلن إلى أصلها وهو مفاعيلن لضرورة الشعر كما أن للشاعر إظهار التضعيف وإلحاق المعتل بالصحيح، وقصر الممدود، وصرف ما لا ينصرف ردا إلى الأصل فكذلك هاهنا. وذكر أن العرب خلطت فعولن بمفاعلن وأنشد: (الطويل) لَعَمْري لقَدْ بَرَّ الضَّبابَ بَنُوهُ ... وبَعْضُ البَنينَ حُمَّةٌ وسُعَالُ وقول النابغة: (الطويل) جزى الله عَبْساً عَبْسَ آل بَغِيضٍ ... جَزََء الكِلابِ العَوِيَاتِ وقد فَعَلْ إلا أن مفاعيلن أقبح لأنها لم تأت عن العرب. وأقول: إن هذا مشبه بالمصرع، وذلك أن المصرع ما غيرت عروضه حملا على ضربه وزنا وتقفية، وهذه محمولة على الضرب وزنا لا تقفية، فأشبهه من أحد الوجهين، وقد جاء مثل هذا للعرب؛ منه قول الربيه بن زياد: (الكامل) أفَبَعْدَ مَقْتَلِ مَلِكِ بن زُهَيْرٍ ... ترجو النَّسَاءُ عَواقِبَ الأَطْهَارِ فقوله: نزهيرن: فهلاتن مقطوع من متفاعلن والقطع إنما يكون في الضرب ولا يكون في العروض إلا حملا على الضرب في التصريع، ومنه قول الحارث بن حلزة: (الخفيف)

أسَدٌ في اللَّقَاءِ ذو أشْبَالٍ ... ورَبَيعٌ إنْ شَنَّعَتْ غَبْراءُ فقوله: أشبال (مفعولن) مشعث من فاعلاتن، والتشعيث إنما يكون في الضرب، ولا يكون في العروض إى حملا على الضرب أو ما يجوز في الضرب. فهذا امثل مما ذكره أبو الفتح، وهو وما شبه به شاذ، والشاذ الأولى اجتنابه. وقوله: (الوافر) وخَصْرٌ تَثْبُتُ الأبصارُ فيه ... كأنَّ عليه من حَدَقٍ نِطاقا قال: تثبت فيه: أي تؤثر فيه لنعمته وبضاضته. وهذا نحو من قول الآخر: (الطويل) ومَرَّ بَقَلْبي خَاطِراً فَجَرَحْتُهُ ... ولم أَرَ شَيْئاً قَطُّ يجرَحُهُ الفِطْرُ وأقول: إنه فسر صدر البيت بما فسر، وليس بشيء!؛ والصحيح ما ذكرته في تفسير الواحدي. وقد جاء هذا المعنى في شعر السري أظهر، وهو قوله: (الطويل) أحَاطَتْ عيونُ العَاشقين بخَصْرِهِ ... فَهُنَّ له دون النَّطاقِ نِطَاقُ

وفي قول بعض شعراء هذا العصر أخضر، وهو قوله من أبيات: (الوافر) وأَحْوَرُ بَابِليُّ الطَّرْفِ أَحْوىَ ... إلى ألْحَاظِهِ تُعْزَى المُدامُ تَثَنَّى فالعيونُ له نِطَاقٌ ... وغَنَّى فالقُلوبُ له نِظَامُ وقوله: (الوافر) فلا تَسْتَكرَنَّ له ابتِسَاماً ... إذَا فَهِنَ المَكَرُّ دَماً وضَاقا قال: فهق: اتسع. وقال: (الطويل) وإنَّا وإيَّاهَا لكالهَائِم الذي ... رأَى الماَء يجري من جَداوِلَ تَفْهَقُ ومنه قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن أبغضكم إلي الثرثارون المتفيهقون). ويقال أيضا: انفهق المكان أي: اتسع، وركي فيهق: أي: واسعة. أي: إذا كثر الدم واتسع فضاق المكر به - وهو موضع الحرب، وهو من قول الأعشى: (الرمل) والْتَقَى القَوْمُ بِضَرْبٍ صَادِقٍ ... مَلأ القَاعَ نَجِيعا فَطَفَحْ

فيقال: ينبغي إذا كانت الفظة الواحدة محتملة معنيين أو معاني، واستعملت في مكان، أن يتأمل ذاك المكان وتحمل على ما يليق به فتختص به. وفهق؛ هذه اللفظة؛ قد استعملت بمعنى الاتساع ومعنى الامتلاء؛ قال الخليل: انفهقت العين: امتلأت بالماء. وقال الأعشى: (الطويل) نَفَى الذَّمَّ عن آلِ المُحَلَّقِ جَفْنَةٌ ... كجَابِيةِ السَّيحِ العِراقَي تَفْهَقُ والبيت الذي أنشده والحديث يحتملان هذا المعنى. فلا يليق بهذه اللفظة من قول أبي الطيب إلا أن تكون بمعنى الامتلاء؛ لأن ضيق المكر إنما حصل بالامتلاء من الدم، فالاتساع يضاد الضيق. ولو أراد بيفهق الاتساع لقال: . . . . . . . . . إذا رَحُبَ المكَرُّ دَما وضَاقَا ولو قال ذلك حسن (حسن الأول). وقوله: (الوافر) ولكِنَّا نُداعِبُ منه قَرْما ... تَراجَعَتِ القُرومُ له حِقَاقَا

قد أخذ على أبي الطيب في هذا البيت فقيل: كان ينبغي لما ذكر المداعبة أن يبدل قرما بلفظة غيرها؛ فإن القرم بعيد من المجاعبة، أو يبدل نداعب بكلمة تليق بالقرم. وقال: هذا موضع يدق على أكبر نقاد الشعر. وأقول: إنه يقول: إن الاستعارة ينبغي أن تكون مناسبة لما استعار له، والمداعبة، وهي الممازحة، لا يحسن أن تستعار للقرم، وإنما تحسن بالرجال، فلو أنه قال: نلاطف أو نلاين لكان مناسبا. ولو وضع موضع قرما ملكا فقال: ولكنَّا نُداعِبُ منه مَلْكاً ... صَفَا خُلُقَاً ورَقَّ لنا وَرَاقَا لكان أيضا مناسبا. ولكن أبا الطيب جاز على طبعه في الجفاء، فليس من شأنه خلق الرقة والصفاء! وقوله: (الوافر) فأبْلِغ حَاسِدِيَّ عَلَيْكَ أَنَّي ... كَبَا بَرْقٌ يحَاوِلُ بي لَحَاقَا وهَلْ تُغْني الرَّسَائلُ في عَدُوًّ ... إذا ما لم يَكُنَّ ظُباً رِقَاقَا قال: إن قيل: كيف استجاز أن يجعل الممدوح رسولا مبلغا عنه، وهذا قبيح، قيل: إنما حسن له ذلك قوله:

حَاسِديَّ عليك. . . ... . . . . . . . . . فالكاف في: عليك حسنت الصنعة. ولعمري أن لو قال: فأبلغ حاسدي على غيرك؛ لكان قد هجن المديح، ولكنه أحسن التخلص بالكاف. وقال الوحيد رادا عليه: ما أغنت الكاف في هذا شيئا؛ بل من شأنها أن تزيد! وذلك أن الملوك يجلون عن الخطاب بالكاف. وأما قوله: لو قال: فأبلغ حاسدي على غيرك؛ لكان قد هجن المديح فإنه لو قال ذلك لعد من المجانين! وأما قوله: فأبِلغْ حاسِديَّ عليك. . . . . . . . . . . . فإنه يعد به جافيا جفاء الأعراب، أو سيئ الآداب! لأن الملوك لا يستقبلون بهذا! وأقول: وفيه أيضا زيادة وهي: أن هؤلاء الذين أمر سيف الدولة بإبلاغ رسالته إليهم، وأنه قد فاتهم في الفضائل فلا يمكن أن يلحقوا به، إذ كان البرق يكبو، دونه، هم أصحابه وجلساؤه وندماؤه. ثم لم يرض ولم يقنع من سيف الدولة بإبلاغ رسالته إليهم إلا بضرب أعناقهم! وفي هذا الإدلال والتحكم غاية الجهل والتهور. وبقوله هذا وأمثاله في أشعاره، وإكثاره، حتى لا تكاد قصيدة تخلو من

تعريضه بهم وتنقصه لهم، حتى أنه في أول لقائه له ومدحه إياه بدأ بهم فقال: (الطويل) غَضِبْتُ له لَّما رأيتُ صِفَاتِهِ ... بلاَ واصِفِ والشَّعْرُ تَهْذي طَمَاطِمُهْ ما أحوجهم وألجأهم إلى السعي به، والتتبع له يتوقعون سقطاته، ويترقبون هفواته، إلى أن أضحوه من ظل نعمته، وأقصوه عن منزل كرامته، فكان كما قال صالح بن عبد القدوس: (السريع) ما تَفْعلُ الأعْداءُ في جاهِلٍ ... ما يَفعل الجاهِلُ في نفسِهِ وقوله: (الطويل) لِعَيْنَيْك مَا يَلْقَى الفُؤَادُ وما لَقِي ... ولَلحُبَّ ما لَمْ يَبْقَ مِنَّي وما بَقي قال: أي دنفي لعينيك فهما سقامي، وجسمي لحبك فهو يذيبه. وأقول: هذه العبارة قاصرة عن هذا المعنى الطائل. والجيد أن يقال: لعينيك؛ أي: لعشق عينيك ما يلقى الفؤاد من العذاب بهجرك وبعدك وما لقي، وبحبك

ما لم يبق من جسمي؛ يعني: شدة النخول؛ وما بقي: يريد أن العشق أفنى بعضي وسيفي كلي؛ كأنه يقول: سهل عذاب قلبي في عشق عينيك، وسهل سقام جسمي وذهابه في حبك! وقوله: (الطويل) وأشْنَبَ مَعْسُولِ الثَّنياتِ واضحٍ ... سَتَرتُ فمي عنه فقَبَّلَ مَفْرقي قال: يعني بالأشنب ثغرا. وقال الواحدي: يعني حبيبا. وأقول: الأحسن ما قال ابن جني، وذلك أنه قال فيما بعد: وأَجْيَادِ غزلان. . . . . . . . . فعطف الجيد على الثغر، عضوا على عضو، احسن مناسبة من عطف الأجياد على الحبيب. وقوله: (الطويل) كَسَائِلِهِ من يَسْألُ الغَيْثَ قَطرَةً ... كَعَاذِلِهِ من قَالَ للفَلكِ ارْفُقِ

قال: أي: فكما أن القطرة لا تؤثر في الغيث؛ فكذلك سائله لا يؤثر في ماله وجوده. وقال الواحدي: قال العروضي: هذا الذي قاله أبو الفتح، على خلاف العادة في المدح؛ لأن العرب تمدح بالإعطاء من القليل والمواساة مع الحاجة إليه قال الله تعالى (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) وقال الشاعر: (الوافر) وَلَمْ يَكُ أكْثَرَ الفتَيانِ مالا ... ولكن كانَ أرْحَبَهُمْ ذِراعَا وأقول: يحتمل هذا البيت معنيين: أحدهما: أن سائله الشيء الكثير بمنزلة من يسأل الغيث قطرة؛ أي: ما يسأله حقير في جنب جوده. والثاني: أن سائله لجهله، كمن يسأل الغيث قطرة؛ أي: ينبغي له أن لا يسأله؛ فإنه يجود بالكثير من غير سؤال كالغيث، وكذلك عاذله، في جهله، كمن يقول للفلك: ارفق، فسائله وعاذله جاهلان!

وقوله: (الطويل) إذا شَاَء أنْ يَلْهُو بِلحْيَةِ أَحْمَقٍ ... أراهُ غُبَاري ثم قالَ لَهُ: الحَقِ قال: هذا أشد مبالغة من قول أبي نواس: (البسيط) إذَا العِتَاقُ جَرَتْ يوم الرَّهانِ بَدَا ... قَبْلَ السَّوابقِ يَحْثُو في نَواصِيهَا فهذا يدل على قرب ما بينه وبينها لمجاورته إياها، وهذا قال: غباري فدل على بعد ما بينهما. وقال الوحيد: وهب الله للشيخ العافية - ليس هذا ذلك، ولا بين المعنيين قرب. ولو كان كما يظن لكان (فرس) بيت أبي نواس أسبق؛ لأن فرس ذاك الممثل به جرى مع العتاق فبرز عليها، وخرج منها يحثو في نواصيها، وهذا معنى مستوفى. والمتنبي قال: . . . . . . . . . أرَاهُ غُبَاري ثم قالَ له: ألْحَقِ ولو كان كودنا أو حمارا لفات اللاحق لأن الغبار يرى من بعد، وقد ظلم سيف الدولة من كلفة هذا على تفسير صاحب الكتاب، لأنه أراه إياه وقد جرى فراسخ ثم قال له: الحق، فهذا ظلم، فإن لم يلحق فلا عار عليه لأنه لم يضم معه، ولم يرسلا

معا، وإنما أراه غباره على البعد، فليس للفائت فخر، ولا على الطالب، إن لم يلحق عيب؛ بل هو فرس مطموع في لحاقه على البعد. وأقول: إما تمثيل بيت أبي الطيب ببيت أبي نواس فليس بينهما مماثلة. والذي ذكره الوحيد على ابن جني في هذا متوجه، والمعنى الذي أراد المتنبي: أن سيف الدولة قد ثبت عنده أني جواد لا يجارى، وسابق لا يبارى، لمن ضمني وإياه طلق، (وجمعني وإياه شأو)، فإذا أراد أن يلهو بأحمق أراه غباري، والغبار يرى من بعد، ثم قال له: الحق ولحاق الفائت إنما يكون للجواد بما دونه، فأما الكودن فإنه لا يمكنه لحاق المرسل معه، فكيف يكون مع الفائت الجواد! فأمره بذلك له هزء به وسخري منه. وقوله: (الطويل) وإطراقُ طَرْفِ العَيْنِ ليسَ بنافِعِ ... إذا كانَ طَرْفُ القَبْبِ ليس بمُطرِقِ قال: الإطراق أن يرمي ببصره إلى الأرض. قال: (الطويل) وَمَا كنْتُ أخْشَى أنْ تكونَ مَنِيَّتي ... بِكَفَّ سَبَنْتَى أَزْرقِ العَيْنِ مُطْرِقِ

(وأقول:) والرواية: وما كنتُ أخْشَى أنْ تكونَ وفَاتُهُ. . . . . . . . . والشعر للشماخ يرثي عمر بن الخطاب - رحمه الله. وقوله: (الطويل) تّذَكَّرْتُ ما بينَ العُذَيبِ وبَارِقِ ... مَجَرَّ عَوَالِينَا ومَجْرى السَّوَابقِ قال: يعني بالعذيب: العذيبة، وهي في طريق مكة. قالوا في قول كثير: (الطويل) خَلِيلَي إنْ أمُّ الحكيم تَحَمَّلتْ ... وأخْلَتْ بَخيْمَاتِ العُذَيب ظِلاَلَهَا أراد العذيبة، فحذف الهاء ضرورة. وقيل له: أما كثير فيجوز أن يكون أراد العذيبة لأنه حجازي، وأما المتنبي فالعذيب بظاهر الكوفة، وهي بلده. أيضا، ما بين العذيب وبارق يدل على

ذلك. ولو أراد العذيبة لكان بينهما مسافة بعيدة طويلة لا يذكر مثلها هذا الذكر، فإنما يقال: بين كذا وكذا إذا تقارب. وأقول: إنما فسر العذيب بالعذيبة ليورد ما أورده من الترخيم في غير النداء، ومقصوده تطويل الشرح وتكثير الكلام ليري إحاطته بذلك واطلاعه عليه! وقال في قوله: . . . . . . . . . مَجَرَّ عَوالينا ومُجْرَى السَّوابِقِ معنى الكلام: تذكرت مجر عوالينا ومجرى السوابق ما بين العذيب وبارق. فحمل إعرابه على هذا لا يمكن لئلا تقدم صلة (المصدر) عليه، ولكن تحمله على أن تجعل ما بين العذيب مفعول تذكرت وتجعل مجر عوالينا ومجرى السوابق بدلا منه على أن يكون بدل الاشتمال؛ كأنه أراد: مجر عوالينا فيه، حذف: فيه للعلم بها كقولك: تذكرت أيامنا الخالية: صحتنا وشبيبتنا وأكلنا وشربنا، أي: صحتنا فيها. وأقول: ويحتمل أن تكون ما زائدة وتكون: مجر عوالينا مفعولا لا على أنه بدل؛ أي: تذكرت بين العذيب وبارق ذلك. وهذا الوجه أوجه من قول ابن جني.

وقوله: (الطويل) وصُحْبَةَ قَوْمٍ يَذْبَحونَ قَنِيصَهُمْ ... بفَضْلاتِ ما قَدْ كَسَّرُوا في المَفَارقِ قال: أي يَذْبَحون قنيصهم ببقايا سيوفهم التي كسروها في هام أعدائهم؛ يصفهم بالفتك والتغرب والجرأة. وأقول: إن كان (أراد) بالتكسير الانفصال والانقطاع؛ يعمي: كسر السيوف فليس بشيء! لما ذكرته في شرح الواحدي. وقوله: (الطويل) بلادٌ إذَا زَارَ الحِسَانَ بِغَيْرها ... حَصَى تُرْبهَا ثَقَّبْنَهُ للمَخَانِقِ قال: أي إذا حمل حصاها من هذه الأرض إلى النساء الحسان بأرض غيرها ثقبنه لمخانقهن لحسنه ونفاسته. والحصى مرفوع بفعله. وأقول: ويجوز أن يكون منصوبا بأنه مفعول، ويكون مزورا لنفاسته، وهو أبلغ من الأول.

وقوله: (الطويل) وأَغْيَدُ يَهْوى نَفْسَُ كلُّ عَاقِلٍ ... عَفيفٍ، ويَهْوَى جِسْمَهُ كلُّ فاسِقِ وأقول: إن المتنبي كان يبالغ في كلامه وشعره وزيه في التبادي والتعارب. والعرب لا ترى الغلام مظنة لما يراد به من الفسق وجعله بمنزلة المرأة، فلا معنى لوصف هذا الغلام العواد المغني بحسن الجسم ووصف الفاسق بهواه لينال منه مناه. وقوله: (الطويل) أَلمْ يَحْذَروا أَيْدي الذي يَمْسَخُ العِدا ... ويَجْعَلُ أَيْدي الأُسْدِ أَيْدي الخَرانِقِ قال: يد الخرانق قصيرة، أي: يذل العزيز إذا عاداه، ويقبضه عما انبسطت له يداه، وقد لاذ في هذا بقول أبي تمام: (الكامل) لَوْ أنَّ أَيْدِيَهُمْ طِوالٌ قَصَّرَتْ ... عنه، فكيفَ تكون وهي قِصَارُ! فيقال له: نعم! يد الخرانق قصيرة، كما ذكر، ولكنه لم يرد بها هاهنا القصر (الذي هو ضد الطول) ولكنه أراد الضعف وذلك أنه قابل بها أيدي الأسد التي إنما يراد بها الشدة لا طول الخلق.

وقوله: (الكامل) أَبِنَي أَبينَا نَحْنُ أَهْلُ مَنَازِلٍ ... أَبَداً غُرَابُ البَيْنِ فِينَا يَنْعِقُ قال: عنى بغراب البين داعي الموت، فنقل لفظ الغزل إلى الوعظ، وهذا من عاداته وحسن تصرفه. فيقال له: ليس نقل الغزل بذكر الموت وفناء الأكاسرة، وهلاك الجبابرة، من حسن التصرف وجوده الصناعة. وذلك أن الغزل إنما ابتدئ به ليبسط النفس ويسر القلب بذكر محاسن امرأة، أو وصف كأس شراب، وما أشبه ذلك مما يرتاح به الممدوح ويصغي إليه، ثم يتخلص منه إلى مديحة، بوصف خصاله، والثناء على خلاله، فيهتاج للعطاء، ويهش للكرم، فيحصل المقصود. ولو قال: إنه يضاد جوده التصرف وحسن التلطف لكان أولى. وقوله: (مجزوء الرجز) أيَّ مَحَلًّ أرْتَقي ... أيَّ عَظيمٍ أَتَّقي

الأبيات الثلاثة. قال: هذا غلو نستعيذ بالله منه! وقال غيره: هذا كلام ما خرج من راس صحيح! وقلت: إن من الشعراء من يقع منه في حال شبيبته، أو في حال غضبه، أو سكره (أشعار) يرغب العاقل المستبصر عن إثباتها له، وروايتها عنه، فيسقطها عند إفاقته وتأمله، ولا يكاد يذكرها بعد ذلك. وهذا المتنبي كان يقرأ عليه ديوان شعره إلى حين هلاكه ولا يسقط شيئا منه مما يقدح في دينه وعقله، ويثلم في فضله ومروءته، ولا يغيره. هذا مع أنه لا يشتمل على لفظ بديع ولا معنى غريب. وقوله: (الطويل) وقد صارت الأجْفَانُ قُرْحاً من البُكا ... وصارَ بَهاراً في الخُدودِ الشَّقَائِقُ قد ذكرنا في خطبة كتابه هذا مل فيه، وما قال وقيل له، فلا فائدة في إعادته. وقوله: (الطويل) وهَزٌّ أَطَارَ النَّوْمَ حتى كأَنَّني ... من السُّكْرِ في الغَرَزَيْنِ ثَوْبٌ شُبَارِقُ قال: يعني: هز السير، وأراد بالسكر سكر النعاس.

وقال الوحيد: قال: أطار النوم، ثم وصف سكر النعاس به، ولم يكن موضع: أطار النوم، ب كان ينبغي أن يكون: أطار السهر حتى كأنني بهذه الصفة، فإذا أطار النوم لم يكن ما وصفه من السكر. وأقول: هذا الذي ذكره ليس بشيء! والمعنى الذي أراده (أبو) الطيب أن الراكب قد ينام على ظهر راحلته في حال سيره وسراه، فيستريح وتقوى أعضاؤه بذلك في حال انتباهه؛ وهذا هز شديد، وسير مقلق لا يمكن معه النوم لشدته، فقد أطار النوم (الذي ينتفع به) وأرخى سكر النعاس - وهو أوائل النوم - الأعضاء إلى أن صار كالثوب المشبرق، لضعف مفاصله واسترخائها. وقوله: (الطويل) شَدَوْا بابن إسحاقَ الحُسَينِ فَصَافَحَتْ ... ذَفَاريُهَا كِيْرانُهَا والنَّمارِقُ قال مستشهدا على الكيران: وليست من الغريب الذي يحتاج إلى استشهاد، وإنما مقصوده ذكر هذا البيت لما فيه من المعنى وهو: (الكامل) قَوْمٌ إذَا تَرَكَ الكِرامُ مَحَلَّهُمْ ... قَلَبُوا الثَّيابَ وأَرْدَفُوا الكِيرانَا وقال في تفسيره: هؤلاء لصوص أخذوا في مضلة من الأرض، فكانوا إذا ضلوا

قلبوا ثيابهم؛ يقولون: ستنقلب حالنا هذه إلى حال أخرى. وقال غيره: الرواية في هذا البيت الشاهد غير ما رواه وهي: قومٌ إذَا اشْتَبَهَ الخُروقُ عليهِمُ ... قَلَبُوا الثَّيَابَ. . . . . . وأي معنى في البيت لذكر الكرام ونزولهم في محلهم وهم في فلاة ضلالا؟ وأقول: كأن هذا البيت - أعني بيت أبي الطيب - من قول أبي نواس: (الكامل) فإذَا قَصَرْتَ لها الزَّمَامَ سَمَا ... فَوْقَ المَقَادِمِ مِلْطَمٌ حُرُّ وقوله: (الطويل) غذا الهُنْدُوانِيَّاتِ بالهَامِ والطُّلَى ... فَهُنَّ مَدَارِيهَا وهُنَّ المَخانقُ قال: غذاها، أي: تعهد هامها كما يغذى الصبي، فصارت سيوفه للهام كالمداري وفي الأعناق كالمخانق؛ أي: قد صاحبت سيوفه الهام والأعناق كما صاحبتها المداري والمخانق. وأقول: لا يحسن هاهنا ذكر المصاحبة بين الهام والأعناق والسيوف؛ لأنها لا تبقى معها حتى تصاحبها، ولكن لما كانت تحل في الرؤوس والأعناق جعلها لها مداري ومخانق لأن تينك محلهما.

وقوله: (المتقارب) وَجَدْتُ المُدامَةَ غَلاَّبَةً ... تُهَيَّجُ للمَرْءِ أَشْوَاقَهُ تُسِيءُ من المَرْءِ تأدِيبَهُ ... ولكن تُحَسَّنُ أخلاقَهُ قد أخذ على أبي الطيب هذا، ولم يذكر ابن جني فيه شيئا، فقيل: من ساء أدبه فهو بعيد من حسن الخلق بل في نهاية سوئه. وقوله: (المتقارب) وأَنْفَسُ ما للفَتَى لُبُّهُ ... وذو اللُّبِ يَكْرَهُ إنْفَاقَهُ

وقيل في هذا: إن العقلاء احتالوا لراحة النفس في إنفاق العقل (باللهو) وقتا ما لأنه ثقيل عليها وهو كالحابس لها، فعلى هذا لا يكره إنفاقه على الإطلاق، (وقد قال أبو تمام: (البسيط) كانَتْ لنا ملعَباً نلهُو بزُحْرُفِهِ ... وقد يُنَفسُ من جِدَّ الفَتَى اللَّعِبُ) وقوله: (البسيط) لَوْ أَنَّ فَيْضَ يَدَيْهِ مَاءُ غَادِيَةٍ ... عَزَّ القَطَا في الفَيَافي مَوْضِعُ اليَبسِ قال: استشهاد على الفيافي - قال ذو الرمة: (الطويل) تَرَى بينَ مَجْرى نِسْعَتَيْهِ وَثِيلهِ ... هَواءً كَفَيْفَاةٍ بَدَا أَهْلُهَا قَفْرِ

وأقول: إن هذا البيت للحطيئة من أبيات أولها: (الطويل) إذَا قلتُ إنَّي آيبٌ أَهْلَ قَفْرَةٍ ... وَضَعْتُ بِهَا عَنْهُ الوِليَّةَ بالقَصْرِ وقوله: (الرجز) أَرُدُهُ منه بِكَالسُّوذَانِقِ

قال: الهاء في تروده يعود على النبت، أراد: أرود فيه، فحذف حرف الجر كما قال الآخر: (الرجز) في سَاعةٍ يُحَبُّهَا الطَّعَامُ أي: يحب فيها وأقول: لا حاجة إلى تقدير حذف الجر وإضماره، بل: أروده: أطلبه وأنظره. يقال: بعثنا رائدا يرود لنا الكلأ؛ أي: ينظر ويطلب. فالفعل على هذا متعد في هذا الموضع بنفسه، غير محتاج إلى إضمار جار، وقوله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم: إذا بال أحدكم فليرتد لبوله أي: ليطلب مكانا لينا. وقوله: (الرجز) رَحْبِ اللَّبانِ نَائِهِ الطَّرائقِ قال: النائه: العالي الشريف؛ يقال: ناه الشيء ينوه إذا علا، ونهت به ونوهته إذا أشدت به، ومنه قيل للنواحة نواهة لرفعها صوتها. والطرائق: جمع طريق وطريفة؛

يعني: الخلق؛ أي: هو مرتفع الأخلاق شريفها لعتقه وكرمه. وقال الواحدي: قال ابن فورجة: الرواية: نابه، من التنبه، يقال: أمر نابه، إذا كان عظيما جليلا، وقد أتى النابه للبحتري قال: . . . . . . . . . . . . ويَنْحُو نَحْوهَا النَّابِهُ الغَمْرُ وأراد بالطرائق: طرائق اللحم على متنه وكفله. وأقول: الصحيح: نابه؛ بالياء؛ بنقطتين من تحتها، وهو المرتفع كما قال ابن جني. ولكن الطرائق (ليست) كما قال من أنه أراد الخلق، ولكن كما قال ابن فورجة، وذلك أنه في صفة خلقه لم يصل بعد إلى صفة خلقه، فأراد أن جلد لبانه رخو مستفل، وطرائق لحمه مرتفعة، فكلاهما محمود وفيه حسن صناعة بالطباق. وقوله: (الرجز) مُحَجَّلٍ نَهْدٍ كُمَيْتٍ زَاهِقِ قال: الزاهق: السمين، وأنشد قول زهير: (البسيط) . . . . . . . . . منَها الشَّنون ومنها الزَّاهِقُ الزَّهِمُ

ثم فسره فقال: الشنون: اليابس، لأنه مشبه بالشن؛ وهو القربة اليابسة، الخلق؛ والزاهق أكثر طرقا من الزهم. فيقال له: من أين قلت ذلك وكلاهما السمين؟ وهل ذلك إلا تحكم ودعوى بغير بينه، ورجم ظن بغير تحقيق؟ ولو قال قائل: إنه بالضد لم تجد له مدفعا، والظاهر أنه تكرير للتأكيد، وقد جاء ذلك كثيرا. وقوله: (الرجز) كأنَّما الجِلْدُ لِعُرْي النَّاهِقِ مُنْحَدِرٌ عن سِيَتَيْ جُلاَهقِ قال: الناهق: عظم مجرى دمع الفرس؛ شبه رقة جلده وصلابته على خده بسيتي قوس البندق. وأقول: هذه عبارة غير مرضية! إنما أراد رقة الخد (وملاسته) وخلوه من اللحم، وذلك من علامات العنق. قوله: (الرجز) وزَادَ في السَّاقِ على النَّقَانِقِ

قال: النقانق: جمع نقنق، وهو ذكر النعام، وساقه دقيقة صلبة. هكذا رأيتها في هذه النسخة التي نقلت منها! قال: وذلك مستحب في الخيل. وأقول: الصواب أن يقول: غليظه صلبة. وقد قيل في قول امرئ القيس: (الطويل) له أيْطَلاَ ظَبْيٍ وسَاقَا نَعَامةٍ. . . . . . . . . إنما قال: ساقا نعامة لأن النعامة قصيرة الساقين صلبتهما غليظة ظمياء ليست برهلة. وقوله: (الرجز) أَيْ كَبْتَ كلَّ حَاسِدٍ مُنَافِقِ قال: الكبت: القهر والإذلال؛ كأنه يخاطب ممدوحا. فيقال: إن كان أراد بالممدوح الفرس، الذي ذكره واصفا له، فصواب. وإن أراد بالممدوح (إنسانا) فليس كذلك، ويدل على ذلك قوله: أنت لنا أي: ملكنا وكلنا ملك لله تعالى.

وقوله: (البسيط) تَسْتَغْرقُ الكَفُّ فَوْدَيْهِ ومَنْكِبةُ ... وتَكْتَسِي منه ريحَ الجَوْرَبِ العَرِقِ قال: يصفه بالدمامة وخبث العرض. وأقول: أراد بالدمامة صغر الخلق لأنه لما قال: تَستْغرق الكَفُّ فَوْدَيْهِ ومَنْكِبَهُ. . . . . . . . . توهم أن ذلك معا في وقت واحد بفعل واحد، وذلك لا يلزم؛ لأن الواو لا توجب ذلك، بل تستغرق الكف الفودين في وقت، والمنكب في وقت آخر. ويريد باستغراق الكف لتلك المواضع بسطها لصفعه.

وقوله: (الخفيف) ولَسِرْنَا ولو وَصَلْنَا عليها ... مِثْلَ أنَفاسِنَا على الأرْمَاقِ قال: الأرماق: جمع رمق، وهو بقية النفس؛ أي: لو صلنا إليك وهي تحملنا على مشقة، وقد بلغنا أواخر أنفسنا. فيقال له: ليس هذا الموضع من شأنك باستنباط معناه واستخراج غامضه! هذا أراه تشبيهين بمشبيهين: شبه أجسامهم بالأنفاس (للضعف) ولشدة النحول، وإبلهم تحتها، بالأرماق لشدة الضمر والقفول. وله مثل هذا وهو قوله: (الطويل) بَرتَنْي السُّرَى بَرْيَ المُدَى فَرَدَدْنَني ... أخَفَّ عَلَى المَرْكُوبِ من نَفَسي جِرْمي وقوله: (الخفيف) كاثَرَتْ نائِلَ الأميرِ مِنَ المَا ... لِ بما نَوَّلَتْ من الإيرَاقِ

قال: الإيراق: مصدر أورق إيراقا. يقال: أورق الصائد إيراقا، إذا لم يصد. قرأت على محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى لجرير: (البسيط) إذَا كَحَلْنَ عُيُونا غيرَ مُؤرِقَةٍ ... رَيَّشْنَ نَبْلاً لأَصْحابِ الصَّبا صُيُدَا وأقول: إنما جعل الإيراق من أورق. . . إذا لم يصد لأنه رباعي نحو: أوعد إيعادا وأكرم إكراما. ولم يجعله من أرق، وهو عدم النوم، لأنه ثلاثي لا يكون على ذلك. بل يقال: أرق أرقا. فيقال: أيها النحوي التصرفي! ليس هذا من أرق، ولا مصدره إفعال، وإنما هو من: آرق: فاعل ومصدره فعال، يقال: آرق يوارق إراقا كما يقال: قاتل يقاتل قتالا. وقيل: إيراق كما قيل: قيتال؛ أبدلت الياء من حرف التضعيف طلبا للتخفيف. (أو يكون معدى بالهمزة: أأرق على وزن أفعل أفعل فمصدره إفعال كما يقال: ألم زيد وآلمه عمرو إيلاما، كذلك أرق وآرقه إيراقا) وقوله: (الخفيف) يَا بَني الحَارث بن لقمانَ لا تَعْ ... دَمْكُمُ في الوَغَى مُتُونُ العِتَاقِ قال: ما أحسن ما دعا لهم! ونكت في البيت نكتا حسنا بقوله: في الوغى، وهو - لعمري - حشو لأنهم ملوك فإنما يركبون الخيل إذا طلبوا عدوا أو أثروا طردا، ولو

لم يقل: في الوغى لكان قد دعا لهم أن لا يفارقوا متونها في كل وقت وهذا من أفعال الرواض لا الملوك! لأنهم يحتاجون إلى تدبير الملك، واستخلاص الرأي، وهذا إنما يليق به الخلوة والاستقرار. وقد قيل على ذلك: إنه لو لم يقل في الوغى إنه أيضا دعاء لهم بأن لا يزالوا ممن يركبها، والغرض معروف، والمعنى ظاهر لا يلبس بغيرهم من الرواض وأشباههم. واستشهد - (أعني ابن جني) - على قوله بأن الركوب إنما يكون في وقت القتال بأبيات ثم قال: وأما قول عنترة: (الكامل) تُمْسِي وتُصْبِحُ فَوْقَ ظَهْرِ حَشِيَّةٍ ... وأبيتُ فَوْقَ سَراةِ أدهَمَ مُلْجَمِ فهذا مما توصف به الصعاليك لا الملوك. قال: وقوله: وأبيت ليلا، وأظل نهارا، وإذا كان يبيت على فرسه فهو بأن يكون عليه نهارا أحرى. كأنه يقول: إن أمري يضاد من تلك عليه؛ لأنها تمسي وتصبح في التنعم، وأنا أمسي وأصبح في الشقاء. وأقول: لا يلزم إذا قال: . . . . . . . . . وأبيتُ فَوْقَ سَراةِ أَدْهَمَ. . .

أن يظل أيضا فوقه، بل يحتمل أن يظل نهاره مرتقبا كامنا طلبا للغارة، ويمسي ليلة ساريا لئلا ينكشف، فيصابح الغارة صباحا كعادتهم الجارية على ذلك ويدل عليه قول لبيد: (الكامل) فَعَلَوْتُ مُرْتَقِباً على مَرْهوبةٍ ... حَرجٍ على أعلاْمِهِنَّ قَتامُهَا حتى إذا ألْقَتْ يَداً في كافرٍ ... وأجنَّ عَوْراتِ الثُغورِ ظَلامُهَا أسْهَلْتُ وانْتَصَبَتْ مجِذْعِ مُنِيفَةٍ ... جَرْدَاَء يَحْصَرُ دُونَها جُرَّامُهَا (ومثله قول أبي الطيب: (الطويل) ويومٍ كلَيْلِ العَاشِقين كَمَنْتُهُ ... أرَاقِبُ فيه الشَّمْسَ أيانَ تَغْرُبُ) وقوله: (الخفيف) جَاعِلٍ دِرْعَهُ مَنِيَّتَهُ إنْ ... لم يَكُنْ دونَهَا من العارِ واقي قال: أي ينضم في منيته كما ينضم في درعه. وأقول: هذا ليس بشيء يمال إليه أو يعرج عليه! وإنما أراد أن هذا الممدوح إذا اتقى غيره المنية بالعار، من نحو الهرب أو الاستسلام، أتقى هو العار بالمنية - (أي: يقتل ولا يلحقه عار) - فجعلها له كالدرع، وهذا من المقلوب الذي يستعمله كثيرا ويجيده؛

ومنه قوله: (الخفيف) وإذَا أشْفَقَ الفَوارسُ من وَقْ ... عِ القَنَا أشْفَقُوا من الإشفْاقِ وقوله: (الخفيف) لو تَنَكَّرْتَ في المَكَرَّ لقَومٍ ... حَلَفُوا أنَّك ابنُهُ بالطَّلاَقِ قال: في المكر - وإن كان أيضا حشوا - فإنه شبهه به في المكان الذي يتيقن فيه الفضل والشجاعة، فذكر أشرف المواضع فجعل أشبهه به فيه لا في غيره مما ليس له شهرته، وهذا النكت الحسن كثير في شعر البحتري. فيقال له: هذا - لعمري - نكت (حسن) كما قلت، ولكن لم نتبين ما هو، ولا لم خص الشكر بالمكر دون غيره؟! وقد بينته في شرح التبريزي. وقوله: (الخفيف) كَيْفَ يَقْوَى بِكَفَّكَ الزَّنْدُ والآ ... فَاقُ فيها كالكَفَّ في الآفاقِ

قال: وهذا مثل قول مروان بن أبي حفصة: (الطويل) فَيَا قَبْرَ مَعْنٍ كَيْفَ وَارَيْتَ جُودَهُ ... وَقدْ كان منه البَرُّ والبَحْرُ مُتْرَعَا فيقال له: ليس هذا لمروان وإنما هو للحسين بن مطير؛ ذكره أبو تمام من كتاب (الحماسة) في باب المراثي من قطعة مشهورة أولها: (الطويل) ألِمَّا عَلى مَعْنٍ. . . . . . . . . . . . . وقوله: (الخفيف) والأَسَى قبل فُرْقَةِ النفس عَجْزٌ ... والأسَى لا يَكونُ بعد الفِراقِ قال: مصراعه الأول احتجاج على من شح بنفسه، ومصراعه الآخر احتجاج له؛

أي: هو - لعمري - وإن كان كذا - فإن مفارقة الروح تبطل العجز غيره، وهي النهاية في الخوف والحذر. فيقال له: ليس المصراع الآخر احتجاجا عليه مثل الأول. يقول: الحزن على النفس قبل فرقتها عجز، أي: ينبغي للإنسان أن لا يحزن على الشيء قبل فقده، والحزن بعد فراق النفس لا يكون، لأن الحزن إنما يكون للحي، فإذا ذهبت النفس فلا حياة، فلا حزن! وقوله: (الخفيف) شَاعِرُ المَجْدِ خِدْنُهُ شَاعِرُ اللَّفْ ... ظِ كلانَا رَبُّ المَعَاني الدَّقَاقِ قال: وهذا البيت كأنه تفسير الذي قبله وقد سبق إليه البحتري؛ يقول (الكامل) غَرُبَتْ خَلائِقُهُ وأَغْرَبَ شاعِرٌ ... (فيه) فأحَسَنَ مُغْرِبٌ في مُغْرِبِ وأقول: هكذا رأيته في هذه النسخة أنه للبحتري، والصحيح أنه لأبي تمام من قصيدة يمدح بها عمر بن طوق أولها: (الكامل) أَحْسِنْ بأيَّامِ العَقيقِ وأَطْيِبِ. . . . . . . . .

وقوله: (المنسرح) كُنْ لًجَّةً أيُّها السَّمَاحُ فقد ... آمنهُ سَيْفُهُ من الغَرَقِ قال: أي: سيفه له جنة من كل عدو ناطقا كان أو غير ناطق. وأقول: هذا يقال له فيه: دعوه فإنه يهجر! والمعنى: وصفه له بكثرة العطاء والشجاعة، فقال: كُنْ لُجَّةً أيها السَّماحُ. . . . . . . . . . . . أي: كن كثيرا؛ فإنك لا تقدر على إغراقه. أي: لا يخشى عليه منك فقر وإجحاف لأن سيفه قد آمنه من ذلك، وذلك بما يجدد له من أخذ مال أعدائه بإغارته عليهم وقتله لهم. وقوله: . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقوله: (الوافر) إذا التَّودِيعُ أَعْرَضَ قالَ قَلْبي ... عليكَ الصَّمْتَ لا صَاحَبْتَ فَاكَا! (قال:) أي: قال لي قلبي: لا تمدح أحدا بعده. وأقول: إن قوله في هذا: لا تمدح أحدا تفسير لا يقوله أحد، وهل يشكل هذا على من له أدنى تبصر، وأيسر تفكر وقد قال: إذا التَّوديعُ أَعْرَضَ. . . . . . . . . . . . أن قلبه يأمره بالصمت عن ذكر الوداع الذي هو مقدمة الفراق، وقوله: . . . . . . . . . . . . لا صَاحَبْتَ فَاكَا دعاء عليه نطق به. أولا يرى إلى البيت الذي بعده وهو قوله: (الوافر) ولولاَ أن أكْثَرَ ما تَمَنَّى ... مُعَاوَدَة لقُلْتُ ولا مُنَاكَا كأنه وقع بينه قلبه خصام ومنازعة، فدعا عليه قلبه بأن قال: لا صحبت فاك إن ذكرت الوداع! وقال هو لقلبه: ولولا أن أكثر مناك المعاودة إلى عضد الدولة لقلت: وأنت، لا صاحبت مناك! فإنما قلبه أمر قلبه له بالصمت عن ذكر الوداع لا عن مدح غيره!

وقوله: (الوافر) أَذَمَّتْ مَكُرُمَاتُ أبي شُجَاعٍ ... لِعَيْني من نَوَايَ على أُولاكَا قال: أي منعت مكرماته عيني أن تجري منهما دموع كاذبة، أو أختار البعد والمقام دونه لأني لا أعطى عنه الصبر لما فعلت بي. فيقال له: هذا ليس لعشك فادرجي! والمعنى - أيها الشيخ - بضد ما ذكرته! فليتأمل في شرح الواحدي! وقوله: (الوافر) فلا غِيضَتْ بحَارُكَ يا جَمُوماً ... عَلَى عَلَلِ الغَرائِبِ والدَّخَالِ قال: الدخال: أن يدخل بعير قد شرب بين بعيرين لم يشربا على الماء ثانية لقلة الماء، وقال لبيد - وهو من أبيات الكتاب -: (الوافر)

فأرْسَلَهَا العِراكَ ولم يَذُدْهَا ... ولم يُشْفِقْ على نَغَصِ الدَّخَالِ ثم قال: وهذا البيت - يعني بيت المتنبي - أبلغ في ذكر العطاء والسعة من قول الكميت: (المتقارب) أناسٌ إذا وَرَدَتْ بَحْرَهُمْ ... صَوَادي الغَرائِبِ لم تُضْرَبِ لأنه لم يصرح بالجموم مع الورود، والمتنبي صرح به وذكر أيضا الدخال وأنه يجم أوقات القلة، فزاد فيه وصار أحق به لما ذكرت لك. فيقال له: ليس ذكر الدخال بزيادة في المعنى بل نقص! وذلك لما فسره من أنه دخول بعير قد شرب بين بعيرين لم يشربا لقلة الماء، فهذا نقص لقوله: فَلا غِيضَتْ بِحَارُكَ يا جَمُوماً. . . . . . . . . لأن البحر هو الماء الكثير فلا ترده الإبل دخالا بل جملة مرة واحدة لكثرته. وأما بيت الكميت فإنه صحيح المعنى، حسن اللفظ، منصب في قالب الاسترسال بالطبع. وقوله: (المتقارب) ولَّما نَشِفْنَ لَقِينَ السَّيَاطَ ... بِمِثْلِ صَفَا البَلَدِ المَاحِلِ

قال: أي: لما نشفن من العرق وضربن بالسياط وقعت في مفاصلها على مثل صفا البلد الماحل. والصفا: الصخر، والماحل: الذي لا مطر فيه؛ فليس على صفاه نبت بل أقرع فهو أصلب له. وهذا كقول الآخر: (الطويل) وأَحْمَرَ كالدَّينارِ أمَّا سَماؤهُ ... فَرَيَّا وأمَّا أَرْضُهُ فَمَحُولُ فيقال له: أما تفسيرك البيت فحسن، وأما تمثيلك له بقول الآخر فليس بحسن؛ وذلك أنه قال: . . . . . . . . . أما سَمَاؤهُ ... فَرَيَّا. . . . . . يعني أهلاه؛ كفله وظهره وما والاهما، والري ضد المحل، وقوله: . . . . . . . . . . . . وأمَّا أَرْضُهُ فَمَحُولُ يعني قوائمه، فكنى بالري عن السمن وكثرة اللحم، وبالمحل عن التجرد من اللحم. وإنما بيت أبي الطيب أقرب إلى التمثيل بقول علقمة: (البسيط) . . . . . . . . . جلذيَّةٌ كَاَتَانِ الضَّحْلِ عُلْكَومُ وقوله: (المتقارب) وما بينَ كَاذَتَيِ المُسْتَغيرِ ... كما بينَ كَاذَتَيِ البَائلِ قال: المستغير: الذي يطلب الغارة، قد (اتسعت) فروجهن لشدة العدو.

فيقال له: بل اتسعت فروجهن لجودة الخلق، وذلك أنه يستحب سعة ما بين أيديهن وارجلهن فإن الضيق عيب. وقد قال زهير: (البسيط) . . . . . . . . . ر فَحجٌ فيَها ولا صحَكُ وقوله: (المتقارب) فَلُقَّينَ كُلَّ رُدَيْنِةٍ ... ومَصبْوحَةٍ لَبَنَ الشَّائِلِ قال: سألت أبا الطيب وقت القراءة عليه عن هذا فقلت: إن الشائل لا لبن لها، وإنما التي بها بقية من لبنها هي التي يقال لها الشائلة - بالهاء. قال: أردت الهاء فحذفتها! فيقال له: حذف الحرف الفارق بين الضدين ضعيف. قال: وسألته عن غرضه في لبن الشائلة فقال: إن الناقة إذا شالت شال لبنها، فحذف ومرؤ، ونجع في شاربيه، فلم يسقوه إلا كرائم خيلهم، والأمر على ما ذكر، وبذلك وردت أشعارهم. فيقال له: أما كونه خفيفا مريئا (فيحتاج) إلى استشهاد عليه. وأما كونه لذيذا طيبا، فالمعروف بذلك ألبان الحديثات النتاج؛ قال أبو ذؤيب: (الطويل)

وإنَّ حَدِيثاً منكِ لو تَبْذُلينَهُ ... جَنَى النَّحْلِ في أليْانِ عُوذٍ مَطَافِلِ مَطَافِيلَ أبْكَارٍ حَديثٍ نِتَاجُهَا ... تُشَابُ بِمَاءٍ مثلِ مَاءِ المَفَاصِلِ فاللذيذُ السائغ أنجع وأنفع من غيره. وإنما ألبان الشول تقل وتعز فلا تسقى إلا كرائم الخيل. قال: (الطويل) جَزَاني بِلالي ذو الخِمَرِ وصُنعُهُ ... إذَا بَاتَ أطواءٌ بنيَّ الأصاغِرُ أخادِعُهُمْ عنه لِيُغْبَقَ دونَهُمْ ... وأَعْلَمُ أنَّي بعدَ ذاك مُغَاوِرُ وأما روايته عنه فكروايته عنه غيرها مما يشهد المعنى أو العرف بخلافه. وقوله: (المتقارب) بِضَرْبٍ يَعُمُّهُمُ جَائِرٍ ... له فِيهمُ قِسْمَةُ العَادِلِ قال: هذا الضرب، وإن كان لإفراطه جورا، فإن قسمته في الحقيقة عدل؛ لأن قتل مثله وقربه إلى الله - عز وجل - وهذا مثل قول أبي تمام: (الكامل) أنْ لَسْتَ نعمَ الجَارُ للسُّنَنِ الأُلَى ... إلاَّ إذَا ما كُنْتَ بئْسَ الجَارُ

فيقال له: إن لك أن لا تصيب، وعليك أن تخطئ إلا نادرا! وهذا الذي قلته لا يقوله أقل محصل وأدنى متأمل! والمعنى ما ذكرته في شرح أبي العلاء. وقوله: (المتقارب) فَظَلَّ يُخَضَّبُ منها اللَّحى ... فَتًى لا يُعيدُ على نَاصِلِ قال: الناصل: المضروب بالنصل، وهو فاعل بمعنى مفعول. أراد إذا ضرب إنسانا بسيفه لم يبق ما يحتاج له إلى إعادة الضربة كما قال طرفة: (الطويل) حًسَامٌ إذَا ما قُمتُ مُنْتَصِراً به ... كَفَى العَوْدَ منه البَدْءُ ليسَ بِمُعْضَدِ فيقال له: أما ناصل بمعنى منصول فليس بشيء! وهذا تعسف وتكلف لا يحتاج إليه، بل الناصل ها هنا من نصول الخضاب؛ يقول: إذا ضرب خصمه ضربة فخضبه بدمه لم يبق، فينصل الخضاب فيحتاج إلى ضربة أخرى إعادته، وهو كما ذكر من قول طرفة، وقد زاد عليه زيادة حسنة يتبينها أولو المعرفة! وقوله: (المتقارب) فإنَّ الحُسامَ الخَضِيبَ الذي ... قُتِلْتُمْ به في يدِ القَاتِلِ

قال: الخضيب: الذي من شأنه أن يخضب، وهذا مثل قول الآخر - أخبرنا به ابن مقسم عن ثعلب -: (الوافر) كَذَبْتُمْ - والذي رَفَع المعالي ... ولَّما يَخْضِبِ الأسَلَ الخَضِيبُ وأقول: إنه يحيد عن الظاهر الحسن إلى الجافي البعيد الغريب لبيت نادر يقع إليه، فيعول في المهم عليه! وأسهل من هذا يكون الخضيب بمعنى المخضوب، إلا أنه لما ظفر بذلك البيت استشهادا على قوله، ترك المألوف المعروف ميلا إلى الإغراب، وتركا للصواب، ولم يذكر هذا الوجه وهو باد لفظه للفهم سافر، واف معناه في الصحة وافر! وقوله: (المتقارب) يَقُدُّ عِدَاهَا بلا ضَارِبٍ ... ويَسْرِي إليهم بلا حَامِلٍ أي: ليس هو من الحقيقة سيفا فيحتاج إلى ضارب وحامل، وإنما هو سيف الدولة. وأقول: الجيد أن يقال: إن سيف الدولة سيف لا كالسيوف؛ لأن السيوف تحتاج إلى ضارب وحامل، وهذا بخلافها. وفيه إشارة إلى عدم مساعد، وفقد معاضد لقوله قبله: (المتقارب)

أمَا للخلافَة من مُشْفِقٍ ... على سَيْفِ دَوْلَتِها القَاصِلِ وقوله: (البسيط) يَعُودُ من كُلَّ فَتْحٍ غيرَ مُفْتَخِرٍ ... وقد أغَذَّ إليه غَيْرَ مُحْتَفِلِ قال: أغذ: جد في السير، فإن قيل: كيف يكون مغذا غير محتفل؟ فإنما يعني أنه غير محتفل عند نفسه وإن كان محتفلا عند غيره؛ لأن كبير الأشياء عند سواه صغير عنده. فيقال له: ليس بين إغذاذ السير وترك الاحتفال تناقض أو تضاد؛ لأن ذلك إسراع إلى فتح الأمصار، وقتل الأعداء بغير احتشاد، وذلك ممكن، وهو مثل قوله: (الطويل) وما هي إلاَّ خَطْرَةٌ خَطَرَتْ له ... بحَرَّان لَبَّتْهَا قَنا ونُصُولُ وقوله: (المتقارب) ومثلُ الذي دُسْتَهُ حَافِياً ... يُؤثَّرُ في قَدَمِ النَّاعِلِ

وقوله: (الطويل) بِمَوْلودِهِمْ صَمْتُ اللَّسَانِ كَغَيرهِ ... ولكِنَّ في أَعْطَافِهِ مَنْطِقَ الفَضْلِ قال: الصمت والصمات مصدر صمت، وأنشد لبعض الأعراب يذكر إبلا: (الرجز) ما أنْ رأيتُ من مُغَنَّيَاتِ ذَوَاتِ آذانِ وجُمْجُمَاتِ أصْبَرَ منهُنَّ على الصُّمَاتِ قالوا: غناؤها: صريفها بأنيابها. وقل أبو زيد: يغنين بالحداء، وأنشد: (الرجز) فَغَنَّها وهي لك الفِدَاءُ إنَّ غِنَاءَ الإبلِ الحُدادُ وقال بعضهم: غناؤهن: أطيط رحالهن. وأقول: ينبغي أن تكون الرواية على ما ذكر. ولم تتبين له بكسر العين من

مغنيات وفتحها - اسم فاعل أو اسم مفعول - فإذا كان اسم فاعل فقد جعلها تغني مع أنها لا تتكلم، يعني بالصريف، وذلك عجيب منه. ومنه قول المثقب: (الوافر) وتسمَعُ للذُّبابِ إذا تَغَنَّى ... كَتَغْريدِ الحَمَامِ على الوُكُونِ قال الأصمعي: الذباب هاهنا: حد نابها إذا صرفت. وإذا كانت اسم مفعول فقد جعلها صابرة لا تأوه وتوجع كما يفعل ذلك الي يسمع الغناء؛ أي: لا ترغو في حال السير للكلال والإعياء كما قال الأعشى: (المتقارب) كَتُوم الرُّغاءِ إذَا هَجَّرَتْ ... وكانَتْ بَقِيَّةَ ذَوْدٍ كُتُمْ وذلك أيضا غريب. وقوله: (الطويل) بَدَا وَلَهُ وَعْدُ السَّحابةِ بالرَّوَى ... وصضدَّ وفينَا غُلَّةُ البَلَدِ المَحْلِ وأنشد استشهادا على الروي بقول عمرو بن قعاس المرادي: (الوافر) وماءٍ ليسَ من غُدُرٍ رَوَاءِ ... ولا مَاءِ السَّماءِ قد اسْتَقَيْتُ قال: يعني أنه رشف ريق امرأة. فيقال: هذا إن دلت عليه قرينة، وإلا فالمراد بذلك الماء ماء الكرش الذي يفتظ بعقر الإبل عند عدم الماء، فيخرج فيعتصر ويشرب كقوله: (الطويل)

توخَّى بها مَجْرى سُهَيل ودونَهُ ... من الشَّامِ أعلامٌ تطولُ وتَقْصُرُ فلمَّا رأى أنَّ النَّطافَ تعذَّرَتْ ... رَأى أنَّ ذَا الكلْبينِ لا يَعَذَّرُ وقول الآخر: (الطويل) ويَهْمَاَء يَسْتَافُ الدَّليلُ تُرابَهَا ... وليسَ بها اليَمَانيَّ خَالِفُ أي: مستق. وقوله: (البسيط) ما بَالُ كُلَّ فُؤَادٍ في عَشِيرتها ... بها الذي بي وما بي غَيْرُ مُنْتَقِلِ قال: أي: جميعنا ثابت المحبة لها غير منتقل الهوى عنها. وقال غيره آخذا على أبي الطيب: كان ينبغي ان يكون: ما بال العشاق تنتقل، وما بي غير منتقل. وكلاهما لم يصب الصواب! والمعنى: إنه كان ينبغي أن ينتقل ما بي من الهوى وأسلو إذ كان كل واحد من

عشيرتها عاشقا كعشقي، فيكونون، حينئذ، أشد غيره عليها، وحماية من دونها، وحفظا لها، فأياس منها فأسلو عنها. وقوله: (البسيط) وما الفِرَارُ إلى الأجْبَال من أسدٍ ... تُمْسِي النَّعَام به في مَعقْقِلِ الوعَلِ قال: أي: قد أخرج النعام عن البر إلى الاعتصام برؤوس الجبال. وقيل له: أنت أضل من الضب عن حجره! فأين يذهب بك! شبه خيله بالنعام لسرعتها. ومعناه: تمسي به الخيل المشبهة للنعام سرعة، في معقل الوعل؛ يعني رأس الجبل. يقول: أين الفرار إلى الأجبال ممن هذه حاله؟ وأقول: قد روي: تمسي بالشين المعجمة والسين، وقد ذكرت ما معناهما في شرح الواحدي. وقوله: (البسيط) وكُلَّمَا حَلَمَتْ عَذْرَاءُ عندهُمُ ... فإنَّما حَلَمَتْ بالسبَّيِ والجَمَل

قال: أي: لخوفها ذلك، واستماعها إياه. وقد أخذ على أبي الطيب قوله: عذراء وتخصيصها بذلك دون غيرها، إذ كان من طريق الخوف، وهو قد عم القوم كما ذكر. وقيل: إن غير العذراء أولى لأنها أعلم بالأمور، وأثبت قلبا، وأكثر تجارب. وأقول: إنما خص العذراء، وهي البكر، لأنها أشفق على نفسها من غيرها، لأنها تخاف أن تفتض بالسبي فليزم العار عشيرتها وأهل دينها. وقوله: (الطويل) إذَا كانَ شَمُّ الرَّوح أَدْنَى إليكم ... فلا بَرِحَتْني رَوْضَةٌ وقَبُولُ قد ذكرت في شرح الواحدي قوله، وما قيل فيه، وبينت الوجه الذي أراده الشاعر ولم يبينه سواي أحد!

وقوله: (الطويل) وأضْحَتْ بحصْنِ الرَّانِ رَزْحَى من الوَجَى ... وكلُّ عَزيزٍ للأمير ذَلِيلُ قال: وقوله: . . . . . . . . . وكلُّ عَزيزٍ للأميرِ ذَليلُ اعتذار لها؛ أي: لم يلحقها ذلك لضعفها؛ ولكن كلفها من همة صعبا. وأقول: هذا ليس بشيء! وقوله: . . . . . . . . . وكُلَّ عَزِيزٍ للأميرِ ذَليلُ ليس فيه إشارة إلى الخيل واعتذار لها بأنها لم يلحقها ذلك لضعفها وكلالها، بل أخبار عن علو هم سيف الدولة وشدة عزمه بما كلفها من شدة السير، وطول الغزو، إلى أن كلت في حال ذل له به كل عزيز. وقوله: (الطويل)

أتَاكَ كأنَّ الرأسَ يَجْحَدُ عُنْقَهُ ... وتَنْقَدُّ تحْتَ الذُّعْرِ منه المَفَاصِلُ قال: أي: يتبرأ بعضه من بعض لإقدامه على المصير إليك هيبة لك. وأقول: هذا التفسير بضد المعنى؛ ولو قال في موضع يتبرأ بعضه من بعض: يتداخل بعضه في بعض لأصاب؛ لأن الخائف كذلك يفعل؛ يتجمع ويتضاءل، والآمن يتظاهر ويتطاول. وقوله: (الطويل) كَريمٌ إذَا اسْتُوهِبْتَ مَا أَنْتَ راكِبٌ ... وقد لَقِحَتْ حَرْبٌ فإنكَ نَازِلُ قال: وهو كقوله: (الوافر) ولو يَمَّمْتَهُمْ في الحَشْرِ تَجْدو ... لأعْطَوْكَ الذي صَلَّوا وصَامُوا وأقول: ويحتمل أن يكون هذا من قول أبي تمام: (الطويل) أخا الحَرْبِ! كَمْ أَلْقَحْتَها وهي حَائِلٌ ... وأَخَّرْتَهَا عن وَقْتِها وهي مَاخِصُ فيكون قوله: . . . إذَا استُوهِبْتَ ما أنتَ راكِبٌ. . . . . . . . . من الجد في القتال، وقد لحقت الحرب، أي: في أوائلها وعند اتصالها فإنك نازل؛ أي: تارك لها كرما وحياء وإبقاء. ويكون هذا البيت مثل شطر بيت أبي تمام

إلا أن أبا الطيب كان إذا أخذ معنى زاد عليه ولم ينقص منه، والجيد حمله على التفسير الأول. وقوله: (الطويل) إذَا الجُودِ أعْطِ النَّاسَ ما أنتَ مالِكٌ ... ولا تُعْطِيَنَّ الناسَ ما أنَا قائِلُ قال: أي: لا تعط الناس أشعاري فيفسدوها بأخذ معانيها. وقيل فيه معنى آخر: وهو أنه خوفه بارتحاله عنه إلى غيره؛ يقول: لا تعاملني معاملة أرحل بسببها فيحصل مدحي لغيرك، كأنك أنت أعطيته إياه! وقوله: (الخفيف) خِطْبةٌ لِلحِمامِ ليس لها رَدْ ... دُ وإنْ كانَتِ المُسَمَّةَ ثُكْلاَ قال: يقول: الموت يجري مجرى الخطبة من الحمام للميت، وإن كان الناس يسمونه ثكلا. وأقول: هذا ليس بشيء! وإنما قال: خِطْبَةٌ لِلخَمامِ ليسَ لهَرَدْ ... دٌ. . . . . .

أشار إلى هذه الميتة بأنها شريفة، وأن ليس لها كفؤ فيكون منه خطبة لها، فلو كان الخاطب (لها) غير الموت لرد. وكأن هذا ينظر إلى بيت مهلهل: (المنسرح) أنْكَحَها فَقْدُها الأرَاقِمَ في ... جَنْبٍ وكانَ الحِبَاءُ من أدَمِ لَو بأبانَيْنِ جاَء يَخْطُبُها ... ضُرَّج ما أنفُ خَاطبٍ بَدَمٍ والذي يَدُلُّ على صِحَّة هذَا التفسير البيت الذي يليه وهو قوله: (الخفيف) وإذَا لم تَجِدْ من النَّاسِ كفؤاً ... ذاتُ خِدْرٍ أَرَادَتِ المَوتَ المَوتَ بَعْلا وقوله: (الخفيف) شِيَمُ الغَانِيات فِيهَا فَلاَ أَدْ ... رِي لذا أنَّثَ اسْمَها الناسُ أَمْ لاَ قال: إنما سميت الدنيا لأنها الدار الدانية، وليست الآخرة المتوقعة، فأظهر تجاهلا ب ذا لما فيه عذوبة اللفظ وصنعة الشعر، وهذا كقول زهير: (الوافر) وما أدْرِي وَسَوْفَ إخالُ أَدْرِي ... أَقَوْمٌ آلُ حِصْنِ أم نِسَاءُ أي: أرجال أم نساء هم، وهو يدري أنهم رجال، ولكن تعامى عن هذا؛ لأن فيه ضربا من الهزء. وأقول: ليس التشكك والتجاهل في بيت المتنبي لأجل عذوبة اللفظ وصنعة الشعر،

ولكن للتقريب بين الدنيا وبين النساء في الأخلاق وتقلبها وأنها لا تدوم على حال، وذلك (في التقريب) مثل قول ذي الرمة: (الطويل) أَيا ظَبْيَةَ الوَعْسَاءِ بين جُلاَجِل ... وبين النَّقَا أنتِ أَمْ أُمُّ سَالمِ وكذلك القول في بيت زهير، وفيه زيادة ما ذكره من التهكم بهم والسخري منهم. وقوله: (الخفيف) فأتَتْهُمْ خَوضرقَ الأرْضِ ما تَحْ ... مِلُ إلاَّ والأبْطاَلاَ قال: أي: تخرق الأرض بحوافرها؛ يعني خيل سف الدولة، وهذا نحو قوله: (الوافر) إذَا وَطئَتْ بأيْدِيها صُخُوراً ... بَقينَ لِوَطءِ أرْجُلِها رِمَالاَ وقوله: (الرجز) يَتْرُكُ في حِجَارةِ الأبَارقِ آثارَ قَلْع الحَلْي في المَناطِقِ

وقول أبي النجم: (الرجز) يُغَادرُ الصَّمْدَ كظَهْرِ الأجْزَلِ فيقال له: لم يرد شدة التأثير بالحوافز كما زعمت، وإنما يريد قطع الأرض بسرعة، كقوله تعالى: (ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا). وقوله: (الخفيف) أَقْلَقَتْهُ بَنِيَّةٌ بَيْنَ أُذْنَيْ ... - هِ وبَانٍ بَغَى السَّماَء فَنَالاَ قال: يعني قلعة الحدث، وذكر مؤخر رأسه لأن أبلغ في هجائه. فيقال له: لم يرد مؤخر رأسه ولا هجاءه بذلك، وقوله: بين أذنيه، أراد: جملة رأسه، وهذا كما يقال: يعجبني ما بين شفتيها، يعني: ثغرها، وما بين جفنيها، يعني: طرفها. والمعنى: أن هذه البنية كأنها، لثقلها عليه، حامل لها فوق رأسه، البيت الذي بعده يدل على ما قلته وهو: (الخفيف) كُلَّمَا رَامَ حَطَّهَا اتَّسَعَ البَنْ ... يُ فَغَطَّى جَبِيْنَهُ والقَذَالاَ

وقوله: (الخفيف) أخَذُوا الطُّرْقَ يَقْطَعُون بها الرُّسْ ... لَ فكانَ انقِطَاعٌها إرْسَالاَ قال: أي: لما أبطأت الأخبار، وخالفت العادة، تطلعوا إلى ما وراء ذلك؛ فوقعوا على الخبر، فعادوا به إلى سيف الدولة. وقال الواحدي: تطلع سيف الدولة. (وأقول:) وكلاهما أخطأ المعنى وهو ما ذكرت في شرح الواحدي. وقوله: (الخفيف) تَحْمِلُ الرَّيحُ بينَهُمْ شَعَرَ الهَا ... مِ وتُذْرِي عليهمُ الأَوْصَالاَ قال: أي لم يبعد العهد بمن قتلته، فشعورهم وأوصالهم هناك موجودة بعد. فيقال له: لا تطير الريح الشعور عن الرؤوس، وتذري الأوصال من العظام إلا لكثرة بلى، وطول عهد بالحياة، ولكن ليس بطول أفنى رسوم الأجسام، وأعدم ما يدل عليه

من الآثار، وقوله (قبله): (الخفيف) نَزَلُوا في مَنازلٍ عَرَفُوها ... يَنْدبونَ الأعْمامَ والأخْوَالاَ يمكن أن تكون (المعرفة) للحضور فيها قبل، وللمشاهدة لها مع الأعمام والأخوال، وتقدم ذلك إلى أن صاروا كما ذكر من البلى، وأن لا يكون بالحضور، والمشاهدة للقتال، لأنه أفنى ذلك الجمع، بل بما سمعوه من أخبارهم، واستدلوا عليه من آثارهم. وقوله: (الخفيف) ما يَشُكُّ اللّضعِينُ في أَخْذِكَ الجَيْ ... شَ فَهَلْ يَبْعَثُ الجُيوشَ نَوَالاَ قد أخذ على أبي الطيب لفظة النوال هاهنا، وقيل: إن النوال العطية، فكان ينبغي أن يضع موضع النوال الجزية، أو الرشوة وما أشبههما مما يقرب به إليه. وأقول: إنه ذكر النوال على وجه الهزء به السخري منه. وقوله: (الخفيف ( غَصَبَ الدَّهْرَ والملوكَ عليها ... فَبَنَاها في وَجْنَةِ خَالاَ

قال: ما علمت شيئا قيل في بنية أنشئت مراغمة مثل هذا في الحسن! على أن مزردا قد قال: (الطويل) فمَنْ أرْمِهِ مِنْها بِسَهْمٍ يَلُحْ بِهِ ... كشَامَةِ وَجْهِ، ليسَ للشَّامِ غاسِلُ وما أحسن استعارته في قوله: . . . . . . . . . . . . في وَجْنَةٍ الدَّهْرِ خَالاَ ونصب خالا على أنه حال. وقد قيل في هذا ما معناه: إنه لا يخلو من أن يكون بنى في وجنة الدهر مع غصبه إياه ما يزينه أو يشينه. فإن كان ما يزينه، فبعيد مع الغضب، وإن كان ما يشينه فهذا هجو، مع أنه كرر لفظ الدهر، ولو وضع في صدر البيت غير الدهر لحسن اللفظ. وأقول: (قوله:

غَصَبَ الدَّهْرَ والملوكَ. . . . . . . . . . . . لا يريد أنهم كانوا مستحقين لها فأخذها منهم ظلما، ولكن يريد أنه غلبهم عليها، وهو ملك، وهم ملوك، إلا أنه كان أقدر. وأما قوله: الدهر فإنها استعارة، لأنه كان بين كثرة غير مالكها، ثم ملكها وبناها. فلا يبعد على هذا أن تكون زينة الدهر؛ لأنها صارت ملكا له). وأما تكرار لفظ الدهر فإنه وضع المظهر موضع المضمر، وهو كثير، منه قوله: (الخفيف) لا أَرَى المَوْتَ يَسْبِقُ المَوْتَ شيءٌ ... نَغَّص الموتُ ذا الغِنَى والفَقِيَرا أو أظهر لتعظيم الدهر والموت وتفخيمهما. وقوله: (الخفيف) في خَميس من الأُسُود بَئيس ... يَفْتَرسْنَ النُّفُوسَ والأَمْوالاَ

قال: سمي الخميس خميسا، أي: يخمس ما وجده، أي: يأخذه. وأقول: هذا غير معروف. لم يجيء في اللغة خمسة بمعنى أخذه، إنما يقال: خمست القوم إذا أخذت خمس أموالهم. والذي قيل: إنه إنما سمي خميسا لبلوغه خمسة آلاف. وقيل: إنما خميسا لعظمه في أنه خمس فرق: المقدمة والقلب والميمنة والميسرة والساق، (على أن أبا نواس قال: (الطويل) لِنَخْمِسَ مالَ اللهِ من كلَّ فاجِرٍ ... وذي بِطْنَةٍ للطَّيَّبَاتِ أكْولِ فهذا مما يشهد لقوله إلا أنهم لم يستشهدوا به). وقوله: (الخفيف) وظُباً تَعْرِفُ الحَرامَ من الحِلَّ فَقَدْ أَفْنَتِ النُّفُوسَ حَلالاَ قال: هذا مثل ضربه؛ أي: سيوفه معودة للضرب، فكأنها تعرف الحلال من الحرام. وأقول: هذه استعارة ومجاز لكثرة قتله الأعداء. يقول: ظباه لا تقتل إلا من يستحق القتل، وأراد بذلك سيف الدولة، وقد استقصيت ما في هذا البيت في شرح الواحدي فيتأمل هناك.

وقوله: (الخفيف) إنْ تَرَيْني أَدُمْتُ بعد بَيَاضٍ ... فَحميدٌ من القَناةِ الذُّبُولُ قال: أي: إن كانت الأسفار لوحت وجهي فليس بعيب في، وإن كان عيبا في غيري، بل هو وصف في كما أن الذبول، وإن كان مذموما في غير القناة، فإنه محمود فيها لأنه يؤذن بقوتها كما قال أبو تمام: (الكامل) لأنَتْ مَهَزَّتُهُ فَعَزَّ وإنَّما ... يَشْتَدُّ بَأْسُ الرُّمْحِ حينَ يَلِينُ وأما قوله: بعد بياض فلا معترض به بل هو مشدد للمعنى لأنه لم يبال تغير لونه وشحوبه وسهومه، وإن كان غيره من الناس يستوحش لذلك ويشفق منه، فإنه هو يحمده من نفسه، ولو كان لم مدح نفسه لقلة الحفل بتغير لونه، وإنما لأجل أن بياضه استحال فلم يعبأ به (بل) ارتاح له ما بجح هذا وفخر به. فأما قول من يجهل وليس من أهل هذه الصناعة هلا قال. . . . . . . . . . فَحَمِيدٌ من القَنَاةِ السَّوادُ

أو نحو ذلك من الألوان ليتطابق أو البيت وآخره، فليس في وزن من يلتفت إليه؛ لأن صناعة الشعر تؤذن بخرسه وبكمه؛ لأن الشاعر إذا وافق بين الشيئين وجمعهما من حيث اجتمعا؛ فقول من قال: هلا جمع بينهما من الوجه الآخر جهل منه، ولو كان الشيئان لا يتشابهان حتى يتضارعا من جميع الوجوه لما أمكن أن يوجد تحت الفلك شيئان متشابهان، لأنهما لا يخلوان أن يكونا جوهرين أو عرضين. ثم أبطل أن يكون التشابه لكونهما جوهرين باختلاف محليهما، وأن يكونا عرضين لجواز عدم أحدهما مع بقاء الآخر. فيقال له: هذه سفسطة! والسؤال ها هنا حسن متوجه لم يجب عنه إلا بالسب والتنقص، والسب لا تقام به الحجة، والشتم لا تدفع به الشبهة. والجواب عنه في قوله: إن. . . أدمت ثم قال: . . . . . . . . . فَحَميدٌ من القَنَاةِ الذُّبولُ ولم يقل: الأدمة، ليتطابق صدر البيت وعجزه، أن الذبول يكون معه تغير اللون إلى الأدمة فأقامه مقامها لأنه مصاحب لها ويدل عليها، ومثل هذا كثير؛ منه قوله: (الطويل) ولو ضَرَّ مَرْءاً قَبلهُ ما يَسُرُّهُ ... لأثَّرَ فيهِ بأسُهُ والتكرُّمُ فأقَامَ لأَثَّرَ مقام لأضَرَّ بهِ لأنه في معناه وقد جعل نفسه، هاهنا، القناة مجازا، (مثلا)، كأنه قال: فحميد مني الذبول، أي: الأدمة.

وأما قوله: إن الأدمة بعد البياض، وإن كانت مكروهة من غيري، فإني أسر بها وأجذل؛ لأني اكسبها من طلب المعالي كما أن الذبول، وإن كان مذموما في غير القناة فإنه محمود فيها. فلو وضع موضع أسر بها فإنها حميدة في كما أن الذبول حميد في القناة فحذف حميدة أولا استغناء عنها بحميد آخرا لدلالته عليها لأصاب المعنى، وأطاب المجنى. ومثله: إن تبسم زيد، فحميد من السحاب البرق؛ كأنه قال: فحميد منه التبسم كما أنه حميد من السحاب البرق. فعلى هذا التفسير لا يكون زيد السحاب، ولا أبو الطيب القناة، بل يكون ذلك مثلا لهما، وعلى التفسير الأول: هما هما. وقوله: (الخفيف) نَحْنُ أَدْى وقد سَأَلْنَا بنَجْدٍ ... أَطَويلٌ طَريقُهُ أمْ يَطُولُ قال: أطويل هو في الحقيقة، أم يطوله الشوق إلى المقصود؟ وهذا البيت يؤكد عندك أنه أراده في قوله: (الخفيف) شِيَمُ الغَانِيَاتِ فيها فَمَا أَدْ ... رِي لذَا أنَّثَ اسْمَهَا الناسُ أم لا وهذا كنحو قول زهير: (الوافر) وما أَدْرِي وسوفَ إخَالُ أَدْري ... أقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أمْ نِسَاءُ؟

ألا تراه يقول بهد هذا: (الخفيف) وكَثِيرٌ من السُّؤالِ اشْتِيَاقٌ ... وكَثيرٌ من رَدَّهِ تَعْلِيلُ فهذه طريقة للشعراء؛ يظهرون التجاهل بالشيء وإن كانوا يعرفونه، وهذا من نحو قول أبي تمام: (الكامل) ومكَارِماً عُتُقَ النَّجَارِ تَليدةً ... إنْ كانَ هَضْبُ عَمَايَتَيْنِ تَلِيدا ألا تراه أدخل الكلام شرطا، فأوقع في لفظه شكا؟ لأن أحدا لا يجهل أن هضب عمايتين قديم تليد غير معروف الأول. ومن خاص كلام العرب، ونظر إلى تصرفها، ومذاهبها، وإشاراتها، أجاز ما منع غيره، ومنع ما يجيزه. أولا ترى إلى قول بشر: (الوافر) أُسَائِلُ صَاحَبَيَّ وقد أَرَاني ... بَصسِراً بالظَّعَائنِ حيثُ سَارُوا وله أشباه كثيرة. وأقول: هذا التمثيل غير صحيح! أما بيت أبي الطيب فتفسيره البيت الذي يليه؛ يقول: نسأل عن طريق نجد ونحن أعلم به، وإنما نفعل ذلك لأن من السؤال اشتياقا؛ أي: لشوقنا نفعل ذلك؛ ولأن من رد السؤال تعليلا؛ أي: لنتعلل به، فليس ذلك لتجاهل. وأما بيت أبي الطيب الذي مثله به وهو قوله: شِيَمُ الغَانِيات فيها. . . . . . . . .

وقول زهير: ومَا أَدْرِي. . . . . . . . . . . . . . . فلا خلاف أنهما تجاهل وتشكك ليقرب أحد الشيئين من الآخر، إذ أراد هجوهما فقرب الدنيا من الغانيات لتغيرها وتنقلها، وقرب آل حصن من النساء لعجزهم وضعفهم. وأما بيت أبي تمام وهو قوله: ومَكَارِماً عُتُقَ النَّجَار. . . . . . . . . . . . فليس من قول زهير في شيء، وأنه أراد به التشكك والتجاهل، بل أراد التحقيق والإثبات بقياس مركب من مقدمتين: الأولى شرطية وهي قوله: إن كان هضب عمايتين قديما. والأخرى: حملية محذوفة وهي أن هضب عمايتين قديم. فنتج من هاتين المقدمتين أن مكارم الممدوح قديمة، وهذا تحقيق - كما ترى - لا تشكيك. وأما بيت لشر وهو قوله: أسائِلُ صَاحَبَيَّ. . . . . . . . . . . . . . . فلم يرد التجاهل، وإنما سألهما عن الظعائن، وهو عالم بهن، تعللا (بهن) واشتياقا إليهن، كقول أبي الطيب: (الخفيف) وكثيرٌ من السُّؤال اشْتِيَاقٌ. . . . . . . . .

أو حبا لذكرهن، ولهجا بالحديث عنهن؛ كقول أبي الشيص: (الكامل) . . . . . . . . . حُباً لذِكْرِكَ فَلْيَلُمْنِي اللُّوَّمُ وقول أبي نواس: (الطويل) ألا سَقَّنِي خَمْراً وقُلْ لي هي الخَمْرُ. . . . . . . . . وقوله: (الخفيف) وإذا العَذْلُ في النَّدَى زار سَمْعاً ... فَفِداهُ العَذُولُ والمَعُّولُ قال: أي: المعذول الذي يدخل العذل سمعه لا غيره ممن يرد العذل. فقيل له، على هذا التفسير: فينبغي للمتنبي أن يقيد هذا في لفظ البيت ليأمن نقصان العبارة واللبس بنقصان المعنى. وأقول: إن قوله: لا غيره ممن يرد العذل ليس بشيء! وإنما يريد: إذا زار العذل سمع إنسان؛ أي: استمعه ولم يصم عنه، إذ استماعه منقصة ولوم، ففداه العذول

لأنه لا يسمع منه، والمعذول لأنه ليس كهو في استماع العذل. وهذا المعنى مطروق، كثير؛ منه قول بعض بني حميد: (المتقارب) أَصَمًّ عن الكَلِمِ المُحْفِظاتِ ... وأحْلُمُ والحِلْمُ بي أشْبَهُ وضده قول قعنب: (البسيط) صُمٌّ إذَا سَمِعوا حَيْراً ذُكِرْتُ به ... وإنْ ذُكِرْتُ بِشَرًّ عندَهُمْ أَذِنُوا وقوله: (الخفيف) أنت - طُولَ الحَيَاةِ - للرَّومِ غَارٍ ... فَمَتَى الوَعْدُ أنْ يكونَ القُفولُ لم يقل ابن جني في هذا البيت شيئا. وقال غيره: إذا جعله طول الحياة غازيا فلا قفول له إلا بالموت. فقوله: فمتى الوعد هاهنا ليس بحسن. وأقول: لو قال: أنْتَ غَارِ للرُّوم في كل وَقْتٍ ... سَائرٌ والمسِيرُ منكَ قُفُولُ لحسن اللفظ وسلم المعنى.

وقوله: (الطويل) مُحِبَّي قَيَامي ما لذلكمُ النَّصْلِ ... بَريئاً من الجَرْحَى سَليماً من القَتْلِ قال: معناه: يا من يحب مقامي وتركي الأسفار والمطالب، كيف أقيم ولم أجرح بمنصلي أعدائي ولم اقتلهم؟! قال الوحيد: ليس هذا أراد الرجل، ولو أراده لقال، بدل قيامي، مقامي والوزن واحد، ولكن قيامي هاهنا من قمت بالأمر ولذلك سمي القائم المنظر. يقول: يا من يحب نهوضي بالأمر، ما لكم لا تخرجون معي وتساعدونني حتى نجرح أعداءنا ونقتلهم؟ وقوله: (البسيط) هَا فانْظُري أوْ فَطُنَّي بي تَرَيْ حُرَقاً ... من لَمْ يذُقْ منها فَقَدْ وَأَلاَ قال: أي: إن لم تريني أهلا أن تنظري إلي ففكري في تري من أمري كيت وكيت.

وأقول: هذا ليس بشيء! وإنما يقول: تنبهي فانظري - من النظر الذي هو طلب الرؤية - أو فظني - من الظن الذي هو اليقين كقول دريد: (الطويل) فقلت لهم: ظُنُّوا بأَلْفيْ مُدَجَّجٍ. . . . . . . . . أي: أيقنوا. وتري: يحتمل أن يكون من رؤية العين، ويكون جواب فانظري: أي: فانظري تري. و (أن) يكون أيضا، جواب فظني. ويحتمل أن يكون من رؤية القلب، ويكون أيضا، جوابا لهما. يقول: تري حرقا عظيمة؛ (يعني: حرقه)؛ من لم يذق اليسير منها فقد نجا، والذي ذاق اليسير لم ينج، فكيف بمن ذاق العظيم منها؟! وهذه مبالغة عظيمة كما ترى. وقوله: (البسيط) كَمْ مَهْمَه قَذَفٍ قَلْبُ الدَّليلِ به ... قَلْبُ المُحِبَّ قَضَاني بعد ما مَطَلاَ قال: يريد شدة رعب سالكه.

وأقول: قد أخذ على أبي الطيب قوله: . . . . . . . . . قلبُ المُحِبَّ. . . . . . وقيل: كان ينبغي أن يقول: إذا كان على رقبة من واش، أو اتقاء من غائر ونحو ذلك. وأقول: هذا غير لازم، بل قلب المحب قلق على الإطلاق، فلا يحتاج إلى التقييد، وقوله: . . . . . . . . . . . . قَضَاني بعد ما مَطَلاض من قول أبي نواس: (البسيط) من للجذاع إذا المَيْدَانُ ما طَلَها ... بشَأوِ الغَايَاتِ قَد قَرَحَا وهما من قول كثير: (الطويل) قَضَى كلُّ ذي دَيْنٍ فَوَفَّى غَرِيمَهُ ... وعَزَّهُ مَمْطولٌ مُعَنَّى غَرِيمُها وقوله: (الكامل) أَحْبَبْتُ برَّكَ إذْ أَرَدْتُ رَحِيلاَ ... فَوَجَدْتُ أكثرَ ما وَجَدْتُ قليلا ورأَيْتُ أنك في المَكَارِم رَاغبٌ ... صَبٌّ إليها بُكْرَةً وأصيلا فَجَعَلْتُ ما تُهْدي إِليَّ هَدَّيةً ... منَّي إليكَ وظَرْفَها التَّأمِيلا بِرٌّ يَخِفُّ على يَديكَ قَبُولُهُ ... ويكونُ مَحْملُهُ عَليَّ ثَقِيلا

قال: هذا البيت يحتمل معنيين: أحدهما: أن يكون أهدى إليه شيئا كان أهداه إليه صديقه الممدوح؛ فيكون هذا استعمالا لما ركبه ابن الرومي في قوله: (الخفيف) أيُّ شيءٍ أُهْدي إليك وفي وَجْ ... هِكَ من كُلَّ ما تُهُوديَ مَعْنَى منك يا جّنَّةَ النَّعِيمِ الهَدايَا ... أفَأُزْجِي إليْكَ ما مِنْكَ يُجْنَى إلا أن المتنبي أخبر أنه أهدي إليه ذلك الشيء بعينه، وابن الرومي قال: كيف أهدي إليك ما من عادة مثله أن يهدى منك، فبينهما فصل لطيف، فهذا أحد المعنيين. والمعنى الآخر أن يكون أراد أني جعلت ما من عادتك أن تهديه إلي وتزودنيه وقت فراقك هدية مني إليك؛ أي: أسألك أن لا تتكلفه لي. والقول الأول أشد اتساقا وأظهر، والقول الثاني أقوى وألطف. وأقول: انظروا - هداكم الله - إلى إرسال عنانه في الضلال، وإقامته لصور المحال، وذكره لهذين الوجهين القبيحين اللذين لم يصدرا إلا عن قبح فهم، وخبط في ظلم الشك ورجم. وما العجب من تفسيره هذا وحده بل العجب من الجماعة الذين جاءوا بعده يقتصون في ذلك أثره، ويسلكون سبيله!

والمعنى أني أحببت برك إذ أردت الرحيل عنك، يخاطب الممدوح، فوجدت أكثر ما وجدت من المال، ومما يحسن أن يهدى قليلا بالإضافة إلى ما يصلح وما يكون على قدرك. ورأيت رغبتك في المكارم، فجعلت الذي تهديه إلي هدية مني إليك لأنك ترى وتعتد الذي تعطيه كأنك تعطاه، وهذا من قول زهير: (الطويل) . . . . . . . . . كأنك تُعْطِيِهِ الذي أنت سائِلُهْ وقد بَسَطتُهُ في مَوْضِعٍ آخر من هذا الكتاب بسطا تاما، وذكرت ما جاء من قوله مثلا له. وقوله: (الطويل) فَما وَرَدَتْ رُوحَ امْرِئ رُوحُهُ له ... ولا صَدَرَتْ عن بَاخِلٍ وهو بَاخِلُ قال: إذا وَرَدَت السُّيوفُ رُوحَ امرئ، كانت أملك بها منه وصار، إن كان باخلا، كأنه غير باخل؛ لأنها ق نالت منه ما بغت. وأقول: معنى قوله: فما وَرَدَتْ رُوحَ اْمرِئ روحُهُ له. . . . . . . . . أي: إن السيوف إذا وردت روح امرئ غلبت عليها؛ أي: أخذتها. وقوله:

. . . ولا صَدَرتْ عن بَاخِلٍ وهو بَاخِلُ أي: لأنها تخرجه عن صفة البخل بخروجه عن صفة الحياة والموت، لأنه إنما يوصف بالبخل من يوصف بالحياة فصفة الحياة مصححة لصفة البخل، فإذا مات خرج عن الصفتين. وقوله: (الطويل) رأيتَ ابنَ أمَّ المَوْتِ لو أن بأسه ... فَشَا بَيْنَ أهْل الأرْضِ لا نَقَطَعَ النَّسْلُ قال: أي: لأن الناس كان يفتل بعضهم بعضا. وأقول: هذا ليس بشيء! وإنما أراد المبالغة في وصف شجاعته. يقول: هو يخفي من بأسه بقيا على الناس من خوفه، لئلا ينقطع النسل (بإفشائه) وانقطاعه، إما بأن يكون بإسقاط قواهم عن الجماع لشدة الخوف، وإما بإهلاكهم، وهو أبلغ من الأول. وقوله: (الخفيف) وله في جَماجِمِ المالِ ضَرْبٌ ... وقعُهُ في جَماجِمِ الأَبْطَالِ

قال: أي يهب المال فيقتدر بذلك على رؤوس الأبطال. فيقال له: هذه عبارة غير مرضية، والمعنى ما ذكرته في شرح الواحدي. وقوله: (الرجز) فحَلَّ كَلاَّبي وَثَاقَ الأحْبُلِ قال: وثاق، جمع وثيق، مثل: طويل وطوال. فأما الوثاق فمصدر، وقد تكسر الواو. فيقال له: الكلب المعلم لا يحتاج إلى الأحبل الوثيقة، ويكفيه حبل واحد، فلا يكون وثاق الأحبل جمعا، كما زعمت، ولا مصدرا؛ لأنه في معنى الجمع لإضافته إليه؛ بل الوثاق، ما يشد به كالعقال والزمام؛ واحد (لا جمع) وإضافة إلى الأحبل. فإن قال: فقد قال فيما بعد: (الرجز) عن أشْدَقٍ مُسَوْجَرٍ مُسَلْسَلِ

وهذا يدل على صعوبة الكلب فيقال: يكفي مع السلسلة والساجور - وهو عصا تجعل في عنق الكلب - حبل واحد فلا حاجة إلى الزيادة على ذلك. وقوله: (الرجز) آثارُهَا أمثَالُهَا في الجَنْدَلِ قال: هذا من إغراقاته التي ذكرت؛ لأنه لم يوصف كلب قط بمثل هذا من ثقل الوطء، وإنما جاء هذا عنهم في آثار الخيل والإبل، قال أبو النجم: (الرجز) يُغادرُ الصَّمْدَ كظَهْرِ الأجْزَلِ (فيقال له: لم يرد ثقل الوطء كما ذكرت، بل خشونة القوائم. وقولك: وإنما جاء هذا (عنهم) في آثار الخيل والإبل غير صحيح، بل إنما جاء صفة لحوافرهن وخفافهن بالصلابة لا بثقل الوطء). وليس من الإغراقات وصفه بثقل الوطء، بل بالسرعة والخفة حتى إنه يوصف بالطيران كقول أبي نواس: (الرجز) يَكادُ عندَ ثَمَلِ المِرَاحِ ... يَطِيرُ في الجَّو بلا جَنَاحِ

وإذا وصف بذلك، لم يكن له أثر في الأرض البتة، كقوله في صفة براثنه: (الرجز) ينشطُ أُذْنَيْهِ بهنَّ نَشْطَا فَمَا يَقَعْنَ إِلاَّ فَرْطَا أي: إلا بعد حين. يقول: كأنه يطير كقول كعب: (البسيط) . . . . . . . . . وقعُهُنَّ الأرْضَ تَحْلِيلُ وقوله: (الرجز) ذِي ذَنَبٍ أجْرَدَ غَيْرِ أَعْزَلِ يَخُطُّ في الأَرْضِ حِسَابَ الجُمَّلِ كأَنَّهُ من جِسمِهِ بِمَعْزِلِ قال: هو من سرعته وحدته يكاد يترك جسمه ويتميز عنه، وقد لاذ فيه بقول ذي الرمة إلا أنه تجاوزه: (البسيط) لا يَذْخَرانِ من الإيغَالِ باقيةً ... حتى تكادَ تَفَرَّى عنهُما الأهُبُ

وقول أبي نواس: (الرجز) تراهُ في الحُضْرِ إذا هَاهَا بِهِ يَكَادُ أنْ يَخْرُجَ من إهابِهِ فهذا ذكر الجلد، وهو ذكر جميع الجسم. فيقال له: ليس الضمير في قوله كأنه راجعا إلى الكلب حتى تفسره هذا التفسير، وتقرنه بذلك النظير، وإنما الضمير راجع إلى الذنب، والذي يدل عليه ما قبله وما بعده، وإنما أنت في كثرة الكلام وقلة الصواب كقولهم في المثل: أسمع جعجعة ولا أرى طحنا. وقد غلط، أيضا، في البيت الذي يليه وهو قوله: (الرجز) لو كانَ يُبْلي لسَّوْطَ تَحْرِيكٌ بَلِي فجعله صفة للكلب ففسره بقوله: أي: هو كالسوط في الصلابة والجذل فلا يؤثر في السوط التحريك. وإنما هو صفة للذنب. وقوله: (المنسرح) كأنَّما قَدُّهَا إذَا انْفَتَلَت ... سَكْرانُ من خَمْرِ طَرْفِها ثَمِلُ

قال: أي: يتثنى قدها كأنه نشوان لأنه نظر إلى طرفها فسكر. وأقول: قوله: لأنه نظر إلى طرفها فسطر كلام واهن القوى، واهي العرا، وإنما ينبغي أن يقال: وصفها بشيئين؛ بحسن القد، وحسن الطرف، فجعل قدها، لتثنيه، كأنه ثمل، وطرفها، لإزالته العقل، كأن فيه خمرا شرب (منه) قدها فمال سكرا، وهذا مذهب غريب، وطريق عجيب، أرى أن يكون من صناعة البديع، وينضم إلى التكميل وذلك أنه كمل الوصف بأن جعل المشبه والمشبه به كليهما منها. أو يزاد في صنعة البديع ويسمى التوشيع. وهذا مثل قوله في خلعة خلعها عليه سيف الدولة: (الكامل) فكأنَّ صِحَّةَ نَسْجِهَا من لَفْظِهِ ... وكأنَّ حُسْنَ نَقَائِها من عِرضِهِ وقد جاء مثل هذا لبعض أهل العصر في بعضه: (الكامل) حَسُنَتْ لنا أخْلاَقُهُ فكأنَّهَا ... من ذِكْرِهِ في النَّاسِ أو أشْعَارِهِ وقوله: (المنسرح) يَجْذِبُهَا تَحْتَ خَصْرْهَا عَجُزٌ ... كأنَّه من فِراقِهَا وَجِلُ قال: وهذا البيت نسيب الأول، ولقد أحسن فيهما وعذب لفظه. يقول: كأن عجزها وجل من فراقها، فهو متساقط متحرك قد ذهبت منته وتماسكه.

وأقول: هذه عبارة واهية قد ذهبت منتها وتماسكها! ومعنى قوله: . . . . . . . . . كأنَّهُ من فِراقِهَا وَجِلُ قيل فيه: إن العجز لما كان مرتجا مضطربا شبه بإنسان عاشق لها خائف من فراقها فهو يضطرب لذلك؛ يريد ارتجاجه. والذي عندي في هذا، أن الوجل العجز نفسه على وجه المجاز والاستعارة. وذلك أنه لما كان خصرها (خفيفا) دقيقا نحيلا، وعجزها ثقيلا نبيلا، وهو يجذبها إذا أرادت القيام، فكأنه خاف أن ينفصل منها فوجل لذلك فاضطرب بارتجاجه. وقوله: (المنسرح) جَرْدَاَء مِلءْ الحِزَامِ مُجْفَرَةٍ ... تَكونُ مِثْلَيْ عَسِيِبهَا الخُصَلُ قد أخذ على أبي الطيب قوله: . . . مِلءِ الحِزَامِ مُجْفَرةٍ. . . . . . . . . وقيل: مجفرة في معنى: ملء الحزام، فالصفتان شيء واحد فلو اجتزأ بإحداهما وجاء بصفة تخالف الأخرى لكان أحسن له.

وأقول: لو قال: . . . مِلءْ الحزَامِ ضامرةً. . . . . . . . . نصبا على الحال، أي: في حال ضمرها ودقتها تكون ملء الحزام، لزاد المعنى زيادة ظاهرة حسنة. وقوله: ملء الحزام من قول أبي نواس: (الكامل) . . . . . . . . . مِلْءِ الحَبَالِ كأنَّهَا قَصْرُ وقوله: (الوافر) وكان مَسيرُ عِيسهِمُ ذَميلاً ... وسَيْرُ الدَّمعِ إثرَهُمُ انهِمَالا قال: أي سبقت دموعي عيسهم وجاوزت حدها. وأقول: لم يرد أبو الطيب أن عيسهم سارت وسارت دموعي تسابقها في السير فسبقتها، ولو أراد ذلك لكان - لعمري - معنى سائغا بالغا، ولعله أراده! والظاهر أنه

وصف عيسهم بالجد في السير، ووصف نفسه بالجد في البكاء، وأن جده في ذلك أكثر من جدهم. وجعل صفة الانهمال في الانحدار أوفى من صفة الذميل في السير. وقوله: (الوافر) وضفَّرْنَ الغَدَائِرَ لا لِحُسْنٍ ... ولكِنْ خِفْنَ في الشَّعَرِ الضَّلالاَ قال: الغدائر: الذوائب. قال امرؤ القيس: (الطويل) . . . . . . . . . تَضِلّ العِقَاصُ في مُثَنى ومُرْسَلِ فجعل أن العقاص تضل في الشعر، وهذا جعلهن يضللن فيه، فزاد على ذكر العقاص. وقيل: هو المدرى. وأقول: إن الضلال يحتمل معنيين: أحدهما: أن يكون الضلال الغيبة من قوله تعالى: (أئذا ضللنا في الأرض) أي: غبنا. والآخر: أن يكون ضد الهداية، وهو الحيرة. والبيت يحتمل المعنيين، فإن أريد به الغيبة عني به الكثرة؛ يريد: فخفن أن يغبن في

شعورهن لكثرتها. ولو أريد به الحيرة عني به شدة السواد وتشبيهه باليل؛ يريد: فخفن أن يحرن فيه لشدة سواده. وبيت امرئ القيس فيه الوجهان كالأول، (والغيبة فيه أولى.) وقوله: (الوافر) سِنَانٌ في قَنَاةِ بني مَعَدًّ ... بَني أَسَد إذا دَعَوُا النَّزَالاَ قال: بني أسد منصوب لأنه منادى مضاف، ومعناه: أن قول بني معد إذا نازلوا الأعداء: يا بني أسد يقوم في الغناء والدفع مقام سنان مركب في قناتهم؛ لأنهم إذا دعوهم أغنوا عنهم. (وأقول:) قال الواحدي: هذا تكلف وتمحل كلام من لم يعرف وجه المعنى! والمتنبي يقول: الممدوح سنان في قناة العرب الذين هم بنو معد، ثم خصص فأبدل من بني اسد، فكأنه قال: سنان في قناة بني أسد عند الحرب إذ أسد من ولد معد؛ فلهذا جاز إبدالهم من بني معد لاشتمالهم عليهم.

وقوله: (الكامل) يَعْلَمْنَ ذاكَ ومَا عَلِمْتِ وإِنَّما ... أولاكُمَا يِبُكى عليه العَاقِلُ قال: أي: منازل الحزن بقلبي تعلم ما يمر بها من ألم الهوى، وانتن تجهلن ذلك. وأقول: هذا القول ليس بشيء! والمعنى: أن منازل الهوى في الفؤاد، اللاتي هن منازل لمنازل الأحبة يعلمن ما تجهله منازلهن من أن لهن في الفؤاد منازل، وأنهن مقفرات من الأحبة، و (أن) منازل الفؤاد منهن أواهل. (وقوله: ذاك إشارة إلى المنازل في البيت قبله وهذا تفسيره) وقوله: (الكامل) لو لَمْ يَخَفْ لَجَبَ الوُفُودِ حَوالَهُ ... لسَرَى إليه قَطَا الفَلاةِ النَّاهِلُ

قال: يراه القطا ماء معينا فيهم بوروده، ويشفقن من لجب وفوده. (وأقول:) وقال الواحدي: إنه لعموم نفعه تهم الطير بالوفود عليه لتنفع غلتها، ليس أنه ماء يشرب، أو تراه الطير ماء كما ذكر (الشيخان). وقوله: (الكامل) يَدْري بما بكَ قبلَ تُظْهِرُهُ له ... من ذِهْنِهِ ويجيبُ قَبْلَ تُسَائِلُ قد قيل في هذا البيت إن صدره فيه لين وضعف وعجزه رديء فاسد، وذلك أن المجيب قبل السؤال منسوب إلى الخفة والعجلة. ويقال أيضا: إن الجواب لا يكون إلا بعد السؤال، فقوله: . . . . . . . . . ويجيبُ قبلَ تُسَائِلُ خطأ، وإنما ينبغي أن يقول: ويخبرك بأمرك قبل تسائله. وكأنه أقام يجيب مقام يخبر وهو ضعيف. وقد كرر هذا المعنى في مواضع من شعره، هذا أضعفها، منها

قوله: (الطويل) ذَكيٌّ تَظَنَّيهِ عَيْنِهِ ... يَرَى قلبُهُ في يَوْمِهِ ما تَرَى غَدَا وقوله: (الكامل) مُسْتَنْبَطٌ من عِلْمِهِ ما في غَدٍ ... فكأنَّ ما سيكونُ فيهِ دوَّنَا وهذا معنى متداول بين الشعراء، وأظن أن السابق إليه أوس في قوله: (المنسرح) الأَلَمعِيُّ الذي يَظُنُّ لك الظَّ ... نَّ كأنْ رَأَىَ وقد سَمِعَا وقوله: (الكامل) لو طَابَ مَوْلِدُ كلَّ حيًّ مثلَهُ ... وَلَدَ النَّسَاءُ ومالهُنَّ قَوابِلُ قال: أي: لم يحتجن إلى من يشارفهن ويشاهد المستور من أحوالهن وقت الولادة. وقد قيل في هذا البيت: هذا كلام فحواه أن طيب المولد هو سهولة الولادة، وكم من سهل الولادة بطيب المولد، فلا يتعلق العجز بمعنى الصدر. فيقال لقائل ذلك: فما تعني أنت بطيب المولد؟ فإن قال: الكرم والنجابة وحسن الأخلاق وطيب الأعراق، حسن أن يضاف إلى ذلك أيضا سهولة الولادة، وطهارة الوالدة والولد والمكان، وترك الاستعداد إلى ما تحتاج إليه القوابل في أمر النسوان كما

يُحكى عن فاطمة بنت أسد - رحمها الله - حين أخذها الطلق أن أبا طالب أعلم النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - بأمرها فأدخلها الكعبة فولدت فيها عليا - عليه السلام - ولم تر دما! وقوله: (الكامل) وإذَا أتَتْكَ مَذَمَّتي من نَاقِصٍ ... فَهْيَ الشَّهَادَةُ لي بأني فَاضِلُ قد أخذ على أبي طيب في هذا البيت بأن الناقص يذم الفاضل وغير الفاضل لسوء فهمه وقلة تمييزه، فإذا ذمه فلا يدل على أنه فاضل. (وأقول:) وهذا ليس بشيء! وذلك أن الناقص إنما يذم الفاضل لفضله حسدا له عليه، لنقصه، فالناقص لا يذمه لأنه لا يحسده، أو للمناسبة التي بينهما - وهذا المعنى من قول أبي تمام: (الطويل)

لقد آسَفَ الأعداَء مَجْدُ ابن يوسُفٍ ... وَذو النَّقْصِ في الدُّنيا بذي الفَضْلِ مولِعُ أو كلاهما من قول مروان بن أبي حفصة: (الكامل) ما ضَرَّني حَسَدُ اللئامِ وَلَمْ يَزَلْ ... ذو الفَضْلِ يَحْسِدُهُ ذوو التَّقْصيرِ وقوله: (الكامل) مَنْ لي بِفَهْمِ أُهَيْلِ عَصْرٍ يَدَّعي ... أنْ يَحْسُبَ الهِنديَّ فيهم باقِلُ (أقول:) قد ذكرت في غيره من الشروح ما ذكر من اخذه عليه في هذا، والجواب عنه، لأن غيره أخذه منه. وقوله: (الطويل) وإسْحَاقُ مَأمُونٌ على مَنْ أَهَانَهُ ... ولكِنْ تَسَلَّى بالبكاءِ قَلِيلاَ قال: يأمنه من أهانه لسقوط نفسه. ولو قال ها هنا: تجمل بالبكاء لكان أشبه. وقيل له: ليس في البكاء هنا جمال، إنما هو ضعف ووهن، ولكن تسلى

أوقع كما قال الرجل. وأقول: إنما قال: تسلى بالبكاء وذلك أنه إذا أهين حزن، وكئب، واهتم لذلك، فالأبي ذو الأنفة والنفس العزيزة يكون تسلية من ذلك بالانتقام ممن قصد هوانه. والدنيء الذليل الضعيف يكون تسليه بالبكاء يستروح به كالنساء، ليس لهن تسل بغيره، فهو مأمون على من أهانه. وقوله: (المنسرح) أنَا مَنْ بَعْضُهُ يَفُوق أبا البَا ... حِثِ، والنَّجْلُ بَعْضُ من نَجَلَهْ قال: معناه: أنا أفوق أبا من يبحث عني، إلا أن صنعة الشعر قادته إلى هذا النظم وليس لضرورة. فيقال له: ليس فيه ضرورة - كما تقول - ولكن فيه زيادة لا تعلمها! وهي في قوله: . . . . . . . . . . . . والنَّجْلُ بعضُ من نَجَلَه يقول: أنا بعض أبي، والباحث بعض أبيه، فبعض أبي - وهو أنا - يفوق كل الباحث وهو أبوه! وهذه قضية عقلية من مقدمتين ونتيجة: فالمقدمة الأولى: أن الكل أفضل من البعض. والثانية: أن الإنسان بعض أبيه.

والنتيجة: أنه إذا فضل شيء الكل وجب أن يفضل البعض. فعلى هذا إذا فضلت أبا الباحث وجب أن أفضل الباحث لأنه بعضه، ووجب أن يفضله ويفضل أباه أبي لأنني أنا فضلتهما وأنا بعضه، فما ظنك بالكل! وقوله: (البسيط) إِذَا العِدَا نَشِبَتْ فيهم مَخَالِبُهُ ... لم يَجْتَمِعْ لَهُمُ حِلْمٌ ورِئبَالُ قال: كأن في هذا البيت ضربا من الاعتذار لعدوه الملقبه بالمجنون مع الهزء به؛ لأنه يرى من إقدامه وتعجرفه في الحرب، ورميه بنفسه في المهالك، وما يبعده عن الحلم عنده فلذلك لقبه مجنونا. فيقال له: بل في هذا البيت ضرب من الاعتذار إلى عدوه لفتكه بهم، وقتله لهم، وترك إبقائه عليهم، وعدم حلمه عنهم بجعله أسدا، والأسد ليس عنده ذلك، فهذا عذر له إليهم، لا عذر لهم إليه. وفيه أيضا إشارة إلى تلقيبه بالمجنون؛ لكونه على صفات الأسد الذي ليس له عند الفرس، تثبت ولا تأمل ولا إبقاء.

وقوله: (الطويل) فَوَلَّتْ تُرِيغُ الغَيْثَ والغَيْثَ خَلَّفَنْ ... وتَطلُبُ ما قَدْ كان في اليدِ بالرَّجْلِ قال: لو ظفرت بالكوفة، وما قصدت له لوصلت إلى منازل الغيث باليد. فيقال له ولغيره ممن فسر هذا البيت: أطلت الحز ولم تصب المفصل! فدع ما قلت لغوا، وخذه من المآخذ على الواحدي عفوا! وقوله: (الكامل) لو أنَّ فَنَّا خُسْرَ صَبَّحَكُمْ ... وَبَرَزْتِ وَحْدِك عاقَهُ الغَزَلُ

قال: ما أحسن ما كنى عن الانهزام بقوله: . . . . . . . . . . . . عاقَهُ الغَزَلُ فيقال له: أطو ثوب هذا البيت على غره، فلست بأبي عذره، وأطلع من مأخذ (ي) على التبريزي على غامض سره! وقوله: (الرجز) لَوْ جَذَبَ الزَّرَّادُ من أّذْيَالي مُخَيَّراً لي صَنْعَتَيْ سِرْبَالِ ما سُمْتُهُ سَرْدَ سِوَى سِرْوَالِ قال: لو عرض علي الزراد صنعتين من الدروع مخيرا لي بينهما لما طلبت منه إلا أن يصنع لي سراويل من حديد تحصن بها عورتي، ولا أبالي بعد ذلك بانحسار سائر جسدي. وهذا، في أنه أراد تحصين بعض جسده دون بعض، يشبه ما يحكى في الخبر من أن درع أمير المؤمنين - عليه السلام - كانت صدرا بلا ظهر، لأنه لم يول قط،

إلا أنه أخفى الأخذ بنقله التحصين من عضو إلى عضو آخر، وهذا من عاداته. ولفظ المتنبي أشد مبالغة من لفظ الخبر؛ إلا أن الخبر حق وهذه دعوى منه. فيقال له وللمتنبي: ما الحاجة إلى هذه السراويل من حديد؟ إن كانت لأجل التحصين من الفحشاء فالتحصن بدرع العفاف بغني عنها وأوفى منها، وإن كان لحفظ العورة وسترها من الانكشاف، وعورة الرجل دبره، فلا يول الدبر ولا يحتج إلى ستر العورة خوف الانكشاف، وليفعل كفعل علي - عليه أفضل الصلاة والسلام - ما لا فائدة فيه ولا عائدة له. وقوله: (الرجز) وُلِدْنَ تَحْتَ أَثْقَلِ الأَحَمَالِ قال: يعني بأثقل الأحمال: الجبال. وقيل له: (كيف) تكون الجبال فتولد تحتها، وهي بالضد من ذلك تولد في أعاليها؟ وإنما أراد بأثقل الأحمال: القرون، وهي وإن لم تكن في حال الولادة موجودة؛ فإنها ستوجد فيما بعد لا محالة، فكأنها موجودة، والبيت الذي بعده: قَدْ مَنَعَتْهُنَّ مِنَ التَّفَالي يدل على أنها القرون.

وقوله: (الرجز) لهَا لِحى سُودٌ بلا سِبالِ قال: أراد بسبال أسبلة، فوضع الواحد موضع الجمع كما قال الشماخ: (الطويل) أَتَتْنِي سُلَيْمٌ قَضُّهَا بِقضِيضِهَا ... تُمَسَّحُ بالبَقِيع سِبَالَهَا فيقال له: بل السبال جمع سبلة، مثل أكمة وإكام، وهو ما انسبل من شعر الشارب في اللحية. هذا قول ابن دريد. وقال: إن السبال طرف اللحية، وهو الذي قصده ابن جني؛ واحد في موضع الجمع، والأول أولى؛ لأنه جمع على الحقيقة. وقوله: (الرجز) وقد بَلَغْتَ غايةَ الآمَال

فَلَمْ تَدَعْ مَنها سِوى المُحالِ في لا مَكانٍ عِنْدَ لا مَحالِ قال: أرجو له - عفا الله عنه - أن لا يكون أراد بهذا القول، الغمز على أهل التوحيد، أن ما لم يحوه مكان، ولم يصر إليه مثال فهو محال. وهذا محال لأن الله تقدست أسماؤه، وجل ثناؤه لا يحويه مكان، ولا يُدرَك وهو حق الحق. فيقال له: قوله: وقد بَلَغْتَ غَايَةَ الآمالِ يعني: من أفعالك وأمور دنياك، ينفي عنه ذلك التوهم الفاسد، وذلك أن هذه الأشياء ما لم تكن منها في مكان وله مثال يمثله الخاطر أو يراه الناظر، فهو محال لا محالة. فعلى هذا لا يكون قد أراد ما توهمه من أنه غمز على أهل التوحيد في إثبات ذات الباري على هذه الصفة، لأنه - سبحانه - ليس مما يبلغ بالآمال ويدرك بالأفعال. وقوله: (الطويل) وفَاؤكُمَا كالرَّبْعِ أشْجَاهُ طاسِمهْ ... بأنْ تُسْعِدا والدَّمْعُ أَشْفَاهُ سَاجُمهْ

قال: معنى البيت: كنت أبكي الربع وحده، فصرت أبكي وفاءكما معه. وأقول: هذا ليس بشيء! والمعنى: أنه يخاطب صاحبيه؛ يقول: وفاؤكما بأن تسعدا بالدمع كالربع؛ أي: ينبغي أن يكون الإسعاد بالبكاء علي وفق الربع في حال أشجاه للمحب (طاسمه)، وفي حال أشفى الدمع للمحب ساجمه. وكأن في هذا إشارة إلى أن صاحبيه لم يفيا له بالإسعاد، وأنهما قصرا معه في البكاء فلهذا قال، فيما بعد: (الطويل) وقَدْ يَتَزَيَّا بالهَوَى غَيْرُ أَهْلِهِ ... ويَسْتَصْحِبُ الإنسَانُ من لا يُلائِمُهُ يقول: هذان الصاحبان اللذان سمتهما الإسعاد بالبكاء، متصنعين بالهوى متكلفين له، غير ملائمين لي ولا موافقين لطباعي، فهذا المعنى الذي يقتضيه اللفظ وتدل عليه القرائن ويتبين به الإعراب. وقوله: (الطويل) بَلِيتُ بِلَى الأطْلاَلِ إنْ لم أقف بها ... وقُوفَ شَحيحٍ ضَاعَ في التُّرْبِ خَاتِمُهُ قال: وقد ذهبوا إلى نقصان هذا البيت؛ فإن وقوف الشحيح على طلب خاتمه ليس مما يتناهى في ضرب المثل به. وأجاب عنه بأن هذا شبيه بقوله تعالى: (مثل نوره كمشكاة فيها مصباح) ثم قال: وليت شعري! هل يبلغ من ضوء الكوة التي فيها مصباح إلى أن تفيء بنور الله؟! ولكن العرب كما تبالغ في وصف الشيء، وتتجاوز

الحد، فقد تقصد أيضا وتستعمل المقاربة، واستشهد على بيت أبي الطيب في إضلال الخاتم والحيرة بسببه بقول الراجز: فَهُنَّ حَيْرَى كمُضِلاَّتِ الخَدَمْ فيقال له: ليس فيما ذكرت من الآية اقتصار ومقاربة، بل إغراق ومبالغة! وذلك أن المشكاة، وإن كانت في اللغة الكوة التي فيها مصباح، كما ذكرت، فالمراد بها هنا فاطمة الزهراء - عليها السلام - لما ذكره المفسرون ونقله المحدثون، منهم أبو الحسن علي بن محمد المعروف بابن المغازلي الواسطي يرفعه إلى الحسن - عليه السلام - وهي من رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وهو السراج المنير لقوله تعالى: (وسراجا منيرا) والسراج هاهنا المراد به الشمس لقوله تعالى: (و (جعل) الشمس سراجا). فلا نور أضوأ من هذا النور، فضرب الله مثلا لنوره في الهداية والبيان (بهذه المشكاة): التي هي فاطمة، والمصباح الحسن والحسين، و (الزجاجة كأنها كوكب دري) قال: كانت فاطمة - عليها السلام - كوكبا دريا من نساء العالمين: (يوقد من شجرة مباركة): إبراهيم عليه السلام. (لا شرقية ولا غربية): لا يهودية ولا نصرانية. (يكاد زيتها يضيء): قال: يكاد العلم ينطق منها.

(ولو لم تمسه نار نور على نور): قال: منها إمام بعد إمام. (يهدي الله لنوره من يشاء): قال: يهدي الله لولايتها من يشاء. وأما البيت الذي استشهد به على ضياع الخاتم والحيرة بسببه، فقد حرفه وبدله، أو نسيه وجهله، لأن الشيخ أبا العلاء أنشده في تفسيره للديوان. إِذَا قَطَعْنَ عَلَماً بَدَا عَلَمْ يَبْحَثْنَ بَحْثاً كمُضِلاَّتِ الخَدَمْ حَتَّى يُوَافِينَ بنَا إلى حَكَمْ وقد ذكرت تفسيره في المآخذ عليه. وقوله: (الطويل) قِفي تَغْرَمِ الأولَى من اللَّحظِ مُهْجَتي ... بثانَيةٍ، والمُتلِفُ الشَّيَْ غارِمِهْ

قال: سألته في وقت القراءة عليه، قلت: الأولى هي الفاعلة؟ قال: نعم. يريد أنه نظر إليها نظرة فأقلقت النظرة مهجته، فأراد أن يلحظها لحظة أخرى لترجع إليه نفسه فجعل الأولى، في الحقيقة، كأنها هي الغارمة لأنها كانت سبب التلف. فيقال له: فما يؤمنه أن تكون النظرة الثانية مالأولى، فلا يحصل الغرم بالإحياء بل يتضاعف تلف الحوباء! والجواب: أن النظرة الأولى هي في وقت الفراق، وظنه أنه للقلى والملال، فإذا وقفت عليه، فالنظرة الثانية للإحسان إليه؛ لأن التوقف يوجب التعطف، فلهذا جعل النظرة الأولى مميتة، والثانية محيية. وقوله: (الطويل) سَقَاكِ وَحيَّانَا بِكِ اللهُ إنَّما ... عَلَى العِيسِ نَوْرٌ والخُدورُ كَمَائِمُهْ قال: قوله: سَقَاكِ وحَيَّانَا بِكِ اللَّهُ. . . كلام في غاية العذوبة وحسن الطريقة، فأخذه السري بن احمد وأنشدني لنفسه في قصيدة يمدح بها أبا الفوارس بن فهد: (المنسرح) حَيَا بهِ اللهُ عاشِقِيْهِ فَقَدْ ... أَصْبَحَ رَيْحَانة لِمَن عَشِقَا

فيقال له: هذا استحسان للكلام كما زعمت، فهلا استحسنت المعنى بشرحك له وإبدائك عنه؟ فإنه أحسن من اللفظ؛ وهو أنه لما جعل هؤلاء النساء نورا، دعا لهن بالسقيا؛ لأن الماء نضرة النور، ودعا لنفسه بأن يحيا بهن؛ لأن ذلك من شأن النوار والأزهار. وقوله: (الطويل) إذَا ظَفِرَتْ منكِ العُيونُ بِنَظْرَةٍ ... أثابَ بِها مُعْيِي المطيّ ورازِمُهُ قال - بعد تفسير غريبه -: والمعنى أن الإبل الرازمة إذا نظرت إليك عاشت أنفسها، فكيف بنا نحن؟! وأقول: هذا ليس بشيء! والمعنى ما ذكرته آخرا في مآخذ شرح الكندي. وقوله: (الطويل) وتكملَةُ العَيْشِ الصَّبَا وعَقيبُهُ ... وغائبُ لَوْنِ العَارِضَيْنِ وقَادِمُهْ قال: قال المتنبي: أردت بعقيبه الشيب. وأقل: هذا غير صحيح بل تكملة العيش هو الصبا أولا، ثم ما يعقبه من بلوغ الأشد حين يكون يافعا مترعرعا، ثم غائب لون العارضين وهو لون البشرة

(قبل) أن يغيب بسواد الشعر بياضه، ثم قادمه وهو الشعر الأسود. فالشيب والهرم ليسا من تكملة العيش وتمامه، بل من نقصه. ويجوز أن يكون غائب لون العارضين وقادمه شيئا واحدا وهو الشعر الأسود فيقال: غائب: لأنه لم يبد؛ يعني في حال كونه أمرد، وقادم: بظهوره في حال كونه ملتحيا. وقوله: (الطويل) لقَدْ مَلَّ ضَوْءُ الصُّبْحِ ممَّا تُغِيرُهُ ... ومَلَّ سَوادُ اللَّيْل ممَّا تُزَاحِمُهْ قال: أراد: تغير فيه، فحذف حرف الجر وأوصل الفعل بنفسه، وأنشد: (الرجز) في سَاعَةٍ يُحَبُّهَا الطَّعَامُ وأقول: إن تغيره هاهنا من الغيرة لا من الغارة، ولا يحمل على الضرورة؛ يعني تغيره بكون الحديد يصحبك طالعا معك في حروبك.

وقوله: (الخفيف) نَحْنُ مَنْ ضَايَقَ الزَّمَانُ له فِي ... كَ وخَانَتْهُ قُرْبَكَ الأيَّامُ قال: قال لي - يعني المتنبي -: أردت ضايقه، فزدت اللام. واستشهد ابن جني على ذلك بقوله تعالى: (ردف لكم) وبأبيات قليلة. وأقول: لو قال: نحن من ضايقته فيك لياليه، أو قال: فيك الليالي وأفاتته قربك الأيام، أو: وحمته دنوك، أو: ورمته ببعدك لكان أحسن. وهذا فيه مقابلة الأيام بالليالي، وهي صناعة وحسن براعة! وقوله: (البسيط) بأيَّ لَفْظٍ يَقٌولٌ الشَّعْرَ زِعْنِفَةٌ ... يَجُوزُ عندكَ لا عُرْبٌ ولا عجمُ قال: قوله: لا عرب ولا عجم أي: ليست لهم فصاحة العرب، ولا تسليم العجم الفصاحة للعرب، فليسوا شيئا.

فيقال له: بل هذا التفسير ليس شيئا! ومعنى قوله: لا عرب ولا عجم إنما أراد بنفيهم عن ذلك تحقيرهم ودناءتهم بجهل أنسابهم، وأنهم غير معروفين فهم بمنزلة الأدعياء والعبيد. وقوله: (الطويل) وقد حَاكَمُوهَا والمَنايَا حَوَاكِمٌ ... فَمَا مَاتَ مَظْلُومٌ ولا عاش ظالِمُ قال: أي لما ظلموا، وعتوا بقصدهم هدمها، أهلكهم سيف الدولة، وسلم أصحابه. وأقول: قوله: وسلم أصحابه ليس بشيء! ولو قال: وسلمت هي؛ يعني الحدث، لكان صوابا، وذلك أن المحاكمة كانت بينهم وبين الحدث، وهم ظالموها بقصدهم هدمها، وليس لهم ذلك وهي مظلمومة بذلك؛ فما مات مظلوم: يعني الحدث، ولا عاش ظالم: يعني الروم. وقوله: (الطويل) بِضَرْبٍ أَتَى الهَامَاتِ والنَّصْرُ غائِبٌ ... وصَارَ إلى اللَّباتِ والنَّصْرُ قَادِمُ

قال: يقول: إذا ضربت عدوك فحصل سيفك في رأسه، لم تعتد ذلك نصرا ولا ظفرا، فإذا فلق السيف رأسه، فصار إلى لبته، فحينئذ يكون ذلك عندك ظفرا ولا يرضيك ما دونه. وأقول: إن هذا البيت فيه معنى شريف لم يطلع عليه أحد من شراح الديوان، وقد خبطوا فيه خبطا كثيرا، والصحيح ما ذكرته في شرح التبريزي. وقوله: (الطويل) حَقَرْتَ الرُّدَيْنياتِ حَتَّى طَرَحْتَهَا ... وحَتَّى كَنَّ السَّيْفَ للُّرْمحِ شَاتِمُ قال: أي: كأن السيف يعيب الرمح ويزوي به، فلم يلتفت إلى الرمح؛ لأن صاحب السيف أبلغ ما يطلب النجاح به. وأقول: قوله: . . . . . . . . . كأنَّ السيفَ للرُّمْحِ شَاتِمُ أي: لما كان السيف أشد غناء في الحرب من الرمح، وأكثر مضايقة، وحامله أشجع من حامل الرمح، كان كأنه شاتمه، وشتمه له أن يقول (بلسان الحال): يا جبان! أنت لا تنال من عدو حاملك إلا على بعد، ولست مثلي في القرب والفعال!

وقوله: (الطويل) تَدوسُ بك الخَيْلُ الوكُورَ عَلَى الذُّرَا ... وقد كَثْرَتْ حَوْلَ الوُكورِ المَطَاعِمُ قال: يقول: إذا اخذوا عليك دربا، صعدت إليهم إلى رؤوس الجبال، فقتلتهم هناك، فلذلك تكثر المطاعم حوا الوكور. وأقول: إن قوله: إذا أخذوا عليك دربا ليس بشيء، وإنما يقول: إذا تحصنوا منك بالجبال، لم تحتم على خيلك، وإن كانوا في أعلاها عند وكور العقبان، فقتلتهم هناك وصاروا طعاما لهن، وقرى عند بيوتهن. وقوله: (الكامل) وذراعُ كُلَّ أبي فُلاَنٍ كُنْيَةً ... حَالَتْ فَصَاحِبُهَا أبو الأيْتَامِ قال: يسأل عن هذا فيقال: إن الاسم الذي يقع بعد كل إذا كان واحدا في معنى جمع فلا يكون إلا نكرة، نحو قولك: كل رجل في الدار، فلست تعني به رجلا واحدا. ولا يجوز أن تقول: ضربت كل عبد الله، وأنت تريد ما تريد برجل، فكيف جاز له أن يقول كل أبي فلان وهو يعني جماعة هذه أحوالهم، وفلان معرفة فيكون

أبي معرفة لإضافته إليه؟ والجواب أنه اضطر إلى (ترك) الفصل بينه وبينه؛ كأنه قال: إن لفلان؛ أي: كل إنسان يقال له أبو فلان، كما يقال: (رب) واحد أمه لقيته، ورب عبد بطنه ضربت، فافهمه! فيقال له: الدخل الذي ذكرته وارد، والجواب عنه غير شاف كاف؛ لأن ما ذكرته من رب واحد أمه وعبد بطنه يسمع ولا يقاس عليه. والجيد أن يقال: إن أبا فلان هاهنا، كناية عن كل شجاع معروف، وذلك أن الفارس منهم، كان إذا طعن قرنه طعنة قال: خذها وأنا أبو فلان، ومنه قول أبي نواس: (الطويل) وللفَضْلُ أمْضَى مُقدماً من ضُبَارمٍ ... إذا لبِسَ الدَّرْعَ الحَصِينَةَ واكتَنَى فهذا نكرة معنى، وإن كان معرفة لفظا، فلذلك جاز إضافة كل إليه واحدا في معنى الجمع. وقوله: (البسيط) وقد تَمَنَّوا غداةَ لدَّرْبِ في لَجِبٍ ... أنْ يُبْصِرُوكَ فلمَّا أبْصَرُوكَ عَمُوا قال: أي: هلكوا فزالت أبصارهم، ويكون عموا، أي: تحيروا لما نظروا إليك فلم يملكوا أبصارهم.

وأقول: هذا ليس بشيء! والمعنى؛ أنهم تمنوا لقاءك ليهزموك ويغنموك، فانعكس التمني عليهم، فهزمتهم وغنمتهم وهو معنى قوله: . . . . . . . . . فلما أبْصَرُوكَ عَمُوا ضربه مثلا، وليس هناك عمى، على الحقيقة، ولا زوال أبصار. وقوله: (الكامل) كُفِّي أَراني - وَيْكِ لَوْمَكِ - ألوَمَا ... هَمٌّ أقامَ على الفُؤادِ أنْجَمَا قال: يقول: أراني هذا الهم لومك إياي أحق بأن يلام مني. وقيل له: على قولك هذا يكون أفعل مبنياً على المفعول لا الفاعل، فاللوم من الملوم لا من اللائم، وهذا قليل شاذ. وأقول: قد جاء عنهم: هو ألوم منه، مخالفا للكثير المقيس عليه، ولم يصل إلى معنى اختصاص أفعل ببنائه من الفاعل دون المفعول. والذي عندي فيه أن أفعل صفة مبالغة في مدح أو ذم وإذا كان كذلك، فلا يكون إلا من الفاعل، لأن الرجل إنما يحمد أو يذم على ما يفعل، لا على ما يفعل به. وما جاء عنهم مبنيا من المفعول نحو: أزهى من ديك، وأشغل من ذات النحيين، وهم بشأنه أعنى، ففي

ذلك (المعنى) إضافة الفعل إلى الفاعل، ألا ترى أن الزهو من فعله (وإن كان قد حمل عليه) والشغل من فعلها، والعناية من فعلهم (فزهي وشغلت ليس كضرب وقتلت مما ذكر فاعله ولكن بني على المفعول المتروك فاعله تشبيها ببنائه على الفاعل). فلذلك جاز أن يبنى من المفعول في اللفظ، والمعنى للفاعل، ولهذا حسن الذم على الزهو والشغل، والحمد على العناية بالشأن. وكذلك قولهم هو أحمد منه وأرجى؛ كأنه بجوده فعل الحمد والرجاء. وألوم من قول المتنبي (مبني) من الفاعل لا من المفعول؛ كأنه أراد لوم لائم، على المبالغة، كما قالوا: شعر شاعر، وشغل شاغل، ثم بناه على أفعل للزيادة في المبالغة. وقوله: (الكامل) وإذَا سَحَابةُ صَدَّ حِبًّ أَبْرقَتْ ... تَرَكَتْ حَلاوةَ كُلَّ حُبًّ عَلْقَمَا قد أخذ على أبي الطيب استعارة السحابة هاهنا، وقيل: إنها غير مناسبة. وأقول: لو قال: وإذَا مَرَارةُ صَدَّ حِبًّ أَشْرَقَتْ. . . . . . . . . لكان أشبه بالمناسبة وأقرب إلى الصناعة.

وقوله: (الكامل) يا وَجْهَ دَاهَيَةَ الذي لو لاكِ ما ... أكَلَ الضَّنَى جَسَدي ورَضَّ الأَعْظُمَا قال: داهية: اسم لتي شبب بها. وقيل: إن داهية اسم غير مليح في التغزل. وقد ذكرت في شرح الواحدي ما قيل في هذا الاسم، وما هو الأولى. وقوله: (البسيط) وكُلَّمَا نُطِحَتْ تحتَ العَجَاج به ... أُسْدُ الكَتَائِبِ رامَتْهُ ولم يَرِمِ قال: رامته: أي: زالت عنه ولم يزل هو، وأراد: رامت عنه، فحذف حرف الجر وأوصل الفعل بنفسه، قال الأعشى: (المتقارب) أَبَانَا! فلا رِمْتَ مِنْ عِنْدنَا ... فإنَّا بخَيْرٍ إذَا لم تَرِمْ

أي: لا برحت! وقد استعمله أبو نواس بغير الجر؛ قال: (الطويل) فما رِمَتُهُ حَتَّى أَتَى دونَ ما حَوَتْ ... يَمينِيَ حتى رِيْطَتي وحِذَائي فيقال له ولأبي الطيب: إن رمت: لم تستعملها العرب إلا في النفي فقالوا: لم يرم، وما رمت، ولم يقولوا: أرام، ولا: يريم. وأقول: إنما كان ذلك كذلك، لأنه مشبه بقولهم: ما فتئ وما برح وما زال، وهذه المنفيات بمعنى الإيجاب، ألا ترى أن حرف الاستثناء لا يدخل عليها، كما لا يدخل على كان واخواتها، مما ليس منفيا، فلا يقال: ما فتئ إلا قائما، كما لا يقال: كان إلا قائما. وإذا كان كذلك، فلا يجوز حذف حرف النفي منها، لاختلال ذلك المعنى. وقوله: (الوافر) ذَكْرتَ جَسِيمَ ما طَلَبي وأنَّا ... نُخَاطِرُ فيه بالمُهَجِ الجِسَامِ قال: أراد: جسيم طلبي فزاد ما توكيدا. وإنما جعل ما زائدة ها هنا ولم يجعلها بمعنى الذي لأن طلبي لا يكون بانفراده صلة. فيقال له: لم لا تكون بمعنى الذي ويكون الجزء الأول من الصلة محذوفا مقدرا؟ أي: الذي هو طلبي، كقوله تعالى: (تماما على الذي أحسن) أي: الذي هو أحسن، وذلك جائز.

وقوله: (الطويل) طِوالُ الرُّدَيْنِيَّاتِ يقْصِفُهَا دَمِي ... وبِيضُ السُرْيجيَّاتِ يَقْطَعُها لَحْمِي قال: هذا فوق قول القائل: (الطويل) فلا تُوعِدَنَّا بالقِتَالِ سَفَاهَةً ... فقد نَحِلَتْ فينَا الأسِنَّةُ والنُّبْلُ وأقول: كأنه عنى بقوله: نحلت فينا أي: بكثرة طعنها لنا ورميها إيانا. وقال غيره: نحلت فينا: أي بكثرة استعمالنا لها بالطعن في غيرها، والرمي لعدونا، فعلى هذا لا يصح التمثيل بالبيت، ويصح على المعنى الأول؛ (أي: قد ألفناها وأنسنا بها). وقوله: (الطويل) إِذَا بَيَّتَ الأعْدَاَء كانَ استماعُهُمْ ... صَرِيرَ العَوَالي قَبْلَ قَعْقَعَةِ اللُّجْمِ

قال: يبادر إلى أخذ الرمح، فإن لحق إسراج فرسه فذاك، وإلا ركبه عرياً. وقال الواحدي: هذا هذيان المبرسم والنائم، وكلام من لم يعرف المعنى،! يقول: إذا لاقاهم ليلاً أخفى تدبيره ومكره، وتحفّظ من أن يُفطن به، فيأخذهم على غفلة حتى يسمعوا صرير رماحه بين ضلوعهم قبل أن يسمعوا أصوات اللجم. وأقول: قوله: إذا لاقاهم ليلاً عبارة ضعيفة، ولو قال: إذا أطرقهم أو غشيهم ليلاً، أو دهمهم ليلاً، على غرة، لكان أحسن، لأن هذا هو البيات، فأما الملاقاة فهي المواجهة والمقابلة، وتلك لا تكون عندها الغفلة والغرة. وقوله: (الطويل) لِهُ رَحْمَةٌ تُحيي العِظامَ وَغَضْبَةٌ ... بِها فَضْلَةٌ في الجُرْمِ عَنْ صاحِبِ الجُرْمِ قال: يقول إذا غضب على مجرم لأجل جرم جناه تجاوزت غضبته قدر المجرم، فكانت أعظم منه، فإما احتقره فلم يجازه، وإما جازاه فجاوز قدر جرمه فأهلكه.

وأقول: هذا ليس بشيء؛ لأن تجاوزه قدر جرمه ظلم، ولا يمدح بفعل الظلم. والجيد ما قال الواحدي. يقول: له غضبة فيها فضل عن صاحب الجرم؛ يعني أنه يهلك بغضبه المجرم، ويفني ذلك الجرم الذي جناه، حتى لا يجني أحد تلك الجناية، ولا يأتي بذلك الجرم خوفاً من غضبته. وقوله: أحَقُّ عَافٍ بَدَمعِكَ الهِمَمُ ... أحْدَثُ َشيءٍ عَهداً بِهَا القِدَمُ قال: العافي هنا: الطالب والقاصد. وأقول: العافي: الدارس والداثر. يقول: لا تبك على الدارس من دار كما جرت العادة بالبكاء على رسوم ديار الأحباب الذين رحلوا، وأبك على الهمم؛ فإنها قد درست؛ فهي أحق بدمعك من الديار.

وقوله: مِلْتُ إلى من يكَادُ بينكُمَا ... إن كُنتُمَا السَّائلَينِ يَنقَسِمُ قال: خاطب صاحبه مخاطبة الأثنين؛ لأن من عادة الشعراء، أن يخاطبوا الاثنين نحو قول عبيد: يَا خلِيلَيَّ اربَعَا واستَخبِرا المنزلَ ... الدارسَ من أهلِ الحِلاَلِ وأنشد استشهادا على ذلك خمسة أبيات أولها: يا خليلي، ثم قال: ولما كانت هذه عادة لهم جارية، ومذهبا مألوفا، جاز أن يخاطب الواحد مخاطبة الاثنين، ويؤكد هذا عندك قول الشاعر: فإنْ تَزجُراني يا ابن عَفَّانَ انزَجِرْ ... وإنْ تَترُكاني أحمِ لَحماً مُوَضَّعَا (وهذا التفسير على من روى: (ملت)، بفتح التاء والرواية المشهورة: (ملت) بتاء مضمونة). فيقال له: أما مخاطبة الواحد خطاب الاثنين، فقد جاء عنهم كثيرا. من ذلك قول امرئ القيس: قفَا نَبكِ من ذِكرَى حَبيبٍ وَمَنزِلِ. . . . . . . . . .

وقوله تعالى: (ألقيا في جهنم كل كفار عنيد) وأشباه ذلك. ولكن أبا الطيب لم يخاطب الواحد مخاطبة الاثنين، (وذلك) لأجل الانقسام الذي ذكره، لأن الانقسام لا يكون من دون أثنين، وأبو الفتح مقصوده تكثير الكلام، وتكبير الكتاب، فسواء عنده، بعد ذلك، أخطأ المعنى أم أصاب!. وقوله: سَلامٌ، فولا الخَوفُ والبُخلُ عِندَهُ ... لقُلتُ: أبو حَفصٍ علينَا المُسلِّمُ قال: أي: قال لي سلام، فلولا خوفي من مفارقته ومعاتبته على نومي، ولولا بخله لأنه لا حقيقة لزيارته لقلت: السلام من أبي حفص؛ يعني الممدوح إجلالا لخيال حبيبه. وأقول: هذا ليس بشيء!. وقوله: لولا خوفي خطأ أن يجعله من الشاعر؛ إنما هو من خيال الحبيب لقوله:

. . لولا الخَوفُ والبخل عنده. . . . . . وذلك أن هاتين الخلتين محمودتان في النساء مذمومتان في الرجال، فولاهما لقلت: أبو حفص، يعني الممدوح، هو المسلم علينا لا خيال الحبيب. والمعنى أن الممدوح بمنزلة الحبيب عنده لولا ما استثناه من الخوف والبخل. وقوله: يَجِلُّ عن التَّشبيه، لا الكفَ لُجَّةٌ ... ولا هُوَ ضرغَامٌ ولا الرَّأيُ مِخدَمُ ولا جُرحُهُ يُوسَى ولا غَورُهُ يُرَى ... ولا حَدُّه يَنبُو ولا يَتَئَلَّمُ قال: سبحان الله! ما احسن ما عطف (لا) في هذا البيت، وما أغرب الصنعة فيه، وذلك أن قوله: (ولا الكف لجة) معناه: أن فيها ما في اللجة وزيادة عليها. وكذلك قال في (ضرغام) و (الرأي). وأما قوله (ولا جرحه يوسى) فليس معناه أنه يوسى وزيادة على الأسو، وكذلك قال: في (غوره) و (حده) فهو في البيت الأول مثبت في المعنى ما نفاه في اللفظ، ومتجاوز به في الوصف. وهو في البيت الثاني ناف في اللفظ والمعنى جميعا. فيقال له: إنك سبحت الله متعجبا من حسن العطف والإغراب في الصنع بما ذكرته من الإثبات والنفي في معنى البيتين ولفظهما، وليس فيهما إغراب ولا عجب ولا إعجاب، ومع ذلك فلم تبين من أين وقع الاختلاف في المعنى مع الاتفاق في النفي!.

وبيانه: أما البيت الأول فهو أنه لما كان من عادة الكف أن تشبه بالجة، والشجاع أن يشبه بالضرغام، والرأي أن يشبه بالسيف، وأراد أن يمدح الممدوح بالكرم والشجاعة ومضاء الرأي فضله على هذه مماثلتها. وتفضيل الشيء عن الشيء، إنما يكون بإثبات ما فيه والزيادة عليه. فلذلك كان اللفظ في الأول نفيا، والمعنى إثباتا، ودخل النفي على تقدير التشبيه. وأما البيت الثاني، وهو قوله: (ولا جرحه يوسى) فهو نفي في المعنى وفي اللفظ فلم يدخل النفي على تقدير التشبيه. وذلك أنه دخل في الأول على تقدير: (كفه لجة) وذلك تشبيهٌ وفضيلةٌ على الجملة. وفي الثاني دخل على (جرحه يوسى) وليس ذلك تشبيهاً ولا فضيلةً، بل نقصاً على الإطلاق! فلهذا اتفق البيتان في النفي واختلفا في المعنى. وقوله: وَلَنْ يُبْرَمَ الأمرُ الذي هو حَالِلٌ ... وَلَنْ يُحْلَلَ الأَمْرُ الذي هو مُبْرِمُ قال: أظهر التضعيف ضرورةً، ومثله قول الآخر: تَشْكُو الوَجَى من أَظْلَلٍ وأَظْلَلِ

يريد: الأظل. وقول قعنب: مَهلاً أعاذلَ قد جَرَّبتِ من خُلُقي ... إنِّي أَجُودُ لأقوَامٍ وإن ضِنَنُوا فيقال له: ليس في هذا ضرورة لأنه كان يمكنه أن يقول: وَلَنْ يُبرَمَ الأَمرُ الذي هو نَاقِضٌ ... ولَنْ يُنقَضَ الأمرُ الذي هو مُبرِمُ فيخرج من الضرورة ويأتي بالطباق الصحيح، وذلك أن النقض يضاد الإبرام، والحل إنما يضاد العقد، ولكنه يحب أن يأتي بما يقع فيه الكلام، الإبهام بمعرفة جواز ذلك والإعلام، وركوب الضرورة لذلك مقصد فاسد، وسنن عن الصواب حائد، وابن جني يعجبه ذلك غاية الإعجاب، ليجول في ميدان الإغراب!. وقوله: وأغرَبُ من عَنقَاَء في الطَّيرِ شَكلُهُ ... وأعوَزُ من مُستَرفدٍ منه يُحرَمُ قال: الوجه أن يقول: أشد إعوازا ولكنه جاء على حذف الزيادة. فيقال له: فقد يمكنه أن يقول: . . . . . . . . ... وأَعجَبُ من مُستَرفِدٍ منهُ يُحرَمُ وهذا أشبه بالصناعة، وأكثر في الكلام.

وقوله: إلى اليَومِ مَا حَطَّ الفِدَاءُ سُروجَهُ ... مُذُ الغَزوُ سَارٍ مُسرِجُ الخَيلِ مُلجِمُ قال: أي: هو سار مذ الغزو، والغزو مرفوع بالابتداء وخبره محذوف والتقدير: مذ الغزو كائن. فيقال: أحسنت - يا نحوي عصره - يجعلك فيج ملة مستقلة بنفسها من مبتدأ وخبر تقدير مبتدأ وخبر محذوفين! وما الحاجة إلى تقدير (كائن) مع (الغزو) وهو مع (سار)؟ ولم لم تجعل (سار) خبرا عن (الغزو) فيكون من باب: ليل نائم ونهار صائم؛ أي: ينام فيه، ويصام، كقوله: . . . . . . . . . ... ونِمتِ وما لَيلُ المَطِيِّ بنَائِمِ ولكنك لم تتنبه لهذا المجاز البليغ وتهتد له، وحملت الكلام على الحقيقة في صفة الممدوح بهذا التقدير البعيد، فوقعت في الخطأ الشديد!. وقوله: صُفوفاً لِلَيثٍ في لُيُوثٍ حُصُونُهُمْ ... مُتُونُ المَذَاكي والوَشيجُ المُقَوَّمُ

قال: أي: برزت له صفوفا لأن (عاتق) هنا في معنى جماعة كما تقول: كم من رجل جاءني، فالرجل، هاهنا، جماعة. ويجوز أن تكون الصفوف هي الكتائب. وأقول: لا يجوز أن تكون (صفوفا) حالا من الضمير في (برزت) الراجع إلى (عاتق) وأن يكون (عاتق) بمعنى الجنس لأنه لا معنى لذلك ولا فائدة فيه، وإنما (هو) حال من الضمير في (تساير) الراجع إلى (كتيبةٍ) وهي في معنى الجنس؛ أي: (مصطفين لليث في ليوث)؛ يعني: الممدوح وأصحابه ليس لهم حصون غير ظهور خيلهم ورماحهم، وتلك حصون الشجعان. والعرب بخلاف الروم، فإنهم حصونهم (الجبال) والقلاع، وتلك حصون الجبناء الأذلاء. وقوله: كُلُّ حِلْمٍ أتَى بغيرِ اقتدارٍ ... حُجَّةٌ لاجئٌ إليها اللَّئَامُ قال: إنما يحسن الحلم مع القدوة، فأما من لا قدرة له؛ فاعتصامه بالحلم حجة للؤمه.

وأقول: قوله: (فأما من لا قدرة له. . .،) إلى آخره، ليس بشيء! وإنما هذا ضد قول الشاعر: إنَّ من الحِلمِ ذُلاً أنتَ عَارِفُهُ ... والحِلمُ عن قُدرَةٍ ضَربٌ من الكَرَمِ فإذا كان الحلم عن قدرة من الكرم، كان الحلم عن غير قدرة من اللؤم. وقيل: كان ينبغي أن يقول: . . . . . . . . . . ... حُجَّةٌ لاجئٌ إليها الضِّعَافُ لأن الذي يحلم عن غير قدرة، لا يسمى بذلك لئيما بل ضعيفا، والشاهد له على ذلك البيت المستشهد به. وقوله: حَسَنٌ في عُيونِ أعدائهِ أَقبَحُ ... من ضَيفهِ رأتهُ السَّوَامُ قال: هذا مما يسأل عنه فيقال: كيف يكون حسنا في عيون أعدائه؟ وهل هذا إلا هجاء؟ ألا ترى إلى قول الراجز: لَمَّا رَأتنِي سَقَطَتْ أبصَارُهَا أي: غضتها عني حسدا. وأقول: قد تقدم في خطبة الكتاب ما قال فيه وقيل عليه.

وقوله: لَيلُهَا صُبحُهَا من النَّار، والإصبَاحُ ... لَيلٌ من الدُّخَانِ تِمَامُ قال: كل ليل طال من مرض أو هم فهو تمامٌ. وأكثر ما جاء في هذا ليل التمام بالألف واللام. وأقول: ليل التمام: أربعون ليلة؛ عشرون قبل الميلاد، وعشرون بعد الميلاد، فهذا حقيقة ليل التمام. والذي ذكره إنما يستعمل مجازاً. قال النابغة: يُؤَرَّق من لَيْلِ التِّمام سَلِيمُهَا ... لِحَلْي النِّسَاءِ في يَدَيْهِ قَعَاقِعُ وقوله: أنَا لاَئمي إنْ كنتُ وَقُتَ اللَّوائِمِ ... عَلِمْتُ بما بي بين تلك الَمعَالِمِ قال: هذا كقولك: أنا مثلك إن فعلت كذا وكذا. ونظيره قوله أيضًا:

عُيونُ رَواحِلي إنْ حِرْتُ عَيْني ... وكلُّ بُغَامِ راَزِحَةٍ بُغَامي وأقول: إن هذا الكلام دعاء على نفسه، أخرجه مخرج القسم، كقوله الآخر: إنْ كانَ ما بُلِّغْتَ عَنِّي فَلا مَنِي ... صَديقي وشُلَّتْ من يَدَيَّ الأَنَامِلُ فليس كما قال في هذا البيت وبيته الآخر الذي هو نظيره. وقوله: وذِي لَجَبٍ لا ذو الجَنَاحِ أمامَهُ ... بِنَاجٍ ولا الوَحشُ المُثَارُ بِسَالِمِ قال: يقول: الجيش يصيد الوحش، والعقبان فوقه تسايره فتخطف الطير أمامه. وأقول: بل الجيش هو الصائد للجنسين جميعا من الوحش والطير، والعقبان مرتفعة فوقه، صيدها جثث القتلى لا الطير ولا الوحش. هذا هو الصواب. وقوله: يا أُختَ مُعتَنِقِ الفَوارسِ في الوَغَى ... لأخُوكِ ثَمَّ أرَقُّ منكِ وأَرحَمُ

قال: يرميه بأخته وبالابنة! وثم: إشارة إلى المكان الذي تخلى فيه للحالة المكروهة. وأقول: بل يصفه بضد ذلك من العفة والرجولية والشجاعة. وثم: إشارة إلى الحالة المحمودة، وهي الوغى، واعتناقه الفوارس فيها. وقد إنقلب فهمه في هذا البيت، ففسره بضد ما أراد الشاعر من أوله إلى آخره. (ويدل على ما قلت قوله بعد ذلك:) يَرنُو إليكِ معَ العَفافِ وعنَدهُ ... أنَّ المجوسَ تُصِيبُ فيما تَحكُمُ وقوله: ومن العَداوةِ ما يَنَالُكَ نَفعُهُ ... ومن الصَّدَاقَةِ ما يَضُرُّ ويُؤلِمُ قال: أي عداوة الساقط تدل على مباينة طبعه فتنفع، ومودته تدل على مناسبته فتضر. وأقول: أن عداوة الساقط سقوط همة، وذلك مضرة لذوي الأقدار والرتب العالية (لا نفع كما ذكر) ويدل عليه قول الشاعر: نَبيلُ العَدوِّ والصَّديقِ وإنَّمَا ... يُعَادي الفَتَى أكفاؤهُ ويُصَالِحُهْ وبيت أبي الطيب من قول الحكماء: إياك ومصادقة الأحمق؛ فربما أراد أن ينفعك فضرك!.

وقوله: سَجِيَّةُ نَفسٍ لا تَزَالُ مُلِيحَةً ... من الضَّيمِ مَرمِياً بها كُلُّ مَخرَمِ قال: مليحة: مشفقة من أن تضام. قال: يُلحِنَ من ذي زَجَلٍ شِرواطِ أي: يشفقن. وأقول: قد قيل لأبي الطيب: أن (مليحة من الضيم) تقصير لأن الإشفاق ضعف، وأجود منه: أبية على الضيم. وقوله: وأحلُمُ عن خِلِّي وأعلَمُ أَنَّنِي ... مَتَى أجزِهِ حلماً على الجَهلِ يَندَمِ قال: أي: إذا جازيته بالحلم ندم، فكيف أن آخذته وقابلت أفعاله؟.

وأقول: أن قوله: (أن آخذته وقابلت أفعاله) فيه سوء فهم ونقص علم، وذلك أن معناه: فكيف أن آخذته على أفعاله، وقابلته بسيئاته؛ فأنه يكون حينئذ أندم، وليس المراد ذلك، ولا للمقابلة هاهنا معنى، ولا هي مفهوم الخطاب، وإنما يراد بالحلم عن جهل الصديق رجوع إلى صداقته، واستبقاء لمودته، لأنه إذا حلم عن جهله ندم على ما فرط منه من قبح القول أو قبح الفعل فأستحيى، واستدرك ما فات، وعاد إلى ما حاد عنه. وقوله: عيونُ رَوَاحلي إنْ حِرتُ عَيني ... وكلُّ بُغامِ رِازِحَةُ بُغَامي قال: وسألته عن معنى هذا البيت فقال: معناه: أن حارت عيني، فعيون رواحلي عيني، وبغامهن بغامي؛ أي: أن حرت فأنا بهيمة مثلهن، كما تقول: أن فعلت كذا وكذا فأنت حمار!. فيقال له: وما آمنك أن يقال لك وأنت في هذا التفسير كذلك! وإنما هذا دعاء على نفسه بمعنى القسم كقول مالك بن الحارث: بَقَّيتُ وَفرِي وانحَرفتُ عن العُلاَ ... ولقيتُ أضيافِيْ بَوجهِ عَبوسِ

وقوله: وإنَّ مَنِيَّتَهُ عنده ... لكالخمرِ سُقِّيَهُ كَرمُهُ فذاكَ الذي عَبَّهُ ماؤهُ ... وذَاكَ الذي ذاقَهُ طَعمُهُ قال: وهذا البيت يفسر ما قبله، وذلك أن الماء مشروب لا شارب، والطعم مذوق لا ذائق. فكأن الزمان قد أتى من موت فاتك بما فيه نقض العادة تعظيما لأمره. وأقول: ليس في هذا نقض للعادة، والضمير (المستتر) في (عبه) ضمير الفاعل راجع إلى فاتك، والضمير البارز، وهو الهاء، ضمير المفعول، راجع إلى (الذي) وهو (ماؤه) و (طعمه). وأني لأعجب من إنقلاب فهم هذا الرجل بتفسيره المعاني على ضد ما هي عليه، وجعله الماء والطعم يعب ويذوق فاتكا ولا يكون هو الفاعل لذلك!. وقوله: هَوِّنْ عَلَى بَصَرٍ ما شَقَّ مَنظَرُهُ ... فإنَّما يَقظاتُ العَينِ كالحُلُمِ

قال: يقال: شق بصر الميت شقوقا، وذلك قبل الموت. ومعنى البيت: هون على بصرك شقوقه ومقاساة النزع والحشرجة للموت، فأن الحياة، كالحلم، تبقى قليلا ثم تزول. وأقول: أنه قد روي: (منظره) بالضم والفتح. فإذا كان بالضم كان: (شق منظره) من المشقة؛ أي: هون على بصرك الشيء الشاق عليه منظره فأنه لا بقاء له، ويزول كما يزول الحلم. ومن يروي: (منظره) بالفتح: (فشق منظره) من: شققت الشيء بمعنى فتحته؛ أي: هون على بصرك الشيء الذي يشق منظره لرؤيته في اليقظة فأنه لا حقيقة له ولا بقاء كالأحلام، والمنظر على هذا، موضع النظر و (ما) في الوجهين بمعنى (الذي)، ويجوز أن تكون للنفي؛ أي: هون على بصر لم يشق منظره؛ يريد: عدم الإدراك والعمى. وقوله: ضُرِبْنَ إلينا بالسِّياطِ جهالةً ... فلمَّا تَعارفنَا ضُرِبْنَ بِهَا عَنَّا قال: كانت خيل الروم قد رأت عسكر سيف الدولة، فظنتهم روما فأقبلوا نحوهم مسترسلين، فلما تحققوا ذاك ولوا هاربين.

وأقول: لم يرد بقوله: (جهالة) ما ذكره من التباس الفريقين، (ولا جهالة ببأسنا وإقدامنا)؛ وإنما أراد (جهالة) بكثرتهم وقلتنا، وظنهم أن يغنمونا أو يربحونا، فكان كما قال في البيت الذي قبله: وخَيلٍ حَشَوناها الأسِنَّة. . . . . . . . . . . . . وهذه قطعة من عسكر سيف الدولة، رأتها كتيبة من عسكر الروم، فأقبلوا نحوها طامعين ثم ولوا عنها هاربين. وقوله: والماءُ بينَ عَجاجَتينِ مُخلِّصٌ ... يَتَفَرَّقَانِ بهِ وَيَلتَقِيَانِ قال: أي: عجاجة المسلمين وعجاجة الروم. يقول: ربما حجز الماء بين العجاجتين، وربما جازتاه فالتقتا. وأقول: بل العجاجتان للمسلمين لما ذكرته في شرح التبريزي.

وقوله: يَتَقَيُّلُونَ ظلالَ كُلِّ مُطَهَّم ... أَجَلِ الظَّليمِ ورِبْقَةِ السِّرْحَانِ قال: يقول: يتتبعون آباءهم سباقين إلى المجد والشرف؛ كالفرس المطهم الذي إذا رأى الظليم فقد هلك، وإذا رأى الذئب؛ كان كأنه مشدود بحبل في عنقه. والعرب إذا مدحت رجلاً شبهته بالفرس السابق، كقول النابغة: إلاَّ لِمثْلِكَ أَوْ مَنْ أنتَ سَابِقُهُ ... سَبْقَ الجَوادِ إذا اسْتَولى على الأَمَدِ ونحو ذلك، وهو كثير جداً، وإنما استعار هنا لفظ (الظلال) لأن ظل كل شيء ملازمه وعلى سمته، فيريد بذلك احتذاءهم طرق آبائهم وسلوك مذاهبهم من غير تبديل ولا تعريج، كما قال: (شنشنة أعرفها من أخزم). وأقول: هذا التفسير ليس بشيء! وإنما قال قبل: متصعلكين. . . . . . . . . . . . أي: يفعلون في غزوهم فعل الصعاليك، ثم قال: يتقيلون ظلال كل مطهم. . . . . . . . . . . .

من القائلة، كأنهم في الظهيرة يقيلون في ظلال خيلهم، كما تفعل الفرسان المتغربة. ثم وصف الخيل، وهو وصف ومدح لهم، لأنهم يستجيدون الخيل. فقال: (كل مطهم) أي: حسن الخلق، (أجل الظليم): (أي: يصاد الظليم) عليه ولا ينجو، و (ربقة السرحان) مثله، وهو كما قال امرؤ القيس: . . . . . . . . . قَيْدِ الأوابد َهيكَلِ وقوله: يَغشَاهُمُ مَطَرُ السَّماءِ مُفَصَّلٌ ... بمُهَنَّدٍ ومُثقَّفٍ وسِنَانِ قال: يعني بالسحاب الجيش، شبهه به لكثافته كما قال الراجز: كأنَّهُمْ لما بَدوا من عَرعَرِ مُستَلئمينَ لاَبِسِي السَّنَوَّرِ نَوءُ سَحَابٍ صَيِّفٍ كَنَهورِ فيقال له: بل السحاب هنا السحاب بعينه!.

يقول: ينزل عليهم قطره والسيوف والرماح والأسنة متواصلا متتابعا كالعقد المفصل، وهذه استعارة حسنة رائقة. وقوله: وَجَرَى على الوَرَقِ النَّجيعُ القَاني ... فكأنَّهُ النَّارَنجُ في الأغصَانِ (قال): القانيء: الأحمر، وأبدل الهمزة مضطرا وأجراها مجرى اللام. ألا ترى جعل الياء وصلا كما جعلها عبد الرحمن بن حسان لما اضطر فقال: وكُنتَ أذَلَّ من وَتَدٍ بِقَاعٍ ... يُشَجِّجُ رأسهُ بالفهِرِ وَاجِي فيقال له: ليس في القاني، هاهنا، والواجي اضطرار! وذلك أنه وقف على الهمزة فسكنت وما قبلها مكسور، فقلبها ياء كما قلبت في: ذيب وبير، وقد قريء بهما، وذلك قلب تخفيف لا إضطرار، فكذلك هي في (قاني) و (واجي) قافيتين لطروء السكون فيهما بوجوب الوقف عليهما. وقوله: أنسَابُ فَخرِهِمُ إليك وإنَّما ... أنسَابُ أصلِهِمُ إلى عَدنانِ

قال: بمثل هذا الثناء الشريف فليمدح الملوك والأجلاء!. فيقال: هو كما تقول، ولكنه من قول ابن الرومي: قالوا: أبو الصَّقرِ من شيبانَ، قلت لهم: ... كَلاَّ - لَعَمري - ولكن منه شَيبَانُ وَكَمْ أبٍ قد عَلاَ بأبنٍ ذُرَا شَرَفٍ ... كما عَلاَ بِرَسُولِ الله عدنانُ! وقوله: كتَمتُ حُبَّكِ حَتَّى منكِ تكرِمَةً ... ثُمَّ استَوَى إسرَارِي وإعلاَنِي كأنه زَادَ حَتَّى فاضَ عن جَسَدي ... فَصَار سُقمي به في جِسمِ كِتمَانِي قال: كأنه، أي: كأن الكتمان، فأضمره وأن لم يجر له ذكر، لأنه لما قال: (كتمت) دل على الكتمان. وما علمت أحدا ذكر انستار سقمه وأن الكتمان أخفاه غير هذا الرجل.

وأقول: لهم يفهم الشيخ المعنى، ولا ألم بشيء منه، ولا قاربه. ولم يتبين له الضمير في (كأنه) إلى (أي) شيء هو راجع، ولا الضمير في زاد، ولا الضمير في به وكل ذلك راجع إلى حبك. يقول: كتمت حبك من كل أحد، حتى منك، تكرمة له أو لك، وهذا أبلغ ما يكون من الكتمان. ثم بعد ذلك الكتمان الشديد ظهر، فاستوى فيك الإسرار والإعلان. أي: لم يبق إسرار. وبين ما سبب ظهور الحب؟ فقال: (كأنه)، أي: كأن الحب زاد في حتى فاض عن جسدي لكثرته، وجعله بمنزلة الجسم السائل، الذي هو الماء، استعارة فصار سقمي به، أي: بالحب الذي كان يسقمني كتمانه، وذلك سقم شديد في جسم الكتمان، فأضمحل وفني إلى أن صار مثل الإعلان. واختصاره: كتمت حبك إلى أن زاد، وغلبني فبان وزال الكتمان. وابن جني في تفسير المعاني دون حال أبي العلاء؛ لأن أبا العلاء، في الأكثر، إذا لم يفهم المعنى أعاد اللفظ، وابن جني لا يعيد اللفظ ولا يفهم المعنى!!. وقوله: فَطِنَ الفؤادُ لما أتَيتُ على النَّوَى ... وَلِما تَرَكتُ مَخَافَةً أَنْ تَفطُنَا

قال: أي: قد عرفت مني ما كان من شكرك والثناء عليك في حال غيبتك، ولم أتعرض لضد ذلك لئلا ينمي إليك. أي: فلو لم أتركه إلا لهذا لتركته، وكان وشيء به إليه، وكأنه مع هذا، أعترف بتقصير منه، ألا تراه يقول: أضحى فراقُكَ لي عليهِ عُقُوبةً ... ليسَ الذي لَيسَ الذي قاسَيتُ منه هَيِّنَا وأقول: أن تفسير قوله: . . . . . . . ولما تَركتُ مخافةً أنْ تَفطُنَا بقوله: (ولم أتعرض لضد ذلك) أي: لضد الشكر لك والثناء عليك، يعني: من السب والشتم، كلام في غاية القبح! وهل يحسن بأحد أن يقول لمن احسن إليه وأنعم عليه: إنني ما تركت سبك وشتمك إلا مخافة أن تفطن! ومفهوم الخطاب أنك لو لم تفطن بما أقول في غيبتك لشتمتك وسببتك! والجيد أن يفسر (ما أتيت) و (ما تركت) بأن يقال: ما أتيت من الأفعال الحميدة، وما تركت من الأفعال التي تضادها، فلأنك بصحة ذهنك، وجودة حدسك، تعلم ما غاب عنك منها. والصحيح أنه لم يعترف بتقصير، والضمير في (عليه) لا يعود على ذنب وقع منه أو خطأ إقترفه، وإنما يعود على (فراقك) وذلك أنه ترك المسير معه فرأى كأن ذلك ذنب اجترمه فقال: أضحى فراقك لي عليه. . . . . أي على فراقك، وجعل ذلك لعظمه عليه، وشدة أذاه له بمنزلة العقاب والقصاص، ولهذا قال: . . . . . . . . ليس الذي قَاسيتُ منه هَيِّنَا أي: من فراقك.

وقوله: ألقَى الكِرامُ الأولى بَادُوا مكارِمَهُمْ ... على الخَصِيبِيِّ عند الفَرضِ والسُّننِ فَهُنَّ في الحَجرِ منه كُلَّما عَرَضَتْ ... لهُ اليَتَامَى بَدَا بالمَجدِ والمِنَنِ قال: المكارم بيده وتحت تصرفه، يستعملها في أي وقت شاء، وكيف شاء. فيقال له: هل يحسن به أن يستعملها وهي في الحجر منه، من جملة اليتامى مقدمة عليها مبدوءا بها قبلها أن هذه لعبارة سخيفة من غفل سخيف!!. وقوله: قد شَرَّفَ الله أرضاً أنتَ سَاكِنُهَا ... وشَرَّفَ الناسَ إذ سَوَّاكَ إنسَاناً قال: ما أعجبني قوله: (سواك) لأنه لا يليق بشرف ألفاظه، ولو قال: (أنشاك) أو نحو ذلك لكان أليق بالحال. فيقال له: (سواك) أشرف من (أنشاك) وأليق من جانب اللفظ والمعنى:

أما اللفظ: فلأنها لفظة القرآن، وكلام الله أفصح الكلام (كقوله تعالى: (ثم سواك رجلا). وأما من جانب المعنى: فإن (سواك) فيها ما في (أنشاك) وزيادة، وهو أن (سواك) بمعنى: أنشاك كاملا غير ناقص. هذا مع أن (سواك) ليس فيها ما في (أنشاك) من الضرورة، وهو قلب الهمزة ألفا من غير علة موجبة. وهذا مبلغ نقده لجوهر الشعر، وإجلاله لقدر لفظ الذكر!!. وقوله: جَزَى عَرَباً أمسَتْ بِبلبيِسَ ربُّهَا ... بشمَعَاتِهَا تَقررَ بذاكَ عُيُونُهَا قال: بلبيس بأعلى الشام دون مصر، وقد ذكرها أبو نواس في شعره فقال: حَالَ بِلبِيسُ دُونَنَا فكفرُ شَمسَا ... فَدَاراتُ حارِثِ الجَولانِ فيقال له: إذا لم تحقق البلاد بعيان أو سماع، فكيف تخبر عنها وتحدها فتقع في الخطأ، وتنسب إلى الجهل وكثرة الكلام، بجعل بلبيس من الشام؟!. وبيت أبي نواس لا يدل على ذلك فلا وجه إنشاده، فإن كنت أردت تعريفه به فهو أعرف منه!.

وقوله: غَدَونَا تَنفُضُ الأغصانُ فيه ... على أعرافِهَا مثلَ الجُمَانِ قال: يريد ما يقع عليها من خلل الأغصان من ضوء الشمس. وأقول: بل يريد ما يقع من طل الأغصان وشبه ذلك بالجمان؛ وهو حب يعمل من الفضة على شكل الدر، فشبه الطل المتناثر على أعراف الخيل به، والذي ذكره من ضوء الشمس الذي يقع من خلل الشجر هو تفسير البيت الذي يليه - (إلا أنه شبهه بالدنانير لصفرته وجعلها تفر، لأنه لا يمكن إمساكه) - وهو قوله: وَألقَى الشَّرقُ منها في ثِيَابي ... دنانيراً تَفِرُّ من البَنَانِ وقوله: فإنَّ النَّاسَ والدُّنيا طَريقٌ ... إلى مَنْ ما لَهُ في النَّاسِ ثَاني

قال: هذا كقوله أيضا لكافور: ولكنَّهُ طالَ الطَّريقُ ولم أزَلْ ... أُفَتِّشُ عن هذا الكلامِ ويُنهَبُ وأقول: أنه لم يتبين وجه المشابهة بينهما وهو خفي جدا، وبيانه: أنه اعتذر إليه من مديحه غيره بقوله في البيت الذي قبله: وَتَعذُلُني فيك القَوافِي وهِمَّتي ... كأني بِمَدحٍ غَيرِ مَدحِكَ مُذنِبُ ثم قال: ولكنَّهُ طالَ الطَّريقُ. . . . . أي: اضطررت لبعد الطريق إلى أن أتوصل إليك بمدح غيرك، وأنت المقصود بالمدح. ومع ذلك، فإني لم أزل (أفتش عن هذا الكلام)، أي: يطلب مني جعله بمنزلة الدر المنتقى، أو البز المختار، والأعلاق النفيسة التي يتزين بها، و (ينهب): أي: يتسابق إليه للرغبة فيه ليدخر ويقتنى. وفي هذا إعلام له أنه مطلوب من غيره، مرغوب فيما عدنه. ولو تمثل لقوله في عضد الدولة بقوله في سيف الدولة: كُلَّمَا رَحَّبَتْ بنا الرَّوضُ قلنا: ... حَلَبٌ قَصدُنَا وأنتِ السَّبيلُ والبيت الذي بعده لكان أشبه به وأقرب منه.

وقوله: دَعَتهُ بِمَفزَعِ الأعضَاء منها ... لِيَومِ الحَربِ بِكرٍ أو عَوَانِ رواية ابن جني: (بموضع الأعضاء). قال: أي: دعته السيوف بمقابضها، والرماح بأعقابها؛ لأنها مواضع الأعضاء منها، وحيث يمسك المحارب والطاعن. ويحتمل أن يكون أراد: دعته الدولة بمواضع الأعضاء من السيوف والرماح. ومعنى (دعته): اجتذبته وأمالته. وقال الواحدي: قال ابن فورجة: هذا مسخ للشعر لا شرح له. وما قال الشاعر إلا (بمفزع الأعضاء) يعني: دعته الدولة عضدا، والعضد مفزع الأعضاء؛ كأنه شرح قوله: بِعضدِ الدَّولة إمتَنَعَتْ وَعزَّتْ. . . . . . . . وهو على ما قال، يريد أن الدولة سمته عضدها، وهي مفزع الأعضاء؛ لأن الأعضاء عند الحرب تفزع إلى العضد، والعضد هي المدافعة عنها المحامية لسائر الأعضاء. وأقول: وهو ما قال الواحدي إلا أنهم لم يبينوا ما معنى قوله: (دعته) وهو أنها

نادته فقالت: يا عضدي؛ أي: يا حافظي وكالئي، والناصر لي، والمدافع عني؛ فهذا معنى دعائها له. وقوله: أعلَى قَنَاةِ الحُسَين أوسَطُهَا ... فيه وأعلَى الكَمِيِّ رِجلاَهُ قال: (فيه) أي: في هذا المأرق، وسألته عن معنى هذا البيت فقال: هو مثل البيت الآخر: ولَرُبَّما أطَرَ القناةَ بفارسٍ ... وَثَنَى فَقَوَّمَهَا بآخَرَ منهُمُ أي: قد انثنت القناة لما طعن بها فارسا، فصار أوسطها أعلاها، وأعلى الكمي رجلاه. وقال شيخنا أبو اليمن الكندي: يردي: أن الرمح ينفذ في الكمي فيناطر، حتى يصير أوسطه أعلاه، والكمي منكس (فيه) كقول امرئ القيس: . . . . . . أرجُلُهُمْ كالخَشَبِ المآئِلِ

وأقول: الأحسن أن يكون (أعلى القناة أوسطها) بالكسر لا بالانثناء، وأعلى الكمي رجلاه بالانقلاب على رأسه عن سرجه، وهذا أقرب إلى الحقيقة وأمثل في الطريقة. وقوله: تُنشِدُ أثوَابَنا مدائِحَهُ ... بِألسُنٍ ما لَهُنَّ أفوَاهُ قال: أي: تقعقع لجدتها. ولهذا فسر البيت الذي يليه، وهو قوله: إذَا مَرَرنْا على الأصَمِّ بها ... أغنَتهُ عن مِسمَعَيهِ عَينَاهُ بقوله: أي: يراها الأصم فيستغني عن صورتها وهو مما يجانس الأول. (وأقول): هذا تفسير يقعقع، يجهل ذاكره، وينادي بعمى قلبه! وإنما يقول: إذا رأى الناس ثيابنا التي هي خلع أبي العشائر، وتفردها بالحسن والشرف، علموا أنها من عطائه، فهي بلسان الحال تنشر ثناءه وتنشد مدائحه، وهذا من قول نصيب: فَعَاجُوا فَأثنَوا بالذي أنتَ أهلُهُ ... ولو سَكَتُوا أَثنَتْ عليك الحَقَائِبُ وقوله: قَالُوا: ألم تَكنِهِ؟ فقلت لهم: ... ذلك عِيٌّ إذا وَصَفنَاهُ

قال: في هذا البيت اختلال من جانب الإعراب، وذلك أنه لم يكن أبا العشائر في هذه القطعة، فأنكر قوم عليه ترك الكناية فإذا قال: (ألم تكنه) فدخول همزة الاستفهام على النفي تقرير يوجب أنه كناه كقوله تعالى: (ليس الله بكاف عبده) وقول جرير: ألَستُمْ خَيرَ من رَكِبَ المَطَايَا. . . . . . . . . أي: الأمر كذلك. ودخولها على الإثبات نفي كقوله تعالى: (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله) أي: ليس الأمر كذلك. فعلى هذا قوله: قالوا: ألم تكنه. . . . . تقرير لكنايته إياه، وهم أنكروا عليه تركها؛ فكان خطأ لذلك. وأقول: لعل هذه الحكاية موضوعة، وهي إنكار ترك كنايته، ولعل ابن جني توهم قوله: قالوا: ألم تكنه. . . . . أنه من الكناية التي هي: أبو فلان، أو قصد ذلك ليورد عليه ما أورد، ولم يرد أبو الطيب بقوله: (ألم تكنه) أبا العشائر؛ وإنما أراد الكناية التي هي الإضمار، أي: لم تذكر أسمه، فيكون معنى قوله: قالوا: ألم تكنه. . . . التقرير، أي: قد كنيته، أي: أضمرته، ولم تبين أسمه الذي هو أبو العشائر، وذلك إنكار عليه، فقال في جواب قولهم: . . . . . . . . . ذلك عِيٌّ إذَا وَصَفنَاهُ

أي: إذا وصفناه وأظهرناه وسميناه، كانت هذه بلاغة، وهي عي على الحقيقة؛ لأن الوصف، والإظهار، والتبيين؛ إنما يكون عند البأس غيره به، وهو كما قال في البيت الذي يليه: لا يَتَوَفَّى أبو العَشَائرِ مِنْ ... لَبسِ مَعَاني الوَرَى بِمعنَاهُ فهذا الذي أراده أبو الطيب؛ وهو استفهام بمعنى التقرير والإيجاب كما ذكر ابن جني، إلا أنه ما قصده، والزمه عليه ما الزمه. ويدل على (ما) قلته قولهم: نحن العرب أقرى الناس للضيف. ولم يحتاجوا أن يرفعوا (العرب) تأكيدا ل (نحن) أو خبرا عنه، ليتميزوا به من غيرهم، أو يخبروا عنه أنهم أقرى الناس، بل ألما قالوا: (نحن) علم من هم؟ وأنهم العرب، ونصبوا على المدح والاختصاص، حتى كأن الكلام قد تم بقولهم: (نحن)، ولو قالوا: نحن أقرى الناس، ولم يذكروا (العرب) لعرفوا، وإنما يذكر التأكيد والوصف والإظهار عند الالباس بالمشاركة، وكذلك قول الراجز: نَحنُ بني ضَبَّةَ أصحابَ الجَملْ وقول الآخر: إنا بني نَهشَلٍ لا نَدَّعِي لأبٍ ... عنهُ ولا هو بالأبنَاءِ يَشرِينَا وأن ما دعا ابن جني أن حمل قوله: (ألم تكنه) أنه من الكنية بأبي فلان، أنه ذكر في هذه الأبيات الحسين ولم يذكر أبا العشائر، وهو أشهر من الحسين. والذي حملني على

أن جعلت (ألم تكنه) من الكناية التي هي الإضمار أنه أضمر أسمه من أول الأبيات إلى آخرها، من قوله: . . . . . . . . . . ما لَمْ يروك. . . . . . . . . . ولم أحفل بذكر الحسين؛ لأنه ليس باسم له، وإنما أسمه كنيته، وهو أبو العشائر، والحسين موضوع عليه مستعار له. فيصبح إذا قول المتنبي على هذا الاعتلال ولا يحمل على الاختلال. وقوله: تَبُلُّ خَدَّيَّ كلما ابتسَمَتْ ... من مَطَرٍ بَرقُهُ ثَنَايَاهَا قال: وقد دل في هذه الأبيات على أنها كانت متكئة عليه، وعلى غاية القرب منه، يصيب خديه شيء من ريقها!. فيقال له: هذا أبرد تفسير، وأغث معنى بأن جعل بصاقها ينزل على وجهه، ويسيل على خديه ولحيته!! والمعنى ما ذكرته مستقصى في شرح التبريزي.

وقوله: في بَلَد تُضرَبُ الحِجَالُ به ... على حِسَانٍ وَلَسنَ أشبَاهَا قال: أي: كل واحدة منهن منفردة من الحسن، بما لا يشاركها فيه غيرها. ويجوز أن يكون (لسن أشباها) أي: قد صارت هذي المشبب بها سببا لإختلافهن؛ لأنها لا نظير لها فيهن كقوله أيضا: الناسُ ما لَمْ يَرَوكَ أشَبَاهُ. . . . . وأقول: هذا التفسير قد تلقاه عنه جميع من شرح هذا الديوان بعده، وليس بشيء! والمعنى: أنه شبه هؤلاء النساء بالظباء، فقال: لقيننا في بلد تضرب الحجال فيه على ظباء حسان - يعني النساء - ولسن أشباها؛ لأنهن بخلاف الظباء؛ لأن الظباء لا تضرب عليهن (الحجال) وهن متشابهات. ودل على ذلك قوله بعده: كلُّ مَهَاةٍ تَقُولُ مُقلَتُهَا. . . . . . وقوله: يُعجِبُها قَتلُهَا الكثمَاةَ ولا ... يُنظِرُهَا الدَّهرُ بَعدَ قَتلاَهَا

قال: يقول: يعجب الخيل أن تقتل الكماة، كما يعجب فرسانها. ألا تراه يقول في موضع آخر: تَحمَى السُّيوفُ عَلى أعدائِهِ مَعَهُ ... كأنَّهُنَّ بَنُوهُ أو عَشَائِرُهُ فإذا جاز أن يوصف السيف بأنه يحمى مع صاحبه، فالحيوان الذي يعرف كثيرا من أغراض صاحبه - لأنه مؤدب معلم - أحرى بذلك. فيقال له: هذا الذي ذكرته استعارة، والاستعارات لها مواضع تحسن فيها وتقبح، وهو جائز على وجه المجاز، وقد يقع المجاز في بعض المواضع أحسن من الحقيقة، ولكن الحقيقة، وهي أصحاب الخيل هاهنا، أولى من الخيل، فالضمير في: (يعجبها) في اللفظ راجع إلى الخيل، وهو في المعنى لأصحابها؛ يصفهم بالشجاعة والجرأة على القتل وسفك الدماء؛ يقول: يعجبها أن تقتل الكماة ولا تنظر بعدهم بل تموت في أثرهم. وقوله: هو النَّفيسُ الذي مواهِبُهَ ... أنفَسُ أمَوالِهِ وأسنَاهَا قال: هذا تقصير في مدح ملك أن يقال له: هو النفيس. فيقال له: ولم كان ذلك تقصيرا، والنفيس: هو الشيء الفاخر المرغوب فيه، المضنون

به؟ يقال: نفس الشيء نفاسة، إذا كان كذلك. على أنه وإن كان فيه تقصير، فقد طوله حسن الترديد، وهو قوله: . . . . . . . . . . أنفَسُ أموالِهِ وأسنَاهَا فحسن لذلك. وقوله: النَّاسُ كالعَابدِين آلِهَةً ... وعَبدُهُ كالُوَحِّدِ اللاَّها قال: أي: عبده مقبل بالطاعة عليه، مفوض بالرجاء إليه، لا يلتفت إلى من سواه لإغنائه عنه. وعبد غيره، يطلب من هذا تارة، ويرجو هذا أخرى. وأقول: هذا ليس بشي!. والمعنى أن الناس من غير عبيده في ضلال، وعبده في هداية. وقوله: إذا كنتَ تَرضَى أن تعيش بِذِلَّةٍ ... فلا تَستَعِدَّنَّ الحُسَامَ اليَمانِيَا

قال: أستعمل النفي في موضع الاستفهام، في قول ربيعة بن مقروم: فَدَعَوا: نَزَالِ، فكنتُ أوَّلَ نَازِلٍ ... وعَلامَ أركَبُهُ إذا لَمْ أنزِلِ؟ قال: ومثل هذا الاستفهام قول الآخر: فَلِمْ طَالَ حضملِي جَفنَهُ وجَفِيرَهُ ... إذَا أنا لم أطعَنْ إذا الخَيلُ كَرَّتِ فيقال له: أقلب تصب! وذلك (أن) ربيعة استعمل الاستفهام في موضع النفي؛ لأن قوله: . . . . . . . . . . . ... وعَلامَ أركَبُهُ إذَا لَمْ أنزِلِ؟ بمعنى: لا ركوب أنتفع به إذا لم انزل، وكذلك التقدير في بيت الآخر، فبيت أبي الطيب محمول على الحقيقة لأنه نفي، وبيت ربيعة محمول على المجاز، لأنه استفهام في موضع النفي، فالأولى أن يحمل المجاز على الحقيقة، ولا تحمل الحقيقة على المجاز.

وقوله: إذَا الجودُ لم يُرزَقْ خلاصاً من الأذَى ... فلا المَجدُ مَكسُوباً ولا المالُ بَاقِيَا قال: شبه (لا) بليس فنصب الخبر، قال سعد بن قيس: مَنْ صَدَّ عن نِيرانِهَا ... فأنا ابن قَيسٍ لا بَراحُ فيقال له: نعم، هي مشبهة بليس إذا وليتها النكرة، وهاهنا وليتها المعرفة، وإنما حملت - هاهنا - (لا) على (ما) في دخولها على المعرفة لنفي الحال كما حملت عليها في نفي الماضي المقرب من الحال في قوله تعالى: (فلا صدق ولا صلى). وقوله: بِعَزمٍ يَسِيرُ الجسمُ في السَّرجِ راكباً ... به وَيَسيرُ القَلبُ في الجسمِ ماشِيَا

قال: أي: لقوة العزم ما يكاد القلب يتحرك من موضعه، ولو تحرك في الحقيقة لمات صاحبه، وقد أتى نحو هذا أبو تمام في قوله: مَشَتْ قلوبُ أُنَاسٍ في صُدُورِهمُ ... لمَّا رأوكَ تَمَشَّى نَحوَهُمْ قُدُمَا وطريق أبي تام أسلم؛ لأنه ذكر تحرك القلب في موضع الشدة والمهلكة، ألا ترى إلى قولهم: قد انخلع قلبه فمات! أي: فارق موضعه، فلهذا كانت أسلم. فيقال له: ما كان أغناك عن التعرض لشرح معاني الشعر، وأنت فيها بهذه المنزلة، وأحوج هذا الديوان إلى غيرك! ولو كان تصرفك في المال، كتصرفك في المعاني، لكان ينبغي أن يحجر فيه عليك، ويؤخذ به على يديك! ولقد أخطأت سبيل هذا المعنى وتجاوزت طريقه، فأنت في واد وهو في واد، وهو قوله: بِعَزمٍ يَسِيرُ الجِسمُ. . . . . . . . . . . . . أي: بعزم شديد يسير القلب به تعبا في الجسم، وأن كان الجسم مستريحا بركوبه في السرج، فكنى عن تعب القلب بمشيه في الجسم لكثرة قلقه واضطرابه وكنى عن راحة الجسم بركوبه في السرج لكونه مستقرا فيه، مستقلا محمولا. فهذه آخر المآخذ على الشيخ أبي الفتح عثمان بن جني الذي قويت عليه يد الطاقة، ووصلت إليه يد المنة. الحمد لله حق حمده، وصلواته على خير خلقه محمد وآله الطاهرين، أئمة الدين، وأصحابه المنتجبين الأكرمين.

سمع مني - بقراءتي - مآخذي على الشيخ أبي الفتح عثمان بن جني، المولى الشيخ العلامة الفاضل الكامل البارع شرف الدين أبو عبد الله الحسين بن إبراهيم بن الحسين الإربلي أدام الله سعادته وإسعاده. وأجزت له أن يرويه عني، ويقرأه لمن شاء حيث شاء. وكتب أحمد بن علي بن معقل الأزدي ثم المهلبي لثلاث بقين من رجب سنة ست وثلاثين وست مائة، حامدا لله على نعمه ومصليا على محمد وآله.

الجزء الثاني المآخذ على شرح أبي العلاء المعري الموسوم باللامع العزيزي

الجزء الثاني المآخذ على شرح أبي العلاء المعري الموسوم باللاّمع العزيزي

بسم الله الرحمن الرحيم هذه مآخذ على الشّيخ أبي العلاء المعرّي في شرحه ديوان أبي الطّيب المتنبي، المعروف باللاّمع العزيزي: فمن ذلك في قوله: (الكامل) أنساعها ممغوطة وخفافها ... منكوحة وطريقها عذراء جعل الطريق عذراء، والعذراء هي التي جرت العادة بأن تنكح، وهي هاهنا ناكحة لأنّها التي أدمت الخفاف. فيقال: العذراء من النّساء التي لم تفتضّ، فجعل هذه الطريق التي لم تسلك، بمنزلة المرأة التي لم تفتضّ، وجعل ناقته مفتضّة منكوحة، بملاقاة حصى المعزاء والظّرّان التي هي في الطّريق كقول لبيد: (من البسيط)

بجسرة تنجل الظّرّان ناجية ... إذا توقّد في الدّيمومة الظّرر والمعنى، إنه يصف نفسه بكثرة سيره في الفلوات الموحشة، التي لم يسلكها أحد قبله، وتلك من شيم اللّيالي. وقال في قوله: (الكامل) جمد القطار ولو رأته كما رأى ... بهتت فلم تتبجّس الأنواء الأجود أن تكون الأنواء فاعلة رأته، ويجوز أن يكون العامل فيها الفعل المتأخّر وهو تتبجّس، والأول مذهب الكوفيّين، والثاني مذهب البصريين. وأقول: بل الأجود أن تكون الأنواء فاعلة تتبجّس لأنّها تليها، وكلا الفعلين متوجّه إليها. ويجوز أن تكون الأنواء مرتفعة ببهتت مفعولا لم يسمّ فاعله. وقال في قوله: (الوافر) وتنكر موتهم وأنا سهيل ... طلعت بموت أولاد الزّناء إثبات الألف في أنا هو عند بعض النّاس ضرورة، لأن هذه الألف لا تثبت إلاّ في

الوقف. وكان محمد بن يزيد يتشدّد في ذلك، ولا يجيزه وقد جاء في مواضع كثيرة، من ذلك قول الأعشى: (المتقارب) فكيف أنا وانتحالي القوا ... في بعد المشيب كفى ذاك عارا وقول حميد بن بحدل: (الوافر) أنا زين العشيرة فاعرفوني ... حميد قد تذرّيت السّناما وأقول: قول الشّيخ: إثبات الألف عند بعض النّاس ضرورة أن كان يريد ببعضهم الآخر، إثباتها من غير ضرورة فصواب، وإن كان يريد أن إثباتها لا يجوز، لا في الكلام ولا في الشّعر، فذلك خطأ على خطأ، وذلك إنها قد جاءت في القرآن في قوله تعالى: (لكنا الله هو ربي) بحذف الهمزة من أنا والإدغام وإثبات الألف، وهي قراءة ابن عامر. وفي قوله تعالى: (أنا أحيي) بإثبات الألف من أنا فكيف لا يجوز المبّرد إثباتها في الشعر، وهو موضع ضرورة، وقد جاءت فيما لا ضرورة فيه؟

وقال في قوله: (المتقارب) وكلّ نجاة بجاويّة ... خنوف وما بي حسن المشي قال: البجاويّة منسوبة إلى البجاة، ويقال: إنه اسم جيل من النّاس. وقيل: بل البجاة البلد، ولهم نجب موصوفة. ويجب أن يكون قوله: بجاوية منسوبة إلى على غير قياس، لأنه لو حمل على لفظ البجاة لقيل بجوي. وأقول: أن الجوهريّ ذكر أن البجاوية تنسب إلى بجاء، قال: وبجاء اسم قبيلة، والبجاويات من النّوق تنسب إليها، فعلى هذا تكون منسوبة على قياس. وقال في قوله: (المتقارب) وأمست تخبّرنا بالنّقا ... ب وادي المياه ووادي القرى النّقاب: من قولهم: ورد الماء نقابا، أي: لم يشعر حتى هجم عليه. وقد بالغ في صفة النّجائب، وأخبر إنها تعلم الرّكبان بمكان المياه، فهي أعلم بها منهم.

وأقول: الرواية الكثيرة: تخيّرنا بالياء منقوطة باثنتين من تحتها. والمعنى أن الإبل أوصلتنا إلى النّقاب، وفيه طريقان، إحداهما إلى وادي المياه، والأخرى إلى وادي القرى، فأيّا شئنا سلكنا، وكلاهما يؤدي إلى المقصود ويحصّل الغرض في السيّر. (والنّقاب: يحتمل أن يكون جمع نقب.) وقال في قوله: (المتقارب) وقلنا لها أين أرض العراق ... فقالت، ونحن بتربان، ها تربان: موضع، وذكره يتردّد في الشعر، قال النّابغة: (البسيط) أو ذو وشوم بحوضى بات منصلتا ... يقرو الدّكادك من تربان والأكما

وأقول: ليس هذا البيت كما أنشده، ولا فيه ذكر تربان، وهو مركّب من نصفي بيتين للنّابغة، الأول منهما من قوله: (البسيط) أو ذو وشوم بحوضي بات منكرسا ... في ليلة من جمادى أخضلت ديما والآخر منهما من قوله: (البسيط) حتّى غدا مثل نصل السيّف منصلتا ... يقرو الدكادك من نيّان والأكما وقال في قوله: (المتقارب) وجابت بسيطة جوب الرّدا ... ء بين النّعام وبين المها المها: بقر الوحش، سميّن بذلك لبياض ظهورهنّ، ويصفون الأشياء البيض بمها، والمها: البلّور، ويقال للأسنان مها، قال المسيّب (بن علس): (الكامل) ومها يرفّ كأنّه إذ ذقته ... عانيّة شجّت بماء يراع ويجعلون الشّمس مهاة، قال الشاعر: (الطويل) وبيضاء لم تطبع ولم تدر ما الحيا ... ترى أعين الفتيان من دونها خزر

قال أبو الصلّت الثّقفي: (الخفيف) ثم يجلو الظلام ربّ قدير ... بمهاة لها ضياء ونور فيقال: أن العرب وضعت أسماء لمسميّات، وكأنّها في أصل وضعها للتّشبيه، فقالوا لبقرة الوحش مهاة، لبياضها، وقالوا للمرأة مهاة، على وجه التّشبيه لا على إنه اسم لها كالمهاة للبقر. وكذلك يقال في بيت المسيّب: ومها يرف. . . . . . . . . يعني الثّغر، إنه شبّهه بالمها، لبياضه وصفائه. وكذلك إذا جعلته درا فقال: رأيت درا، أو أعجبني درّ، ولم يذكر الموصوف، ولا في الكلام ما يدلّ عليه، كما تقول: هذا ثغر، وأعجبني ثغر، لم يجز إلاّ على التّشبيه. وكذلك يقال في بيت أبي الصلّت، إنه شبّه الشّمس لبياضها وصفائها بالمهاة، فجعلها مهاة على طريق المجاز والإغراق، لا أن تكون المهاة من أسمائها، كما أن من

أسمائها الجونة. وهذه الطريقة في المجاز واسعة كثيرة في أشعارهم، ويراد بها التّشبيه، من ذلك قول امرئ القيس: (الطويل) كأنّي بفتخاء الجناحين لقوة ... على عجل منّي أطأطئ شملالي فجعل فرسه عقابا على وجه التّشبيه. ومثله قول أبي الطّيب: (البسيط) وفي اكفّهم النّار التي عبدت ... قبل المجوس إلى ذا اليوم تضطرم جعل السيوف نارا، وإنما تشبّه بالنار. وقال في قوله: (المتقارب) ولاح لها صور والصّباح ... ولاح الشّغور لها والضّحى ذكر عن أبي الفتح ابن جنّي، إنه قال كلاما معناه: صور لا يعرف في المواضع وإنما المعروف صورى. وإنما أخذه أبو الفتح من الكتب الموضوعة في المقصور والممدود، وإنما أراد المتنبي: صوار فألقى حركة الهمزة على الواو وحذفها. وقد

ذكر الفرزدق هذه المواضع في شعره فقال: (الطويل) فما جبرت إلاّ على عنت بها ... قوائمها إذ عقّرمت يوم صوأر هذا وأقول: أما قول ابن جني. أن صور لم يعرف في المواضع، فمحتمل أن يكون الاسم صور لهذا الموضع ولم ينقل، كما إنه يكون بعض أسماء النّاس، لم ينقل لكثرة المواضع وكثرة النّاس. وأما الوجه الذي ذكره الشيخ أبو العلاء فظاهر محتمل. وصور من غير حذف الهمزة شاذّ، لتحرّك الواو وانفتاح ما قبلها، ولم تقلب ألفا، والشذوذ كثير في الأعلام، نحو محبب وموظب. وصوأر: فوعل، ولا يكون فعأل ولا فعلل، لأن زيادة الواو فيه أولى من زيادة الهمزة، وإذا ثبت (ذلك) فلا يكون فعلل، لأن الواو مع ثلاثة أصول لا تكون إلاّ زائدة. وقال في قوله: (المتقارب) فيا لك ليلا على أعكش ... أحمّ البلاد خفيّ الصّوى وردنا الرّهيمة في جوزه ... وباقيه أكثر مما مضى قد اختلف في الضّمير في جوزه فقيل: هو راجع إلى أعكش المكان، أي:

وردنا الماء الذي هو الرّهيمة في جوز اعكش. ولا يجعل الضمير اللّيل، لئلاّ يتناقض، لقوله: . . . . . . . وباقيه أكثر مما مضى فلا يكون الورود في جوزه إذ لم يحصل التّساوي الذي يقتضيه الوسط. وقال الشّيخ أبو العلاء: وبعض من لا علم له بالعربية، يسأل عن هذا البيت، ويظنّ إنه مستحيل، لأنه يحسب إنه لمّل ذكر الجوز، وجب أن تكون القسمة عادلة في النّصفين فيذهب إلى أن قوله: . . . . . . . . . وباقيه أكثر ممّا مضى نقض الكلام المتقدّم، وليس الأمر كذلك، ولكنه جعل ثلث اللّيل الثّاني كالوسط، وهو الجوز، ثم قال: . . . . . . . . . وباقيه أكثر مما مضى كأنه ورد والثلث الثاني قد مضى منه ربعه، وبقي ثلاثة أرباعه أو أكثر، وهذا بيّن واضح. والهاء في باقيه يجوز أن ترجع إلى الجوز، وإلى اللّيل. وأقول: الأولى أن يقال في هذا: أن مقاربة الشيء تستعمل بمعنى الوصول إليه، والحلول فيه كقوله تعالى: (وإن منكم إلاّ واردها)، جعل مقاربة جهنّم

والإشراف عليها ورودها، (منها قولهم في التّأكيد: جاء الجيش اجمع، وجاءت القبيلة احترازا من أن يكون بقيت منها بقيّة). فيكون، على قوله، في جوزه الضمير راجعا إلى اللّيل في البيت الذي قبله، ويكون الورود قريبا من جوز الليل (أو بقيت منه بفيّة فكأنه في جوزه، وصحّ أن يقول:) . . . . . . . . . وباقيه أكثر مما مضى على هذا التّفسير، ولا يكون نقضا للأول. وإنما أوقع الشيخ في هذا التّقدير، جعل الضّمير في ماضيه راجعا إلى جوزه، والصحيح الذي يصحّ به المعنى، إنه راجع إلى اللّيل كما تقدّم. وقال في قوله: (المتقارب) فلمّا أنخنا ركزنا الرّما ... ح فوق مكارمنا والعلا أي: أسندناها إلى شيء، كما جرت العادة، وكأنه ذهب بهذا القول إلى انهم لم يكن معهم شيء تركز إليه الرّماح، لأنها يعتمد بها المكان العالي، فركزوها فوق مكارمهم، لأنّها رفيعة عالية. وأقول: ليس الرّكز الإسناد، ولكن الرّكز القيام في الأرض، والإسناد القيام إلى شيء على الأرض. فقوله: أي أسندناها إلى شيء كما جرت العادة وكذلك قوله: كأنه ذهب في هذا القول، إلى أنهم لم يكن معهم شيء يركزون إليه الرماح ليس

بشيء! والجيّد أن يقال في قوله: . . . . . . ركزنا الرّماح ... فوق مكارمنا. . . . . . أي لم نركزها فوق الأرض، كما جرت به العادة، بل فوق مكارمنا وعلانا الرّفيعة العالية، يريد بذلك الإغراب في المعنى، والمبالغة كعادته الجبارية. وقال في قوله: (المتقارب) بها نبطيّ من أهل السّواد ... يدرّس انساب أهل الفلا يعرّض بالوزير أبي الفضل بن الفرات، لأنه لم يحظ عنده بطائل. ويقال: أن القصيدة الرّائية التي في ابن العميد: (الكامل) . . . . . . وأيّ خلق كبّرا كانت فيه، وكان قد نظمها على قوله: (الكامل) لأيّ كف بشّرت ... بابن الفرات وبناها على قوله: جعفرا

وأقول: هذه القصيدة الرائية، فيها مواضع، تدلّ على أن اصل وضعها في ابن العميد منها قوله: (الكامل) أرجان أيّتها الجياد. . . . . . . . . . . . ومنها قوله، يصفه بأنه من العلماء الفلاسفة: (الكامل) من مبلغ الأعراب أنّي بعدها ... شاهدت رسطاليس والاسكندرا وسمعت بطليموس دارس كتبه ... متملّكا متبديّا متحضّرا كما وصفه في القصيدة الدّالية بأنه من الفلاسفة، في قوله: (الخفيف) عربيّ لسانه، فلسفيّ ... رأيه، فارسيّة أعياده ومنها قوله: (الكامل) تركت دخان الرّمث في أوطانه ... طلبا لقوم يوقدون العنبرا وذلك أن الرمث مرعى من مراعي الإبل، وقد يستعمل وقودا، ولد دخان أسود إلى الغبرة، يقال: بعير أورق كدخان الرّمث، والإبل ومراعيها تختصّ بالعرب التي تركت ناقة أبي الطّيب بلادهم، ومصر من بلاد العرب، فالذين يوقدون العنبر هم الفرس في بلادهم.

وقال في قوله: (المتقارب) وشعر مدحت به الكركد ... نّ بين القريض وبين الرّقى الكركدنّ: لفظة ليست بالعربية، وليس لها اصل في كلامهم، وقد كثرت الأحاديث عن الكركدنّ. والذي ذكر ابن الأعرابي، إنه دابّة أصغر من الفيل، له قرن واحد، وزعم إنه يسمى الهرميس وأنشد: (الرجز) بالموت ما عيّرت يا لميس قد يهلك الأرقم والفاعوس والأسد المذرّع الحؤوس والفيل لا يبقى ولا الهرميس وقول أبي الطّيب: . . . . . . . بين القريض وبين الرّقى كأنه ممزوج منهما، أي: أردت خديعته به.

وأقول: إنما شبّهه بالكركدّن، لعظمه بالسّمن وثقله، لقوله في قوله: (البسيط) عيد بأيّة حال عدت يا عيد ... . . . . . . . . . أن امرءا أمه حبلى تدبّره ... لمستضام سخين العين مفؤود وقول الشيخ في قوله: . . . . . . . . . بين القريض وبين الرّقى أي: أردت خديعته به ليس بشيء! ولو قال: أردت السلامة منه به، لأنّ ذلك فعل الرّقى، لكان أولى. وقال في قوله: (الوافر) أسامرّيّ ضحكة كلّ راء ... فطنت وأنت أغبى الأغبياء سامرّاء اسم محدث سمّي بشيء فغيّرته العامّة، لأن الذي سمّاها جعلها: سر من رأى، فثقل ذلك على السن العوامّ، فغّيروه إلى ما هو عكسه، وانشدوا لعبد الله بن سعيد الأموي، وكان من أهل العلم: (الوافر) لعمري ما سررت بسرّ من را ... ولكنّي عدمت بها السّرورا!

وقال بعض المحدثين: (مخلّع البسيط) ما سرّ من را بسرّ من را ... بل هي سوء لما رآها ومن العجائب أن البحتري سمّاها سامرّاء، على مذهب العامّة ولم يتهيّب) الخليفة، قال: (الكامل) أخليت منه البذّ وهو قراره ... ونصبته علما بسامرّاء فيقال: أن الذي ابتدأ هذه المدينة واختطّها المعتصم، لكثرة الجند ببغداد، وتعسّفهم على العوامّ، وإنما سمّاها: سرّ من رأى. ولعلّ هذا الاسم غيّره عن وضعه من جاء بعده من الخلفاء، لكونه لم تعجبه هذه المدينة، ولم توافق غرضه فسمّاها بضدّ اسمها سامرّا وحذف الهمزة من ساء كما حذفت الأخرى من رأى وأدغم النون في الرّاء فقال: مرّا. ولم يكن ذلك من فعل العوامّ. وأما تعجّبه من البحتري، في إنشاده البيت الذي قافيته سامرّاء ولم يتهيّب في إنشاده الخليفة، فظنّ منه أن الشعر مديح في الخليفة، وهو في أبي سعيد الثّغري، ولو إنه في الخليفة فلعلّه هو الذي غيّر هذه اللفظة فلا يتهيّبه. وقال في قوله: (الطويل) سبقنا إلى الدّنيا فلو عاش أهلها ... منعنا بها من جيئة وذهوب

يريد أن أهل الأرض المتقدّمين، لو كانوا باقين لم يكن المتأخرون خلقوا. وهذه مأخوذ من قول بعض الحكماء لبعض الملوك لمّا قال: ما أطيب الملك لو دام! فقال لو دام لم يصل إليك! فيقال له: لم قلت: لو أن أهل الأرض المتقدّمين باقون، لم يكن المتأخرون خلقوا؟ وما أنكرت أن يعمّر المتقدمون، ويخلق المتأخرون، ويكونوا معهم مجتمعين، فإن ذلك غير مستحيل كما أن تعمير نوح ألف سنة، لم يمنع من خلق من خلق بعده. ومعنى قول الحكيم: لو دام الملك لم يصل إليك يريد: أن العادة الجارية في الدّنيا بتغيير الأحوال وزوال الملوك والملك كما قال ابن الزّيّات: (البسيط) لا تجعلنّ، رويدا، إنها دول ... دنيا تنقّل من قوم إلى قوم فلو دام الملوك، ولم تتغيّر الأحوال، لدام الملك لمن تقدّمك، ولم يصل إليك. ومعنى بيت أبي الطّيب: أي: لو عاش أهل الدنيا، ولم يموتوا، لأدّت بهم الكثرة إلى الازدحام فيها، للامتلاء والامتناع من الحركة بالمجيء والذّهاب. وفي هذا تعزية لسيف الدولة، بكثرة من مات من الأمم الخالية، وتسلية له عن مملوكه يماك المعزّى به. وقال في قوله: (الطويل) ولا فضل فيها للشّجاعة والنّدى ... وصبر الفتى لولا لقاء شعوب

ادعاء أبي الطّيب أن الدنيا، لا فضل فيها للشجاعة، والنّدى، وصبر الفتى، لولا الموت. غير صحيح، لأن الناس لو كانوا مخلّدين، لم تنقص فضيلة الجود وغيره من الأشياء المحمودة. فيقال للشّيخ: لا لبس في أن الشّجاع، لو تقدّم في الحرب، واقدم على الطّعن والضرّب، وهو على يقين من السّلامة، لم يكن له فضل في ذلك، لأنه قد وثق بالحياة، فلا يضرّه إلقاء نفسه للمهالك. فكان الناس يتساوون، فلم يكن لأحدهم مزيّة على الآخر. وكذلك يقال في الجواد، وإنه إذا تيقّن البقاء، ووثق بالسّلامة، لم يكن له فضل في العطاء، لأنه قادر على إخلافه بالإغارة على الأموال ولا يقتل، ورده بالتّجارة في البرّ والبحر، ولا يهلك، ولا يغرق. فهذا يبين لك إنما يحمد الإقدام، ويحسن السّماح، عند تجويز الهلاك. ولولا ذلك لم يكونا كذلك. وقال في قوله: (الطويل) فتى الخيل قد بلّ النّجيع نحورها ... تطاعن في ضنك المقام عصيب قوله: فتى الخيل كلام فيه حذف، وإنما يريد: فتى الخيل الذي يفضل الفتيان، كما تقول: فلان رجل بني فلان، أي: هو أفضل رجل فيهم. وقد يجوز أن يكون فيهم

جماعة يقع عليهم هذا الاسم، ومنه قول الهذليّ: (الطويل) لعمر أبي لطّير المربّة بالضّحى ... على خالد أن قد وقعن على لحم أي: لحم رجل عظيم الشأن! ومنه حديث يروى عن رجل من اليهود رأى عليّا - عليه السلام - يشتري جهازا لامرأة، فقال له: بمن تزوّجت؟ فقال: بفاطمة بنت محمد (عليهما السلام)، فقال اليهوديّ: لقد تزوّجت بامرأة! أي: ذات شرف عظيم، وقد علم أن هذا الاسم يقع على النساء. وأقول: إذا قيل: زيد فتى الخيل، فالمراد: فتى فرسان الخيل، فليس في الكلام حذف غير المضاف وهو فرسان لدلالة على الحال عليه، وبما ذكره من إنها تطاعن، وهذا يفيد حذف المضاف. فلا فرق أن يقال في الإفادة: زيد فتى الفتيان، أو فتى الفرسان، وليس هذا كما مثّله في الشّعر: وقعن على لحم ولا بقوله في الحديث: لقد تزوّجت بامرأة لأن هذا الخبر لا يفيد كإفادة الاوّل، والتقدير: وقعن على لحم أيّ لحم، أي: عظيم جدا، ويراد به صاحبه. وكذلك قوله: بامرأة أي: بامرأة جدّ امرأة، أي: شريفة جدا، وعلى ذلك قوله: (البسيط) أن امرءا غرّة منكنّ واحدة ... بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور أي: لمغرور جدّ مغرور، أو لمغرور جدا.

وقول الآخر: (الطويل) لئن كان يهدى برد أنيابها العلا ... لأفقر مني أنّني لفقير أي: لفقير جد فقير، أو: لفقير جدا. وقال في قوله: (الطويل) وكيف التذاذي بالأصائل والضّحى ... إذا لم تعد ذاك النّسيم الذي هبّا يقال: أصيل وآصال. قال الهذليّ: (الطويل) لعمري لأنت البيت أكرم أهله ... وأقعد في أفيائه بالأصائل وأقول: ليس أصائل جمع أصيل، بل أصائل: جمع آصال، وآصال جمع أصل، واحدا فردا، كقولهم جمل وأجمال وجمائل. قال ذو الرّمّة: (الطويل) وقرّبن بالزّرق الجمائل بعدما. . . . . . . . .

وقال في قوله: (الطويل) ومن واهب جزلا ومن زاجر هلا ... ومن هاتك درعا ومن ناثر قصبا هلا: من زجر الخيل، أن شئت نونّت وان شئت لم تنوّن، وقد أخرجوه من زجر الخيل فاستعملوه في الآدميين، قالت ليلى الاخيلية: (الطويل) أعيّرتني داء بأمّك مثله ... وأيّ حصان لا يقال له: هلا فيقال: ما أخرجوه من زجر الخيل وهي تقول: . . . . . . . . . وأيّ حصان لا يقال له: هلا وإنما ذكرته استعارة، وضربته مثلا للذّكران من الآدميين، وهو على أصله ولفظه في الخيل. وقال في قوله: (البسيط) ولا تصبك اللّيالي أن أيديها ... إذا ضربن كسرن النّبع بالغرب

النّبع: شجر يوصف بالصّلابة، من أشجار الجبال. والغرب: شجر ينبت على الأنهار، ليس له قوة. والعرب إذا وصفوا الحّيزين المقتتلين بالشّدة قالوا: النّبع بالنّبع يقرع، ولذلك قال زفر بن الحارث: (الطويل) فلمّا قرعنا النّبع بالنّبع بعضه ... ببعض أبت عيدانه أن تكسّرا ويروى: عيدانهم، ولم يكن ثم نبع يقرع بعضه ببعض، وإنما وصف الفريقين بالشّدة والصّلابة. وأقول: إنما قال: فلمّا قرعنا النّبع بالنّبع. . . . . . . . . . . . . . . لأنّ زفر بن الحارث من كلاب، وكلاب من مضر بن معدّ، وتغلب من ربيعة بن معد، فالفريقان بعضهم من بعض لكونهم من ولد معد بن عدنان، وقوله فيما قبل يدلّ على ذلك وهو: (الطويل) وكنا حسبنا كلّ بيضاء شحمة ... عشيّة لاقينا جذام وحميرا أي: حسبنا تغلب ضعفاء كجذام وحمير، وهما من ولد يعرب بن قحطان، فأنّا لما

لقيناهما وجدناهما من الضّعف بمنزلة الشّحمة وهذا المثل السائر: ما كلّ سوداء تمرة ولا بيضاء شحمة فلمّا لقينا بني تغلب وجدناهم بضدّ ذلك من القوة والشّدة، ولم يكونوا كجذام وحمير شحمة، فقرع القنا (النّبع) بعضه ببعض كناية عن (قتال) القبليتين كلاب وتغلب، انهم بعض من بعض! وقال في قوله: (البسيط) تعثّرت به في الأفواه ألسنها ... والبرد في الطّرق والأقلام في الكتب يريد أن هذا الخبر (نبا) عظيم، لا تجترئ الأفواه على النّطق به، فهذا قد يجوز أن يكون صحيحا، لأن الإنسان ربّما هاب الشيء لعظمه في نفسه. وكذلك الكاتب الذي يكتب بالخبر الشّنيع، ربّما تعثر قلمه فيه هيبة للأمر، وإنما التّعثر من الكاتب، وأمّا ادّعاؤه التّعثّر للبرد، فكذب لا محالة، لأن البريد لا يشعر بالخبر. وقد ذكر أبو الطّيب في مكان آخر، ما يدلّ على أن حامل الكتاب الذي لا يشعر ما فيه، غير شاق عليه حمله فكيف بالدابّة التي لا يحكم عليها بالعقل؟! فمن ذلك قوله لعضد الدولة: (السريع) حاشاك أن تضعف عن حمل ما ... تحمّل السّائر في كتبه

فيقال له: ليس تعثّر البرد بحمل الخبر الذي هو نعيّ حقيقة، بل مجازا مبالغة وإغراقا. وهذا، في كلامهم أكثر من أن يحصى، فمن ذلك قول الشّماخ: (الطويل) ابعد قتيل بالمدينة أظلمت ... له الأرض تهتزّ العضاه بأسؤق وقول الآخر: (الطويل) أيا شجر الخابور مالك مورقا؟ ... كأنّك لم تحزن على ابن طريف وقول المتنبي: (الطويل) إذا ظفرت منك العيون (بنظرة) ... أثاب بها معيي المطيّ ورازمه على أن الشّيخ قد قال في تفسير قوله: (الكامل) طربت مراكبنا فخلنا إنها ... لولا حياء عاقها رقصت بنا والمراكب جمع مركب، وهو الذي يوضع على ظهر الدّابة، ويجوز أن تسمّى الدابة مركبا، وكون المركب في معنى السّرج أبلغ في هذا الموضع، لأنّ الدابة حيوان، فهي أقرب إلى الرقص من الذي يركب فيه. فهو كما ترى قد جعل الجماد الذي هو خشب، يرقص لفرحه. فهلاّ أجاز في الحيوان، الذي هو بريد، أن يعثر لحزنه. وكلاهما استعارة ومجاز.

وقد قال: إنما التّعثّر في الأقلام من الكاتب، فلم لا جعل التعثّر في البريد من الرّاكب لكآبته وحزنه فهو لا يهتدي الطريق، فيسلك الحزن، والوعر ضلالا، فيتعثّر فرسه فكأنّه هو المتعثّر؟ وقوله: أن حامل الكتاب الذي لا يشعر ما فيه، غير شاقّ عليه خطأ، لأن مثل هذا الرّزء العظيم بهذه المرأة العظيمة، التي هي أخت سيف الدولة، لا يقال: إنه لا يشتهر موتها، فيحمل البريد بذلك كتابا لا يعلم ما فيه، فلا يشقّ عليه! وقال في قوله: (البسيط) حللتم من ملوك الناس كلّهم ... محلّ سمر القنا من سائر القصب سائر، عند البصريين، مأخوذ من سؤر الشيء (وهو بقيّته، يرون إنه يجب أن يقدّم قبل هذه الكلمة بعض الشيء) الذي هي مضافة إليه فيقال: لقيت الرّجل دون سائر بني أبيه، لأنّ الرّجل بعضهم، وكذلك قول الشّاعر: (الطويل) وما حسن أن يعذر المرء نفسه ... وليس له من سائر عاذر لا يحسن أن يقال: لقيت اليوم سائر الناس، لأنه لم يتقدّم شيء تجعل سائر بقيّة له. وعلى هذا النّهج أكثر كلام العرب، ومنه قول الهذلي: (الطويل)

وغيّر ماء المرد فاها فلونه ... كلون النّؤور وهي إدماء سارها أي: سائرها، وحسن ذلك لأنه قال: وغيّر ماء المرد فاها. . . . . . . . . . . . ففوها: شيء قد تقدّم بكون ما بعده سؤرا له. وقال قوم: سائر مأخوذ من سار يسير، وقولهم: لقيت سائر القوم، أي: الجماعة التي يسير فيها هذا الاسم وينتشر، وممّا جاء على هذا الوجه قول الرّاجز: (الرجز) لو أن من يؤجر بالجمام ... يقوم يوم وردها مقامي إذا أضلّ سائر الأحلام أي: كلّها. وبيت أبي الطيب، على مذهب البصريين، يضعف، لأن القنا، ليس من القصب في الحقيقة. فكأنه قال: لقيت عنترة العبسيّ، دون سائر بني كلاب. وعنترة ليس منهم، والبيت على الوجه الآخر، لا كلام فيه. فيقال له: بل القنا من القصب على الحقيقة، وهو نوع منه صلب اصلب من غيره، وهو من القصب في النّبات بمنزلة البخت من الإبل، والجواميس من البقر، في الحيوان، وإذا كان كذلك فبيت أبي الطّيب يصحّ على مذهب من جعل سائر من سار يسير وتنزل منزلة قول القائل: لقيت مسلمة المرواني دون سائر بني أمية.

وقال في قوله: (البسيط) تخالف النّاس حتّى لا اتفاق لهم ... إلاّ على شجب والخلف في الشّجب فقيل تخلص نفس المرء سالمة ... وقيل: تشرك جسم المرء في العطب الملحدون يزعمون أن النفس تهلك كما يهلك الجسم. وقد روي عن أفلاطون وارسطاطاليس في ذلك أقوال، فيذكرون أن أحدهما كما يقول ببقاء النّفس الخيّرة بعد خروجها من الجسد. وأمّا الآخر فكان يقول ببقاء النفس المحمودة والمذمومة. ومن يذهب إلى هذا الوجه، يزعم إنها تكون ملتذّة بما فعلته من الخير في الدنّيا الفانية. وأقول: ليس الملحدون مختصّين بالقول بهلاك النّفس بهلاك الجسم بل من المسلمين الموحّدين المعتقدين للبعث والنشور من يقول بذلك. وهو كلّ من يرى أن الرّوح عرض، يفتقر إلى ضرب من البنية مخصوص، وذلك أن العرض لا يقوم بنفسه، فإذا فني ما يقوم به، فني بفنائه. وقال في قوله: (المتقارب) أتاهم بأوسع من أرضهم ... طوال السّبيب قصار العسب وحّد السّبيب هاهنا ضرورة، لأنه كان ينبغي أن يقول: طوال السّبائب.

فيقال: ليس إقامة الواحد مقام الجمع ضرورة، ولكن توسّعا، وقد جاء ذلك كثيرا على غير وجه الضرورة، كقوله: (الوافر) كلوا في بعض بطنكم تعفّوا ... فأنّ رمانكم زمن خميص وقول الآخر: (الطويل) بها جيف الحسرى فأمّا عظامها ... فبيض وأمّا جلدها فصليب وكذلك يقال في إقامة الجمع مقام الواحد في قوله: (الطويل) فشيّب أيام الفراق مفارقي ... وأنشزن نفسي فوق حيث تكون وقولهم: بعير ذو عثانين. وأشباه ذلك. وقال في قوله: (الوافر) وقد لبست دماؤهم عليهم ... حدادا لم تشقّ لها جيوبا

الحداد: الثوب الذي يلبسه الحزين، وجعل الطّير لوقوعها على هؤلاء القتلى، وأكلها لحومهم، قد اختضبت بدمائهم، فكأنّها لابسة حدادا لم تشقّ جيوبه، لأن الدّم قد عمّ جميع شخوصها، فليس منها شيء بالظاهر، وذلك ضدّ ما يجب إذ كانت مسرورة بقتلهم، والحداد إنما يلبسه الحزين. وأقول: أن أبا الطّيب اغرب في هذه الاستعارة إغراب حذاقة في صناعة، وذلك إنه لمّا قال: (الوافر) وما سكني سوى قتل الأعادي ... فهل من زوة تشفي الكروبا قال: (الوافر) تظلّ الطير منها في حديث ... تردّ به الصّراصر والنّعيبا فاستعار للطّير حديثا، للمناسبة التي بينه وبين الزيارة. ثم قال: تردّ به أي: بالحديث، الصّراصر، وهي أصوات الجوارح، والنعيب، وهو صوت الغربان، وأصواتها مستعملة في النّوح وذلك كثير. وجعل تلك الزيارة ليست كغيرها من زيارات الفرح والسّرور. ولمّا وصف الطّير بالنّوح، وهو من علامة الحزين، أردفه بما يجانسه من لبسها ثياب الحداد، وهو أيضاً من شعار الحزن في قوله: وقد لبست دماؤهم عليهم ... حدادا. . . . . . ثم نبّه على أن ذلك الشّعار والزّيّ ليس بحزن، على الحقيقة، بقوله:

. . . . . . لم تشقّ لها جيوبا كعادة الحزين، لأن من شأنه أن يشقّ جيبه على من يفقده من أحبابه، والمفقود هاهنا ليس من أحباب الطّير بل من أعدائها، لأن الطّير من أصحاب الممدوح، واتباعه، وعياله. فكأنها مبدية، بالنّوح ولبس الحداد، الحزن في الظاهر، وإن كانت مسرورة في الباطن. وقال في قوله: (الوافر) كأنّ نجومه حلي عليه ... وقد حذيت قوائمه الجبوبا الجبوب: الأرض. والمعنى أن الليل قد عمّ الأرض فكأنّها حذاء لقوائمه. وأقول: إنما قال: وقد حذيت قوائمه الجبوبا إشارة إلى طول اللّيل بتثّبته، وتثّبطه عن الزّوال والانقضاء، لا لأنه عمّ الأرض ولكنّه جعل الأرض حذاء للّيل، وهو حذاء ثقيل لا تكاد تنقله رجله، فكأنه أمسكها عن السير والانتقال. ولهذا قال فيما قبل: (الوافر) أعزمي طال هذا اللّيل. . . . . . . . . . . .

وقال في قوله: (الوافر) فشم في القبّة الملك المرجّى ... فأمسك بعد ما عزم انسكابا أكثر ما يستعمل عزمت وعزم مع حرف الخفض، أو مع أن والفعل، فيقولون: عزمت على الارتحال، وإن ارتحل. إلاّ أن ذلك جائز، لأن العزم القطع والإمضاء. وأقول: إنه ظنّ أن قوله انسكابا من قوله: عزم انسكابا: مفعول به، فتأوّل عزم بمعنى قطع ليعديّه، وليس كذلك،. وإنما هو مفعول له، أو مصدر في معنى الحال، لأنّ عزم غير متعدّ، لقول الله تعالى: (فإذا عزمت فتوكّل على الله) وقول الشّاعر: (الوافر) عزمت على إقامة ذي صباح ... لأمر ما يسوّد من يسود وورد البيت شاهدا في اغلب كتب النحو دون عزو.

وقال في قوله: (البسيط) وكلّما لقي الدينار صاحبه ... في ملكه افترقا من قبل يصطحبا جمع بين ضرورتين في قوله: يصطحبا: حذف أن وأعمالها، وذلك مفقود في الشّعر الفصيح. فيقال له: ليس في هذا، إلا ضرورة واحدة، وهو إنه أعطى المحذوف المقدّر حكم الثابت فنصب بأن محذوفة مقدّرة، كما ينصب بها ثابتة، وذلك كأعمال حرف الجر محذوفا مقدّرا في القسم، وبعد حرف العطف. وقوله: وذلك مفقود في الشّعر الفصيح. فيقال له: قد جاء ذلك (في) قول طرفة: ألا أيّهذا الزّاجري أحضر الوغى. . . . . . . . . فيمن رواه بنصب أحضر، فهل عندك ذلك من الشّعر الفصيح؟ وقال في قوله: (الطويل) أغالب فيك الشّوق والشّوق أغلب ... وأعجب من ذا الهجر والوصل أعجب

يريد: والشّوق أغلب منّي، أي: أني لا أطيقه. وذهب أبو الفتح ابن جنّي، إلى أن أغلب هاهنا من قولهم: أسد أغلب، أي غليظ العنق، يصف الشّوق بالشّدّة، ويزعم إنه يغالبه، وهو كاللّيث الأغلب. وهذا المعنى، قريب من الأول، إلا أن الذي ذهب إليه أبو الفتح لا يكون إقرارا من أبي الطّيب بأنه مغلوب، وهذا أشبه بمذهبه. والوجه الأول فيه إقرار للشّوق بالغلبة. وقد أنكر بعض الناس قول أبي الفتح، وليس بمنكر. فيقال للشّيخ: إذا تأملت تركيب البيت في صدره وعجزه، تحقّقت أن قول ابن جنّي في أن أغلب بمعنى أسد أغلب، ضيف جدا، وإن الجيّد القول الأول، أي أغلب مني، كما أن أعجب أراد به من الوصل، فكلا أفعل في الصّدر العجز للتّفضيل. وهذا الذي توجبه الصّناعة، ويقتضيه التركيب. وقوله: إلا أن الذي ذهب إليه أبو الفتح لا يكون إقرارا من أبي الطّيب إنه مغلوب، وهذا أشبه بمذهبه ليس بشيء! لأن هذا غزل، وهذا متغزّل، وليس بحماسة. والأشبه بمذهبه المبالغة في شعره، والمبالغة في التّفسير الأول، وهو أن الشّوق أغلب مني، والوصل أعجب من الهجر، أي: لا يتّعجب من الهجر أن وقع لكثرته (ولطوله) بل يتّعجب من الوصل أن وقع لقلّته.

وقال في قوله: (الطويل) إذا لم تنط بي ضيعة أو ولاية ... فجودك يكسوني وشغلك يسلب إذا لم تنط بي ضيعة تقطعني إياها، فجودك يكسوني، وشغلك عنّي يسلبني. وأقول: الأجود أن لا يكون المصدر معدى بعن، ولكن معدى باللاّم، أي: وشغلك لي يحسبني ويمنعني من التّصرف بنفسي، فأنفق ما تعطيني إياه وذلك يسلبني. ويدل على ذلك الرواية بفتح الشّين: وشغلك. وقال في قوله: (الطويل) وعن ذملان العيس أن سامحت به ... وإلاّ ففي أكوارهنّ عقاب الكلام يستغني عن قوله:

وعن ذملان العيس. . . . . . . . . . . . ثم ابتدأ كلاما فقال: أن سامحت العيس بذملانها ركبتها، وإلا تسامح، ففي أكوارهنّ عقاب، أي: أنا اقدر، من السيّر والتّصرف في الأسفار، على ما لا تقدر عليه العقبان. وأقول: الكلام لا يستغني عن قوله: وعن ذملان العيس. . . . . . . . . . . . ولا يتمّ إلا به، وهو معطوف على البيت الذي قبله، متعلّق به، وهو قوله: (الطويل) غنيّ عن الأوطان لا يستفزّني ... إلى بلد سافرت عنه إياب وهذا (الذي) ذكر الشّيخ ليس بشيء! ولا الذي (ذكره) غيره في هذا البيت من شرّاح الديوان! وأقول: أن قوله: وإلاّ شرط لقوله: غنيّ عن الأوطان. . . . . . . . . . . . وعن مسامحة العيس بالذّملان. (والتقدير:) وإلاّ اغن عنها، لما يعرض لي من سوء المقام، عند من أنا مقيم عنده، واحتجت إليهما، فأني صبور على سير الابل، تشيط، خفيف، كأنّي في أكوارها عقاب.

وقال في قوله: (الطويل) فديناك أهدى النّاس سهما إلى قلب ... . . . . . . . . . ومن خلقت عيناك بين جفونه ... أصاب الحدور السّهل في المرتقى الصّعب الحدور: كلّ مكان ينحدر فيه، وهو اسهل عندهم من الصّعود، لأن الصّعود شاقّة، قال الهذليّ: (الوافر) وأنّ سيادة الأقوام فأعلم ... لها صعداء مطلبها طويل وكلام أبي الطّيب مؤدّ هذا المعنى، كأنه قال: أصاب الحدور السّهل في الصّعود. وأقول: انظر إلى هذا التّفسير وقوله المعنى: أي: أصاب الحدور السّهل في الصّعود! وهكذا قال أبو الطّيب، إلا إنه وضع موضع المرتقى الصّعب الصّعود، فغيّر العبارة ونقصها، ولم يذكر المعنى الذي أراده الشّاعر. والمعنى: إنه لمّا وصف، أولا، هذا المتغزّل به بقوله: فديناك أهدى النّاس سهما إلى قلب ... . . . . . . . . .

وعنى بذلك طرفه، أراد المبالغة بقوله: ومن خلقت عيناك بين جفونه. . . . . . . . . فأن الأشياء الصّعبة سهلة عليه، وتطيعه وتنقاد اليه، لما هو عليه من الحسن، بهذه الصّفات المذكورة التي تفرّد بها، وملك القلوب بها، ويعني بذلك المخاطب. وقال في قوله: (الطويل) فأضحت كأنّ السّور من فوق بدؤه ... إلى الأرض قد شقّ الكواكب والتّربا المعنى إنه وصف بناء هذا الموضع بالعلوّ وإنه قد تناهى بانيه فكأنّ أعلاه في السّماء وأسفله قد شقّ الأرض. وأقول: كأنّه لم سيفهم المعنى، وهو إنه قد تناهى في وصفه، فجعل البناء الذي من شانه أن يبني من اسفل إلى فوق بالعكس، فجعله، لعلوّه، كأن بدأه من فوق إلى أسفل، قد شقّ الكواكب أولا، فهي له كالأساس، ووصل إلى التّرب فشقّه، فكأنّ أبا الطّيب عكس قول السّموأل: (الطويل) رسا أصله تحت الثّرى، وسماؤه ... إلى النّجم فرع لا يرام طويل

وقال في قوله: (الطويل) أهذا جزاء الصّدق إن كنت صادقا ... وهذا جزاء الكذب إن كنت كاذبا هذا بيت فيه عتب شديد على سيف الدولة. يقول: أهذا الفعل الذي فعلت بي، من الإبعاد والإخافة، جزاء مدحي؟ فإن كنت صادقا، فما يجب أن تجازيني بقبيح، وإن (كنت) كاذبا، فإكرامي يجب أكثر مما يجب على الصّدق، لأني تقولّت لك من المكارم ما ليس فيك! فيقال: هذا الذي ذكره في تفسير كاذبا لا يسوغ أن يقابل به بعض العوامّ، فكيف بعض الملوك، لما فيه من قبح الخطاب، وسوء الأدب!! وقد ذكرت ما فيه في شرح ابن جنّي. وقال في قوله: (الوافر) وما بك غير حبّك أن تراها ... وعثيرها لأرجلها جنيب

(مجلّحة) لها أرض الأعادي ... وللسّمر المناخر والجنوب يقول: ما بك داء، إلا أن ترى الخيل، والغبار طائر من تحت أرجلها، وهو يتبعها، كأنه جنيب لها. وأقول: هذا التّفسير ظاهر، كما ذكره الشّاعر. والمعنى معه غير سائر ولأن مرض المحبّ إنما يكون من تمنّع حبوبه بهجره، وبعده وعدم وصاله. وسيف الدولة داؤه، كما ذكر أبو الطّيب، رؤية الخيل مثيرة للغبار، كريهة الوجوه، لها أرض الأعادي، وللسّمر مناخرها وجنوبها. وعلى هذا لا يخلو سيف الدولة من أن يكون قادرا عليه، أو عاجز عنه، فإن كان الأول، فالوصل حاصل، فما وجه المرض؟ وإن كان الثاني فهو هجو لسيف الدولة، بكونه لا يقدر عليه. إلا أن يكون ذلك وقت مهادنة، فبذلك يصحّ المعنى، وإلا فلا وجه لصحّته، لكنّ قول أبي الطّيب: (الوافر) فقرّطها الأعّنة راجعات ... فأنّ بعيد ما طلبت قريب يدلّ على أن ليس ثمّ مهادنة ومعاهدة، وقد يكون مرض العشق مع الوصال، خوفا من الانفصال.

وقال في قوله: (الوافر) إذا داء هفا بقراط عنه ... فلم يوجد لصاحبه ضريب؟ الناس يختلفون في إنشاد هذا البيت، واصحّ ما يقال: إذا داء. . . . . . . . . . . . . . .؟ أي: أهذا داء؟ وتكون الألف للتقرير، والاستفهام الخالص، كأنه لمّا ذكر داء سيف الدولة، وإنه حبّ الحرب، وشوقه إليها، قال: أهذا الدّاء داء، لم يعرفه بقراط. فأمّا من روى: إذا داء. . . . . . . . . . . . . . . فلا وجه لروايته، على إنه يؤدي معنى انفراد سيف الدولة بهذا الدّاء، إذا جعلت الفاء جوابا لاذا. وأقول: قد ذكر في ذلك ثلاثة اوجه: إذا داء. . . . . . . . . . . . . . .؟ بفتح الهمزة على الاستفهام. وبفتحها أيضاً على النّداء، وذا بمعنى صاحب. وبكسرها، وإذا ظرف. وكلّ يؤدي معنى انفراد سيف الدولة بهذا الدّاء الذي هو نفسه الصّحة وعي الفضيلة.

وقال في قوله: (الوافر) بغيرك راعيا عبث الذّئاب ... وغيرك صارما ثلم الضّراب يجوز أن يكون نصب راعيا وصارما على التمييز وعلى الحال. وأقول: الجيّد أن يكون راعيا وصارما نصبا على الحال، لا على التّمييز، لتقدّمهما على العامل فيهما. وأجاز ذينك المازنيّ والمبرّد، ولم يجز سيبويه، والخليل على ذلك، إلا في الحال وأنشد على صحة ذلك: (الطويل) أتهجر سلمى للفراق حبيبها ... وما كان نفسا بالفراق تطيب ودفعت رواية نفسا، وقيل إنما هي نفسي. ولو صحّت رواية نفسا في البيت لم يكن حجّة في الكلام، لأن الشّعر ضرورة لإقامة الوزن، وليس كذلك في النثر. وقال في قوله: (الوافر) وتملك أنفس الثّقلين طرّا ... فكيف تحوز أنفسها كلاب

الثّقلان: يراد بهما الإنس والجنّ، ولو تؤول انهما العرب والعجم، لكان ذلك وجها، لأن الجنّ لا يظهرون للأنس. وأمّا الثّقلان اللذان في الحديث، فتفسيرهما معهما، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: تركت فيكم الثّقلين، كتاب الله، وعترتي، أهل بيتي وإنما ذلك مأخوذ من ثقل الرّجل الذي يحتاج إلى حمله ومراعاته فكأنّ كتاب الله وعترته ثقلا النّبي - صلى الله عليه وسلم - اللذان يجريان مجرى متاعه. فيقال له: قول أبي الطّيب وتملك انفس الثّقلين. . . . . . . . . . . . ليس المراد بهما إلا الإنس والجنّ، وإن كانت الجنّ لا تظهر كما ذكر. وأراد بذلك المبالغة والاغراق، وهو مستعمل، كثير في المنظوم والمنثور من الكلام، فلا وجه للعدول عنه إلى غيره. وتفسير الثّقلين بالعرب والعجم، لا يجوز، لأن ذلك لم يستعمل، ولم ينقل عنهم، ولم يسمع منهم. ولا يجوز أن يقاس على قول النبي - صلى الله عليه وسلم - خلّقت فيكم الثّقلين، كتاب الله وعترتي، أهل بيتي لأن ذلك نقل عنه - صلى الله عليه وسلم - وهو سيد العرب، وافصح الفصحاء، وصاحب الشّريعة. وقال في قوله: (المتقارب) وما قلت للبدر أنت اللّجين ... ولا قلت للشمس أنت الذّهب

يقول: أنى تناهيت في مديحك، فلم أجعلك، وأنت بدر فضّة، ولم أقل لك، وأنت شمس، إنك ذهب، لأن الذّهب والفضّة يستهلكان، والشّمس والقمر ليسا كذلك. وأقول: تعليله بقوله: لأن الذّهب والفضّة يستلكان، والشمس والقمر ليسا كذلك ليس بشيء! ولو قال: لأن الذّهب والفضّة ليسا في القدر والشّرف، بمنزله الشّمس والقمر لكان صوابا. ولو قال: لم أنقصك من المدح، فأعطيك دون ما تستحق، لكان أولى. وقال في قوله: (المتقارب) ومن ركب الثّور بعد الجوا ... د أنكر أظلافه والغبب يقال: غبب الثور وغبغبه. والأظلاف تستعمل للبقر والغنم، وقد جاءت مستعملة للنّاس، قال الشّاعر: (الطويل) سأمنعها وسوف أجعل أمرها ... إلى ملك أظلافه لم تشقّق

وأقول: لم يذكر الشّيخ معنى هذا البيت، (ولعله) استرذله، وذلك كأنه يشير بالثّور، إلى كافور، وبالجواد إلى سيف الدولة. فلفظه ركب معهما غير سائغة. وإن كنى بذلك عن حاله معهما في الضّعة بعد الشّرف، فذلك سائغ حسن. وقال في قوله: (المتقارب) مبارك الاسم أغرّ اللّقب ... كريم الجرشي شريف النّسب يعنى بالجرشي النّفس، قال الأسديّ: (الطويل) بكى جزعا من أن يموت وأجهشت ... إليه الجرشّي وارمعلّ خنينها الخنين هاهنا الانف، وجعله أغرّ اللقب، لأن لقبه سيف الدولة، والسّيف يوصف بالبياض. وأقول: أن الشّيخ ذكر معنى قوله: أغرّ اللقب، ولم يذكر معنى مبارك الاسم. وكان الأولى أن يذكره، ويبدأ به، وهو عليّ مشتقّ من العلّو، والعلو مبارك، لاسيّما وهو اسم علي بن أبي طالب - عليه السّلام - واسمه مشتقّ من اسم الباري - تبارك وتعالى - للحديث: أنّي خلقته، وشققت له اسما من اسمي، فأنا العليّ الأعلى، وهو عليّ.

وقوله: الخنين هاهنا الأنف، غير صحيح، بل الخنين: مصدر خنّ يخنّ خنينا، وهو صوت يخرج من الأنف عند البكاء، قال الشّاعر: (الطويل) وقلت لعبد الله إذ خنّ باكيا ... تعزّ وماء العين منهمر يجري قال ابن دريد: والخّنّة أشدّ من الغنّة. وارمعلّ خنينها: ارتفع بكاؤها. وقال في قوله: (الكامل) يا حبّذا المتحمّلون وحبّذا ... وادلثمت به الغزالة كاعبا وقد سميّت الشمس الغزالة، وهي في هذا البيت الشمس بعينها، وانشد قول ذي الرمة: (الوافر)

وأشرقت الغزالة رأس حوضي ... أراقبهم فما أغني قبالا وأقول: لا خلاف، أن الغزالة من أسماء الشّمس. وبيت ذي الرّمّة، يقضي بقوله: أشرقت على ذلك، لأن الإشراق من صفاتها المختصّة بها، ولكن الأحسن، أن تكون الغزالة في بيت أبي الطّيب الظّبية لذكر الوادي، وحسن الاستعارة بذكر المناسبة والمصاحبة التي بينهما، ولأنه أقرب وأشبه بذكر اللّثم، ووصفها بالكاعب. وقال في قوله: (الكامل) وحبيت من خوص الرّكاب بأسود ... من دارش فغدوت امشي راكبا جعل حظيّ من خوص الركاب، هذا الحذاء الذي أمشي به. وقد كرّر هذا المعنى في قوله: (المنسرح) لا ناقتي تقبل الرّديف ولا ... بالسّوط يوم الرّهان اجهدها وقد سبق الناس إلى هذا المعنى، ومنه قول القائل: (الطويل) . . . . . . . . . إليك امتطينا الحضرميّ الملسّنا فيقال: بل السّابق إلى هذا المعنى، أبو نواس في قوله: (الطويل) إليك أبا العبّاس من بين من مشى ... عليها امتطينا الحضرميّ الملسّنا

وقد جاء هذا، لبعض شعراء العصر، في أبيات منها قوله: (الكامل) والدهر من أفعاه لم ... يسلم سلامة فائش نهشته نهش الحارث ال ... ملك الهمام الرائش وجذيمة الوضّاح أر ... دته بجذم الرّاهش وثوى النّجاشيّ الملي ... ك البرّ بين أحابش فأقنع من الدّهم الجيا ... د بأدهم من دارش وقال في قوله: (الكامل) خذ من ثناي عليك ما اسطيعه ... لا تلزمنيّ في الثّناء الواجبا كان ابن سعد، راوية أبي الطّيب، يحكي عه حكاية، معناها إنه قال: ليس في شعري قصر ممدود، إلا في هذا الموضع - يعني قوله: خذ من ثناي. . . . . . . . . . . . . . . وإنما كان يذكر ذلك لأنه كان يحكى، إنه رأى القصيدة الكافيّة التي في عضد الدولة بخطّ أبي الفتح ابن جني وقد ضبط قوله: (الوافر) . . . . . . . . . وقد فارقت دارك واصطفاكا وقد كسر الطاء كأنه أراد: واصطفاءك. وليس هذا بحجّة على ابن جني، لأن أبا الطّيب

يجوز أن يكون قصر الممدود، بعد أن قال ذلك القول. والثناء أكثر ما يستعمل في الخير، وحكى ابن الأعرابي إنه يستعمل في الشرّ وأنشد: (الكامل) أثني عليّ بما علمت فأنّني ... أثني عليك بمثل ريح الجورب فيقال: لا شكّ في قصر ثناي عليك، لأن الوزن يشهد به، ولا مصرف له إلى سواه. وأمّا قصر اصطفاكا فقد روي بفتح الطاء فعلا ماضيا، (فلا ضرورة. ومحتمل أن يكون ابن جني اخطأ بكسر الطاء، وذلك من بعض تغييراته في القصائد التي نظمها في ابن العميد، وعضد الدولة، لأنه لم وكن في صحبته. وقتل أبو الطّيب، ولم يجتمع به بعد ذلك، فيقرأها عليه. أو يكون أبو الطّيب، اخبر بذلك قبل هذه القصيدة الكافيّة، وهي آخر ما نظم وما سمع منه. وأما قوله: إن الثّناء أكثر ما يستعمل في الخير، وقد يستعمل في الشرّ، ورواية ذلك عن ابن الأعرابي، واستشهاده بالبيت الذي عجزه: . . . . . . . . . أثني عليك بمثل ريح الجورب فلا حجّة فيه، لأنه هزء بها وسخريّ منها، والصّحيح: أن الثّاء لا يستعمل إلا في القول الجميل، والخير دون الشرّ. وقال في قوله: (البسيط) وتغبط الأرض منها حيث حلّ به ... وتحسد الخيل منها أيها ركبا

غبطت الرّجل: إذا أردت أن يكون لك مثل ماله، ولا يكون غرضك في زوال نعمته. وحسدته: إذا أردت أن تنال مثل نعمته، وان يزيلها الله عنه. وفي بعض الحديث: إنه قيل له: هل يضرّ الغبط؟ فقال: كما يضرّ العضاه الخبط أي: أن العضاه لا تحسّ بخبط الورق، كأنه سهّل أمره. وأقول: قوله: سهّل أمر الغبط لأن العضاه لا تحسّ بالخبط ليس بشيء! لأن غير العضاه من الشّجر مثلها في إنها لا تحسّ. وإنما يريد أن العضاه شجر يأكل المال ورقه، فالضرر له خبطه ونثر ورقه، ويقال له: الخبط. فهذا يدلّ على (أنّ) الغبط ضرب من الحسد، أو يستعمل في موضع الحسد توسّعا. وأقول: لم يذكر الشّيخ لم خصّ الأرض بالغبط، والخيل بالحسد، وذلك أن التّنافر والتّزاحم والتّقاتل يقع بين الحيوان في كثير من الأشياء التي يقع الاشتراك فيها، فيوجب التحاسد، وهو أن أحدها أخذه والاستيلاء عليه دون الآخر، وليس كذلك الجماد، كالأرض، فخصّها بالغبط دون الحسد، وخصّ الخيل التي هي من الحيوان بالحسد.

وقول أبي الطّيب من قول أبي نواس: (الكامل) تتحاسد الامصار وجهك بينها ... فكأنّهنّ بحيث كنت ضرائر إلا إنه قصّر عن المثل الذي ضربه أبو نواس، بذكر الضّرائر اللواتي يقع بينهنّ الحسد. وقال في قوله: (البسيط) بحر عجائبه لم تبق في سمر ... ولا عجائب بحر بعدها عجبا السّمر: ظلّ القمر. ومن كلامهم: لا أكلّمك السّمر والقمر! أي: طول الدّهر. وقيل للقوم يتحدّثون في ظلّ القمر: سمّار، وقد سمروا يسمرون. ثم كثر ذلك حتى سمّي الحديث باللّيل سمرا، وان لم يكن في القمر. ويقولون: كنّا في السّامر، أي في الرّهط الذين يتحدّثون في ذلك الوقت، وجعل ابن أحمر السّمر وقتا فقال: (الكامل) من دونهم أن جئتهم سمرا ... عزف القيان ومجلس غمر وأقول: كأنّ الشّيخ جعل جلّ مقصوده في هذا الدّيوان شرح كلمة حوشيّة، أو

نادرة غريبة، فقلّما يتعرّض فيه لذكر معنى مشكل، أو ينبّه فيه على صناعة بديعة! ومعنى هذا البيت، إنه جعل الممدوح بحرا يفضل كلّ بحر، بعجائب ما يأتي منه وما يسمع عنه من أحاديث المكارم، وصفات الجود، وإنما قال: عجائب بحر لأن البحر عجائبه كثيرة غريبة، وكقولهم: كالبحر: حدّث عنه بلا حرج! وكذلك السّمر، لأنه يقع فيه بين القوم، يتحدثون أحاديث عجيبة، وروايات غريبة، فكأن هذا الممدوح لم يترك، بما يسمع عنه، ولما اشتهر به، ومن عجيبة تسمع عن بحر أو تذكر في سمر. وقوله: وجعل ابن أحمر السّمر وقتا في قوله: أن جئتهم سمرا، فأنه محتمل أن يكون سمرا مفعولا له، أو مصدرا على تقدير قوله: اسمر سمرا، أو مصدر في موضع الحال، أي: سامرا. وقال في قوله: (البسيط) مبرقعي خيلهم بالبيض متّخذي ... هام الكماة على أرماحهم عذبا يريد انهم يمدّون أيديهم بالسيوف للضّرب، فتصير أمام وجوه (الخيل)، فكأنّها لها براقع. ويمكن أن يريد، انهم يضربون أعداءهم بالسّيوف فيمنعونهم من النّظر إلى وجوه خيلهم.

وأقول: هذه عبارة واهية! لا سيّما قوله: يمنعونهم من النظر إلى وجوه خيلهم، وليست براقع الخيل لتمنع من النّظر إلى وجوهها، وإنما جعلت من الحديد لتمنع وجوه الخيل، وتقيها من السّلاح، لا لتمنع من النظر إليها كبراقع النّساء من الثياب، وإنما أراد بقوله: مبرقعي خيلهم بالبيض. . . . . . . . . . . . أي: بضرب البيض (يمنع من الوصول إليها)، كقوله في مكان آخر: (الوافر) لقوه حاسرا في درع ضرب. . . . . . . . . فجعل الضّرب تارة برقعا، وتارة درعا، تدقيقا في الصّناعة واستعارة ومجازا. وقال في قوله: (المتقارب) تغيب الشّواهق في جيشه ... وتبدو صغارا إذا لم تغب

يقال للجبال الطّوال شواهق، مأخوذة من قولهم: شهق الإنسان إذا أخرج نفسه متعاليا، كأنّ الجبل شهق في الهواء. فيقال: هذا الذي ذكره الشّيخ ضدّ المرويّ في الشّهيق، وهو ضدّ الزّفير، لأنّ الشّهيق ردّ النّفس، والزّفير إخراج النّفس. وكان الصواب أن يقال في الجبل الشّاهق، إنه مأخوذ من قولهم: شهق الرّجل إذا حبس نفسه فأرتفع صدره لذلك، كقول الشاعر: (المنسرح) خيط على زفرة فتمّ ولم ... يرجع إلى دقّة ولا هضم وهذا البيت، يصحّح أن الزّفير إخراج النّفس، فلمّا خيط عليه، ومنع من اراحته، انتفج جنبه، فصار مجفرا ضليعا. وقال ابن دريد: الشّهيق ترديد البكاء. فيقال، على هذا، أن الباكي إذا ردّد بكاءه ارتفع صوته، وامتدّ نشيجه فيكون مشتقّا من ذلك وقال في قوله: (المنسرح) يا ذا المعالي ومعدن الأدب ... سيّدنا وابن سيّد العرب الأدب الذي كانت تعرفه العرب، هو ما يحسن من الأخلاق، وفعل المكارم، مثل

ترك السّفه، وبذل الموجود، وحسن اللّقاء، قال الغنويّ: (البسيط) لا يمنع الناس منّي ما أردت ولا ... أعطيهم ما أرادوا حسن ذا أدبا كأنه أنكر على نفسه أن يعطيه الناس ولا يعطيهم. واصطلح الناس، بعد الإسلام بمدة طويلة، على أن يسمّوا العالم بالشّعر والنّحو وعلوم العرب أديبا، وسمّوا هذه العلوم الأدب، وذلك كلام مولّد لأن هذه العلوم حدثت في الإسلام. وأقول: لا شكّ أن أصل الأدب ما قال الشّيخ، وإنه نقل إلى العلوم التي ذكرها، ولكنّ هذا النقل لم يكن في الإسلام، كما ذكر، بعد مدة طويلة، بل في صدر الإسلام وزمن الفصاحة، من المعتبرين في البلاغة، كما أن اصل الفقه العلم، وهو يطلق على أشياء كثيرة، ثم وضع على علم الشريعة، واختصّ به دون غيره من العلوم، وذلك الوضع والنقل أيضاً في صدر الإسلام من الفصحاء البلغاء المتقدمين المعتبرين في زمن الفصاحة، المأخوذ بقولهم، والمستشهد بلغتهم وكلامهم نثرا ونظما (في أوان البلاغة)، ولا يقال انهم مولّدون، فكذلك العلماء الذين كانوا في زمانهم، الواضعون اسم الأدب على العربية والشّعر، والواضعون اسم الفقه على علم الشّريعة، لا يقال: انهم مولّدون ولا أن (ما) أخذ عنهم من الأوضاع مولّد غير معتدّ به.

وقال في قوله: (البسيط) مرّت بنا بين تربيها فقلت لها ... من اين جانس هذا الشّادن العربا شبّهها بالشّادن من الوحش، وهو ولد البقرة، والظّبية إذا قوي واشتدّ. يقال، شادن وشادل فتبدل اللام من النّون. ويقال: وحشية مشدن إذا شدن ولدها، قال الرّاجز: (الرجز) يا دار عفراء ودار البخدن ... فيك المها من مطفل ومشدن البخدن: يقال: العظيمة السّاقين والاعضاد، والصحيح إنه اسم امرأة. وأقول: إنما رجّح الشّيخ أن تكون البخدن اسما علما لا صفة، فجعل الدّار لامرأتين لا لواحدة لقوله: (الرجز) فيك المها من مطفل ومشدن والمها: جمع. ويجوز أن تكون البخدن صفة، فتكون الدار لواحدة، وان كان فيها نساء (جماعة) على معنى الحلّة أو القرية ونحو ذلك.

وقال في قوله: (البسيط) فاستضحكت ثم قالت كالمغيث يرى ... ليث الشّرى وهو من عجل إذا انتسبا الشّرى: الشّجر الملتفّ، وقيل: اشراء الحرم: نواحيه أو طرقه، وشرى الفرات: ما يقرب منه، قال القطاميّ: (الكامل) لعن الكواعب بعد يوم لقينني ... بشرى الفرات وليلة بالجوسق وأقول: الشّرى: مكان أو شجر تعرف به وتضاف إليه الأسد (لزيادة شدّتها) كقولهم: ذئب الغضا، وتيس الحلّب، وأفعى الحماط، ومثله: أسد بيشة، وأسد خفّان، وأسد خفيّة، قال: (الطويل) أسود شرى لاقت أسود خفيّة. . . . . . . . .

وقال في قوله: (الطويل) إليك فأنّي لست ممن إذا اتّقى ... عضاض الأفاعي نام فوق العقارب المعنى أنني لست ممن إذا اتّقى الأمور الكبار، صبر على ما هو دونها. وأقول: ينبغي أن يفسّر هذا البيت، على ما قبله من قوله: (الطويل) تخوّفني دون الذي أمرت به ... ولم تدر أن العار شرّ العواقب أي: تخوّفني السّير الذي عاقبته الهلاك، وتأمرني بالمقام على الضّيم الذي يعقب العار، وعندها أن المقام على الضّيم اسهل من تخوّف الهلاك بالسّير، ولم تعلم أن عاقبة الضّيم شرّ من عاقبة السّير المفضي إلى الهلاك، وإنّ العار شرّ العواقب، فضرب عندها وفي رأيها للهلاك مثلا بالأفاعي لعظمها، وللضّيم مثلا بالعقارب وهو عنده بخلاف ذلك فقال: إليك: أي: تنحّي عنّي فلست ممن إذا خاف عضاض الأفاعي، وهو الهلاك، على رأيك، نام على العقارب، وهو الضّيم الذي دون الأول، على رأيك، بل اترك كلا الأمرين. فهذا البيت مرتّب على ما قبله في التفسير، كما ترى. ولم أعلم من شرّاح الديوان (من) ذكره على هذا الوجه.

وقال في قوله: (الوافر) وترتع دون نبت الأرض فينا ... فما فارقتها إلاّ جديبا لما جعل الخطوب مطايا، زعم إنها لا تذلّ لراكبها. وفي هذا مدح لنفسه، لأنه ادّعى ركوبها، وانّ ذلك لا يبغيه أحد، وجعلها ترتع في ركبانها دون النّبت. وأقول: ليس في هذا مدح لنفسه، ولكن فيه أخبار برقّة حاله، وإعوازه ما يركبه ومخاطرته بنفسه في ركوب المهالك إلى الممدوح، ليلزمه قضاء حقّ قصده، كقول الأعشى: (المتقارب) إلى المرء قيس أطيل السّرى ... وآخذ من كل حيّ عصم وقول علقمة: (الطويل) إليك أبيت اللّعن كان وجيفها ... بمشتبهات هولهنّ مهيب وقال في قوله: (البسيط) جيرانها وهم شرّ الجوار لها ... وصحبها وهم شرّ الأصاحيب

قوله: . . . . . . شرّ الجوار لها. . . . . . . . . أي: شرّ أصحاب الجوار، لأنه لا يقال: قوم جوار إلاّ على حذف (المضاف) أو يكون أراد: جوارهم شرّ الجوار. وأصاحيب: جمع جمع الجمع كأنه في الأصل صاحب، ثم قيل: صحب، ثم قيل أصحاب. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقال في قوله: (المتقارب) أرى مرهفا مدهش الصّيقلين ... وبابة كلّ غلام عتا

الصّيقلون: جمع صيقل، وأكثر ما يستعمل الصّياقل، قال خفاف بن ندبة: (الوافر) جلاها الصّيقلون فأخلصوها ... خفافا كلّها يتقي بأثر وأقول: أن قوله: وأكثر ما يستعمل الصّياقل، ثم ينشد بيت خفاف، وليس فيه دليل على ذلك، ليس بشيء! وقد كان ينبغي أن ينشد قول جعفر بن علبة: (الطويل) إذا ما ابتدرنا مأزقا فرجت لنا ... بأيماننا بيض جلتها الصّياقل وقال في قوله: (الكامل) لا سرت من إبل لو أنّي فوقها ... لمحت حرارة مدمعيّ سماتها وحملت ما حمّلت من هذي المها ... وحملت ما حمّلت من حسراتها

يقول: لو أنى فوقك يا إبل، لحملت اللّواتي عليك من النساء المشبهات المها، وكان ذلك هينا عليّ: . . . . . . . . . وحملت ما حمّلت من حسراتها أي: كنت أتولى حملها دونك، فيلحقك لذلك حسرات، فتحملين ما أنا حامل من الحسرات الموجبها هذه المتحملات. وأقول: قوله: لو أني فوقك راكبا لحملت اللواتي عليك غير سائغ حسن! كيف يكون حمله لهنّ، وهو راكب الحملين، وهنّ في هوادجهنّ، فيفرّق ما بينهنّ وبين الإبل؟ فجعل للإبل حسرات بذلك غيرة منه، فيكون حاملا وهو محمول، وهذا معنى على ما ترى من الغثاثة، وكأنه ينظر إلى قوله: (الكامل) ويغيرني جذب الزّمام لقلبها ... فمها إليك كطالب تقبيلا وقال في قوله: (الكامل) العارفين بها كما عرفتهم ... والراكبين جدودهم أمّاتها لو أن هذا الكلام منثور، لكان الواجب أن يقال: والراكب جدودهم، على التّوحيد، لأن اسم الفاعل إذا تقدّم جرى مجرى الفعل، فيقال: مررت بالرّاكب الخيل جدوده وجدودهم، فإذا ثنّيت أو جمعت فهو على قول من قال: قمن النساء وأكلوني البراغيث وقامتا أختاك.

فيقال له: هذا القول، جائز مستعمل في القرآن الكريم والشّعر الفصيح، نحو: (وأسرّوا النّجوى الذين ظلموا) و: (الطويل) . . . . . . . . . . . . يعصرن السّليط أقاربه وسواء في ذلك، المنثور وغيره، فأن قال: الواو في أسرّوا، والنون في يعصرن، حرفان موطئان، أن الفاعل جمع، أو إنّهما اسمان، والذين ظلموا وأقاربه بدل منهما، قيل له: في الراكبين كذلك، أي: الذين ركبوا جدودهم، فيكون عائد الذين الضمّير في ركبوا، لا الضّمير في جدودهم وهذا بيّن مذكور. وقال في قوله: (الكامل) تكبو وراءك يا ابن أحمد قرّح ... ليست قوائمهن من آلاتها الهاء في آلاتها راجعة على وراء لأنها مؤنّثة وكذلك قدّام وأمام. وأقول: محتمل أن يكون الضّمير في آلاتها راجعا إلى قرّح، لأن قوائمها هي التي تعمل بهال الجري بمنزلة الآلة التي يعمل بها، أي: لا تطاوعها في اللحاق بك، وإضافة الآلة إلى الخيل، التي هي حيوان، أقرب من إضافتها إلى وراء، وهو المكان، جماد.

وقال في قوله: (الوافر) فدتك الخيل وهي مسوّمات ... وبيض الهند وهي مجرّدات مسوّمات إذا وصفت بها الخيل، احتملت وجهين: إنها عليها سمة، والسّمة: العلامة. والآخر، وهو المراد في هذا الموضع: إنها المرسلات في الغارة، من قولهم: خلّه وسومه، أي: وذهابه حيث شاء. فيقال: المسوّمة من السّوم لا من السّمة، وهي العلامة، لأن السّمة اصلها وسمة، والوسم غير السّوم. والصّحيح إنها مشنقّة من السّومة، وهي العلامة، ذكرها الزّجّاج وابن فارس. أو من السّائمة، أي: الراعية، وأسميت: أرعيت. وقال في قوله: (الوافر) رضينا والدّمستق غير راض ... بما فعل القواضب والوشيج

الدّمستق: كلمة رومية معرّبة، لا تعرف في شعر فصيح. فيقال له: وكثير من الأعجميّ الرّومي وغيره، لم يستعمل في كلام العرب، وإذ لم يستعمل في كلامهم، فجائز أن يستعمله الشّعراء المحدثون، لحاجتهم إلى الإخبار عنه، وإلا أدى إلى عدم الكلام، أو عدم الإفهام. وقد استعمل أبو الطّيب أسماء غير تلك، من أسماء الروم (والأرمن) نحو: قسطنطين ولاون لأنه احتاج إلى ذكرهم فأخبر عنهم. وسواء كان الاسم الأعجمي علمّا على وزان العربيّ نحو: يعقوب وإسحاق، أو على غير وزانه كإبراهيم وإسماعيل فأنّه لا ينصرف. وكذلك يقال في الأسماء الأعلام من البلاد التي استعملها أبو الطّيب نحو: سمنين وهنزيط ومرعش وسميساط ونحو ذلك، لعلها غير مستعملة في أشعار العرب. وكثير من الأسماء العربية لم تستعمل في أشعار العرب، وجائز استعمالها للأخبار والبيان. وقال في قوله: (الطويل) وعن ذملان العيس ما سامحت به ... وإلاّ ففي أكوارهنّ عقاب الكلام يستغني عن قوله: وعن ذملان العيس. . . . . . . . . . . .

ثم ابتدأ كلاما فقال: أن سامحت العيس بذملانها ركبتها، وإلا تسامح، ففي أكوارهنّ عقاب، أي: أنا أقدر من السّير والتّصرّف في الأسفار، على ما لا يقدر عليه العقبان. وأقول: الكلام لا يستغني عن قوله: وعن ذملان العيس. . . . . . . . . . . . لأنه معطوف على ما قبله وهو قوله: غنيّ عن الأوطان لا يستفزّني ... إلى بلد سافرت عنه إياب وقد ذكرت ما في هذا في مواضع، وبيّنته بيانا شافيا لم أسبق إليه. وقال في قوله: (السريع) آخر ما الملك معزّى به ... هذا الذي اثّر في قلبه جعل التنوين في معزّى به بمنزلة الحروف الصّحاح، لأنه موازن للاّم في قلبه. ولو وقع في موضعه اسم لا ينصرف مثل: حبلى وسكرى لجاز صرفه على الضرورة. وأقول: هذا الذي (ذكره) الشيخ من تنوين معزّى به في هذه القافية، وجعله من الحروف الصّحاح، احترازا من أن لو جاء في موضع معزّى به: يعزّى به لكان الألف من الحروف المعتلّة ردفا، والقافية في قوله: قلبه غير مردفة فيكون ذلك

سنادا، فبتنوين معزّى خرج به من هذا العيب. وقوله: ولو وقع موضعه اسم مؤنث لا ينصرف، مثل حبلى وسكرى لجاز صرفه على الضرورة احترازا أيضاً من أن الألف لو بقيت صورتها لكانت ردافا، والقافية غير مردفة. فإذا صرفت حبلى، وسكرى، خرجت بالتنوين من أن يكون ردفا، فكان بذلك معزّى به مع قلبه قافية مجرّدة. ولو جاء مع قلبه: ذابه ونحوه لم يعتدّ بهذه الألف ردفا، لأنها من كلمة ليس اتصال حرف الجرّ (بما) بعدها كاتصال يعزّى به لأن الباء لتعدية الفعل، فهي كالجزء منه، كالهمزة والتّضعيف، وكذلك إذا وقعت الألف في إذا ونحوه موقع ألف التأسيس، لم يعتدّ بها. كقول العجّاج: (الرجز) فهنّ يعكفن به إذا حجا ... عكف النّبيط يلعبون الفنزجا وقول عنترة: (الكامل) . . . . . . . . . والنّاذرين إذا لم القهما دمي في قوله: (الكامل) هل غادر الشّعراء من متردّم. . . . . . . . . . . .

وقال في قوله: (الطويل) لنا ملك لا يطعم النوم همّه ... ممات لحيّ أو حياة لمّيت استعمل أبو الطّيب في هذه الأبيات، ضدّ ما استعمله كثير من الشّعراء في لزوم الحرف الذي قبل التاء فقال: ميّت ثم قال فرّت ثم دولتي. وأكثر الشعراء على هذا، لا يلزمون ما قبل التاء. وقد لزم ما قبل التاء كثيّر في قوله: (الطويل) خليليّ هذا ربع عزّة فأعقلا ... قلوصيكما ثم انزلا حيث حلّت وهي اللاّم. وقال عمرو بن معدي كرب: (الطويل) (و) لمّا رأيت الخيل زورا كأنّها ... جداول زرع أرسلت فأسبطرّت فلزم الرّاء. وكذلك قال الضّبّيّ: (الكامل) حلّت تماضر غربة فاحتلّت. . . . . . . . .

فلزم اللاّم. وأقول: لزوم ما قبل التاء فيما ذكره، ونحوه، غير لازم، لأن التاء هي حرف الرّوي ولا يكون اللام، ولا الرّاء، لأن التاء ليست بحرف وصل، وإنما حروف الوصل الألف، والياء، والواو والهاء. وقد لزم بعض الشّعراء ما قبل الكاف في نحو: المسالك والمآلك وحالك وذلك وهي اللام. ولزم بعضهم الرّاء في نحو: المبارك والمعارك وفارك وبارك كما لزموا ما قبل التاء. والكاف هي حرف الرّوي وليست بوصل، وإنما شبهوا التاء والكاف بحروف الوصل، فالتزموا ما قبلهما لمشاركتهما لهنّ في إنهما ضمائر مثلهنّ. وقصيدة كثيّر قد جاء فيها بيت لم يلزم فيه اللام وهو: (الطويل) . . . . . . . . . وجنّ اللواتي قلن: عزّة جنّت (كأنه منبهة، على أن ما قبل التاء غير لازم) ومنهم من روى: جلّت أي كبرت. وجاء في أبيات عمرو قوله: (الطويل) وفرّقت بين الحذمرين بطعنة ... إذا أطّلقت فيها النّساء أرنّت

فجاء بالنّون مع الرّاء، كما جاءت مع اللام في جنّت . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقال في قوله: (الوافر) فليت هوى الأحبة كان عدلا ... فحمّل كل قلب ما أطاقا أصل العدل إنه مصدر: عدل عدلا، ثم وصف به الواحد والاثنان والجمع، قال زهير: (الطويل) متى يشتجر قوم يقل سرواتهم ... هم بيننا فهي رضى وهم عدل (وهذا يحتمل على حذف مضاف كأنه قال: ذوو عدل.) ومن هذا الباب: رجل ضيف، ويقال للجميع، وفي الكتاب العزيز: (هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين) فجاء بالضّيف موحّدّا، ثم جاء بالنّعت على

الجميع، يعني: المكرمين. قال: والقياس يوجب أن يقال: امرأة ضيف، إلا أن الشّاعر قال: (الطويل) لقي ولدته أمّه وهي ضيفة ... فجاءت بيتن للضّيافة أرشما فيقال: الأحسن في المصدر، إذا وقع موقع الصفة، أن لا يقدّر فيه حذف المضاف، لأن الحذف على خلاف الأصل. فإذا قيل: رجل عدل، أو صوم أو فطر، فكأنّما جعل الأول كأنه الثاني، على وجه المبالغة، كأنّ الرّجل خلق من عدل أو صوم، ومن ذلك قول الخنساء: (البسيط) . . . . . . . . . . . . فإنّما هي إقبال وإدبار ويجوز أن يقع المصدر موقع الصّفة توسّعا ومجازا، وقد جاء ذلك في الحال في قولهم: قتلته صبرا، وجاء ركضا. كما وقعت الصفة موقع الحال في قولهم: قم قائما: (الطويل) . . . . . . . . . . . . ولا خارجا من فيّ زور كلام وأمّا قول الشاعر: وهي ضيفة فأنث المصدر، فإنّما ذلك لأجرائه مجرى الصفة الجارية على الفعل، في نحو قائمة وقاعدة.

وقال في قوله: (الوافر) تركنا من وراء العيس نجدا ... ونكّبنا السّماوة والعراقا يقال: أسمى الحمار الوحشيّ بأنه، إذا أتى بهنّ السّماوة، قال الأخطل: (البسيط) كأنّها لاحق الاقراب في لقح ... أسمى بهنّ وغرّته الاناصيل فيقال له: أسمى: بمنزلة اعرق واشأم وانجد، إذا أتى تلك الأماكن. فلا يختصّ أسمى بالحمار الوحشيّ دون غيره. وكذلك ما أتى من نحو ذلك، مثل اتهم وايمن إلا غار إذا أتى الغور فأنه بغير الهمزة، وبيت الأعشى يروى: (الطويل) . . . . . . . . . غار لعمري في البلاد وانجدا بالخرم في النّصف الثاني. ومنهم من روى: أغار قياسا على أخواته.

وقال في قوله: (الوافر) ولو تبّعت ما طرحت قناه ... لكفّك عن رذايانا وعاقا لم يبالغ أبو الطّيب في هذا البيت، لأنه جعل الوحش يتبع الجيش، ليأكل من رذاياه، والرّذايا: جمع رذيّة، وهي الناقة التي حسرها السّير، ولم يقل كما قال الحكميّ: (المديد) تتأيّا الطّير غدوته ... ثقة بالشّبع من جزره فيقال له: لم يرد هاهنا، أن الوحش تتبع الجيش كما ذكر، وانشد قول الأفوه: (الرمل) وترى الطّير على آثارنا ... رأي عين ثقة أن ستمار وقول النابغة: (الطويل) إذا ما غزا بالجيش حلّق فوقه ... عصائب طير تهتدي بعصائب ولكن أراد الجماعة المترافقين اليه، الوافدين عليه، طلبا لمعروفه وعطائه. ويدلّ على ذلك قوله قبل هذا البيت: (الوافر) أباح الوحش يا وحش الأعادي ... فلم تتعرّضين له الرّفاقا أي: قد أباح الوحش أعاديه بقتله لهم في معارك الحرب، فلم تتعرّضين الرفاق إليه في الطريق، وهم أولياؤه ومحبّوه؟ فقد كان في أعدائه غناء لك عن أوليائه.

وقال في قوله: (الوافر) فلا تستنكرنّ له ابتساما ... إذا فهق المكرّ دما وضاقا إذا روي بكسر الرّاء تستنكرنّ، فهو خطاب لمؤنث، مبنيّ على قوله: سلي. . . . وفتح الراء جائز على خروجه إلى خطاب المذكّر، لأنّ البيتين متباعدان، وذلك كثير في الشعر وغيره. وفهق: امتلأ، يقال: فهق الحوض بالماء، إذا امتلأ، وكذلك الجفنة بالطعام. قال الأعشى: (الطويل) تروح على آل المحلّق جفنة ... كجابية السّيح العراقيّ تفهق وأقول: الرواية الصّحيحة التي قرأتها: بفتح الرّاء من: تستنكرنّ للمخاطب، ولم أسمع الرواية بالكسر. وإنما كان الفتح هو الصّحيح، لأن المخاطب هو الذي يشهد المكرّ وابتسامه فيه، شجاعة وإقداما، لا المرأة المقدّم ذكرها. وأمّا استشهاده على: فهق بقول الأعشى: تروح على آل المحلّق. . . . . . . . . . . . فالرواية الصّحيحة:

نفى الذّمّ عن آل المحلّق. . . . . . . . . . . . قال: ويروى: الشّيخ، والسيح، فالشّيخ: أحد الشيوخ، والسيح: الماء الجاري على الأرض، ولم يفسّر معناهما. والذي ذكر فيهما إنه إذا روي: الشّيخ، بالشّين والخاء، فالمراد به أن الشيخ العراقيّ معتاد لكثرة الماء آلف لها، فإذا سافر اتأق جابيته، وهي مزداته، من الماء، إبقاء على نفسه، واحترازا من الهلاك بالعطش، وليس كذلك الإعرابي والبدويّ، لصبرهما عن الماء الذي لم يعتادا كثرته. وإذا روي: السّيح، بالسّين والحاء، فالمراد به الفرات أو دجلة. والجابية: الحوض، أضافها إلى إحداهما. وقال في قوله: (الوافر) تبيت رماحه فوق الهوادي ... وقد ضرب العجاج لها رواقا استعار الرّواق هاهنا للغبار، لأنهم يركزون الرّماح إلى رواق البيت. والهاء في لها يجوز أن تعود على الرّماح وعلى الهوادي. وأقول: الرّواق بيت كالفسطاط، يحمل على سطاع واحد في وسطه، وهو العمود، فعلى هذا جعل العجاج في ارتفاعه، وتكاتفه، بمنزلة الرّواق، والرّماح تحمله كالعمد، ولم يرد الرّكز والإسناد إلى رواق البيت، والهاء في لها على هذا التفسير، وهو الصّحيح، تعود على الرّماح دون الهوادي.

ويجوز أن يقال: . . . . . . . . . وقد ضرب العجاج لها رواقا بنصب العجاج مفعولا، والفاعل الضمير في ضرب عائد على سيف الدولة، وهذا الوجه أقوى من الأول. وقال في قوله: (الوافر) تعجّبت المدام وقد حساها ... فلم يكسر وجاد فما أفاقا يقول: هذا الممدوح، لا تكسره الخمر، لأنّ عقله لم يرتفع عند ذلك. وهو، مع إنه لا يلحقه من الرّاح، كأنه إذا جاد أخو سكر لا يفيق، لأنهم يصفون أنسهم ببذل أموالهم، في حال الانتشاء، قال عنترة: (الكامل) فإذا سكرت فأنّني مستهلك ... مالي وعرضي وافر لم يكلم وهم يقرّون بتغيّر العقل عند الشّراب، قال المنخّل اليشكريّ: (الكامل) فإذا شربت فأنّني ... ربّ الخورنق والسّدير وإذا صحوت فأنّني ... ربّ الشّويهة والبعير

وأقول: المعنى: أن العادة جارية بأنّ الخمر تسكر من شربها، وإنه يفيق منها، وإنّ سيف الدولة، بخلاف ذلك، لا تسكره الخمر، وإنما يسكره الجود، فلا يفيق منه. وقول الشّيخ: وهم يقرّون بتغيّر العقل عند الشّراب واستدلّ بأبيات المنخّل على ذلك وليس فيها دليل، لأن قوله: فإذا شربت فأنّني ... ربّ الخورنق والسّدير يريد أن الرّاح تحدث له عظمة في نفسه، وارتياحا وخيلاء، فيظنّ إنه الملك الذي هو النعمان بن المنذر، ويريد بذلك مدحا لها. وكذلك قول حسّان: (الوافر) ونشربها فتجعلنا ملوكا ... وأسدا ما ينهنهنا اللقاء وهم لا يقصدون بذلك تغيّر العقل، وهم يمدحونها ويتمدّحون بذلك. وإنما يريدون، أن الرّاح تفيد مكارم الأخلاق، وتبعث عليها، ألا ترى إلى قول الشّاعر: (الطويل) أراحت من الهمّ الدّخيل وشجّعت ... جنانا وسنّت للبخيل التّكرّما وقال في قوله: (الوافر) وحاشا لارتياحك أن يبارى ... وللكرم الذي لك أن يباقى وقد يخفضون بحاشا، ويقال أن الخفض فيها على تقدير اللام. ويقولون: فعلوا كذا وكذا حاشاي، فيجيئون بالياء، والقياس يوجب أن يقولوا: حاشاني كما

يقال: راعاني، وأنشد الفرّاء: (الكامل) في عصبة عبدوا الصّليب تخشّعا ... حاشاي أني مسلم معذور فيقال: هذا الذي ذكره، إنما هو على مذهب الكوفيين، ومذهب أبي العبّاس المبرّد، في أن حاشا فعل، وهو حرف جرّ عند سيبويه ومن تابعه من البصريين. وإذا كان حرفا، فلا يحتاج إلى نون الوقاية، فقولهم: حاشاي، يدلّ على إنه حرف كما يقال: إليّ وعليّ. وقال في قوله: (الطويل) وأحلو الهوى ما شكّ في الوصل ربّه ... وفي الهجر فهو الدّهر يرجو ويتّقي ادّعى أبو الطّيب أن أحلى (الهوى) ما شكّ في الوصل ربّه، وفي الهجر. وليست هذه الصّفة صفة حلو، بل هذا الذي يجب أن يوصف بالمرارة، وإنما حلاوة الهوى، أن يكون سالما من الفراق والهجر، وقد وصف ذلك الشّعراء، قال: (الطويل)

إذ النّاس ناس والأحبّة جيرة ... جميع وإذ كلّ الزّمان ربيع وأقول: أن أبا الطّيب فيما نحاه إلى قولهم: كلّ ممنوع حلو، وقول الشّاعر: (الكامل) واراه يحلو في تمنّعه ... والشيء محلول إذا منعا وإلى قول الآخر، وفيه بعض الإشارة: (الطويل) إذا لم يكن في الحبّ هجر ولا نوى ... فأين حلاوات الرّسائل والكتب وإذا كان الأمر كذلك، فلا شكّ أن هوى الممنوع أحلى من هوى المبذول، والشّيء إذا امتنع كانت الرّغبة فيه أكثر، والباعث إليه أقوى، وإنّ الرّجاء والخوف، والشّكّ فيهما إنما يكون عند الامتناع. فصحّ على هذا التقدير، قول أبي الطّيب، ولم يكن المعنى الذي ذكره بعكس ما أراده. وقول الشّيخ: إنما حلاوة الهوى، أن يكون سالما من الفراق والهجر. فيقال: بل أحلاه ما لم يستعمل منهما! لأنّ تزّعم ذلك، يزيد فيه ولا ينقص منه، والزيادة فيه إنما تكون للإرادة له، والإرادة إنما تكون لاستلذاذه لا لكراهته. وهذا معنى غريب عجيب، لم يسبق إليه أبو الطّيب، ولم أسبق أنا إلى تفسيره!

وقال في قوله: (الطويل) أدرن عيونا حائرات كأنّها ... مركّبة أحداقها فوق زئبق أراد، أنهم يبكون والدّمع يجول في العيون، كأنه زئبق، فشبّه به الدّمع، لأنهم إذا وصفوا الماء بالصّفاء قالوا: كأنه دموع. أراد أن نظرهم لا يثبت لكثرة البكاء. وأقول: أن الشّيخ خبط في تفسير هذا البيت خبط مثله في قوله: والدّمع يجول في العيون كأنه زئبق، ولم يقصد هاهنا الدّمع فيشبّه بالزئبق، أو يشبّه به الماء لصفائه، على أن الدّمع يكون فوق الاحداق، ولا تكون الأحداق فوقه. وقوله: إن نظرهم لا يستقرّ لكثرة البكاء خطأ، فإنّما ذلك لكثرة الحيرة لقوله: أدرن عيونا حائرات. . . . . . . . . . . . . . . . . . والتشبيه إنما هو للعيون دون الدّمع للحيرة بالفراق، جعلها كأنّ أحداقها مركّبة فوق زئبق، والزئبق لا يستقرّ ما وضع عليه (فلا يستقرّ النّظر).

وقال في قوله (الطويل) ضروب بأطراف السّيوف بنانه ... لعوب بأطراف الكلام المشقّق الكلام المشقّق: يجوز أن يريد به الذي اشتقّ بعضه من بعض، فيكون ذلك مدحا للكلام، وصفة للممدوح بأن ما صعب لديه هيّن، فهو كالذي يلعب به. ويحتمل أن يكون المشقق: الذي كأنّه مكّسر، من قولك: شققت العود وغيره. ويكون هذا الكلام لما ينظمه الشّعراء في مدحه، لأنّ ذمّه لهم قد تكررّ مثل قوله: (الطويل) . . . . . . . . . . . . والشّعر تهذي طماطمه وأقول: هذا الذي ذكره ليس بشيء! وإنما يريد بالمشقّق المنصّف: الذي تساوى شقّاه، أي: نصفاه، وشقّ الشّيء: نصفه، يعني بذلك الشّعر، ويريد بأطرافه قوافيه. يريد أن الشّعر سهل عليه، فهو يتلعّب به بغير كلفة مرتجلا، وكأنه لمّا قال: ضروب بأطراف السّيوف بنانه. . . . . . . . . أراد: لعوب بأطراف الكلام المشقق لسانه، لدلالة بنانه عليه.

وقال في قوله: (الطويل) وليلا توسّدنا الثّويّة تحته ... كأنّ ثراها عنبر في المرافق قوله: . . . . . . . . . كأنّ ثراها عنبر في المرافق يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون مدحا للأرض، يريد إنها طيبة كأنّ ثراها عنبر. والآخر: أن يكون وصف نفسه وأصحابه بأنهم معيون، فهم، لإيثارهم النزول والرّاحة، كأنّ ثرى الأرض عندهم عنبر، وإن كان الأمر على سوى ذلك. وقد تمنّت

الشّعراء مباشرة تراب الأرض التي ينزل بها من يحبّون، قال الشّاعر: (الوافر) وددت وابرق العيشوم أنا ... تكون معا جميعا في رداء أباشره وقد نديت رباه ... فألصق صحّة منه بدائي وقال آخر: (الطويل) يقرّ بعيني أن أرى من مكانه ... ذرا عقدات الأبرق المتقاود وإن أراد الماء الذي وردت به ... سليمى إذا ما خفّ من كلّ وارد وألصق أحشائي ببرد ترابه ... وإن كان ممزوجا بسمّ الأساود

فيقال له: الأحسن الوجه الأول. وذلك أن أبا الطّيب وصف تراب ذلك المكان بالطّيب، ووصف الحصى التي فيه بالحسن، حتى جعلها بمنزلة الدرّ يثقب في المخانق. وما ذكره من وصف نفسه وأصحابه بأنهم معيون، ولإيثارهم النّزول والرّاحة، يرون أن تراب الأرض عنبر، وإن كان بخلاف ذلك فغير سائغ. (بل لو جعل ذلك من محبّة تلك الأرض وطيبها عنده، لأن أبا الطّيب كان من الكوفة، وهذه المواضع التي ذكرها منها، لكان أولى من أن يجعل ذلك من الإعياء. كيف وقد وصف نفسه وأصحابه بالفروسية والشّجاعة، وذلك ينافي الإعياء لأنه دليل الضّعف). . .؟ قول الشّاعر: (الطويل) لله ليل في زرود رقدته ... على خوف آساد ضجيع غزال كأنّ حصى المعزاء تحت أضالعي ... يحثّ عن الجنبون زفّ رئال وقال في قوله: (الطويل) وما بلد الإنسان غير الموافق ... ولا أهله الأدنون غير الأصادق هذا البيت، قد ضعف بالتّصريع ضعفا بينا، وهو كالمنقطع من معنى ما قبله. ولم تجر عادة أبي الطّيب بالتّصريع في غير الأوائل. وأقول: ليس التّصريع مما يضعف الشّعر، وفيه قافيتان ملتزمتان، بل يقويه! فيكون

البيت الواحد كالبيتين، لا سيّما هذا البيت، وقد ذكر في المصراعين مثلين سائرين. وقوله: وهو كالمنقطع مما قبله ليس الأمر كذلك، بل لمّا ذكر بلده، وهو الكوفة، والعذيب وبارق من أرضها، وإنه كان يجرّ فيه الرّماح ويجري السّوابق، وصحبه القوم الذين ذكرهم، وقوله: (الطويل) سقتني بها القطر بّليّ مليحة. . . . . . . . . ووصف الأغيد بما وصفه من الحسن ومن الأدب والظّرف. قال: (الطويل) وما الحسن في وجه الفتى. . . البيت. . . . . . ثم أتبعه بقوله وما بلد الإنسان. . . أراد أن بلده كان موافقا بما ذكره من قبل وعددّه، فليس بالمنقطع مما قبله بل متّصل أحسن اتصال. وقوله: ولم تجر عادة أبي الطّيب بالتّصريع في غير الأوائل. فيقال له: بلى قد جاءه في قصيدته الدّالية التي يمدح بها عضد الدولة وهي: (المسرح) أزائر يا خيال أم عائد. . . . . . . . . . . .

قوله: (المنسرح) يا طفلة الكف عبلة السّاعد ... على البعير المقلّد الواخد وفيها: (المنسرح) حكيت يا ليل فرعها الوارد ... فاحك نواها لجفني السّاهد وفيها: (المنسرح) يا عضدا ربّه له العاضد ... وسائرا يبعث القطا الهاجد وهذا التصريع، كما ترى، في قصيدة واحدة! وقال في قوله: (الطويل) وجائزة دعوى المحبّة والهوى ... وإن كان لا يخفي كلام المنافق المراد: أن (عادة) بني آدم أن يظهروا المودّة، وفي

النفوس غيرها، إلا أن ذلك جائز، لأن العادة جرت به. وادّعى أن كلام المنافق غير خاف، وإنما يظهر نفاقه في بعض الأوقات، وربّ منافق الغرّ، وحسب إنه الصديق المخلص! وأقول: انظروا إلى كلام هذا الشّيخ وقوله: أن عادة بني آدم أن يظهروا المودة، وفي النّفوس غيرها ودخول الأنبياء والأئمة والصّالحين في ذلك، وهو النّفاق بعينه، ثم أردفه بقوله: إلا أن ذلك جائز، لأن العادة جرت به أي: جائز منهم النفاق، وعلله بجريان عادة النّفاق منهم، وهذا القول جهل بل كفر محض! وقوله: وادّعى أن كلام المنافق ليس بخاف، وإنما يظهر نفاقه في بعض الأوقات. فيقال له: بل يظهر نفاقه في أكثر الأوقات (بإمارات تتبيّن) فيه، وقرائن تدلّ عليه، فأطلق بأنّ كلام المنافق لا يخفى مجازا، لما يظهر في أكثر الأوقات. وهذه المآخذ التي أخذها على أبي الطّيب في هذا البيت كان الصواب أن لا تردّ عليه لظهور فسادها، وضعف اعتمادها. وقال في قوله: (الطويل) أرادوا عليّا بالذي يعجز الورى ... ويوسع قتل الجحفل المتضايق الجحفل: الجيش العظيم، وقد اتّسعوا في هذه حتى وصفوا الرّجل بالجحفل، أي إنه يقوم مقام الجيش، قال اوس: (الطويل) عبيد ذوي المال الكثير يرونه ... وان كان عبدا سيّد الأمر جحفلا فيقال: اصل هذه اللفظة، التي هي الجحفل، إنه صفة، وهو العظيم، ثم وصف بها الجيش العظيم فقيل: جيش جحفل، أي: عظيم، ثم حذف الموصوف وأقيمت الصّفة

مقامه، كما حذف موصوف الأبطح والأجرع، وهو المكان. فإذا كان (هذا) أصل هذه اللفظة، فقد جرت على الرّجل صفة له، لا على وجه الاتّساع والمجاز، بل على وجه التّحقيق، فإذا قيل: رجل جحفل فهو على الأصل، أي: رجل عظيم، ولم يرد به إنه قائم مقام الجيش كما ذكر. وقال في قوله: (الطويل) توهّمها الأعراب سورة مترف ... تذكّره البيداء ظلّ السّرادق السّرادق: ما حول الفسطاط، وليس بعربيّ، ومن أبيات المعاني: (الطويل) ولمّا ركبنا صعبها وذلولها ... إلى أن توارت تحت ظلّ السّرادق رمتنا بفلذ من سرارة قلبها ... فطفنا به من بين حاس وذائق توارت: يعني الشّمس، وذكروا أن السّرادق هاهنا الغبار، والهاء في صعبها وذلولها راجعة على أرض سلكوها. وعن بالفلذ شيئا قليلا من ماء،

والسّرارة: اكرم موضع في الوادي، فطافوا بهذا الماء القليل، فمنهم من حسا حسوة، ومنهم من لم يصل إلى الحسوة، فذاقه باللّسان. وأقول: الصواب، أن السّرادق هنا الليل، وهو ما تدلّى من ظلامه. وقوله: فمنهم من حسا منه حسوة، ومنهم من لم يصل إلى الحسوة، فذاقه باللّسان ليس بشيء! والصواب: أن هذا الماء قليل آجن، فمن القوم من ذاقه فلم يشربه لأجونيّته، ومنهم من جهده العطش فحسا منه القليل للضرورة، قال الأعشى: (الطويل) وأصفر كالحنّاء داو جمامه ... متى ما يذقه ماتح القوم يبصق أي: فهو يبصق. وقال في قوله: (الطويل) فهاجوك أهدى في الفلا من نجومه ... وأبدى بيوتا من أداحي النّقانق هاجوك: حملوك على أن طردتهم، فوجدوك أهدى في الفلا من النّجوم، لأن الذين يسيرون باللّيل يهتدون بالنجم في المفاوز البعيدة، قال الرّاجز: (الرجز)

قلت له والجدي تحت الفرقد ... إنك أن لم تزجها بالفدفد لا ترد الأمواه إلاّ من غد وقال الآخر: (الرجز) لوّح خلّيك الأداوى والنّجم ... وطول تخويد المطيّ والسّعم أراد انهم يهتدون بالنّجم، فقد غيّر جسومهم السّعم، وهو ضرب من سير الإبل. وأقول: قوله: هاجوك: أي حملوك ليس كذلك، ولكن: هاجوك بمعنى: بعثوك وأثاروك ومنه: هيّجت الشّرّ، أي: أثرته. وقوله في قول الرّاجز: لوّح خلّيك الأداوى (والنّجم) أراد أنهم يهتدون بالنّجم كان يحسن بالشّيخ أن يفسّر قوله: . . . . . . الاداوى والنّجم فيجمع ما بينهما وما معنى ذلك، فقد روى أبو حاتم عن الأصمعي، وقد قيل لأعرابيّ: ما لوّح جسمك؟ فقال: الأداوى والنّجم! يريد إنه كثير الأسفار فهو يراعي أداوته وكم فيها من الماء، ويراعي النّجم من خوف الهلاك، وأنشد: (المتقارب)

له نظرتان فمرفوعة ... وأخرى تراقب ما في السّقاء وفسّر الاشنانداني مرفوعة أي: ينظر إلى السّماء مرّة يدعو ربّه أن يسلّمه، وينظر إلى سقائه مرّة. ثم قال: ومثله: (الرجز) لوّح خلّيك الأداوى والنّجم ولم يرد الراجز بقوله مرفوعة، إلا نظره إلى النّجم، خوف الهلاك. وقال في قوله: (الطويل) واصبر عن أمواهه من ضبابه ... وآلف منها مقلة للودائق الودائق: جمع وديقة، وهي: حين تدنو الشّمس من الأرض، يقال: ودق الشيء من الشيء إذا دنا، قال ذو الرّمّة: (البسيط) كانت إذا ودقت أمثالهنّ لها ... فبعضهنّ عن الآلاف منشعب ويجوز أن يكون المطر يسمّى ودقا، لأن قطره يدنو من الأرض، لأن الاشتقاق يدلّ على ذلك. فيقال له: تفسيرك الوديقة بقولك: حين تدنو الشّمس من الأرض يناقض، في المعنى وفي الرّواية، ما قيل فيها: أما المعنى، فأنه يراد بها الهاجرة وشدّة الحرّ، والشمس إذا دنت من الأرض قلّ حرّها،

وانكسر حميها. وأمّا الرواية فقول ابن دريد: وناهيك الوديقة: دومان الشّمس في كبد السّماء في الهاجرة. وأما تفسيره ودقت في بيت ذي الرّمّة بمعنى دنت، فالأولى أن يكون بمعنى أنست وألفت. قال ابن فارس: يقال: ودقت به ودقا: إذا أنست به. وقوله: ويجوز أن يكون المطر سمّي ودقا، لأن قطره يدنو من الأرض، لأن الاشتقاق يدلّ على ذلك فليس بشيء! لأن ذلك يقتضي أن يكون الثّلج والبرد سمّي ودقا، لأنه يدنو من الأرض، ولم يقل ذلك أحد! والأقرب أن يكون الودق مشتقا من الأنس، أي: أنس بما يحتفل من المطر بعد، لأن ابن دريد قال: الودق: الذي يخرج من خلل (السحاب) قبل محتفل المطر. وقال في قوله: (الطويل) فما حرموا بالرّكض خيلك راحة ... ولكن كفاها البرّ قطع الشّواهق يقال: جبل شاهق: أي مرتفع في السّماء، ومنه شهق الإنسان لأنه نفس متعال.

فيقال له: قد تقدّم من قبل، ما قيل في الجبل الشاهق. وقولك: مشتق من الشّهيق، وهو ارتفاع النّفس، فأنه ليس بصواب، لأنّ الشّهيق هو ردّ النّفس، وبين التأويل فيه على ما يوافق المعنى فأغنى عن ذكره هنا. وقال في قوله: (الطويل) ألم يحذروا مسخ الذي يمسخ العدا ... ويجعل أيدي الأسد أيدي الخرانق سكّن هذه الياء مرتين في بيت واحد، قال الرّاجز: (الرجز) كأنّ أيديهن بالقاع القرق ... أيدي جوار يتعاطين الورق يريد، أن هؤلاء الجواري، بنات قوم أغنياء، فهنّ يلعبن بالفضّة وأيديهنّ مخضّبات. وأقول: الذي ذكره ليس بشيء! لأنّ قوله: أيدي جوار مخضّبات، ليس في الشعر دليل عليه، وإنما يريد أن أيدي هذه الإبل، تطير الحصى بشدّة في حال السّير، فيصلّ باصطكاكه، كأيدي جوار يتعاطين الدّراهم فيسمع لها صليل، وهذا من

قول امرئ القيس: (الطويل) كأن صليل المرو حين تطيره ... صليل زيوف ينتقدن بعبقرا وقصّر الرّاجز عن قول امرئ القيس زيوف، لأن الزيوف يخالطها النّحاس فتصوّت بخلاف الفضّة الخالصة. وقال في قوله: (الطويل) ولا ترد الغدران إلاّ وماؤها ... من الدّمّ كالرّيحان تحت الشّقائق الماء يوصف بالسّواد، ومن أسمائه: سويد، وبالزّرقة، وإنما يوصف بالخضرة ماء البحر فيقال: الأخضر. والناس يخصّون بالرّيحان ضربا من النّبت، وهو معروف. وأمّا أهل العلم فيجيزون أن يقع الريحان على كلّ نبت طيّب الرائحة. وينبغي أن يحمل بيت أبي الطّيب، على إنه أراد بالريحان أزهارا بيضا، تشابه الماء في بعض الأحوال. وقد يجوز أن يقال للورد الأبيض ريحان. وأقول: قوله: الماء يوصف بالسّواد. . . وبالزّرقة، وإنما يوصف بالخضرة ماء البحر يريد أن ماء غير البحر لا يوصف بالخضرة، لأن لفظة إنما تفيد إثبات الشّيء المذكور ونفي ما عداه، تقول: إنما له عندي درهم، فتثبت الدرهم، وتنفي ما سواه، فهي بمنزلة: ما وإلاّ في قولك: ما له عندي إلا درهم، وهذا يقتضي أن لا يوصف بالخضرة إلا ماء البحر فيكون، على هذا، قول ربيعة بن مقروم: (المتقارب) طوامي خضرا كلون السّماء ... يزين الدّراريّ فيها النّجوما

خطأ، وذلك خطأ من قائله. وقوله: والناس يخصّون بالرّيحان ضربا من النّبت، وهو معروف. فيقال له: هذا (الذي) هو معروف هو الذي شبّه به أبو الطّيب الماء الذي كان صافيا في الغدران بالرّيحان، وعلاه الدّم، فكان فوقه كالشّقائق، لا الذي يجيزه أهل العلم من وقوعه على كل نبت، وتخصيصك له بالزّهر الأبيض وأن يكون الورد. وقال في قوله: (الطويل) تصيب المجانيق العظام بكفّه ... دقائق قد أعيدت قسيّ البنادق عند قوم أن ميم منجنيق أصلية، وانّ نونها زائدة، يدلّ على زيادتها حذفها في الجمع، والقياس لا يمنع من أن تكون الميم زائدة، لأنك إذا حذفت النون، رجع الأصل إلى مجنق، والميم كثيرة الزّيادة في مفعل حتى أوجب ذلك أن يحكم عليها بالزّيادة كما يحكم على همزة أفعل. وقد روى بعضهم كلام العرب: كانت بيننا حروب عون فقيء فيها العيون، نجنق تارة ونرشق أخرى. ووصف الشاعر الممدوح بأنه لطيف، يصيب بحجر المنجنيق للطف رأيه، ما لا تصيبه البندقة التي تخرج من قوس البندق.

فيقال له: إذا ثبت زيادة النّون بسقوطها في الجمع، لم يجز أن يحكم بزيادة الميم، لأن الزّيادتين، لا تكون في شيء من الأسماء أولا، إلا في الأسماء الجارية أفعالها. وما روي من يجنق وجنقونا كقولهم: لآّل لبائع اللؤلؤ، ففي: جنقونا بعض حروف منجنيق وليس منه، وكذلك لآّل فيه بعض حروف لؤلؤ. وقوله: ووصف الشّاعر الممدوح بلطف الحيلة، وإنه يصيب بحجر المنجنيق بلطف رأيه ما لا تصيبه البندقة. فيقال له: ليست تلك لطافة، وإنما تلك كثافة! والمعنى غير ذلك. وهو إنه يردي أن الممدوح يصيب الأشياء ويأخذها بالمظاهرة، والمغالبة، لقوته واقتداره، إذا أخذها غيره بالمخاتلة والمسارقة، وضرب لذلك مثلا بالمجانيق وقسيّ البنادق. والبيت الذي قبله يدلّ على هذا التفسير وهو: (الطويل) ولم أر منه غير مخاتل ... وأسرى إلى الأعداء غير مسارق وقال في قوله: (الخفيف) لو تنكّرت في المكرّ لقوم ... حلفوا أنّك ابنه بالطّلاق يقول: لو تنكّرت في المكرّ، لئلاّ يعرفك من جرت عادته بعرفانك، لحلفوا انك ابن المكرّ، لا ابن أبيك المشهور. وإنما حملهم على ذلك أنهم يجدونك فيه سالما. فكأنّه

أب لك، مشفق عليك، من أن يصيبك جرح من سيف، أو رمح. وإن حمل على أنهم يريدون إنه ابن أبيه لشبه به، فهو محتمل. فيقال: الوجه الأول ليس بشيء! والوجه الثاني، هو الذي أراده الشّاعر، ويدل عليه ما قبله وهو: (الخفيف) يا ابن (من) كلّما بدوت بدا لي ... غائب الشّخص حاضر الأخلاق فالضّمير في قوله: ابنه راجع إلى أبيه لا إلى المكرّ. وقوله: لو تنكرت في المكرّ. . . . . . . . . . . . . . . لم يبيّن لم خصّ المكرّ بذلك، وهو: لما يظهر فيه من شجاعته، وإقدامه، وشدّة قتاله. فيحلف على انك ابنه، لما علم من شجاعة أبيك، واشتهر من إقدامه إنه لا يفعل ذلك الفعل إلا من هو منه. وفي هذا أحسن مدح له ولأبيه. وقال في قوله: (الخفيف) ألف هذا الهواء أوقع في الأن ... فس أن الحمام مرّ المذاق هذا البيت، والذي بعده، يفضلان كتابا من كتب الفلاسفة، لأنّهما متناهيان في الصّدق، وحسن النّظام. ولو لم يقل شاعر سواهما، لكان له فيهما جمال وشرف.

وقال في قوله - وهو البيت الثاني منهما: (الخفيف) والأسى قبل فرقة الرّوح عجز ... والأسى لا يكون بعد الفراق يقول: ينبغي للإنسان أن يسهّل أمور العاجلة على نفسه، فإذا كان حيا فما ينبغي أن يحزن لعلمه أن فراق نفسه يكون، لأنه لم يكن بعد فإذا فارقته نفسه، فقد أمن من الأسى، ورجع إلى حال العدم وفراق الحسّ. وأقول: أن الشّيخ لم يذكر لم جاء بهذا المثل، ولا ما بين البيتين، والبيت الذي قبلهما، من الاتّصال والتناسب. والذي يقال في هذا أن قوله: (الخفيف) قلّ نفع الحديد فيك فلا يل ... قاك إلاّ من سيفه من نفاق أي: لما اشتهر من شجاعتك، وعلم من أرائك الأقران، وإنّ كلّ من لاقاك، مقاتلا مقتول، قلا يلقاك إلا من يقاتلك، ويدفعك عن نفسه بسيفه من نفاق أو رمح من خضوع، خوفا من الموت، وذلك أن ألف الهواء لذيذ، به تدوم الحياة. فالنفس تعلم، أن الموت الذي يضادّ الحياة، طعمه يضادّ طعمها، فهو مرّ مذاقه، وكان ينبغي لهذا الجبان (إن) لا يحزن، لأنّ حزن المرء على الشيء يكون بعد فقده لا قبله. ونفس الإنسان لا يتصور فيها ذلك، لأن حزنه عليها قبل فراقها، عجز وجهل، وبعد فراقها لا يكون حزن، فعلى هذا، ينبغي للجبان أن لا يجبن فيذلّ ويخضع.

وقال في قوله: (المنسرح) فقلت أن الفتى شجاعته ... تريه في الشّحّ صورة الفرق قال: الفتى هاهنا، يعني أبو العشائر. وذلك أبلغ من أن يكون الفتى شائعا في الفتيان، لأنه إذا شاع فيهم، كان أبو العشائر كواحد منهم، وإذا خصّ بالفتوّة، فهو مميّز من كلّ الفتيان. ووصفه بالشّجاعة، وادّعى أن شجاعته توهمه إنه يفرق من الشّحّ، فتريه الشّجاعة صورة الفرق، فكأنه يقبل تلك الصورة. فيقال للشيخ: الألف واللاّم في الفتى للجنس، وضربه مثلا فقال: أن الفتى، وهو الكامل الأخلاق، تريه شجاعته (انه) إذا بخل فقد جبن، فلا يبخل كما لا يجبن، ولا معنى لقوله: يقبل تلك الصورة. وهذا المعنى قد جاءه في شطر بيت من قوله: (البسيط) هو الشّجاع يعدّ البخل من جبن ... هو الجواد يعدّ الجبن من البخل

وقال في قوله: (المنسرح) بضرب هام الكماة تمّ له ... كسب الذي يكسبون بالملق يريد: إنه على ما يلحق بالأعداء، محبوب كأنه يتملّقهم، أي: يلّين لهم الكلام. وأقول: هذا الذي ذكره ليس بشيء! والمعنى، أن أبا العشائر تمّ له كسب الأموال من أعدائه، بضرب رؤوسهم وقتلهم، مثل كسب الذين يكسبون من غيرهم بالتّلطّف، أي: بكسب المال بالبأس، والقوّة والعزّ، كما يكسب غيره بالسّؤال، والضّعف والذلّ. وقال في قوله: (المنسرح) كن لجّة أيّها السّماح فقد ... آمنه سيفه من الغرق يقول: كن، أيها السّماح، كلّجة البحر، فسيف هذا الممدوح يؤمنّه من أن يغرق، فأدّعى أن سيفه يؤمنّه من كل الحوادث، وهذا إفراط بيّن المبالغة، وتجاوز الحدّ. وأقول: هذا قول أبي العلاء، وهو شاعر، فما قولك في غيره من شرّاح الديوان؟! وأبو الطّيب لم يدّع أن سيفه يؤمنّه من كلّ الحوادث. وإنما قال: كن لجّة أيّها السّماح. . . . . . . . . . . . أي: كثيرا مثل لجّة البحر، فأن سيفه يؤمنه من الغرق، من قولهم: فلان

غرق في العطاء، إذا (أكثر منه) فأذهب ماله، أي: سيفه يؤمنّه من الإقلال، بقتل أعدائه، وأخذ أموالهم. فجعل سيفه بمنزلة السّفينة التي تحمله بما يكسبه مؤمنا (له) من الغرق. وقال في قوله: (الرجز) ذو غرّة في وجهه كالشّارق ... كأنّها من جسمه في بارق باق على البوغاء والشّقائق يقول: لون هذا الفرس كلون بارق، فكأنه قد تخلّف على الأرض. فيقال له: ليس قوله: باق من صفة البارق، ولا البرق، وإنما هو من صفة الفرس. يريد، إنه قويّ ثابت صبور على البوغاء وهو التراب الرقيق، والشّقائق: الرّمل في الأرض الغليظة، والابردين: الغداة والعشيّ، والهجير الماحق: هو الشّديد أي: لم ينقص ذلك من قوّته.

وقال في قوله: (الرجز) والابردين والهجير الماحق زعم، أن البارق الذي شبّه به الفرس، طال مكثه في الأرض، وليس ذلك من عادة البارق، فهو باق على الابردين، والهجير الماحق، أي: الشّديد. فيقال: هذا مبنيّ على قوله في باق إنه من صفة البارق، والصّحيح إنه من صفة الفرس، لما ذكرته. وقال في قوله: (الرجز) يترك في حجارة الأبارق آثار قلع الحلي في المناطق مشيا فأن يعد فكالخنادق يقول: آثاره إذا مشى، في حجارة الأبارق، كآثار قلع الحلي في المناطق، وإذا عدا كان الذي يغادره من الأثر كالخنادق. ثم وصف الخنادق فقال: لو وردت غبّ مطر

فملأها ماء لأحسبت، فملأها ماء لأحسبت، أي: حفت خوامس الايانق التي يرد خمسا، وهي توصف بكثرة الشّرب، وقد بالغ هذا القائل في صفة ما تغادره من الآثار حوافر فرسه. والذي يوصف به الحافر، إنه وأب ليس بالواسع ولا الضّيق. وإنما ينبغي للمبالغ في صفة الفرس بالخفّة، أن يدّعى لحوافره إنها لا تقع على الأرض من خفّته، إذ كانوا يشّبهون الفرس بالبازي، والصّقر، وغيرهما من الطّيور. وأقول: إنه لم يصفه هاهنا بالخفّة، وإنما وصفه بقوّة القوائم، وصلابة الحوافر، وشدة تأثيرها في الأرض. وقد ذكرت ما في البيت في شرح ابن جنّي، فلينظر هناك. وقال في قوله: (الرجز) بذّ المذاكي وهو في العقائق العقائق: جمع عقيقة وهو الشّعر الذي يخرج على المولود. والمعنى، أن أمه سبقت الخيل، وهو في بطنها، وذلك لغزارة جريها، لأنها إذا سبقت وهي حامل، فكيف بها إذا كانت مضمّرة؟ وهذا مثل قول الآخر في وصف فرس: (الرجز) قد سبق الجياد وهو رابض فكيف لا يسبق هو راكض!

أي: رابض في بطن أمّه. وأقول: هذا وهم من الشّيخ، في قول أبي الطّيب، إنه سبق الخيل وهو في بطن أمه، بل في حال خرجه من بطن أمّه في عقيقته، لأنّ العقيقة الشّعر الذي يخرج على الولد، كما ذكر، وبالغ أبو الطّيب في ذلك، إذ جعله سبق المسّان من الخيل، في حال لم يكن فيها فلوا، ولا جذعا، ولا حوليا، بل في حال الولادة وهذه مبالغة. وابلغ منها البيت الذي استشهد به، وهو سبقه في بطن أمه، وذلك إذا حقّق، لم يكن السّبق له، وإنما السّبق لأمّه التي جرت به فسبق. وقوله: (البسيط) ربّ نجيع بسيف الدولة انسفكا ... وربّ قافية غاظت به ملكا

قال: لم يزاحف أبو الطّيب زحافا تنكره الغريزة، إلا في هذا الموضع! ولا ريب إنه قاله على البديهة، ولو أن لي حكما في البيت لجعلت لوّله: كم من نجيع. . . . . . . . . . . . لأنّ ربّ تدلّ على القلّة، وإنما يجب أن يصف كثرة سفك دماء الأعداء. ويحسّن ذلك أن ربّ جاءت في النّصف الثاني، وهي ضدّ كم. وأقول: أن قوله: لم يزاحف زحافا تنكره الغريزة، إلا في هذا الموضع إنما كان ذلك لأنّ مستفعلنّ جاء مطويّا فثقل واضطرب بحذف رابعه السّاكن، واجتماع ثلاثة متحركات، ولو خبن فجاء على مفاعلن لم تنكره الغريزة، لأنه صار على وتدين مجموعين اتّزنا. وقد جاء ذلك كثيرا في شعره كقوله: (البسيط) أظبية الوحش لولا ظبية الأنس ... لما غدوت بجدّ في الهوى تعس فجاء الخبن في الجزء الأول والجزء الخامس، ولم يتبيّن فيه النّقص، إلا إنه حسّن من زحافه - أعني: ربّ نجيع - إنه جاء هاهنا أولا لم يتقدّمه أجزاء خالفها، فأشبه الخرم الواقع في أول حرف من أول جزء في البيت. وأمّا وضعه كم موضع ربّ، وقوله أن كم للكثرة وربّ للقلة، وإنه يجب أن يصفه بكثرة سفكه دماء الأعداء، فيقال: أن ربّ قد تستعمل أيضاً للكثرة، وقد جاء ذلك في نحو قول الأعشى: (الخفيف) ربّ رفد هرقته ذلك اليو ... م وأسرى من معشر أقتال

وقول سويد بن أبي كاهل: (الرمل) ربّ من أنضجت غيظا قلبه ... قد تمنّى لي موتا لم يطع وذلك، أن قوله موضع مدح وفخر، فلا يراد به القلّة، وقد ذكر ذلك علماء العربية. وقوله: ويحسّن ذلك، أن ربّ جاءت في النصف الثاني وهي ضد كم. فكأنه أراد تحسين الطباق بين القلّة والكثرة. فيقال: هذا، وان كان تحسينا في اللفظ، فأنه تقبيح في المعنى، لأن ربّ تتمخّض فيه للقلّة فيلزم على ذلك، أن يصفه بقلة غيظه للملوك، وهو يخالف المقصود. والصواب إبقاء البيت على ما هو عليه، واحتمال إنكار الغريزة للوزن، لتعريف صحّة المعنى. وإذا تأمّل هذا التّغيير، علم فوق بين ما صار إليه ممّا كان عليه. على أن الواحديّ روى عن الشّيخ في تغيير ابن جنّي قول أبي الطّيب: (البسيط) . . . . . . . . . وشرّف الناس إذ سوّاك إنسانا بقوله: أنشأك إنه (قال): لا يمكن أن يغيّر من شعره كلمة بأحسن منها. فكيف رجع عن هذا القول؟! وقوله: (البسيط) من يعرف الشمس لا ينكر مطالعها ... أو يبصر الخيل لا يستكرم الرّمكا

قال: والرمكة لم تجيء في الشعر، إلا أن تكون شاذّة، لأنها إذا جاءت في حشو البيت، اجتمعت فيها أربعة أحرف متحركة، وذلك مستثقل. وأقول: أن تعليله شذوذها بأنها جاءت على أربعة أحرف متحركة، يقتضي شذوذ كلّ ما جاء على وزنها، من نحو: الحركة، والعجلة، والكلمة، والشّجرة، وما أشبه ذلك. ويقال له: فإذا استثقل ذلك حشوا فلم يشذّ في آخر البيت وقد زالت العلّة بسكون الرّابع؟ وقوله: (المتقارب) كأنّك سيفك لا ما ملك ... ت يبقى لديك ولا ما ملك قال: وصفه بالجود ووصف سيفه بالمضاء، وذلك إنه شّبهه بسيفه، فسيفه لا يبقي ما لديه بالضّرب، بل يفصله، وهو لا يبقي ما لديه من المال، بل يفرقه فجعل ما يملك سيف الدولة من العطّية، بمنزلة ما يملكه سيفه من الضّريبة، كلاهما ماض في فعله لا يليق شيئا.

وقوله: (البسيط) ولو نقصت كما قد زدت من كرم ... على الورى لرأوني مثل قاليكا قال: لو نقصت نقصا، مثل زيادتك في كرمك، لرآني الناس مثل مبغضك. وأقول: هكذا قول أبي الطّيب! فكأنه فسّر قوله، بقوله! والمعنى: أنك في أقصى الزّيادة من كرمك على النّاس، وشانيك في أقصى النّقص، فأضاف النقص إلى نفسه، وهو يريد نقص مبغضه، أي: لو أني ممّن ينقص كزيادتك، لكنت في نهاية النّقص، كما انك في نهاية الزيادة (في الكرم) وقوله: (الوافر) أتتركني وعين الشمس نعلي ... فتقطع مشيتي فيها الشّراكا

قال: هذا كما تقول: أتكرمني هذه الكرامة وأفارقك؟ أي: أن ذلك لا يجب، ولا يحسن، لأنك قد رفعتني حتى جعلت عين الشّمس نعلي، فأمشي فيها مشيا يقطع الشّراك، أي: لا ينبغي أن افعل ذلك. وأقول: أن هذا ضربه مثلا، أي: قد أحللتني محلّة رفيعة، فأنا لا اعرف حفظها، ولا احسن التمتّع بها. فجعل الشمس بمنزلة النّعل الحسنة، التي ينبغي للابسها أن يرفق بها، لئلاّ ينقطع شراكها فتسقط من رجله، وفي هذا غضّ من نفسه وتحقير لها، أي: لست من أهل هذه المنزلة، ولا ممّن يعرف قدر هذه النعمة فيحافظ عليها، وهذا من جليل الأمثال ودقيق المعاني. وقوله: (الوافر) ولولا أن أكثر ما تمنّى ... معاودة لقلت: ولا مناكا قال: إنما يريد مناه التي تخطر بقلبه، لا الأماني التي تبلغ، لأنه يجّل عليه أن يتمنّى شيئا لم يكن بعد، لأن الأماني ربّما تعلّل بها أخو الهمّ. ومن ذلك قول القائل: (البسيط) إذا تمنّيت بتّ الليل مغتبطا ... أن المنى رأس أموال المفاليس (وأقول:) انظر إلى هذا التفسير، وتفريقه بين المنى والأماني، وهذا كلام من لم يشمّ رائحة المعنى الذي أراده أبو الطّيب.

وأقول: أن هذا البيت مرتّب على البيت الذي قبله، وهو قوله: (الوافر) إذا التّوديع أعرض قال قلبي ... عليك الصّمت لا صاحبت فاكا يقول: أن قلبي، لكراهية الفراق، يأمرني بالصّمت عند الوداع، فيدعو عليّ إذا عزمت عليه فيقول: لا صاحبت فاك أن نطقت به، فقال: ولولا أن أكثر مناه العود إلى عضد الدولة، لقلت: وأنت لا صاحبت مناك. وقوله: . . . . . . أكثر ما تمنّى ... معاودة. . . . . . . . . يدل على إنه تمنّى الإقامة في الأهل والأوطان، وتمنّى العود إلى الممدوح، إلا أن تمنّيه العود أكثر، فلم يقدر أن يقول (له: وأنت) لا صاحبت مناك، لأنّ أكثر مناه العود إلى عضد الدّولة، فهذا هو المعنى لا سواه. وقوله: (الوافر) قد استشفيت من داء بداء ... وأقتل ما أعلّك ما شفاك قال: يقول لقلبه: قد استشفيت من داء، وهو فراق هذه الحضرة، بداء، وهو الوداع، واقتل ما أعلك، الذي يشفيك فيما تظنّ، وهو وداعك. وأقول: لم يفهم المعنى!

ومعنى قوله: قد استشفيت من داء بداء. . . . . . . . . أي: من فراق اهلك بفراق عضد الدولة، وهو أعظم منه، وهذا مثل قوله: (البسيط) . . . . . . . . . كالمستغيث من الرّمضاء بالنار وضدّ قوله: (البسيط) . . . . . . . . . أنا الغريق فما خوفي من البلل وقوله: (الوافر) وكنت أعيب عذلا في سماح ... فها أنا في السّماح له عذول قال: المعنى أني كنت أعيب عذلا في السّماح، فلمّا دام هذا المطر عذلته في الدّوام، لأنه قد منعنا من السّير. وهذا اللفظ على أن سيف الدولة أراد المسير، فسأله الشاعر أن يثبّت.

وأقول: هذا التّفسير، فيه تناقض، وذلك انه، كما ذكر، سأله التثبّت، وكما قال: رويدك وتأيّ وجودك بالمقام. فكيف يعذل السّحاب على الدوام، وقد حصل له به ما أراد من التثبّت والمقام؟ فذكر الدّوام ليس بشيء، وإنما عذله بسبب الكثرة، وان كانت لا تمنع سيف الدولة من السّفر كما قال: (الوافر) وما أخشى نبوّك عن طريق ... وسيف الدّولة الماضي الصّقيل وكذلك البيت الذي يليه. على أن السّماح إنما يكون من السّحاب بالكثرة، لا بالدّوام، فأنّ إنسانا لو أعطى إنسانا في عام، كلّ يوم فلسا، لم يعدّ ذلك سماحا، ولو أعطاه ألف دينار، في ساعة لعدّ ذلك سماحا. وقوله: (المتقارب) فلمّا نشفن لقين السّياط ... بمثل صفا البلد الماحل قال: يقول: أن عرف الخيل ابيض، فلمّا يبس على ظهورها، لقين السّياط بمثل صفا البلد الماحل، أي إنها مبيضّة بالعرق، فكأنّ السّياط منها بأرض بيضاء لم يصبها مطر.

(وأقول:) انظر إلى هذا التفسير الذي لم يقله بصير! وأين هو عن تشبيه أكفالها بالصّخر في البلد المحل؟ فهو اصلب له، وهذه شنشنة لهم معروفة، وطريقة مألوفة، كقول علقمة: (البسيط) . . . . . . . . . جلذيّة كأتان الضّحل علكوم وأشباه ذلك. فالتشبيه إنما وقع من جانب الصّلابة لا من جانب اللون (على أن الصّخر يختلف لونه باختلاف الأرض، فلا يختصّ بلون البياض دون غيره). وقوله: (المتقارب) وما بين كاذتي المستغير ... كما بين كاذتي البائل قال: شبّه العرق ونزوله، بنزول البول. وقد ذهب بعض من فسّر هذا البيت (إلى) أن الفرس إذا أعيا تباعد ما بين فخذيه، فكأنّه فرجهما ليبول، والأول أشبه. وأقول: لم يرد الشّاعر ذلك، وإنما وصفه بتباعد ما بين الرّجلين، فأنّ تقاربهما صكك كما قال زهير: (البسيط)

. . . . لا فحج فيها ولا صكك فجعل تباعد ما بين فخذيه، كتباعد البائل للمبالغة. وقوله: (المتقارب) بضرب يعمهّم جائر ... له فيهم قسمة العادل قال: وصف الضّرب بالجور، أي: إنه يسرف، فيكون كمن يجوز. وقوله: . . . . . . . . . . . . فيهم قسمة العادل أي: يقدّ الرّجل، فيجعله كالذي قسم جسمه، وهذا كما يروى عن علي - عليه السّلام - إنه كان إذا اعتلى قدّ، وإذا اعترض قطّ. وأقول: مثل هذا قوله في وصف السّيف وهبه له ابن العميد: (الخفيف) يقسم الفارس المدجّج لا يس ... لم من شفرتيه إلاّ بداده وقوله: (المتقارب) فظلّ يخضّب منها اللّحى ... فتى لا يعيد على النّاصل

قال: يخضّب لحاهم بالدّم، كما يخضّب الشّيب بالحنّاء والكتم، الاّ أن عادة من يخضب شيبه إذا نصل أن يعيد الخضاب، وهذا الخاضب لا يفعل ذلك. وأقول: إنه لم يتبيّن لِمَ لم يفعل ذلك؟ وذلك أن ضرباته إبكار، لا تثنّى، كما يحكى عن ضربات عليّ - عليه السّلام - فهو إذا ضرب القرن فخضّبه بالدماء، كانت تلك الضّربة قاضية لا يسلم منها (فينصل الخضاب)، فيحتاج إلى أن يضربه ثانية ليعيد الخضاب. وقوله: (البسيط) أعلى الممالك ما يبنى على الأسل ... والطّعن عند محبّيهنّ كالقبل قال: قال: الطّعن عند محبّيهنّ لأنه جعل الطّعن جمع طعنة، والأشبه أن يكون مصدر طعن، فلو إنه في غير الشّعر، لكان الوجه أن يقول: والطّعن عند محبّيه. وأقول: أن الضمير في محبّيهنّ راجع إلى الممالك، لا إلى الطّعن، فجعل الممالك بمنزلة المعشوقات، والطّعن بمنزلة القبل، أي: الطعن طّيب سهل، في جنب وصل الممالك، فإذا كان الضّمير كذلك، فليترك الشّعر شعرا، ولا يغيّر، ويغيّر له الضّمير.

وقوله: (البسيط) هو الشّجاع يعدّ البخل من جبن ... هو الجواد يعدّ الجبن من بخل قال: وصفه بالشّجاعة، وزعم إنه يرى البخل جبنا من قلّة المال، فهو يتركه لأنه شجاع، يرى البخل جبنا، ويعدّ الجبن من بخل، أي إنه إذا جبن، فقد بخل بنفسه على الحمام. وأقول: أن قوله: جبنا من قلّة المال أي: خوفا لأجل قلّة المال، لأنه يقال: فعلته من أجلك، أي: لأجلك. وفي تفسيره هذا، قصور عبارة عن هذا المعنى الطائل، واللّفظ الهائل، وهو أن الشّجاع إذا اقدم في الحرب، ولم يقدم على إنفاق ماله خوفا من الفقر، فقد بخل، وذلك البخل يعدّ جبنا، لأنه لو كان شجاعا، وقد جاد بنفسه، جاد بماله، فالضّنّ به جبن. وكذلك الجواد إذا جاد بماله ولم يجد بنفسه خوفا من القتل، فقد جبن، وذلك الجبن يعدّ بخلا، لأنه أو كان جوادا، وقد جاد بماله، جاد بنفسه فالضّنّ بها بخل. والمعنى: إنه وصف الممدوح بصفتين كاملتين اجتمعتا فيه، فجعله شجاعا لا يبخل، وجوادا لا يجبن، لأن هاتين الصّفتين قد تفترق، كما يحكى عن ابن الزّبير إنه كان شجاعا بخيلا، وعن جماعة من بني اميّة، وبني العبّاس، انهم كانوا سمحاء جبناء. وأقول: إنه اتّفق لأبي الطّيب في هذا البيت، من جودة الصّنعة بتركيب الألفاظ وتقليبها، وتهذيب المعنى وتكميله ما لم يتّفق لغيره.

وقوله: (الكامل) أنّي لأبغض طيف من أحببته ... إذ كان يهجرنا زمان وصاله قال: قال في أول القصيدة: (الكامل) لا الحلم جاد به ولا بمثاله. . . . . . . . . . . . فزعم أن الحلم، لا يصل إلى أن يريه الخيال. ثم ذكر بعد ذلك، إنه يبغض طيف من احبّه، وهذا يشبه أقوال الشّعراء (الشيء) ثم رجوعهم عنه، وهو الذي يسمّى الاكذاب، ومنه قول زهير: (البسيط) قف بالدّيار التي لم يعفها القدم ... بلى وغيّرها الأرواح والدّيم وأقول: من أين زعم أن هذا رجوع عن الشّيء، وإكذاب له؟ ولعلّه أراد بقوله: فزعم أن الحلم لا يصل إلى أن يريه الخيال إنه وصل إلى الخيال هو بنفسه، وذلك بتذكّره له، وتفكّره فيه، ولا يكون ذلك إلا عن قصد وإرادة ومحبّة، ثم اكذب ذلك بقوله: إني لأبغض طيف من أحببته. . . . . . . . . فهذا الذي تبينته من تقرير مأخذه (أو يكون أنكر على الحلم كونه لم يجد له به أو بمثاله، حيث نفى ذلك عنه، وذلك لحبّه اياه، فلما جاد بمثاله وهو طيف قال: أني لأبغض)

والجواب عنه، أن التقدير الذي قدّره من قوله: فزعم أن الحلم لا يصل إلى أن يريه الخيال، وإنه هو الذي وصل إليه غير صحيح. والتقدير الصّحيح في قوله: لا الحلم جاد به ولا بمثاله. . . . . . . . . أي: لو لم اذكر وداع المحبوب والزّيال وأتخيّله، لم يجد الحلم بالخيال، فالعاشق لم يقصد خيال المحبوب، ولكنه لما تذكّر المحبوب في حال اليقظة، رآه في حال النّوم. فرؤيا الخيال إنما وقعت عرضا واتّفاقا، لا تعمدّا واشتياقا. فإذا صحّ ذلك فسد قوله: إنه رجوع عن الأول، واكذاب له. وقوله: (المتقارب) فلم لا تلوم الذي لامها ... وما فصّ خاتمه يذبل قال: هذه مبالغة عظيمة، لأنه جعل الذي يجترئ على لوم هذه الخيمة، يجب أن يكون فصّ خاتمه مثل هذا الجبل المستعظم. وكيف يلومها وهو حقير؟! إنما شخصه كشخص غيره من النّاس. وأقول: غير هذه العبارة أحسن منها! والمعنى: أن هذه الخيمة مستحيل أن تعلو وتشمل من يشمل الدّهر، كما إنه مستحيل أن يكون فصّ خاتم إنسان هذا الجبل العظيم الذي هو يذبل فالخيمة حقيرة بالإضافة

إلى سيف الدولة، كما أن الإنسان حقير بالإضافة إلى هذا الجبل، أن يجعله فصّ خاتمه، فينبغي إذا لامها على ترك العلّو على سيف الدولة، أن تلومه على ترك التّختّم بخاتم فصّه يذبل! فهذا كأنّه ذكره على طريق المجادلة، لا على ما ذكره. والضمير في تلوم من قوله: فلم لا تلوم. . . . . . . . . . . . يحتمل أن يعود إلى المخاطب، ويحتمل أن يعود إلى الخيمة، على وجه المقابلة، وهو الأحسن، ليكون الجدال بينها وبين لائمها، وهو اقرب في الاستعارة. وقوله: (المتقارب) جعلتك بالقلب لي عدّة ... لأنك باليد لا تجعل ذكر فيه وجهين: أحدهما لا معرّج عليه. والآخر أصاب فيه، إلا إنه زاد فيه زيادة نقصته. وهو قوله: أي جعلتك عدّتي بقلبي، لأنك أجلّ من أن تجعل باليد. والزيادة قوله: لأنّها إنما تتصرّف فيما صغر من الاشياء، والقلب يتّسع في الضمير حتى إنه يضمر ما لا يدرك. وأقول: هذا ليس بشيء!

والمعنى، إنه جعل سيف الدولة سيفا لا كالسّيوف، لأن السّيوف يعتدّ بها في الأيدي، وسيف الدولة يعتدّ به في القلب، يعني: بإخلاص الولاء والمحبة، فلا معنى لسعة القلب ولا ضيقه! وقوله: (المتقارب) أنلت عبادك ما أمّلت ... أنالك دهرك ما تأمل قال الشيخ: تأمل من آخر القصيدة - يعني هذا البيت - لا يجوز ترك همزه، لأنه يصير سنادا، وكذلك همزة مأسل من قول امرئ القيس: (الطويل) . . . . . . . . . وجارتها أمّ الرّباب بمأسل وأقول: إنه أراد بترك همزة الإبدال ألفا محضة، لا مخفّفة، لأن المخفّفة عندهم كالمحقّقة، ويدلّ على ذلك قول امرئ القيس: (الطويل) أرى أمّ عمرو دمعها قد تحدّرا ... بكاء على عمرو فما كان اصبرا إذا قلت: هذا صاحب قد الفته ... وقرّت به العينان بدّلت آخرا

فأراد المخففة فكأنه قال: أأخرا ولو أراد الإبدال لكان ذلك سنادا كما قال، فعلى هذا يجوز تخفيف همزة مأسل وتأمل لا إبدالها، وهو المقصود من كلامه بعدم الجواز. وقوله: (البسيط) أجاب دمعي وما الدّاعي سوى طلل ... دعا فلبّاه قبل الرّكب والإبل قال: يريد أن دمعه سبق أن يقف به الرّكب. وأقول: هذا ليس بشيء! بل شجا الركب والإبل بمرورهم به، أو وقوفهم عليه، فكأنه دعا دموعهم فسبق دمعه الرّكب والإبل، لفرط غرامه، وزيادة شوقه. فأمّا وصف الرّكب بالوجد والبكاء فظاهر، وأمّا وصف الإبل بذلك فمستعمل كقول متمّم: (الطويل) فما وجد أظآر ثلاث روائم ... رأين مجرا من حوار ومصرعا إذا شارف منهنّ قامت فرّجعت ... حنينا فأبكى شجوها الركب اجمعا وكذلك الخيل كقول عنترة: (الكامل) وأزورّ من وقع القنا بلبانه ... وشكا إليّ بعبرة وتحمحم

وقول أبي الطّيب: (الطويل) مررت على دار الحبيب فحمحمت ... جوادي، وهل تشجو الجياد المعاهد وقوله: (البسيط) ما بال كلّ فؤاد في عشيرتها ... به الذي وما بي غير منتقل قال: أجود ما يقال في هذا المعنى، أن يجعل الذي يجده من الشّوق، كأنه شخص، والشّخص إذا حصل في مكان شغله، ولم يشغل غيره، فإذا اعتقد ذلك صحّ إنكاره، لثبات وجده، لأنه في أماكن كثيرة، والشخص لا يشغل مكانين. (قلت): وكان ينبغي أن يقول هاهنا: والشخص ينتقل، وهذا لا ينتقل. قال: وأما العرض، فلا يشغل مكانا، فإذا كان في قلب واحد، جاز أن يكون في قلوب عالم كثير. وأقول: هذا الذي ذكره، في غاية التكلّف، ونهاية التّعسّف! والمعنى: (أقرب من ذلك وهو) إنه استفهم متعجبا: كيف فؤاد (كلّ) رجل في عشيرتها به من حبّها مثل الذي به؟ وان ذلك يدعو إلى حفظها، ومنعها، وعدم

الوصول إليها، ويوقع اليأس من وصلها، ومع ذلك (فأنه) لا يسلوها، ولا ينتقل ما به من هواها. وقوله: (الوافر) شديد البعد من شرب الشّمول ... ترنج الهند أو طلع النّخيل قال: قدّم الخبر في قوله: شديد البعد، ولو جعل النصف الآخر مكان الأول لكان حسنا، وكلا الوجهين سائغ. وأقول: أن تفسيره هذا محمول على ظاهر الكلام من غير تقدير، وليس له معنى صحيح، أو كأنّ الشيخ وقف على ما ذكر ابن جنّي فيه، أو وقف عليه فارتضى قوله، وهو غير مرضيّ، والصحيح، أن تقدير الكلام: أنت شديد البعد من شرب الشّمول فحذف المبتدأ ثم قال: ترنج الهند، أو طلع النّخيل، ما تصنع به، فحذف الخبر لأن قرينة الحال تدلّ عليهما وتقود إليهما.

وقوله: (الطويل) ويوما كأنّ الحسن فيه علامة ... بعثت بها والشمس منك رسول قال: هذا معنى لطيف. أراد أن الحسن في هذا اليوم، كأنّه علامة بعثت بها هذه المذكورة إليه، وإنّ الغبار ثار وستر الشمس، فكأنها رسول من حبيب مستخف. وأقول: أن قوله أن الغبار ثار فستر الشمس ينفي حسن ذلك اليوم، ومع ذلك، فليس في الكلام دليل عليه. والصحيح ما قاله الواحديّ، إنه استحسن اليوم لما كان قبله من استشباعه الليل، وأضاف حسنة إلى الحبيبة، يقول: كأنك بعثت الشمس رسولا، وحسن اليوم منك علامة، لأنه حسن بالشمس، فكأن الشمس جاءت بحسنه، وكأنّ الحبيبة بعثت ذلك الحسن. وقوله: (الطويل) إذا الطّعن لم تدخلك فيه شجاعة ... هي الطّعن لم يدخلك فيه عذول قال: يقول: إذا لم تكن فيك شجاعة تدخلك في الطّعن، أي: تحملك على أن تطاعن فتصيب وتصاب لم يدخلك فيه من يعذلك.

وأقول: أن الجماعة لم يفرّقوا بين الطّعنين في قوله: إذا الطّعن، وقوله: هي الطّعن وهل الطعن الأول هو الثاني أو غيره؟ وأرى أن بينهما فرقا، وان التكرار لزيادة معنى، وهو أن الأول مصدر، والثاني اسم جنس، جمع طعنة، أي: إذا لم يدخلك في صفة طعن الأبطال شجاعة هي الطعن، أي فعل الطّعن، لم يدخلك فيه كلام من يعذلك! أي: إذا لم يكن للإنسان باعث من نفسه وفعله الجميل على الذّكر الجميل، لم يبعثه كلام من خارج. وقوله: (الطويل) وكلّ أنابيب القنا مدد له ... وما ينكت الفرسان إلاّ العوامل قال: أراد أن العرب كلّها مدد لسيف الدولة، وإنه كعامل القناة، وما ينكت الفرسان إلا عوامل الرّماح.

وأقول: أن كان توهّم أن الضّمير في له عائد على سيف الدولة، فليس كذلك، ولكنه عائد على القنا. والمعنى: أن أنابيب القنا، وإن تساوت في كونها مددا لها في طعن الفرسان، إلا أن الأنبوب الأعلى، وهو العامل، هو الذي ينطت الابطال، أي: يكبّها ويلقيها، فضرب ذلك مثلا لأصحاب سيف الدولة (وله)، يقول: هم، وان كانوا مددا له، (فهو أعلاهم وأشرفهم)، فليس لهم غناء، ولا تأثير في الحرب إلا به، وهذا ينظر إلى قوله: (المتقارب) أمام الكتيبة تزهى به ... مكان السّنان من العامل وقوله: (الخفيف) قارعت رمحك الرّماح ولكن ... ترك الرّامحين رمحك عزلا قال: يقول: قارعت الرماح رمحك، فترك الرامحين عزلا، أي: لا سلاح معهم. وأقول: إنه لم يزد على قول أبي الطّيب، إلا بتفسيره العزل، وهذا التفسير يحتاج إلى تفسير! والمعنى: وصف سيف الدّولة بحذقه في الطّعن. يقول: أن الرماح قارعت رمحه (ولكن) لم تغن شيئا، لأنه بطلّها وعطلّها، فصار الرّامح بمنزلة الأعزل. ويحتمل معنى

غير وصفه بالحذق، وهو وصفهم بالخوف. وهذا، كأنه مثل ضربه لمفاخرة غيره له من الملوك، يقول: قابلوا مفخرك بمفاخرهم، فتركتهم كأن لا مفخر لهم. وينظر إلى قوله: (الكامل) أكلت مفاخرك المفاخر وانثنت ... عن شأوهنّ مطيّ وصفي ظلّعا وقوله: (الخفيف) ما لنا كلّنا جو يا رسول ... أنا أهوى وقلبك المتبول قال: الاجود، أن ترفع كلّنا على الابتداء، ويكون: جو خبره. وكان بعض النّاس يخفض كلّنا ويجعله تأكيدا للضّمير في لنا، وهذا وجه رديء، لأنه يوجب نصب جو على الحال فيقال: ما لنا كلّنا جويّا، فأن لم يفعل ذلك فهو ضرورة. وأقول: أن تأكيد لنا بكلّنا يوجب أن يكون الحال جمعا، فيقال: ما لنا كلّنا جوين، لأنك إنما أفردت جو خبرا لمّا جعلت كلّنا مبتدأ، فحملت الخبر على لفظها لأنه مفرد، فأمّا إذا أكدت به ضمير الجمع، تمحّص في الجمع، لأنه صار من تمامه وأشبه أجمعين فكأنك قلت: وما لنا أجمعين جوين. فلا يجوز جويا كما لا يجوز: ما للزيدين قائما، ومثل هذا مسألة الإيضاح: أنتم كلكم بينكم درهم. قال: إذا جعلت كلاّ تأكيد أنتم كأنك قلت: أنتم بينكم درهم، وانتم

كلكم بينهم درهم، إذا جعلت كلاّ مبتدأ، لأنه اسم موضوع للغيبة، كأنك قلت: أنتم غلمانكم بينهم درهم. وقوله: (الخفيف) وسوى الرّوم خلف ظهرك روم ... فعلى أيّ جانبيك تميل قال: يقول: أعداؤك كثير، وليس الروم أعداؤك دون غيرهم، فلأيّهم تقاتل؟! وأقول: إنه أشار بذلك إلى بمن مصر والعراق، وجعلهم وراءه، لأنه مستقبل الشمال لغزو الرّوم، فهما عن منكبيه (غربا وشرقا، ويمينا وشمالا)، فقال: على أي جانبيك تميل، أي: تميل عن غزو الرّوم، إلى غزوهم. وقوله: (المنسرح) أنا ابن من بعضه يفوق أبا ال ... باحث والنّجل بعض من نجله قال: المعنى: أنا من بعضه يفوق أبا الباحث الذي يبحث عن نسبي وأصلي، وبعضي يفوق أباه وأنا بعض أبي.

وأقول: أن قوله: وبعضي يفوق أباه خطأ - وهكذا رأيته في النسخة المنقول منها، والصواب: بعض أبي. يقول: إذا كنت أنا افضل أبا الباحث عن نسبي وأنا بعض أبي، لزم ضرورة أن أكون أفضل من الباحث، لأنه بعض ابيه، وقد فضلته، فكيف أبي الذي أنا بعضه؟ وقوله: (المنسرح) قد هذّبت فهمه الفقاهة لي ... وهذّبت شعري الفصاحة له لم يذكر معنى البيت، وإنما ذكر (لغة) الفقاهة، قال: وهي العلم، ويروى عن العرب أنهم يقولون: فحل فقيه، أي: عالم. وأقول: معناه، أن فطانته هذّبت فهمه لي، أي: للإحسان إليّ، والإنعام عليّ، وفصاحتي هذّبت شعري له، أي: للثّناء عليه وإهداء المديح إليه. وقوله: (المنسرح) فصرت كالسّيف حامدا يده ... ما يحمد السّيف كلّ من حمله قال: المعنى أن يد الممدوح يد شجاع، وأنا سيف ماض، فهي تحمدني، وأنا احمدها.

وأقول: لم يصب المعنى، ولا في الكلام ما يدلّ على أن اليد تحمده. والمعنى أن السّيف بلا يد الممدوح في الحرب بالضّرب فوجدها تعطيه حقّه فحمدها على ذلك، وأنا ايضا، مثل السّيف، بلوتها في الجود فوجدتها تعطيه حقّه، فحمدتها على ذلك. وقوله: (الكامل) لك يا منازل في الفؤاد منازل ... أقفرت أنت وهنّ منك أواهل يعلمن ذاك وما علمت وإنما ... أولاكما يبكي عليه العاقل قال: يعلمن ذاك: أي: منازلك التي في الفؤاد، يعلمن بحالك وحالهنّ، فهنّ أواهل بذكرك، وأنت مقفرة من ذكر أهلك، ولست تذكرين منازلك التي في الفؤاد، وأولاكما بأن يبكي عليه، العاقل، أي: منازلك في الفؤاد. وأقول: أن قوله: يعلمن ذاك. . . . . . . . . . . . إشارة إلى قوله: . . . . . . . . . أقفرت أنت وهنّ منك أواهل أي: المنازل التي في الفؤاد، تعلم إنها آهلة، من منازل الأحباب المقفرة، وهي لا

تعلم ذلك، فالأولى أن يبكى على المنزل العاقل، لا الجاهل، فهذا هو المعني، وما ذكره فمخلّط ومخبّط! وقوله: (الكامل) لو طاب مولد كلّ حيّ مثله ... ولد النّساء وما لهن قوابل قال: هذا الكلام يؤدّي إلى أن الممدوح ادّعى له الشاعر، إنه لما ولد لم يحتج إلى قابلة. فأقول: هذا الكلام لم يؤدّ إلى ذلك، بل يؤدّي إلى إنه لمّا ولد وجد، من تيسير أمره وطيب مولده وطهارته ما دلّ قابلته، وغيرها، على أن النّساء لو ولدن كمولده، لم يحتجن إلى قوابل. وقوله: (الكامل) من لي بفهم أهيل عصر يدّعي ... أن يحسب الهنديّ فيهم باقل قال: قد عاب بعض النّاس أبا الطّيب، لما جعل باقلا ينسب إلى حساب الهند، لأنه لا يوصف بذلك وإنما يوصف بالعيّ، وقد ذكرت ذلك الشعراء - وانشد أبياتا لحميد الأرقط الرّاجز يصف ضيفا، وكان مغرى بهجاء الضّيفان، منها موضع

الاستشهاد: (الطويل) أتانا وما داناه سحبان وائل ... بيانا وعلما بالذي هو قائل فما زال عنه اللقم حتى كأنّه ... من العيّ لمّا أن تكلم باقل وأقول: لا خلاف أن باقلا كان يوصف بالعيّ، وإنما أبو الطّيب أشار إليه في قضية مشهورة، تدلّ على العيّ بعدم العبارة، وعلى سوء الحساب بسوء الإشارة. وذلك إنه لما أشار بأصابعه العشر، وقد سئل عن ثمن الظّبي فساب، والأصابع آلة الحساب، كان كالحاسب! فكان ينبغي له أن يشير إلى السّائل بالثّمن اشارته، فلمّا لم يفعل جمع بين ترك العبارة وسوء الإشارة. وقوله: (المنسرح) يقلبهم وجه كل سابحة ... أربعها قبل طرفها تصل قال: هذا إسراف في المبالغة يخرج إلى الكذب الذي لا يجوز أن يكون مثله، ومع هذا، فأن القوائم إذا وصلت قبل الطّرف فقد وصف النّظر بالضّعف. وأقول: أن تفضيله قوائمها في السّرعة على طرفها، لا يدلّ على ضعفه، لأن حدّة طرف الجواد معلومة، كقول أبي داؤد: (الهزج)

حديد الطرّف والمنكب والعرقوب والقلب وكذلك إذا فضّلت على البرق في السّرعة، لا يدلّ على ضعف البرق، وإنما يقصد بذلك المبالغة في الصّفة، لا نقص المفضّل عليه. وقوله: (المنسرح) قصدت من شرقها ومغربها ... حتى اشتكتك الركاب والسّبل قال: في هذا البيت مبالغتان: إحداهما: يجوز أن يكون مثلها، وهي ادّعاؤه، أن الرّكاب تشتكي الممدوح، من كثرة ما تركب اليه، فهذا يجوز مثله، لأنها إذا صارت انضاء، وأخذ منها السّير، فكأنها تشتكيه. والأخرى: ادّعاؤه أن السّبل تشتكيه، أي: الطّرق، فهذا ما لا يمكن أن يكون. فيقال له: اشتكاء الإبل والطّرق مجاز، فلا يمكن أن يكون، فإذا جوّزت ذلك في الإبل، لكثرة ما تركب وينضيها السّير، فلم لا يجوز مثل ذلك في الطّرق لكثرة ما تسلك ويؤثّر فيها السّير!؟ وقوله: (المنسرح) لم تبق إلا قليل عافية ... قد وفدت تجتديكها العلل

قال: يقول: وهبت مالك وغيره، حتى كأنك قد وهبت أكثر صحتك، فلم تبق إلا عافية قليلة، قد وردت تسألك، أن تهبها لها العلل. وأقول: أن الشّيخ قد اخذ عليه مآخذ في مواضع غير سائغة! ولم يقل في هذا الموضع شيئا. وأرى أن مخاطبته للممدوح بقوله: لم تبق إلا قليل عافية. . . . . . . . . أي: لم تبق من صحّتك، وسلامتك، إلا شيئا يسيرا. وإنّ العلل قد وفدت عليك تأخذها منك، من التّطيّر له بالموت، والبشارة له بالهلاك. وهل يسوغ لعاقل أن يقول لمريض: ما بقي فيك إلا عافية يسيرة، قد جاءت العلل لأخذها منك! وقوله: لم تبق إلا يسير عافية. . . . . . . . . يدلّ على إنه وهب أكثر العافية، فترى على من جاد بها؟ ولم أبقى هذا اليسير وجعله جدوى للعلل؟ وكلّ (هذا) تكلّف للاغراب، وتعمّق في المعاني، وضدّ قوله: (المنسرح) أبلغ ما يطلب النجاح به ال ... طّبع وعند التّعمّق الزّلل وقوله: (الوافر) بقائي شاء ليس هم ارتحالا ... وحسن الصّبر زمّوا لا الجمالا

قال: بقائي شاء، أي: أراد أن يرتحل عني، وهم لم يشاءوا الرّحيل، وهذه دعوى، لأنهم قد شاءوا الرحيل لا محالة، وادّعى أنهم زمّوا حسن الصّبر. . . ولم يزمّوا الإبل، وتلك دعوى ليست بالصّحيحة، لأن أصحاب الإبل، إذا ارتحلوا فلا بدّ من الأزمّة. وأقول: أعجب من الشّيخ! كيف ينكر على أبي الطّيب مثل هذا، مع اطّلاعه على أشعار العرب، وكلامها، وما فيه من الإغراق في المبالغة، والتّوسع في الاستعارة، وهذا كما يقال: ما مات كعب، ولكن ماتت السّماحة، وما زال قسّ، ولكن زالت الفصاحة، وإن كان كعب قد وقع فيه الموت، وقسّ منه الزوال، ومنه قوله تعالى: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) وقول عبده بن الطّيب: (الطويل) وما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنّه بنيان قوم تهدّما وقوله: (الوافر) وحجّبت النّوى الظّبيات عنّي ... فساعدت البراقع والحجالا ذكر الشيخ القافية: الجلالا جمع جلّ وفسّره: ما جلّل به الهودج، وغيره: الحجالا، وهي المشهورة. وقال: يقال: برقع وبرقع وبرقوع واستشهد

على برقوع بقول الشّاعر: (الطويل) وخدّ كبرقوع الفتاة ملمّع ... وروقين لمّا يعدوا أن تقشّرا وقال: يجوز أن يكون زاد الواو في برقع ضرورة، لإقامة الوزن، ولو لم يجيء بالواو لكان في البيت زحاف، وهذا الضّرب من الزّحاف يتساوى في حذف حرف ساكن، ويكون في بعض الأبيات احسن منه في غيره، ويجب أن يكون ذلك لأجل حروف الكلمة، فإذا حذفت الواو من برقوع في البيت المتقدّم ذكره، نفر منه الطّبع أكثر من نفاره من قول امرئ القيس: (الطويل) إذا قامتا تضوّع المسك منهما ... نسيم الصّبا جاءت بريّا القرنفل ولم يذكر الشّيخ ما ذلك؟! وأقول: إنما كان بيت امرئ القيس، زحافه أسوغ من الأول، لأجل حرف المدّ ثالثا، لما فيه من الاستطالة باللّين، فكأنه خلف المحذوف بما فيه من المدّ، لأنه: متاتضو: مفاعلن. ويدلّ على ذلك، لزوم الرّدف في كل بحر سقط من أتم بنائه حرف متحرك أو زنته. وأما الأول فثالثه الرّاء: كبرقعل: مفاعلن لا مدّ فيه، ففضله من هذا الوجه.

وقوله: (الوافر) وضفّرن الغدائر لا لحسن ... ولكن خفن في الشّعر الضّلالا قال: وصفهنّ بكثرة الشّعر، وأنّهنّ ضفّرن الغدائر، لا ليحسنّ بذلك، (بل) خفن أن يضللن في الشّعر، أي: يغبن، من قوله تعالى: (أئذا ضللنا في الأرض) أي غبنا، وهذه مبالغة في الصّفة، إذا صحّت للمرأة كانت عيبا. وقد وصفت الشعراء الشّعر بالكثرة، ولكنها لم تفرط في ذلك مثل هذا الإفراط. وأقول: أن أبا الطّيب لم يرد الكثرة، وإنما أراد اللون. وكذلك أن الشعراء إذا شبّهت الشّعر، شبّهته بالظلام للونه، لا لكثرته، وقد قال المنبجيّ: (الكامل) فالوجه مثل الصّبح مبيضّ ... والشّعر مثل الليل مسودّ وقال بكر بن النّطّاح: (الكامل) فكأنها فيه نهار مشرق ... وكأنه ليل عليها مظلم وقال أبو الطّيب: (الطويل) بفرع يعيد الليل والصّبح نيّر ... ووجه يعيد الصّبح والليل مظلم

وأشباه ذلك. فإذا صحّ ذلك، فإنما ضفّرن غدائرهنّ خيفة الضّلال، في ليل شعورهنّ، لا للكثرة، وإنما غرّه الظرفية بذكر في والظرف (إنما هو) الليل من الشّعر على وجه الاستعارة لا الشّعر. وقوله: (الوافر) يكون أحقّ إثناء عليه ... على الدنيا وأهليها محالا قال: يقول: كلّ ما يوصف به من الكرم والأفعال الجميلة، يكون حقا، وإذا وصف به أهل الدنيا، كان محالا، فإذا قيل: كريم، فالقائل صادق محقّق، وإذا قيل لغيره: كريم، فالقائل كذاب محيل، أي: أتى بالمحال، وكذلك إذا أثنى عليه بالشّجاعة والحلم وغيرهما. وأقول: لم يزد في الشّرح على ما ذكر أبو الطيب في النظم، إلا كثرة كلام! والمعنى، المبالغة في المكارم والفضائل، يقول: أن الممدوح وحده قد كمل كمالا استحق به من الثّناء ما لو يثنى به على الدنيا وأهليها، مع كثرة من فيها، لكان محالا، لأنه لا مناسبة ولا مقاربة بينه وبينهم في ذلك، فهو للمتناهي في المكارم يثنى عليه بما حقّه يكون محالا، لو أثني عليه، ويدل على المبالغة في ذلك البيت الذي بعده.

وقوله: (الوافر) ويا ابن الضاربين بكلّ عضب ... من العرب، الأسافل والقلالا قال: القلال: جمع قلّة، وهي أعلى الرأس، وجعلهم يضربون الأسافل، لأنهم إذا ضربوا الفارس في قلّة رأسه، نزل السّيف أسفل جسده. وأقول: أن الشّيخ لم يتنبّه على هذا المعنى اللطيف، ولا غيره من شرّاح الديوان، وهو إنه جعل هذا الممدوح، لفرط إقدامه وشجاعته، يضرب بسيفه العرب للقتل ما تضربه بسيوفها من الإبل للعقر، وهي الأسافل والأعالي، ولهذا، خصّ العرب بذلك دون غيرهم من الناس. وقوله: (الوافر) جواب مسائلي: أله نظير ... ولا لك في سؤالك لا، ألا، لا التقدير في هذا البيت: جواب مسائلي: اله نظير؟ لا. ولا لك في سؤالك أيها السّائل نظير، لجهلك بالممدوح. وقوله ألا لا تأكيد في النّفي يحتمل أن يكون للمسئول عنه على الانفراد، ويحتمل أن يكون للسائل، وأن يكون لهما جميعا.

وقال الشّيخ أبو العلاء: واسهل من هذا، أن يصرف إلى معنى آخر. وذلك انهم يقولون: ما بفلان من الضّلال والألال، فيجعلون الألال كالأتباع، وتابع الشيء كائن في معناه، أو قريبا منه. وقدّر بذلك تقديرين بعيدين غير سائغين. وأقول: أن الاتباع استعماله (يكون) مع المتبوع، فانفراده منه، وانقطاعه عنه بعيد. فإذا كان كذلك، فهذا الوجه الذي ذكر إنه الأسهل الأقرب، هو الأبعد الأصعب! وقوله: (الكامل) تشكو روادفك المطيّة فوقها ... شكوى التي وجدت هواك دخيلا قال: يقول: تشكو المطية حملك، كأنها تشكو دخيلا في قلبها من حبّك. وأقول: هذا التفسير، على أن المطية الموصوفة، المحذوفة، التابعة، هي في المعنى، الأولى، وهو كما تقول: لقي الرجل الذي تعهده عمرا لقاء المسرور به، أي: الرّجل المسرور به، ولا يعني بالرّجل الثاني غير الأول. ويحتمل وجها آخر، وهو أن يكون الضمير في وجدت عائدا إلى النّفس، وإن لم يجر لها ذكر، كقوله تعالى: (كل من عليها) وقوله:

على مثلها. . . . . . ويعني الشّاعر بذلك نفسه، لأنه العاشق. وقوله: (الكامل) حدق يذمّ من القواتل غيرها ... بدر بن عمّار بن إسماعيلا قال: زعم، أن الممدوح يذمّ، أي: يعطي الذّمة من كلّ القواتل، الاّ من هذه العيون. فقد أفرط في صفة العيون بتمكّنها من القتل إلا إنه جعل الممدوح لا يستطيع أن يمنعهنّ من القتل. فيقال له: أن الممدوح يذمّ من القواتل التي هي السّهام، والرّماح، والسّيوف، وما يمكن الشجاع أن يذمّ منه. فأمّا العيون القواتل، فأنه لا يمكنه أن يذمّ منهنّ، ويمنعهنّ من القتل. فليس على الشّاعر في (وصفه) بذلك إنكار، ولا على الممدوح (عار)، إلا أن يمنعهنّ من القتل بأحد شيئين، بمعنى قول أبي نواس: (الطويل) سأشكو إلى الفضل بن يحيى بن خالد ... هواها لعلّ الفضل يجمع بيننا أو بمعنى قوله: (البسيط) علّ الأمير يرى ذلّي فيشفع لي ... إلى (التي) تركتني في الهوى مثلا

وقوله: (الكامل) محك إذا مطل الغريم بدينه ... جعل الحسام بما أراد كفيلا قال: يقول: هذا الرّجل، إذا مطل الغريم بدينه، جعل الحسام كفيله بقضاء الدّين، وإنما يعني بالغريم، من جنى جناية يجب أن يعاقب عليها، فجعل تأديب الجانين كالدّين للممدوح، يتقاضاه بالسّيف كفلاء لم بما يريد. وأقول: أن المحك، هو الخصم المتمادي في اللّجاج، والغريم هنا، هو خصمه، أي: قرنه، والدّين هو مهجته. يقول: إذا مطل غريمه، أي: خصمه، بدينه، أي: بمهجته، ومانع ودافع لشجاعته، جعل سيفه كفيلا بمراده، وهو أخذ روحه، لأنّ هذا الدّين، وهو الروح، لا يقتضي إلا بهذا الكفيل، وهو السّيف. فهذا التفسير أبلغ وأولى من جعل الغريم الجاني، وأحواله مختلفة في الجناية، وتأديبه بالسيف. ولعله لا يستحقّ ذلك، ولأنه مناسب لما قبله من قوله: (الكامل) الفارج الكرب العظام بمثلها. . . . . . . . . وقوله: (الكامل) أعدى الزّمان سخاؤه فسخا به ... ولقد يكون به الزّمان بخيلا

قال: ادّعى أن الممدوح أعدى بسخائه الزّمان، فسخا به على البشر، وإنما حمله على السّخاء إنه أعداه، ولولا ذلك لكان بخيلا به. وأقول: أن هذا التّفسير يقتضي النهاية في الإغراق، وذلك أن الشيء المعدي لغيره لا بد أن يكون موجودا معه، وقريبا منه. وهذا لمّا أعدى الزمان بالسّخاء فسخا به على البشر كان معدوما، لأنه لا يكون له جود وهو موجود. فهذا في الإغراق والاحالة، أكثر من قول أبي نواس: (الكامل) وأخفت أهل الشّرك حتى إنه ... لتخافك النّطف التي لن تخلق وقوله: (الكامل) حتى الذي في الرّحم لم يك نطفة ... لفؤاده في جوفه خفقان (وفيه معنى اقرب من هذا قد ذكرته). وقوله: (الكامل) ومحلّ قائمه يسيل مواهبا ... لو كنّ سيلا ما وجدن مسيلا قال: زعم أن ما يسيل من كفّ هذا الرّجل، لو كان سيلا لم يصب موضعا يسيل فيه.

و (أقول): هذا هو لفظ البيت، وهذا التّفسير، يحتاج إلى بيان، وذلك أن فيه أخبارا عن كثرة عطائه بتفضيل يده على السّحب، لأن ما ترسله السّحب من مائها يجد مسيلا. ولو كان ما تجود به يد الممدوح من المال ماء، لم يجد مسيلا لكثرته، كأنه يريد أن الدنيا تصير به بحرا. وقوله: (الكامل) رقّت مضاربه فهنّ كأنما ... يبدين من عشق الرّقاب نحولا قال: أي: رقّت مضارب هذا السّيف، كأنهنّ يعشقن الرقاب، فكأنّ العشق انحلهنّ. فيقال له ولأبي الطّيب: ولم ينحلن من عشق (الرّقاب)، والنحول إنما يكون بسبب الهجر ومنع الوصال؟ أفكذلك مضارب سيفه في هجر الرّقاب لها، ومنع الوصال منها، وفي ذلك فساد المعنى؟! والجواب عنهما أن يقال: أن النحول يمكن الوصل والتلاف، خوفا من الهجر والفراق، وفي ذلك صلاح المعنى. وقوله: (الكامل) لو كان ما تعطيهم من قبل أن ... تعطيهم لم يعرفوا التأميلا

قال: يقول لو انك تقدّمت أعطيتك من قبل أن تعطيهم، لما جرت الآمال في قلوبهم، لأن العطايا كانت تأتيهم بغير أمل. وأقول: أن قوله: أن العطايا كانت تأتيهم من غير أمل ليس بشيء. والصحيح، أن الأمل للشيء، إنما يكون عند الحاجة إليه، فلو كان تقدّم عطاؤك في الناس، لأغناهم بكثرته، فغنوا بع عن التأميل، فلم يعرفوه. (أو) يقول: أن عطاءك يسبق الأمل، فالأمل إنما عرف بسبب عطاء غيرك، لتأخّره عن المحتاج إليه، فلو كان عطاؤك تقدّم، لم يعرف أحد الأمل لغنائه عنه. وقوله: (الكامل) مطرت سحاب يديك ريّ جوانحي ... وحملت شكرك، واصطناعك حاملي قال: أي أن شكرك عظيم ثقيل، وقد حملته، واصطناعك قد حملني مع شكرك، فدلّ ذلك على أن اصطناعك يزيد في القوة عليّ، لأنه حملني وحمل شكرك.

وأقول: لم يرد القوّة، وانّ اصطناعه زاد عليه بها، وإنما هذا أخبار من الشّاعر، عن حالتين اجتمعتا له، من كونه حاملا محمولا، فيهما، كلتيهما، ثناء على الممدوح، أي: أنا حامل للشّكر، محمول بالإحسان. والواو في قوله: واصطناعك حاملي واو الحال، فقد اجتمع في حالة إنه حامل محمول، وفي هذا إغراب في المعنى، وإتقان للصناعة. وقوله: (الكامل) فمتى أقوم بشكر ما حمّلته ... والقول فيك علوّ قدر القائل قال: يقول: متى أقوم بشكر ما أوليت من الجميل وإذا شكرتك، فإنّما أرفع قدري بذلك. وأقول: هكذا قال أبو الطّيب، وتفسيره غير ذلك! والمعنى: إنه قد علم واستقرّ أن شكر المنعم جزاء انعامه، وإنما كان جزاء لما فيه له من حسن الذكر، وعلوّ القدر، فكأنّ المنعم عليه جازى، بقوله الجميل، فعل المنعم بالجميل، فكسبه فخرا بشكره، ومجدا بذكره. وهذا الممدوح، قد كمل كمالا ارتفع به عن شكر من يزيده فيه، فالشّاكر له والذّاكر لا يرفع من قدره، وإنما يرفع من قدر نفسه

لكونه تشرّف (بمدحه) وجوده كما قال: (الوافر) وقبض نواله شرف وفخر ... وقبض نوال بعض القوم ذام وقوله: (الكامل) سفك الدّماء بجوده لا بأسه ... كرما لأنّ الطّير بعض عياله قال: اراد، إنه قتل الناس وغرضه أن تأكلهم الطّيور، وحمله على ذلك الجود. والمعنى يحتمل ذلك، وابلغ منه في صفة الممدوح، أن يدّعي له أن ينحر ويذبح، ليأكل الطير ما يجده من اللحم فكأنه سفك الدّماء بجوده. وأقول: المعنى الجيّد الجليل هو الاول، وإنما حقّره، بتحقير العبارة، ليحسّن (الثاني) وهو غير حسن بالإضافة إلى الأول. والمعنى أن الممدوح سفك دماء الأعداء بجوده للطير، لأنها بعض عياله، أي أن عياله أجناس، من الناس والطّير والوحش، ولم يفعل ذلك لبأسه على الأعداء، لأن البأس والقتال إنما يكون بمن يهتّم به ممن يخاف منه

من عدوّ مماثل أو خصم مصاول، والممدوح أجلّ من ذلك، وإنما يقتلهم ويسفك دماءهم جودا على بعض عياله وهو الطّير. ومثل هذا المعنى قوله فيه أيضا: (الرمل) ما به قتل أعاديه ولكن ... يتّقي إخلاف ما ترجو الذّئاب فهذا المعنى مبتكر، وذلك مطروق، فهو أبلغ منه وأمثل. وقوله: (السريع) قد أتت الحاجة مقضّية ... وعفت في الجلسة تطويلها قال: وزنها من السّريع، وقافيتها من المتدارك، وهي، على قول الخليل، من الطّاء (في تطويلها) إلى آخر البيت. وأقول: أن حدّه القافية من الطاء إلى آخر البيت خطأ، لأن القافية، على رأي الخليل، من آخر إلى أول ساكن يليه، مع حركة ما قبله أو متحركة، فيكون، على هذا، من آخر البيت، إلى حركة الواو، أو الواو. ولعلّه توهّم أن الرّدف الواو، فجعل الطّاء قبلها أول القافية، وذلك وهم. وقد رأيت بعض الحذّاق في القوافي

سبق إلى ذهنه من غير تأمل أن الياء من قول أبي نواس: (الطويل) أجارة بيتينا أبوك غيور. . . . . . . . . هي الرّدف، وليس كذلك، إنما هو الواو. والشيخ لا يشكل عليه مثل هذا، إلا أني رأيته في نسخة بخطّ كاتبه. وقوله: (الرجز) له إذا أدبر لحظ المقبل قال: بعض الكلاب إذا عدا التفت في عدوه، وقد ذكر ذلك الحكميّ، في صفة الكلب فقال: (الرجز) لفت المشير موهنا بناره وأقول: إنما وصفه بالتيقّظ وحدّة النّظر فبالغ فقال: إذا أدبر ما وراءه، كما يدرك ما قدّامه، وفسّر ذلك بقوله: (الرجز) يعدو إذا احزن عدو المسهل

أي: يتساوى لحظه في سرعة إدراك الشّيء في حالة إدباره وإقباله، ويتساوى عدوه في السّرعة في حال أحزانه وإسهاله، أي: لا يمنعه الإدبار من إجادة النّظر، ولا يمنعه الأحزان من إجادة العدو، وأمّا قول أبي نواس: (الرجز) لفت المشير موهنا بناره واللّفت: هو اللّيّ، فإنما يصفه بسرعة الانثناء والتّعطّف خلف الصّيد، لا الالتفات في العدو. وقوله: (الرجز) لا يأتلي في ترك أن لا يأتلي قال: أي لا يقصّر في ترك ألا يقصّر وأقول: إنه مقصّر، لأنّ النّفي إثبات، ولم يذكر هاهنا زيادة لا، لأن بذلك يصحّ المعنى، فيصير: لا يقصّر في ترك أن يقصّر، وترك التّقصير جدّ. وقوله: (الخفيف) وله في جماجم المال ضرب ... وقعه في جماجم الأبطال فهم لاتّقائه الدّهر في يو ... م نزال وليس يوم نزال

قال: يقول: يهب المال فتعلم الأبطال أنهم إذا اجروا إلى خطأ، أو تعدّوا على ضعيف، كان قادرا على معاقبتهم، وكفّ أيديهم، بالقوم الذين يعطيهم ماله، فالأبطال معه طول زمنهم في نزال، وان لم يكن ثمّ حرب ولا منازلة. وأقول: هذا الذي ذكره اصلح مما ذكره ابن جنّي والواحديّ، وارى فيه وجها غير الوجوه المذكورة، وهو إنه وصف الممدوح بكثرة العطاء، فاستعار للمال جماجم ليقابل بها جماجم الأبطال، وجعل كثرة تفريقه له ضربا فيها، وذلك يوقع هيبة في قلوب الرجال، فكأنه وقع في جماجم الأبطال. وقوله: (الخفيف) رجل طينه من العنبر الور ... د وطين العباد من صلصال فبقّيات طينه لاقت الما ... ء فصارت عذوبة في الزّلال قال: زعم أن بقايا طينه لاقت الماء فصارت عذوبة فيه، والطيب ليس للعذوبة، وكان تشبيهه بغير ذلك أحسن في هذا الموضع، فلو قال: لاقى زهر الربيع أو نحو ذلك لكان أشبه من عذوبة الماء. وأقول: أن الطّيب يكون في الرائحة وفي الطّعم، فوصف طينه الذي جبل منه بالطّيب في الرائحة، فجعله لن العنبر، ووصفه مع ذلك بالطّيب في الطّعم، فجعله يطيب الماء عذوبة، لأن التّرب ما يكون ملحا، ومنه ما يكون مرّا، ومنه ما يكون حلوّا طيبا، والمياه إنما يكون طعمها طعم الأرض التي تكون فيها، لمجاورتها واكتسابها

منها، فعلى هذا التّفسير قوله: لاقت الماء، أحسن من قوله: لاقت الزّهر، وقد روي: طينه وطيبه وكلاهما يؤدي ذلك المعنى، ويراد بطيبه، على هذا التّفسير، طيب الطعم، لا طيب الرائحة، لئلا يتوجّه عليه ما ذكره الشيخ. وقوله: (الطويل) تحقّر عندي همّتي كلّ مطلب ... ويقصر في عيني المدى المتطاول وما زلت طودا لا تزول مناكبي ... إلى أن بدت للضّيم فيّ زلازل لم يذكر الشيخ أبو العلاء، ما في هذا المكان من التّباين، وهو وصف همتّه بالعظم، وانّ المدى المتطاول يقصر في عينه، وإنه طود لا يزول، وذلك يمنعه من أن يضام أقلّ ضيم، فكيف جعل للضّيم ولازب بدت في هذا الطّود الذي لا يزول؟ ومن المجترئ على هذا الخطر العظيم، والمتعرّض لهذا الخطب الجسيم؟ وهذا تباين بيّن. وقد قال الشيخ الكنديّ: نزل من سماء تعاظمه إلى قعر الاعتراف بحلول الضّيم به سريعا. وقوله: (البسيط) تدري القناة إذا اهتزّت براحته ... أن الشّقيّ بها خيل وأبطال

قال: ادّعى للقناة الدراية بما يفعله الفارس الذي هي معه، وهذا مدح للقناة وليس للفارس فيه فضيلة، ولكنه من المبالغة التي تستحسنها الشعراء. وأقول: بل مدح للفارس لا للقناة! وفيه له أوفى فضيلة (لأنها آلة في يده (!) وذلك إنه جعل القناة كأنها تدري، لما عودّته والفته في صحبته من إنها إذا هزّها اعملها (بالطّعن) في صدور الخيل وصدور الأبطال. وقوله: (البسيط) لا يعرف الرّزء في مال وفي ولد ... إلا إذا حفز الأضياف ترحال قال: المعنى، أن هذا الممدوح يعدّ رحيل الضيّف رزئه، وهذه مبالغة تخرج إلى غير الحقّ لأن رحيل الضّيف منفعة له، إذا كان مسافرا، وإنما يعبر بالمضيف كالمجتاز، واجتيازه أن لا يثبّت عن طريقه، فزعم أن هذا المذكور، لا يعرف الرّزء في المال والولد إلا إذا الضّيف حفزه الرّحيل.

وأقول: أن قوله هذا فيه عيب لقول أبي الطيب وتخطئه له، وهو كما قال: (الوافر) وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السّقيم وقوله: إن هذا، مبالغة تخرج إلى غير الحقّ، لأن رحيل الضّيف منفعة له. فيقال: إنما كانت هذه المبالغة غير حقّ لو إنه أمسك الضّيف وأجبره على المقام، ومنعه من الرّحيل الذي له فيه منفعة، وبه مصلحة كما ذكر، وأبو الطيب لم يتعرّض لشيء من ذلك، وإنما أخبر وبالغ أن هذا الممدوح إذا نزل به ضيف ورحل عنه حزن عليه، فكأنّه رزئ من ماله أو ولده، لأنه يسرّ بمقامه عنده، كثيرا كان المقام أو قليلا، مجتازا كان الضّيف أو متمهّلا. وقوله: (البسيط) يروعهم منه دهر صرفه أبدا ... مجاهر، وصروف الدّهر تغتال قال: جعل الممدوح دهرا يغول الأعداء جهارا. وصروف الدّهر تغتال، أي: تجيئهم هم لا يعلمون، وهذا يطرقهم وهم يعلمون. وأقول: هذا قول أبي الطيب بعينه! ما فسّره بل كرّره! وتفسير هذا البيت هو تعليله، وهو أن يقال: إنما يجاهر الأعداء ولا يختالهم لعظم شجاعته، وفرط إقدامه، وكثرة

اقتداره عليهم وقلّة احتفاله بهم، وهذا مثل قوله: (الطويل) ولم أر أرمى منك غير مخاتل ... وأسرى إلى الأعداء غير مسارق وفيه تفضيل له على الدّهر، كأنه يقول: هذا الممدوح دهر في أذى الأعداء، لا كالدّهر لأن هذا مجاهر وذلك مخاتل. وقوله: (البسيط) وإنما يبلغ الإنسان طاقته ... ما كلّ ماشية بالرّجل شملال لم يذكر معنى البيت، وإنما ذكر لغة شملال وهي الحسنة المشي، السريعة السّير، والمعنى إنه ضرب مثلا لما ذكره في البيت الأول، من اختلاف أحوال النّاس في الجود، وإنهم يتفاوتون به في الزّيادة والنّقص، كاختلاف أحوال الإبل في السّرعة والبطء، والقوّة والضّعف، كأنه يقول: هذه طبائع يتفاضل الناس فيها كتفاضل الإبل، فلا يقدر الإنسان على ما يقدر عليه الآخر.

وقوله: (الكامل) يشتاق من يده إلى سبل ... شوقا إليه ينبت الأسل قال: يقول يشتاق من يده إلى مطر ينبت الأسل - أي: الرّماح - شوقا إليه لأنه يطعن به الأعداء. وأقول: الصحيح، أن الضمير في إليه عائد على السّبل، وأراد بذلك المبالغة. يقول: أن الممدوح يشتاق من يده إلى جود ينبت القنا شوقا إليه، فما ظّنك بالنّاس في الاشتياق! والأسل لمّا كان نبتا جعله يشتاق من يده مطرا، فالأيدي، وان كانت محلّ الرّماح، فليس فيها ما في يد الممدوح من المطر. فقوله: إنما تنبت الرماح شوقا إليه لأنه يطعن به الأعداء، وجعل طعنه الأعداء سببا لنبتها وشوقها إليه غير صحيح، لأن غيره أيضاً يطعن بها الأعداء، وإنما شوق الأسل إلى ما في يده من السّبل، والطّعن في قول من علّل شوقها بالطعن.

وقوله: (الكامل) وإذا القلوب أبت حكومته ... رضيت بحكم السيوف القلل قال: يقول: إذا أبت قلوب الأعداء ما يحكم به، رضيت القلل أن يصيبها سيوفه. فيقال له: ما زدت في الشّرح على ما ذكر أبو الطيب في النظم! وكأنّ الشيخ قد التزم في (كل) مكان من شعر أبي الطيب، دق ّمعناه، أن يفسّره بإعادة لفظه! وهذا يتساوى فيه الأبله والفطن! ويقال له ولأبي الطّيب: ولم كانت الرؤوس ترضى بحكم السّيوف إذا أبت القلوب حكومة الممدوح، والرّضا عبارة عن الإيثار والاختيار والمحبّة، وهي لا تختار وتؤثر أن تفلّق وتقطّع! والجواب عنهما بقول أحدهما: (الوافر) رضوا بك كالرّضا بالشّيب قسرا ... وقد وخط النّواصي والفروعا وأقول: أن الرؤوس كأنها لمّا لم تمتنع على السّيوف وأجابت بقطعها وتفليقها، أشبهت الراضي بانقياده وإجابته، فقيل: رضيت وإن لم يكن ثمّ رضا، فهذا أبلغ ما يفسّر به هذا البيت. وقد ذكر الشّيخ الكنديّ، أن مصافحة السيوف للرؤوس رضا منها بحكمها، وهو كناية عن قطعها، ويقرب مما فسّرته.

وقوله: (الرجز) لو جذب الزّرّاد من أذيالي مخيّرا لي صنعتي سربال ما سمته سرد سوى سذوال قال: يقول: لو أن الزّرّاد خيّرني فقال: ما تريد أن اصنع لك من اللباس؟ لم اسمه شيئا، سوى سروال من زرد، لأن لي درعا ومغفرا. وقال ابن جني: لما طلبت منه أن يصنع لي سوى سراويل من حديد تحصّن عورتي. فالشيخ أبو العلاء أراد: ليكمل عنده بالسروال لباس الحديد، وابن جني أراد وصفه بالعفّة، والأجود قول ابن جنّي إذا وضع موضع: أحصّن عورتي: أحصّن فرجي كقوله تعالى: (الّتي أحصنت فرجها)، وقول أبي الطيب، ومنه البيت

الأول: (الطويل) ولا عفّة في سيفه وسنانه ... ولكنّها في الكفّ والفرج والفم وقوله: (الطويل) وفاؤكما كالرّبع أشجاه طاسمه ... بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه قال: شبّه وفاء صاحبيه بالرّبع أشجى ما يكون إذا درس، وكأنه لامهما على إنهما لم يسعداه. و (أقول): هذا ليس بشيء يعوّل عليه ولا يمال إليه! والتقدير الصّحيح إنه خاطب صاحبيه فقال: وفاؤكما بأن تسعدا بالدّمع كالرّبع، أي: ينبغي أن يكون مثل الرّبع، أي: على قدر حال الرّبع، فالرّبع أشجاه طاسمه، والدّمع أشفاه للمحب ساجمه، فالتشبيه وقع بين الوفاء بالدّمع وبين الرّبع من جانب الكثرة، وهذا، كما يقال: إعطاؤك المال كالحمد، فالحمد أفخره أكثره، والعطاء أفضله أجزله. فعلى هذا، لا يكون التّشبيه وقع بين الوفاء والرّبع من جانب الدّروس، كما ذكر، لأنه لا يساعده عليه آخر البيت، وذلك إنه إذا قال: وفاؤكما بأن تسعدا بالدّمع كالرّبع أشجاه طاسمه، فما يصنع بقوله: والدّمع أشفاه ساجمه؟

وقوله: (الطويل) بليت بلى الأطلال أن لم اقف بها ... وقوف شحيح ضاع في التّرب خاتمه قال: وصفه نفسه بطول الوقوف، وشبّه وقوفه بوقوف شحيح ضاع في التّرب خاتمه، فهو يطلبه، وينظر إلى الأرض لعلّه يظهر له. وقد جاء نحو من هذا في وصف الإبل، قال الرّاجز: (الرجز) إذا قطعن علما بدا علم يبحثن بحثا كمضلاّت الخد حتّى يوافين بنا إلى حكم وأقول: إنه يصف نفسه بذلك، مع ظهور الحزن والكآبة، كفعل الشّحيح إذا ضاع خاتمه في التّرب، وقد بيّن ذلك بقوله فيما بعده:

كئيبا توقّاني العواذل. . . . . . . . . . . . وأمّا قول الشّيخ: وقد جاء نحو من هذا في وصف الإبل فلم يرد التّشبيه بين الإبل في سيرها وبين وقوف أبي الطيب في الرّسوم، لأن الراجز وصف الإبل بسرعة السّير، وإنها تبحث التّرب بأيديها كما تبحثه النّساء اللواتي أضللن خدمهنّ - أي: خلاخيلهنّ - كقول الفرزدق: (البسيط) تنفي يداها الحصى في كلّ هاجرة ... نفي الدراهيم تنقاد الصّياريف وأبو الطّيب يصف نفسه بطول الوقوف، وإنما المناسبة وقعت بينهما من جانب أن أبا الطّيب أضل خاتمه وأولئك اضللن خلاخيلهنّ. وقوله: (الخفيف) أين أزمعت أيّهذا الهمام ... نحن نبت الرّبى وأنت الغمام قال: قوله: نحن نبت الرّبى إنما جاء بالرّبى لإقامة الوزن، ولو أمكنه أن يقول: نحن النّبت وأنت الغمام لكان ذلك أعمّ. ويجوز أن يقال: إنما خصّ الرّبى لأن النّبت عليها احسن منه في الوهد، وقد أبان الطّائيّ عن هذا فقال: (الخفيف) غير أن الرّبى إلى سبل الأن ... واء أدنى والحظّ حظّ الوهاد وأقول: إنه لم يتنبّه للمعنى في التّفسير الأول الذي نسبه فيه إلى الضرورة

ولا للتفسير الثاني الذي أراد به تصحيح الأول. والمعنى، إنه ليس لنا نفع إلا بك، ولا حياة إلا منك، لأنك غمام، ونحن نبت الرّبى، ونبت الرّبى ليس له شرب إلا من الغمام بخلاف نبت الوهاد، فأنه يشرب من الغمام وغيرها. والبيت الذي أنشده لأبي تمّام تبيينا لهذا المعنى، ليس بينه وبينه مناسبة، إلا باللفظ لأن معناه أن الرّبى قريبة من السّبل، (والوهاد) بعيدة، فكان ينبغي أن يكون القريب أكثر حظّا من البعيد، لكنّ الوهاد بخلاف ذلك، فأنها أكثر حظا بما يصير إليها ويستقرّ فيها من الغيث. وقوله: (الخفيف) ليت أنا إذا ارتحلت لك الخي ... ل وأنا إذا نزلت الخيام قال: تمنّى أن يكون غير مفارق له في المسير والمقام، وقد عاب بعض الناس هذا القول على أبي الطّيب، وقالوا: الخيام تكون متعالية على من فيها، ولذلك قال: (الوافر) لقد نسبوا الخيام إلى علاء. . . . . . . . . . . . البيت والذي يليه. وحجة المتنبي في هذا واضحة، لأن الخيمة إنما هي خادمة لمن يحلّ فيها، تصدّ عنه الشمس، وغيرها من المؤذيات.

وأقول: إنه لمّا تمنّى ذلك، لأن الخيل لا تبلغ من الرّفق بالممدوح، والخيام من الوقاية له، ما يبلغه الناس إذا كانوا بمكانهما، لأن الإنسان يعقل ذلك فيفعله على ما يوافق المصلحة وتقتضيه أغراض المخدوم، بخلاف الخيل والخيام، فأنها حيوان وجماد لا يتأتّى منها ذلك. فهذا التّفسير ليس عليه دخل لعلوّ الخيام عليه، على إنه لا يلزم، إذا شبّه شيء بشيء، أو مثّل به، أو يساويه من كلّ وجه، حتى إذا تمنّى أن يكون من الخيام أو من الثّياب أو من الدّروع ليقيه الأذى بنفسه لزم أن يكون اشرف منه، لأنه قد علاه وقاه، هذا لا يقوله محصّل، وهذا مأخذ من في عين قلبه أخذ!! وقوله: (الكامل) وإذا انتضاك على العدا في معرك ... هلكوا وضاقت كفّه بالقائم قال: يقول: شأنك عظيم، فإذا انتضاك الخليفة لأمر لم تسع كفّه قائمك فيذرك تفعل الأشياء وأنت بها منفرد. وأقول: إنما أراد أن سيف الدولة إذا انتضاه الخليفة على العدا أهلكهم لمضائه، وضاقت كفّه به، لأنه أعظم من أن يحمله وتضرب به يده، إنما تحمله وتضرب به يد الله، ويكون: . . . . . . . . . . . . . . . ضاقت كفّه بالقائم كقوله: (الطويل) . . . . . . . . . . . . وفي يد جبّار السّماوات قائمه

وقوله: (الطويل) فجاز له حتّى على الشّمس حكمه ... وبان له حتى على البدر ميسم (قال): هذه مبالغة، وكأنها استحسنها الشّعراء، وكان يجب على الممدوح أن ينكرها، لأنه مخلوق يوصف بصفة الخالق - تعالى الله عن قول المبطلين - فجاز له حكمه على الشّمس، وبان له ميسم على البدر. وأقول: أن هذا تشنيع على المادح والممدوح في غير موضعه، من غير تأمل للّفظ وتدبّر للمعنى. وجملة البيت ومعناه، وصفه بالشّجاعة والحسن، فجعل له حكما على الشّمس في الحرب بأضعافها وتغطيتها بالعجاج، وجعل له ميسما ظاهرا على البدر بنور وجهه، وحسن بشره. ولأبي الطّيب في مديح سيف الدولة وغيره من الإغراق ما يزيد على هذا، ثم لم ينكره! وقوله: (الطويل) فهنّ مع الغزلان في الواد كمّن ... وهنّ مع النّيان في الماء عوّم

قال: كثر الوادي في كلامهم، حتى حذفوا منه الياء، والأجود إثباتها مع الألف واللام كما قال سحيم: (الطويل) ألا أيّها الوادي الذي ضمّ سيله ... إلينا نوى الحسناء حيّيت واديا وأمّا قولهم: (الرجز) إنك لو ذقت الكشي بالأكباد لما تركت الضّبّ يعدو بالواد فإنّما حذفوا الياء للقافية. وأقول: الأجود حذفها في بيت أبي الطيب، وان لم تكن في قافية، لأجل الموازنة بين الواو والماء والغزلان والنّينان وكمّن وعوّم. وقد جاء حذفها في القرآن في الفاصلة مقوله تعالى: (وثمود الذين جابوا الصّخر بالواد)، وفي غير الفاصلة كقوله: (إذ ناداه ربّه بالواد المقدّس طوى). وفي قول الشّاعر (في غير القافية) (السريع) . . . . . . . . . وما ... قرقر قمر الواد بالشّاهق

وقوله: (الطويل) ضلالا لهذي الرّيح ماذا تريده ... وهديا لهذا السّيل ماذا يؤمّم قال: دعا على الرّيح فقال: ضلّت ضلالا لقولهم: هو يباري الريح جودا، إذا وصفوه بالكرم، أي: إنها أن هبّت تباريك فقد ضلّت. وقال: هديا لهذا السّيل: كأنه دعاء له بالاهتداء، أي: أقول له: هداه الله! ماذا يؤمّم؟ أي: ماذا يقصد؟ وأقول: إنه علّل دعاءه على الرّيح بما ذكره من قولهم: فلان يباري الرّيح جودا، كقول أمية بن أبي الصّلت: (الوافر) يباري الرّيح مكرمة وجودا ... إذا ما الكلب أجحره الشّتاء ولم يعلّل دعاءه للسّيل، وذلك أن السّيل جاءه تاليا له، متعلّما منه، فكان بمنزلة الصّاحب المداري، والرّيح بمنزلة المقاتل المباري.

وقوله: (البسيط) رجلاه في الرّكض رجل واليدان يد ... وفعله ما تريد الكفّ والقدم قال: قوله: . . . . . . . . . . . . ما تريد الكفّ والقدم هو جواد مؤدّب، فإذا قصّر عنانه قصّر في الجري، وإذا أرخي له العنان بذل ما يريده الرّاكب من الجري. وكذلك أن حرّك عليه الفارس قدمه ليمتري حضره، فأنه يسمح له بما يرضيه. وأقول: هذا وجه حسن، ويحتمل وجها آخر، وهو أن الكفّ والقدم تريدان الراحة بترك الضّرب له بالسّوط، والرّكل بالرّجل، أي: لا يحوج إلى ذلك، بل يعطي الجري عفوا من غير اقتضاء بذينك. وقوله: (البسيط) ومرهف سرت بين الموجتين به ... حتى ضربت وموج الموت يلتطم

قال: جعل نفسه سائرا بين الموجتين، أي بين القرنين، يخاف منهما الموت، واستعار للموت موجا، إنما هو للبحر وما جرى مجراه من المياه الكثيرة، كالفرات وغيره من الأنهار. وأقول: لم يعن بالموجتين القرنين، وإنما عنى بهما الكتيبتين، وقوله: . . . . . . . . . . . . وموج البيت يلتطم أي: في حال هيج للقتال وشدّته. وقوله: (الطويل) وكان بها مثل الجنون فأصبحت ... ومن جيف القتلى عليها تمائم قال: ادّعى أن الحدث كان بها مثل الجنون، ويجوز أن يكون اهلها، فأمّا الحدث فمعلوم إنها لا تحسّ بخير ولا شرّ.

فيقال له: لم يرد بذلك إلا الحدث نفسها، وان كانت لا تحسّ بخير ولا شرّ، على وجه الاستعارة والمجاز، لا الحقيقة. يقول: أن الحدث كانت من خوفها الروم، بمنزلة المجنون، أي: قلقة مذعورة، فلمّا قتلوا، كانت جثثهم عليها بمنزلة التّمائم، فقرّت وسكنت، كما يقرّ المجنون ويهدأ إذا علقت عليه التّمائم. وقوله: (الطويل) وقفت وما في الموت شكّ لواقف ... كأنّك في جفن الرّدى وهو نائم قال: يقول: وقفت في وقت، من وقف فقد أيقن بموته، فكأنّك في جفن الرّدى، وهو نائم لا يحسّ بك. وأقول: أن هذه الزيادة التي هي قوله: لا يحسّ بك لا أرى لها وجها من الصّواب يحمل عليه، ويوجّه إليه. والمعنى: وصف الحالة التي كان فيها من الحرب بالشدّة، وإن الواقف لا يشكّ في الموت، وإنّ سيف الدولة قد أحاط به الموت من كلّ جانب وأطبق (عليه)، وإنه في تلك (الحالة) التي تتغيّر فيها الوجوه، وتعبس خوفا من الموت، وتنهزم الأبطال كلمى، وجهه وضّاح وثغره باسم!

وقوله: (الطويل) أينكر ريح اللّيث حتى يذوقه ... وقد عرفت ريح اللّيوث البهائم قال: يقول: ألم يشمّ هذا الدّمستق رائحة اللّيث، فيعلم إنه أن وقف فرسه، فقلّة فطنته تمنعه من أن يهرب حتى يذوقه الليث، فعند ذلك يفرّ، والبهائم إذا وجدت رائحة الأسد فرّت منه. وأقول: إنه توهّم الضّمير في قوله: يذوقه راجع إلى اللّيث، وليس كذلك، لأنه لو ذاقه الليث، لم يمكنه الفرار، وإنما هو راجع إلى الدّمستق، وضرب له مثلا مع سيف الدولة بالليث والبهائم، يقول: أن أمر سيف الدولة مع الشّجاعة والنّجدة وإهلاكه لمن يقاومه ظاهر لا شكّ فيه، فكان يكفيك من ملاقاته ما تسمع من أخباره فتبعد عنه فتسلم، ولا تدنو منه فيهلكك، فأنت في ذلك أسوأ حالا من البهائم، لأنّها تشمّ رائحة الأسد فتفرّ منه فتسلم، وأنت لا يكفيك الشمّ دون الذّوق فتهلك. وقوله: (الطويل) وقد فجعته بابنه وابن صهره ... وبالصّهر حملات الأمير الغواشم قال: أشبه الاشياء، أن تكون الفاجعة (له) الخيل، لتقدّم ذكرها.

وأقول: هذا خطأ، لأن الضّمير الذي في فجعته إذا جعله راجعا إلى الخيل التي تقدّم ذكرها لم تبق حملات متعلّقة بشيء، فحملات هاهنا فاعل فجعته لا الخيل، وقد تبعه التبريزيّ في هذا الموضع، فنقل لفظه ولم يتدّبر معناه، فلزمه من ذلك ما لزمه. وقوله: (الطويل) مضى يشكر الأصحاب في فوته الظّبا ... لما شغلتها هامهم والمعاصم ويفهم صوت المشرفيّة فيهم ... على أن أصوات السّيوف أعاجم قال: ادّعى الشّاعر، إنه يفهم صوتها على بعد، وهو نحو من قول مهلهل: (الوافر) ولولا الرّيح أسمع أهل فلج ... صليل البيض تقرع بالذّكور وأقول: ليس في كلامه ما يدلّ على إنه يسمع صوتها على بعد، وذلك أن (قوله:) ويفهم معطوف على قوله مضى يشكر فيشكر في موسع الحال، والتّقدير: فرّ شاكرا الأصحاب وفهما صوت المشرفيّة، وهذا يدلّ على القرب لا البعد، لأنه إنما شكرهم في حال شغلهم السّيوف عنه، وهو معهم في الجيش، قريبا منهم، ولو

كان بعيدا لما شكرهم على ذلك، وفي حال فهمه صوت السّيوف إنها قواض بشدة أصواتها لقوّة الضّرب، وهذا مثل قوله: نواطق مخبرات في جماجمهم. . . . . . . . . فإذا ثبت هذا، لم يصحّ تمثيل هذا البيت ببيت مهلهل لأنه يضادّه. وقوله: (الطويل) على كلّ طيّار إليها برجله ... إذا وقعت في مسمعيه الغماغم قال: قد سبقت العرب إلى تشبيه الفرس بالطّائر، وانشد قول الرّاجز: فيقال له: تشبيه الفرس بالطّائر مشهور، غير محتاج إلى الاستشهاد عليه بالرّجز دون القصيد. والعرب وان سبقت بهذا التّشبيه، فقد سبق أبو الطّيب بحسن الاستعارة وحلاوة اللفظ وجزالته بقوله: . . . . . . طيّار إليها برجله. . . . . . . . . . . . وهذا البيت من الأبيات السّيارة المختارة، فلا ينقصه سبق غيره إلى معناه.

وقوله: (الطويل) حذارا لمعروري الجياد فجاءة ... إلى الطّعن قبلا ما لهنّ حزام قال: بالغ في مدحه مبالغة وجب أن ينزّهه (معها) عن اعريراء الجياد، إذ كان ذلك، لا مفخر فيه لمثله. فيقال: هذه المبالغة، وهي سرعة إجابة داعي الوغى إلى الطّعن، لا تكمل إلا بهذه الصفة. ولم قلت: أن هذه الصفة لا مفخر فيها، حتى تنزّهه عنها؟! وسيف الدولة عربيّ، وتلك من عادات العرب عند سرعة إجابة الدّاعي. وقد قال ابن هرمة في عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك: (المتقارب) إذا قيل أي فتى يرتجى ... لمعترّ فهر ومحتاجا ومن يعجل الخيل يوم الوغى ... بألجامها قبل إسراجها أشارت نساء بني مالك ... إليك به من قبل إزواجها

وقد أنشد الشيخ هذا الشّعر في هذا الموضع، فكيف ناقض؟ وكيف ساغ لابن هرمة أن يمدح ابن خليفة بذلك، ولا يسوغ لأبي الطّيب أن يمدح ابن حمدان بمثله؟! (قوله: (الطويل) فإن كنت لا تعطي الذّمام طواعة ... فعوذ الأعادي بالكريم ذمام) قال: يقول: أن كنت لا تعطيهم ذمامك، وأنت مقيم، فكأنك قد أعطيتهم ايّاه، لأنّ العوذ بالكريم ذمام. وأتّبعه التبريزي في ذلك التّفسير، حذو النّعل بالنّعل! وأقول: أن قوله: وأنت مقيم، فكأنّك قد أعطيتهم إياه ليس بشيء! لأنه تفسير البيت بما ليس فيه. والمعنى: إن كنت لا تعطي الرّوم الذّمام، أي: الصّلح طوعا من نفسك، ونفسك تأبى ذلك ولا تريده، فقد عاذوا بك، وأنت كريم، وعوذ الأعادي بالكريم ذمام، فقد وجب لهم الذّمام. وقوله: (الطويل) ويجعل ما خوّلته من عطائه ... جزاء لما خوّلته من كلامه

قال: ادّعى أن الممدوح خوّله الكلام الذي يمدحه به، فلمّا مدحه بالكلام الذي وهبه له، جازاه عنه بأن خوّله نوالا من غير الكلام. وأقول: ينبغي أن يزاد على هذا فيقال: مفهوم هذا البيت: أني أمدح سيف الدولة بكلام فصيح، ملكته من كلامه، ويجعل ما ملكته من عطائه جزاء عليه، وذلك على خلاف العادة، لأن الجزاء للشّاعر إنما يكون على ما يأتي من كلام نفسه لا كلام غيره، وقد لطف هذا المعنى، وهو من قول أبي تمّام: (المنسرح) . . . . . . . . . نأخذ من ماله ومن ادبه وقوله: (البسيط) لو كلّت الخيل حتّى لا تحمّله ... تحمّلته إلى أعدائه الهمم قال: يقول: لو أن الخيل كلّت حتى لم تستطع حمله إلى الاعداء، لحملته إليهم الهمم، وليس هذا المعنى مستحيلا استحالة غيره، لأن كثيرا من النّاس يقصد عدوّه وليس بالرّاكب، كانت جماعة من العرب تغير على أرجلها، كالشّنفرى وتأبّط شرّا والسّليك ابن السّلكة. وأقول: أن قوله وليس هذا المعنى مستحيلا كاستحالة غيره غير صحيح

لأن قصد الإنسان عدوّه راجلا، غير مستحيل على الإطلاق، فكيف يقول: مستحيلا كاستحالة غيره ويمثّل بالشّنفري وأمثاله؟ ولم يرد بقوله: تحمّلته. . . الهمم سيره غير راكب، كما ذكر، ولكنه وصف الممدوح بكثرة سيره إلى الأعداء. وقال: لو قدّر أن الخيل تكلّ من طول السّير وكثرة الغزو، حتى لا تحمّله، حملته همّته لقوّتها ومضائها، فأنّها لا تضعف ولا تكلّ، فجعل الهمم، وهي خواطر وأعراض تخطر وتعرض في قلبه تحمله على ما يحاول من ذلك بمنزلة الأجسام التي تحمله من الخيل توسّعا ومجازا. وهذا إفراط في المجاز، وهو غير بعيد عن الجواز. وقوله: (البسيط) ولم تتمّ سروج فتح ناظرها ... إلا وجيشك في جفنيه مزدحم قال: إنما يصف الممدوح بأنه أنجدهم إنجادا سريعا. فيقال له: ليس في هذا إنجاد لأحد تقدّم هذا الجيش حتى ينجده، وإنما يصفه بسرعة سيره إلى العدوّ، ومروره في بلاده اليه، بما ذكره من قوله: (البسيط) والنّقع يأخذ حرّانا. . . . . . . . . . . . وقوله: (البسيط) سحب تمرّ بحصن الرّان. . . . . . . . . . . .

وقوله: (البسيط) جيش كأنك في ارض تطاوله ... فالأرض لا أمم والجيش لا أمم قال: يقول: كأنّك في ارض تطاوله وهي واسعة جدا، وعدد الجيش كثير، فكلاهما غير أمم، والأمم: الشّيء بين الشّيئين، يقال: دار بني فلان أمم، أي: بين القريب والبعيد. فيقال له: لو أن الأمم كما فسّرت، لم يصحّ معنى البيت، لأنك إذا نفيت أن يكون الشيء بين القريب والبعيد، لم تنف القرب ولا البعد، بل نفيت حالة ثالثة بينهما، فإذا كان كذلك احتمل أن يكون الجيش قريبا، وكذلك الأرض، فلا يكونان واسعين، بعيدي الطّرفين، (وذلك بضدّ المعنى الذي أراده). والصّحيح، أن الأمم القريب، هاهنا، وعليه يصح المعنى، يقول: الأرض لا قريبة بل بعيدة ما بين الطّرفين، والجيش كذلك. وقوله: (البسيط) إذا مضى علم منها بدا علم ... وإن مضى علم منه بدا علم

قال: ولو قال: . . . . . . . . . وإن مضى عالم بدا منه علم لكان أحسن في حكم الشّعر ولعلّ أبا الطّيب كذلك قال، لأنّ تكرير العلم في البيت كثر. وقوله في صفة الجيش: وإن بدا عالم منه يقلّل من كثرة العلم ويدلّ على كثرة الجيش. أقول: أن كثرة لفظ علم لكثرة الفائدة وحسن الصّناعة، والعلمان وإن اتّفقا في اللّفظ، فقد اختلفا في المعنى، فكأنّه يقول: إذا مضى جبل من الأرض، بدا لواء من الجيش، وإن مضى لواء من الجيش، بدا جبل من الأرض. فهذا احسن ما يكون من المعنى واللفظ. فلا يحسن أن يقال: وإن مضى عالم من الجيش لأنه لا يقابل النصف الأول في اللفظ فينحلّ تركيب البيت، وتسقط قوتّه. فالصواب إلقاء هذا التّغيير، وإبقاء علم على ما فيه من التّكثير! وقوله: (البسيط) وأصبحت بقرى هنزيط جائلة ... ترعى الظّبا في خصيب نبته اللّمم

قال: قوله: ترعى الظّبا في ترعى ضمير يعود إلى الخيل، ويعني بالخصيب الشّعر. وأقول: إنه يحتمل أن يكون الظّبا فاعله ومفعوله، فإذا كانت فاعله فليس في ترعى ضمير، وان كانت مفعوله (وهو الأحسن)، ففيه، كما ذكر، ضمير يعود على الخيل، فتكون الخيل راعية والظّبا مرعيّة، ترعى في خصيب، أي: (في) مرعى خصيب، يعني الهام، نبت ذلك المرعى اللّمم، أي الشّعر الذي ألمّ بالمنكب فعلى هذا تفسيره الخصيب بالشّعر خطأ. وقوله: (البسيط) وفي أكفّهم النّار التي عبدت ... قبل المجوس إلى ذا اليوم تضطرم قال: يعني بالنار السّيوف، لأنها معروفة قبل أن تعبد المجوس النار. وجعلها معبودة لأنها تهاب، ويغلب بها على الممالك، ويذلّ بها الأعزاء، فكأنها أرباب معبودة، وإنما يعني أصحاب السّيوف، فجعل الخبر عنها، وذلك كثير، يسمّون الشّيء باسم ما قاربه ويصفونه بصفته. (وأقول:) وهذا الذي ذكره ليس بشيء! والمعنى: إنه جعل السّيوف نارا لتوقّدها وبريقها، وفضّلها على نار المجوس، بتقدّمها عليها في العبادة، وتأخّرها عنها بالاضطرام، وذلك أن نار المجوس خمدت، وهذه إلى اليوم تضطرم. وقوله: عبدت أي: ذلّ لها،

من قولهم: طريق معبّد، أي مذلّل، وقوله: (الطويل) . . . . . . . . . وأفردت إفراد البعير المعبّد وقوله: (البسيط) نتاج رأيك في وقت على عجل ... كلفظ حرف وعاه سامع فهم قال: يقول: إذا افتقر إلى رأيك، جاء موفّقا مصيبا مع عجلة، كلفظ الحرف الذي يسمعه فهم، فإذا سئل عنه أجاب من غير تلّبث. فيقال: لا حاجة إلى سؤاله، بل إذا سمعه فهمه! والمعنى، أن هذه السّفن التي أمر بها سف الدولة، فجعل بهال النّفع العظيم، لم يفكر فيها، ويتروّ لها، بل رأى ذلك على عجل وسرعة كسرعة إدراك سامع فهم حرفا، فإنه لا يحتاج (في) فهمه إلى رويّة ونظر. وقوله: (البسيط) وقد تمنّوا غداة الدّرب في لجب ... أن يبصروك فلمّا أبصروك عموا

قال: يقول: تمنّوا لقاءك، وقالوا: أن نظرنا إليه، بلغنا منه ما نريد، وحلفوا على ذلك بمفرق ملكهم. فلمّا أبصروك، عجزوا عنك، فكأنّهم عموا عن قصدك. وفي هذا المعنى شبه من قول جميل: (الطويل) فليت رجالا فيك قد تذروا دمي ... وهمّوا بقتلي يا بثين لقوني إذا ما رأوني طالعا من ثنيّة ... يقولون من هذا وقد عرفوني وأقول: لم يرد ذلك المعنى، وإنما أراد أنهم تمنّوا أن ينظروا إليك ليحصل (لهم) ما أملوا من الظّفر بك فينتفعوا به، فانعكس عليهم ذلك، فكأنّ رؤياهم لك عمى. وقوله: (البسيط) لا يأمل النّفس الأقصى لمهجته ... فيسرق النّفس الأدنى ويغتنم قال: يقول: قد أيقن بالموت، فهو لا يأمل النّفس الأقصى لمهجته، فقد جعل يغتنم الأنفاس ويكرّرها. وأقول: إنما قال: لا يأمل النّفس الأقصى. . . . . . . . . . . . لأنه هارب، خائف، مكدود، مطلوب، والنّفس الأقصى، إنما يكون عند الراحة والطّمأنينة. وأمّا المزعج، الخائف، المطلوب، فأنه لا يقدر على ذلك، فلا يأمله.

وقوله: . . . . . . . . . فيسرق النّفس الأدنى ويغتنم أي: من خوفه، لا يستنشق الهواء استنشاقا ظاهرا طويلا، بل يسرقه سرقة، ويغتنم ذلك، إذ فاته النّفس الأقصى الذي تكون معه الطّمأنينة والرّاحة. وقوله: (الوافر) سمعتك منشدا بيتي زياد ... نشيدا مثل منشده كريما فما أنكرت موضعه ولكن ... غبطت بذاك أعظمه الرّميما قال: سمع أبو الطّيب سيف الدّولة ينشد بيتي زياد الذّبياني، واسم النّابغة زياد، وهما: (الطويل) ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهنّ فلول من قراع الكتائب تخيّرن من أزمان يوم حليمة ... إلى اليوم قد جربن كلّ التجارب ولم يذكر معنى بيتي أبي الطّيب، وهو من الطف المعاني وأحسنها، يقول: لما سمعتك منشدا بيتي النابغة لم أنكر موضعه من الإجادة، وإنما غبطت أعظمه الرميم، أي: أحببت أن تكون عظامي كعظامه، أي: أن أكون ميتا مثله، لأتشرّف بنشيدك شعري، كما تشرّف بنشيدك شعره. وهذا في غاية الحسن، والتّلطف، والتّقرّب، إلى قلب سيف الدولة، والثّناء عليه.

ويقال: أن أبا دلف العجليّ، استنشد أبا تمّام مرثيّته في محمد بن حميد الطّوسي وهي: (الطويل) كذا فليجلّ الخطب وليفدح الأمر ... وليس لعين لم يفض ماؤها عذر فقال: وددت أن كنت متّ ورثيتني بمثل هذا الشّعر، فأنّه ما مات من قيل فيه مثله! فقال أبو تمّام: بل يقي الله الأمير ويجعلني فداءه! وقوله: (الطويل) وقفنا كأنّا كلّ وجد قلوبنا ... تمكّن من أذوادنا في القوائم قال: يقول: كأنّ وجد قلوبنا تمكّن مطايانا، فهي لا تقدر على البراح. وأقول: لم يأت في هذا البيت بغير إعادة ألفاظه، كعادته الجارية! وقوله: (فهي) لا تقدر على البراح. والمعنى أن وجد قلوبنا بتلك الدّيار، يقفها فيها، ويحسبها عليها، تذكّرا لمن حلّها من الأحباب، فنقف ابلنا فيها لذلك، فكأنّ وجد قلوبنا في قوائم أذوادنا، أي: حال الإبل في طول الوقوف كحالنا.

وقوله: (الطويل) ودسنا بأخفاف المطيّ ترابها ... فلا زلت استشفي بلثم المناسم قال: يقول: دسنا بأخفاف المطيّ تراب هذه المعالم، فأنا أستشفي الله - سبحانه - بأن الثم مناسم هذه المطيّ، أرجو البرء، والخلاص، مما أنا فيه. (أقول:) وهذا ما ذكرت، من أن البيت إذا كان فيه أدنى إشكال، أعاد لفظه، أو خبّط معناه! والمعنى، أن المعهود المعروف من العاشق، أن يستشفي من داء حبه بوصل أحبابه. والشاعر قد جعل نفسه تستشفي، أي: تطلب الشفاء بلثم طرف خفّ البعير الذي وطئ تراب ديار أحبابه. وفي هذا كناية عن قوّة وجد العاشق، وشدة امتناع المحبوب وبعده. وقوله: (الطويل) تمرّ عليه الشمس وهي ضعيفة ... تطالعه من بين ريش القشاعم قال: يعني أن الجيش قد ارتفع غباره، فالشّمس لا تصل إليه، إلا أن تدخل من بين ريش الطّير التي تتبعه، لتصيب من لحم القتلى.

وأقول: هذا ليس بشيء! لأن غبار الجيش إذا ارتفع حجب الشمس، فكيف تدخل من بين ريش الطّير؟ وهو توهّم أن ضعف الشّمس بكثرة الغبار، وليس كذلك، إنما هو بكثرة الطّير، وبينها فرج تدخل الشّمس إلى الجيش منها. وقوله: (الخفيف) من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميّت إيلام قال: يقول: من يهن فالهوان عليه سهل. مثال ذلك أن الرّجل يهون عليه أن يستخدم في عمل التّراب، ثم ذكر أن الميت قد فارق الحياة وصار أهون الأشياء، فهو لا يحسّ بالجرح. (وأقول:) تأمّل هذا اللفظ والتفسير، الذي لم يسقط به على الخبير! والمعنى، أن الرّجل المهين الذي ذهبت أنفته، لا يتأثّر بالهوان، كالميت الذي ذهبت حياته، فهو لا يتأثّر بالجرح. وقوله: (الخفيف) حسن في عيون أعدائه أق ... بح من ضيفه رأته السّوام

قال: يحتمل معنيين: أحدهما: أن يكون وصفه بالحسن، وهو في عيون أعدائه اقبح من ضيفه في عيون سوامه، لأنه ينحرها له. والآخر: أن أعداءه يرونه حسن الصورة، قبيح الفعل، فهم في هذا الوجه يرونه حسنا قبيحا، وفي الوجه الأول يرونه قبيحا لا غير. وأقول: لم يعلّل رؤية أعدائه له قبيحا، وعلّل رؤية سوامه ضيفه قبيحا، وهي إنه يعقرها، فكان ينبغي أن يقول: وكذلك أعداؤه، لأنه يقتلها، فهي بمنزلة سوامه في (كثرة) اقتداره عليها، (وقلة) احتفاله بها. ومثّل الوجه الأول من المعنيين بقوله: (الطويل) فما شعروا حتى رأوها مغيرة ... قباحا وأمّا خلقها فجميل وكان نبغي أن يمثّل به الوجه الثاني، الذي قد اجتمع فيه الحسن والقبح، كما اجتمع في الخيل قبح الفعل بالإغارة عليهم، وحسن الخلق. وقوله: (الخفيف) وعوار لوامع دينها الح ... لّ ولكنّ زيّها الإحرام قال: قوله: دينها الحلّ: أي لا تقتل إلا من يحلّ قتله.

(وأقول): وكذلك قال الكندي. وأقول: هذا التّفسير غير صحيح، بل المراد بالحلّ إراقة الدّماء على الإطلاق، من غير اعتبار من يحلّ قتله أو يحرم، لأن ذلك يعلم من وجه آخر. فجعل السّيف بمنزلة المحلّ في سفك الدّماء من البدن، وغيرها بمنزلة المحرم، في كونها عارية من أغمادها. وقوله: (الخفيف) ليلها صبحها من النّار والإص ... باح ليل من الدّخان تمام قال: قوله: ليلها صبحها من النار. . . . . . . . . . . . . . . يعني أنهم يوقدون النيران بالليل لقرى الضّيفان، فاللّيل قد صار كأنه صبح لزوال الظلام. وقوله: . . . . . . والإص ... باح ليل من الدّخان تمام يحتمل وجهين: أحدهما: انهم يوقدون النّار بالنّهار، إلا إنه يخفى ضوءها، لأن قراهم لا ينقطع في ليل ولا نهار، فدّخان النّار يستر ضياء الشّمس.

والآخر: انهم يغيرون في النّهار ويحاربون، فيزول نور النّهار لأجل الغبار، وقد جعل أبو الطّيب الغبار دخانا بقوله: (الطويل) وما كان إلاّ النار في كب موضع ... يثير غبارا في مكان دخان وأقول: الوجه الأول من الوجهين اللذين ذكرهما في قوله: . . . . . . والإص ... باح ليل من الدخان صحيح، والثاني فاسد، لجعله الغبار دخانا. واستشهاده على ذلك بقول أبي الطّيب لا يسوغ له، وذلك أن أبا الطّيب لما وصف شبيبا بأنه نار، لكثرة غاراته، استعار له ما يشبه الدّخان في ارتفاعه وإظلامه، وهو الغبار، فلا يجوز أن يجعل الدخان غبارا من غير قرينة تدلّ عليه، ولا الغبار دخانا، والشّاعر إنما وصف الممدوحين بالسّماح والإطعام ليلا ونهارا، فجعل نارهم لقوّتها وعظمها، تعيد الليل نهارا، وجعل دخان نارهم، لكثرته وارتفاعه، يعيد النّهار ليلا، ولم يتعرّض في هذا البيت لذكر حرب ولا غبار. وقوله: (الخفيف) ونفوس إذا انبرت لقتال ... نفدت قبل ينفد الإعدام قال: زعم أن نفوسهم لا تفرق من الموت، وإنها إذا انبرت لقتال أنفدتها الحرب وإقدامها لم ينفد.

وأقول: هذا من جملة تفسير معنى البيت، بإعادة لفظه! والمعنى: أن الإقدام يصاحبهم، فلا يفنى قبل فناء نفوسهم، فيكونون في وقت جبناء، بل تفنى نفوسهم قبل فناء الإقدام، وان كان ذلك مستحيلا، وإنما ذكره مبالغة في بقاء إقدامهم. وقوله: (الخفيف) فارس يشتري برازك للفخ ... ر بقتل معجّل لا يلام قال: يقول: برازك فخر عظيم يفتخر به مبارزك، فالذي يشتري بالقتل لا يلام على ما صنع، لأنه بنى له مجدا باقيا. وأقول: يدلّ على ذلك، ما روي عن أخت عمرو بن عبد ودّ، لما قتله عليّ - عليه السّلام - إنها سألت عمّن قتله، فقيل لها: عليّ بن أبي طالب، فقالت: كفؤ كريم، لا رقأت عيني إن بكت عليك بعد اليوم! ثم أنشأت تقول: (البسيط) لو كان قاتل عمرو غير قاتله ... لكنت أبكي عليه آخر الأبد لكنّ قالته من لا يعاب به ... من كان يدعى قديما بيضة البلد

وقوله: (الخفيف) قد لعمري أقصرت عنك وللوف ... د ازدحام وللعطايا ازدحام خفت أن صرت في يمينك لن يأ ... خذني في عطائك الأقوام قال: هذا معنى، لم يعلم أن أبا الطّيب سبق إليه، لأنه احتجّ لتأخّره عنه بأنّ طلاّب الأعطية يزدحمون لديه، فخشي أن يؤخذ في الهبات، وهذه مبالغة لم يأت بمثلها سواه. فيقال له: هذه مبالغة حسنة، إلا أنك ما فهمت معناها! ولم خاف أبو الطّيب ذلك الممدوح ولم يخفه غيره؟ والمعنى: إنني لمحبتي وطاعتي لك، ومعرفتي واختصاصي بك، بمنزلة مالك وملكك، ومالك تفرّقه يمينك، فخشيت أن يأخذني الأقوام في عطائك فأفارقك. وفي هذا نظر إلى قوله: (المنسرح) تسرّ طرباته كرائمه ... ثم تزيل السّرور عقباها من كلّ موهوبة مولولة ... قاطعة زيرها ومثناها

وقوله: (الخفيف) هابك اللّيل والنّهار فلو تن ... هاهما لم تجر بك الأيّام قال: يرحم الله أبا الطّيب! لقد اجتهد في قيل الباطل، ورضي على ذلك بعطاء زهيد! ولو أن هذا البيت في صفة الله - عزّ سلطانه - لجاز أن ينال بذلك رضوانه!! وأقول: أن الشّيخ أبا العلاء يطالب أبا الطّيب في تحقيق الالفاظ، وحملها على الصحة والصدق، وهو أكثر الشّعراء إغراقا، وأشدّهم إيغالا في الاستعارة والمجاز الذي يخرج إلى المحال، مطالبة أبي ذرّ، وهو في ذلك الأخيذ الصّبحان، وقد قيل: أحسن الشّعر أكذبه، وأمّا إغراقه في هذا البيت وقوله: هابك الليل والنّهار. . . . . . . . . . . . فله وجه من الاستعارة، يحمل عليه من ردّه الليل بالنّيران، أو بلمع الحديد نهارا، ومن ردّه النّهار بدخان النّار للقرى، أو بعجاج الخيل في الحرب ليلا، وهذه استعارة مشهورة، ولمّا وصفهما بالهيبة، والهيبة من صفات من يعقل، وصفه بالنّهي لهما، ووصفهما بامتثال ترك المنهيّ عنه، فهذا ابلغ ما يحتجّ به له. وقوله: (المنسرح) فلا تلمها على تواقعها ... أطربها إن رأتك مبتسما

قال: هذا البيت مناقض للبيت الأول، لأنه وصفها بأن لا تشاء ولا نحسّ بألم يعني قوله: (المنسرح) ما نقلت في مشيئة قدما ... ولا اشتكت من دوارها ألما ثم جعلها في البيت الآخر، تطرب من ابتسام الممدوح. وأقول: وجه التّناقض عنده، إنه لمّا وصفها بعدم المشيئة، وعدم الاشتكاء للألم، جعلها على اصلها جمادا، فكيف يصفها، مع ذلك، بالتواقع للإطراب، وذلك من صفات الحيّ العاقل؟ والجواب: أن هذه (إنمّا) جعلها بمنزلة الحيّ، فعدم المشيئة والتّشكّي للألم لا يدلّ على الجماديّة فيلزم ما رتّبه عليه، لأن كثيرا من الأحياء يفعل بغير مشيئة، مكرها، ولا يشتكي ألما لكثرة تعب، لكونه قويا صابرا، فلا يلزم أبا الطّيب ما الزمه من كونه مناقضا بالكذب والمحال. وقوله: (المنسرح) ويطعن الخيل كلّ نافذة ... ليس لها من وحائها ألم قال: لم توصف الطّعنة قطّ بوحاء أسرع من هذا الوصف! لأنه زعم أن الطّعين

لا يحسّ بألم الطّعنة، لأنّها تقتله قبل أن يصل إليه الألم. وقد قال الأول في صفة السّيف: (الوافر) ترى ضرباته أبدا خطايا ... إلى أن يستبان له قتيل وأقول: لم يرد بقوله: . . . . . . . . . ليس لها (من وحائها) ألم إنها تزهق النفس وتقتل قبل الإحساس بالألم، لأن ضربة على أم الدماغ تفعل ذلك، فليس فيه كثير فائدة! وإنما أراد إنها ليس لها ألم مع بقاء النّفس وفي وقت يقع فيه الإحساس، لا يحسّ بها من سرعتها، كأنّ المطعون بها ما طعن. وهذا إنما يكون في أول الحال، ثم يتبيّن الألم بعد ذلك. وكأن أبا الطّيب نقل معنى البيت، الذي أنشده في مضاء السّيف بالضّرب، إلى مضاء الرّمح وسرعته بالطّعن، فكلاهما لا يتبيّن، في أول الحال، للرائي وللمطعون. وقوله: (الوافر) فؤاد ما تسلّيه المدام ... وعمر مثل ما تهب اللئام

قال: قوله: فؤاد خبر كلام محذوف، أو يكون مبتدأ محذوف الخبر، ويجوز أن يعني نفسه، ويحتمل أن يعني كلّ من له فؤاد، فإذا عنى نفسه قال: لي فؤاد أو فؤاد بين جنبيّ أو نحو ذلك. وإذا عنى كلّ فؤاد من النّاس، فالمعنى لكلّ فؤاد، أو: لكلّ إنسان، والعموم في هذا حسن من الخصوص، لأن أعمار أهل هذا العصر إذا قيست إلى القدم بطول الآباء، فأنها كالشّيء الحقير المتناهي في القصر. (وأقول:) انظر إلى هذا التقسيم السّقيم! وأقول: إنه لم يرد العموم بذكر الفؤاد والعمر، وإنما أراد الخصوص بهما - وهو يعني نفسه - أي: فؤادي فيه من الهموم ما لا تسلّيه المدام الموصوفة بنفي ألهمّ. كقول أبي نواس: (الطويل) إذا ما أتت دون اللهاة من الفتى ... دعا همّه عن صدره برحيل وأشباه ذلك. وعمري منكّد بالأسفار والأقتار والأوجال، كعطاء اللئام، فأنه منكّد بالمنّ والتّسويف والتّرديد والمطال. فلا يريد بذلك العموم، وفؤاد كلّ أحد، وعمر كلّ احد، لأنه ليس كذلك، فم يبق إلا الخصوص، والمراد به نفسه، لأنه لا معنى للعموم على ما بيّنته.

وقوله: (الوافر) وما أنا منهم بالعيش فيهم ... ولكن معدن الذّهب الرّغام قال: زعم إنه ليس من العالم لكونه فيهم، وإنما مثله مثل الذهب، معدنه الرّغام، وليس هو منه. وأقول: هكذا قال الشّاعر، وكلا القولين يحتاج إلى تفسير: والمعنى: أني وإن كنت فيهم، بعيشتي معهم ومقامي بينهم، فأنّي لست منهم، لأني شريف، وهم أخسّاء، فأنا فيهم كالذّهب في التراب، والمعدن موضع الإقامة، يقال: عدن بالمكان إذا قام به، ومنه قوله تعالى: (جنات عدن). وقوله: (الوافر) وخيل لا يخرّ لها طعين ... كأنّ قنا فوارسها ثمام قال: أن أراد بعض الخيل، فهو صادق في ذلك، لأن كثيرا من الملوك تجري خيلهم في الميادين، ويلعب فرسانها بالرّماح المدة الطويلة، ولا يكون هنالك قتل ولا جرح، فكأنّ قناهم ثمام، وهو نبت ضعيف يغطّى به الاسقية، ويظلّل به الخيام المتّخذة من الشّجر. وأقول: أن الشّيخ لهم يفهم المعنى وترتيبه على ما قبله، وذلك إنه وصف الملوك قبل، بالتّغفّل والتواني، وترك التّيقّظ بجعلهم أرانب، ثم وصفهم بالنّهم وكثرة الأكل،

وأنهم لا تقتلهم، الأقران من الفرسان، وإنما يقتلهم الإمعان في الطّعام. ثم وصفهم وأصحابهم بالضّعف، وكنى عنه بضعف رماحهم، وإنها ليست قنا في الصّلابة التي ينكت بها الفرسان، وإنما هي من ثمام. وقوله: (الوافر) ولو حيز الحفاظ بغير عقل ... تجنّب عنق صيقله الحسام قال: هذا البيت متّصل بما قبله، يقول: الناس لا عقول لهم، وإنما يؤدي إلى حفظ المودّة عقل الإنسان. ولو جاء الحفاظ من غير ذي عقل، لوجب أن يجتنب السيف عنق صيقله، وابن آدم كالسّيف، لا عقل له صحيح، فكيف يعتمد جميل الأفعال؟ وأقول: أن هذه عبارة سيئة عن كشف هذا المعنى الحسن، وتفسيره يذكر، فيما بعد، في شرح التّبريزي فأنّهما كالشّرح الواحد. وقوله: (الوافر) وما كلّ بمعذور ببخل ... ولا كلّ على بخل يلام

قال: يريد أن المكثر أخا اليسار يلام على بخله، والمقتر إذا بخل فلا لوم عليه. (قال: وكأنه مستخرج من قول الحكميّ: (الطويل) كفى حزنا أن الجواد مقتّر ... عليه ولا معروف عند بخيل) فيقال له: البخل إنما يكون بمنع شيء من الطّالب، قليلا كان أو كثيرا، فالمقتر، أن كان معه شيء ومنعه سمّي بخيلا (وليم على بخله)، وإن لم يكن معه شيء، فلا يسمّى بخيلا. على أن المعطي من فضول ماله، وقد تجوّز فيه، أن لا يسمّى كريما (وإنما الكريم الذي يجود مع القلّة والحاجة) كما قال: (الكامل) ليس العطاء من الفضول سماحة ... حتّى تجود وما لديك قليل والجيّد في تفسيره ما ذكره الواحديّ: وهو أن الذي لا يعذر في البخل، من ولدته الكرام، والذي لا يلام على بخله، من كان آباؤه لئاما بخلاء، لم يتعلّم منهم غير البخل، ولم ير فيهم الجود والبذل. قال: ويكون ذلك من قول الطّائي: (الوافر) لكلّ من بني حوّاء عذر ... ولا عذر لطائيّ لئيم

وقوله: (الوافر) وقد خفي الزّمان بها علينا ... كسلك الدّرّ يخفيه النّظام قال: قوله: بها الهاء راجعة إلى عطاياه، وادّعى إنها قد انتظمت الزّمان فغطّته، كتغطية الدّرّ ما نظم فيه من السّلوك. وأقول: لم يذكر المعنى، وقد روي بها وبه، فإذا كان الضّمير بها فهي كناية عن عطاياه، وإنها بحسنها واتّساقها قد غطّت الدّهر الحقير الدّنيء، وشرّفته تشريف السّلك بالدّرّ. وإذا كان الضّمير به فهو كناية عن الممدوح، والتّفسير كذلك. وقوله: (الوافر) تلذّ له المروءة وهي تؤذي ... ومن يعشق يلذّ له الغرام تعلّقها هوى قيس لليلى ... وواصلها فليس به سقام قال: هذا الممدوح، يحبّ المعالي حبّا شديدا، كحبّ قيس لليلى. وأقول: عادته، إذا لم يفهم معنى البيت، أن يعيد ألفاظه، وهاهنا، لم يعدها كلّها، بل ترك منها بقيّة يحسن بها المعنى، بل لا معنى دونها، وهي:

. . . وواصلها فليس به سقام والمعنى: أن قيسا، مع شدّة حبّه لليلى، لم يواصلها فسقم، والممدوح وأصل المروءة التي عشقها فلم يسقم لعدم الوصال، كما سقم قيس لذلك. وقوله: (الطويل) ولا يشتهي يبقى وتفنى هباته ... ولا يسلم الأعداء منه ويسلم قال: يقول هذا الممدوح، لا يشتهي أن يسلم ويسلم أعداؤه، ولكن يريد أن يسلم في نفسه، ويهلك جميع أعدائه. (أقول:) تأمّل هذا الذّكاء وهذه الفطانة بهذا التّفسير! والمعنى في قوله: . . . . . . . . . ولا يسلم الأعداء منه ويسلم أي: لا يريد مسالمة الأعداء، ومواعدتهم ضعفا وجبنا وخوفا منهم، وكراهة للقتال. والتقدير: لا يريد أن يسلموا منه ويسلم منهم، فحذف منهم للعلم به.

وقوله: (الطويل) بكيت عليها خيفة في حياتها ... وذاق كلانا فقد صاحبه قدما قال: يقول: كنت اعلم أني لا بدّ لي من فراقها، فكنت أبكي عليها والفراق لم يكن، وكانت هي من إشفاقها عليّ كأنّها ثاكلة، وهذا نحو من قوله: (الخفيف) من رآها بعينه شاقه الق ... طّان فيها كما تشوق الحمول وأقول: هذا ليس بشيء! والمعنى: أني كنت أبكي عليها قبل فراقي لها، خوفا وإشفاقا من موتها، كما قال عبد السّلام بن رغبان: (الطويل) أخ كنت ابكيه دما وهو حاضر ... حذارا وتعمى مقلتي وهو غائب ثم فارقتها، فثكلتها وثكلتني قبل الموت.

وقوله: (البسيط) أبديت مثل الذي أبديت من جزع ... ولم تجنّي الذي أجننت من ألم قال: وصفها بصحّة الوفاء في أول الأبيات - يعني قوله: تبسّمت عن وفاء غير منصدع. . . . . . . . . ثم نقض ذلك بقوله: إنما أبدت مثل ما أبدى من الجزع، ولم تخف كما أخفى من الألم، ولوأنّ وفاءها غير المنصدع لأجنّت الألم كما اجنّه. ثم قال: ولو أنّك أجننت كما أجنّ: لبزّك ثوب الحسن اصغر ذلك، وصرت مثلي في ثوبين من سقم، وإنما ذكر الثوب لإقامة الوزن. وأقول: ليس في هذا تناقض كما ذكر، لأنّ قوله: . . . . . . . ولم تجنّي الذي أجننت. . .

أي: مثل الذي أجننت، فقد أجنّت، على الجملة، ألما إلاّ إنه دون ألمه، وذلك يدلّ على الوفاء، ولا يدلّ كونه ناقص (عن ألمه)، على الغدر، إذ لو كان المها كألمه، ووجدها مثل وجده على سواء، لكانت عاشقة لا معشوقة، لأنه لا تميّز لها، ولوجب أن تكون مثله، كما ذكر، في ثوبين من سقم، فيلتبس العاشق بالمعشوق. وقوله: إنما ذكر الثوب لإقامة الوزن. فيقال له: إنما ذكره لحسن الاستعارة كناية عن الصّغرة، وجعله ثوبين لأنه أراد الحلّة، وهي إنما تكون من ثوبين. وقوله: (الوافر) ملومكما يجلّ عن الملام ... ووقع فعاله فوق الكلام قال: يريد، إنه إذا قال قولا، اتبعه بالفعل من غير تثبّت، لا كمن يمطل إذا وعد أن يفعل. وأقول: لم يرد ذلك، وإنما أراد إنه إذا قال: إنه يفعل فعلا، جودا أو بأسا، كان فعله أكثر من قوله، كقول الشّاعر: (الوافر) يقول فيحسن القول ابن ليلى ... ويفعل فوق أحسن ما يقول

وقوله: (الوافر) عيون رواحلي أن حزن عيني ... وكلّ بغام رازحة بغامي قال: الناس يروون التاء، والنون أشبه، لأنه وصف نفسه فيما تقدّم بأنه لا يحتاج إلى دليل. فوجب أن يقول: أن حارت رواحلي، فعيني نائبة عن عيونها، لأنّها تهديها السّبيل. وأقول: إنه لم يرد هذا، لأنه يفسد عليه قوله: . . . . . . . . . . . . وكلّ بغام رازحة بغامي إذ لا يخبر عن نفسه بذلك، لما فيه من الخوف والضّعف، وإنما هذا الكلام أخرجه مخرج الدّعاء، يريد به القسم، كقول الأشتر: (الكامل) بقيّت وفري وانحرفت عن العلا ... ولقيت أضيافي بوجه عبوس إن لم أشنّ على ابن هند غارة ... لم تخل يوما من نهاب نفوس وسواء في ذلك رواية النون والتّاء، وتابعه التّبريزيّ في تفسير رواية النون، وهو خطأ لما بيّنته.

وقوله: (الوافر) عجبت لمن له حدّ وقدّ ... وينبو نبوة القضم الكهام ومن يجد الطّريق إلى المعالي ... فلا يذر المطيّ بلا سنام قال: من في هذا البيت معطوف على من في البيت الأول. يقول: أني لأعجب ممن يجد طريقا إلى معالي الأمور فلا يطلبها، حتى يذهب لسنمة الإبل. وأقول: هذا التّفسير ليس بشيء! وسيجيء تفسيره فيما بعد. وقوله: (البسيط) حتّام نحن نساري النّجم في الظلّم ... وما سراه على خفّ ولا قدم قال: نساري النّجم نفاعله، أي: نحن نسري بخيل وابل، وربّما سعينا بالأقدام، والنجم ليس يسري بخفّ ولا قدم فلا يجد ألما كما نجد. وأقول: إنه لم يرد الخيل هاهنا في المساراة، ولو أرادها لذكر ما تسري عليه من حافر، وإنما أراد الإبل والقوم السّارين بها، المعلمين لها. يقول: نحن والإبل نسري

على خفّ فنألم، والنّجم يسري فلا يألم، لأنه ليس بذي خفّ أو قدم كالإبل والناس، وهذا استفهام إنكار واستعظام، وهو، وان لم يذكر الخيل لم ينف أن تكون معه سائرة. وقوله: (البسيط) تبري لهنّ نعام الدوّ مسرجة ... تعارض الجدل المرخاة باللّجم قال: ذكر أن الخيل تعارض الإبل، وإنما جرت عادة العرب، أن يوصفوا بركوب الابل، وانهم قد جنبوا الخيل وراءها، وقد ذكره أبو الطّيب في قوله: (الطويل) ولا اتّبعت آثارنا عين قائف ... فلم تر إلاّ حافرا فوق منسم وأقول: لم يقصد أبو الطّيب بقوله: . . . . . . . . . تعارض الجدل المرخاة باللّجم نفس المعارضة في حال السّير فيلزمه ما ذكر، وإنما كنى بذلك عن طول أعناق الخيل، وإنها تحاذي أعناق الإبل، إذ كانت المعارضة قد تقع في بعض السّير، فبالغ في ذلك، كقول امرئ القيس: (الطويل) ومستفلك الذّفري كأنّ عنانه ... ومثناته في رأس جذع مشذّب

وقوله: (البسيط) أتى الزّمان بنوه في شبيبته ... فسرّهم وأتيناه على الهرم قال: وقد بدأ حبيب بن أوس بذكر هرم الزّمان بقوله: (البسيط) مجد رعى تلعات الدّهر وهو فتى ... حتى أتى الدّهر يمشي مشية الهرم فيقال له: (السريع) شتّان ما يومي على كورها ... ويوم حيّان أخي جابر على أنه، وإن سبقه إلى اللّفظ، فلم يسبقه إلى المعنى، لأن معنى بيت أبي تمّام غير معنى بيت أبي الطيب. وقوله: (الطويل) وأمّ عتيق خاله دون عمّه ... رأى خلقها من أعجبته فعانها قال: زعم أن هذا المهر، خاله دون عمّه، فكأنه وصفه بالهجنة مع شهادته له بالعتق. فيقال له: العتيق من الخيل: الرائع الحسن الخلق، قال ابن دريد: يقال للجميل: ما أعتقه وأبين العتق فيه!! فإذا كان كذلك لم يكن مناقضا.

وقوله: (الكامل) أن خلّيت ربطت بآداب الوغى ... فدعاؤها يغني عن الأرسان قال: أشطرتّه القافية إلى الأرسان ولو وصفها بالغناء عن اللّجم، لكان ذلك (أبلغ) في وصفها بالأدب. فيقال له: لم تضطّره القافية إلى ذلك، لأن الرّبط إنما يستعمل في الأرسان لا في اللّجم. يقول: هذه الخيل مؤدبة بآداب الحرب، لا يخشى شرادها إذا خلّيت وأرسلت، لأن دعاء فرسانها، يوم مقام الارسان، فلا تحتاج إلى الأرسان مع اللّجم، لأن من الخيل ما يلجم على رسنه خوفا من شراده، وهذه غنيّة عن ذلك. وقوله: (الكامل) والماء بين عجاجتين مخلّص ... يتفرّقان به ويلتقيان

ابن دريد، الجمهرة 2: 20. قال: يعني أن الماء قد صار في جانبيه عجاجتان، فكأنه مخلّص بينهما لأنه ليس يشاكلهما في اللّون والخلقة، فتارة تفترق العجاجتان، وتارة تلتقيان. وأقول: تعليله للتّخليص بينهما بكونه مخالفا لهما في اللون والخلقة غير جيّد، لأن هذه العلّة يشارك النّهر فيها أكثر الأجسام. وإنما يريد، أن خيل سيف الدولة بعضها قطع (ذلك) النّهر، وبعضها لم يقطعه، فالخيلان تثير في جانبي النّهر عجاجتان، النّهر مخلّص بينهما، ما لم تقو الرّيح، فأن قويت التقتا. وقوله: (الكامل) نظروا إلى زبر الحديد كأنّما ... يصعدن بين مناكب العقبان قال: شبّه الدّارعين بزبر الحديد، وشبّه خيلهم بالعقبان كأنما تحمل الزّبر على المناكب. وأقول: أن قوله: نظروا إلى زبر الحديد. . . . . . . . . . . . يحتمل أن يكون إشارة إلى دروع الفرسان وبيضهم، وان يكون كناية عنهم لشدّتهم وجلدهم، كما يروى عن أمير المؤمنين - عليه السّلام - إنه مرّ في بعض ليالي صفّين بمالك ابن الحارث الأشتر - رحمه الله - والناس نيام من شدّة القتال، وهو يقوّم رماحا. فقال له: لله درّك يا مالك! لو أن الرجال من حديد لكنت زبره، أو من حجارة لكنت صخره!

وقوله: (الكامل) وفوارس يحيي الحمام نفوسهم ... فكأنّها ليست من الحيوان قال: أسرف في المبالغة، فجعل الحمام يحيي انفسهم، كأنها ليست حيوانا، أي: كأنهم كانوا أمواتا، أو جمادا فجعلهم الحمام أحياء. وأقول: أن قوله: فكأنهم (كانوا) جمادا، أو امواتا، فجعلهم الحمام أحياء ليس بشيء! والمعنى: أن هؤلاء الفوارس، كأنهم بخلاف غيرهم من الحيوان، لأنّ الحمام يحيي نفوسهم، وغيرهم الحمام يهلك أنفسهم، وهذا مثل قوله: (البسيط) . . . . . . . . . . . . إذا تلفوا قدما فقد سلموا وقوله: (الكامل) ما زلت تضربهم دراكا في الذّرى ... ضربا كأنّ السّيف فيه اثنان قال: يريد انك سيف ومعك سيف. وأقول: لم يرد بقوله: تضربهم سيف الدولة وحده، حتى يفسره على ما قال،

وإنما أراد سيف الدّولة وأصحابه، وأضاف ضربهم إليه، لأنه بأمره، ويدلّ عليه ما قبله من قوله: وفوارس وإنما يعني أن الضرب منه ومن أصحابه، كان متداركا متتابعا لسرعته، فكأنّ السّيف بسرعة وقعه عليهم سيفان مختلفان. وقوله: (الكامل) خصّ الجماجم والوجوه كأنّما ... جاءت إليك جسومهم بأمان قال: ترك المبالغة في هذا البيت، لأنّ رسوب السّيف في الضّريبة محمود، وقد قال في موضع آخر: (المتقارب) إذا ما ضربته به هامة ... براها وغنّاك في الكاهل فيقال له: ترك المبالغة هاهنا، وان كانت محمودة، لما هو أحمد منها، وذلك وصفهم بثبات القلوب والأذهان، عند لقاء الأقران مواجهين لهم، وأنهم خصّوا رؤوسهم ووجوههم بالضّرب، معتمدين ذلك، غير ذاهلين عنه خوفا وفرقا، كما قال بلعاء بن قيس: (البسيط) بضربة لم تكن منّي مخالسة ... ولا تعجّلتها جبنا ولا فرقا

وقوله: (الكامل) فرموا بما يرمون عنه وأدبروا ... يطئون كلّ حنيّة مرنان قال: يقول: رموا قسيّهم، وهي التي يرمون عنها، وهذه صفة رجّالة الأرمن. وأقول: ما اعلم لم خصّ برمي القسيّ الرّجّالة دون غيرهم؟ ولم خصّ من الرّجّالة الأرمن دون غيرهم؟ فهذا تخصيص بغير دليل. وقوله: . . . . . . . . . يطئون كلّ حنيّة. . . لا يدلّ على قوله، لأنه يحتمل أن (يكون) وطؤها بخيلهم، وذلك أبلغ في مدح سيف الدولة. وقوله: (البسيط) إذا قدمت على الأهوال شيّعني ... قلب إذا شئت أن يسلاكم خانا قال: يقول: أنا اقدم على الأهوال التي كأنّها غائبة عنّي، وأسافر إليها، كما يسافر الغائب إلى أهله. وشيّعني أي: قوّاني، فكان لي مشايعا على ما أريد. وأقول: لم يذكر الشّيخ معنى البيت، وإنما فسّر بعض ألفاظه!

والمعنى: أخباره عن صدق محبّته، وشدّة هواه ووجده بأحبابه، يقول: إذا قدمت على الأمر المهول، والخطب المخوف، شيّعني قلبي، أي: صاحبني وتابعني، وذلك وفاء من قلبه له، وإذا رمت سلوّكهم، لم يشايعني، وخذلني فخانني. فجعل قلبه يقدم على الاهوال، ولا يقدم على السّلوان، وهذا نسيب تشوبه حماسة!! وقوله: (البسيط) وتسحب الحبر القينات رافلة ... في جوده وتجرّ الخيل أرسانا قال: وصفه بالجود على كلّ الخلق، وإنّ الحبر تجرّه القينات أي: الإماء وإنما هو من عطاياه، وجعل الخيل تسحب أرسانها في ملكه، فيجوز أن يعني بذلك، إنها تترك وشأنها، فلا ترتبط، فهي تسحب الأرسان لذلك. وهذا الوجه ابلغ من أن يصفها بطول الأرسان المانعة لها من التّصرف. وأقول: أن قوله: وجعل الخيل تسحب أرسانها في ملكه (خطأ) وإنما هو في جوده بمنزلة القينات، فالقينات في جوده تسحب الحبر والخيل تسحب الأرسان. وهذا معنى مطروق، من ذلك قول النّابغة: (البسيط)

الواهب المائة الأبكار زيّنها ... سعدان توضح في أوبارها اللّبد والراكضات ذيول الرّيط فنّقها ... برد الهواجر كالغزلان في الجرد وقوله: (الكامل) طربت مراكبنا فخلنا إنها ... لولا حياء عاقها رقصت بنا قال: المراكب: جمع مركب، وهو الذي يوضع على ظهر الدّابة لتركب، ويجوز أن تسمّى الدابة مركبا، وكون المركب في معنى السّرج، ابلغ في هذا الموضع، لأن الدّابّة حيوان، فهي اقرب إلى الرّقص من الذي يركب فيه. وأقول: أن الشّيخ، دائما، ينكر عليه الغلوّ في الاغراق، وينسبه إلى الإحالة، ثم هو يجعل هاهنا الذي هو اقرب إلى الإحالة، أولى من الأبعد! على أن الإغراق ليس بمستحسن في كل موضع. ومع هذا، فأنّ المراكب، التي هي السّروج، إذا كانت لازمة لظهور المراكب، التي هي الخيل، شدّا وحزما، فلا يمكن حركتها بالرّقص من دون حركة ما لزمته، فالأولى أن يضاف الرّقص إلى الخيل، وان كانت اقرب إليه من السّروج. وقوله: (الكامل) فطن الفؤاد لما أتيت على النّوى ... ولما تركت مخافة أن تفطنا

قال: وصفه بالفطنة، وزعم إنه يفطن لما يفعله الشّاعر، ولما لم يفعله، مخافة أن يعلم به فكأنه يقول: لم أزل أثني عليك في غيبتك، وفي حضورك، وأنت عالم بذلك. وقوله: . . . . . . . . . ولما تركت مخافة أن تفطنا كأنه أراد ذمّ قوم، فترك ذّمهم، لأنه خشي أن يفطن بذلك. وأقول: أن قوله: وصفه بالفطنة، وزعم إنه يفطن لما يفعله. . . ولما لم يفعله مخافة أن يعلم به كاف في تفسير البيت، وما بعده زيادة كزيادة الأصابع! وهي من قوله: لم أزل أثني عليك إلى الآخر، لأن اللفظ لا يدلّ عليه، ولا القرينة ترشد إليه. وقوله: (الكامل) أضحى فراقك لي عليه عقوبة ... ليس الذي قاسيت منه هينا قال: الهاء في عليه عائدة على ما ذكره مخافة أن يفطن الممدوح، أي: فراقك أضحى كالعقوبة على ما تركته. والهاء في منه عائدة على الفراق. وأقول: أن قوله: الهاء. . . عائدة على ما ذكره مخافة أن يفطن، وهو إنه أراد أن يهجو أناسا، خطأ! بل الضّمير في عليه ومنه عائد على الفراق، وذلك إنه تخلّف عن الممدوح، ولم يسر في صحبته، وكان الواجب عنده أن لا يفارقه فقال: أضحى فراقك عقوبة لي عليه، فكأنّه يقول: عوقبت بالفراق على الفراق، وبيّن ذلك بقوله:

. . . ليس الذي قاسيت منه هينا أي: من الفراق. فهذا هو التقدير الصّحيح الذي يدلّ عليه لفظ البيت، وما سواه ففاسد. وقوله: (البسيط) كأنّه زاد حتّى فاض عن جسدي ... فصار سقمي به في جسم كتماني قال: صار السّقم الذي كان بي في جسم كتماني، أي: كتماني ذاب وضعف، حتى صار يشبهني في السّقم وأنا أخفى عن النظر. وأقول: قوله: وأنا أخفى عن النّظر زيادة لا يدلّ عليها اللّفظ، ولو قال: وأنا ناحل جدا من السّقم بالحبّ، لكان أولى. وقوله: (البسيط) تحمّلوا حملتكم كلّ ناجية ... فكلّ بين عليّ اليوم مؤتمن

قال: هذا ضدّ ما ذكره في قوله: (الكامل) ليت الذي خلق النّوى جعل الحصى ... لخفافهنّ مفاصلي وعظامي وأقول: لو كان قال ضدّ قوله: (الكامل) وإذا الجياد - أبا البهيّ - نقلننا ... عنكم فأردأ ما ركبت الأجود لكان أولى. وقوله: (البسيط) وتغضبون على من نال رفدكم ... حتى يعاقبه التّنغيص والمنن (قال:) أي حتى يكون في عاقبته تنغيص بالمنن على أخذه. ويجوز أن يكون يعاقبه من تعاقب الراكبين على الدّابة، يريد أن رفدكم والتّنغيص لا يجتمعان، فيسهل أحدهما الآخر، ولكن التّنغيص يجيء ولا رفد معه. وأقول: الصّحيح، إنه أراد بقوله يعاقبه من العقاب، يقول: تغضبون على من نال منكم رفدا، فتعاقبونه بتنغيصه بمنّكم) كأنه مذنب بأخذه منكم. وأما تفسيره يعاقبه بمعنى يعقبه أي: يتبعه فحسن، والذي ذكرته احسن منه. وأمّا قوله: ويجوز أن يكون من تعاقب الرّاكبين على الدّابّة، ويريد أن

رفدهم والتنغيص لا يجتمعان، فيسهل أحدهما على الآخر، ولكنّ التنغيص يجيء ولا رفد معه فهذا لا يصحّ إلا إذا عطف على قوله: رأيتكم لا يصون العرض جاركم. . . . . . . . . كأنّه قال: ولا تغضبون على من نال رفدكم، حتى تحصل المعاقبة بينه وبين التّنغيص والمنن، ولكنه وجه خفيّ، ومع الخفاء، بعيد. وقوله: (البسيط) فغادر الهجر ما بيني وبينكم ... يهماء تكذب فيها العين والأذن قال: تكذب فيها العين والاذن، لأنها بعيدة الارجاء، فالعين لا تتبيّن فيها الشّخص على الحقيقة، وكذلك الأذن، ليس سمعها في هذه المقفرة بالصّحيح. وأقول: إنه أراد بكذب العين، إنها ترى السّراب فتظنّه ماء، وكذب الأذن إنها تسمع دويّها فتظنه شيئا من خارج، كقول ذي الرّمّة: (الطويل) إذا قال حادينا ليسمع نبأة: ... صه، لم تكن إلا دويّ المسامع

وقوله: (الخفيف) وإذا لم يكن من الموت بد ... فمن العجز أن تموت جبانا قال: حثّ بهذا البيت على الشّجاعة، ونهى عن الجبن. وإنما يكون الإنسان كما خلق، فأن كان شجاعا لم يكن موصوفا بالجبن، وان خلق جبانا، فليس له إلى الشجاعة سبيل. وقد قال الأول: (البسيط) لقد علمت ولا أنهاك عن خلق ... إلا يكون امرؤ إلا كما خلقا فيقال له: هذا، مبنيّ على أن الإنسان مجبر أو مطبوع على الأفعال، وليس كذلك بل الصّحيح، أن الإنسان مخير، له فعل يكسب به الخصال الحميدة والذّميمة ويألفها، فتصير له كالطبع اللاّزم، فيمكن الإنسان أن يتعلّم ممّن يصاحبه، كقول أبي الطّيب: (الطويل) فربّ غلام علّم المجد نفسه ... كتعليم سيف الدولة الطّعن والضّربا

وقوله: (المتقارب) كأنّك ما بيننا ضيغم ... يرشّح للفرس أشباله وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الخير عادة، والشّرّ لجاحة. وقال الشّاعر: (البسيط) باتت تلوم وتلحاني على خلق ... عودته عادة والخير تعويد وقوله: (الطويل) رأت كلّ من ينوي لك العذر يبتلى ... بغدر حياة أو بغدر زمان قال: فرّق بين غدر الحياة وغدر الزّمان، وإنما حمله على ذلك إقامة الوزن، والزّمان غدره على ضربين. أحدهما: هلاك النّفوس. والآخر: هلاك المال، وزوال الدّول، وموت الأعزاء، وغدر الحياة داخل في غدره. وأقول: أن غدر الحياة وغدر الزّمان كلاهما مجاز، فليس أحدهما داخل في غدر الآخر، فكنى بغدر الحياة عن الموت، وبغدر الزّمان عن زوال الملك والمال، وما يناله الإنسان في من السّرور والرّاحة، لأنّ ذلك أكثر ما يستعمل في عطاء الدّهر، وقلّما يستعمل في عطاء الحياة. فلذلك خصّه بما سوى الحياة وجعلهما قسمين.

وقوله: (الطويل) كأنّ رقاب النّاس قالت لسيفه ... رفيقك قيسيّ وأنت يماني قال: في هذا البيت معنى حسن لطيف، وذلك أن الشّاعر قال: كأنّ رقاب النّاس قالت لسيفه ... رفيقك قيسيّ وأنت يماني أي: رفيقك يا سيف من قيس عيلان، وأنت منسوب إلى اليمن، فأفسدت بين شبيب وبين السيف، لأنّ عادة من ينسب إلى قيس عيلان، أن يتعصّب على اليمن. وأقول: ذكر أن الرّقاب أغرت بين وبين سيفه البغضاء، إلا إنه لم يذكر لأيّ معنى ذلك. والعّلة بذكر ذلك، أن يتخلّص من الضّرب والقطع. وقوله: (الطويل) فنال حياة يشتهيها عدوّه ... وموتا يشهّي الموت كلّ جبان قال: أي إنه مات موتة وحيّة، ولم يمت حتف انفه، فيعاني العلل والأمراض. وأقول: أن الجبان يشتهي أن يموت حتف انفه، أي: على فراشه من غير قتل، كقوله: (الطويل)

وما مات منّا سيّد حتف أنفه ... ولا طلّ منّا حيث كان قتيل والشّجاع يشتهي أن يموت في الحرب. والأقرب أن يكون معنى قوله: . . . . . . . . . وموتا يشهّي الموت كلّ جبان أنه مات صرعا من شرب الخمر، كما ذكر، فهذا موت يشتهيه الجبان. وقوله: (الطويل) ثنى يده بالإحسان حتّى كأنّها ... وقد قبضت كانت بغير بنان قال: يقول: ملأت يده بالإحسان، حتى ثناها إلى ورائها، فكأنها لمّا قبضت ما وهبت له لم يكن لها بنان تطبقه على الموهوب فأرسلته. وأقول: أن قوله: ثناها إلى ورائها ليس بشيء! وإنما ثناها: ردّها، (أي جلعها) وقد كانت ذات بنان، كأن لا بنان لها لما قبضت على إحسانك، أي: لم تحفظ إحسانك، ولم تحافظ عليه فضيّعته، وفي هذا إشارة إلى غدره وجحده للجميل، وكفره للأنعام، وقد بيّن ذلك بما بعده.

وقوله: (الطويل) ومالك نختار القسيّ وإنما ... عن السّعد يرمي دونك الثّقلان قال: يعني بالثّقلين الجنّ والإنس، وجاء في الحديث إنه - صلّى الله عليه - قال): خلّفت فيكم الثّقلين: كتاب الله وعترتي! فالثقلان في الحديث تثنية ثقل، ومن قولهم: حطّ فلان ثقله، أي: متاعه الذي يحمله، فأراد - صلّى الله عليه - أن كتاب الله وعترته ثقلاه الذي يهمّه حفظهما. وأقول: اشتغل الشّيخ بذكر اللّغة ولم يذكر المعنى، وهو إنه استفهمه إنكارا عليه اختيار القسيّ ليرمى عنها أعداؤه لأنها قد تصيب وتخطئ، وقال: إذا كان الإنس والجنّ ترمي دونك الأعداء عن السّعد، فلا حاجة إلى القسيّ. ويحتمل أن يكون أراد قسيّ السّعد، فحذف المضاف وأقام مقامه المضاف إليه، لدلالة الأول عليه. وقوله: (الوافر) مغاني الشّعب طيّبا في المغاني ... بمنزلة الرّبيع من الزّمان

قال: الرواية التي في ايدي الشّاميين، ينصبون طيبا، ويجب أن يكون نصبه بإضمار فعل، كأنه قال: تزيد طيبا، أو: تطيب طيبا، كلا تقول: فلان سيرا، أي: يسير سيرا. والبغداديّون ينشدون: طيب بالرّفع، وإنما فرّوا من النّصب، لأنه ليس ثمّ فعل يحمل عليه. والرّفع على أن طيب خبر مبتدأ، وهذا كلام النّحاة من البصريين. وأقول: أن الشّعر موضع ضرورة، يقع فيه التقديم والتأخير، وهو على أصله في الكلام، فيكون تقدير هذا البيت: مغاني الشّعب في المغاني طيبا، أي: استقرّت طيبا، بمنزلة الرّبيع من الزّمان طيبا، ويكون مثل قولهم: زيد في الدار قائما (وأجيز في قائما التقديم في الشعر). وإذا جاز أن يؤخّر الفاعل ويقدّم المفعول في قولهم: ضرب غلامه زيد، وفي قوله تعالى: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه)، والفاعل كالجزء من الفعل، ولهذا إذا كان مضمرا مرفوعا لم يعطف عليه حتى يؤكّد، فلم لا يجوز التقديم (والتأخير) في مثل هذا البيت؟ وقوله: (الوافر) ولكنّ الفتى العربيّ فيها ... غريب الوجه واليد واللّسان

قال: ذهب بعض الناس، إلى أن في هذا البيت النّعمة، إنما أراد، أن العرب تخالف العجم في خلقها ولفظها، لأنّ وجوههم بيّنة من وجوه العرب، ولحاهم شقر وصهب، وكان مرور أبي الطيب بالكرد، وايديهم لا تشبه أيدي العرب، لأنها غلاظ جعدة. وأقول: أن الصّحيح إنه أراد بغريب اليد ما أراد بغريب اللّسان أي: كتابتهم أعجمية، كما أن لغتهم أعجمية، فهذا لسان غريب في الألسن، وهذا خطّ غريب في الخطوط، فكنى بغربة اليد واللّسان عن عجمة الخطّ والكلام. وقوله: (الوافر) وأمواه يصلّ بها حصاها ... صليل الحلي في أيدي الغواني قال: زعم الشّاعر، أن هذه الأمواه حسنة، فحصاها يصلّ فيها، كما يصلّ حلي الغانية عليها، وفي هذا البيت صفة الأمواه وحصاها، لأنه جعل حصاها كالحلي، وجعلها كالغانيات من النّساء. وأقول: لم يرد في هذا البيت، إلا وصف صوت المياه بجريها على الحصى، وإنها تشوق (بصوتها) كما يشوق صليل الحلي في أيدي النّساء، يعني: قلائدهنّ إذا عبثن بها ولعبن. ولا يريد بالحلي في أيدي الغواني، سورهنّ وما أشبهها، لأنّ المحمود من ذلك أن لا يصلّ ولا يصوّت.

وقوله: (الوافر) رقاه كلّ ابيض مشرفيّ ... لكلّ أصمّ صلّ أفعوان قال: يقول: إنه أقام السيوف مقام رقى، يرقي بهن الأعداء، فشبّه أهل العصيان بالصّمّ من الحيّات. وأقول: لم يرد بقوله: . . . . . . . . . . . . أصمّ صلّ أفعوان الأعداء، وإنما أراد رماح الأعداء، فجعل رقاها السّيوف، وهي اعظم منها، يقول: ليس له رقى من كلام، كما يفعله رقاة ذوات السّموم، إنما رقاه فعال أعظم من فعال ذلك المرقيّ فيدفع لسعة صلّ الرّمح برقية لسان السّيف. وقوله: (الوافر) حمى أطراف فارس شمّريّ ... يحضّ على التّباقي بالتّفاني قال: يحضّ: يحثّ، ويجب أن يكون: . . . . . . . . . . . . . . . . . . على التباقي بالتّفاني

بالباء، أي: يحضّ على ترك النّاس القتل بالقتل، وفي الكتاب العزيز: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب) وهذا اللّفظ يشير إلى اللفظ الأول: القتل أنفى للقتل. وإن رويت في التفاني فله معنى يؤدّي المعنى الأول. ويحتمل أن يريد: على التّفاني في الدار التي فيها التّفاني، أما من تفاني النّاس بالقتل، وأمّا من تفانيهم بالموت. وأقول: إنه ذكر وجهين (الأول) ظاهر سائغ، وهو المقدّر بالباء، لأنه معنى القرآن، وكلام العرب القديم. والثاني مظلم، وهو المقدّر بفي من قوله: يريد أن يحضّ على التّفاني في الدّار التي فيها التّفاني وتقسيمه له. والصحيح أن هذا الوجه ينظر إلى قوله: (البسيط) ضربته بصدور الخيل حاملة ... قوما إذا تلفوا قدما فقد سلموا يعني: بما يبقى له من الذّكر الجميل، الذي يقوم مقام الحياة. وكذلك قوله: . . . . . . . . . يحضّ على التّباقي في التّفاني أي: يحضّ على البقاء في الفناء - يعني القتل في موطن الحرب، بما يكسبه من الثّناء الجزيل، والذّكر الجميل لقوله: (البسيط) ذكر الفتى عمره الثاني. . . . . . . . . . . .

وقوله: (المنسرح) تبلّ خدّيّ كلّما ابتسمت ... من مطر برقه ثناياها قال: هذا البيت يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون: كلّما ابتسمت أخذه البكاء لأنه يخاف من الفراق، أو من تغيّر النيّة، فيكون المعنى كقوله: (الطويل) . . . . . . . . . . . . ظلت أشكو وتبسم والآخر: أن تكون تقبّله فيصيب خدّيه من الرّيق، وإن قلّ. ويقوّي هذا الوجه قوله: (المنسرح) فقبّلت ناظري. . . . . . . . . . . . وأقول: الوجه الصّحيح هو الاول، والثاني قول ابن جنّي وقد ذكرت ما فيه.

وقوله: (المنسرح) في بلد تضرب الحجال به ... على حسان ولسن أشباها قال: لسن أشباها: أي بعضهنّ أفضل من بعض، كأنه فضّل التي ذكرها عليهن. وأقول: هذا التّفسير ليس بشيء! والصحيح أن هذه حسان من ظباء يضرب عليهن الحجال بخلاف الظّباء، وإنهنّ لا يتشابهن، لأنهنّ نساء بخلاف الظباء فأنهن يتشابهن، ويدل عليه قوله فيما بعده: (المنسرح) كلّ مهاة. . . . . . . . . . . . . . . . . . وقوله: (المنسرح) فإن أتى حظّها بأزمنة ... أوسع من ذا الزّمان أبداها وصارت الفيلقان واحدة ... تعثر أحياؤها بموتاها قال: قوله: وصارت الفيلقان. . .

أراد بإحداهما الجماعة التي في طاعة هذا الملك، وبالأخرى الجماعة التي ليست في طاعته. فأن كان الذي ذكره الشّاعر من حظّ الدنيا، فأنّ المخالفين لهذا الممدوح يصيرون من عبيده وأصحابه. وأقول: هذا التّفسير ليس بشيء! وإنما المراد بقوله: وصارت الفيلقان واحدة. . . . . . . . . اختلاط الكتيبتين والفئتين في الحرب، ووصف القتال بالشدّة إلى أن يعثر الحيّ بالميت، ولم يره، لكثرة القتلى وظلام النّقع. وقوله: (المنسرح) ودارت النّيرات في فلك ... تسجد أقماره لأبهاها قال: أن صحّ هذا المرجوّ، صار الناس كلّهم في طاعة واحدة، ودارت ذوات النّور في فلك، أقماره تسجد لأكثرها بهاء ونورا، يعني الممدوح. (وأقول:) وهذا ليس بشيء! وإنما استعار للحرب فلكا، وجعل الأبطال فيه كالكواكب، والملوك كالأقمار، والممدوح أبهى الأقمار، يعني الشّمس، وهي تسجد له، أي: تذلّ وتخضع.

وقوله: (المنسرح) لو أنكرت من حيائها يده ... في الحرب آثارها عرفناها وكيف تخفى التي زيادتها ... وناقع السّمّ بعض سيماها قال: ذكر ابن جنّي أن الزيادة في هذا البيت (السّوط) ولا يمتنع ذلك. والأشبه أن تكون الزيادة هاهنا السّيف لأنه قرنه بناقع السّمّ. وأقول: أن ابن جنّي، إنما جعل الزيادة سواء لقول المرّار: (الوافر) ولم يلقوا وسائد غير أيد ... زيادتهنّ سوط أو جديل والسّوط والجديل يجعلان زيادة فوق الوسادة، التي هي أما يد النّاقة أو يد راكبها تحت خدّه. فلا يحسن، على قول أبي العلاء، أن يجعل السّيف زيادة، لأنه لا يجعل هناك.

وقوله: (المنسرح) النّاس كالعابدين آلهة ... وعبده كالموحّد اللاّها قال: يقول: الناس الذين في طاعة غيره، كأنهم يعبدون آلهة مختلفة، وعبيده الذين يطيعونه، كأنهم الموحّدون، (وهذا كقوله: (الطويل) ولست مليكا هازما لنظيره ... ولكنّك التّوحيد للشّرك هازم) وأقول: أن هذا تفسير الشّيء بنفسه على عادته الجاية! والمعنى: أن الناس الطّائعين غيره، التّابعين سواه، في ضلال، كالعابدين آلهة، لا إلها واحدا، وعبده المقتدي به، والطائع له، كالموحّد الله في الهداية والاستقامة. والبيت الذي مثّل به هذا البيت، ليس بينه وبينه تماثل إلا بلفظ التّوحيد. وقوله: (الطويل) إذا الجود لم يرزق خلاصا من الأذى ... فلا الحمد مكسوبا ولا المال باقيا قال: في هذا البيت تعريض بذمّ من فارق، لأنه ذكر، انهم جادوا له جودا لم يخلص من أذية، وإذا كان الجود كذلك، فالجود ما حمد والمال ما بقي.

وأقول: أن قوله: فالجود ما حمد الأولى منه قوله: فالحمد ما كسب، وذلك أن الإنسان إنما يعطي ماله ليكسب الحمد، فإذا منّ بالعطاء لم يحصل له ذلك، وهذا من قوله تعالى: (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) وفيه نظر إلى قوله - صلّى الله عليه -: أوغلوا في هذا الدّين برفق فأنّ المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى. وقوله: (الطويل) خلقت ألوفا لو رحلت إلى الصّبا ... لفارقت شيبي موجع القلب باكيا قال: هذا البيت شرح ما قبله، وفي دليل على إنه لمن فارق ذامّ، لأنه جعله كالشّيب. وقال: لو فارقت الشيب الذي هو ذميم برحيل (إلى) الصّبا، الذي هو أفصل حياة الإنسان، لكان ذلك الفراق موجعا للقلب مبكيا للعين. وقد وصف نفسه في هذا البيت بوفاء لم يسمع مثله.

وأقول: هذا البيت، ليس هو شرحا لم أقبله، وليس فيه دليل على إنه لمن فارق ذامّ، وإنما هذا البيت قائم بنفسه، وصف نفسه فيه بكثرة الوفاء، وبالغ إلى إنه لو كان - كمن رحل إلى الشّيب الذي يسوء الإنسان ويغمّه، وهو نذير الموت - راجعا إلى الصبا الذي يسّر الإنسان ويفرحه، وهو مظنّة الحياة، وأطيب العمر، لفارق الشّيب موجع القلب باكي العين. وان كانت في الأبيات التي قبله تعريض بالذمّ تارة وتصريح اخرى. وقوله: (الطويل) تماشى بأيد كلّما وافت الصّفا ... نقشن به صدر البزاة حوافيا قال: البزاة جمع باز، وهو هذا الطائر المعروف. وهذه كلمة أخذها الشّاعر من كلام العامّة، لأنّ النّساء يقلن: نقشتها النّاقشة صدر البزاة. يقول: إنها إذا وطئت الأرض، وهي غير منعلة، نقشت في صفا الأرض نقشا يشبه ذلك المذكور. وقد اقتصر في هذا الوصف، لأنه شبه في الأخرى (تشبيه) آثار الخيل (بآثار) قلع الحلي من المناطق وزعم إنه إذا عدا غادر آثارا كالخنادق. وهذه مبالغة في شدّة الوطء. ويحتمل أن يكون في هذا الموضع وصفه بالخفّة، إنه لا يمكّن الحوافر من الوطء.

وأقول: أن قوله: . . . . . . . . . نقشن به صدر البزاة حوافيا تشبيه حسن واقع، صحيح اللّفظ والمعنى، وأقول ألفاظ العامّة أو خالفها، وإذا كان كذلك، فليس فيه عيب، ولا عليه دخل، على أن أبا الطّيب (لم يكن جاهلا) إلى أن يستعمل من كلام العامّة ما ليس له أصل في كلام الخاصة. وقوله: قد اقتصر في هذا الوصف. فيقال له: لا يلزم الشّاعر الإغراق في كل موضع، فإذا غرق لا يلزمه التّساوي في ذلك، على إنه يقال له: أن في هذا البيت، من الإغراق ما يساوي المكان الأول، بل يزيد عليه، لأن في قوله: (الرجز) يترك في حجارة الأبارق وصفها بقلعها، والأبارق: جمع أبرق، وهي الأرض التي فيها حجارة ورمل وطين، فإذا مشى قلع حجارتها، لأنّها سهلة في المرطوبة، وإذا عدا كان وقعه واعتماده عليها أشدّ من ذلك فأثّر فيها أكثر من القلع، وهي الخنادق، وتكون صغيرة وكبيرة. وأمّا الصّفا فهو الحجر الأملس الصلب، فذكر أن الخيل التي معه إذا مشت عليه حوافيا أثّرت فيه آثارا بيّنة كنقش صدور البزاة وذلك لصلابة الحوافر، فتعليله بقلّة تأثيرها في الصّفا بالخفّة غير صحيح لما بيّنته. وقوله: (الطويل) لقيت المروري والشّناخيب دونه ... وجبت هجيرا يترك الماء صاديا

قال: قد وصفت العرب ضنّهم بالماء إذا قلّ، وإنه لا يسمح به الكريم كما فعل كعب بن مامة. وقد زعم الفرزدق إنه منّ على رفيق له بحظّه من الماء لمّا اقتسموه، وأنشد: (الطويل) فلمّا تصافنّا الأداوة أجهشت ... إليّ غضون العنبريّ الجراضم فجاء بجلمود له مثل رأسه ... ليشرب ماء القوم بين الصّرائم على حالة لو أن في القوم حاتما ... على جوده ضنّت به نفس حاتم وأقول: إن الفرزدق لم يؤثر بحظّه من الماء، وقد ذكر ذلك أبو العباس المبرّد في الكامل وقال: إنه صاحب رجلا من بلعنبر، فقلّ عليهم الماء، فتصافنوه، فسأم العنبريّ الفرزدق أن يؤثره بحظّه من الماء، وكان جوادا، فلم تطب نفسه عن نفسه، وأنشد الأبيات وفيها دليل على ما قلت. (انتهى)

الجزء الثالث المآخذ على شرح التبريزي الموسوم بالموضح

الجزء الثالث المآخذ على شرح التبريزي الموسوم بالموضح

بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أخذ على الشيخ أبي زكريا يحيى بن علي التبريزي في تفسير شعر أبي الطيب المتنبي. من ذلك قوله: الكامل أسَفي على أسَفِي الذي دلهُتنِي ... عن علْمه عَليُ خَفَاءُ قال: المعنى، أني أحزن لذهاب عقلي، حتى أني خفي علي حزني، لما لقيت فيك من الجهد. وأقول: هذا لا يستقيم؛ لأن من ذهب عقله لا يحزن لشيء ولا يفرح به ولا يخفي عنه ولا يبدو له، والمعنى: أني كنت أتأسف عليك، لشدة شوقي إليك، فبلغت من السقم والنحول إلى الحال دلهتني عن علم الأسف، فأنا أتأسف على ذلك الأسف؛ لأنه كان وبي رمق وفي بقية. فيقال على هذا: إذا دلهته عن علم الأسف، فكيف لم تدلهه عن أسفه على الأسف؟!

وقوله: الكامل وشكَيتُي فَقْدُ السُقام لأنه ... قد كان لماُ كانَ لي أعضْاَءٌ ذكر المعنى، إلا عقبه بقوله: ومحصول البيت؛ انه يطلب أعضاءه لا السقام وذلك غير سائغ، بل محصول البيت، أنه يطلب حال أصلح من الحال التي هو فيها، وإن كانتا غير صالحتين، وهذا ينظر إلى قول الشاعر: الخفيف رُبُ يومِْ بَكْينٌ منه فلمُا ... ضِرْتُ في غَيْرِهِ بَكَيتْ عَلَيهِ وقوله: الكامل يَتَلَوُنُ الخرُيتُ من خَوْفِ التُوىَ ... فيها كَماَ تَتَلَوُنٌ الحِرْبَاءُ ذكر المعنى، إلا أنه نقضه، وقد ذكرته في شرح الواحدي. وقوله: الكامل يَتَلونَ الخرُيتُ من خوْف التُوْى ... فيها كَماَ تَتَلَونُ الحرْباءُ

قال: يتلفت يمنة وشامة. وأقول: ليس في البيت ما يدل على ذلك، والتلون هنا هو تغير اللون خوف الهلاك بالضلال كتلون الحرباء، وتلونه مذكور مشهور. وقوله: الكامل لا تَكثُرٌ الأمْواتُ كَثْرةَ قلةٍ ... إلاُ إذاَ شَقَيتْ بها الأحياءْ قال: إن الأحياء إذا بك كثر الأموات، وترك الكثيرة يؤدي القلة، إما لأن الأحياء يقلون بمن يموت، وإما لأن الميت يقل بنفسه. وأقول: إن تقسيمه هذا ليس بحسن، بل كان ينبغي له أن يقول: إن قوله: كثرة قلة، لا تخلو قلة من أن تكون للأموات أو للأحياء، فإن كانت للأحياء؛ فلا فائدة في ذلك؛ لأن الكثير في الأموات قلة في الأحياء، وإن كانت للأموات، وهو الصحيح فقد جرت العادة أن زيادة الشيء يكون لفائدة، ولا فائدة في كثرة الأموات؛ فكثرتهم بمنزلة القلة؛ فهذا هو المعنى. وأما قوله: . . . . . . شقيت بك الأحياء فقد قيل فيه: إن معنى بك بموتك وهو قول أبن جني. وقيل: ببأسك

وقوله: الكامل لم تشُم يا هارونُ إلاُ بعدماْ اقْترَعَتْ ... وناَزعَتِ اسمْكَ الأسْماَءْ ذكر فيه تفسير ابن جني، وهو الصحيح، وذكر تفسير المعري وهو القبيح! والرد عليه ذكره له الظهور فساده، ثم أردفه بتفسير البيت التالي على قول المعري، وذلك كلم على كلم! وقوله من قصيدته التي أولها: المتقارب ألاَ كٌلُ مَاشيةَ الخَيَزَلَي. . . . . . فما كان ذلك مدحا له ... ولكنه كان هجو الورى قال: كانت طباعه تنافر طباع الناس، سفالاً، ثم مدح فذلك هجو لهم.

وقوله من قصيدته التي أولها: الطويل لا يخْزِنِ الله الأمير فإنني ... . . . . . . وإنُي وإن كان الدُفينٌ حَبيبِهُ ... حَبيِب إلى حبِيبُ حبيِبي قال: أي: يلزمني أن أحب من يحيه؛ فالمدفون وإن كان حبيبه، فهو حبيبي لأجل سيف الدولة. وأقول: إنه قصر في هذا التفسير، وهذه العبارة! والمعنى: إن كان يماك الدفين حبيب سيف الدولة؛ فهو حبيبي لأن سيف الدولة حبيبي؛ فيلزم أن يكون حبيبه حبيبي. وهذه نتيجة المقدمتين. ومثل هذا علي - عليه السلام -: أصدقاؤك ثلاثة: صديقك، وصديق صديقك، وعدو عدوك. أعداؤك ثلاثة: عدوك وعدو صديقك، وصديق عدوك. وقوله فيها: الطويل سُبقْنَا إلى الدنُيا فلو عَاش أهْلُهاَ ... مٌنعْا بِهاَ منْ جِيئةٍ وذٌهُوبِ

ذكر فيه معنيين. ويحتمل معني ثالثا: أي: لو عاش أهل الدنيا، لامتلأت من الخلق، فمنعنا من الحركة؛ المجيء والذهاب لكثرة الناس، وفي هذا تسلية له بكثرة من مات من الناس. وقوله فيها: الطويل ولولا أيادي الدُهْر الَجمْعِ بينَناَ ... غَفَلناَ فَلَم نْشَعْرْ له بذُنُوبِ قال: المعنى أن الدهر لو لم يحسن إلينا بالجمع بيننا، ولكنا غافلين في العدم. وذكر عن ابن جني قال: لولا إحسانه بالجمع بيننا، لم نشعر بذنوبه في تفرقنا، أي: تارة يحسن الدهر وتارة يسيء، وما أحسن ما اعتذر للدهر! وأقول: المعنى أن الدهر لو لم يحسن إلينا باجتماعنا، لم نشعر له بذنوب عظيمة بتفرقنا. فينبغي أن يكون قوله: بذنوب أي: بذنوب بذنوب عظيمة؛ لأن من ابتدأ الإساءة فهو مذنب، ولا كمن بدأ بالإحسان عقبه بالإساءة، وكذلك من لم يرب الإحسان، وهو معنى البيت الذي بعده. وقوله: ما أحسن ما اعتذر للدهر ليس في هذا بيان عذر بل بيان إساءة!

وقوله فيها: الطويل فَعُوُضَ سَيْفُ الدُولة الأجرَ إنُهُ ... أجَلُ مُثَاب من أجَلُ مُثيِبِ قال: يجوز أن يكون الضمير في إنه للأجر، ويجوز أن يكون لسيف الدولة قلت: فإذا كان للأجر ينبغي أن يكون مثاب بفتح الميم، مصدراً، وإن كان لسيف الدولة، فينبغي أن يكون مثاب بضم الميم، اسم مفعول لا غير. وقوله من قصيدته التي أولها: البسيط دَمْعُ جَرىَ. . . . . . إذَا بداَ حَجَبَتْ عَيْنيْكَ هَيْبتُهُ ... وليسَ يَحْجٌهُ ستْرُ إذاَ احْتجبَاَ قال: يحتمل معنيين: أحدهما: حجابه قريب، لما فيه من التواضع. والآخر: وهو أنه، وإن احتجب بالستر؟ فلا يخفي عليه ما وراءه لشدة مراعاته للأمور.

قلت: ويحمل معني ثالثاً، وهو أنه لكثرة نور وجهه لا يحجبه ستر، والبيت الذي بعده يدل عليه وهو قوله: البسيط بياضُ وضجْه يرِيكَ الشمسَ حاَلِكَةً. . . . . . وقوله في قصيدته التي أولها: الكامل بأبِي الشُمٌوس الجَانحاَتٌ غَوَاربِاَ. . . . . . أظْمتْني الدنُيا فَلمُا جئْتهَا ... مُستْقياً مَطَرتُ عليُ مَصاَئبا قال: أراد أظمأتني فحذف الهمزة، ويحمل ذلك على أن يقال: أظمأ في الوقف فتسكن الهمزة، فإذا سكنت وقبلها فتحة، جاز أن تجعل ألفا كما فعلوا ذلك في فاس ورأس، وإذا صارت إلى ذلك حذفت تاء التأني، ومنهم من يرى ذلك مطردا ومنهم من يجعله مسموعا. وأقول: إذا هذا التعليل غير سائغ، والصحيح ما قاله سيبويه، وهو حملوا ذلك على الهمزة التي تجعل بين فقلبوها ألفاً للفتحة قبلها؛ لأنها صارت لوضعها بمنزلة الهمزة الساكنة الكامل: . . . . . . فَارْعَيْ فَزَارةُ لا هَنَاكِ الَمرْبَعُ!

ويدل على ذلك، أن همزة بين بين لا يكون ما قبلها إلا متحركا، لئلا يلتقي ساكنان، إلا الألف؛ فإنها جاز معها ذلك معها ذلك في نحو هباءة لزيادة المد فيها فأشبهت المتحرك فقلبوها في منساه وأظمأني ونحو ذلك تشبيها لها بهمزة سأل وقرأ ثم حذفوها إذا لقيها ساكن بعدها لأنها قربت من الساكن. وقوله: ومنهم من يرى ذلك مطرداً ليس بصحيح إذا أطلق، بل إنما ذلك في الشعر خاصة. وقوله: الرمل ليس بالُمنكَرِ أن بَرُزْتَ سَبْقاً ... غير مَدفُوعِ السُبقِ العرابُ ذكر في رفع العراب وجهين: أحدهما: أن تكون مبتدأ، وغير مدفوع السبق خبره. قال: إلا أن الأجود أن تقول: مدفوعة وهو كما قال. والثاني: أن تكون العراب مرفوعة بمدفوع، على قول من أعمل اسم الفاعل غير معتمد نحو: قائم زيد. وأقول: إن هذا لا يشبه ذلك؛ يغر فيها معنى النفي. تقول: زيد غير قائم، كما تقول: زيد لا يقوم، فإذا كانت كذلك، فاسم الفاعل هنا معتمد، فكأنه قال: لا تدفع العراب عن السبق. وقوله: الوافر ويدل على ذلك، أن همزة بين بين لا يكون ما قبلها إلا متحركا، لئلا يلتقي ساكنان، إلا الألف؛ فإنها جاز معها ذلك في نحو هباءة لزيادة المد فيها فأشبهت المتحرك فلبوها في منساة وأظمأني ونحو ذلك تشبيها لها بهمزة سأل وقرأ ثم حذفوها إذا لقيها ساكن بعدها لأنها قربت من الساكن وقوله: ومنهم من يرى ذلك مطردا ليس بصحيح إذا أطلق، بل إنما ذلك في الشعر خاصة. وقوله: الرمل ليس بالمنكُرِ أنْ بَروُتَ سَبقاً ... غير مَدفٌوعٍ السُبقِِ العرابُ ذكر في رفع العراب وجهين: أحدهما: أن تكون مبتدأ، وغير مدفوع عن السبق خبره قال: إلا الأجود أن تقول: مدفوعة وهو كما قال. والثاني: أن تكون العراب مرفوعة ب مدفوع، على قول من أعمل أسم الفاعل

غير معتمد نحو: قائم زيد. وأقول: إن هذا لا يشبه ذلك؛ لأن غير فيها معنى النفي. تقول: زيد غير قائم، كما تقول: زيد لا يقوم، فإذا كانت كذلك، فاسم الفاعل هنا معتمد، فكأنه قال: لا تدفع العراب عن السبق. وقوله: الوافر

أدمنا طَعُنهمْ والقَتْل حَتُى ... خَلَطْنا في عظَامِهمِ الكُعٌوبَا قال: أدمنا: خلطنا وجعنا، يقال للمتزاوجين: أدم الله بينكما: جعلنا القتل مقرونا بالطعن؛ أي: خلطنا القنا في عظامهم. وأقول: إن هذا وه. وأجود منه، قد ذكره الواحدي: أن يكون أدمنا من الدوام، أي: أدمنا فيهم والقتل لهم إلى أن تحطمت الرماح فيهم، وفي هذا الوجه إشعار بكثرة القتل، ولا كذلك في الأول. وقوله: الوافر يقَدُمهَا وقد خُضبِتْ شَوَاهاَ ... ففَي تَرْمي الحْروبُ به الحُروبَا قال: أنث الشوى لأنه القوائم، وتذكيره أحسن، وإن كان يجوز في الجمع الذي بينه وبين واحده التاء التذكير والتأنيث، إلا يؤلف أحدهما فيكون أحسن. قال: وإن رويت: . . . وقد خصَبتْ شَوَاَهَا. . . . . . كان أحسن في حكم النظم، وسلم البيت من تأنيث الشوى، ويجعل التخضيب للخيل.

وأقول: إن قوله: وسلم من تأنيث الشوى مع اعترافه بجوازه غير حسن، وأحسن من هذا، أن يقر لفظه على ما هو عليه، ويجعل شواها جمع شواة وهي جلدة الرأس. وتلك ليس تذكيرها بأشهر من تأنيثها، ويكون هذا مثل قوله: البسيط ينظرْنَ من مقٌلِ أدْمَى أحجُتَهاَ ... قَرْعُ الفَوارِسِ بالعسُالةِ الذبلِ وقوله: الوافر شَديدُ الخنز وأنَه لا يبْالي ... أصابَ إذاَ تنََمر أوَ أصيبَا قال: ومن روى أم أصيبا فلا بد له من إضمار حرف الاستفهام كقوله: . . . . بسَبعِ رَمَيْنَ الجَمْرَ أمْ بثمانِ وأقول: لا يلزم هاهنا يقال: أصحاب وصاب، وقد قال: الكامل . . . . . . فصابني ... سَهْمُ بَعذُبُ والسُهامُ تريحُ

فتكون الهمزة للاستفهام، ولا يحتاج إلى إضمار، ويجمع بين اللغتين في اللفظتين كقوله: الكامل . . . أسْرَتْ إليكَ ولم تكْن تَسْري وقوله: الوافر فَشمْ في القُبةِ المَلك الُمرجُى ... فَشَمرَ بعدما عَزمَ انسِكابَا قال: أكثر ما يستعمل: عزم وعزمت مع حروف الخفض أو مع أن فيقولون: عزمت على الارتحال، وعزمت أن أرتحل، ولا يكادون يقولون: عزمت الارتحال ثم قال: إلا أن ذلك جائز لأن العزم القطع والإمضاء. وأقول: كأنه ظن أنه عدى عزم إلى انسكابا تعدية المفعول به وليس الأمر كذلك، ولكنه عداه إليه لأنه مصدر في موضع الحال

وقوله: الطويل إليك فإني لستُ ممن إذا أتقىً ... عضاَضَ الأفاعي نَامَ فوقَ العقَاربِ ذكرَ قولَ ابن جنُي وهو: لستُ ممُن إذا اتقىُ عظيمةُ صبرَ على مذَلةِ؛ وهو أن يشُبه العظائمَ بالأفاعي والمذلة بالعقارَب وأقول: أحسنُ من هذا تشبيهٌ الأفاعي بالمهالك، والعقارب بالمكائد، والأذى والنمائم. وقد جاءَ ذلك في قول أبي النشاشَ: الطويل وللموْتُ خيرُ للفتىَ منْ قُعورهِ ... عَديماً ومن مَولى تَدبُ عقاربهُ وقوله: البسيط كأن كُل سؤال في مَسامعهِ ... قَميصُ يُوسفَ في أجفانِ يعقوبِ

قال: يفرح بكل سؤال فرح يعقوب بقميص يوسف وأقول: إنه يحتاج مع ذكر الفرح بالسؤال إلى ذكر انتفاعه به لقوله سبحانه: (ألقَاه عَلى وجهِهِ فَارتد بَصيراً) ولهذا قال: في أجفان يعقوب كأنه يقول: ينتفع بسؤال الناس له، لما فيه من الشرف العظيم، والذكر الجميل بجلبة سائله، وإعطاء آمله، (كانتفاع يعقوب بقميص يوسف): وقوله: الطويل. وكُل امرئ يُولي الجَميِل مُحبَبُ ... وكل مَكَان يُنبِتُ العِز طَيَبُ قال ينبت العز استعارة حسنة؛: أي من دخل في خدمتك علا قدره وأقول: إن المعنى في هذا البيت مرتب على ما قبله، لأنه ذكر أهله في أوطانه، والأهل محببون إلى الإنسان، والأوطان طيبة، فكأنه قال: لا ينبغي أن يخص الأهل بالحب، بل كل من أولاك الجميل فهو محبب، ولا ينبغي أن يخص الوطن بالطيب، بل كل مكان يحصل لك العز فيه فهو طيب.

وقوله: الطويل سللت سيوفاً علمت كل خاطب ... على كل عود كيف يدعو ويخطب ذكر فيه معنى؛ وهو أنه رأى الناس ما صنعت سيوفك، أدعوا لك، ودعوا لك، رغبة ورهبة. وأقول: إنه يحتمل معنى آخر، وهو أن يستعير لسيوفه نطقاً تعلم منه الناس كيف يخطبون، ونطقها ضرب رقاب أعدائه، فجعلها، وهي خرس، تعلم الناس النطق كقوله: الطويل يحاجى به ما ناطق وهو ساكت ... يرى ساكتاً والسيف عن فيه ناطق وقوله: البسيط نواطق مخبرات في جماجمهم ... عنه بما جهلوا منه وما علموا وقوله: الطويل وعن ذملان العيس ما سامحت به ... وإلا ففي أكوارهن عقاب قال: أي أنا غني عن الأوطان، وعن ذملان العيس. ثم ابتدأ كلاماً فقال: إن

سامحت بذملانها، ركبتهعا، وإن لا تسامح به، وإلا ففي أكوارهن عقاب، أي: أنا أقدر من السير والتصرف على ما لا تقدر عليه. وهذا قول الجماعة. أقول المعنى غير ذلك وهو ما ذكرته في مآخذ أبي العلاء وقوله: الطويل. وأكَثرُ ما تلَقَى أبا المِسكِ بِذلَةً ... إذا لمِ إلا الحديدَ ثَيابُ ذكر معناه، وهو أنه أشد ما يكون تبذلاً، إذا كان غيره أشد اتقاء. وأقول: لعله قص إلى وصفه بالخرق موجها للمدح كعادته فيه، وكأنه علم بقضية كثير مع عبد الملك بن مروان، وقد مدحه بقوله فيه: الطويل.

على ابنِ أبي العَصِي دِلاصُ حَصِينة ... أجادَ المُسدي نَسجَها فأذَالهَا فقال له: هلا قلت كما قال الأعشى: الكامل. وإذا تكونُ كَتِيبة مَلومَةُ ... شهباءُ يَخشَى الذائدُونَ نِهَالَهَا كنت الُقَدومَ غير لا بِسِ جُنةٍ ... بالسيفِ تَضربُ مُعلماً أبطَالَها فقال: إنه وصفه بالخرق، ووصفتك بالحزم! وقوله: الكامل وفَشَت سَرَائرنُا إليك وشفَنا ... وتَعريِضُنا فَبدا لك التصريِحُ ذكر فيه وجوها اختار منها: أنا لما جهدنا التعريض، استروحنا إلى التصريح؛ فانتهك الستر. وأقول: وقوله: انتهك الستر هو قول أبن ني وقد ذكره في شرحه.

وقوله: الكامل نَازعْتُهُ قُلصَ الركابِ وركبهاَ ... خوفَ الهلاك حدُاهمُ التَسبيحُ قال: المعنى: نازعتهُ بقطعي إياهُ، وأعطيتهُ بما نالَ من الركابِ. وأقولُ: وهو قولُ ابن جنيً، وقد ذُكرَ المعنى هناك. وقوله: الطويل يمشي به العكازُ في الديرِ تاَئباً ... وما كانَ يَرضيَ مشْيَ أشقرَ أجرُداَ قال: هذا البيت فيه قلْب، وإنما أصل الكلام: يمشي في الدير بالعكار، إلا أنه لما كانت تؤديه إلى المشي، جار أن تجعلَ هي الماشيةَ كقولهم: ليلُ نائم، لما كان مؤديا إلى النوم. وأقولُ: إنه لم يرد هذا، وإنما أراد أنً الدمستقَ لما تَرهبَ خوفاَ من سيف الدولة، مشَى معتمداً على عكارِ فعلْ الرهبان، فجعلَ العكارَ، لاعتمادهَ عليه، بمنزلةِ الدابةُ التي تحملهُ وتمشي به، بعد أن كان لا يرضى أن يمشي به فرس كريمّ وهذه استعارةٌ ومجازُ. فعلى ليس قلبُ في البيت وإنما هو الفهم!

وقولهُ: الطويل رأيتك مَحْضَ الحَلمِ في محضِ قدُرةِ ... ولو شئتَ كانَ الحلمُ منك المهندُا قال: أيْ حلمكَ عن الجُهالِ عن قدرةِ، ولو شئت لسلكَ عليهمُ السيف أقول: وليس كذلك، وإنما هو: لضَربتَ أعناقهمُ، وقد فسًرهُ بقولهِ بَعدهُ: وما قتل الأحرار كالعفوْ عنهم. وقوله: المنسرح يا ليستَ بي ضَربهَ أتيحَ لهاَ ... كما أتيحتُ له مُحمدهاُ ذكر فيه عن المعري معنببن، وقد بينا في شرحه ما في ذلك.

وقوله: الخفيف فرَؤوسُ الرماحِ أذهبُ للغياظ ... وأشفىْ لغلِّ صدرِ الحقودِ قال: كان الوجه أن يقول: أشد إذهاباً للغيظ؛ لأنه رباعي، ولكنه جاء به على حذف الزائد، على أنه لو قال: أذهب بالغيظ لا ستغنى عن هذا القول. يقول: إنه إذا عداه بالباء جعله ثلاثيا، فجار أن يبني منه أفعل، فيقال: ذهبت به وأنا أذهب به

وقوله: الكامل اليومَْ عَهُدكُمُ فأينَ الموعدُ ... هيَهْات ليسَ ليوْمِ عهْدُكمُ غَدُ اشتغلَ عن المعنى بلفظ هيهات، وهيهات أن يدركه (هيهات)!! وذكر قول ابن جني، وقد ذكرت ما فيه في موضعه. وقوله: (الكامل) فرأيتُ قرنَ الشمس في قَمرِ الدُجىَ ... متأوداً غُصْنُ به يتأوَدُ ذكر فيه معنيين عن المعري، والمعنى، الصحيح ما ذكره الواحدي، وهو أنه شبهَ وجهها في بياض لونه بالقمر، والصفرة التي عرضت فيه من الحياء بالشمس أول طلوعها

وقوله: الكامل فلهُ عَبدْ العزيز بن الرُضا ... ولكلُ ركْبِ عيسُهمْ والفدْفَدُ قال: الهاء في (له) راجعة إلى الممرض، وإنما يعني نفسه؛ أي: إنه قد اختار هؤلاء القوم دون غيرهم وترك المقاصد لمن يريدها من الركبان. وأقول: إن معنى هذا البيت لم يحققه أحد من الجماعة، وهو أن الممرض الذي هو المتنبي له بنو عد العزيز ولكل ركب ساروا إليهم عيسهم والفدفد؛ أي: العيس التي يسيرون عليها والفدفد الذي يسيرون فيه لهم، وهذا مثل قوله: أسيرُ إلى أقطاعهِ في ثيابهِ ... على طِرفهِ من دارهِ بحسامه وقد ذكرتهُ قبل. وقوله: الكامل في كل مُعتْركِ كُلي مَفريةٌ ... يَذممنْ منهُ ما الأسنةُ تَحمدُ

قال: ذم الكلي هذا الفعل. يريد أنه يفعل بها فعلا قبيحا من الفري، وإنما الذم من أصحابها، ولكن لما كان ذمهم لأجل فريها، جار أن يستعار الذم لها. قوله: . . . . . . ما الأسنة تحمدُ لو وضع موضع الأسنة غيرها، لكان ذلك أقوى في النظم؛ لأن الأسنة لا تنتفع بالمفري، وربما تحطمت فيه. ولكن لما كان الممدوح يفعل الأسنة ما يحمد عليه، جار أن ينقل إليها الحمد لأنها كالخدم له. وأقول: انظر إلى هذا التفسير، وما فيه من قلة التحصيل، (وكثرة) الجهل باستعارة العرب! والذم والحمد من الكلي والأسنة، ليس حقيقة، وإنما هو مجار واستعارة. والمعنى ما قاله الواحدي؛ وهو أن الكلي تذم الممدوح لأنه يقطعها، والأسنة تحمده لإصابة الطعن، وجودة الشق بها وهذا مثل قوله: (الرمل) ما يجيلُ الطرُف إلا حَمدتهُ ... جهدَهاَ الأيدي وذَكتهُ الرقابُ وأقول: إنه يحتمل أن يكون الضمير في قوله: (منه) راجعا إلى المعرك، فيرجع الذم إليه، وهو أحسن من رجوعه إلى الممدوح، ويكون ذم الكلي لأنها تفري، وحمد الأسنة لأنها تروى.

وقوله: (الوافر) أحادُ أم سُداسٌ في أحادٍ ... لُيَيلَتُنَا المُنوطةُ التَناد ذكر فيه أقوالاً معانيها لا تطاق اللفظ. والصحيح، ما قاله الواحدي؛ وهو أنه استفهم فقال: أواحدة هذه الليلة، أم ست في واحدة؟ وأراد ب (في) معنى الظرفية، كأنه قال: ست مستقرة في واحدة، ولم يرد الضرب الحسابي، وإذا كان كذلك فهي سبعة، وتلك أيام الدهر (الدائرة) المتصلة بالقيامة. وقوله: (المتقارب) فَوَلى بأشْيَاعِه الخَرْشَنِيُ ... كشاَءٍ أحسن بزارالأسود قال: الشاء يستعملونه مذكراً، ولو أنت لم يبعد ذلك. واختلفوا في أصله فقالوا في همزته أنها بدل من هاء، واستدلوا على ذلك بأنهم يقولون في تصغير شاة: شويهة،

ويقولون في الجمع: شياه، فتظهر الهاء وأقول: إن هذا يخالف قول سيبويه، وذلك لم يجعل شاء من الجمع الذي ينه وين واحدة التاء، لو قال إن شاء من بنات الياءات والواوات التي تكون لا مات، وشاة من بنات الياءات والواوات التي تكون عينات ولامها هاء. وقال: إن ذلك منزلة امرأة ونسوة ليست على لفظ امرأة: أي أنه اسم للجمع، فشاء منزلة جامل وباقر وليس منزلة تمر وتمرة فإذا كان كذلك، فلا يجوز أن يؤنث؛ لأن تصغيره شوى فلا يكون كالنخل، ولا يقال في همزته إنها بدل من هاء وقوله: الوافر مَتىَ لَحظتْ بياضَ الشَّيِب عيْني ... فَقدْ وَجَدتْهُ منها في السوادِ ذكر ما ظن أنه المعنى لفظ عجيب، أنا أذكره لك وهو: أي: أني إذا لحظت بياض الشي فكأني لحظت به بياضا في سواد عيني، ولا يمكنه أن يلحظ سواد عينه إلا في المرآة، ولولا أنه بين سواد العين في هذا البيت، جاز أن يحمل على سواد القلب

ويكون نحوا من قول الطائي: الخفيف شَاَبَ رأسيَ وما رأيتُ مشَيبَ الرَّا ... سِ إلا من فَضلِ شيب الفؤادِ إلا أن الطائي جعل شيب فؤاده متقدماً شيب رأسهِ، وأبو الطيب جعل البياض في سواد عينه من أجل حزنه. وأقول: أنظر إلى هذه المشابهة بين البيتين وبعدها! بل لا مشابهة البتة، ولا إقامة صورة لفظ صحيح، ولا معنى صحيح! وقول أبي الطيب من قول ابن المعتز: البسيط في كلً يَومِ أرى بيضَاء طاَلعةَ ... كأنماً نبَتْ في باَطنِ البصر إلا أنه زاد عليه بالطباق. والمعنى: أن عيني إذا رأت الشعر الأبيض في رأسي أو لحيتي؛ فكأنما لم تجده نابتا هناك، بل كأنه نابت في سوادها. وهو توهم أن رؤية الشعر الأبيض في سواد العين كأنه حقيقة؛ وذلك لا يمكنه إدراكه إلا بالمرآة وليس كذلك، بل هو استعارة ومجاز. وجدير لمن لم يضرب في الشعر بسهم، ولم يقف منه على رسم، ولم يعرف منه غير اسم، أن يفسره هذا التفسير، ويعبر عنه بهذا العبير!!

وقوله: المتقارب مهَذبةُ حُلوةُ مُرةُ ... حَقرْنا الَبحارَ بها والأسودا قال: مهذبة: لا عيب فيها: حلوة: لأن كل أحد يعشقها. مرة: لأن الوصول إليها صعب، لبذل المال والمخاطرة بالنفس. وأقول: إنما أراد: حلوة بالجود، مرة بالبأس، وقوله: . . . . . . حقَرناَ الحارَ بها والأسودا مرت على ذنبك، مفسر لهما. وقوله: المتقارب وأنتَ وَحيدُ بني آدمِ ... ولَستَ لفقْدِ نظيرهاٍ وَحيداَ ذكرَ قَولَ ابنَ جني قال: أدعى الوحدة في أول البيت ثم قال: . . . . . . ولستَ لفَقْدِ نظيرٍ وَحيداَ أي: إن الناس يشاركونك في الصورة الإنسية، وفي الأشياء التي يشترك فيها

العالم؛ كالنوم والطعام والشرب، فإذا جاء السؤدد والكرم، والشجاعة، وما يحمد عليه الرجال، كنت الأوحد. وأقول: والمعنى ما ذكر الواحدي؛ وهو أنه لم تصر وحيداً لأنك فقدت لأنك فقدَت نظيرا لك؛ بل كنت وحيدا مذ لم تزل، والوحدة صفة لازمة لك. وأقول: إنه نظر إلى قول الشاعر فعكسه، وهو: الكامل خلَتِ الديارُ فَسدتُ غيرُ مسودِ ... ومن الشقًاءِ تفرَدي بالسؤددِ وقوله: الطويل وطعنِ كأنً الطعنَ لا طعنَ عندهُ ... وضَرِب كأنً النارَ من حرهً بردُ قال: الهاء في عندهُ تعود على تعود على طعن الأول من صفته، والطعن الثاني اسم كأن وخبره الجملة بعدهُ والعائد عليه منها ضمير محذوف للعلم هـ كأنه قال: وطعن كأن الطعن لا طعن منه أو عنده. وأقول: إن العائد على أسم كأن غير ضمير يقول مقام المضير، وذلك أنه لما قال: كأن الطعن لا طعن نفي عاماّ، فعاد من الثاني إلى الأول لعمومه ودخول الأول تحته عائد معنوي، ومنه: الطويل

وأما الصدرُ لا صُدورَ لجعْفر ... وأما القَتالُ لا قَتالَ لَديكمُ ومثله: نعم الرجل زيد، العائد إلى زيد المبتدأ، لما في الرجل من عموم الجنس. وقوله: الطويل بنفَسي الذي لا يزُْدهيَ بخدَيعةٍ ... وأنْ كَثُرتْ فيها الذًرائع والقصدُ ذكر فيه قول ابن جني: إن هذا البيت موجه، وأنه يريد به الهجو؛ أي: نفس غيرك أيها الممدوح؛ لأني أنا أزدهيك بالخديعة، وأسخر منك هذا القول، وأن هذا مثل مدحه في كافور وأنه موجه. وأقول: وهذا قول مرغوب عنه؛ لأنه في غاية الوهن والضعف وقلة التأمل والتحصيل. ولو سلكت هذه الطريقة في تأويل الشعر، لأمكن أن يحمل كثير من المديح على الهجو، وإنما يعلم ذلك قرائن الأحوال، وعلامات الإشكال. وقوله: الطويل ألوم به من لامنَي في وِدَادهِ ... وحُقً لخيرْ الخَلق من خَيرهِ الوُدُ قال: هو خير الخلق، وأنا كذلك، وحقيق على أهل الخير، أن يود عضهم بعضا، فحقيق علي إذا أن أوده.

وأقول: فجعل الضمير في قوله: من خيره راجعا إلى المتنبي، والأجود أن يرجع إلى آبائه الذين تقدم ذكرهم، فيكون الممدوح خير الخلق، مستخرج من خير الخلق، وإن كانت حمامة المتنبي تقضي ما ذكره، إلا أن هذا الأحسن، وقد ذكرته في شرح الواحدي وقوله: الطويل كذا فَتنحوًا عن عليً وطرُقهِ ... بني اللُومِ حتى يعترُ الملكُ الجعُد قال: الجعد إذا وصف به الرجل فإنما يراد هـ أنه مجتمع وليس بسبط؛ يريدون صفة حاله التي هو عليها، والسباط أحمد عندهم، قال الراجز: الرجز قالتْ سُليمىَ لا أحبُ الجعْدينْ ولا ألفظَاظ إنهم مَناَتينْ وأقول: إن الجعد قد استعمل مطلقاً في الكريم، وهو مأخوذ من قولهم: ثرى جعد لكثرة نداه0 قال بعض العرب يصف مطرا: مجزوء الكامل رأيت غيثَا مَعدا ... مُتراكِبا جَعد

فإذا أضيف فقالوا: جعد اليدين، أو: جعد الأنامل، وأرادوا هنا البخيل، وربما استعمل مطلقاً في الخيل؛ قال الراجز: لا تعذلني في ظُرُب جَعدِ وقوله: الطويل: كذلك أخلاقُ النساء ورُبما ... يضل ها الهَادي ويخَفَى ها اللاُشدُ قال: أخلاق النساء يخلبن في أول الأمر فإذا تملكن قلوب الرجال نكصن عن وصالهن. وأقول: ليس الأمر كما ذكر، بل أشار إلى ذلك ما تقدم من صفاتهن؛ فإن أخلاقهن تخالف أخلاق غيرهن، وأفعالهن لا تجري على سنن واحد وقياس مطرد. وقوله: الطويل وشهوة عَودٍ إن جُودَ يميِنهِ ... ثُناءُ ثُناءٌ والجَوادُ بها فَردُ

قال: ترك صرف ثناء الأولى قال: ترك صرف ثناء الأولى على ما يجب، وصرف الثانية ضرورة لأنه لو لم يصرفه لصار في البيت رحاف يسمى القض، وكان أبو الطيب يجتنبه. أقول: يعني في مفاعيلن وأما وإما فعولن فإنه قد جاء فيها القبض في أول البيت، وفي أول النصف الثاني بترك صرف ثناء الأولى على ما ذكر. وأقول: إنه لا ضرورة في ذلك؛ لأنه جاء كثيراً من أشعار العرب وغيرهم. إلا أن يجعله ضرورة لما التزمه أو الطيب، وهو غير لازم، في شعره، أو أنه سمع من لفظه صرف الثاني وترك الأول. وإنما حسن القبض في فعولن دون مفاعيلن لأن سببه يعتمد على وتد قله ووتد بعده، ومفاعلن أحسن من مفاعيل؛ لأن القبض زحاف في السبب الأول، فيعتمد على وتد معه في الجزء، وليس كذلك مفاعيل؛ لأن الكف في السب الآخر، فيعتمد على الوتد الذي بعده في الجزء الذي يليه. وشيء آخر، وهو أن مفاعيلن تشابه العروض، فحسن ذلك لتواليهما على وتيرة واحدة. وقوله: الطويل وعندي قَباطيُ الُهمامِ وماَلهُ ... وعندهمُ مما ظفرتُ به الجحْد قال: - وذكر المعنى عن ابن جني: دعاء عليهم بأن لا يرزقوا شيئاً، أو يجحدوا ما رزقوه إن كانوا رزقوا شيئاً، ليكون سبباً لانقطاع الخير عنهم.

وأقول: الصحيح أن قوله: . . . وفي يَدهَمِ غيَظٌ وفي يَدهِ الرُفدُ والبيت الذي بعده إلى آخره في موضع الحال من قوله: . . . ألقى الحاسدين بمثلها. . . . . . فلا يكون دعاء عليهم. ويكون المعنى: ألقى الحاسدين في حال قباطي الهمام عندي، وعندهم الجحد مما ظفرت به من جوده حسدا لي ذلك، وذلك مشهور من الحاسد أن يقلل ما ظفر به محسوده، أو ينفيه عنه جملة. وقوله: البسيط ما يقَضي الموتُ نفَساً من نُفوسهمُ ... إلاَّ وفي يَدهِ من نتنَهْاَ عُودُ قال: يحتمل وجهين: أحدهما وأحسنهما: أن يكون العود مرادا الذي يتبخر به؛ لأنه يدفع ما يكره من رائحة الميت إيقاده.

والآخر: أن يكون أراد عودا من العيدان؛ لأن من عادة الإنسان إذا كره أن يمس شيئاً استعان على قلبه ونقله عود من عيدان الشجر. وأقول: إن الوجهين اللذين ذكرهما في نهاية الضعف والغثاثة، في أن الموت إذا أراد قبض نفس من نفوسهم خر يده بعود أو مس النفس بعود! والمعنى غير ذينك، وهو أن الموت إذا ظفر بنفس من نفوس هؤلاء اللئام، فقبضها بيده عد نتنها في يده كأنه طيب، سروراً بظفره بها لأن اللئيم كأنه يمتنع على الموت بلؤمهِ وقوله: الخفيف يَنثنيَ عنك آخرَ اليوم منه ... ناظرُ أنت طرَفهُ ورقاَدُهُ ذكر فيه معنى عن ابن جني: أي إذا انصرف عنك آخر اليومخلف عندك طرفه ورقاده، فبقي بعدك، بلا لحظ، ولا نوم إلى أن يعود إليك. وأقول: وقد استقبح هذا، وأن يعود عنه أعمى ساهراً، والمعنى قد ذكرته في موضعه من شرحه.

وقوله: الخفيف نحن في أرضِ فَارسِ في سرورِ ... ذاَ الصًباحُ الذي يُرىَ ميلادُهْ قال: فكأنه لنا كل يوم ميلاد؛ فنحن كل يوم في سرور؛ لأن الصباح كل يوم يرى. وأقول: كأنه أراد بالصباح الجنس؛ أي: الصباح الذي يرى كل يوم، وليس كذلك، بل هو صباح يوم النوروز. يقول: نحن في أرض فارس في سرور، ميلاد يوم النوروز. وإنما خصه بالذكر تعظيماً له؛ لأنه يوم عيد عظيم عندهم، فجعله ميلاد السرور؛ أي: كأنه ولد فيه. ولا يمنع، إذا كانوا في سرور، يوم النوروز أوله، أن يكونوا في سرور آخر قبله. وقوله: الخفيف كُلماَ قال نَائلٌ أنا منهٌ ... سَرفَ قال آخرٌ ذا اقتصادهٌ قال: أي: كلما استعظم النائل نفسه، استصغره نائل آخر لما يجده في نفسه من العظم. وأقول: إن المعنى: أنه كلما استكثر منه نائل، قلله آخر بعده، واستعار للنائل قولا بلسان الحال، دليلا على كثرة كقوله: الرجز

امتَلأ الحَوضُ وقالَ قطَني مهلاُ رُويداً قد ملأتَ طني وقوله: الخفيف ورَجتْ راحَةً بنا لا تَراها ... وبلادّ تسيرُ فيهاَ بلادُهُ قال: أي هذه السواقُ رجت أن تستريح إذا صارت إلينا؛ لأنها كانت متعبة عنده بالطراد، ودعا عليها أن لا تنال ذلك. أنا نتعبها؛ لأنا نتع سيرته، ونفعل كما يفعل من طراد الأعداء. قال: وهذا معنى مستطرف؛ لأنه كان ينبغي لهذه الخيل أن تستريح ما دامت في بلاد الممدوح؛ إذ كانت آمنة من الأعداء، فإذا خرجت منها، جار أن يحتاج أربابها إلى قتالها. وأقول: إن قوله (لا تراها) ليس بدعاء، بل هو نفي على غير وجه الدعاء وأما قوله: إن هذه الخيل ينبغي أن تستريح ما دامت في بلاد الممدوح، إذ كانت آمنة من الأعداء. فيقال فهي وإن كانت آمنة من جهة الأعداء، إلا أنه يريد أن تكون الأعداء آمنة من جهتها. وما ذلك إلا بسيرها إليها، وإغارتها عليها. وإذا كانت كذلك، فلا تستريح فهذا الإلزام غير لازم، والمعنى ذلك، وهو ما ذكره ابن جني

وقوله: الخفيف هل لُعدوي إلى الُهمامِ أبي الفضلِ ... قَبولُ سَوادُ عينيَ مَدادهُ ذكر قول ابن جني وهو أني رضيت أن يجعل المداد الذي به قبول عذرة، سواد عيني حبا له واعترافا بالتقصير. وذكر الواحدي أن قوله: . . . . . . سواد عيني مداده دعاء لابن العميد، لأنه كاتب. وأقول: إن الجند؛ أن يكون سواد عيني، في قول ابن جني، في موضع الحال من العذر طرح الواو كقول المسيب: الكامل نَصَفَ النهاُر الماءُ غَامرهُ ... ورفيقُهُ بالغْيبِ ما يدري أي: أعتذر إليه، في حال عذري، بسواد عيني، لا بالمداد؛ تقربا إليه فهل يقبله على هذا الوجه؟ وهذا في غاية التلطف ونهاية التحبب

وقوله: الخفيف إنَّني أصيدُ البُزاةِ ولكنْ ... نَ أجلً النُجومِ لا أصطادُهْ قال: لو استوى له أن يقول: أعلى النجوم لكان الألبق قلت: وأقل شاعر يستوي له أن يقول ذلك، أن تزيد ياء فيقول: ولكني أعلى النجوم. . . . ولو قال أبو الطيب ذلك، لدخل عليه السها وما أشبهه من النجوم الخفية في تشبيه الممدوح أو تشبيه صفاته وشرفه، وذلك قبيح جدا. وإنما أراد بأجل النجوم الشمس، وهذا النقد على أبي الطيب نقد غير صراف وقوله: الخفيف غَمَرتْني مَواهبُ شَاَء فيها ... أنْ يكونَ الكلامَ مما أفادُهْ

قال: أي تعلمت منه حسن القول فيما أفادني. فهذا الكلام تفسيره البيت الذي يليهوهو قوله: الخفيف ما سَمعْنا بمن أحًب العَطاَيا ... فاشتْهىَ أن يكونَ فيها فؤاده أي: كلامه الحسن نتيجة عقله وقلبه، فكأنه إذا أفاد إنسانا وهب له عقلا ولبا. وأقول: ليس بين البيت الأول والثاني تعلق، لأنه إن جعل قوله: فؤاده نتيجة عقله لأنه محل العلم، أو ما ذكره الواحدي، أن يعني بفؤاده ما أفاد من العلم، فذلك غير جائز، لأن ذلك يشتهي أن يعطي، ولا يمتنع العطاء فيه، لأنه يحسن أن يسمع بفؤاده منها علوم. فالبيت الأول غير مفسر، والمعنى: غمرتني: أي: غلبت قولي منه فوائد، إذ أن يكون الذي أجازيه به منها، وأمت به إليه من جملتها، وذلك حسن الكلام في دقة التنقيح وجودة التنبيه، على المآخذ التي أخذها عليه، كما ذكر. والبيت الثاني قائم نفسه، وهو أن الممدوح جواد معطاء، وما سمعنا بمن أحب العطايا فاشتهى أن يجعل فيها قلبه، وهذا المعنى مطروق مشهور، وقد أكثرت الشعراء منه نحو قوله: يجود بالنفس إن ضن الجواد بها ..........

وقوله: الطويل ولو أن ما في كفه غير نفسه ............ ونحو ذلك، فأقام القلب مقام النفس. وقوله: الطويل نسيتُ وما أنسىَ عتاَباً على الصًدٌ ... ولا خَجلاً زَادتْ به حُمرةُ الخَد قال: وفيت بمن غدر بعهدي رَوَىَ ابن جني: نسيتُ وفسره بهذا والأكثر نسيت يقول: نسيتُ كل شيْ، ولم أنس عتاب حبيب لي على صده قديما عند اجتماعي به، وإنما قال ذلك لطيبه؛ لأن عتاب الحبيب على صده وإعراضه طيب، ولا سيما عند اجتماعه؛ ووصاله له، ولذلك بما بعده عاطفا من قوله: ولا خفرا ولا ليلة

وقوله: المنسرح اختْرتُ دَهْماَء تَينِ يا مطرُ ... ومنْ له في الفَضائلِ الخيرُ قال: موضع من نصب؛ لأنها تكون معرفة ونكرة. وهي هاهنا واقعة موقع النكرة لأنها موصوفة بقوله: . . . . ومنْ لهُ في الفضائلِ الخُيرُ كقوله: السريع يا رب من يبغِضُ أذوادنا ... رُحن على بَغضَائِهِ واغتدين وأقول: إن الأولى أن تكون معروفة؛ لأنه قد عطفها على معرفة، وهي قوله يا مطر وتكون بمعنى الذي. ويجوز أن يكون موضعها نصاً ورفعا على قولك، يا زيد والحرث والحرث. وقوله: المتقارب كأني عَصَت مُقلتَي فيكُمُ ... وكاتمتِ القلبَ ما تُبصِرُ

قال: لا تخشوا أن أظهر سرا؛ فإن بعض جوارحي، لا يفشي إلى بعضها، ما تعلم من أخباركم، فالعين هي التي تدل القلب على ما تبصر، فكأنها لا تعلم بشيء لما تؤثره من فرط الكتمان. وأقول: إن قوله: كأني عصت مقلتي. . . . . . . . . . . . . إشارة إلى ما ذكر أن القلب في الجسد وأن الجوارح والأعضاء، بمنزلة الخدم والأعوان له؛ إليه تؤدي وعنه تأخذ، فعلى هذا ينبغي للعين أن تؤدي إلى القلب ما تبصر، فكأنه عيني خالفت هذه الطريقة، فعصت القلب وهي من بعض أعوانه، فلم تؤد إليه ما رأت من الأحبة حفظا لسرهم، وصيانة لحبهم، فما ظنك بغير القلب من الناس؟ وذلك نهاية في كتمه السر، وحفظه الحب، والمعنى ما ذكره إلا أنه بهذه العبارة. وقوله: المتقارب سماَكَ هَميُ فَوقَ الُهمومِ ... فَلستٌ أعُدُ يَساراً يسَارَا

ذكر فيه أن اليسار من المال، وقد ذكره غيره وزاد فيه بأن قال: والأحسن أن يحمل الكلام على الشعر، كأنه يقول: وإن كنت أقدر على أن أقول ما تيسر من الشعر، فلا أعد ذلك يسارا منه، إذ كنت لا أقنع الأبيات ولا أرضى بمدحك إلا القصائد، وأني لا أرضى بالقطعة التي هي كالدرة الصغيرة، حتى أني بقصيدة تشبه ما كبر من الدر. وأقول: انظر إلى هذا التفسير الذي لا يقوله محصل، ولا يرضا، وترك حمل المعنى اليسار في الحال، ومطابقة البيت الثاني لما وطأ له في البيت الأول يدل على حذق الشاعر وإتقانه! وأقول: إنه استزاد سيف الدولة في العطاء استعظام سيف الدولة في قوله: المتقارب ومن كنت بحرا له. . . . . . . . أي: إذا كنت أكبر بحر، لم أقبل منه أكبر در؛ لا أقنع بالعطايا الصغار، ولا أقبلها إلا كبارا؛ لأن عظم يقتضي عظم على وجه المشابهة والمشاكلة. وقوله البسيط تَشْيهُ جُوكَ بالأمْطارِ غَاديةً ... جُودُ لكَفكَ ثَانٍ نَاَلهُ المَطرُ

قال: معناه إذا شبه جودك بالمطر؛ فذلك جود منك عليه. ولو أمكن الوزن لكان قوله: تشبيه الأمطار بجودك أول في النطق. وأقول: إن الذي قاله أبو الطيب هو الأولى؛ وذلك أنه إذا جاد على إنسان بجود استكثر جوده، فشبه لكثرته فقيل: كأنه المطر، وتشبيه جوده بالمطر وقد جاد على سائله جود ثان على المطر كيف شبه وهو أشرف منه؟ إذ العادة جارية بأن الأدنى يشبه بالأعلى ولا ينعكس. وقوله: الوافر عَدوُي كلُ شيء فيكِ حتى ... لَخلتُ الأكْمَ موُغَرةَ الصُدورِ قال: معناه يحتمل وجهين: أحدهما: يريد أن الأكم تنبو به ولا يستقر فيها ولا تطمئن به كأن ذلك لعداوة بينهما.

والآخر، وهو الوجه: أن يكون أراد شدة ما يقاسي منها من الحر، فكأنها موغرة الصدر من شدة حرارتها. ويؤكد ذلك قوله فيما تقدم: الوافر . . . . . . والصْبُ حُرً وَجهين للَهجيرِ وأقول: هذان المعنيان، ذكرهما الواحدي، وذكر كلام ابن فورجة عليهما، ورده لهما. وذكر من عنده معنى كان دونهما. والمعنى الصحيح ما ذكرته هناك وقوله: الطويل وَخَرقِ مكانُ العيسِ منه مَكانناُ ... من العيسِ فيه واسطُ الكُورِ والظّهرُ قال: قوله: . . . مكان العيس فيه مكاننا أي: العيس في وسطه، ونحن في وسطه. ثم فسر مكانه ومكان أصحابه بقوله: الكور والظهر والمعنى أن الإبل كأنها واقفة في هذا الخرق، ليست تذهب فيه، ولا تجيء وذلك لسعته، فكأنه ليست تبرح منه، فنحن في ظهور هذه الإبل، لا نبرح منها

في أوساط أكوارها وكذلك هي، كأن لها من أرض الخرق كورا فقد قامت به لا تبرحه. ألا تراه يقول بعد ذلك:. . . وذكر البيت. وأقول: هذا الذي ذكره معنى ابن جني وليس بشيء! والمعنى: إن هذا الخرق مكان العيس منه وسطه، لقوله بعده: الطويل يحدْنَ بنا في جَوزِهِ. . . . . . وقوله: مكاننا من العيس، يعني وسط الكور والظهر، فكما أن مكننا من العيس وسط كورها وظهرها، فكذلك هذه الإبل، مكانها وسط الخرق، فكان هذا الخرق لسعته، لا تقطع العيس منه بسيرها شيئاً، فتصل إلى طرفه تسري ولا تبرح في وسطه. وشبهه في البيت الثاني بالكرة، والكرة ليس لها طرف ثم قال: . . . . . . . . . . . . أو أرضه معنا سفرُ أي: تسير بسيرنا فلا تقطع منها شيئاً، وقد ذكره الواحدي. وقوله: الطويل ولا ينَفعُ الإمكانُ لولا سَخاؤهُ ... وهَلْ نَافعُ لولا الأكفُ القناُ السمرُ

قال: لولا سخاؤه ما أنتفع الناس بإمكانه وغناه؛ لأنه قد يكون الإمكان مع الشح فلا يقع نفع، كما أن القنا لو لم تحفره الأكف لما عمل. وأقول: والأولى أن يجعل النفع بالإمكان للممدوح؛ أي: لا تنفعه كثرة المال لولا جوده، فجعل المال بمنزلة الرمح، والسخاء منزلة الكف، ولولا الكف ما نفع الرمح. وقوله: الطويل إذا وَرَمتْ من لسعةٍ مَرَحتْ لها ... كأنً نوالاً صر في جلدهاَ النبًرُ قال: هذا الناقة إذا لسعها الذباب مرحت لذلك، كأنها تفرح، فكأن الورم الذي يحدث فيها نوال صره في جلدها وأقول: وعندي في هذا المعنى زيارة فيه وتحرير له، وذلك أنه وصفها بالمرح، وهو من شدة الفرح من صفات من يعقل، جعل الورم من لسع النبر بمنزلة الصرر من النوال التي يفرح بها من يعقل، فهي، حال لسع الذباب لها، وألمها بها، وقلقها منها، كأنها مرحة المتألمة قلقة. وهذا التفسير ينظر إلى قوله سبحانه:

إني رأيتٌ أحدَ عَشرَ كَوكباً والشمسَ والقَمر رأيتهمْ لي ساجدينَ لما وصف الكوكب بالسجود، وهو من صفات من يعقل، جمعها جمع من يعقل. وكذلك أو الطيب لما وصف الناقة بالمرح، وهو من وصفات من يعقل، جعل الورم في جلدها كصرر النوال التي لا يفرح بها إلا من يعقل. وقوله: الطويل غَداَ الناسُ مثْلهمْ به لا عَدِمتْهُ ... وأصحَ دَهْري في ذُراهُ دُهُورا قال: قوله: . . . . . . . وأصبحَ دَهريِ في ذُراهُ دُهُورا فيه زيادة على ما ذكره في الأول - يعني قوله: ووقت وفي بالدهر. . . . . . . . أي: جعل الوقت وافيا، وجعل الناس مثيلهم بالممدوح، وجمع الدهر فبالغ فيه أكثر مما بالغ فيه أكثر مما بالغ في الممدوح؛ لأن الجمع أكثر من التثنية إذ الجمع لا نهاية له.

وأقول: كأن هذا نقد منه وأخذ عل أبي الطيب. والجواب أن الوقت الذي ذكره وقت شره معه ومنادمته له، فجعل الوقت أنه بالدهر لطيبه وحسنه، لا لطوله، فإن أوقات السرور إنما توصف بالقصر لا بضده، وقوله: . . . . . . . . . و. . . دَهري في ذُراهُ دُهورا ليس على ما ذكره من الطول، بل لأنه عظمه بعظم الممدوح فجعله كأنه دهور كثيرة، قد اجتمعت دفعه واحدة كاجتماع أشخاص كثيرة وأما تثنيته قوله: (مثليهم) فذلك لأنه قال في البيت الأول: الطويل . . . . . . . عند واحدِ ... وفيَ لي بأهليهِ. . . . . . . . . فجعله مثل الناس فكانوا على هذا: الناس به مثيلهم، وليس في تثنيه الناس نقص عن الجمع في الدهور كما ذكر؛ وذلك أنه جعل الممدوح، وهو أحد، بمنزلة الناس، كما أنه جعل الدهر، وهو واحد بمنزلة الدهور، فقد تماثلا في ذلك ولم تحصل الزيادة للدهور. وهذا المعنى قد كرره في شعره بألفاظ مختلفة، والأصل فيه قول أي نواس: وليسَ على اللهِ مستنكْرِ ... أنْ يجمْعَ العَالمَ في واحدِ

وقوله: الكامل نافَستُ فيه صورةً في سترهُِ ... لو كنُنتهاَ لَخفيتُ حتُى يظهرَ قال: نافستُ: فاعلت، من قولهم: نفستُ عليه بالشيء إذا بخلت به، وهم يتنافسون في الشيء؛ إذا كان كل واحد منهم يريده، وينفس به على الآخر والهاء في قوله: (فيه) راجعة على المصور الذي هو الشخص قال: ولا يمتنع أنه يريد أنه (بمصور) أنه مصور في قلبه ممثل قال: وهذا البيت فيه مبالغة عظيمة، يراد شدة النحول. والمعنى أني نفست على هذه الصورة أن تقرب من ذلك المصور، ولو كنت تلك الصورة لخفيت من نحولي حتى يظهر من قد وارته وأقول: وهذا المعنى ذكره غيره

قال: ويحتمل أن يكون المراد مقصورا على صفة بالنحول، فيجوز أن يضاف وقوله: الكامل نافَسْتُ فيه صورةً في سِتْرِهِ ... لو كُنْتُهَا لَخَفِيتُ حَتَّى يَظْهَرَا قال: نافست: فاعلت، من قولهم: نفست عليه بالشيء إذا بخلت به، وهم يتنافسون في الشيء؛ إذا كان كل واحد منهم يريده، وينفس به على الآخر. والهاء في قوله: (فيه) راجعة على المصور الذي هو الشخص. قال: ولا يمتنع إنه يريد (بمصور) إنه مصور في قلبه ممثل. قال: وهذا البيت فيه مبالغة عظيمة، يراد بها شدة النحول. والمعنى أني نفست على هذه الصورة أن تقرب من ذلك المصور، ولو كنت تلك الصورة لخفيت من نحولي حتى يظهر من قد وارته. وأقول: وهذا المعنى ذكره غيره. قال: ويحتمل أن يكون المراد مقصورا على صفة نفسه بالنحول، فيجوز أن يضاف إليه إرادته بأن يظهر هذا المستور؛ لأنه قد حجب عنه بالستر. وأقول: أما قوله: (بمصور في القلب ممثل) فليس بشيء! لأن اللفظ لا يعطيه، ولا يدل عليه. وإنما أراد شخصا مصورا؛ أي: ممثلا، كالصورة لحسنه. والمعنى الذي ذكر فيه ما أراه يصح على ما قاله بعض العلماء: وهو أن العاشق لو كان مكان الصورة التي في ستر محبوبه لكان مواصله؛ قريبا منه، يعاينه، ويلاصقه، ويماسه، فكيف ينحل، مع هذا الحال، حتى يرق فيظهر محبوب محجوبه من ورائه؟ فيقال على هذا: أن العاشق قد يعرض له، في حال وصاله معشوقه، ما يكون سببا لنحوله من خوف الفراق، كما يعرض له في حال فراقه ما يكون سببا لنحوله من ألم البعاد، وهذا دليل على شدة العشق وهو قوله: الوافر ومَا في الأرضِ أشْقَى من مُحِبٍّ ... . . . . . . . . . أبيات الحماسة الأربعة.

وقوله: الكامل نُسِقُوا لنا نَسَقَ الحِسَابِ مُقَدَّماً ... وأتَى (فذلك) إذ أتَيْتَ مُؤَخَّرا لم يذكر معناه التبريزي، وهو ما ذكره الواحدي: وهو أن الحساب قد يذكر مفرقا بأعداده المستعملة فيه؛ يتبع بعضها بعضا، فإذا انتهى إلى آخرها، جمع ذلك المفصل وأشار إليه فقال: فذلك كذا إشارة إلى مجموع تلك الأعداد المتفرقة. وكذلك هذا الممدوح، هو مجموع من تقدم وتتابع من الفضلاء المتفرقين في الأزمان. ومثل هذا قوله: الخفيف ومن اللَّفْظِ لَفْظَةٌ تجمَعُ الوَصْ ... فَ وذاك المُطَهَّمُ المعروفُ

وقوله: الكامل وتَرَى الفَضِيلَةَ لا تَرُدُّ فَضِيلَةً ... الشَّمْسَ تُشْرِقُ والسَّحَابَ كَنَهْوَرا قال: هذا من التصنيف المبين لأن قوله: . . . . . . . . . ... الشمسَ تُشْرِقُ والسَّحَابَ كَنَهْورَا بيان لقوله: وتَرَى الفضيلةَ لا تَرُدُّ فَضِيلةً ... . . . . . . . . . وذلك أن الشمس لا تشرق إذا تراكم السحاب، وإن السحاب لا يمطر إذا أشرقت الشمس، فإحدى الفضيلتين رادة للأخرى، لأن المنفعة بالشمس عظيمة وكذلك بالسحاب. وأقول: إنه لم يبين المعنى بهذا القول، ولا رأيت غيره ذكره على ما ينبغي، إلا أن ابن فورجة قال: إن الممدوح جمع بين المتضادين؛ إذ وجهه كالشمس، ونائله كالسحاب. والمعنى إنه أثبت له في أول البيت فضيلتين، وأخبر أن أحدهما لا ترد الأخرى ولا تنفيها، وضرب لهما مثلا بالجمع بين شيئين حسنين متضادين من الشمس والسحاب فلا يكونان وجهه ونائله لأنه ليس بينهما تضاد، ولكنهما البشر والعطاء؛ وذلك أن مال الإنسان بمنزلة نفسه، فإذا أخرجه ربما تغير وجهه بإخراجه، فيقول: إن

الممدوح يعطي ماله، ولا يحدث له تغيرا كغيره بل بشرا، ولا ترد بشؤه كثرة عطائه، بل يجتمعان فيه ولا يتضادان، وإن كانا بمنزلة الضدين. فإن كان ابن فورجة أراد بوجهه بشره لأنه محله او وجهه ببشره فهو المعنى، وهذا مثل قوله: المنسرح القاتِلُ الواصِلُ الكَميلُ فلا ... بعضُ جَميلٍ عن بَعْضِهِ شَغَلهْ فواهبٌ والرِّماحُ تَشْجُرُهُ ... وطاعِنٌ والهِبَاتُ مُتَّصِلَهْ وقوله: الخفيف تَقْضَمُ الجَمْرَ والحديدَ الأعادي ... دونَهُ قَضْمَ سُكَّرِ الأهوازِ قال: أعداؤه يقضمون الجمر والحديد، مكرهين، لما يلقونه من شدته عليهم كما يقضم غيرهم السكر. وأقول: إنما خص الجمر والحديد بالذكر دون غيرهما؛ لأنه جعل أعداءه بمنزلة النعام في ذعرها منه وخوفها له. والنعام يوصف بذلك كقوله: الخفيف إنَّما مُرَّةُ بن عَوْفِ بن سَعْدٍ ... جَمَراتٌ لا تَشْتَهِيهَا النَّعَامُ

وقوله: الكامل إنْ كنتِ ظاعِنَةً فإنَّ مَدَامعي ... تَمْلاَ مزادَكُمُ وتُرْوِي العِيسَا قال: هذا نقيض قوله: البسيط ولا سَقَيْتُ الثَّرَى والمُزْنُ مُخْلِفُهُ ... دَمْعاً يُنَشِّفُهُ من لَوْعَةٍ نَفَسي لأنه هناك، ذكر أن نفسه ينشف دموعه، وهنا ذكر أن مدامعه تملأ المزاد وتروي العيس، وهذا يدل على كثرتها، وما عدمت الشعراء مثل هذا، وأنشد بيت زهير: البسيط قِفْ بالدِّيار التي لم يَعْفُهَا القِدَمُ ... بَلى وغَيَّرَهَا الأرواحُ والدِّيَمُ وقال: إنه رد على نفسه، وإن كان يمكن أن يخرج معنى قول زهير على غير الرد. وأقول: إن الذي ذكره لا يلزم أبا الطيب؛ لأن البيتين من قصيدتين، فلا يعد فيهما مناقضا، وكيف وتغزله بامرأتين يجوز أن يختلف حاله معهما في زيادة العشق ونقصانه فتختلف حال دمعه بكثرته وقلته. والذي ذكره من التناقض في قول المتنبي لا يشبه بيت زهير؛ لأنه معدود في محاسن الشعر لا في عيوبه، وذلك النمط يسمى الاستدراك.

وقوله: الكامل حَاشَى لمثلكِ أنْ تَكُونَ بَخِيلةً ... . . . . . . . . . والبيت الذي بعده قد ذكرت ما جاء فيهما عن ابن جني وغيره في شرح الواحدي، وذكرت ما خطر لي فيه، مما يخالف أقوالهم. وقوله: الوافر يَقُودُهُمُ إلى الهَيْجَا لَجُوْجٌ ... يُسِنُّ قِتَالَهُ والكَرُّ نَاشِي قال: استعار السن للقتال؛ يريد إنه يديم القتال، ويطيل فيه، كما أن المسن يتقادم الوقت عليه؛ يقول: إنه محدث الكر في وقت بعد وقت، فهو كأنه ناشئ، أي: في أول أمره، ولا يضعف لتقادم القتال. وأقول: إن المعنى غير ذلك! وهو إنه وصف القتال بأنه مسن لشدته، ووصف الكر

بأنه ناشئ؛ أي كأنه في أول اللقاء أي: لم يكسره ويضعفه؛ وذلك يدل على صدقه في القتال، ومعاجلته للأبطال، وهذا من قول قطري: الكامل . . . . . . . . . ... جَذَعَ البَصيرِة قارِحَ الإقدامِ أي: صغير التأمل، كبير الجرأة. فكنى عن ضعف التأمل، والنظر في العواقب بالجذع، وعن قوة الإقدام بالقارح. وقوله: الطويل على أنني طُوِّقْتُ منك بِنِعْمَةٍ ... شهيدٌ بها بَعْضي لغيري على بَعْضي قال: قوله: على أنني، أي: أمدحك وأثني عليك على ما طوقتنيه من نعمك؛ أي: أفعل هذا الفعل، ولهذا حذف أول الكلام للدلالة عليه. وإن شئت كان تقديره: مضى الليل على هذه الحال، على أنني متلبس بنعمتك، أهدي إليك سلاما وتحية؛ ألا تراه يقول بعد هذا البيت: الطويل سَلامُ الذي. . . . . . ... . . . . . . . . .

وأقول: إن قوله: على أنني طُوِّقَتُ منك بنعمةٍ ... . . . . . . . . . تعليل وتحقيق لقوله: . . . والفَضْلُ الذي لك لا يمضي ... . . . . . . . . . كأنه يقول: فضلك لا يمضي لتطويقك إياي بنعمة شهد بعضي بها لغيري على بعضي، فجعل نعمته، للزومها وظهورها كطوق الحمامة، وتكون (على) بمعنى اللام كقول الراعي: الوافر رَعَتْهُ أشْهُراً وخَلاَ عليها ... فَطارَ النَّيُّ فيها واسْتَغَارَا وقوله: البسيط كَمْ مِنْ حُشَاشةِ بِطْريقٍ تَضَمَّنَها ... للبَاتِراتِ أمينٌ ماَلُه وَرَعُ قال: لم يذكر المعنى وأطال في ذكر اللفظ وذكره أهم من ذكر اللفظ.

والمعنى، ما قاله الواحدي؛ وهو أن أرواحهم في ضمان القيود للسيوف؛ أي: الأسرى مقيدون متى شاء قتلهم قتلهم. وقوله: البسيط تَغْدُو المنايا فلا تَنْفَكُّ واقِفَةً ... حتى يقولَ لها عُودِي فَتَنْدَفِعُ زعم أن هذا البيت يجب أن يكون في صفة القيد؛ لأنه يلي ما قبله في وصفه. قال: ولولا ذلك لكان تصييره للممدوح أشبه. قلت: وكذلك هو، وإن كان بعد وصف القيد؛ لأن هذا الوصف لا يصلح إلا له. وقد قدر فيما اختاره تقديرا، إذا تأمله من تأمله، تبين له فيه سوء الاختيار وقبح الاختبار! وقوله: البسيط وجدتموهُمْ نياماً في دِمَائِكُمُ ... كأنَّ قتلاكُمُ إياهُمُ فَجَعُوا قد اختلفت أقوال الجماعة في قوله: . . . نياماً في دِمَائِكُمُ ... . . . . . . . . .

فروي عن ابن جني، أن أبا الطيب حدثه، أن سيف الدولة لما هزم الدمستق، وقتل أصحابه، جاء المسلمون إلى القتلى يتخللونهم، فمن كان به رمق أجهزوا عليه، فبينا هم كذلك أكب عليهم المشركون. وهذا الذي ذكره لا يطابقه قول أبي الطيب. وقال الواحدي: أنهم ناموا بين القتلى، وتلطخوا بدمائهم، تشبها بهم خوفا من الروم. وأقول: إن المعنى في قوله: . . . نياماً في دِمَائِكُمُ ... . . . . . . . . . غير ذلك! وهو إنه ليس عندهم جد في اللقاء، ولا حرص على القتال، فشبهوا بفتورهم وترك اهتمامهم، بالنيام وليسوا نياما على الحقيقة. وقوله: في دمائكم يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون المعنى، في سفك دمائكم. والثاني: أن يكون المعنى، في ثاراتكم عند المسلمين بقتلهم من قتلوا منكم؛ لأن الدم هو الثار. يقال لفلان عند فلان دم، أي: ثار، فقصروا عند لقائكم لطلب ثاراتكم، حتى كأن من قتل منكم فجعوا به، وقول أبي الطيب: وَجَدْتموهُمْ نياماً في دمائِكُمُ ... . . . . . . . . . عذر لسيف الدولة في إسلامه لهم، لقوله في البيت الأول: البسيط

قُلْ للدُّمُسْتُقِ إنَّ المُسْلَمِينَ لكم ... خَانُوا الأميرَ فجَازَاهم بما صَنَعُوا والذين أجهزوا على القتلى، ليس لهم ذنب فيسلمهم للقتل. والذين ناموا بين القتلى نفر يسير، بالإضافة إلى من فقد في هذه الوقعة كما ذكر. والمعنى، أن هؤلاء الذين أصبتم من أصحاب سيف الدولة خانوه بتركهم الجد في القتال، وبذلهم الجهد في النزال، ونكوصهم عن اللقاء في قراع الأعداء، فأسلمهم جزاء لهم على ذلك، فلا تفرحوا وتفخروا بأخذهم وقتلهم وهم بمنزلة الموتى التي تأكلها الضباع، فلو شاء أن يمنعهم لمنعهم، وهذا أحسن ما يعتذر به لسيف الدولة، وقد كسر، وأسر من عسكره من أسر. وقوله: البسيط رَضِيتَ منهم بأنْ زُرْتَ الوَغَى فَرَأوْا ... وأنْ قَرَعْتَ حَبِيكَ البِيْضِ فاسْتَمعُوا قال: المعنى، إنه يعرض بأضداده من الشعراء وغيرهم؛ أي: أنا أضرب معك بالسيف، وهم مختلفون ومتخلفون عنك. وهذا التفسير يدل على أن الرواية: بأن زرت وأن قرعت بضم التاء في الفعلين، والذي رويته ورأيته بالفتح. وأقول: أن الصحيح الضم. ويدل عليه ما فسره الواحدي من قوله: البسيط ليتَ الملوكَ على الأقدار مُعْطِيةٌ ... فلم يَكُنْ لدنيٍّ عندَهُمْ طَمَعُ

أي: ليتهم يعطون الشعراء على أقدارهم في الاستحقاق بفضلهم وعلمهم. قال: وهذا تعريض؛ بأنه يسوى مع غيره، ممن لم يبلغ درجته. فقد اجتمع من التفسيرين في البيتين ما يدل على ان الرواية الصحيحة بالضم وكذلك قوله: رضيت، وإن المعنى بالملوك سيف الدولة. يقول: ليته يعطي على قدر الاستحقاق، ليبين فضل السني على الدني، ثم قال: رضيتَ منهم بأن زُرْتُ الوَغَى فرأوا ... . . . . . . . . . أي: من سيف الدولة، وكذلك قوله: . . . . . . . . . ... وإنْ قَرَعْتُ حَبِيكَ البِيضِ فاسْتَمَعُوا وهذا يدل على إنه ثبت في هذه الوقعة وقاتل. يقول: رضيت من عطائه بزيارتي الحرب، وقرعي البيض رؤياه واستماعه، وحسبي ذلك عطاء وفخرا، وفي ذلك عتب ومن عليه، ولوم وتقريع له، وما بعد هذا البيت يدل على هذا التفسير. وقوله: الطويل بما بين جَنْبَيَّ التي خَاضَ طَيْفُهَا ... إليَّ الدَّيَاجي والخَليُّونَ هُجَّعُ لم يذكر المعنى، وقد ذكرته فيما قبل.

وقوله: الطويل أبَحْرٌ يَضُرُّ المُعْتَفِينَ ومَاؤُهُ ... زُعَاقٌ كَبَحْرٍ لا يَضُرُّ ويَنْفَعُ قال: قوله: . . . . . . . . . ... . . . كَبَحْرٍ لا يَضُرُّ ويَنْفَعُ فيه قبح، لأن المشهور عنهم؛ أن ينسب الممدوح إلى المنفعة لأوليائه، وإلى المضرة لأعدائه، كقوله: الطويل ولكنْ فَتَى الفِتْيَانِ من رَاحَ أو غَدَا ... لِضرِّ عَدُوٍّ أو لِنَفْعِ صَدِيقِ وأقول: ليس فيه قبح، وقد قال الشاعر: الكامل عندَ المُلوكِ مَضَرَّةٌ ومنافِعٌ ... وأرَىَ البَرامِكَ لا تَضُرُّ وتَنْفَعُ والإغراق في الشعر حسن بالغ، إلا إنه لا يلزم، فتركه ليس بقبيح.

وقوله: الكامل أوَ مَا وَجَدْتُمْ في الصَّراة مُلوحَةً ... مما أرَقْرِقُ في الفُراتِ دُموعي قال: وذلك أن دمع الفرح حلو، ودمع الحزن ملح. وأقول: وهذا شيء لم نسمع به؛ إنما قالوا في قولهم: أقر الله عينه، وأسخن عينه. أن ذلك دعاء له وعليه، لأن دمع الفرح بارد، ودمع الحزن سخن. فأما الحلاوة والملوحة فلم تسمع ولم تستعمل. وإنما ذكر أبو الطيب ذلك؛ لأن الدمع في ذوقه ملح، فأخبر عن كثرة دموعه وشدة بكائه بذكر الملوحة في الماء، وإنه قد أراق في الفرات، مع كثرتها من الدموع، ما يوجب تغير طعم ماء الصراة التي هي بعض لها وشرب منها ورده من الحلاوة إلى الملوحة. وهذا إغراق في المعنى وحسن صناعة في النظم. وقوله: الوافر إنِ استَعْطَيْتَهُ ما في يَدَيْهِ ... فَقَدْكَ، سألْتَ عن سِرٍّ مُذِيعَا قال: تم الكلام عند قوله: فقدك ثم استأنف فقال: كأنك إذا سألته ما في يديه

سألت عن سر من جرت عادته أن يذيع الأسرار، فأنت مستغن عن سؤاله. وأقول: كأنه يقول: لا ينبغي لك أن تسأله؛ لأنه يعطيك من غير سؤال؛ كمذيع السر؛ فانه يخبرك به من غير سؤال، فقد أخطأت في السؤال. وأقول: لو أراد ذلك لكان في الكلام ما يدل عليه ولقال: أكفف ولم يقل اكتف. والمعنى انك إذا سألته أعطاك جميع ماله، فلا يبقي منه شيئا؛ كمذيع السر إذا سألته عنه فإنه لا يكتم منه شيئا. وقوله: () الوافر عليٌّ قاتِلُ البَطَلِ المُفَدَّى ... ومُبْدِلُهُ من الزَّرَدِ النَّجِيعَا قال: يقتل قرنه، ويسلبه درعه، ويلبسه الدم. وأقول: إن قوله: ويسلبه درعه ليس بجيد؛ لأن الجيد أن لا يسلبه، لقوله في موضع آخر: الوافر فتىً لا تَسْلُبُ القَتْلَى يداهُ ... ويَسْلُبُ عَفْوُهُ الأسْرَى الوِثَاقَا

وقول أبي تمام: البسيط إنَّ الأسودَ أسودَ الغاب هِمَّتُهَا ... يومَ الكَريهةِ في المَسْلوبِ لا السَّلَبِ والمعنى، إنه يهتك الزرد عنه بالضرب، ويلبسه الدم. وقوله: الوافر قد استَقْصَيْتَ في سَلَبِ الأعَادي ... فَرُدَّ لهم من السَّلَبِ الهُجوعَا قال: المعنى، انك سلبت الأعداء جميع ما يملكون، وكل خلة مثل الأمن ونحوه، حتى سلبتهم الهجوع، فأردده عليهم؛ لأنهم لا يأمنون من خوفك. فيقال له: ولم يرد عليهم النوم وهم أعداؤه، وهو من أنفس الأسلاب التي يسلبهم، وأضرها لهم، وأقلقها لمضاجعهم؟! والمعنى ما ذكرته على الواحدي، فإنه فسره بنحو من هذا التفسير.

وقوله: الوافر فَلاَ عَزَلٌ وأنْتَ بِلا سِلاَحٍ ... لِحَاظُكَ مَا تَكُونُ به مَنِيعَا قال: المعنى: إذا كنت بلا سلاح، فلست بأعزل؛ لأن لحاظك تقوم مقام السلاح. فإذا نظرت إلى العدو انهزم. وأقول: إن قوله: . . . . . . . . . ... لِحَاظُكَ ما تَكُونُ به مَنِيعَا لا يدل على هزيمته اعداءه، بل يدل على امتناعه من أدائه. فقوله: إذا نظرت إلى العدو انهزم لا يطابق اللفظ، ولا يطابقه إلا: إذا نظرت إلى العدو امتنعت منه، وامتناعه منه، لا يدل على هزيمته له. ويجوز: إذا جعل لحظه بمنزلة سلاحه، أن يكون إذا نظر إليه هزمه. . . وقوله: الكامل رُدِّي الوِصَالً سَقَى طُلولَكِ عارِضٌ ... لو كانَ وَصْلُكِ مثلَهُ ما أقْشَعَا

قال: الأليق في صناعة الشعر أن يقول: لو كان وصلك مثله ما هجرت، ولكن الضرورة حملته على هذا، وهو جائز. وأقول: الأليق ما ذكره أبو الطيب، وأبلغ في المعنى، وأدخل في الصنعة. وذلك إنه استسقى لطولها سحابا دائما في قوله: لو كان وصلك الذي ذهب، وسألتك رده مثله ما أقشع؛ أي: ما انكشف. فقوله: ما أقشع، بمعنى: ما هجرت لأن الانقشاع من صفة السحاب. فإذا جعله مثله، وصفه بوصفه فكان مناسبا للسحاب. وقوله: الكامل النَّومُ بعد أبي شُجَاعٍ نافِرٌ ... واللَّيلُ مُعْيٍ والكواكبُ ظلَّعُ قال: ضرب هذا مثلا؛ أي: لو كان الليل، والكواكب، مما يؤثر فيه حزن، لأثر فيها حزنه. وأقول: لم يرد التأثير في الليل، والكواكب، وإنما أراد التأثير في نفسه بحزنه وهمه وسهره وطول الليل عليه. فكنى عن طوله بذلك، وجعله كالبعير المعيي،

والكواكب كالإبل الظلع، وهذا من قول امرئ القيس: الطويل فقلت له لمَّا تَمطَّى بصُلْبِهِ ... وأردفَ أعجازاً وناَء بِكَلْكَلِ ومثله قول بعض شعراء العصر: السريع أقولُ لمَّا طال لَيْلِي وقد ... تَحَيَّرَتْ أنْجُمُهُ ما تَسِيرْ وقد تَمَطَّى ملقياً بَرْكَهُ ... كأنَّهُ عَوْدٌ طَلِيحٌ حَسِيرْ ما لِظَلامِ اللَّيلِ لا يَنْجَلي ... وما لضَوْءِ الصُّبْحِ لا يَسْتَنِيرْ وقوله: الكامل فالَيوْمَ قَرَّ لكلِّ وَحْشٍ نَافِرٍ ... دَمُهُ وكانَ كأنَّهُ يَتَطَلَّعُ قال: المعنى، أن هذا المرثي، كان مغزي بالصيد. وهذه صفة حال ليست مما يمدح بها الملوك؛ لأن اشتغالهم بغير ذلك اجمل، إلا أن يريد بالوحش هاهنا عدوا يستوحش فينفر خوفا من القتل؛ فحينئذ يكون فيه مدح للمذكور. وأقول: إنه لم يرد بالوحش إلا الصيد! وقد مدحه بذلك في قوله: البسيط له من الوَحْشِ ما اختارتْ أسِنَّتُهُ ... عَيْرٌ وَهَيْقٌ وخَنْساءٌ وَذيَّالُ

وإذا وصفه بذلك في حياته، جاز ان يصفه به بعد وفاته. وقوله: صفة حال ليست مما يمدح بها الملوك غير مسلم. وذلك أن الملوك توصف تارة بالصيد والقنص، وأخرى بالحرب والقتال. ولاسيما العرب؛ فانهم لذلك معتادون، وبه مرتاضون. على أن فاتكا لم يكن ملكا وإنما كان مملوكا!! وقوله: الكامل كُنَّا نَظُنُّ دِيَارَهُ مَمْلُوَءةً ... ذَهَباً فمَاتَ وكلُّ دَارٍ بَلْقَعُ قد خبط المعنى بألفاظ طويلة غير طائلة بذكر البيت الذي بعده والمعنى في البيتين، إنه وصفه بخلو داره من الذهب، وغير خلوها مما ذكر في البيت الثاني، فأثبت له صفة حمد، ونفى عنه صفة ذم. وقوله: الطويل وَخبَّلَ منها مِرْطُهَا فكأنَّمَا ... تَثَنَّى لنا غُصْنٌ ولا حَظَنَا خِشْفُ

يروى: خيّل وخبّل - بفتح الخاء - وأرى أن ضمها أحسن لأنه أتم في المعنى. ولم يذكره، ود ذكرته في شرح الواحدي. وقوله: الطويل ولما فَقَدْنَا مثلَهُ دامَ كَشْفُنَا ... عليهِ فَدامَ الفَقْدُ وانكشَفَ الكَشْفُ قال: لولا إنه منظوم، لكان الأشبه به في هذا الموضع أن يقال: عنه في موضع عليه. فيقال له: وعليه هنا بمعنى عنه ولم يمنع النظم من ذلك، وقد جاء في الشعر كثيرا؛ من ذلك قول القحيف: الوافر إذَا رَضيَتْ عليَّ بنو قُشَيْرٍ ... لعَمْرُ اللَّهِ أعجبني رِضَاهَا وقول الراجز: الرجز أرْمِي عليها وهي فَرْعٌ أجْمَعُ وقد ذكرته فيما قبل.

وقوله: الطويل تَفَكُّرُهُ عِلْمٌ ومنطِقُهُ حُكْمٌ ... وباطِنُهُ دِينٌ وظاهِرُهُ ظَرْفُ وقد ذكرت ما فيه من جانب العروض فيما تقدم3. وقوله: الطويل أماتَ رياحَ اللُّؤمِ وهي عواصِفٌ ... ومَغْنَى العُلا يُودي وَرَسْمُ النَّدَى يَعْفُو ذكر عن ابن جني أن قوله: ومغنى العلا ورسم الندى في موضع الحال، ثم قال: وله وجه آخر؛ وهو أن يكون أراد أن مغنى العلا مما يودي، ورسم الندى مما يعفو، كما يودي ويعفو غيرهما، فلا تكون الواو في موضع الحال بل تكون لاستئناف جملة. وأقول: إن هذا الوجه الذي ذكره، لا يجوز؛ - كما ذكر - استئناف جملة خبرية، وذلك كذب؛ لأن مغنى العلا لا يودي، ورسم الندى لا يعفو، بل هما باقيان. وجاز في الوجه الأول؛ لأنهما جعلهما حالا من: إماتة رياح اللؤم على طريق المبالغة، فلا يجوز غيره، ولا يصح أن يقال: العلم مما يفنى، كما لا يصح أن يقال: الجهل مما يبقى، إلا على ما ذكرته.

وقوله: الطويل ولم نَرَ شيئاً يحملُ العِبَء مِثْلَهُ ... ويَسْتَصْغِرُ الدُّنيا ويَحْمِلُهُ طِرْفُ لم يذكر معناه، وقد ذكرته قبل. وقوله: الطويل ولستُ بدُونٍ يُرْتَجَى الغيثُ دونه ... ولا مُنْتَهى الجُودِ الذي خَلْفَهُ خَلْفُ قال: أي: لست بقليل من الرجال. وأقول: إن هذا لا يكفي في مدح من يريد الإغراق في مدحه؛ بل لا يحسن؛ بل يقبح أن يقال له: لست بلئيم أولست بخسيس، من غير أن يتبع ذلك بشيء يتخلص به من النقص، كما تخلص أبو الطيب على طريقته في المدح والإغراق، وقد ذكرت ذلك في شرح الواحدي. وقوله: الوافر ولو تَبَّعْتِ ما طَرَحَتْ قَنَاهُ ... لكَفَّكِ عن رذَايَانَا وعَاقَا

قال: سبق إلى هذا الأولون؛ أعني اتباع الطير والوحش الجيش. ولم يبالغ أبو الطيب في هذا البيت لأنه جعل الوحش تتبع الجيش لتأكل رذاياه، والرذايا: جمع رذية، وهي الناقة التي حسرها السير، ولم يقل كما قال الحكمي: المديد تَتَأيَّا الطَّيْرُ غُدْوَتَهُ ... ثِقَةً بالشِّبْعِ من جَزَرِهْ وأقول: إن هذا، إما وهم، وإما سوء فهم في جعل الوحش تتبع الجيش لأكل رذاياه ولا تتبع ما طرحت قنا الممدوح من القتلى كما ذكر. وبيت أبي الطيب فيه زيادة على بيت أبي نواس؛ وذلك إنه ذكر شدة سيره إلى الممدوح تقربا اليه، وبما لقي من الجهد في طريقه بانحسار ابله، وانقطاع رواحله، حتى طمعت بها الوحش. كما قال الحطيئة: البسيط والذِئبُ يَطْرُقُنَا في كُلِّ منزلةٍ ... عَدْوَ القَرِينين في آثارِنَا خَبَبَا فخاطب الوحش وقال لها: لو تتبعت ما طرحت قنا سيف الدولة من أعدائه، لكفك عن أن تتعرضي لما كل من إبلنا، وانحسر من مطينا. وقوله: الوافر تَبِيتُ رِمَاحُهُ فوق الهَوَادي ... وقد ضَرَبَ العَجَاجُ لها رِوَاقَا قال: الهوادي: جمع هادية، وهي العنق، واستعار الرواق هاهنا للغبار لأنهم

يركزون الرماح إلى رواق البيت، والهاء تعود على الرماح، أو على الهوادي. وأقول: إنها تعود على الرماح ولم يتبين له معنى البيت، والهوادي هاهنا، أعناق الفرسان، فجعل الرماح مسندة إليها، مائلة عليها كالعمد، والعجاج ساطعا فوقها كالرواق، ولهذا قال: الوافر تميلُ كأنَّ في الأبْطالِ خَمْراً ... . . . . . . . . . ولا تميل إلا إذا كانت قائمة. وقال الواحدي: الهوادي: أعناق الخيل؛ كأنه نظر إلى قول النابغة: الطويل . . . . . . . . . ... إذا عُرِّضَ الخَطِّيُّ فوقَ الكَواثِبِ والصحيح الأول، لما ذكرناه. وقوله: الطويل إذَا ما لَبِسْتَ الدَّهْرَ مُسْتَمِتعاً بهِ ... تَخَرَّقْتَ والملبوسُ لم يَتَخَرَّقِ

ذكر فيه قول ابن جني. هذا البيت إذا طولب الشاعر بحسن الأدب، وجب أن لا يقابل الممدوح بمثله. وقد أنكر عبد الملك على جرير ما هو دونه، من قوله: الوافر أتَصْحُو أمْ فُؤادُكَ غيرُ صَاحِي ... . . . . . . . . . فقال: فؤادك لأجل مخاطبته بالكاف، وإن كان لم يرد إلا نفسه. وأقول: إن هذا، إذا أنشده الشاعر الممدوح كان فيه، كما ذكر، سوء أدب. وأما إذا أرسله فليس فيه ذلك؛ لأنه إنما قبح لأجل المخاطبة، والإرسال لا مخاطبة فيه. ولعل أبا الطيب أرسل القصيدة إليه، ولم ينشدها إياه. وفي هذا البيت أيضا ما يسأل عنه، وهو ضربه المثل فيه، لما هو كأنه منقطع منه، فلا يكون المثل ورد في موضعه. والصحيح إنه متصل بما قبله، وذلك إنه قال: الطويل سَقَى اللَّهُ أيَّامَ الصِّبَا. . . ... . . . . . . . . . لما بانت عنه، وصار في غيرها من أيام الكبر، فضرب مثلا بتغيره بالدهر وعدم تغير الدهر به، فجاء بأغرب مثل وأعجبه، لأن من العهود الأكثر، أن اللابس يبلي الملبوس ويخرقه، فكأنه يقول: الدهر ملبوس يخالف غيره من اللابس؛ لأن هذا يبلي اللابس، وغيره يبليه اللابس.

وقوله: الطويل أدَرْنَ عُيوناً حَائراتٍ كأنَّها ... مُرَكَّبَةٌ أحْداقُهَا فَوْقَ زئْبَقِ ذكر في شرح هذا البيت، ما يرغب عن ذكره! والمعنى فيه ظاهر، وهو إخبار عن شدة حال الفراق وصعوبته، بحيرة الأعين وقلق أحداقها؛ وذلك لأن الزئبق رجراج لا يستقر فلا يستقر المركب فوقه. وقوله: الطويل ضَرُوبٌ بأطرافِ السُّيوفِ بنانُهُ ... لَعوبٌ بأطراف الكلامِ المُشَقَّقِ ذكر في قوله: المشقق من الاشتقاق ما لا يحسن معه المعنى! والصحيح: أن المشقق مشتق من الشق الذي هو نصف الشيء، وعنى بالكلام المشقق: المعتدل الأوزان، المحكم الألفاظ، ولعله أراد الشعر، أما النظم له؛ فان سيف الدولة كان شاعرا، أو إنشاد المتقن منه، أو أراد السجع المعتدل القرائن، كالخطب وما أشبهها. وقوله: الطويل وما بلدُ الإنسان غَيْرُ المُوَافِقِ ... ولا أهلُهُ الأدنونَ غَيْرُ الأصَادَقِ

قال: هذا البيت، بالتصريع، وقد ضعف ضعفا بينا، وهو كالمنقطع مما قبله. وأقول: إن التصريع لا يضعف البيت، ويدل على ذلك ما جاء من أشعار العرب مصرعا كقول امرئ القيس: الطويل ألاَ أيُّهَا اللَّيلُ الطويلُ ألا انْجَلي ... بِصُبْحٍ وما الإصبَاحُ منك بأمْثَلِ وقوله: () الطويل ديارٌ لسَلْمَى عَافِيَاتٌ بذي خَالِ ... ألَحَّ عليها كُلُّ أسْحَمَ هَطَّالِ وما أشبه ذلك. وهذا ليس فيه ضعف، بل قوة بمجيء قافيتين فيه، وبيت أبي الطيب قد جاء بمثلين وقافيتين، فهو بيت كبيتين. وأما قوله: كالمنقطع مما قبله فليس كذلك، لأنه ذكر فيما قبل بلاده في قوله: الطويل بلادٌ إذا زَارَ الحِسَانُ. . . ... . . . . . . . . . ثم وصفها فقال: الطويل سَقَتْنِي بها القُطْرُبُّلِيَّ مَلِيحةٌ ... . . . . . . . . . ثم وصف تلك المليحة، وعطف عليها الاغيد، ووصفه ثم قال: وما بَلدُ الإنسان غير المُوَافِقِ ... . . . . . . . . .

أي: تلك البلاد كانت موافقة له، وأصحابه الذين ذكرهم فيها؛ كانوا كالأهل الأدنين منه. وقوله: الطويل تُصِيبُ المجَانيقُ العِظَامُ بكَفِّهِ ... دقائِقَ قد أعْيَتْ قسِيَّ البَنَادِقِ قال: وصف الشاعر الممدوح بأنه لطيف، يصيب بحجر المنجنيق، للطف رأيه، ما لا تصيبه البندقة التي تخرج من قوس البندق. وأقول: إن المعنى بخلاف ما ذكر! ولم يتنبه عليه أحد من الجماعة، وهو إنه ينال بالمجاهرة والقسر، ما لا ينال غيره بالمجاملة والمكر، فكنى عن المجاهرة والمغالبة بالمجانيق لعظمها، وعن المسارة والمخاتلة بقسي البندق لصغرها. والذي يدل على هذا المعنى البيت الذي قبله وهو قبله: الطويل ولم أرَ أرْمَى منه غَيْرَ مُخَاتِلٍ ... وأسْرَى إلى الأعداءِ غيرَ مُسَارِقِ وقوله: الكامل أبَني أبِينَا نحنُ أهْلُ مَنَازِلٍ ... أبداً غُرابُ البَيْنِ فينا يَنْعِقُ

قال: عنى بغراب البين داعي الموت. وأقول: إنه لم يرد ذلك؛ وإنما أراد التفرق، فكنى عنه بنعيق الغراب، وذلك المشهور من كلامهم، والمعروف في استعمالهم، ويدل عليه قوله فيما بعد: الكامل . . . . . . . . . ... جَمَعَتْهُمُ الدُّنيا ولم يَتَفَرَّقُوا وهذا الذي ذكره أبو الطيب في البيت) وما بعده، إلى التخلص إلى المدح، من المواعظ بفناء الأكاسرة، وهلاك الجبابرة، وموت الأنفس، ليس هذا موضعه من القصائد التي يتغزل فيها بصفات النساء، طلبا لبسط الممدوح، وطربه وسروره، فهذا وضع الشيء في غير موضعه. وما ذلك إلا لأنه من نظم الصبا. وقوله: الطويل وليلٍ دَجُوجيٍّ كأنَّا جَلَتْ لنا ... مُحَيَّاكَ فيه فَاهْتَدَيْنَا السَّمالِقُ قال: ينشد بكسر الكاف من محياك وفتحها. فإذا روي بالكسر: فقبل ذلك ينبغي قوله أن يكون سلي لأنه مخاطب مؤنثا، وإذا كان: سل خاطب مذكرا،

فهو خروج، لم تجر عادة أبي الطيب بمثله؛ لأنه ترك النسيب وخرج إلى ذكر الممدوح. وأقول: إن قوله: أن أبا الطيب لم تجر عادته بمثل هذا الخروج، وقد ذكر قبل هذه القصيدة قوله: الكامل أمَّا بنو مَعْنِ بن أوْسِ بن الرَّضَا ... . . . . . . . . . وهو من اقبح الخروج، تغفل عن مثله! على أن ما ذكره، ليس بقبيح من إنه ترك النسيب وخرج إلى ذكر الممدوح بل من النسيب خرج إليه! وذلك أن قوله: ولَيْلٍ. . . . . . ... . . . . . . . . . قد أضمر فيه: (رب) فالواو للعطف، فينبغي أن يكون على شيء قبله؛ فكأنه قال: فرب فلاة سرنا بها، وليل دجوجي جلت السمالق محياك فيه فاهتدينا، فعلى هذا التقدير لا يكون قبيحا بل حسنا، ومثل هذا التخلص إلى المدح كثير. وقوله: الرجز

يَتْرُكُ في حجَارَةِ الأبَارِقِ آثارَ قَلْعِ الحَلْيِ في المناطِقِ مَشْياً وإنْ يَعْدُ فكالخَنَادقِ قال: إنما المبالغ، في صفة الفرس بالخفة، أن يدّعي لحوافره إنها لا تقع على الأرض من خفته؛ إذ كانوا يشبهون الفرس بالبازي، والصقر، وغيرهما من الطيور. وأقول: إن الذي ذكره، إنما يستعملونه في الأرض السهلة، وأما الأرض الحزنة؛ فبخلاف ذلك. كقول زياد بن منقذ: البسيط يَرْضَخْنَ صُمَّ الحَصَى في كل هَاجِرَةٍ ... كما تَطَايَرَ عن مِرْضَاخِهِ العَجَمُ

وقال النابغة في صفة الحمار والأتان، وهما في ذلك بمنزلة الفرس: الطويل إذا هَبَطا سَهْلاً أثَارا غَيَايَةً ... وإنْ عَلَوَا حَزْناً تَقَضَّتْ جنادِلُ أي: تكسرت. وقال وهو يصف الخيل في أحد التفاسير: الطويل . . . . . . . . . ... ويُوقِدْنَ بالصُّفَّاح نَارَ الحُبَاحِبِ ومثله قوله تعالى: (فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً) فهذا، كما ترى، وصف جريها، في الحزن، وشدة اعتمادها عليه، وذلك يدل على غلظ القوائم، وصلابة الحوافر، وعدم اتقائها واحتفالها بالحجارة. وقوله: الرجز يُرِيكَ خُرْقاً وهو عينُ الحَاذِقِ قال: المعنى أن هذا الفرس، إذا رأيت خلقه دلّك على إنه بهيمة، وإذا نظرت إلى معرفته بالأشياء، علمت إنه صاحب معرفة وحذاقة.

وأقول: إن هذا الفرس لحدة قلبه ونشاطه، يريك إنه اخرق، والخرق نقيض الرفق؛ وهو العجلة والتسرع. والفرس يوصف بذلك، وبالجنون أيضا؛ قال امرؤ القيس: الطويل ويَخْضِدُ في الآريِّ حتى كأنما ... به عُرَّةٌ من طائفٍ غيرِ مُعْقِبِ وقوله: . . . وهو عينُ الحَاذِقِ أي: ماهر في الصنعة بما ذكره قبل من معرفته وحسن خصاله فهذا هو التفسير الصحيح، لا ما ذكره من قوله: إذا رأيت خلقه دلّك على إنه بهيمة فإن هذا التفسير لا يقوله أحد. وقوله: البسيط تَسْتَغْرِقُ الكَفُّ فَوْدَيْهِ ومَنْكِبَهُ ... وتَكْتَسِي منه ريحَ الجَوْربِ العَرِقِ قال: تسرف القائل في صفة هذا المذكور بصغر الرأس، وضؤولة الخلق. وأقول: لم يرد ذلك حتى يرى الكف تستغرق الفودين والمنكب معا على وجه التقدير والمساحة، بل لما وصفه بالذلة والطيش، وصفه بأنه يصفع، فجعل اليد تستغرق فوديه، وهما معظم شعر اللمة مما يلي الأذنين؛ وذلك أعلى العنق، تارة، وتارة تستغرق

المنكب، وهو مجتمع ما بين العضد والكتف. والواو لا توجب أن يكون ذلك في وقت واحد حتى تستغرق الكف الفودين والمنكب معا؛ وذلك انك تقول: ضربت زيدا وعمرا فتعلم وقوع الضرب بهما، ولا تعلم كيف وقع في التقديم والتأخير والجمع والتفريق. وقوله: الخفيف جاعِلٌ دِرْعَهُ مَنِيَّتَهُ إنْ ... لم يكُنْ دونَها من العَارِ واقي قال: هذا معنى لطيف، والغرض فيه، إن هذا الذمر لا يلبس درعا؛ لأن العرب تفضل الذي يشهد الحرب حاسرا، على الذي يشهدها دارعا. كقوله: الطويل وأكثرُ مِنَّا ناشئاً يطلب العُلا ... يجالِدُ قِرْناً دَارِعاً وهو حَاسِرُ وأقول: إن المعنى الذي ذكره ليس بشيء! وإنما هو في قولهم: المنية ولا الدنية والنار ولا العار يقول: يجعل الدرع التي يتقي بها المنية، المنية نفسها، فيلبسها إذا لم يجد درعا سواها يقيه العار.

وقوله: الخفيف لو تنكَّرْتَ في المَكَرِّ لقوم ... حَلَفُوا أنَّكَ ابنُهُ بالطَّلاقِ قال: قوله: (ابنه) راجع إلى (المكر)، وقرره بكلام ضعيف، في معنى ضعيف! والصحيح: إنه راجع إلى أبيه المذكور في البيت قبله؛ أي: لو تنكرت في موضع الحرب لقوم، لتبين لهم من أفعالك فيه بالشجاعة والبأس، ما يحملهم على اليمين بأنك ابن علي؛ لاشتهار أفعال أبيك، وإنها لا يفعلها إلا من هو منه. وقوله: الخفيف كيفَ يَقْوَى بكفِّكَ الزَّنْدُ والآ ... فَاقُ فيها كالكَفِّ في الآفَاقِ قال: هذا من قول مروان بن أبي حفصة: الطويل ويا قَبْرَ مَعْنٍ كيفَ وارَيْتَ جودَهُ ... وقد كان منه البَرُّ والبَحْرُ مُتْرَعَا والصحيح إنه للحسين بن مطير.

وقوله: المنسرح بِضَرْبِ هَامِ الكُمَاةِ تَمَّ له ... كَسْبُ الذين يَكْسِبُونَ بالمَلَقِ قال: يريد أنه على ما يلحق بالأعداء محبوب؛ كأنه يقتلهم بلين. وأقول: هذا التفسير على رواية من روى: (يضرب) فعل مضارع و (ثم) حرف عطف، وهو تصحيف، والصحيح: (بضرب) اسم مصدر و (تم) فعل ماض؛ يريد إن هذا الممدوح يتم له، بضرب الكماة، من كسب المال، ما يتم لغيره من كسبه بالملق؛ أي: باللين والتذلل. والبيت الذي بعده يدل عليه. وهو قوله: المنسرح كُنْ لُجَّةً أيُّهَا السَّمَاحُ فقد ... آمَنَهُ سَيْفُهُ من الغَرَقِ أي: كن أيها السماح؛ أي: العطاء، كثيرا، فانك لا تغرقه؛ أي: لا تجحف به وتفقره؛ لأن سيفه يؤمنه من ذلك، بما يأخذه من مال أعدائه. فهذا هو المعنى، وهو مرتب على ما قبله.

وقوله: البسيط رُبَّ نَجِيعٍ بسَيْفِ الدَّولةِ انْسَفَكَا ... ورُبَّ قَافِيةٍ غَاظَتْ به مَلِكَا قال: لم يزاحف أبو الطيب زحافا ينكره الطبع، إلا في هذا الموضع، ولا ريب إنه قاله على البدية، ولو أن لي حكما لقلت: كَمْ مِنْ نَجِيعٍ. . . . . . ... . . . . . . . . . لأن (ربّ) تدل على القلة، ويجب أن يصف كثرة سفكه دماء الأعداء. ويحسن ذلك أن (ربّ) جاءت في النصف الثاني، وهي ضد (كم). وأقول: إن قوله: (رب: للقلة) فكذلك هي، إلا إنها قد استعملت في مواضع كثيرة، للكثرة. كقول الأعشى: الخفيف رُبَّ رَفْدٍ هَرَقْتَهُ ذلك اليَوْ ... مَ وأسْرَى من مَعْشَرٍ أقْتَالِ وقول سويد: الرمل رُبَّ من أنضجتُ غَيْظاً صَدْرَهُ ... قد تَمَنَّى لِيَ موتاً لم يُطَعْ وغير ذلك من الشعر. وهذا لا يحسن أن يراد به القلة؛ لأنه في موضع مدح وفخر،

فإذا كانت كذلك ف (رب) للكثرة في أول النصفين. وقوله: ويحسن من ذلك، أن (ربّ) جاءت في النصف الثاني وهي ضد كم لعله أراد بالتحسين الطباق بالكثرة والقلة، وهذا، وإن كان تحسينا في اللفظ، فهو تقبيح في المعنى؛ لأن فيه قلة غيظ الملوك به، وحسدهم له، بل الصحيح أن إتيانه بالزحاف، وان لم يكن قبيحا، حسّن تكميل المعنى، وتطابق النصفين في الصحة بذكر الكثرة فيهما على مذهب العرب. وقوله: البسيط مَنْ يَعْرِفِ الشَّمْسَ لا يُنْكِرْ مَطَالِعَها ... أو يُبْصِرِ الخَيْلَ لا يَسْتْرِمِ الرَّمَكَا قال: الرمكة: أنثى البرذون، ولم تجئ في الشعر إلا أن يكون شاذا، لأنها إذا جاءت في حشو البيت اجتمعت فيها أربعة حروف متحركة، وذلك مستثقل. وأقول: إن تعليله بذلك يقتضي أن لا يجيء شيء من الثلاثي، المحرك العين، المؤنث بالتاء في الشعر، وهذا لا يقوله أحد. ويقال له: وإذا استثقل حشوا، فلم لم يجيء آخرا؟ لأنه ينقص بالوقف حركة فيخف وتذهب العلة المانعة من ذلك؛ كقول ابن الرومي: البسيط

شَهْرُ الصِّيامِ وإن عَظَّمْتُ حُرْمَتَهُ ... شهرٌ طويلٌ ثَقيلُ الظِّلِّ والحَرَكَهْ! يَمْشي الهُوَيْنَى وأمَّا حينَ يُدْرِكُنَا ... فلا السُّلَيْكُ يُدَانِيهِ ولا السُّلكَهْ كأنه طالبٌ ثأراً على فَرَسٍ ... أجَدَّ في إثْر مَطْلُوبٍ على رَمَكَهْ يا صِدْقَ من قال: أيامٌ مبارَكَةٌ ... إنْ كانَ يَكْنِي عن اسم الطُّولِ بالبَرَكَهْ وقوله: الوافر يُحَرِّمُ أنْ يَمَسَّ الطيبَ بَعْدي ... وقد عَبِقَ العَبيرُ به وصَاكَا لم يذكر معناه! وهو من قول امرئ القيس: البسيط ألَمْ تَرَيَاني كُلَّمَا جئتُ طارقاً ... وَجَدْتُ بها طيباً وإنْ لم تَطَيَّبِ

وقوله: الوافر وما أنَا غَيْرُ سَهْمٍ في هَواءٍ ... يَعودُ ولم تَجِدْ فيه امْتِسَاكَا قال: لم يقل في سرعة الأوبة، وتقليل الشيء كهذا. وأقول: إنه لم يرد السرعة في العود إليه والتقليل؛ لأن ذلك في غاية التثقيل. وإنما أراد إنه لابد أن يعود إلى خدمته، وهو غير متماسك من الشوق؛ كالسهم الذي يرمى به إلى فوق فلا بد أن يعود إلى الرامي إذا انقطع اعتماده بحركته القسرية إلى خلاف جهة حركته الطبيعية. فكأنه يقول: وذلك من أحسن تدقيق في المعنى، ورشاقة في اللفظ، أن حركتي: عنك وبعدي بالقسر، وحركتي: إليك وقربي بالطبع، كالسهم الذي يرمي به في الهواء. وقوله: الوافر وكنتُ أعِيبُ عَذْلاً في سَماحٍ ... فهَا أنَا في السَّمَاحِ له عَذُولُ قال: المعنى، أني كنت أعيب عذلا في السماح، فلما دام هذا المطر، عذلته في الدوام؛ لأنه قد منعنا من السير.

وأقول: إن هذا التفسير فيه مناقضة لما ذكره أبو الطيب من قوله: الوافر رويدك وتأي: وَجُودَك بالمقام، ولو قليلاً ... . . . . . . . . . فإذا حصل له ذلك بدوام المطر، كيف يلومه؟ بل ينبغي له، أن يحمده، لحصول ما أراده. ومعنى عذله للسحاب في سماحه، إنما يكون بسبب كثرته، وما يلحق فيه من الكلفة والمشقة، وان كان مع كثرته، غير مانع لسيف الدولة من المسير، وثان عزمه عن الرحيل، ولهذا قال بعده: الوافر وما أخْشَى نُبُوَّكَ عن طَريقٍ ... وسَيْفُ الدَّولة الماضي الصَّقِيلُ وقوله: المتقارب فَلَمَّا نَشِفْنَ لَقِينَ السِّياطَ ... بِمِثْلِ صَفَا البَلَدِ المَاحِلِ قال: لأن عرق الخيل ابيض، فلما يبس على ظهورها، لقيت السياط بمثل صفا البلد الماحل؛ أي انها مبيضة بالعرق. وأقول: إنه لم يرد البياض؛ وإنما أراد الصلابة، وخص صفا البلد الماحل لأنه

أبعد عهدا بالمطر من غيره؛ فهو أصلب وهذا مثل قول امرئ القيس: المتقارب لهَا عَجُزٌ كَصَفاةِ المسي ... لِ أبرَزَ عنها جُحَافٌ مُضِرّْ ومثل قول علقمة: البسيط هل يُلْحِقَنِّي بأخرى الحَيِّ إنْ شحَطُوا ... جِلْذِيَّةٌ كأتَانِ الضَّحْلِ عُلْكُومُ وقوله: المتقارب وما بينَ كاذَتَي المُسْتَغيرِ ... كما بين كاذَتي البائلِ قال: شبه العرق ونزوله بنزول البول. قال: وقد ذهب من فسر هذا البيت، إلى أن الفرس إذا أعيا، تباعد ما بين فخذيه؛ فكأنه فرجهما ليبول. وأقول: إن الفرس الجواد، يوصف بتباعد ما بين اليدين والرجلين؛ لأن قربهما هو الصكك، وقد قال زهير: البسيط . . . . . . . . . ... . . . لا فَحَجٌ فيها ولا صَكَكُ فكأنه بالغ في ذلك حتى جعله كالبائل.

وقوله: المتقارب فإنَّ الحُسَامَ الخَضِيبَ الذي ... قُتْلِتُمْ به في يَدِ القَاتِلِ قال: الخضيب: الذي من شانه ان يخضب؛ أي: بمعنى خاضب، وأنشد: الوافر كذَبْتُمْ والذي رَفَعَ المعَالي ... ولمَّا يَخْضِبِ الأسَلَ الخَضِيبُ قال: ويعني بالحسام سيف الدولة. قلت: ويكون، على هذا التفسير، القاتل هو الله، وسيف الدولة، سيفه في يده يضرب به أعداءه كقوله: الطويل . . . . . . . . . ... وفي يدِ جَبَّارِ السَّموات قائِمُهْ وهو من قول أبي تمام الطويل . . . . . . . . . ... لِحَدِّ سِنَانٍ في يَدِ اللَّه عامِلُهْ ويحتمل معنى آخر، وهو أن يكون الخضيب بمعنى المخضوب، ويكون صفة سيف الدولة وهو هاهنا القاتل؛ أي: سيفه معد لكم، أن عدتم كما عهدتم.

وقوله: البسيط أعْلَى الممالكِ ما يُبْنَى على الأسَلِ ... والطَّعْنُ عند مُحِبِّيهنَّ كالقُبَلِ قال: أي: ما وصل إليه اقتسارا وغلابا بالطعن، لا ما جاء عفوا. وأقول: إنه لما وصف الممالك بالعو والارتفاع، وتلك من صفات ما يبنى، جعل الرماح لها أساسا؛ لأنها بها تثبت، وعليها تعلو؛ كأنه يقول: إنما تثبت الممالك وتعلو بطعان الأعداء وقتالهم، لا بالمسالمة والموادعة، وهذا مثل قوله: الطويل وكَيْفَ تُرَجِّي الرومُ والروسُ هَدْمَهَا ... وذَا الطَّعْنُ أساسٌ لها ودَعَائِمُ وقوله: البسيط الفَاعِلُ الفِعْلَ لم يُفْعَلْ لشِدَّتِهِ ... والقائلُ القَوْلَ لم يُتْرَكْ ولم يُقَلِ لم يذكر في هذا البيت ما يحسن ذكره فيستفاد معناه! والمعنى، أن سيف الدولة يفعل فعلا لا يستطيع أحد مثله لصعوبته، ويقول قولا لا يقدر أحد يقول مثله لفصاحته وبلاغته.

وقوله: . . . . . . . . . ... . . . . . . لم يُتْرَكْ ولم يُقَلِ أي: مطمع ممتنع. ويحتمل أن يكون معنى: لم يترك أي: يقول قولا، منه ما هو امر، فلا يترك؛ لأن امتثاله واجب. ومنه ما هو غير أمر، من بيان في نثر، أو نظم، فلم يقل مثله. وقوله: البسيط قد عَرَّض السَّيْفَ دونَ النَّازلاتِ بهِ ... وظَاهَرَ الحَزْمَ دونَ النَّفْسِ والغِيَلِ قال: ظاهر الحزم: أي: جعل بعضه فوق بعض، كما يظاهر الرجل بين درعين. وأقول: ويحتمل ان يكون المظاهرة بين السيف والحزم، فيكون كل واحد منهما كالدرع. كقوله: الوافر لقَوْهُ حاسِراً في دِرْعِ ضَرْبٍ ... دَقيقِ النَّسْجِ مُلْتَهِبِ الحَواشِي وقوله: البسيط بذِي الغَبَاوَةِ من إنْشَادِهَا ضَرَرٌ ... كما تُضِرُّ رِيَاحُ الوَرْدِ بالجُعَلِ

قال: يقول: شعري إنما يعرف جودته من هو صحيح الفكر سليم النظر فإن كان بضد ذلك، نال منه كما ينال الورد من الجعل، وإن كان مستلذا له، في الحقيقة. وأقول: فليت شعري! من أين علم أن الجعل تستلذ بالورد على الحقيقة وذلك شيء لا يعلمه ويخبر به إلا جعل؟!! والمعنى إن شعري كالورد، يستلذه وينتفع به النبيه الفاضل، ويستضر به الخسيس الجاهل، كاستضرار الجعل بالورد. وقوله: الطويل تَيُلُّ الثَّرَى سُوداً من المِسْكِ وَحْدَهُ ... وقد قَطَرَتْ حُمْراً على الشَّعَرِ الجَثْلِ قال في آخر شرح البيت - بعد تطويل -: قوله: وحده: أي: إنما سواده من المسك وحده لا الكحل. وأقول: هذا وهم! لأن قوله: وقد قطرت حمرا ينفي أن يكون من الكحل. وإنما

قوله: وحده احترازا من السخم الذي تفعله النساء في الحزن كما قال: الوافر . . . . . . ... يَضَعْنَ النِّفْسَ أَمْكِنَةَ الغَوالي وقوله: الكامل إنِّي لأبْغِضُ طيفَ من أحْبَبْتُهُ ... إذ كانَ يَهْجُرُنا زَمَانَ وِصَالِهِ قال: قال في أول القصيدة: لا الحُلْمُ جَادَ به ولا بِمِثَالِهِ ... . . . . . . فزعم، أن الحلم لا يصل إلى أن يريه الخيال. ثم ذكر بعد ذلك، إنه مبغض طيف من أحب. قال: وهذا يسمى الاكذاب كقول زهير: البسيط قِفْ بالدِّيارِ التي لم يَعْفُهَا القِدَمُ ... بَلَى وغَيَّرَهَا الأرواحُ والدِّيَمُ وأقول: إن أبا الطيب، لم يكذب نفسه؛ لأنه لم يخبر في الأول إنه يحب الطيف، ثم أخبر بعد إنه يبغضه. وإنما قال: لم يجد الحلم به لو لم أتذكره، فالخيال في النوم إنما رآه بسبب الذكر، وذلك لا يدل على إنه أحب الخيال؛ لأن الخيال إنما عرض له في النوم اتفاقا بسبب الذكر للحبيب، ولم يكن الخيال من قصده، فلا يسمى ذلك اكذابا

ولا مناقضة، ولكنه مناقضة من وجه آخر وهو قوله: الكامل بِتْنَا يُنَوِلُنا المُدامَ بكَفِّهِ ... . . . . . . وقوله: الكامل . . . . . . ... ونَنَالُ عَيْنَ الشَّمْسِ من خَلْخَالهِ ثم قال: إني لأبغض طَيْفَ من أحْبَبْتُهُ ... . . . . . . فكيف ابغضه وقد بات يناول المدام على ما ذكر لولا التغفل؟! وقوله: المتقارب جَعَلْتُكَ بالقَلْبِ لي عُدَّةً ... لأنَّكَ باليَدِ لا تُجْعَلُ

قال: أي جعلتك في قلب الجيش لي عُدة؛ لا تجعل في شمال الجيش، ولا في يمناه؛ إذ كان عميد الجيش إنما يكون في القلب. قال: هذا وجه، ووجه آخر، وهو أجود، أن يريد الشاعر قلب نفسه؛ أي: جعلتك عدتي بقلبي؛ لأنك أجل من أن تجعل باليد؛ لأنها إنما تصرف فيما صغر من الأشياء، والقلب يتسع في الضمير، حتى يضم ما لا يدرك. وأقول: الوجه الصحيح، هو الثاني إلا إنه لم يعبر عنه بعبارة حسنة، وكان الجيد أن يقول: أنك يا سيف الدولة، لست بمنزلة السيوف التي يعتد بها في اليد من الحديد! أنت أعظم وأشرف من ذلك؛ إنما يعتد بك في القلب بصدق الولاء والمحبة. وقوله: البسيط أشكو النَّوَى ولَهُمْ من عَبْرَتي عَجَبٌ ... كذَاكَ كانَتْ وما أشكو سوى الكِلَلِ قال: يقول: أشكو النوى، وأصحابي يتعجبون من عبرتي، وليس ينبغي أن يتعجبوا لذلك؛ لأنها كانت على ما شاهدوه، والذي أحب قريب، ليس بيني وبينه سوى الكلل.

وأقول: وهذا هو المعنى، إلا إنه زاد فيه بعد هذا ما لا يؤديه اللفظ. وهو قوله: فكيف بي إذا اجتمعت الكلل مع البعد؟ وهذا البيت مثل قول أبي تمام: البسيط لا أظْلِمُ النأيَ قد كانَتْ خلائِقُهَا ... من قَبْلِ وَشْكِ النَّوى عندي نَوىً قَذَفَا وقوله: البسيط ما بَالُ كلِّ فُؤَادٍ في عَشِيرتِهَا ... به الذي بي ومَا بي غَيْرُ مُنْتَقِلِ ذكر في تفسير معناه، ما لا يليق ذكره. والصحيح، ما قاله الواحدي. قال: يعني أن قومها يحبونها كحبي إياها، فهي بعيد مرامها، منيع وصالها، وهم دونها، وذلك مما يؤنس من الوصول إليها، وإذا وقع الياس دعا إلى السلو، ومع ذلك فأني لا أسلو، ولا ينتقل ما بي من الهوى. وقوله: البسيط تُمْسِي الأمَانيُّ صَرْعَى دون مَبْلَغِهِ ... فما يقولُ لِشَيءٍ لَيْتَ ذلك لي

قال: أي دون أن تبلغ إلى قلبه أو لسانه فتجري عليه. وأقول: إن معنى قوله: دون مبلغه أي دون بلوغه الأشياء. يقول: إنه قد بلغ من الأشياء ما تقصر الأماني عن بلوغه. فهو لا يقول: ليت؛ لأن ليت للتمني، والتمني، إنما يكون للشيء الذي لم يحصل. وقوله: البسيط انظُرْ إذا اجتمَعَ السَّيفان في رَهَجٍ ... إلى اختلافِهِمَا في الخَلْقِ والعَمَلِ قال: يعني بالسيفين سيف الدولة، والسيف الذي يقاتل به، وهما مختلفان في الخلق والعمل، لأن بني آدم لا يشبهون السيوف في الخلق، والسيف في الحقيقة لا يعمل شيئا، إنما يعمل به الإنسان. وأقول: إن هذا البيت، تفسيره فيما بعده. وهو قوله: البسيط هذا المُعَدُّ لرَيْبِ الدَّهْرِ مُنْصَلِتاً ... أعدَّ هذَا لِرأسِ الفَارِس البَطَلِ أي: إن سيف الدولة معد لريب الدهر، يقطعه بجوده. وسيفه معد لقطع رأس البطل بحده، فاختلفا لذلك، فكان سيف الدول أعظم منه، لأن فعله أعظم من فعله، وشكله أكمل من شكله.

وقوله: الوافر شديدُ البُعْدِ من شُرْبِ الشَّمولِ ... تُرُنْجُ الهِنْدِ أو طَلْعُ النَّخِيلِ قال: رفع ترنج الهند بالابتداء، كأنه قال: بين يديك، أو في مجلسك ترنج الهند؛ لأنه حذف من الأول المبتدأ، ومن الثاني الخبر؛ لأنه مشاهد. فدلت الحال على ما أضمره؛ كما تقول إذا رأيت رجلا سدد سهما إلى القرطاس، فسمعت صوته: القرطاس والله! أي: أصاب القرطاس. قال: فان قيل: وما في أخباره عما في مجلسه، وهو بحضرته، من الفائدة؟ وهل كان يشك في ذلك فيجوز الإخبار عنه؟ قيل: إنما جاز ذلك لأنه ثناء عليه. فيقول له: أنت شديد البعد من شرب الشمول، وإن كان بين يديك ما يحضر، في أكثر الأوقات، للشرب. فأثنى عليه ونفى عنه الظنة. وأقول: إن تقديره حذف المبتدأ من النصف الأول وهو أنت صواب، وتقديره حذف الخبر من النصف الثاني، وهو بين يديك أو في مجلسك، خطأ لأن التقدير الأول مفيد، والثاني غير مفيد. والصواب أن يقدر الخبر المحذوف: ما تصنع به؟ أو: ما حاجتك إليه؟ كأنه قال: أنت شديد البعد من شرب الشمول، ترنج الهند، أو طلع النخيل، ما تصنع به،

وهو من آلات الشرب؟ ثم استدرك السؤال بقوله في البيت الذي يليه: الوافر ولكنْ كلُّ شيءٍ فيه طِيبٌ ... لديكَ من الدَّقيق إلى الجَليلِ وكذلك البيت الثالث. وقوله: الطويل وأضْحَتْ بحصْنِ الرَّانِ رَزْحَى من الوَجَى ... وكلُّ عَزِيزٍ للأميرِ ذَلِيلُ قال: اعتذر للخيل، أي: لم يلحقها ذلك لضعفها، ولكنه كلفها من همه صعبا. وأقول: ليس هذا عذر للخيل، وإنما النصف الثاني جملة وقعت حالا من الخيل خبرا؛ أي: أضحت الخيل رزحى بحصن الران، في حال ذل فيها كل عزيز ممن ذكره لسيف الدولة. وقوله: الخفيف قارَعَتْ رُمْحَكَ الرِّماحُ ولكِنْ ... تَرَكَ الرَّامحين رُمْحُكَ عُزْلا

قال: يقول: قارعت الرماح رمحك، فترك الرامحين عزلا؛ أي: لا سلاح معهم. وأقول: إنه لم يأت في تفسيره بشيء يزيد على ما في لفظه، سوى أن بين أن قوله: عزلا لا سلاح معهم! وهذا الذي ذكره أبو الطيب كرره لفظا، ولم يبين له معنى! والمعنى: أن رمحك جعل الرامحين بمنزلة العزل، فهم، وإن كانوا ذوي رماح، كمن لا رماح معهم، وذلك أما لحذقك بالطعن فبطلت رماحهم به، وأما لخوفهم منه، فضعفت أيديهم بالرماح؛ فصار وجودها كعدمها. وقوله: الخفيف يَجْمَعُ الرُّومَ والصقاِلَبَ والبُلْ ... غَرَ فيها وتجمَعُ الآجَالاَ قال: الآجال: جمع أجل؛ أي: يجمع آجالهم ومناياهم. وأقول: إنه لم يرد آجالهم مخصصا لهم، وإنما أراد الآجال على الإطلاق؛ أي: المنايا والحتوف، وذلك أبلغ في المعنى للعموم، وأشبه باللفظ للألف واللام.

وقوله: الخفيف وقِسِيٍّ رُمِيتَ عنها فَرَدَّتْ ... في قُلوبِ الرُّماةِ عنكَ النَّصَالاَ قال: أي: لما هزموا اخذ سرلاحهم، فقوتلو به. وأقول: وهذا ليس بشيء! وإنما ذكر القسي مثلا للمكائد؛ أي: أعدوا لك مكائد فعادت عليهم. وقوله: الخفيف كلَّمَا صَبَّحَتْ ديارَ عَدُوٍّ ... قالَ: تلك الغُيوثُ هذي السُّيُولُ قال: المعنى: الغيوث التي هي نعم على قوم، حدثت منها سيول هي نقم على آخرين. وأقول: إنه عنى بالسيول الدماء في الكثرة، لأن النعم التي ذكر إنها تحيي مواليه وتقتل أعاديه، وعددها، وهي أربعة أنواع من آلات الحرب، وبها تراق الدماء كثيرة

كالغيوث، فأخبر عن كثرة ما تريقه من الدماء بالسيول. وقوله: الخفيف لو تَحَرَّفْتَ عن طَريق الأعادي ... ربَطَ السِّدْرُ خَيْلَهُمْ والنَّخيلُ قال: لو ملت عن طريق الأعادي، لساروا حتى يربطوا خيلهم في السدر والنخيل، فكأنه قلب المعنى فجعل السدر والنخيل يربط خيل الأعداء. وأقول: لم يذكر معنى البيت، وهو ما ذكره الواحدي؛ أي: لو ملت عن طريق الروم، لساروا فأوغلوا في ديار العرب حتى يربطوا خيولهم بالسدر والنخيل؛ يريد بهذا الغض ممن بالعراق، ومصر من الملوك، والرفع من شانه. وقوله: الخفيف وسِوَى الرُّومِ خَلْفَ ظَهْرِك رُومٌ ... فعَلَى أيِّ جَانِبَيْكَ تَمِيلُ قال: أي: أعداؤك كثير، وليس الروم أعداء، بل هم دون غيرهم فلأيهم تقاتل؟

وأقول: المعنى في هذا البيت: إشارة أيضا إلى من بمصر، والعراق من الملوك، لأنه جعل سيف الدولة مستقبلا بلاد الروم بسبب الغزو، وجعل أولئك خلف ظهره عن منكبيه، فقال: إن الذي وراءك أيضا روم، وفي ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتعطيلهم الحدود، واشتهارهم بالفسوق. وبين هذا، فيما بعد، في قوله: ما الذي عندَهُ تُدَارُ المنَايا ... كالذي عِنْدَهُ تُدَارُ الشَّمُولُ وقوله: الكامل وجَعَلْتُ ما تُهدي إليَّ هديَّةً ... منِّي إليك وظَرْفَهَا التَّأمِيلاَ قال: يحتمل المعنى وجهين: أحدهما: أن يكون أهدى إليه شيئا، كان أهداه إليه الممدوح. والآخر: أن يكون أراد: جعلت ما من عادتك أن تهديه إلي، وتزودينه وقت فراقك هدية مني إليك؛ أي: أسألك أن لا تتكلف لي. قال: والقول الأول أشد انكشافا واظهر، والثاني أقوى وألطف. قال: وظرفها التأميلا أي: جعلت تأميل قبولك ذلك، مشتملا على هذه الهدية،

كاشتمال الظرف على ما فيه وأقول: لم يصب في الوجهين اللذين ذكرهما؛ لأن أبا الطيب لم يكن ممن يهدي لأحد شيئا، ولا ممن يقنع بعطاء فيسأل أن لا يتكلف له فيه! والمعنى: أني جعلت الهدية التي تهديها إلي؛ أي: العطاء الذي تعطينيه، لسرورك به، هدية مني إليك؛ أي كأني أتحفتك بتحفة وذلك لفرط جودك. وقوله: وظرفها التأميلا أي: وجعلت ظرف الهدية، وهي عطاء الممدوح، التأميل. وهذا المعنى قد لطفّه هاهنا، وهو في مواضع كثيرة من شعره كقوله: الوافر قبولُكَ مَنَّهُ مَنٌّ عليه ... . . . . . . وقوله: المتقارب . . . . . . ... فَتىً لا يُسَرُّ بما لا يَهَبْ وقوله: الوافر وأسْعَدُ من رأيْنَا مُسْتَمِيحٌ ... يُنِيلُ المُسْتَمَاحَ بأنْ يَنَالاَ وأشباه ذلك. وأصله قول زهير: الطويل . . . . . . ... كأنَّكَ تُعْطيهِ الذي أنتَ سائِلُهْ

وقوله: الخفيف بطُلُولٍ كأنَّهُنَّ نُجُومٌ ... في عِرَاصٍ كأنَّهُنَّ لَيَالي قال: شبه الطلول بالنجوم؛ لأنها عنده مستحسنة، لأجل من كان يحلها ممن يحب، والعراص كالليالي؛ لأن المرتحلين عنها كانوا فيها كضياء النهار، فلما فارقوها ذهب نورها. وأقول: إنه شبه الأطلال وهي ما شخص من آثار الدار، بالنجوم للاهتداء بها، والعراص بالليالي، لدروسها بعد الأحباب وخفائها. فالعراص لا يهتدي فيها إلا بالأطلال، كالليالي لا يهتدي فيها إلا بالنجوم. وقوله: الرجز ذي ذَنَبٍ أجْرَدَ غَيْرِ أعْزَلِ كأنَّهُ من جِسْمِهِ بِمَعْزِلِ قال: هو من سرعته وحدته يكاد يترك جسمه وينعزل.

أقول: وجعل ذلك من صفة الكلب، وانشد عليه استشهادا، وهو قول ابن جني. وأقول: ليس ذلك من صفة الكلب، وإنما هو من صفة الذنب. ويدل عليه قوله: لو كانَ يُبْلِي السَّوْطَ تَحْريكٌ بَلِي وجعل ابن جني هذا من صفة الكلب ايضا، لما جعل الذي قبله من صفته، وجعله التبريزي من صفة الذنب فخبط! وقوله: الرجز لا يأتَلِي في تَرْكِ أنْ لا يَأتَلِي قال: معناه: لا يقصر في ترك أن لا يقصر. أقول: ولم يذكر هنا أن (لا) زائدة، وهو يذكر أشياء لا حاجة إليها، ولا فائدة فيها! وأقول: إنما قدر هنا زيادة (لا) لئلا يفسد المعنى، وذلك لأن نفي النفي إيجاب،

لأنك إذا قلت: فلان لا يقصر في ترك أن يقصر، وكانت أن والفعل بمعنى المصدر فكأنك قلت: لا يقصر في ترك التقصير، وترك التقصير جد. فإذا قلت: في ترك أن لا يقصر، فكأنك قلت: لا يقصر في ترك الجد، وترك الجد تقصير! فلهذا قدر زيادة (لا) وهي كثير ما تزاد زيادة في الكلام والشعر. وقوله: المنسرح يُقْبِلُهُمْ وَجْهَ كلِّ سابِحَةٍ ... أرْبَعُهَا قَبْلَ طَرْفِهَا تَصِلُ قال: هذا اسراف في المبالغة، يخرج إلى الكذب الذي لا يجوز مثله! ومع هذا فإن القوائم إذا وصلت قبل الطرف فقد وصف النظر بالضعف. وأقول: إنه إذا فضّل عدوها على طرفها في السرعة، لا يدل على وصف النظر بالضعف. وكذلك إذا وصفوا الفرس بأنه يسبق البرق في السرعة، لا يدل على فتور البرق وضعفه؛ لأن ذلك قد عرف في السرعة، وكذلك طرف الفرس الجواد، قد عرف بالحدة؛ قال: الهزج حديدُ الطَّرفِ والمِنْكَبِ والعُرْقوبِ والقَلْبِ فإذا فضل عليه عدوه، لا يدل على ضعفه، بل إنما يراد به المبالغة.

وقوله: المنسرح قُصِدْتَ من شَرْقِهَا ومَغْرِبِهَا ... حَتَّى اشْتَكَتْكَ الرِّكابُ والسُّبُلُ قال: في هذا البيت مبالغتان؛ إحداهما يجوز أن يكون مثلها: وهو ادعاؤه أن الركاب تشتكي الممدوح من كثرة ما تركب إليه. فهذا يجوز مثله، لأنها إذا صارت انضاء، وأخذ منها السير فكأنها تشتكيه. والأخرى: ادعاؤه أن السبل تشتكيه؛ أي: الطرق؛ وهذا ما لا يمكن أن يكون. وأقول: يقال له: اشتكاء الإبل والطرق مجاز لا حقيقة، فلا يمكن أن يكون، وإذا جوزت ذلك في الإبل لكثرة ما تركب إليه وينضيها السير، فلم لا يجوز مثل ذلك في الطرق لكثرة ما تركب ويؤثر فيها السير؟ وكلاهما لا يعقل الاشتكاء فلا فرق بينهما إلا أن إحداهما فيها حياة، والأخرى لا حياة فيها. وقوله: المنسرح عُذْرُ المَلُوَمْينِ فيكَ أنهما ... آسٍ جَبَانٌ ومبضَعٌ بَطَلُ قال: قد اعتذر للآسي؛ أي: الطبيب، وللمبضع، فذكر أن الآسي جبن لفرط الهيبة، وإن المبضع، لما عجز الطبيب عن تدبيره، كان كالبطل الشجاع. فوصل إلى

موضع لا يجب أن يصل إليه. وأقول: إنما وصف المبضع بالبطل لمضائه وحدته - وقد وصف أبو الطبيب ما هو كالمبضع، وهو السيف، بالجبان لكونه لم يقطع في قوله: الكامل تَلْقَى الحُسَامَ على جَرَاءةَ حَدِّهِ ... مِثْلَ الجَبَانِ بِكَفِّ كُلِّ جَبَانِ فهاتان صفتان مختلفتان، والمؤثر فيهما غير مختلف، لأن هذا جبان مضى في يده المبضع، وذلك جبان جبن في كفه السيف، فكان فيهما تناقض. فيقال: لا تناقض فيهما. وذلك أن أحوال الجبان تختلف وتتباين؛ فتارة تكون بترك الإقدام والفرار، وتارة بالإقدام مع اضطراب واضطرار. وقوله: المنسرح مَدَدْتَ في راحة الطَّبِيبِ يَداً ... وما دَرَى كيفَ يُقْطَعُ الأمَلُ قال: ليس من عادة الطبيب أن يقطع الآمال، وإنما عادته أن يقطع العروق، لأن عروق كفك تتصل بها اتصال الآمال، فكأنها آمال. أقول: وهذا أخذه من ابن جني!

وقال الواحدي: هذا كلام من لم يعرف المعنى! وقال (الأمل) لأن يدك أمل كل أحد؛ منها يرجون العطاء والإحسان. وأقول: إنما جعل اليد الأمل على وجه المبالغة، كما جعلت الخنساء البقرة إقبالا وإدبارا في قولها: البسيط . . . . . . . . . ... فإنَّما هي إقْبَالٌ وإدْبَارُ أي: كأنها خلقت من ذلك. ويجوز أن يكون على حذف المضاف؛ أي: ذات الأمل، وكذلك قول الخنساء، والأول أبلغ. وقوله: الوافر بقائي شَاَء ليسَ هُمُ ارتحالا ... وحُسْنَ الصَّبْرِ زَمُّوا لا الجمَالا قال: ادعى انهم لم يشاءوا الرحيل، ولا محالة أنهم شاءوا الرحيل، وزعم أنهم لم يزموا الإبل وتلك دعوى ليست بالصحيحة. وأقول: إن هذا نقد غير بصير بجوهر الكلام! وذلك أن هذا الكلام إنما ذكره على وجه المبالغة كما يقال: ما مات زيد ولكن مات الجود، وما سار عمرو ولكن سار الكرم، وإن كان زيد وقع فيه الموت، وعمرو منه السير؛ ومثله قوله تعالى: (وَمَا رَمَيْتَ إذ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى).

وقوله: الوافر كأنَّ العِيسَ كانت فوق جَفْني ... مُنَاخَاتٍ فَلَمَّا ثُرْنَ سَالاَ قال: يقول: كأن العيس كانت مناخات فوق جفن عيني؛ فهي مانعة له من أن يسيل، فلما ثرن فاض الدمع. قال: وبدخول كاف التشبيه، خلص اللفظ من الكذب! أقول: تأمل هذا التفسير الذي يحتاج إلى تفسير، لأنه إعادة لفظ البيت بعينه!! وأقول: المعنى إن مقام الأحبة، كان يمنعني من دمع كثير بسبب هجر الحبيب لي، أو منعه مني. فكنى عن مقام الأحبة بإناخة العيس فوق جفنه، وجعلها كالسكر الذي يحبس الماء، فلما ثرن سال ذلك الماء؛ أي: الدمع، وكنى عن الرحيل بثوران العيس. والسيل إنما يكون عن الماء الكثير من المطر، فكنى به عن كثرة الدمع والبكاء الذي كان مجتمعا قبل الرحيل. وقوله: الوافر وضَفَّرْنَ الغَدائِرَ لا لِحُسْنٍ ... ولكِنْ خِفْنَ في الشَّعَرِ الضَّلاَلاَ قال: أراد: خفن أن يضللن في الشعر؛ أي: يغبن، من قوله تعالى: (أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ) أي: غبنا.

قال: وهذه مبالغة في الصفة، وإذا احتجبت المرأة في شعرها كان عيبا. وأقول: إن تفسيره (يضللن)، أي: يغبن، لم يرده الشاعر، وإنما أراد يضللن، ضد (يهتدين). وذلك أن الشعر يشبه بالظلام، فخشين أن يضللن في الظلام، بالشعر المحلول، فضفرنه خوفا من ذلك. فعلى هذا التفسير لا يكون عيبا. والذي حمله على هذا التفسير تنبيهه على إحاطته بهذه اللغة الغريبة التي هي (ضللنا) بمعنى (غبنا) فخطأ الرجل فوقع في الخطأ! ويقال له: لم قلت: إذا احتجبت المرأة بشعرها كان عيبا وقد قال الشاعر: الوافر . . . . . . . . . ... فأرسَلَتِ الظَّلامَ على الضِّياءِ وقال أبو الطيب: الطويل وَمَنْ كلَّمَا جَرَّدْتُهَا من ثِيَابِهَا ... كسَاهَا ثياباً غَيْرَها الشَّعَرُ الوَحْفُ وقوله: الوافر ولولا أنَّني في غَيْرِ نَوْمٍ ... لَبِتُّ أظُنُّني مِنِّي خَيَالاَ

قال: قوله: الكامل . . . . . . . . . ... . . . أظُنُّنِي مِنِّي خَيَالا يناسب قوله في الأخرى: الكامل . . . . . . . . . ... كأنَتْ إعادَتُهُ خَيَالَ خَيَالِهِ وأقول: لا مناسبة بينهما لأن قوله: . . . . . . . . . ... لَبِتُّ أظُنُّنِي مِنِّي خَيَالاَ أي: أظن نفسي من نفسي خيالا، أو: أظن جسمي. وقوله: . . . . . . . . . ... كانَتْ إعادتُهُ خَيَالَ خَيَالِهِ أي: تذكرته فتخيلته، فلما نمت رايته، فكان الخيال الذي رايته نائما، خيالا للخيال الذي رايته متذكرا. فلا مناسبة بين البيتين إلا بلفظ (الخيال)! وقوله: الوافر ويا ابنَ الضَّاربين بكُلِّ عَضْبٍ ... من العَرَبِ الأسافِلَ والقِلاَلاَ قال: القلال جمع قلة؛ وهي أعلى الرأس. وجعلهم يضربون الأسافل؛ لأنهم إذا ضربوا الفارس في قلة رأسه، نزل السيف إلى أسفل جسده!

وأقول: انظر إلى هذا التفسير العجيب، والتقدير الغريب! وأقول: إن قوله: . . . . . . . . . ... من العَرَبِ الأسَافِلَ والقِلاَلاَ تفضيلا له على غيره من العرب؛ وذلك أن العرب تضرب الأسافل والقلال من الإبل، وهذا يضرب الاسافل والقلال من العرب. ولهذا خصص العرب بالذكر، وإلا كان قال: من الناس، فوصفه بضربه من العرب الذي يوصفون بضربه من الإبل. وقوله: الكامل حَدَقٌ يُذِمُّ من القَواتِلِ غَيْرها ... بدرُ بنُ عَمَّارِ بن إسْمَاعِيلاَ قال: زعم أن الممدوح يذم؛ أي: يعطي الذمة، من كل القواتل، إلا من هذه العيون! وقد افرط في صفة العيون بتمكنها من القتل، إلا إنه جعل الممدوح لا يستطيع أن يمنعهن من القتل! وأقول: كأنه أنكر جعل الممدوح لا يذم من حدق الغواني القواتل، وليس في ذلك إنكار، ولا يلحقه بذلك عار، لأن الممدوح إنما يذم من أهل البأس والنجدة، وممن يقاتل ويقتل بسلاح، وحدق العيون لسن كذلك.

وقوله: الكامل أعْدَى الزَّمَّانَ سَخَاؤهُ فَسَخَا بهِ ... ولقد يكونُ به الزَّمانُ بَخِيلاَ ذكر فيه قول ابن جني وقد نسب فيه إلى الإحالة. وأقول: والجيد في قوله: فسخا به أي: فسخا به علي، بأن اتصلت به، وانضممت إليه. أو يكون: فسخا به أي: ابقاه، ويكون قوله: . . . . . . . . . ... ولقد يكونُ به الزَّمَانُ بَخِيلاَ من قول أبي تمام: الطويل عليكَ سَلامُ الله وقْفاً فإنَّني ... رأيتُ الكرِيمَ الحُرَّ ليسَ له عُمْرُ وكقوله: . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . وقوله: الكامل لو طَابَ مَوْلِدُ كُلِّ حَيٍّ مثلَهُ ... وَلَدَ النِّسَاءُ وما لهنَّ قَوَابِلُ

قال: نصب (مثله) على تقدير قوله: لو طاب مولد كل حي طيبا مثل طيب مولد هذا الممدوح لولد النساء ولا قوابل لهن لأن أمرهن كان يتيسر. وهذا الكلام يؤدي إلى أن الممدوح ادعى له الشاعر إنه لما ولد لم يحتج إلى قابلة! فيقال: بلى ولد بقابلة، إلا أن القابلة وجدته متيسر الولادة، طيبا، طاهرا، فلو علم منه ذلك قبل القبول لما احتيج إليها، ولو طاب مولد كل حي طيب مولده في الطهارة والتيسير؛ لما احتاجت النساء إلى قوابل ييسرن امرهن، ويقيهن الخبث والتنجيس. وقوله: الكامل مَنْ لي بِفَهْم أُهَيْلِ يَدَّعِي ... أنْ يَحْسُبَ الهنديَّ فيهم بَاقِلُ قضية باقل مشهورة بالظبي الذي اشتراه وتسييبه، وقد سئل عن ثمنه، برفع أصابعه وإخراج لسانه عبارة عن (أحد عشر). قال: باقل لم يؤت من سوء الحساب، وإنما أتى من سوء العبارة! ولو قال: أن يفحم الخطباء فيهم باقل، ونحوه، لكان أسوغ. وأقول: وهذا نقل قول ابن جني! وقد أجيب عن هذا بأنه من جانب الحساب

أيضا؛ لأنه كان يقدر على أن يمسك الظبي بإحدى يديه، ويعقد الثمن بالأخرى عقد الحساب. وقوله: المنسرح فَصِرْتُ كالسَّيف حَامِداً يَدَهُ ... ما يَحْمَدُ السَّيْفُ كلَّ من حَمَلَهْ قال: المعنى: إن يد الممدوح يد شجاع، وأنا سيف ماض، فهي تحمدني، وأنا أحمدها. واستعار الحمد للسيف الذي يضرب به، وإنما يعني شعره. وأقول: إن قوله: وأنا سيف ماض فهي تحمدني يعني يده، وأنا أحمدها ليس في الكلام ما يدل على أن يده تحمدني، وإنما المعنى أني صرت كالسيف في حمده يده؛ لأن السيف يحمد يده على جودة الضرب، وأنا احمدها على جودة العطاء! وقوله: البسيط قالَ الزَّمَانُ له قَوْلاً فأفْهَمَهُ ... إنَّ الزَّمَانَ على الإمْسَاكِ عَذَّالُ

قال: الهاء في (فافهمه) و (له) عائدة على (الكسوب) - يعني في قوله: البسيط . . . . . . . . . ... ولا كَسُوبٌ بغَيْرِ السَّيفِ سَآّلُ والمراد إن أكرم الناس هو الذي يتعب في جمع المال، ويطلبه بالسيف، ثم يهبه بعد ذلك وأقول: إن التفسير هذا كان ينبغي أن يكون للبيت الذي قبله وهو من: البسيط لا وارِثٌ جَهِلَت يمناهُ ما وَهَبَتْ ... ولا كَسُوبٌ بغير السَّيْفِ سَآّلُ وهو من قول ابن الرومي: الوافر وما في الأرْضِ أكرَمُ من جَوادٍ ... وإنْ أعْطَى القَليلَ من النَّوَالِ وذلكَ إنه أعْطَاك مِمَّا ... تَفِيءُ عليه أطرافُ العَوَالي وقوله: البسيط تَدْري القَنَاةُ إذا اهْتَزَّتْ بَراحتِهِ ... أنَّ الشَّقِيَّ بها خَيْلٌ وأبْطَالُ قال: ادعى للقناة الدراية بما يفعله الفارس، التي هي معه، وهذا مدح للقناة، ليس للفارس به فضيلة!

وأقول: إن المدح، وإن كان للقناة مجازا، إلا إنه للفارس حقيقة، لأنها إنما فعلت ذلك به لكونها في يده، وهو الطاعن بها، فعلى قوله هذا: إذا قيل: السيف يدري إنه يضرب رقاب الأعداء في يد زيد، والفضل يدري إنه يكسب المحامد في صحبة عمرو، وأن لا يكون لزيد ولا لعمرو فضيلة! وهذا لا يقوله محصل، وإنما استعار الدراية هنا للقناة، لأنه جعلها بمنزلة من قد علم ذلك بطول الصحبة وجري العادة. وهذا من احسن الاستعارات والطف المجازات. وقوله: البسيط أمْضَى الفَريقين في أعْدائِهِ ظُبَةً ... والبِيضُ هَادِيةٌ والسُّمْرُ ضُلاَّلُ قال: قوله والبيض هادية أي: يهتدى بها في ظلم النقع، لأن النهار قد استتر بالغبار. واستعار الضلال للرماح. وهو يحتمل إنها تغيبت في النقع، فهي كالضالة فيه. ويمكن أن يعني بقوله ضلال أي: إنها لا يطعن بها؛ لأن القوم قد دنا بعضهم من بعض، فهم يتضاربون بالسيوف، فكأن الرماح ضالة طريقها. وأقول: إن قوله: . . . . . . . . . ... والبِيضُ هاديةٌ والسُّمْرُ ضُلاَّلُ حال من الضمير في قوله: أمضى؛ كأنه قال: الممدوح أمضى الفريقين ظبة في حال

اجتمع فيها حالتان متضادتان وهما: هداية السيوف بضوئها، وضلال الرماح في ظلم الأجوف بالطعن، لا ظلام النقع كما قال! لأنه قد انجلى بضوء السيوف. وقول أبي الطيب بضد قول ابن دريد: الرجز يُرِي المَنُونَ وهي تَقْفُو إثْرَهُ ... في ظُلَمِ الأكْبَادِ سُبْلاً لا تُرَى وقوله: البسيط عليهِ منهُ سَرابيلٌ مضاعَفَةٌ ... وقد كَفَاهُ من الماذِيِّ سِرْبَالُ قال: يقول: على الممدوح سرابيل من الحمد كثيرة، وقد كفاه سربال واحد من الماذي. وأقول: إن هذا تفسير الشيء بنفسه، كما تقول لغيرك: ما الإنسان؟ فيقول: الإنسان! أو تقول له: ما الجوهر أو العرض؟ فيعيد اللفظ الذي سألته عنه، وأردت تفسيره منه! وأقول: المعنى إن الحمد سربال الجود، والماذي سربال البأس، وكان يكفيه من سرابيل الحمد الكثيرة عليه سربال واحد من البأس لاشتهاره به وتقدمه فيه، وإنما أراد أن يجمع بينهما.

وقوله: الكامل لو أنَّ فَنَّا خُسْرَ صَبَّحكُمْ ... وبَرَزْتِ وَحْدَكِ عَاقَهُ الغَزَلُ قال: ما أحسن ما كنى عن الانهزام بقوله: عاقه الغزل! وأقول: وهو قول ابن جني! وأقول: لم يرد بقوله: عاقه الغزل الانهزام؛ وإنما أراد العشق والافتتان. ويدل على ذلك قوله فيما قبل: الكامل . . . . . . . . . ... بَدَوِيَّةٌ فُتِنَتْ بها الحِلَلُ أي: قد بلغ من حسن هذه المرأة البدوية، إلى أن عضد الدولة، مع علو قدره، ووفور عقله، ورصانة حلمه، واحتقاره للشيء النفيس، لو صبح حيها مغيرا عليه أو ضيفا له لعاقه الغزل؛ أي: لشغله الهوى، عما جاء بصدده، ولرغب عن الجيوش والملك حبا لها، وشغفا بها، وليس في هذا توهين لعضد الدولة الممدوح، ولا غض منه، ولا إزراء به؛ بل في ذلك إخبار عن جلالة حسن هذه المرأة بجلالة قدر الصابي إليها، المفتتن بها، وعلو شأنه، وعظم ملكه. وهذا مثل قول النابغة - وهو

مذهب العرب، وقصدهم فيه المبالغة -: الكامل لو أنَّها عَرَضَتْ لأَِشْمَطَ رَاهِبٍ ... عَبَدَ الإلهَ صَرُورةٍ مُتَعَبِّدِ لصَبَا لِبَهْجَتِهَا وحُسْنِ حَدِيثها ... ولخَالَهُ رَشَداً وإنْ لَمْ تَرْشُدِ وقوله: الرجز لو جَذَب الزَّرَّادُ من أذْيَالي مَخَيَّراً لي صَنْعَتي سِرْبَالي ما سُمْتُهُ سَرْدَ سِوَى سِرْوَالِ قال: يقول: لو أن الزراد خيرني فقال: ما تريد ان اصنع لك من اللباس لم اسمه سوى سروال من زرد لأن لي درعا ومغفرا. وأقول: هذا قوله. وهو قول المعري.

وقال: قال أبو الفتح: لو عرض علي الزراد صنعتين من الدرع، مخيرا لي بينهما، لما طلبت منه أن يصنع لي إلا سراويل من حديد تحصن عورتي، ولا أبالي، بعد ذلك، بانحسار سائر جسدي. وأقول: القول قول أبي الفتح، إذا وضع موضع: تحصن عورتي تحصن فرجي لأن ذلك، والمستعمل في كلام العرب، وكلام الله تعالى، إذا أريد العفة. وفي هذا التفسير وصفه نفسه بالعفة والشجاعة، وإشارة إلى قوله: الطويل ولا عِفَّةٌ في سَيْفِهِ وسِنَانِهِ ... ولكنَّها في الكَفِّ والفَرْجِ والفَمِ وقوله: الطويل وَفَاؤكُمَا كالرَّبْعِ أشْجَاهُ طاسِمُهْ ... بأن تُسْعِدَا والدَّمْعُ أشْفَاهُ سَاجِمُهْ أقول: إن هذا البيت قد قدر تقديرات كثيرة، وقيل فيه أقوال مختلفة. والصحيح التقدير فيه: إنه كان يخاطب صاحبيه، فقال: وفاؤكما بأن تسعدا بالدمع كالربع، فالربع أشجاه طاسمه، والدمع أشفاه ساجمه، فحذف الربع الثاني لدلالة الأول عليه، وذلك إنه قدّر أن صاحبيه كانا قد عاهداه على ان يسعدا بالبكاء على الربع،

فقال لهما: لا أعد وفاءكما بالدمع وفاء، إلا أن يكون على قدر حال الربع، فالربع أشجاه طاسمه، فينبغي أن يكون الدمع أشفاه ساجمه؛ أي: يكون الدمع في سجومه على قدر الربع في دروسه، وذلك بمنزلة رجل له صاحب وعده بان يسعده بالجاه على البر فقال له: وفاؤك بأن تسعدني بالجاه كالبر، فالبر خيره أعجله، والجاه أفضله أسهله. وقوله: الطويل فقد مَلَّ ضَوْءُ الصُّبْحِ مما تُغِيرُهُ ... ومَلَّ سَوادُ اللَّيلِ مما تُزَاحِمُهْ قال: أراد: تغير فيه، فحذف حرف الجر، وأوصل الفعل بنفسه اختصارا وأنشد: الرجز في سَاعةٍ يُحَبُّها الطَّعَامُ وأقول: يحتمل أن يكون (تغيره) من الغيرة، فتعديه بالهمزة لأنك تقول: غرت أنا وأغرت غيري، أي: جعلته ذا غيرة؛ كأنه يقول: مل ضوء الصبح من كثرة ما تغيره بضوء الحديد في الغارات على الأعداء، وهذا التقدير أشبه بالقافية لأنها متعدية بنفسها فيكون (تغيره) مثل (تزاحمه).

وقوله: الخفيف أينَ أزْمَعْتَ أيُّهَذا الهُمَامُ ... نحنُ نَبْتُ الرُّبَى وأنْتَ الغَمامُ قال: قوله: نحن نبت الربى إنما جاء بالربى لإقامة الوزن، ولو أمكنه أن يقول: نحن النبت وأنت الغمام لكان ذلك أعم. قال: ويجوز أن يقال: إنما خص (الربى) لأن النبت عليها احسن من الوهد لأن السيل يصرع الشجر فيقذفه في الأودية ويلقي عليه الدمن. وأقول: المعنى بقوله: . . . . . . . ... نَحْنُ نبتُ الرُّبَى وأنتَ الغَمَامُ أي: ليس لنا نفع إلا بك، ولا عطاء إلا منك، كما إن نبت الربى ليس له سقي إلا من الغمام، بخلاف نبت السهول والوهاد، فإنه يسقى من الغمام ومن غيره، ولا كذلك نبت الربى. وقوله: الخفيف ليتَ أنَّا إذا رَحَلْتَ لك الخيْ ... لُ، وأنَّا إذا نَزَلْتَ الخِيامُ

قال: تمنى أن يكون غير مفارق له في المسير والمقام. وقد عاب بعض الناس هذا القول عليه، وقال: الخيام تكون متعالية على من فيها، فقال أبو الطيب: الوافر لقد نَسَبُوا الخِيَامَ إلى عَلاءٍ ... . . . . . . . . . وحجة أبي الطيب في هذا واضحة؛ لأن الخيمة إنما هي خادمة لمن يحل فيها، تصد عنه حرارة الشمس وغيرها من المؤذيات. وتلخيص معناه ليتنا نقيك الردى، ونحتمل عنك الأذى. وأقول: إنما تمنى أن يكون بمكان الخيل، والخيام، ليقيه الأذى، من تحته، وفوقه، بعقل وفهم وشفقة وتوفية؛ لجلب المنافع، ودفع المضار، بخلاف الخيل والخيام فانهما لا يمكن فيهما ذلك. وقوله: الطويل ولا كُتْبَ إلا المشرفيَّةُ عنَدهُ ... ولا رُسُلٌ إلاَّ الخميسُ العَرَمْرَمُ أقول: لو كان قال:

ولا كُتُبٌ إلا الصَّفائحُ عندَهُ ... . . . . . . . . . لكان أعدل لألفاظه؛ لأن (كتب) تقابل (رسل) وتوازيها بالحروف والحركات، من غير إخلال بالمعنى، وتكون قد جاءت على أصلها لأن جمع (فعال): فعل. وقوله: الطويل وَهُنَّ مَعَ الغِزلانِ في الوَادِ كُمَّنٌ ... وَهُنَّ مع العِقْبَانِ في النِّيقِ حُوَّمُ قال: كثر (الوادي) في كلامهم حتى حذفوا منه الياء، والأجود إثباتها مع الألف واللام كقول سحيم: الطويل ألا أيُّهَا الوَادي الذي ضَمَّ سَيْلُهُ ... إلينَا نَوَى الحَسْنَاءِ حُيِّيتَ وادِيَا وأقول: إن حذف الياء من الوادي هاهنا أحسن، من اثباتها؛ ليقابل بين (الواد) و (النيق) كما قابل بين (الغزلان) و (العقبان) و (كمن) و (حوم)، ومثل ذلك مجيئه في الفواصل كقوله تعالى: (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البْلادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ) وإنما حذفت لأجل السجع، وإن كانت الفواصل كالقوافي، يجوز فيها ما لا يجوز في حشو البيت. إلا أنهم قد يعنون بتحسين الالفاظ، كما يعنون بتحسين المعاني. وذلك إنما يكون في ازدواج ألفاظ، أو في سجع، كقولهم: (الغدايا والعشايا) و: ارجعن مأزورات غير مأجورات وقولهم: شهر ثري وشهر ترى والمقابلة والموازنة بهذه المثابة لأن فيها تحسين الألفاظ.

وقوله: البسيط إذَا رأيتَ نيوبَ اللَّيثِ بارزةً ... فلا تَظُنَّنَّ أنَّ اللَّيْثَ مُبتَسِمُ قال: يقول لسيف الدولة: إذا الليث أبدى نيوبه؛ فليس ذلك تبسما، وإنما ذلك إرادة الصولة. قال: وهذا نقيض ما زعمه الفرزدق في وصف الذئب، لما رفع ناره، فجاءه يلتمس عنده الخير في قوله: الطويل فقلتُ له لما تَبَّسمَ ضاحِكاً ... وقائمُ سَيْفي من يَدِي بِمَكَانِ وأقول: إن قول أبي الطيب مثل قول الفرزدق، وليس نقيضه! وذلك أن الذئب لما كشر للفرزدق عن أنيابه، شبهه بالمتبسم ضاحكا، وإن لم يكن كذلك، لأن الضحك من خواص الإنسان ولهذا قال: . . . . . . . ... وقائمُ سَيْفي من يَدِي بِمكانِ خيفة غدره وأذاه، فهذا مثل قوله فليس ذلك تبسما؛ إنما هو للصولة، فقد اتفقا في المعنى، وإن اختلفا في اللفظ. وهذا من قول عنترة: الكامل . . . . . . . . . ... أبْدَى نَوَاجِذَهُ لِغَيْرِ تَبَسُّمِ

وقوله: البسيط رِجْلاهُ في الرَّكْضِ رِجْلٌ واليَدَانِ يَدٌ ... وفِعْلُهُ ما تُرِيدُ الكَفُّ والقَدَمُ قال: معناه: ما تريد كف راكبه وقدمه؛ أي: هو جواد مؤدب، فإذا قصر عنانه قصر في الجري، وإذا أرخى له العنان، بذل ما يريد الراكب من الجري. وكذلك إن حرك الفارس قدمه عليه ليمتري حضره فانه يسمح بما يرضيه. وأقول: إنما فسر هذا، نظرا إلى قول امرئ القيس: الطويل فللزَّجْرِ ألْهُوبٌ وللسَّاق دِرَّةٌ ... . . . . . . . . . وقد أخذته عليه امرأته أم جندب. وقال الواحدي: () معنى قوله: . . . . . . . . . . . . ... وفِعْلُهُ ما تريد الكَفُّ والقَدَمُ أي: يستغني عن تحريك اليد بالسوط، والرجل بالحث. وكأن قول التبريزي اقرب إلى الحقيقة من قول الواحدي؛ لأن الإرادة، إنما تتعلق بالفعل، لا بالترك. وقول الواحدي يتعلق بالترك؛ لأن اليد تريد أن لا تتحرك بالسوط، والرجل أن لا تتحرك بالحث. وهو مع ذلك جائز حسن لأنه مجاز واستعارة، والمجاز في الشعر أحسن من الحقيقة.

وقوله: البسيط صَحِبْتُ في الفَلواتِ الوَحْشَ منفرداً ... حتَّى تَعَجَّبَ منِّي القُورُ والأكَمُ إن قيل: لم قال: القور والاكم وهما بمعنى واحد؟ وهلاّ قال: الوهد والاكم ليختلف المعنى، فيكون أحسن في اللفظ، وأعم في الفائدة؟ فيقال: إنما خص القور والاكم للمناسبة التي بينها وبينه في الارتفاع والجلد والصلابة، ولأن ذا الشرف، والمجد، والحلم، والصبر، يشبه بالجبل، ولا يشبه بالوهد وما انخفض من الأرض. فلهذا خصها بالذكر دون أضدادها. وقوله: البسيط إذَا تَرَحَّلْتَ عن قَوْمٍ وقد قَدَرُوا ... أنْ لا تُفَارِقَهُمْ فالراحلون هُمُ قال: قال أبو العلاء: هذه دعوى كغيرها. وإنما غرضه إن الرجل، إذا فارق أناسا وقد ظنوا إنه غير مفارق لهم أسفوا له فكأنهم راحلون. وأقول في قوله: فارق أناسا وقد ظنوا إنه غير مفارق: إن هذا ظن فاسد إلا أن يريد: غير مفارق لهم بالمودة.

وقوله: أسفوا له فكأنهم راحلون. فيقال: ولم خص الأسف بالراحلين دون المقيمين؟ والمعنى إنك إذا رحلت عن قوم وهم قادرون على أن لا تفارقهم بإحسانهم إليك، وكف الأذى عنك، ثم الأذى عنك، ثم لم يفعلوا فهم الراحلون؛ أي: المقاطعون؛ لأن الرحيل مقاطعة؛ أي: هم ألجأوك إلى الرحيل فكأنهم فعلوا الرحيل. وقوله: البسيط بأيِّ لَفْظٍ تَقُولُ الشِّعْرَ زِعْنِفَةٌ ... تجوزُ عِندَكَ لا عُرْبٌ ولا عَجَمُ قال: قوله: لا عرب ولا عجم أي: ليست لهم فصاحة العرب، ولا تسليم العجم لفصاحة العرب. وأقول: إن قوله: . . . . . . . . . زِعْنِفَةٌ ... . . . لا عُرْبٌ ولا عَجَمُ أي: خسيس مجهول في القبيلين؛ أي: وضيع في النفس والنسب. وقوله: الطويل إذَا كانَ ما تَنْويهِ فِعْلاً مُضَارعاً ... مَضَى قبلَ أن تُلْقَى عليه الجَوازِمُ

قال: كأنه إذا جرى في نفسه، أن يقتل عدوا قتله، من قبل أن يقول قائل: لم يقتله. وأقول: إنه لم يبين ما سبب ذلك. والمعنى، إنه يجعل ذلك ماضيا. أما كان عطاء فإنه لا يتردد فيه، ويؤامر نفسه بخلا. وأما أن يكون إقداما، فإنه لا يتوقف فيه، ويؤخره جبنا، بل إذا نواه أمضاه عاجلا، جواد كان أو بأسا فيقال: فعل قبل أن يقال لم يفعل. ويحتمل أن يكون في ذلك إشارة إلى سعادته. وقوله: الطويل وقد حلكَمُوهَا والمَنايَا حَوَاكِمٌ ... فمَا مَاتَ مَظْلومٌ ولا عاشَ ظالِمُ قال: أي: لما ظلموا، وعتوا بقصدهم هدمها، أهلكهم الله، وسلّم سيف الدولة وأصحابه. وأقول: إن المحاكمة، إنما وقعت بين الروم وبين الحدث، إلى المنايا. وكنى بها عن الحروب أو عن السيوف والرماح. فالمظلوم هو الحدث، والظالم هم الروم، فعاش المظلوم بسيوف الدولة ومات الظالم، فهذا هو المعنى لا قوله: فأهلكهم الله وسلّم سيف الدولة وأصحابه.

وقوله: الطويل بِضَرْبٍ أتَى الهَامَاتِ والنَّصْرُ غَائِبٌ ... وصَارَ إلى اللّبَّاتِ والنَّصْرُ قَادِمُ قال: يقول: إذا ضربت عدوك، وصار السيف إلى رأسه، لم تعد ذلك نصرا، ولا ظفرا. فإذا فلق السيف رأسه، وصار إلى لبته؛ فحينئذ يكون ذلك عندك نصرا، ولا يرضيك ما دونه. وهذا قول ابن جني أيضا! وأقول: إن قوله: بِضَرْبٍ أتَى الهَامَاتِ والنَّصْرُ غائبٌ ... . . . . . . . . . أي: غائب عنك، وعن أعدائك. وفي هذا إخبار عن اشتداد الأمر في الحرب، وإنه كان له فيها، مثلما عليه. ويدل على ذلك قوله قبل: الطويل وَقَفْتَ وما في المَوْتِ شكٌّ لواقِفٍ ... . . . . . . . . . وقوله: . . . . . . . . . . . . ... وصَارَ إلى اللَّبَّاتِ والنَّصْرُ قادِمُ أي: لما فلقت السيوف الجماجم، تبين بذلك النصر، وإن الظفر لك.

وأقول: إنه لا يمكن أحد أن يعبر عن شدة أمر الحرب، والتباسه على الفريقين، بأحسن من هذه العبارة! وقوله: الطويل أَيُنْكِرُ رِيحَ اللَّيْثِ حَتَّى يّذٌوَقَهُ ... وقد عَرَفَتْ رِيحَ اللُّيوثِ البهائِمُ قال: يقول: ألم يشم هذا الدمستق رائحة الليث، فيعلم إنه إن وقف فرسه؛ فقلة فطنته تمنعه من أن يهرب حتى يذوقه الليث؛ فعند ذلك يفر. والبهائم إذا وجدت رائحة الأسد فرت منه؛ أي: لو كان حازما، لكفاه ما سمعه من شجاعتك عن ملابستك. وأقول: إن قوله: ألم يشم هذا الدمستق رائحة الليث وقوله: حتى يذوقه الليث ليس بشيء! وإنما معناه: ألم يعلم خبرك في الشجاعة، وهو مشهور فلا يقدم عليك ويسلم؟ وضرب مثلا بالأسد والبهائم، وإنها مع جهلها، تعرف الأسد برائحته فتتقيه، فأنت أسوأ حالا من البهائم، مع إنك إنسان، إذ لم تعرف خبر سيف الدولة فتتقيه. والهاء في (يذوقه) راجعة إلى الدمستق؛ أي: تخبره وتلابسه. وقوله: الطويل تَغُرُّ حَلاوَاتُ النفوس قُلُوبَهَا ... فَتَخْتَارُ بَعْضَ العَيْشِ وهو حِمَامُ

قال: قلوبها أي: قلوب النفوس فتختار الهرب خوف القتل، وهو كالقتل. وأقول: إن قوله: فتختار الهرب لم يرده وإنما أراد: فتختار الذل بطلب الهدنة، وقد فسره بالبيت الذي بعده. وقوله: البسيط أبْدَيْتِ مثلَ الذي أبْدَيْتُ من جَزَعٍ ... ولم تُجِنِّي الذي أجْنَنْتُ من ألَمِ قال: وصفها بصحة الوفاء في أول الأبيات - يعني قوله: البسيط تَبَسَّمَتْ عن وفاءٍ غير مُنْصَدِعٍ ... . . . . . . . . . ثم نقض ذلك بقوله: إنها أبدت مثل الذي أبداه من الجزع، ولم تخف كما أخفاه من الألم. وأقول: إن ذلك ليس بنقض للأول؛ لأن المها إذا كان دون ألمه، فقد أتمت على الجملة. وإذا ألمت فقد وفت، والعاشق لا بد أن يكون توجعه بالفراق أكثر من توجع المعشوق، وكذلك جميع أحواله في الهوى، ولو تساويا في ذلك، لكان العاشق معشوقا،

ولكان كما قال في البيت الذي يليه: البسيط إذاً لَبَزَّكِ ثَوْبَ الحُسْنِ أصْغَرُهُ ... وصِرْتِ مثلِيَ في ثَوْبينِ من سَقَمِ وقوله: البسيط وكلَّما نُطِحَتْ تحت العَجَاجِ به ... أُسْدُ الكتَائبِ رَامَتْهُ ولم يَرِمِ قال: ليس النطح مما يليق بذكر الأسد، وكان الأولى أن يقول: وكلما صدمت أو رميت أو نحو ذلك، فيما يليق بعضه ببعض. وأقول: إنه إنما قال: نطحت. . . به أسد الكتائب ليغرب في الاستعارة، فجعل الأسد تنطح، إشارة إلى أن هذه أسد، ليست كالأسد المعروفة، إيماء إلى إنها رجال في أيديها رماح تنطح بها، بمنزلة النطح بالقرون، وهذا ينظر إلى قوله: البسيط فما تَرَكْنَ بها خُلْداً له بَصَرٌ ... تحت التُّراب ولا بازاً لَهُ قَدَمُ وقوله: الطويل ونَكْهَتُهَا والمَنْدِليُّ وقهوةٌ ... مُعَتَّقَةٌ صَهْبَاءُ في الرِّيح والطَّعْمِ

ذكر التبريزي في هذا البيت، إن أبا الطيب ذكر فيه ثلاثة أشياء، وأخبر إنها قد تساوت في شيئين؛ في الريح والطعم، ولم تتساو إلا في شيء واحد وهو الريح، فأما الطعم فلم تتساو فيه، لأن النكهة؛ رائحة الفم، ليس لها طعم، والمندلي: العود؛ ليس بطيب الطعم لأنه مر. وأقول: إنه لو كان وضع موضع نكهتها ريقتها، لكان تساوى منها شيئان في الطعم، وهما الريقة والخمر، وجاز الإخبار عن الثلاثة بالتساوي، لتساويها في الريح، وتساوي شيئين منها في الطعم. ويكون مثل قوله: (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ) وإن كان من أحدهما. وقوله: الطويل مُقَلَّدُ طَاغي الشَّفرتين محكَّمٌ ... على الهَامِ إلاَّ إنه جَائِرُ الحُكْمِ قال: يريد أن شفرتيه قد طغت في قتل الناس. قال: وكل شيء زاد وزيادته مؤدية إلى هلكه فهو طاغ. وادعى أن سيفه محكم على الهام، وهو، مع ذلك، جائر في الحكومة، وإنما ينبغي أن يحكم المنصف. وهذا اللفظ يحتمله الشعر، ولا حكم للسيف، وإنما هو لمن يضرب به.

وأقول: إنه لم يفهم المعنى! يقول: أن شفرتيه قد طغتا في قتل الناس! وإنما طغيانهما هاهنا في المضاء والقطع لا في القتل. ولهذا وصفه بأنه جائر في الحكم، وفي البيت الثاني بأنه متحرج عن حقن الدماء؛ أي: لا بد له من اراقتها، وان يطير الرؤوس عن الأجسام. وكل هذا صفة له بالمضاء والحدة. فينبغي أن يفسر بهذا طغيان شفرتيه وجوره في الحكم، لا بقتل من لا يستحق القتل. والذي يدل على ذلك قوله فيما بعد: الطويل وَجَدْنَا ابنَ إسحاقَ الحُسَيْنَ كَجَدِّهِ ... على كَثْرَةِ القَتْلَى بريئاً من الإثْمِ وقوله: الوافر وخَيْلِ لا يَخِرُّ لها طَعِينٌ ... كأنَّ قَنَا فوارِسِهَا ثُمامُ قال: قوله: وخيل أن أراد بعض الخيل فهو صادق في ذلك؛ فإن كثيرا من الملوك تجري خيولهم في الميادين، وتلعب فرسانها بالرماح، المدة الطويلة، ولا يكون جرح ولا قتل.

وأقول: إن قوله: وخيل عطف على قوله: بأجسام، وهي راجعة إلى قوله: الوافر أرانبُ غَيْرَ أنَّهُمُ مُلُوكٌ ... . . . . . . . . . والمعنى، إنه وصف هؤلاء الملوك بالتغفل والتواني، وترك التيقظ. ثم وصفهم بالنهم وكثرة الاكل، وأنهم لا تقتلهم الأقران بالطعان، وإنما يقتلهم الإمعان في الطعام، ثم وصفهم وأصحابهم بالضعف، وكنى عنه بضعف رماحهم، وإنها ليست قنا في الصلابة التي تنكت الأقران، وإنما هي من ثمام. فهذا ترتيب معاني هذه الأبيات. وقوله: الوافر ولو حِيزَ الحِفَاظُ بغَيْرِ عَقْلٍ ... تَجَنَّبَ عُنْقَ صَيْقَلِهِ الحُسَامُ قال: هذا البيت متصل بما قبله. يقول: الناس لا عقول لهم، وإنما يؤدي إلى حفظ المودة عقل الإنسان، وابن آدم كالسيف، لا عقل له صحيح، فكيف يعتمد جميل الأفعال؟ وأقول: إنه لم يعبر عن المعنى بعبارة له مستوفية، وفية شافية. وهذا البيت - كما ذكر - متصل بما قبله، والتقدير: كأنه يقول: أنت ليس لك صديق إلا نفسك، فلا تثق بمودة من ترى من هؤلاء الناس بإحسانك إليه، ونفعك له، ولا تأمن أذاه، ولا ترج حفاظه

وهو غير عاقل، فإنك وإياه بمنزلة الصيقل والسيف في صقله وإرهاف حده؛ فانه مع ذلك لا يتجنب عنقه؛ لأنه لا عقل له. وقوله: الطويل ولا جُرْجُهُ يُؤسَى ولا غَوْرُهُ يُرَى ... ولا حَدُّهُ يَنْبُو ولا يَتَثَلَّمُ قال: هو في البيت الأول مثبت في المعنى لما نفاه في اللفظ، ومتجاوز له في اللفظ والوصف. وهو في البيت الثاني ناف في اللفظ والمعنى جميعا. وأقول: هذا الذي ذكره ليس بشيء! وهو قول الواحدي، وقد ذكرته في شرحه. وقوله: الطويل ولا يَشْتَهِي يَبْقَى وتَفْنَى هِبَاتُهُ ... ولا تَسْلَمُ الأعداءُ منه ويَسْلَمُ

قال: أي لا يشتهي هذا الممدوح أن يسلم ويسلم أعداؤه، ولكن يريد أن يسلم هو في نفسه ويهلك أعداؤه! تأمل هذا التفسير الذي لا يقوله بصير! وكأنه قد التزم أن لا يصيب معنى فيه أدنى إشكال! والمعنى في قوله: . . . . . . . . . ... ولا يَسْلَمُ الأعداءُ منه ويَسْلَمُ أي: لا يريد مسالمتهم، وموادعتهم، ضعفا وجبنا وخوفا منهم، وكراهة للقتال. وقد اخبر بهذا القول في عجز البيت، عن شجاعته، كما اخبر في صدره عن سماحته. وقوله: الطويل إلى اليَوْمِ ما حَطَّ العِداءُ سُروجَهُ ... مُذُ الغَزْوُ سَارٍ مُسْرِجُ الخَيْلِ مُلْجِمُ قال: الغزو مرفوع بالابتداء وخبره محذوف، والتقدير: مذ الغزو كائن، أو واقع. وأقول: وهذا ليس بشيء! والكلام تام لا يحتاج إلى تقدير محذوف. وقد ذكرته في شرح الواحدي.

وقال: الخفيف لَيْلُهَا صُبْحُهَا من النَّارِ والإصْ ... باحُ لَيْلٌ من الدُّخَانِ تِمَامُ قال: يعني انهم يوقدون النيران بالليل لقرى الضيفان، فالليل كأنه صبح لزوال الظلام. وقوله: والإصباح ليل يحتمل وجهين: أحدهما: انهم يوقدون النار بالنهار أيضا، لأن قراهم لا ينقطع في ليل ولا نهار، فدخان النار يستر ضياء الشمس. والآخر: أنهم يعقرون في النهار ويحاربون، فيزول نور النهار لأجل الغبار. وأقول: إن الوجه الثاني الذي ذكره في قوله: والإصباح ليل من الدخان ليس بشيء! لأنه لا دليل عليه من لفظ البيت ولا من مفهومه. ولو أراد الحرب لقال: ليل من العجاج أو الغبار والوجه الصحيح هو الأول. وقوله: الخفيف ونُفُوسٌ إذا انْبَرَتْ لقتالٍ ... نَفِدَتْ قبلَ ينفَذُ الإقدامُ

قال: إذا انبرت لقتال أنفدتها الحرب وإقدامها لم ينفد. وأقول: هكذا قال أبو الطيب، فكلا القولين يحتاج إلى تفسير. وقد ذكرته قبل. وقوله: الطويل ولم تُسْلِها إلاَّ المنَايَا وإنما ... أشَدُّ من السُّقْمِ الذي أذْهَبَ السُّقْمَا لم يذكر معنى هذا البيت! وهو أن جدته كانت سقيمة بسبب شوقها إليه، فجاءها ما أسلاها عنه، وهو الموت، فذهب السقم بما هو اعظم منه وهو الموت. وهذا مثل قولهم: هذا أعظم من الحرش! ومثل قوله بعده: الطويل وكنتُ قُبَيْلَ المَوْت أسْتَعْظِمُ النَّوَى ... فَقَدْ صَارتِ الصُّغْرَى التي كانت العُظْمَى وقوله: الطويل وإنِّي لِمَنْ قَوْمٍ كأنَّ نُفُوسَنَا ... بهَا أَنَفٌ أنْ تَسْكُنَ اللَّحْمَ والعَظْمَا

قال: كأنه أراد بهذا القول: نؤثر القتل؛ لأن نفوسنا تأنف أن تسكن اللحم والعظم. وأقول: إن هذه العبارة ناقصة، قاصرة عن المعنى، وهو: أنّا لكثرة ما نتعرض للقتل، بإلقاء نفوسنا في الحرب، ولا نشفق عليها من الموت، كأن نفوسنا تأنف أن تسكن أجسامنا المركبّة من اللحم والعظم أو أراد أنهم من الملائكة، لا من الناس؛ فأنفسهم تأنف من سكنى الأجسام المركبّة من اللحم والعظم. وقوله: الطويل ويَبْسِمْنَ عن غُرٍّ تَقَلَّدْنَ مِثْلَهُ ... كأنَّ التَّراقي وُشِّحَتْ بالمبَاسِمِ قال: إنما عدل عن الدر إلى الغر؛ لأن الدرة ربما كانت عظيمة لا يحسن أن تشبه بها السن. وأقول: إن كان عدل عنه لذلك؛ فإنه قد وقع فيه! لأن الغر هنا صفة للدر، ولهذا قال: تقلدن مثله؛ أي درا مثله؛ ثم قال: . . . . . . . . . ... كأنَّ التَّراقي وُشِّحَتْ بالمبَاسِمِ

فحقق إنها در؛ لأن العقود المتوشح بها لا تكون إلا درا. على إنه قد روي: ويبسمن عن در وإنما في غر زيادة الوصف. وقوله: الطويل تَمُرُّ عليه الشمسُ وهي ضَعِيفَةٌ ... تُطَالِعُهُ من بين رِيشِ القَشَاعِمِ قال: يقول: إن الجيش ارتفع غباره، فالشمس لا تصل إليه، إلا أن تدخله من بين ريش القشاعم. وأقول: وكذلك إذا لم يرتفع غباره؛ فان الشمس لا تدخله إلا من بين ريش القشاعم! وضعف الشمس هنا ما هو لكثرة الغبار، وإنما هو لكثرة الطير التي قد حجبت بين الجيش وبينها، فربما نزل من فرجها ضوء، فتدور على البيض، مثل الدراهم ولو كان من ارتفاع لما كان كذلك. وقد جعل أبو الطيب ضوء الشمس النازل من خلل الأشجار في مكان آخر بمنزلة الدنانير، وهو قوله: الوافر وألْقَى الشَّرقُ في ثيابي ... دَنَانيراً تَفِرُّ من البَنَانِ

وقوله: الكامل والناسُ قد نَبَذُوا الحِفاظَ فُمْطَلقٌ ... يَنْسَى الذي يُولَى وعَافٍ يَنْدَمُ قال: عاف من العفو عن الإساءة، يندم لأن ضنيعه لم يشكر. وعلى كل حال فالندم على فعل الجميل، غير مستحسن. وأقول: المعنى قد ذكرته فيما تقدم. وقوله: الطويل وقد وَصَل المُهْرُ الذي فوقَ فَخْذِهِ ... من اسْمِكَ ما في كُلِّ عُنْقٍ ومِعْصَمِ قال: أي أنت مالك كل حي، فرسا كان أو إنسانا. وأقول: ليس هذا تفسير هذا البيت. بل هو تفسير البيت الذي يليه! وإنما تفسيره، أن هذا الفرس في فخذه سمة بالنار، يعرف بها لك، كما إن في كل عنق

ومعصم سمة من جميلك يعرف بها لك، فكلا السمتين يدل على الملك؛ إلا أن هذه سمة بنار، وهي للدواب، وهذه سمة بغير نار وهي للناس. وقوله: الوافر مَلُومُكُمَا يَجِلُّ عن المَلامِ ... وَوَقْعُ فَعَالهِ فَوْقَ الكَلامِ قال: قوله: . . . . . . . . . ... وَوَقْعُ فَعَالهِ فَوْقَ الكَلامِ يريد إنه إذا قال قولا، اتبعه بالفعل، من غير تلبث. وليس كمن يمطل إذا وعد إنه يفعل. وأقول: إنه لم يرد اتباع قوله بالفعل، ولا في الكلام دليل عليه. وإنما أراد إنه يفعل أكثر مما يقول، وليس كمن يقول قولا، من وعد، أو وعيد، فيكون فعله اقل من قوله. وهذا مثل قول الآخر: الوافر يقولُ فُيُحْسِنُ القَوْلَ ابنُ لَيْلَى ... ويَفْعَلُ فَوْقَ أحْسَنِ مَا يَقُولُ

وقوله: الوافر ومَنْ يَجِدُ الطَّريق إلى المَعَالي ... فلا يَذَرُ المَطِيَّ بلا سَنَامِ قال: من في هذا البيت معطوف على من في البيت الأول. يقول: اعجب ممن يجد طريقا إلى المعالي ولا يطلبها، حتى يذهب أسنمة الإبل. وأقول: هذا المعنى لا يكون إلا على رواية ولا يذر بالواو، وأما برواية فلا يذر بالفاء، فيكون المعنى غير ذلك. ويجوز في قوله: ومن يجد الرفع على ما قبله، وتكون من نكرة أو بمعنى الذي. . ويحتمل أن يكون هذا البيت غير معطوف على الأول، ويكون مثلا قائما بنفسه، وتكون من للشرط ويجد مجزومة. والتقدير: ومن يجد طريقا إلى المعالي، وطريق المعالي صعبة شاقة بعيدة، فليستظهر عليها بالإبل التي لها أسنمة؛ أي: بالسمان، ليقوى على طريقها، والوصول اليها، كالابل التي تستعد للحجاز وما أشبهه من البلاد الشاقة البعيدة. وهذا مثل ضربه بذلك؛ يقول: من أراد إدراك المعالي، فليتوصل إليها بالعطايا الكثيرة، والجود الظاهر القوي.

وقوله: المتقارب فذَاكَ الذي عَبَّهُ مَاؤهُ ... وذاك الذي ذَاقَهُ طَعْمُهُ قال: يقول: هذا الهالك، إنما شرب ماء نفسه. والذي ذاق، إنما هو طعمه؛ لأنه كان يذيق عداته الموت. يقول: كأن الزمان أتى من موت فاتك بما فيه نقض للعادة، لأن الماء مشروب لا شارب، والطعم مذوق لا ذائق. وأقول: إنه توهم إن الهاء في عبّه وذاقه ضمير فاعل، وليس كذلك، إنما هو ضمير المفعول والفاعل مستتر؛ كأنه قال: وذلك الشيء الذي شربه فاتك ماؤه، وذاك الشيء الذي ذاقه فاتك طعمه. وهذا البيت مرتب على البيت الذي قبله وهو: المتقارب وإنَّ مَنِيَّتَهُ عنَدهُ ... لكَالخَمْرِ سُقِّيَهُ كَرْمُهُ وإذا كان كذلك، فهو الشارب لما سقي، والذائق لما أطعم. فالماء مشروب لا شارب، والطعم مذوق لا ذائق. والعادة جارية على ما هي عليه لم تنتقض.

وقوله: الكامل والماءُ بين عَجَاجَتينِ مُخَلِّصٌ ... يَتَفَرَّقَانِ بهِ وَيْلتَقِيَانِ قال: يعني عجاجة المسلمين وعجاجة الروم. وأقول: وليس كذلك! بل العجاجتين للمسلمين؛ لا نمنعهم من عبر النهر، ومنهم من لم يعبره. فكلا الفريقين، قد أثار عجاجة، فإذا قويتا التقتا، وإذا ضعفتا خلّص بينهما النهر فافترقتا. وقد أخبر أبو الطيب أنهم قطعوه، فدل على ما قلت. وقوله: الكامل يَتَفَزَّعُ الجَبَّارُ من بَغَتَاتِهِ ... فَيظَلُّ في خَلَواتِهِ مُتَكَفِّنَا قال: زعم إنه يتكفن، لأنه لا يأمن أن يأتيه من قبل الممدوح. ومما هو

بضد هذا الغرض، قول مسلم بن الوليد: البسيط تراهُ في الأمنِ في دِرْعٍ مُضَاعَفَةٍ ... لا يأمَنُ الدَّهْرَ أن يُؤتَى على عَجَلِ وأقول: إن أبا الطيب وصف الجبار بالخوف من الممدوح، ومسلما وصف الممدوح بالحزم. حتى روي، أن يزيد بن مزيد، دخل على الرشيد ذات يوم، فاستبان من تحت ثيابه درعا، فقال: ما هذا؟ قال: أردت تصديق قول مسلم يا أمير المؤمنين! وذكر البيت. والحزم هو التحفظ، والتحفظ ضرب من الخوف؛ وإذا كان كذلك فليس بين البيتين تضاد. وقوله: الكامل طَرِبَتْ مَرَاكِبُنَا فَخِلْنَا أنَّها ... لَوْلاَ حَيَاءٌ عاقَهَا رَقَصَتْ بنا قال: المراكب: جمع مركب، وهو الذي يوضع على ظهر الدابة ليركب فيه. ويجوز أن تسمى الدابة مركبا. قال: وكون المركب في معنى السرج، أبلغ في هذا الموضع؛ لأن الدابة حيوان فهي أقرب إلى الرقص من الذي يركب فيه. وأقول: إن الإغراق في المبالغة في كل موضع لا يستحسن، فوصف السروج بالطرب والحياء، والرقص، بعيد من الحقيقة. وقد جعل - هو - البعد من الحقيقة سببا للحسن، وذلك غير حسن؛ لما فيه من الإحالة. ونحن إذا وصفنا الخيل، التي هي حيوان، بذلك، كنا من الإحالة على وجل، فكيف بالسروج التي هي خشب؟!

وقوله: الكامل فَطِنَ الفُؤادُ لِمَا أتيتُ على النَّوَى ... وَلِمَا تَرَكْتُ مَخَافَةً أنْ تَفْطُنَا ذكر فيه أقوالا، غير سائغ ذكرها. والصحيح إنه وصفه بالفطانة، وبالغ، حتى جعله بمنزلة من يعلم الغيب؛ يقول: أنت عالم بما فعلت، وما تركت على النوى، فأتيت الأفعال الحسنة، وتركت الأفعال القبيحة، خيفة أن تفطن، اتباعا لمرضاتك، وما يعجبك ويقرب منك. وقوله: الكامل أضْحَى فِراقُكَ لي عليه عُقُوبةً ... لَيْسَ الذي قاسيتُ منه هَيِّنَا ذكر أيضا في تفسير هذا البيت، ما لا تتحصل منه فائدة! والذي تحصل به الفائدة، أن يكون الضمير في عليه راجعا إلى: فراقك؛ يقول: أضحى فراقك عقوبة لي عليه؛ أي: على فراقك، لكوني لم أسر في صحبتك، وأمضي في خدمتك. ولهذا قال: ليس الذي قاسيت منه - أي: من فراقك - هينا؛ أي: عذبت على تفريطي وخطئي، عذابا صعبا، أي: عذبت به عليه واعترف أن ذلك ذنب، وسأله فيما بعد أن يغفره له، فليس له ذنب سواه، ولا يدل اللفظ على غيره، وما ذكر فليس يثبت.

وقوله: الطويل رَأتْ كلَّ مَنْ يَنْوي لك الغدر يُبْتَلَى ... بِغَدْرِ حَيَاةٍ أو بِغَدْرِ زَمَانِ قال: لا فرق بين غدر الحياة، وغدر الزمان. وإنما حمله على ذلك إقامة الوزن. والزمان غدره على ضربين: أحدهما: هلاك النفوس. والآخر: هلاك المال، وزوال الدول، وموت الأعزاء. فغدر الحياة في غدره. أقول: إن استعارة الغدر للحياة والزمان مجاز. وقد جعلهما كالصاحبين، فليس أحدهما داخلا تحت الآخر. فكنى عن الموت بغدر الحياة، وعن ذهاب المال والملك بغدر الزمان. وإذا كانا كذلك، فبينهما فرق. ولم يذكر غدر الحياة لإقامة الوزن، كما ذكر، بل لزيادة الفائدة التي بيناها. وأعجب من تتبعه له دائما من غير عثور على خطأ، أو إظهار فائدة، ولكنه يشتهي أن ينخرط في سلك الأدباء، ويجري في حلبة النقاد على الشعراء!! وقوله: الطويل ثَنَى يَدَهُ الإحْسَانُ حتى كأنَّهَا ... وقد قُبِضَتْ كانَتْ بِغَيْرِ بَنَانِ

أخبر عن المعري: قال: ملأت يده بالإحسان حتى ثناها إلى ورائه، فكأنها، لما قبضت ما وهبت له، لم يكن لها بنان يطبقها على الموهوب فأرسلته! وأقول: إن في هذا البيت توبيخا لشبيب يتبع ما تقدمه؛ أي: لم يمسك من إحسانك على شيء فيجازيه بالكف عن الخروج عليك. فكأن إحسانك رد يده، لما قبضته، وكانت صحيحة، بغير بنان، فلم يحصل منه على شيء. فقد نسبه إلى الغدر بسوء المجازاة، وما بعده يدل عليه. فهذا هو الأشبه بالمعنى، لا قوله: رد يده إلى ورائه لما قبضت ما وهبت له! وقوله: المنسرح تَبُلُّ خَدَّيَّ كُلَّما ابْتَسَمَتْ ... من مَطَرٍ بَرْقُهُ ثَنَايَاهَا قال: قال المعري: هذا البيت يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون: كلما ابتسمت أخذه البكاء؛ لأنه يخاف من الفراق، أو تغير النية،

فيكون المعنى كقوله: الطويل . . . . . . . . . ... . . . ظَلْتُ أشْكُو وتَبْسُمُ والآخر: أن تكون المحبوبة تقبله، فيصيب خديه شيء من الريق وإن قل. ويقوي هذا الوجه قوله: المنسرح فَقَبَّلَتْ ناظري تُغَالِظُني ... . . . . . . . . . وأقول: الوجه هو الأول، وهو مشهور كثير، وقد سبق اليه، فمن ذلك قول أبي نواس: المقتضب تَضْحكينَ لاهِيَةً ... والمُحِبُّ يَنْتَحِبُ إلا أن أبا الطيب زاد فيه زيادة حسنة، وذلك إنه استعار للبكاء مطرا، وللثنايا بالضحك برقا، وجعل ذلك المطر، الذي هو الدمع، نتيجة ذلك البرق، الذي هو إضاءة الثنايا. والبرق يولد المطر، فجعل برق الثنايا بحسنه يولد مطر الدموع بسبب العشق. وهذا من ألطف البديع وأحسن التفريع. وأما الوجه الثاني، فهو قول ابن جني وليس بشيء! وتقويته بالبيت الذي ذكره، يدل على ضعفه وضعف رأيه!

وقوله: المنسرح لَقِنَنَا والحمولُ سَائِرَةٌ ... وَهُنَّ دُرٌّ فَذُبْنَ أمْوَاهَا قال: قوله: فذبن أمواها يحتمل أن يكون من الحياء، ويحتمل أن يكون من كثرة البكاء. قلت: ويحتمل أن يكون من الشوق إلينا، أو من نعمتهن، وشدة حركة الإبل بالسير، أو من حرارة أنفاسنا بلقائهن لنا، ويكون مثل قوله: الكامل وَبَسَمْنَ عن بَرَدٍ خَشِيتُ أذِيبُهُ ... من حَرِّ أنفاسي فكُنْتُ الذَّائِبَا إلا إنه بالغ هاهنا فجعل أنفاسه تذيب الدر. وقوله: المنسرح في بَلَدٍ تُضْرَبُ الحِجَالُ به ... على حِسَانٍ وَلَسْنَ أشْبَاهَا قال: أي: كل واحدة منهن منفردة بالحسن، لا يشاكلها فيه غيرها. قال: ويجوز أن يكون: لسن أشباها أي: قد صارت هذه المشيب بها سببا

لاختلافهن؛ لأنها لا نظير لها فيهن؛ كقوله: المنسرح الناسُ ما لَمْ يَرَوْكَ أشْبَاهُ ... . . . . . . . . . وأقول: إنه وصف هذه النساء، فجعلهن كالضباء؛ الا انهن يخالفن الظباء، بأنهن في بلد يضرب عليهن فيه الحجال، وليس الظباء كذلك. وإنهن لسن أشباها، وليس كذلك الظباء لأنهن أشباه، ويدل على ذلك قوله: المنسرح كُلُّ مَهَاةٍ تقولُ مُقْلَتُهَا ... . . . . . . . . . وقوله: المنسرح تَعُومُ عَوْمَ القَذَاةِ في زَبَدٍ ... من جُودِ كَفِّ الأميرِ يَغْشَاهَا قال: جعل الممدوح في أول المدح مولى الملوك، ثم خاطبه بالأمير فنقصه. وأقول: إن أبا الطيب، كان قادرا على أن يقول: من جود كف المليك ولكن ليس له من القوة، والجزالة، واللذاذة، ما للفظة الأمير هنا. وهم يعنون بتحسين الالفاظ، وتهذيبها، كما يعنون بتحسين المعاني وترتيبها، ولعل عضد الدولة كان، في ذلك الوقت، يخاطب بالأمير؛ لأنه قبل أن يتسع ملكه وتزداد عظمته.

وقوله: المنسرح النَّاسُ كالعَابدينَ آلِهَةً ... وعَبْدُهُ كالمُوَحِّدِ اللاَّها قال: يقول: الناس الذين في طاعة غيره، كأنهم يعبدون آلهة مختلفة. وعبيده الذين يطيعونه، كأنهم الموحدون، وهذا كقوله: الطويل ولَسْتَ مَلِيكاً هازِماً لِنَظِيرِهِ ... ولكنَّكَ التَّوْحيدُ للشِّرْكِ هَازِمُ وذكر عن ابن جني وجها آخر، أي: عبده مقبل بالطاعة عليه، معرض بالرجاء إليه عمن سواه لإغنائه إياه عنه. وعبد غيره، يطلب من هذا تارة، ويرجو من هذا أخرى. وأقول: المعنى هو الأول؛ أي: الناس الذين هم في دين غيره ضلال. والذين هم في دينه وطاعته مهتدون. وضرب لذلك مثلا بالشرك والتوحيد. وأما تمثيله هذا البيت، بالبيت الذي ذكره، فغير صحيح. لأن في ذلك البيت إخبارا عن عظم سيف الدولة، وعظم عدوه ملك الروم؛ يقول: لست ملكا يهزم ملكا، وإنما أنت التوحيد يهزم الشرك. وهذا من قول النبي - صلى الله عليه - في علي - عليه السلام - وعمرو بن عبد ود: برز الإيمان كله، إلى الشرك كله! ومعنى هذا البيت إن طاعتك توحيد، وطاعة غيرك شرك، فليس بينهما تماثل إلا باللفظ.

وقوله: الطويل حَبَبْتُكَ قَلْبي قَبْلَ حُبِّكَ من نَأى ... وقد كانَ غَدَّاراً فكُنْ أنْتَ وَافِيَا أقول: إنه عرّض بسيف الدولة، بهذا البيت إلى قوله: خُلِقْتُ ألوفاً. . . . . . ... . . . . . . وقوله: حبك من نأى إشارة إلى قوله: البسيط إذَا تَرَحَّلْتَ عن قَوْمٍ وقد قَدَرُوا ... ألاَّ تُفَارِقَهُمْ فالرَّاحِلُونَ هُمُ فجعل سيف الدولة عنه نائيا، وإن كان هو النائي عن سيف الدولة. وهذا آخر المآخذ على الشيخ، أبي زكريا، يحيى بن علي، الخطيب التبريزي.

الجزء الرابع المآخذ على شرح الكندي الموسوم بالصفوة

الجزء الرابع المآخذ على شرح الكندي الموسوم بالصفوة

بسم الله الرحمن الرحيم هذه مآخذ على الشيخ أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي في أبيات أبي الطيب أحمد بن الحسين المتنبي. وأقول: إن الشيخ - رحمه الله - ذكر هذه الألفاظ في الحواشي، وذلك أن القاضي الفاضل سأله فيها فأجابه إليها وكتبها بخطه وأهداها له، فلم يزد فيها من عنده على من قبله من الشراح إلا الشيء اليسير، وقد ذكرت ما وقع لي في ذلك فمنه قوله: المنسرح يا ليتَ بي ضَرْبةً أُتِيحَ لها ... كما أُتِيحَتْ له مُحَمَّدُهَا قال: تمنى أن يفديه من شربة أصابته في وجهه في بعض حروبه، وأضاف اسم الممدوح إلى الضربة لما كسب بها من الحمد. وأقول: كيف تمنّى أن يفدي الممدوح من ضربة لم تؤثر فيه؛ بل هو أثر فيها واكتسب بها شرفا وحمدا؟! إنما يتمنى المحب أن يفدي من يحبه من شيء تألم به وضره وآذاه؛ فهذا، على ما قال، دعاء عليه لا دعاء له!

وقوله: المنسرح أثَّرَ فيها وفي الحَديدِ وَمَا ... أثَّرَ في وَجْهِهِ مُهَنَّدُهَا قال: ادعى التأثير في العرض مجازا شعريا. ويمكن أن يحمل على أن تأثيره في الضربة ردها عن إزهاق نفسه وفي الحديد تغليل السيف المضروب به. وقوله: . . . . . . وما ... أثَّرَ في وَجْهِهِ مُهَنَّدُهَا أي: لم تشنه بل حسنته بالفخر، فان العرب تفتخر بالضرب في الوجوه، وتسب بالضرب في الظهور. وأقول: أن أبا الطيب بالغ في القول فعكس القضية، وذلك أن من عادة الحديد والضرب أن يؤثر في المضروب ويكسبه بتأثيره فيه، فخرا وشرفا فجعل أبو الطيب أن الممدوح أثر في السيف، وفي الضربة، وكسبها زينة وشرفا وجعل الجراح تحسدها في قوله: المنسرح فاغْتَبَطَتْ إذْ رأتْ تزيُّنَهَا ... بمثلهِ والجراحُ تَحْسُدُهَا وهذه طريقة له مشهورة في المبالغة، من ذلك قوله: الطويل طِوالُ الرُّدَينياتِ يَقْصِفُها دَمِي ... وبِيضُ السُّرَيْجِيَّاتِ يَقْطَعُهَا لَحْمِي

وقوله: الخفيف ولعَلِّي مُؤَمِّلٌ بَعْضَ ما أبْ ... لُغُ باللُّطْفِ من عَزيزٍ حَميدِ قال: حمل بعض الناس هذا البيت على القلب الوارد في كلام العرب، وهو أن يذكر الشيء ويراد عكسه. ولكن إنما يجوز ذلك عندهم إذا أمن الإلباس، فإذا خيف اللبس لزم الأصل، وهاهنا يقع اللبس لأنه يجوز أن يريد: أن الذي أبلغه بلطف الله أمر عظيم فوق أملي. وقد روي عن المتنبي إنه سئل عنه فقال: لم أقل الا: ولعلِّي مُبَلَّغٌ بعض ما آ ... مُلُ. . . . . . أي: أملي فوق ذلك. وأقول: لا يحسن أن يكون إلا: ولعَلِّي مُؤَمِّلٌ بَعْضَ ما أبْ ... لُغُ. . . . . . وذلك أن قرنه بلطف الله العزيز الحميد؛ أي: بلطف الله وتيسيره أبلغ فوق ما آمل. ولا يحسن أن يقال: بلطف الله أمل فوق ما ابلغ أو ابلغ بعض ما آمل، هذا لا يقوله محصل، فالرواية عن أبي الطيب غير صحيحة، والبيت مستو غير مقلوب، والمقلوب فهم الرواي!

وقوله: المنسرح كَيْفَ أُكَافِي عَلَى أجَلِّ يَدٍ ... مَنْ لا يَرَى أنَّهَا يَدٌ قِبَلِي قال: أكافي: محذوف الهمزة، والمعنى: لا يعتد أجل نعمة له عندي نعمة، احتقارا لها في جنب منزلتي عنده. وأقول: لم يحذف الهمزة وإنما قلبها ياء لسكونها وانكسار ما قبلها. وقوله: لا يعتد اجل نعمة له عندي نعمة احتقارا لها إلى هاهنا تم الكلام والمعنى. وقوله: في جنب منزلتي نقض للمعنى! والجيد إطلاق النعمة من غير اشتراط منزلة أحد من الناس. وقوله: الكامل أحْبَبْتُ بِرَّكَ إذْ أرَدْتُ رَحِيلا ... فوجَدْتُ أكْثَرَ ما وَجَدتُ قَلِيلاَ وتمام القطعة وهي أربعة أبيات.

قال: هذه القطعة تحتمل تأويلين: أحدهما: أن المتنبي أهدى لصديقه شيئا كان الصديق أهداه له. والآخر: أن يكون جعل ما من عادة صديقه أن يزوده به عند فراقه، ويهديه إليه هدية منه له؛ أي: سأله أن لا يتكلف له. وأقول: إن أبا الطيب مستحيل أن يهدي لأحد شيئا، أو يسأله ترك التكلف له، وهو يرى إنه مع بذل الجهد مقصر عما يستحقه. والمعنى قد ذكرته فيما قبل. وقوله: الطويل بما بَيْنَ جَنْبَيَّ التي خَاضَ طَيْفُهَا ... إليَّ الدَّيَاجي والخَلِيُّونَ هُجَّعُ قال: لا معنى لتخصيصه إياهم بالنوم دون نفسه؛ لأن الخيال إنما يزوره وهو نائم، وما أعلم أحدا أخذ عليه هذا المعنى غيري! وأقول: إن قوله: ما أعلم أحدا أخذ عليه هذا المعنى غيري عجيب!! وهذا الواحدي تفسيره أيسر وأشهر من الشمس، وهو ينقل منه دائما، قد ذكره وقال: إن هذا كالمضادة، لأن الخليون وإن كانوا نياما فهو أيضا نائم حين رأى خيالها، ولكن يجوز أن يكون نومه نعسة خفيفة وغيره نام جميع ليله. ولعل الشيخ لم يقف على هذا الموضع، والجيد أن لا يكون أخذ عليه لأن هذا

الأخذ غير صحيح، وبيانه: إنه لم يرد تخصصهم بالنوم دونه، ولا إدخالهم في شيء خرج منه، وإنما قال: أفدي بقلبي التي خاض طيفها إلي الدياجي، واللوام، أو العذال الخليون من الهوى، هجع؛ أي: غافلون عنه بنومهم، وهذا من قول بعضهم: () الرمل رَاقَبَ الفُرْصَةَ حتى أمْكَنَتْ ... ورَعَى السَّامِرَ حتى هَجَعَا ويحتمل وجها آخر وهو إخباره إنه نام ونام الخليون فخضه بالزيارة دونهم وقد اشتركا في سبب الزيارة فهو يفديه لذلك الاختصاص. وقوله: الطويل رَمَاني خِسَاسُ النَّاسِ من صائبِ أسْتِهِ ... وآخَرُ قُطْنٌ من يَدَيْهِ الجَنَادِلُ قال: قال ابن جني والربعي جميعا: أي: من ضعفه لا يتعدى رميه أسته. وقال شيخنا الشريف ابن الشجري: إنما هذا مثل؛ أي: رماني بعيب هو فيه لأنه ذو ابنة فكأنه أراد إصابتي فأصاب أسته! وأقول: إن هذه الأقوال ضعيفة وأضعفها قول ابن الشجري: رماني بعيب هو فيه؛ أي: رماني بالابنة. والمعنى إنه رماني بسهم من عيب فرد عليه أقبح رد؛ كأنه يقول: أنا ليس في عيب

فغلبني عائب نفسه أقبح عيب. وقوله: البسيط أبْدَيْتِ مثلَ الذي أبديتُ من جزعٍ ... ولم تُجِنِّي الذي أجنَنْتُ من ألمِ قال: ناقض في هذا البيت بما أخبر به عنها في قوله: البسيط تَنَفَّسَتْ عن وفاءٍ غَيرِ مُنْصَدعٍ ... يَوْمَ الوَدَاعِ وشَعْبٍ غير مُلْتَئِمِ وأقول: لم يناقض! وقد بينته فيما قبل. وقوله: البسيط ورَبَّ مَالٍ فَقِيراً من مُرُوَءتِهِ ... لم يُثْرِ منهَا كما أثْرَى من العَدَمِ

قال: ورب مال منصوب بأرى؛ يعني عطفا على ما قبله وهو: أرَى أُنَاساً ومَحْصُولي على غَنَمٍ ... . . . . . . وفقيرا حال؛ أي: إذا كان رب المال لا مروءة له، فإثراؤه من العدم لا من الوجود. وأقول: إن قوله: فقيرا: حال وهم، لأنه بعد نكرة، والصحيح إنه صفة لرب مال، وإنما أوقعه في ذلك إنه رأى: أرى من رؤية العين لا تتعدى إلى مفعولين، ورأى فقيرا منصوبا فظن إنه حال، وذلك جائز في الضرورة، وأما مع الاختيار فلا. والمعنى إن رب المال إذا كان فقيرا من المروءة بخل بماله، فلا ينتفع به ولا ينفع، فيكون وجوده كعدمه، والعدم اصلح! وقوله: البسيط وَجَدَّدَتْ فَرَحاً لا الغَمُّ يَطْرُدُهُ ... ولا الصَّبَابةُ في قَلْبٍ تُجَاوِرُهُ قال: أي: امتلأت القلوب بالفرح، فلا غم يغلبه، ولا صبابة شوق تجاوره. وأقول: إنه كرر الألفاظ المنظومة منثورة، وكلاهما محتاج إلى شرح، وقد ذكرته قبل.

وقوله: البسيط في فَيْلَقٍ من حَديدٍ لو قَذَفْتَ به ... صَرْفَ الزَّمَانِ لما دارَتْ دَوَائِرُهُ قال: أي: لبهت الزمان وتحير ولم تتغير على أحد به حال. وأقول: إنه بالغ في القول! وذلك إن أوفى ما يوصف عندهم بالإقدام والإهلاك صرف الزمان، ولهذا قال سبحانه حكاية قولهم: (وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ)، فقال: إن فيلق الممدوح، وهو جيشه العظيم، لو رمي به صرف الزمان، الذي هو أعظم الأشياء، لما دارت على أحد دوائره؛ أي: أحداثه ونكباته، ولشغله ما يلقاه منه عن التعرض لغيره. وقوله: الطويل رأيْتَ ابنَ أمِّ المَوْتِ لو أنَّ بأسَهُ ... فَشَا بينَ أهلِ الأرْض لانْقَطَعَ النَّسْلُ قال: جعله أخا الموت لكثرة قتله أعداءه، ولو فشا باسه لفنوا بقتل بعضهم بعضا. وأقول: إن قوله: لفنوا بقتل بعضهم بعضا ليس بشيء! والصحيح ما ذكرته في شرح الواحدي.

وقوله: الطويل ولولا تَوَلِّي نَفْسِهِ حَمْلَ حِلْمِهِ ... عَنِ الأرْضِ لانْهَدَّتْ وناَء بها الثُّقْلُ قال: بالغ في وصف حلمه بالرزانة. قال: والمعنى: إنه لو كان جسما لهد الأرض ثقله. وأقول: إنه قصر في العبارة عن المعنى، وقد ذكرته قبل. وقوله: الكامل اليَوْمَ عَهْدُكُمُ فأيْنَ المَوْعِدُ ... هَيْهَاتَ لَيْسَ ليَوْمِ عَهْدِكُمُ غَدُ قال: يعني بالعهد الوداع، ونعى نفسه إلى نفسه يأسا من حياته بعدهم فلا غد له. وقوله: فأين الموعد؟ استبعاد، ولو قال: متى مكان أين لكان أحسن. وهذا الذي ذكره الجماعة قبل، وجاء الكندي بعد فتبعهم فيه. وأقول: إن كثيرا من الناس يتبع بعضهم بعضا في الخطأ استرسالا من غير تأمل

ولا تدبر، فلا أشبههم بالعميان المتتابعين المتصلين حبلا؛ يعثر الأول منهم بحجر صغير، أو يقع في حفر قصير، فلا يتكلم خبثا ولعنة ويتتابعون كذلك، وذلك انهم علموا بالوقوع ولم يتكلموا، ولكن أشبههم بالذباب الذي يقع في اللبن، أو الفراش الذي يلقي نفسه في النار ولا يعلم! ومعنى هذا البيت وتقديره إنه سال قبل ذلك أحبته: متى الوصال؟ فقالوا: في غد، فلما حضر قال: اليوم عهدكم بالوصال فأين الموعد؟ أي: في أي مكان. فلا يجوز هاهنا متى كما ذكر، لأنهم قد عينوا له الزمان بقولهم: في غد، فلما حضر سال بأين عن المكان الذي يكون فيه الوصل فلما تبين له خلف موعدهم قال: . . . . . . ... هيهات! ليسَ ليومِ عَهْدِكُمُ غَدُ وهذا مثل قول بعضهم: الكامل في كُلِّ يومٍ قائِلٌ ليَ في غَدٍ ... يَفْنَى الزَّمَانُ ومَا تَرَى عَيْني غَدا وقوله: الكامل الموتُ أقْرَبُ مِخْلباً من بَيْنَكُمْ ... والعَيْشُ أبعَدُ منكُمُ لا تَبْعُدُوا قال: أي أموت قبل فراقكم خوفا منه، فإذا بعدتم كان العيش أبعد منكم لأن بكم الحياة. وأقول: هذه عبارة قاصرة، وألفاظ عن بيان المعنى ناقصة، وهو ما ذكرته في شرح ابن جني.

وقوله: الكامل نَظَرَ العُلُوجُ فَلَمْ يَرَوْا مَنْ حَوْلَهُمْ ... لمَّا رَأوْكَ وقيل هَذَا السَّيَّدُ قال: نظروا إليه نظر مبهوت للعظمة والجمال، فلبرق أبصارهم لم يروا أحدا. وأقول: بل لاحتقار من دونك لم يروه بالإضافة إليك لاشتغالهم بعظمتك لم ينظروا إلى من سواك، ولا حاجة إلى ذكر البرق. وقوله: البسيط أيامَ فِيكَ شُموسٌ ما انْبَعَثْنَ لنا ... إلاَّ ابْتَعَثْن دماً باللَّحْظِ مَسْفُوكا

قال: أي ما تحركن في ذهاب ولا مجيء إلا أبكيننا دما صبيبا بلحظنا إياهن. وأقول: بل بلحظهن إيانا! وذلك إن اللحظ مصدر أن جعل من العشاق فهو على ما قال، وإن جعل من الشموس، وهن النساء، فهو على ما قلت، وهو الأحسن؛ أي: يسفكن دماءنا بسيوف لحاظهن. وقوله: البسيط أحْيَيْتَ للشُّعراءِ الشِّعْرَ فامتَدَحُوا ... جَمِيعَ من مَدَحُوه بالذي فيكَا ذكر في شرحه ما هو غير مرضي، والمرضي، ما ذكرته في شرح الواحد.

وقوله: البسيط ولا الدِّيارُ التي كانَ الحَبيبُ بِهَا ... تَشْكُو إليَّ ولا أشْكُو إلى أحَدِ قال: قوله: ولا الديار عطف على الشوق، أي: ولا تقنع الديار مني به أيضا وتم الكلام، ثم ابتدأ فقال: . . . . . . ... تَشْكُو إليَّ ولا أشْكُو إلى أحَدِ أي: الديار تشكو إلي وحشتها بفراق أهلها، وأنا لا أشكو، لأني كتوم لأسراري، أو لجلدي، أو لأن الشكوى لا تجدي، وشكوى الدار إليه بلسان الحال. وأقول: هذا الذي ذكره قول ابن فورجة، ورد قول ابن جني وهو صحيح؛ قال: لم يبق فيّ فضل للشكوى، ولا في الديار، لأن الزمان أبلاها. وهذا القول عطف جملة على جملة، والقول الأول عطف مفرد على مفرد، وقد ذكرت ما في ذلك في شرح الواحدي. وقوله: البسيط وأينَ زَفَراتي من كَلِفْتُ به ... وأيْنَ منك ابنَ يَحْيَى صولةُ الأسَدِ

قال: أنكر أن يكون الحبيب يعرف حاله، وأن تكون صولة الأسد كصولة الممدوح. وأقول: التقدير الصحيح: فأين من زفراتي زفرات من كلفت به، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، ويدل عليه قوله في المصراع الثاني: . . . . . . ... وأيْنَ مِنْكَ ابنَ يحْيَى صَوْلةُ الأسَدِ أي: أين من صولتك صولة الأسد. وقوله: الكامل وفَشَتْ سَرَائِرُنَا إليْكَ وشَفَّنَا ... تَعْرِيضُنَا فَبَدَا لكَ التَّصْريحُ قال: اختار ابن جني، بعد أقوال ذكرها، أن يكون المعنى: لمّا جهدنا التعريض استروحنا إلى التصريح فانهتك الستر. قال: والصحيح إن الكتمان هزاه فصار الهزال صريح المقال؛ لأنه استدل بالهزال على ما في القلب من الهوى، فناب عن التصريح. وأقول: المعنى محتمل أن يقال: كنا نسر حبك منك ففشا اليك، وقد شفنا التعريض لك، أي: جهدنا وشق علينا، فاضطرنا إلى التصريح لك بالهوى. فإن كان ابن جني أراد انهتاك الستر للمحبوب فقد أصاب، وإن كان أراد للناس فقد أخطأ، ولكن الجيد ما ذكره الشيخ وهو قول الواحدي.

وقوله: الوافر وكُنْ كالمَوْتِ لا يَرثي لِبَاكٍ ... بَكَى منه وَيَرْوَى وَهْوَ صَادي قال: جعل الموت ريان صاديا على المجاز؛ أي: يشرب من دمائهم ما يروي مثله من مثله وهو من حرصه كالصادي. وأقول: لا معنى هاهنا لشرب الموت الدماء، وإنما جعل كثرة الإهلاك للموت بمنزلة كثرة الماء للصادي، لكن الصادي يرويه كثرة الماء، والموت لا يرويه كثرة الإهلاك لأنه أخذ في الشرب لم ينقطع. وقوله: الوافر فإنَّ الماَء يَخْرُجُ من جَمَادٍ ... وإنَّ النَّارَ تَخْرُجُ من زِنَادِ قال: أي: إن العدو يخفي فتكمن في الوداد كمون الماء في الجماد، والنار في الزناد.

وأقول: هذا البيت مرتب على ما قبله؛ يقول: لا تغتر بلين القول من العدو، فإنه يخرج من قلب قاس، كما إن الماء يخرج من الصخر، ولا تحقر منه خاملا ضئيلا فربما كبر أذاه وازداد حتى يلحقك ضرره، كالنار تخرج من عود، وقد ذكرته قبل. وقوله: الوافر ذِرَاعاهَا عَدُوَّا دُمْلَجَيْهَا ... يَظُنُّ ضَجِيعُهَا الزَّنْدَ الضَّجِيعَا قال: أفرط حتى لو دخل ذلك في الإمكان لخرج إلى الذم، والذراع ليس بمحل للدملج. وأقول: إن أبا الطيب لم يجهل أن الذراع ليس بمحل للدملج، وإنما قوله: ذِرَاعَاها عَدُوَّا دُمْلَجَهَا ... . . . . . . إخبار عن عظم معصمها، وإن دملجها لو وضع موضع السوار من معصمها لانفصم من غلظه!

وقوله: المنسرح وقد تَوَالى العِهَادُ منهُ لَكُمْ ... وجَادَتِ المَطْرةُ التي تَسِمُ قال: ويروى وجازت بالزاي، ويكون البيت، حينئذ، تقاضيا لطيفا؛ أي: المطرة التي تسم، وهي القصيدة التي القصيدة الأولى قبلها، كنت استمطر العطاء بها وقد تأخر. ومن روى جادت بالدال فقد أراد هذه القصيدة. وأقول: هذا التفسير على أن الضمير في منه راجع إلى قوله قبل: فمدحكم، وليس كذلك بل الضمير راجع إلى قوله: في الفعل أي: فعلكم منه جود أول فهو كالوسمي وما بعده، متواليا، كالعهاد، وهي الولي وما بعده من المطر، يتعهد الأرض بالري. وعلى هذا التفسير يتساوى المعنى في: جادت وجازت وقد ذكرته قبل.

وقوله: الطويل إلى اليَوْمِ ما حَطَّ الفِداءُ سُرُوجَهُ ... مُذُ الغَزْوُ سَارٍ مُسْرِجُ الخَيْلِ مُلْجِمُ قال: سار خبر مبتدأ محذوف والغزو مبتدأ خبر محذوف. وأقول هذا التفسير كأنه ذكره الأول ثم تتابعوا في أثره من غير تأمل كما ذكرت لك! وأقول: ما المانع أن يكون سار خبر الغزو ولا يحتاج إلى تقدير محذوفين في مكان واحد، ويكون مثل قولهم: ليل نائم ونهار صائم؛ أي ينام فيه ويصام، وكذلك الغزو يسرى فيه ويسرج ويلجم. وقوله: الكامل أسَفي على أسَفِي الذي دَلَّهْتني ... عَنْ عِلْمِهِ فَبهِ عَلَيَّ خَفَاءُ والبيت الذي بعده. نقل شرحهما من قبل غيره وهو خطأ وقد ذكرت ما فيهما في شرح الواحدي.

وقوله: الكامل أنْسَاعُهَا مَمْغُوطة وخِفَافُهَا ... مَنْكُوحَةٌ وطَرِيقُهَا عَذْرَاءُ إن قيل: إن جعله الطريق إلى الممدوح عذراء، لم تفتتح بالسير إليه، غير حسن، والجيد في هذا قول زهير: البسيط قَدْ جَعَلَ المبتَغُونَ الخَيْرَ في هَرمٍ ... والسَّائلونَ إلى أبْوَابهِ طُرُقَا وقد قال في موضع آخر موافق زهيرا: المنسرح قُصِدْتَ من شَرْقِهَا ومَغْرِبِهَا ... حَتَّى اشْتَكَتْكَ الرِّكابُ والسُّبُلُ قيل: لم يرد الطريق إلى الممدوح، وإنما وصف أحواله في سفره، وما يقاسي من خطره، وإن الليالي قد ألجأته إلى سلوك الفيافي المقفرة، والطرق الموحشة. وقوله: الكامل من يَظْلِمُ اللؤمَاَء في تَكْلِيفِهمْ ... أنْ يُصْبِحُوا وَهُمُ له أكْفَاءُ

قال: ليس عندي في هذا البيت مدح له بل لو قال: الكرماء لكان مدحا. وأقول: إن هذا البيت موطئ لما بعده وهو قوله: الكامل وَنَدِيمُهُمْ وبه عَرَفْنَا فَضْلَهُ ... وبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الأشْيَاءُ فلو قال: الكرماء لفسد المعنى. وقوله: الكامل ولك الزَّمَانُ من الزَّمَانِ وقَايةٌ ... ولك الحِمَامُ مِن الحِمَامِ فِداءُ قال: دعا له أن يهلك الزمان قبله وأن يموت الموت. وأقول: إنه دعا له أن يقيه الزمان من نفسه بنفسه، وان يفديه الحمام من نفسه بنفسه، فهذه العبارة أحسن وأسلم وأشبه بلفظ البيت من غير ان يتعرض لذكر لفظ الهلاك قبل الزمان أو بعده.

وقوله: الوافر وقالُوا: هَلْ يُبَلِّغُكَ الثُّرَيَّا ... فقلتُ: نَعَمْ إذا شِئتُ اسْتِفَالاَ قال: درجته عند الممدوح أعلى من الثريا فلو بلّغه، على قولهم، الثريا لكان ذلك انحطاطا عن منزلته عنده. وأقول: الجيد في هذا إنه مثل قوله: الكامل فَوْقَ السَّماءِ وفَوْقَ ما طَلَبُوا ... فإذا أرادوا حَاجَةً نَزَلُوا أي: أنا بخدمته فوق الثريا، فإذا أراد أن يبلغني إياها نزلت إليها. وقوله: الكامل أجِدُ الجَفَاَء على سِوَاكِ مُرُوءةً ... والصَّبْرَ إلاَّ في نَوَاكِ جَمِيلاَ قال: يعني تجافيه النساء لعفته عنهن ومروءته. فيقال له: فمن تمام العفة والمروءة أن يتجافى، أيضا، عن هذه التي استثناها! وهذا الذي ذكره لم يرده، وإنما أراد: أني أرى الجفاء على سوى الحبيب مروءة لأن الغدر

مواصلة غيره، والوفاء هجر من سواه. وكذلك قوله: والصبر؛ يقول: إن الصبر في كل شيء إلا في فراق الحبيب فإنه قبيح كقول عتي بن مالك العدوي: الطويل أعَدَّاءُ ما وَجدي عليكِ بِهَيِّنٍ ... ولا الصَّبْرُ إنْ أعْطِيْتُهُ بِجَميلِ وكقول ديك الجن، وبالغ: الطويل ومَا الإثمُ إلاَّ الصَّبْرُ عنك وإنما ... عَوَاقِبُ حَمْدٍ أنْ تُذَمَّ العَواقِبُ وقوله: الكامل ما قُوبِلَتْ عَيْنَاهُ إلاَّ ظُنَّتَا ... تَحْتَ الدُّجَى نَارَ الفَرِيقِ حُلولاَ قال: لو قدر أن يقول نارين، بالتثنية، كان أحسن. وأقول: إنما شبه عينيه في الدجى بالنار للإضاءة، فكل واحدة منهما تشبه النار في النور، فجعلهما كنار الفريق، وهو القطعة من الناس يكون لهم نار واحدة فهي أقوى من غيرها.

وقوله: الكامل سَمِعَ ابنُ عَمَّتِهِ به وبِحَالِهِ ... فَنَجا يُهَرْوِلُ منك أمْسِ مَهُولا قال: ليس في ابن عمته تحقيق نسب، لا ولو قال (أخوه)، وإنما أراد واحدا من جنسه. فيقال له: لا بد أن يكون الاختصاص بالذكر لأمر أما معنوي أو لفظي، فتخصيص ابن العمة دون ابن الخالة وغيره، بالمعنى، مستحيل فلم يبق إلا اللفظ وهو استعمال العرب له؛ قال أبو زبيد: البسيط أفَزَّ عَنْهُ بَنِي العَمَّاتِ جُرْأتُهُ ... فكلُّها خاشِعٌ منه ومُكْتَنِعُ وقوله: الكامل وتَوَقَّدَتْ أنفاسُنَا حتى لقد ... أشْفَقْتُ تَحْتَرِقُ العَواذِلُ بَيْنَنَا قال: وعذر الإشفاق هاهنا، والعواذل لا يشفق عليهن، خوفه أن ينم عليهما الاحتراق فيطلع على حالهما.

فيقال له: ولم لا يشفق على العواذل وهن إنما يعذلن على وجه الشفقة والمحبة؟ أما في إتلاف المال كقوله: الطويل وعَاذلةٍ هَبَّتْ عليَّ تَلُومُنِي ... كأنِّي إذا أتْلَفْتُ مالي أضِيمُهَا أو على الغي في ارتكاب اللهو والباطل كقوله: الكامل بكَرَ العوَاذِلُ في الصَّبُو ... حِ يَلُمْنَنِي وألُومُهُنَّهْ فإن قال: العواذل لا يشفق عليهن لأجل عذلهن له على الهوى فيقال: لم يبلغ ذنبهن بالعذل إلى إحراقهن، ويكفي في ذلك، الإعراض عنهن واطراح قولهن. وقوله: الكامل أضْحَى فراقُكَ لي عَلَيْهِ عُقُوبةً ... لَيْسَ الذي قَاسَيْتُ منه هَيِّنَا قال: الذي في (عليه) يرجع إلى ما فعلته مما أنت كارهه، والضمير في (منه) يرجع إلى الفراق. وأقول: أن الضمير في (عليه) و (منه) راجع إلى الفراق؛ أي: عوقبت بفراقك على فراقك، لكوني لم أمض في صحبتك، فليس الذي قاسيت منه؛ أي من فراقك، هينا بل صعبا، فهذا ذنبه إليه ليس له ذنب سواه.

وقوله: المنسرح سَأشْرَبُ الكَأسَ من إشَارَتِها ... ودَمْعُ عَيْني في الخَدِّ مَسْفُوحُ قال: إنما ذكر بكاءه عند شربه الكأس لأنه كره الشرب ولم يقدر على مخالفة الإشارة ولا الخروج عن موافقة الممدوح. وأقول: لم يذكر البكاء لذلك، وإنما ذكره لحبه اللعبة إذ هي بمنزلة الإنسان، وقد قال: . . . . . . ... في القَلْبِ من حُبِّهَا تَبَارِيحُ فما هذا التغفل والتكلف؟! وقوله: الطويل ألاَ لاَ أُرِي الأحْدَاثَ حَمْداً ولا ذَمَّا ... فما بَطشُهَا جَهْلاً ولا كَفُّهَا حِلْمَا قال: لا تحمد الأحداث ولا تذم لأنها لا توصف بحلم ولا بجهل، وإنما الله تعالى هو المصرف لها.

وقوال الواحدي: يعني إن الفعل في جميع ذلك لله لا لها، وإنما تنسب الأفعال إليها استعارة ومجازا. وأقول: إن الأحداث هي حوادث الزمان وما يتجدد فيه من الأحوال. يقول: لا أحمدها على كفها عن أذى، لأن ذلك ليس عن حلم، ولا أذمها على سرعة إيقاع فعل؛ لأن ذلك ليس عن جهل؛ يعني إن الحمد والذم إنما يتوجه إلى العاقل، وحوادث الزمان ليست كذلك، وهذا الكلام فيه ذم لأحداث الزمان على ما أحدثته من هلاك جدته، وإن زعم إنه لا يحمدها ولا يذمها، وهذا كما يقال: فلان لا أحمده لأنه لا يكف عن حلم، ولا أذمه عن غضب، وفي هذا بيان نقصه، ووصفه بوضعه الشي في غير موضعه. وقوله: الطويل منافِعُهَا مَا ضَرَّ في نَفْعِ غَيْرِها ... تَغَدَّى وتَرْوَى أنْ تجوعَ وأنْ تَظْمَا قال: يقول: أنها ترى منفعة نفسها أن تنفع غيرها وإن عاد ذلك بالضرر عليها، فهي تطعم وتجوع، وتروي وتظمأ، وفسر النصف الآخر النصف الأول. وأقول: إن هذا التفسير على أن الضمير عائد على الجدة، وهو قول ابن فورجة، وقد ضعفه الواحدي وقال: الوجه رد الكناية إلى الأحداث أو الليالي لا إلى الجدة،

والمعنى منافع الليالي في مضرة غيرها من الناس. وجعل الضمير في أن تجوع وأن تظمأ للمخاطب، وجوّز عوده إلى الليالي، وروى: . . . . . . ... . . . . . . أن نَجُوعَ وأنْ نَظْمَا بالنون. وقوله: الكامل مَنْ لي بِفَهْمِ أُهَيْلِ عَصْرٍ يَدَّعي ... أنْ يَحْسُبَ الهِنْديَّ فِيهِمْ بَاقِلُ قال: قال ابن جني ردا على المتنبي: أن باقلا لم يؤت من سوء حسابه، وإنما أتي من سوء عبارته، والعذر للمتنبي ظاهر، وهو إنه لولا سوء حسابه، وجهله به كان عقد ببنانه ثمن الظبي فلم يفلت منه فصح جهله بالحساب، وهذا الرد لي على رد ابن جني. وأقول: إن هذا الرد على ابن جني قد سبقه إليه الواحدي فقال: - ويعني ابن جني - ليس كما قال، فأن باقلا كما أتى من سوء البيان أتى من سوء الحساب بالبنان فإنه لو ثنى من سبابته وإبهامه دائرة وثنى من خنصره عقدة لم يفلت منه الظبي فصح قوله في نسبته إلى الجهل بالحساب. ولعل الشيخ لم يقف عليه مع كثرة وقوفه على شرحه ونقله منه.

وقوله: البسيط قَدْ كنتُ أشْفِقُ من دَمْعي على بَصَري ... فاليومَ كلُّ عَزِيزٍ بعدَكُمْ هَانَا قال: هان عليه فقد بصره بعد عزته، وإنما كان عزيزا عنده زمان وصالهم وأما بعد الفراق فهو هين. وأقول: إنه لم يحسن العبارة، والجيد أن لو قال: معنى قوله: قد كنتُ أشْفِقُ من دمعي على بَصَري ... . . . . . . لأني كنت أراكم به، فأما وقد غبتم عنه فلا أشفق عليه أن يضر به الدمع، وأن يذهب نوره البكاء، وهان عندي بعد عزته، ومن هذا قول بعضهم وإن كان قد عكسه: الطويل وأخْشَى على عَيْنَيَّ من كَثْرَةِ البُكَا ... إذا الدَّمْعُ أفْنَتْهُ وأسْبَلَتِ الدَّمَا وما بِيَ إلاَّ خَوْفُ أنْ لا تَراكُمُ ... وإلاَّ فَما بالعَيْنِ شَرٌّ من العَمَى ومثله قول ابن جني: المتقارب صُدودكَ عَنِّي ولا ذَنْبَ لي ... يَدُلُّ على نِيَّةٍ فَاسِدَهْ فَقَدْ - وحَيَاتِكَ - ممَّا بَكَيْتُ ... خَشِيتُ على عَيْنِيَ الوَاحِدهْ ولولا مَخَافَةُ أنْ لا تَراكَ ... لما كانَ في تَرْكِهَا فائِدَهْ

وقوله: الكامل ليسَ التَّعَجُّبُ من مَوَاهِبِ مَالِهِ ... بَلْ من سَلامَتِهَا إلى أوْقَاتِهَا قال: العجب من سلامة المواهب إلى أوقات بذلها. وأقول: إنه بتر قول الواحدي فلم يتبين المعنى، وذلك إنه قال: لسنا نعجب من كثرة مواهبه وإنما نتعجب كيف سلمت من بذله وتفريقه إلى أن وهبها لأن ليس من عادته الإمساك. وقوله: الوافر شَدِيدُ الخُنْزُوَانَةِ لا يُبَالي ... أصَابَ إذا تَنَمَّرَ أمْ أُصِيبَا قال: حذف همزة الاستفهام لدلالة (أم) عليها. وأقول: إن الهمزة لم تحذف على لغة من قال: (صاب)، وقد قال هو: الكامل . . . . . . فَصَابني ... سَهْمٌ يُعذِّبُ. . . . . .

وقوله: الوافر كأنَّ نُجومَهُ حَلْيٌ عَلَيْهِ ... وقَدْ حُذِيَتْ قَوائِمُهُ الجَبُوبَا قال: الجبوب: الأرض؛ جعلها قوائم لليل اتساعا. وأقول: لم يجعلها قوائم، وإنما جعلها حذاء لقوائم الليل استعارة وإشارة إلى طول الليل وبطئه، وذلك حذاء ثقيل لا يستطيع لابسه المشي به. وقوله: الوافر كأنَّ دُجَاهُ يَجْذِبُهَا سُهَادِي ... فَليسَ تَغِيبُ إلاَّ أنْ يَغِيبَا قال: سهاده وظلمة الليل يتجاذبان، فلا يخلي أحدهما الآخر، ولا يغيب هذا حتى يغيب هذا. وأقول: المعنى؛ ان سهادي ثابت لا يزول فكأنه متصل بالليل يجذبه فلا يغيب؛ أي: فلا يزول حتى يزول؛ فهما كالسبب والمسبب لا ينفصل أحدهما من صاحبه. وقوله: الطويل وطَعْنٍ كأنَّ الطَّعْنَ لا طَعْنَ عِنْدَهُ ... وضَرْبٍ كأنَّ النَّارَ من حَرِّهِ بَرْدُ

قال: وطعن مجرور بالعطف على ومشائخ وكان يجب أن يكون اسم كأن مضمرا، ولكنه أوقع الظاهر موقع المضمر. وأقول: إنه أنشدني، وقت القراءة عليه، استشهادا على هذا التفسير: الخفيف لا أرَى المَوْتَ يَسْبِقُ المَوْتَ شَيْئاً ... نَغَّصَ المَوْتُ ذَا الغِنَى والفَقِيرا وغير هذا التقدير أولى منه للضرورة التي فيه، وهو أن يقول: كأن طعن الناس عنده؛ أي: بالإضافة إليه، ولا طعن؛ لشدته وضعف غيره عنه، أو لسرعته فكأنه لا يدرك. وقوله: الطويل تَلَجُّ جُفُوني بالبُكاءِ كأنَّما ... جُفُوني لِعَيْنَي كُلِّ باكِيَةٍ خَدُّ قال: أي: لا تخلو جفونه من بكاء ودمع، كما لا تخلو الدنيا من باكية يجري دمعها.

وأقول: هذا قول ابن جني، نقله وليس بشيء! والمعنى: وصف جفونه بكثرة الدموع، يقول: كأنما يفيض على جفوني من دموع عيني مثلما يفيض على خد كل باكية من دمعها. وقوله: الطويل فلا زِلْتُ ألْقَى الحاسِدينَ بِمِثلِهَا ... وفي يَدِهِمْ غَيْظٌ وفي يَدِيَ الرَّفْدُ قال: الضمير في مثلها يعود على العطايا، ودخل البيت الآخر في الدعاء له بالأخذ وعليهم بالجحد. وأقول: إن قوله: . . . . . . ... وفي يَدِهِمْ غَيْظٌ وفي يَدِيَ الرِّفْدُ والبيت الآخر. . . إلى آخره. . .، في موضع الحال من الضمير في (ألقى). ولا أقول أن ذلك دعاء بل خبر. وقوله: الوافر فَشِمْ في القُبَّةِ المَلِكَ المُرَجَّى ... فأمسَكَ بَعْدَما عَزَمَ انسِكَابَا

قال: عزم: يتعدى بحرف الخفض وهو الأصل، وقد يحذف الحرف فيتعدى بنفسه. وأقول: إن كان أراد بأن عزم تعدى هاهنا إلى انسكابا تعدي المفعول به فليس كذلك، لأن انسكابا هاهنا مصدر في موضع الحال. وإن أراد غير ذلك فلا فرق بينه وبين غيره من الأفعال في حذف الجار وإيصال الفعل إلى ما بعده اتساعا. وقوله: المنسرح أعْلَى قَنَاةِ الحُسَين أوْسَطُهَا ... فيه وأعلْى الكَمِيِّ رِجْلاهُ قال فيه: يعني المأزق؛ يريد أن الرمح ينفذ في الكمي ثم يروم حمله به فينأطر للينه حتى يصير أوسطه أعلاه، والكمي منكس، وإلى هذا أشار امرؤ القيس: السريع . . . . . . ... أرْجُلُهمْ كالخَشَبِ الشَّائِلِ وأقول: إنه يحتمل معنى آخر، وهو أقرب إلى الحقيقة، وذلك أن ينكسر الرمح في المأزق بالطعن أعلاه أوسطه، وإن ينكس الكمي بالطعن فيصير أعلاه رجلاه.

وقوله: المنسرح إذا مَرَرْنَا عَلَى الأصَمِّ بها ... أغْنَتْهُ عن مِسْمَعَيْهِ عَيْنَاهُ قال: يعني إنها خلعة تقعقع لجدتها. وأقول: وهو قول ابن جني؛ وأعجب كيف رضي الشيخ بهذا التفسير مع ضعفه ووقوفه على غيره مع قوته، وهو مذكور في المآخذ على ابن جني. وقوله: الطويل وفاؤكُمَا كالرَّبْعِ أشْجَاهُ طاسِمُهْ ... بأنْ تُسْعِدَا والدَّمْعُ أشْفَاهُ سَاجِمُهْ ذكر فيه قول ابن جني: كنت أبكي الربع وحده فصرت وفاءكما معه؛ أي: كلما ازددت بالربع ووفائكما وجدا ازددت بكاء.

وأقول: وليس هذا بشيء! وقد ذكرت معناه وما فيه من مشكل التقدير قبل، وهو أن صاحبيه عاهداه على أن يفيا له بالإسعاد بالبكاء على الربع، فقصرا في ذلك، فقال: وفاؤكما بالإسعاد بالدمع كالربع، أي: ينبغي أن يكون إسعادا كثيرا كالربع فإنه دارس دروسا كثيرا، وبين ذلك بقوله: . . . . . . أشْجَاهُ طاسِمُهْ ... . . . . . . والتقدير: الربع أشجاه طاسمه، فحذف الربع، وهو المبتدأ لدلالة الأول عليه: . . . . . . ... . . . . . . والدَّمْعُ أشْفَاهُ سَاجِمهُ أي: الربع، أحزنه للمحب، طاسمه. والدمع ينبغي أن يكون على وفقه في المبالغة، أشفاه للمحب ساجمه. وقد بيّن ذلك فيما بعد، فان الشيخ ذكر في تفسير البيت الثالث - ولم أر أحدا ذكره مثله - بأنه عرّض بصاحبيه انهما ليسا من أهل الهوى، ولا ممن استصحب فوافق؛ كأنهما لم يفيا له بما عاهداه من الإسعاد؛ يقول: إن لم تسعداني على هواي وما أقاسيه فكفا عن لومي، أو: فتجملا بأن تصحباني على علاتي، فقد يصحب الإنسان من لا يلائمه ولا يشبهه، وهذا التقدير الآخر يدل على الأول. وقوله: الطويل إذا ظَفِرَتْ مِنْكِ العيونُ بِنَظْرَةٍ ... أثابَ بها مُعْيِي المَطِيِّ ورَازِمُهْ

قال: معناه: إذا نظرت إليك الإبل الرزح المعيية جعلت ثواب ذلك أن تنهض وتسير لما نالها من قوة الأنفس والنشاط فكيف بنا نحن، ونحن نعقل من أمرك ما لا تفعله الإبل. وهذا ليس بشيء! وأقول: إنه يحتمل أن يكون: أثاب بها من الثواب، وهو الجزاء، أي: جازى برؤياك معيي المطي ورازمه، ما كنا نصنع إليه قبل المسير إليك من العلف والخفض والدعة. ويحتمل أن يكون أثاب بمعنى عدا ونهض معيي المطي ورازمه برؤياك وما يعقبه فيما بعد من الراحة، لأن الإعياء والرزوم إنما كان بسبب السير إليك لرؤياك، فإذا قد حصلت رؤياك، وعدم السير، حصلت الراحة، ويكون هذا من قول أبي نواس: الكامل وإذَا المَطِيُّ بِنَا بَلَغْنَ مُحَمَّداً ... فَظُهورُهُنَّ على الرِّجالِ حَرَامُ وقوله: الخفيف ليتَ أنَّا إذا ارتْحَلْتَ لك الخَيْ ... لُ وأنَّا إذا نَزَلْتَ الخِيَامُ قال: تمنى أن يقيه المشقة في رحيله والأذى في نزوله. وعاب عليه قوم هذا البيت، تعنتا، فاعتذر عنه بقوله: الوافر

لقد نَسَبُوا الخِيَامَ إلى عَلاءٍ ... . . . . . . وأقول: إن الذي أخذ عليه من أن الخيام تعلوه ليس بشيء! لأن تشبيه الشيء بالشيء لا يلزم أن يكون من كل وجه حتى إذا تمنى أن يكون من الخيام، ليقيه، لزم أن يكون فوقه، وأن يكون في ظله، وأن يكون سماء له. على أني قد ذكرت فيه وجها يزيل هذا الاعتراض من غير هذا الاحتجاج، فليتأمل فيما تقدم. وقوله: الوافر يَحِيدُ الرُّمْحُ عنكَ وفيه قَصْدٌ ... ويَقْصُرُ أنْ يَنَالَ وفيه طُولُ قال: أي: من شرفك، ومن سعادتك، يميل الرمح عنك إلى غيرك، ويقصر مع طوله أن ينال. وأقول: لو قال: من شجاعتك، وباسك، يحيد الرمح عنك وفيه قصد؛ أي: استقامة لا لأنه معوج، وكذلك يقصر وفيه طول. ومثله قوله: الوافر طِوالُ قَناً تُطَاعِنُها قِصَارُ ... . . . . . . لكان أولى من التعليل بالشرف والسعادة في هذا الموضع.

وقوله: الوافر فَلَوْ قَدَرَ السِّنانُ على لِسَانٍ ... لقالَ لك السِّنَانُ كما أقُولُ قال: لو قدر السنان، لقال مثل هذا القول؛ أي: أنا قصير عنك، وميلي عنك لسعادتك وشرفك. وأقول: الأحسن أن يكون القول من السنان، الثناء عليه بالإقدام والشجاعة كالقول الذي أقول من ذلك، فان السنان مباشر مشاهد له كما أنا مشاهد له. وقوله: المتقارب ولَوْ زُلْتُمُ ثُمَّ لَمْ أبْكِكُمْ ... بَكَيْتُ على حُبِّيَ الزَّائلِ قال: صار الحب معشوقه، حتى لو ذهب الحب عنه لبكى عليه. وأقول: كأن هذا مستحيل! وذلك إنه جعل الحب بمنزلة الحبيب، فالحبيب إذا زال بكي عليه للحب، فالحب سبب البكاء، فكيف يبكي على الحب الزائل وهو كالحبيب بلا حب؟! هذا مستحيل، لأن البكاء لا يكون على الحبيب الزائل إلا بحب مقيم!

وقوله: المتقارب فأقْبَلْنَ يَنْحَزنَ قُدَّامَهُ ... نَوَافِرَ كالنَّحْلِ والعَاسِلِ قال: الهاء في (قدامه) لسيف الدولة، والنون في (أقبلن) لخيل الخارجي، أي: نفرن منه نفور النحل من العاسل. وأقول: الهاء في (قدامه) راجعة إلى (أمام) وهو الخارجي، لقوله قبل هذا البيت: المتقارب وجَيْشِ إمَامٍ على نَاقَةٍ ... . . . . . . وسيف الدولة لم يجر له بعد ذكر. ولقوله فيما بعد: فلمَّا بَدَوْتَ لأصْحَابهِ ... . . . . . . وقوله: (نوافر) لا يدل على انهم منهزمون، لأنه يقال: نفر إلى الشيء وعن الشيء، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانِفرُوا ثُبَاتٍ أو انفِرُوا جَمِيعاً). وقال علي - عليه السلام -: انفروا إلى بقية الأحزاب أي: أسرعوا. فإذا كان كذلك فيقال: إن خيل الخارجي أقبلت تنحاز قدامه إلى خيل سيف الدولة طلبا للقاء وجهلا به، ثم خاطب سيف الدولة فقال: فلما بدوت لأصحابه رأت

شجعانهم أنك آكل الأكل، أي: قاتل القاتل، ثم وصف ما حل بهم منه. وقد ذكر بعضهم في قوله: (نوافر) أن أوائل خيل سيف الدولة نفرت من الخارجي، والصحيح ما ذكرته. وقوله: المتقارب فَظَلَّ يُخَضِّبُ منها اللِّحَى ... فَتىً لا يُعِيدُ على النَّاصِلِ قال: معناه يخضب لحى الأعادي بدمائهم. فتى: يعني سيف الدولة. لا يعيد على الناصل: أي: لا يعيد الخضاب. وأقول: إنه لم يذكر ما سبب ترك إعادة الخضاب، ولا ذكره غيره، وذلك أن ضرباته أبكار، كما روي ذلك عن علي - عليه السلام - إنه كان إذا اعتلى قد، وإذا اعترض قط. يقال: ضربة بكر إذا كانت قاطعة لا تثنى؛ يقول: لا يسلم المضروب المخضوب بدمائه فينصل خضابه فيحتاج إلى أن يعيده بضربة أخرى.

وقوله: المتقارب يُشَمِّرُ للُّجِ عن سَاقِهِ ... ويَغْمُرُهُ المَوْجُ في السَّاحِلِ قال: كان الخارجي يموه على أصحابه إنه نبي، وإنه سوف يملك بيضة الإسلام فهو كالمشمر عن ساقه ليخوض اللجة، وسيف الدولة وعسكره قطعة من عسكرها وواحد من أمرائها كالساحل، وقد كسره واهلكه، فكانه قد غرق في ساحل تلك اللجة. وأقول: إن قوله في سيف الدولة، مع إعظام المتنبي له: إنه قطعة من عساكر بيضة الإسلام وواحد من أمرائها، وإنه كالساحل وهو مادح له ومواجهه بذلك، مناف لأقواله فيه: الطويل أرَى كُلَّ ذي مُلْكٍ إلْيكَ مَصِيرُهُ ... كأنَّكَ بَحْرٌ والملوكُ جَدَاولُ وأمثال ذلك. والجيد أن يقال في قوله: يُشَمِّرُ لِلُّجِّ. . . . . . ... . . . . . . أي: يقدم على الأمر العظيم من عداوة سيف الدولة بأسر ابن عمه أبي وائل وجعل سيف الدولة كالبحر، وإن القرمطي شمر، من جهله، ليخوض لجه؛ أي: معظمه، فغرّقه الموج في الساحل؛ أي: بعض عسكره، ولم يصل إليه معظمه. فهذا أمثل بأحوال سيف الدولة عند أبي الطيب وأقواله فيه مما ذكر.

وقوله: الطويل تَبُلُّ الثَّرى سُوداً من المِسْكِ وَحْدَهُ ... وَقَدْ قَطَرَتْ حُمْراً على الشَّعَرِ الجَثْلِ قال: قال ابن جني في قوله: وحده: أنهن غنيات بالكحل عن الكحل، فالسواد القاطر على الأرض لون المسك وحده، وقد تبعه الناس على ذلك. قال: وعندي أن قوله: يدل على فخر طيبهن ورفعة قدره، وأنهن من بنات الملوك، وإلا فما عسى أن يبلغ كحل العين من السواد حتى يقطر على الأرض أسود؟! لا سيما وهو مما قد كان قبل حلول المصيبة. وأقول: إن قوله: وحده دليل على فخر طيبهن حسن. وقوله: فما عسى أن يبلغ كحل العين من السواد، حتى يقطر على الأرض أسود غير حسن. وذلك أن قوله: وقد قطرت يعني دموع الغانيات، حمرا، ينفي أن يكون خالطهن كحل، وإنما الدموع تقطر حمرا من عيونهن؛ لأنهن مازجن الدمع بالدم لكثرة البكاء على الشعر فيخالط المسك ويذيبه؛ فتقطر على الثرى سودا. فمستحيل هاهنا ذكر السواد من الكحل مع قوله: . . . . . . ... . . . . . . حُمْراً على الشَّعَرِ الجَثْلِ

وقوله: المنسرح أنتَ الذي لو يُعَابُ في مَلأٍ ... مَا عِيبَ إلاَّ لأنه بَشَرُ قال: المعنى إنه لو قدر أن فيك عيبا لم يكن إلا ما لا تعاب به؛ مثل قول الشاعر: الطويل ولا عَيْبَ فيهم غيرَ أنَّ سُيوفَهُمْ ... بهنَّ فلولٌ من قِراعِ الكَتَائِبِ وأقول: لم تقع المطابقة في التمثيل بين البيتين، لأن فلول سيوفهم من قراع الكتائب ليس بعيب بل هو فخر، وكون سيف الدولة من البشر، على مذهبه في الإغراق، عيب له فليس بينهما تماثل. والمعنى: إنه بالغ فجعله اشرف من البشر، كأنه جعله من الملائكة، كقوله تعالى: (مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ)، على أن الوجه الذي ذكره من غير تمثيل جائز، وذلك أن الإنسان إنما يعاب بشيء من أفعاله لأنه هو الموقع لها، وأما بشيء فعله فيه خالقه من كونه بشرا، وما أشبهه، فلا يعاب به. وقوله: الكامل أنَا بالوُشَاةِ إذا ذَكَرْتُكَ أشْبَهُ ... تأتي النَّدَى ويُذَاعُ عَنْكَ فَتَكْرَهُ

قد وقع في هذا البيت والذي بعده اختلال واختلاف في القوافي الثلاث، وقد طول فيه ابن جني وخطأه. وقال الواحدي: يمكن أن يجعل له وجه، على البعد، وهو إنه الحق الواو في أشبه لا على إنه قافية ولكنه اشبع ضمة الهاء فلحقها واو كقوله: () البسيط . . . . . . ... مِنْ حيثُ ما سَلَكُوا أدْنُو فأنظُورُ قال: وعلى هذا قول أبي تمام: الطويل يقولُ فَيُسْمِعُ ويَمْشِي فَيُسْرِعُ ... ويَضْرِبُ في ذَاتِ الإلهِ فَيوُجِعُ وقال الشيخ الكندي آخرا: وعندي أن المتنبي إنما جسر على ذلك وارتكبه لأنه وجدهم يجيزون دخول الهاء الأصلية على الهاء الوصلية استحسانا، والقياس أن لا يجوز، فأجاز هو أن تدخل الوصلية على الأصلية والقياس غيره. وأقول: يجوز عندي إنه لم يعتد بآخر النصف الأول من البيت قافية لان العناية إنما تكون بقافية آخر البيت؛ يجتنب فيها الايطاء والاقواء والسناد وغير ذلك من العيوب، فلا يتجنب في قافية المصراع الأول اجتنابا عاما، ولهذا جاء قول امرئ القيس: الطويل

خَلِيلَيَّ مُرَّا بي على أمِّ جُنْدَبِ ... . . . . . . وجاء في البيت الثاني: . . . . . . ... . . . . . . يَنْفَعْني لَدَى أمِّ جُنْدَبِ فلم يعتد ذلك ايطاء. وقد جاء لأبي نواس: مخلع البسيط تَخَاصَمَ الحُسْنُ والجَمَالُ ... فِيكَ فَصَارا إلى جِدالِ فلم يعتد ذلك إقواء، فإذا كان كذلك لم يعتد بالنصف الأول وكانت القافية الراء، والهاء وصلا، ولا عيب فيه. وقوله: البسيط رُبَّ نَجِيعٍ بِسَيْفِ الدَّولةِ انْسَفَكا ... ورُبَّ قَافِيَةٍ غَاظَتْ به مَلِكَا قال: لم يجئ في شعر أبي الطيب بيت تنكره الغريزة إلا في هذا البيت. قال المعري: ولو أن لي في هذا البيت حكما جعلت أوله: كم من نجيع وكان ذلك أليق من رب لأن كم للكثرة. ويحسنه أيضا أن رب جاءت في النصف

الثاني ضد كم. وأقول: هذا الذي قالاه ليس بشيء! وقد ذكرت ما فيه في شرح التبريزي. وقوله: الطويل فَدَيْنَاكَ أهْدَى النَّاسِ سَهْماً إلى قَلْبِ ... وأقْتَلَهُمْ للدَّارِعِينَ بِلا حَرْبِ قال: اطالوا، في هذا البيت، شرح افعل فجعلوه تارة من هديته الطريق وتارة من هدى الوحش إذا تقدم. وهو عندي من هديت هدي فلان أي: قصدت قصده، وأهدى منادى؛ أي: يا أهدى وأقتلهم. وأقول: إذا لم أجعل هذه الكلمة من أهدى فعلى أي وجه شئت من الثلاثي فاحملها فإن هذه المعاني متقاربة. وقوله: أهدى: منادى وكذلك اقتلهم فجائز أن يكون كما قال، منادى، وأن يكون بدلا من الكاف، وأن يكون تمييزا، فالنصب فيهما من هذه الأوجه الثلاثة، وهي متساوية في الجودة سواء، فلا وجه لذكر بعضها وتخصيصه.

وقوله: الطويل وكَمْ لكَ جَدّاً لم تَرَ العَيْنُ وَجْهَهُ ... فَلَمْ تَجْرِ في آثارِهِ بِغُرُوبِ قال: قال ابن جني: إذا لم تعاين الشيء لم تعتدد به في أكثر الأحوال فلذلك ينبغي أن تتسلى عن (يماك) لأنه قد غاب عن عينك كما لم تحزن لأجدادك الذين لم ترهم. وقال: إن كان المتنبي أراد هذا المعنى فقد اخطأ لأنه لمير أجداده، وهو فقد يماك بعد رؤيته. وأقول: إنه رد قول ابن جني ولم يذكر المعنى، وهو إنه أراد تسليته فقال: كم لك جدا فقد عن بعد لم تكبه فاجعل هذا الذي فقد عن قرب بمنزلته لأنه قد شاركه في الفقد، ولا فرق في ذلك بين البعيد والقريب. وقوله: الطويل فَحُبُّ الجَبَان النَّفْسَ أوْرَدَهُ التُّقَى ... وحُبُّ الشُّجَاعِ النَّفْسَ أوْرَدَهُ الحَرْبَا

قال: الجبان يحب نفسه فيحجم، والشجاع يحب نفسه فيقدم؛ هذا يطلب بقاءها وذلك يطلب مدحها. ثم فسر البيت الذي يليه وهو: الطويل ويَخْتَلِفُ الرِّزقانِ والفِعلُ واحِدٌ ... إلى أنْ تَرَى إحسَانَ هذَا لِذَا ذَنْبَا فقال: يتفق اثنان في فعل واحد يرزق منه أحدهما ويحرم الآخر فيعد للمرزوق إحسانا وللمحروم ذنبا. وأقول: إن تفسير البيت الثاني ينبغي أن يكون مطابقا للبيت الأول لأنه كالمفسر له، وقد فسره على خلاف ذلك. ومطابقته له أن يقال في قوله: ويَختلِفُ الرِّزْقانِ والفعل واحدٌ ... . . . . . . أي: الجبان رزق بحبه نفسه الذم على جبنه، والشجاع رزق بحبه نفسه الحمد على شجاعته، فكلاهما محسن إلى نفسه، فاشتركا في الفعل، وهو حب النفس، واختلف الرزقان لأن هذا رزق الذم بفعله، وهذا رزق الحمد بفعله، وصار إحسان الجبان إلى نفسه بالاتقاء ذنبا للشجاع لو فعله. وأما تفسير الشيخ للبيت الثاني فهو من قول القطامي: البسيط والناسُ، مَنْ يَلْقَ خَيْراً قائلون لَهُ ... ما يَشْتَهي ولأمِّ المُخْطِئ الهَبَلُ وقول الآخر: الطويل فمن يَلْقَ خَيْراً يَحْمَدِ النَّاسُ أمْرَهُ ... ومَنْ يَغْوِ لا يَِعْدَم على الغيِّ لائِمَا أي: ومن يخب. وهذا معنى آخر ليس من الأول في شيء.

وقوله: الطويل وَجَيشٍ يُثَنِّي كُلَّ طَوْدٍ كأنَّهُ ... خَرِيقُ رِيَاحٍ وَاجَهَتْ غُصُناً رَطْبا قال: يصفه بالكثرة حتى إنه إذا مر بجبل شقه بنصفين فتسمع حسيسه كما تشق الريح الخريق الغصن الرطب باثنين. وأقول: أن قوله: يثني أي: يعطف، من ثنيت، أي: عطفت، فشدده للتكثير والمبالغة، وجعل الطود، في علوه وثباته، كأنه غصن رطب تثنيه الريح الخريق، وهي الشديدة الهبوب، أي: تعطفه. وهذا اقرب إلى الاستعارة، واكثر في المبالغة، والأول اقرب إلى الحقيقة. وقوله: الكامل وَهَبِ الملامةَ في اللَّذَاذةِ كالكَرَى ... مَطْرُوَدةً بِسُهَادِهِ وبُكَائِهِ قال: هذا البيت أطال فيه ابن جني ورد غيره عليه، وكلا القولين غير خال من اضطراب. وعندي إنه يريد أن الكرى المستلذ عندي مطرود عني بالبكاء والسهاد، فهب أنت الملامة اللذيذة عندك مطرودة عنك ككراي المطرود عني. وأقول: وهذا الذي ذكره لم يخل من اضطراب لأنه يحتاج إلى تتمة.

فيقال له: أن العاشق ترك كراه المستلذ عنده لما هو ألذ منه، وهو الهوى، فالعاذل لم يترك الملامة المستلذة عنده في لوم صاحبه، وهو ينتفع بها بانتفاع صاحبه عند القبول لها فينبغي أن يتمم ذلك ويعلل بان يقال: لأنه يزيد في كلفه ويغريه بوجده فينبغي له إذا لم ينقص ما به من الوجد أن لا يزيده. وعندي أن قوله: وَهَبِ المَلامَةَ في اللَّذَاذَةِ. . . . . . ... . . . . . . يحتمل معنيين: أحدهما: أن يكون اللذاذة راجعة إلى العاشق فيقول لعاذله: هب أني استلذ بالملامة وانتفع بها كانتفاعي بالكرى، أفليس الكرى مطرودا بالسهاد والبكاء؟ فاجعل الملامة مثله. والوجه الآخر: أن تكون اللذاذة راجعة إلى العاذل فيقول له العاشق: اجعل الملامة عندك في اللذاذة، وانفاعك بها كالكرى عندي، وقد طردته بالسهاد والبكاء، فاجعل الملامة كذلك مطرودة بسهادي وبكائي رحمة لي، فإنها تزيدني ولا تنقصني، وهذا أبلغ ما يحرر في معنى هذا البيت. وقوله: الطويل وتَمْشِي بع العُكَّازُ في الدَّيْرِ تَائباً ... ومَا كانَ يَرْضِى مَشْيَ أشْقَرَ أجْرَدَا قال: قوله:

وتَمْشِي به العُكَّاز. . . . . . ... . . . . . . على مذهب القلب لأنه هو الماشي بالعكاز. وأقول: إن هذا لا يحتاج إلى تقدير القلب، وأعيذ فهم الشيخ، كيف تبع غيره في هذا مع ظهوره؟! وقد ذكرته في شرح التبريزي. وكذلك قوله: البسيط تَشْبِيهُ جُودِكَ بالأمطار غَادِيَةً ... جُودٌ لِكَفِّكَ ثَانٍ نَالَهُ المَطَرُ ذكرت ما فيه في شرح التبريزي. وقوله: الطويل أتاكَ كأنَّ الرَّأسَ يَجْحَدُ عُنْقَهُ ... وتَنْقَدُّ تَحْتَ الذُّعْرِ منه المَفَاصِلُ قال: عظمت هيبة سيف الدولة في قلبه حتى كأنه تبرأ بعضه من بعض. وأقول: بل دخل بعضه في بعض ولذلك قال: . . . . . . كأنَّ الرأسَ يَجْحَدُ عُنْقَهُ ... . . . . . . أي: تجمّع من خوفه فلم يتبين له عنق، وذلك فعل الخائف والذليل، كقول

الشاعر: الطويل تَضَاَءلْتُمُ مِنَّ كما ضَمَّ شَخْصَهُ ... أمامَ البُيُوتِ الخَارِئُ المُتَقَاصِرُ وقوله: الوافر ولَوْ غَيْرُ الأميرِ غَزَا كِلاباً ... ثَنَاهُ عن شُمُوسِهِمُ ضَبَابُ قال: كنى بالشموس عن النساء، وبالضباب عن المحاماة عنهن. وقيل فيه قول آخر لكن هذا أجود. فيقال له: وأجود من هذا أن يكون الضباب كناية عن عجاج الخيل بلقائه وهو أشبه بذلك، وفيه تضمن معنى المحاماة. وقوله: الطويل إذا كانَ ما تَنْويهِ فِعْلاً مُضَارِعاً ... مَضَى قَبْلَ أنْ تُلْقَى عليه الجَوَازِمُ

قال: أراد بالمضارع هاهنا المستقبل دون الحال. وأقول: إن قوله: فعلا مضارعا معناه انك إذا أردت أن تفعل فعلا في الحال الراهنة أو المتأخرة، أي: فعلا على الفور أو التراخي مضى بجودك وباسك، أو بسعادتك، قبل القواطع من الزمان، فكنى بالتقديم والتأخير عن المضارعة إذ هي للحال والاستقبال، أي: إذا نويت أن تفعل، وكنت مترددا فيه بين أن تفعله في الزمن القريب من زمنك أو البعيد، مضى: أي: فعل قبل أن يقال لم يفعل لما ذكرته. وقوله: الوافر فكانُوا الأُسْدَ ليسَ لها مَصَالٌ ... عَلى طَيْرٍ وليسَ لها مَطَارُ قال: لابن جني كلام في تفسير هذا البيت قليل المنفعة! والصواب إن الضمير في كانوا يعود على رجال سيف الدولة، جعلهم اسودا وجعل البادية المنهزمة طيرا، وصولة الأسد لا تدرك طيران الطائر، أي: انهم هربوا مسرعين كالطير فلا لوم على جيش سيف الدولة إذ لم يلحقهم لأنهم كالأسد وأولئك كالطير. وأقول: إن الضمير في فكانوا يرجع إلى ذكر الأعادي قبل؛ يقول: أنهم كانوا كالأسد في الشجاعة إلا أنهم لم يكن، في وقت لحاق سيف الدولة بهم، لهم مصال.

وقوله: على طير أي: على خيل كالطير في السرعة، إلا أنها ليس لها مطار لإعيائها؛ يصف فرسانهم بعدم الغناء في الحرب لكلال خيلهم، أو للخذلان الذي لحقهم بلحاق سيف الدولة لهم. وقوله: الكامل إنَّ السُّيوفَ مع الذين قُلوبُهم ... كَقُلوبِهِنَّ إذا التَقَى الجَمْعَانِ قال: إنما ينفع السيف إذا كان قلب حامله كقلبه في القتال؛ لا هذا يفزع ولا هذا. وأقول: لو قال: كقلبه في المضاء عند القتال لأصاب وأجاد. وقوله: البسيط تَرُدُّ عنهُ الفُرْسَانِ سَابِغَةٌ ... صَوْبُ الأسِنَّةِ في أثنائِهَا دِيَمُ تَخُطُّ فيها العَوَالي لَيْسَ تَنْفُذُها ... كأنَّ كُلَّ سِنَانٍ فَوْقَهَا قَلَمُ

قال: عظّم شأن درعه وحقّر شان الرماح على كثرتها فيها، وفي هذا من الهجو، بضعف الطعن، ما فيه. وأقول: هذه صفة حال وقعت، فيها ذم لابن شمشقيق بتولية الدبر وطعنه في ظهره، وإن كان فيها ضعف طعن من لحقه من أصحاب سيف الدولة، فالمقصود إنما هو الأول لا الثاني. على إنه يمكن أن يعتذر لهم بأن درعه كانت، لإحكام نسجها، ملساء كالصفيحة فهي تزلق الأسنة فلا تتمكن منها بالطعن فلا يدل على ضعفه. وقوله: الطويل بِعَزْمٍ يَسِيرُ الجِسْمُ في السَّرْجِ رَاكِباً ... به ويَسِيرُ القلبُ في الجِسْمِ مَاشِيَا قال: يصف قوة العزم على السير. والهاء في (به) تعود على العزم؛ أي: كأن الجسم، وهو مقيم في السرج، وكأن القلب، وهو مقيم في الجسم، يسبق الجسم. وأقول: إن هذا ليس بشيء! وهو قول الواحدي. والصحيح قول الشيخ أبي زكريا؛

قال: يصف عزمه بالمضاء والشدة؛ أي إنه عزم على أمر عظيم، فالراكب، وإن كان جسمه في سرج، فكأن قلبه ماش في جسده لأنه في مشقة وتعب لعظم ما يهم به. وهذا المعنى، قبل إن انظر كلام التبريزي، لمحته بعين الفكر وحققته ثم رايته له بعد ذلك فأثبته. وقوله: البسيط لا تَجْزِنِي بِضَنىً بي بَعْدَهَا بَقَرٌ ... تَجْزِي دُمُوعِيَ مَسْكُوباً بِمَسْكُوبِ ذكر معنى البيت نقلا عن غيره، وقال في قوله: . . . . . . ... تَجْزي دُمُوعِيَ مَسْكوباً. . . . . . إن مسكوبا بدل من دموعي ولا يحسن الحال هاهنا. وأقول: ليس كذلك بل هو مفعول ثان، وذلك أن جزى يتعدى إلى مفعولين؛ يقال: جزى الله زيدا خيرا؛ قال المساور بن هند: الطويل جَزَى اللَّهُ خيراً غَالباً من عَشِيرةٍ ... إذا حَدَثَانُ الدَّهْرِ نَابَتْ نَوائِبُهْ

وقال المعذل: الطويل جَزَى اللَّهُ فِتْيَانَ العَتِيكِ وإنْ نَأتْ ... بِي الدَّارُ عنهم خَيْرَ ما كانَ جَازِيَا وقوله: لا تحسن الحال هاهنا. فأقول: لا تحسن على أن تقتصر على أحد المفعولين، وتكون حكاية حال متعدية، وإن كان دموعي جمعا، ومسكوبا واحدا، وذلك كما تقول: لقيت القوم فارسا بفارس وراجلا براجل. وقوله: الطويل وبي ما يَذُودُ الشِّعْرَ عنِّي أقَلُّهُ ... ولكنَّ قَلْبِي يا ابنَةَ القومِ قُلَّبُ قال: يقول: عندي هموم يصرف الشعر اقلها لولا أن قلبي كثير التقلب لا يموت خاطره. وهذا ليس بشيء! وأقول: إن قوله: قلب أي: ثابت عند الحوادث غير مسلوب الحيلة، من قولهم: فلان قلب حول، وهو الذي يقلب الأمور ويحتال لها.

وقوله: الطويل ثناهُمْ وَبَرْقُ البِيضِ في البَيضِ صَادِقٌ ... عليهِمْ، وبَرْقُ البَيضِ في البِيضِ خُلَّبُ قال: صادق: مؤثر، وخلب: لا اثر له؛ هذه تبرق وتسيل الدماء، وهذه تبرق ولا تسيل دما. وأقول: وهذا الذي ذكره لا يتحصل به كثير فائدة! والمعنى: أنه استعار للبيض والبيض برقين لصقالهما وصفائهما، وجعل برق البيض في البيض صادقا لتأثير السيوف فيها بالقطع ووصولها إلى الرؤوس باراقة الدماء. وجعل برق البيض في البيض خلبا لكونها لم تؤثر في السيوف بالرد والتثليم، لأن برق البيض إنما كان صادقا بتأثير القطع، وفي هذا وصف سيوف الممدوح بالمضاء وقوة الضرب، ووصف بيض أعدائه بعدم الغناء في رد السيوف والوفاء. وقوله: الطويل فنالَ حَيَاةً يشتَهِيهَا عَدُوُّهُ ... وموتاً يُشَهِّي المَوْتَ كُلَّ جَبَانِ قال: يريد إنه مات موتا وحيا لم يعذب قبله بآلام العلل.

وأقول: وهو قول التبريزي. وأقول: إن الجبان شهوته أن لا يموت قتلا في الحرب مباشر السيوف والرماح. وشبيب: قيل: إنه مات صرعا بالخمر، فالجبان يتمنى أن يموت تلك الموتة. وقوله: الطويل ثَنَى يَدَهُ الإحْسَانُ حتى كأنَّهَا ... وقَدْ قُبِضَتْ كانَتْ بغير بَنَانِ قال: القبض باليد لا يحصل إلا بواسطة البنان. يقول: لما قبضت يده إحسانك الذي ملأها حتى ثناها إلى ورائها فأرسلته صارت كأنها كانت بغير بنان يطبق على الموهوب. وأقول: لم يرد بثنى يده: عطف يده ولواها إلى ورائها، والمراد غير ذلك وقد بينته في شرح التبريزي. وقوله: الطويل وعندَ مَنِ اليومَ الوفاءُ لصَاحِبٍ ... شَبِيبٌ وأوْفَى من تَرَى أخَوانِ؟

قال: كان يظن في شبيب الوفاء فظهر غدره بكافور، فقال: من يغتر بوفائه بعده وهو الذي كان أخا لأصح الناس وفاء؟ كان هو وأوفى الناس سواء. وأقول: إنه ظن أن قوله: . . . . . . ... شَبِيبٌ وأوْفَى من تَرَى أخَوَانِ إنه إخبار عن حاله التي كان عليها قبل الغدر وإنه مدح له وليس كذلك. وإنما ذلك إخبار بما تبين عن قبح غدره، وإن أوفى الناس، أي: اشد الناس وفاء، هو وشبيب اليوم إخوان في قبح الغدر. يريد أن الزمان قد فسد، فلا يوثق اليوم بأحد. وقوله: الوافر ومَنْ يَجِدُ الطَّرِيقَ إلى المَعَالي ... فلا يَذَرُ المَطِيَّ بلا سَنَامِ قال: تعجب ممن له نفاذ وعزيمة، ويجد طريقا إلى المعالي ولا يسري إليها سرى يقطع أسنمة الإبل. وأقول: هذا التفسير على أن ومن معطوف على لمن قبله، وليس كذلك. ولو أراد العطف على البيت الأول لكان ينبغي أن يكون قوله: ولا يذر بالواو لا بالفاء حملا على البيت الأول وهو: الوافر

عَجِبْتُ لِمَنْ له قَدٌّ وَحَدٌّ ... ويَنْبُو نَبْوَةَ القَضِمِ الكَهَامِ ويكون ينبو بالنصب لان الواو للجمع. وكذلك قوله: ومَنْ يَجِدِ الطَّرِيقَ إلى المَعَالي ... فلا يَذَرُ المَطِيَّ بلا سَنَامِ وقد ذكرت في قوله: ومن يجد أن من للشرط، ويجد مجزوم بها، والفاء في فلا يذر جواب الشرط، وبينت فيه معنى حسنا، فليتأمل في شرح التبريزي. وقوله: الوافر وَمَلَّنِيَ الفِراشُ وكانَ جَنْبِي ... يَمَلُّ لقاَءهُ في كُلِّ عامِ قال: يعني أن مرضه طال حتى مله الفراش، وقد كان كثير الأسفار والنقل المانعة جنبه من لقاء الفراش في العام مرة. وأقول: إن تخصيصه المرة ليس بشيء! لأنه يحتمل أن يكون أكثر من مرة. وقوله قول الواحدي. وعندي أن المعنى غير ذلك، وهو أن الفراش مله لطول مرضه العام، وكان في كل عام يمل هو الفراش في مقامه ودعته بسبب قصده الأسفار؛ يقول: انعكست عليَّ القضية فبدلت بالصحة سقما وبالقوة ضعفا. وقوله: الوافر إذا مَا فَارَقَتْني غَسَّلَتني ... كأنَّا عاكِفَانِ على حَرَامِ

قال: خص الحرام لأنه جعلها زائرة ليست بزوج ولا سرية. وأقول: لو قال: لأنه جعلها زائرة في الظلام، فاستتارها وخفاؤها يدل على إنها غريبة ليست بزوج ولا سرية، لأصاب الصواب، إلا إنه لم يذكر ما يدل على ذلك. وقوله: الطويل وعَنْ ذَمَلانِ العِيسِ ما سَامَحَتْ به ... وإلاَّ فَفِي أكْوارِهِنَّ عُقَابُ ذكر في هذا ما ذكره من تقدمه، والصحيح ما ذكرته فيما تقدم فليتأمل. وقوله: الطويل وأوْسَعُ ما تَلْقَاهُ صَدْراً وخَلْفَهُ ... رِمَاءٌ وطَعْنٌ والأمَمَ ضِرَابُ قال: جعل ابن جني الرماء والطعن وراءه من أصحابه، وليس المعنى عليه؛ بل إذا كان الجميع من أعدائه كان امدح. وأقول: أن الرماء مصدر رامى رماء يكون من الفريقين في الفريقين، وكذلك الطعن، فإذا طاعن أصحابه الأعداء وراءه لزم أن يكون الأعداء وراءه إلا

الذين يضاربهم فانهم قدامه، فلم يخطئ ابن جني على هذا التقدير وفي هذا تفضيله على أصحابه؛ يقول: إذا رامى بعضهم وطاعن بعضهم، ضارب هو فتقدمهم وفضلهم في الشجاعة، وهذا من قول زهير: البسيط يَطْعَنُهُمْ ما ارتَمَوْا حتى إذا طَّعَنُوا ... ضَارَبَ حتى إذا ما ضَارَبُوا اعْتَنَقَا وقوله: السريع لو كانَ ذا الآكلُ أزْوَادَنَا ... ضَيْفاً لأوْلَيْنَاهُ إحْسَانا قال: هذا مثل قوله فيما مضى: البسيط جَوْعَانُ يأكُلُ من زَادي ويُمْسِكُني ... . . . . . . وأقول: هذا وهم، بل هو فيما سيأتي في قوله: البسيط عِيدٌ بأيَّةِ حَالٍ عُدْتَ يا عِيدُ ... . . . . . . وقوله: البسيط ما يَقْبِضُ المَوْتُ نَفْساً من نُفُوسِهِمُ ... إلاَّ وفي يَدِهِ من نَتْنِهَا عُودُ

قال: جعل للموت عند قبض أرواحهم عودا في يده، لئلا يباشر بها قبض أرواحهم استقذارا لها، ضرب ذلك مثلا للموت مجازا. وأقول: وهذا الذي ذكره هو قول الجماعة، وهو غير مرضي، وقد ذكرت ما عندي فيه فيما قبل. وقوله: المتقارب فما كانَ ذلك مَدْحاً لَهُ ... ولكنَّهُ هَجْوَ الوَرَى قال: لما نافى أهل زمانه فيه من السفال كان مدحه إياه إرغاما لهم. وأقول: متابعة الجماعة لابن جني في هذا التفسير، ومطابقتهم له على لفظة السفال سفال! وهي لا تدل على معنى في البيت، ولا فصاحة في اللفظ. ومعنى البيت: أني لما مدحت كافورا ووصفته بصفات الناس وأخلاق الكرام جعلته من الناس، وهو لا يستحق ذلك، كان ذلك هجوا لهم إذ هو ليس منهم وقد أدخلته فيهم.

وقوله: البسيط أمْضَى الفَريقين في أقرانِهِ ظُبَةً ... والبيضُ هَادِيَةٌ والسُّمْرُ ضلاَّلُ قال: السيوف تمضي قدما فهي هادية، والرماح تمضي يمينا وشمالا فهي ضلال. وهذا ليس بشيء! والصحيح أن السيوف هادية في ظلم النقع بضوئها، والرماح ضلال في ظلم الصدور بطعنها. وقوله: المتقارب ولا ما تَضُمُّ إلى صَدْرِهَا ... ولَوْ عَلِمَتْ هَالَهَا ضَمُّه0ُ قال: المعنى: أن أمه لو علمت إنه يكون شجاعا، عظيم الشأن لهالها ضمه إلى صدرها. وأقول: ليس كذلك! ولكنه جعله أسدا فلم تدر أمه ما ولدت منه، ولا ما تضم إلى صدرها، ولو علمت إنه أسد لهالها ذلك.

وقوله: الكامل نَافَسْتُ فيه صُورةٌ في سِتْرِهِ ... لَوْ كُنْتُهَا لَخَفِيتُ حتى يَظْهَرَا قال: ادعى إنه يحسد الصورة لقربها من الحبيبة، حتى لو قدر أن يكون إياها لأخفى نفسه وزال حتى تراها العيون لأنها مما تشوق الأبصار. وقيل: لخفيت نحولا وضنى حتى يظهر كأنه يشير إلى العدم، وهذه مبالغة تامة. وأقول: أما قوله: لو قدر أن يكون أباها لأخفى نفسه. . . . . . حتى تراها العيون: إن هذا مما لا يسمح به العاشق، لو قدر عليه، لأنه أشح الناس على محبوبه أن تراه العيون. وأما قوله: لخفيت نحولا وضنى حتى يظهر فيقال: كيف يضنى إذا كان مكان الصورة، وهو مشاهد لمحبوبته، مواصلها، يمسها وتمسه في حال الدخول والخروج؟ وقد أجبت عن هذا السؤال في شرح التبريزي بما يحصل عنه الانفصال.

وقوله: الخفيف مَثَّلُوهُ في جَفْنِهِ خَشْيَةَ الفَقْ ... دِ ففي مِثْلِ أثْرِهِ أغْمَادُهْ قال: قوله: . . . . . . ... . . . . . . ففي مِثْلِ أثْرِهِ أغْمَادُهْ أي: غشوة بفضة منقوشة نقشا دقيقا، وأرادوا بذلك تمثيله، لأنه لا يكون مسلولا دائما لينظر إلى حسنه، فلخشية فقدهم له جعلوا غمده مشبها له فضة بيضاء، نقشها الدقيق كفرنده. وأقول: إنه قد ذكر فيه أقوال؛ هذا أحدها. والذي عندي فيه أن هذا البيت مرتب على ما قبله، وهو قوله: الخفيف كلَّما سُلَّ ضَاحَكَتْهُ إيَاةٌ ... تَزْعُمُ الشَّمْسُ أنَّها أرْادُهْ فأخبر أن الشمس تزعم إنها ترب له ونظير، فلما ادعت الشمس ذلك مثلوه في جفنه خشية الفقد؛ أي، جعلوه ماثلا مقيما في غمده لأنه نور، خشية أن يذهب كما تذهب الشمس، وقوله: . . . . . . ... . . . . . . ففي مِثْلِ أثْرِهِ أغْمَادُهْ

أي: يغمد في غمد شريف من جنس جوهره، وهو الذهب، ويدل عليه قوله: الخفيف مُنْعَلٌ لا مِنَ الحَفَا ذَهَباً. . . . . . ... . . . . . . فعلى هذا غمده محلى بالذهب. وأما الفضة، التي ذكرها الشيخ، ونقشها، وهو قول ابن فورجة، فليس في كلامه ما يدل عليها. وقوله: الخفيف ورجَتْ رَاحَةً بِنَا لا تَراهَا ... وبلادٌ نسير فيها بلادُهْ قال: رجت أن تستريح عندنا، وذلك لا تراه، لأنا نسير صحبته في غزواته وصيده، فما دمنا في خدمته فلا راحة لها. وأقول: أجود من هذا ما قال ابن جني: إن خيله رجت أن تستريح عندي من طول كده لها، وليست ترى ذلك من جهتي ما دمت أسير في بلاده،

والعمل الذي يتولاه لسعة بلده. وهذا يكون عند انصرافه عن ابن العميد، وفي هذا تعظيم له وإغراق، وهو مثل قوله في بني عبد العزيز: الكامل . . . . . . ... ولكلِّ رَكْبٍ عِيسُهُمْ والفَدْفَدُ أي: العيس التي يركبونها إليهم لهم، وكذلك الفلاة التي يسيرون فيها إليهم. وقوله: الخفيف أنَا مِنْ أصْيَدِ البُزاةِ ولكنْ ... نَ أجَلَّ النُّجومِ لا أصْطَادُهْ قال: قال ابن جني: لو استوى أن يقول: أعلى النجوم كان أليق. وليس هذا بشيء! لأنه جعل الممدوح نجما في علو القدر، ثم انظر إلى جلالة قدره في الرئاسة. فيقال لابن جني: كان يستوي له أن يقول: ولكني أعلى النجوم، فيزيد ياء، ولا يفوت أبا الطيب ذلك لو رآه صوابا، ولو قال ذلك لدخل عليه نجوم كالسها وما أشبهه، ولكنه أراد بأجلّ النجوم الشمس، وهي أشرف الكواكب وأعظمها وأضوؤها، وهذا التفسير لم أجده لأحد سواي.

وقوله: الطويل وتلقَى نَواصيهَا المَنايَا مُشِيحَةً ... وُرُودَ قَطاً صُمٍّ تَشَايَحْنَ في وِرْدِ قال: مشيحة: جادة في لقاء الموت إيثارا لبقائها في ملكه، ولا ترى الخروج من يده إلى غيره حبا له. وأقول: إن قوله: جادة في لقاء الموت حسن، وما زاد على ذلك من قوله: إيثار لبقائها في ملكه. . . . . . إلى اخره، ليس بشيء! وإنما أوقعه في ذلك البيت الذي

قبله وذكر تعرض أعناق الخيل لزواره خوفا من الخروج إليهم عنه، فرتب البيت الثاني عليه، وجعل جدها في لقاء المنايا إيثارا لبقائها عنده، وليس الأمر كذلك، وإنما وصف خيله بحالتين محمودتين: حالة تكون في السلم، فهي تتعرض بأعناقها خوفا من مفارقته بإعطائها الزوار كما تتعرض الوحش خوفا من الطرد. وحالة تكون في الحرب، فهي لا تعرض وتنحرف بل تلقى بنواصيها الموت جادة في طلبه كما تجد القطا في طلب الماء. فليس ذلك لخروجها عن ملكه بل ذلك لما عوّدها من لقاء العدو. وقوله: الطويل يُغَيِّرُ ألوانُ اللَّيالي على العِدَا ... بمَنْشُورةِ الرَّايَاتِ مَنْصُورةِ الجُنْدِ قال: الليالي سود، وتغيرها بالنيران في جيوشه وتألق السلاح من عساكره التي هي منشورة الرايات، فحذف الموصول للعلم به. وأقول: لم يحذف الموصول وإنما حذف الموصوف؛ أي: بكتيبة منشورة الرايات.

وقوله: الطويل وكلُّ شَريكٍ في السُّرورِ بِمُصْبَحي ... أرَى بَعْدَهُ مَنْ لا يَرَى مثلَهُ بَعْدِي ذكر فيه من التقدير ما لا يؤديه اللفظ ولا يحسن معه المعنى. والجيد أن يقال فيه: وكل شريك شاركني في السرور بمصبحي عندك وبما نلت أنا وإياه من رفدك، أرى بعده؛ أي: بعد المصبح أو الشريك، من لا يرى مثله، أي: إنسانا لا يرى مثل شريكي بعدي؛ أي: لا يرى مثلي ومثله، وأنا أتقدمه في الفضيلة وهو بعدي. وقوله: المنسرح وصَارَتِ الفَيْلقَانِ وَاحِدَةً ... تَعْثُرُ أحْيَاؤُهَا بِمَوْتَاهَا

قال: المعنى إن المخالفين له يصيرون من عبيده وأصحابه. وقال ابن جني: إنه يشن الغارة في الارض، فيختلط الجيش بالجيش حتى يصير واحدا. وقال غيره: يجتمع أهل هذا الزمان وتلك الأزمنة فيصيرون شيئا واحدا، وتضيق الأرض بهم حتى يعثر حيها بميتها للزحمة وكثرة الناس. قال: وهذا مثل قوله: الطويل سُبقنا إلى الدنيا فلو عاشَ أهْلُهَا ... مُنِعْنَا بها جِيئَةٍ وذُهُوبِ وأقول: الصواب من هذه الأقوال قول ابن جني، وأعجب من ظهوره في الصحة وظهور ما سواه في الفساد! كيف قرن به غيره مكثرا، وهو إنما ذكر هذه الحواشي مختصرا؟ ومن نظره في بعض المواضع ما هو أخفى من الشعر وخفائه عليه في بعضها ما هو أجفى من الشرع!

وقوله: المنسرح ودَارتِ النَّيِّراتُ في فَلَكٍ ... تَسْجُدُ أقْمَارُهَا لأبْهَاهَا قال: يريد بالنيرات ملوك الدنيا إذا اجتمعوا في زمن واحد. وأراد بأبهاها عضد الدولة. وأقول: قال الشيخ أبو الفتح، وهو الصحيح: شبّه الجيوش لمّا اختلط بعضها ببعض بفلك تدور فيه نجومه، وشبّه ملوك الجيوش بالأقمار، وشبّه عضد الدولة بالشمس لأنه أشرفهم وأشهرهم، والهاء في أبهاها عائدة على الأقمار. ومعنى تسجد تذل وتخضع. وقوله: المنسرح النَّاسُ كالعَابدين آلِهَةً ... وعَبْدُهُ كالمُوَحِّدِ اللاَّها قال: أي: من التجأ إلى غيره لم يجد عنده ما يغنيه عن سواه، فهو يرجو هذا وهذا، ومن التجأ إليه كفاه وأغناه عمن سواه، فكأنه موحد لله لا يرجو الرزق من غيره. وأقول: هذا قول ابن جني، والأولى غيره؛ أي: الناس الذين هم في دين غيره ضلال، والذين هم في دينه وطاعته مهتدون، وضرب لذلك مثلا بالشرك والتوحيد.

وقوله: الوافر ولكنَّ الفَتَى العَربيَّ فيها ... غريبُ الوَجْهِ واليَدِ واللِّسَانِ اختلف في قوله: غريب اليد فقال ابن جني: سلاحه غير سلاحهم. وقال المعري: اليد هنا النعمة. وقال الكندي آخرا: عندي أن غربة اليد هنا، عبارة عن قلة الانبساط إليهم، لأنها مظنة الأخذ والعطاء. وأقول: وعندي أن غربة اليد كناية عن عدم فهم الكتابة، كما أن غربة اللسان كناية عن عدم فهم اللغة، فاليد في هذه بلاد لا يفهم منها ما تكتب، كما أن اللسان لا يفهم منه ما يقول. وهذا هو المعنى الذي أراده أبو الطيب لمن تدبره بقلبه وأنصف بلسانه.

وقوله: الوافر وأمْوَاهٌ يَصِلُّ بها حَصَاهَا ... صَلِيلَ الحَلْي في أيْدِي الغَوَاني قال: بها: أي بالأمواه، أي: يصل حصاها بجريها عليه، وفيه تشبيه خفي للأشجار بالغواني، والحصى بالحلي. وأقول: هذا التشبيه للأشجار بالغواني من أين صار إليه، وليس في كلامه ما يدل عليه؟ وكأنه لمّا رأى التبريزي قال: إن في هذا البيت صفة الأمواه وحصاها، فجعل حصاها كالحلي وجعلها كالغانيات من النساء، وهذان تشبيهان في مشبهين جعل هو مكان تشبيه الأمواه بالغواني تشبيه الأشجار بالغواني من غير دلالة. والذي عندي في هذا إنه شبه أصوات حصى هذه المياه بجريها في أنها تشوق القلوب وتستفزها كما يشوق القلوب الحلي في أيدي الغواني، ولا يحسن أن يكون الحلي هاهنا الأسورة وما أشبهها مما يجعل في اليد، فإن ذلك لا يوصف بالصليل والتصويت، ولكن الحلي هاهنا ما يكون في الأعناق من القلائد فهن يعبثن بأيديهن ويلعبن فيصوت فيشوق القلوب ويجذبها. وقوله: الوافر له عَلَّمْتُ نَفْسِي القَوْلَ فيهم ... كتَعْليمِ الطِّرادِ بلا سِنَانِ

قال: أي: إنما تأخرت عنه، لا تدرب بمدائح من مدحتهم، حتى أتمهر وأبلغ درجة الكمال بالشعر، ثم أقصد حضرته بعد ذلك وأمدحه، فكنت كمن طارد مدة بلا سنان ليتعلم ويتمهر ثم صار أهلا للطعان بالسنان. وأقول: إن فيه زيادة، وهي أن المدائح التي كنت أمدح بها غيره، لم تكن مني جدا بل كانت بمنزلة الطعان بلا سنان، وهو اللعب، ومدائحه هي الجد بمنزلة الطعان بالسنان. وقوله: الوافر بِعَضْدِ الدَّولةِ امتَنَعَتْ وعَزَّتْ ... وليس لغَيْرِ ذي عَضُدٍ يَدَانِ ولا قبضٌ على البِيضِ الموَاضِي ... ولا حَظٌّ من السُّمْرِ اللِّدَانِ قال: أي: الدولة به قدرت وقهرت، وإنما صارت ذات يدين بكونه عضدا لها، وعرّض بسيف الدولة وغيره من الملوك رمزا خفيا؛ أي: غيره لا يقوم مقامه في الدفع عن الدولة لأنها لا عضد لها، ومن لا عضد له لا يد له، ومن لا يد له، لا قبض له على السيوف للضراب بها، ولا حظ له من الرماح للطعن بها. وأقول: إن هذا موضع حسن، إنما أثبته تنبيها للأخذ عنه لا لأخذ عليه، وإن كان التبريزي قد سبقه إليه، إلا إنه زاد بحسن الترتيب عليه.

وقوله: الوافر رُقَاهُ كلُّ أبْيَضَ مَشْرَفِيٍّ ... لِكُلِّ أصَمَّ صِلٍّ أُفْعُوانِ قال: اللص الخبيث صل والسيف رقيته. وأقول: إنما أداه إلى هذا التفسير دون غيره ليجمع بين لفظ لص وصل، والمعنى غير ذلك! يريد إنه يدفع الشر بما هو أشد منه؛ أي: أذى الرمح الذي هو كالصل في لسعه وسمه لا يدفعه بالرقى والكلام، كما جرت به العادة، ولكنه يدفعه بالفعل من السيف خاصة، لأن سم صل الرمح ليس له رقى غير السيف. ومعناه إنه يدفع أذى الأعداء بالقهر لهم والقسر، لا باللين لهم والرفق. وفي هذا البيت من حسن المعنى وصحة اللفظ وجودة السبك ما لا زيادة عليه. واتفق له فيه من البديع أن أصم من صفة الرمح، وهو الصلب القناة، ومن صفة الحية، وهو الصل الذي لا يجيب الرقاة. وقوله: الوافر حَمَى أطْرَافَ فارِسَ شَمَّريٌّ ... يَحُضُّ على التَّبَاقي في التَّفَاني قال: أراد بشمري الممدوح، ولو قال: بالتفاني لكان أبين؛ أي: بالقتل يحصل الكف عن القتل.

وأقول: الذي ذكره الشيخ معنى حسن ظاهر، كما قال، إلا إنه غير الذي قصده أبو الطيب، ومعنى هذا البيت معنى قوله: البسيط . . . . . . ... . . . . . . إذَا تَلِفُوا قُدْماً فقَدْ سَلِموا وقوله: المتقارب . . . . . . ... وبالمَوْتِ في الحَرْبِ تَبْغي الخُلُودَا وقوله: الوافر بَضَرْبٍ هَاجَ أطْرَابَ المَنَايَا ... سِوَى طَربِ المثَالثِ والمَثَاني قال: جعل للمنايا طربا في قتل الذعار، إلا إنه لا يشبه طرب الأوتار! وأقول: إنه إنما ذكر لفظة الذعار لسجعة الأوتار وذلك تحسين للفظ وتغيير للمعنى، والذعار هم المفسدون والسراق، وهو يظن أن أبا الطيب في هذه الأبيات مستمر في ذكر اللصوص من قوله: الوافر يُذِمُّ على اللُّصُوص. . . . . . ... . . . . . .

وليس الأمر كذلك، بل قطع ذكرهم وأخذ في ذكر ما هو أعظم منهم من قتال الأعداء واصطلاء الحروب، وابتدأ في ذلك من قوله: رُقَاهُ كُلُّ أبْيَضَ مَشْرَفِيٍّ ... . . . . . . وقوله: السريع لَوْ دَرَتِ الدُّنْيَا بما عِنْدَهُ ... لاستَحْيَتِ الأيَّامُ من عَتْبِهِ قال: أي لو علمت الأيام بما فيه من الفضل والنفاسة، لاستحيت من عتبه عليها وكفت من أذاه. وأقول: إن أبا الطيب لم يرد إلا ما عنده من الحزن والكابة على عمته، لا الفضل والنفاسة فإنها تعلمه، ويدل على ذلك ما بعده من أن عمته كانت في بغداد فظنت الأيام إنه لا يتأذى بموتها لكونها بعيدة عنه، وإنها، لبعدها، ليست مقيمة في ذرا سيفه وفي جواره، فلو علمت ذلك لاستحيت من عتبه. وفي هذا إشارة إلى أن الأيام مسالمة له، طائعة لأمره، متجنبة ما يسوءه ولمن هو بسببه.

وقوله: السريع أخَافُ أنْ يَفْطُنَ أعْدَاؤُهُ ... فَجُفِلوا خَوْفاً إلى قُرْبِهِ قال: أي لو فطن الأعداء بهذا المعنى، لاعتصموا بالقرب من داره، ليأمنوا منه ومن دهرهم. وقال: أطال في هذا المعنى وأسهب، ثم خرج إلى التحقيق. أي: ما ذكره بعد ذلك من الموت وأحواله في قوله: السريع لا بُدَّ للإنْسَانِ من ضَجْعَةٍ ... لا تَقْلِبُ المُضْجَعَ عن جَنْبِهِ ثم قال الشيخ: على أن في لقاء الملوك به جفاء. وأقول مثل قوله، وان هذا الموضع من بعض جفائه، وغلظ طباعه، وسوء عشرته، ومن ذلك قصيدته الميمية التي أولها: البسيط وَاحَرَّ قَلْبَاهُ ممَّنْ قلبُهُ شَبِمُ ... . . . . . . ومواجهته سيف الدولة، ابتداء بأن قلبه حار وقلبه بارد، وان بجسمه وحاله عنده سقم، وهذا أيسر ما يتبع ذلك في أثناء هذه القصيدة، وقد علم، وعلّم

الناس كيف كان حاله قبل مصيره إليه واتصاله به، وهذا متجاوز حد الجفاء والغلظ إلى حد السفه والجنون، حتى أن سيف الدولة أراد قتله لولا البقية والتقية، وإشفاقا من سوء الأحدوثة، والسمعة. وقوله: المنسرح عُدْ وأعِدْهَا فحبَّذَا تَلَفٌ ... ألْصَقَ ثَدْيِي بِثَدْيِهَا النَّاهِدْ قال: الغشية سبب مجيء الخيال وهي المعيدة له، لا هو المعيدها، فهي أولى بالخطاب. والكلام مقلوب عن أصل وضعه.

وأقول: ومع ذلك فان تشبيه الغشية وهي ضرب من الموت بالرقدة، ليغرب في المعنى، ضرب من التعسف والتكلف والإحالة والثقالة. وكذلك جميع غزله في مدائح عضد الدولة وابن العميد، ولاسيما غزل هذه القصيدة ووزنها وقافيتها، وما فيه من البرد والجمود، ونبو السمع عنه، وتجهم القلب له. وقوله: الوافر ولا إلاَّ بأنْ يُصْغِي وأحْكِي ... فَلَيْتَهُ لا يُتَيِّمُهُ هَواكَا

قال الشيخ: وفي هذا أحماض ومزح مع الممدوح. قلت: وتقديم وتوطئة للدلالة قبل الرسالة، وهذا أيضا أحماض ومزح مع المادح! وقوله: الوافر وما أنَا غير سَهْمٍ في هَوَاءٍ ... يعَوُدُ ولَمْ يَجِدْ فيه امتِسَاكَا قال: ما قيل في السرعة، وتقليل اللبث، ابلغ من هذا البيت! وأقول: لم يرد ذلك، لأن هذا التقليل في غاية التطفيل والتثقيل، والمعنى ما ذكرته فيما قبل، فتأمله تر الصواب. هذه جملة المآخذ على الشيخ أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي، والحمد لله وحده وصلواته على محمد وآله.

سمع جميع هذا الكتاب على مصنفه الشيخ الإمام العالم العلامة عز الدين، حجة العرب، افتخار أهل الأدب، أبي العباس أحمد بن علي بن معقل الازدي المهلبي بقراءة الإمام الفاضل جمال الدين أبي العباس أحمد بن عبد الله بن شعيب التميمي، الائمة: شرف الدين أبو عبد الله الخطيب بن إبراهيم الاربلي ونجيب الدين أبو الفتح نصر الله بن أبي العز أبي طالب، الشيباني الصفار. وجمال الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الجليل بن الموقاني.

والحكيم أبو العباس أحمد بن صدّيق الطبيب. وابنه محمد ومحمد بن إبراهيم بن محمد الحمصي ويوسف بن محمد بن يوسف البرزالي. ومحمد بن عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي. وعمه عبد الله بن إسماعيل. وكاتب السماع إبراهيم بن عمر بن عبد العزيز بن الحسن القرشي. وذلك في يوم الأربعاء السابع والعشرين من ذي الحجة سنة أربعين وست مائة بمنزل المسمع بدمشق، وأجاز للجماعة جميع ما يجوز له روايته، وبلفظه بذلك، والحمد لله وحده.

الجزء الخامس المآخذ على شرح الواحدي

الجزء الخامس المآخذ على شرح الواحدي القسم الأول

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين هذه مآخذ على الشيخ الإمام أبي الحسن علي بن أحمد الواحدي في شرح ديوان أبي الطيب، أحمد بن الحسين المتنبي. من ذلك قوله: المنسرح فَفِي فُؤَاد المُحِبِّ نَارُ جَوىً ... أحَرُّ نَارِ الجَحيمِ أبْرَدُهَا قال: الجحيم: النار الشديدة التوقد، العظيمة؛ يقول: أحر النار، العظيمة المتوقدة، أبرد نار الهوى، يعني أن نار الهوى أشد حرارة. وأقول: إن نار الجحيم على تفسيره إضافة الشيء إلى نفسه، وذلك غير جائز، وإنما الجحيم هاهنا من أسماء النار في الآخرة نحو: جهنم، ولظى، وسقر، فعلى هذا يحسن إضافة النار إلى الجحيم، تخصيصاً لها؛ لأنها أعظم نار، وأحرها، وأشدها. وهذا الذي قصد المتنبي، وفي ذلك كثرة غلو، وقلة تحرج، بجعل أبرد نار للهوى أشد حرارة من أحر نار للجحيم، وهو مجاز شعري، لا يتحرج منه مثل المتنبي.

وقوله: المنسرح في مِثْلِ ظَهْرِ المِجَنِّ مُتَّصِلٍ ... بِمِثْلِ بَطْنِ المِجَنِّ قَرْدَدُهَا قال: القَرْدَدُ: أرض فيها نجاد ووهاد، وظهر المجن ناتٍ وبطنه لاطٍ فهو كالصعود والهبوط؛ أراد: يسبقه تأيدها في مفازة مثل ظهر المجن متصل قرددها بمثل بطن المجن؛ أي: أرضها الصلبة بمفازة أخرى مثل بطن المجن. فيقال له: القَرْدَدُ: المكان الغليظ المرتفع، وليس كما ذكرت، من إنه أرض فيها نجاد ووهاد. وإنما غره ذكر ظهر المجن وبطنه، فظن إنه تشبيه بأرض واحدة، وإنما هو تشبيه أرضين؛ مرتفعة ومنخفضة، متصلة إحداهما بالأخرى، وقد بين ذلك بقوله: في مَفَازٍة مثل ظَهْرِ المجن إلى آخره. فتناقض في كلامه ولم يشعر! وقوله: المنسرح له أيَاد إليَّ سَالِفَةٌ ... أُعَدُّ مِنْهَا ولا أُعَدِّدُهَا قال: إليَّ من صلة معنى الأيادي، لا من صلة لفظها؛ لأنه يقال: له عندي يد، ولا يقال: له إليَّ.

وأقول: يريد بمعنى الأيادي الإحسان؛ لأنه يقال: له إحسان إلي، ولا يقال: له أياد إلي، فيقال له: إلي، هنا، بمعنى عند، وقد استُعمل ذلك كثيرا؛ منه قول الراعي: الطويل ثَقَالٌ إذا رَادَ النَّسَاءُ، خَريدةٌ ... صَنَاعٌ فقد سَادَتْ إليَّ الغَوانِيَا أي: عندي وقال أبو كبير: الكامل أمْ لا سَبيلَ إلى الشَّباب، وذِكْرُهُ ... أشْهَى إليَّ من الرَّحِيقِ السَّلْسَلِ أي: عندي. وقول غيرهما. وقال في معنى البيت: قال أبو الفتح: أي: أنا أحدها، كما قال الجماز: السريع لا تَنْتِفَنِّي بعد ما رشْتَنِي ... فإنني بعضُ أياَدِيكَا ثم قال: يريد إنه وهب له نفسه! قال الواحدي: وهذا فاسد؛ لأنه ليس في البيت ما يدل على إنه خلَّصه من ورطة، أو أنقذه من بلية، أو أعفاه من قصاص وجب عليه، ولكنه يقول: أنا غَذِيُّ نعمته، وربيب إحسانه، فنفسي من جملة نعمه.

فيقال: أما استشهاده بالبيت على ما ذكر، فحسن ليس فيه طعن. وأما قوله: يريد إنه وهب له نفسه، فيريد إنه كان في جهد من العيش، وعلى شفاً من الفقر فأنقذه بعطائه وحبائه، فقوله غير فاسد بما فسَّرته وألزمته وذهبت به عن غير وجهه لتوجه عليه الأخذ، بل هو مطابق لما رأيته من حيث لا تعلم. وقوله: المنسرح يا ليتَ بي ضَرْبةً أُتيحَ لها ... كما أُتِيحَتْ له مُحَمَّدُهَا قال: كان هذا العلوي قد أصابته في بعض حروبه ضربة على وجهه، فقال: ليت الضربة التي قُدَّر لها مُحمَّدها - يعني الممدوح - كما قُدرت له، كانت بي؛ أي: ليتني فديته من تلك الضربة، فوقعت بي دونه. ويجوز أن يكون الممدوح أتاح وجهه للضربة حين ثبت في الحرب فجُرح فتمنى المتنبي رتبته في الشجاعة، وأضاف محمداً إلى الضربة إشارة إلى أنها كسته الحمد فأكثرت حتى صار محمداً بها. فيقال له: الوجه الأول الذي اعتمدت عليه، بتقديمك له، فاسد لأنه لا يسوغ له أن يفديه من ضربة كسته حمداً على قولك، ولم تؤثر فيه بل أثر فيها. فهذا التمني بمعنى الدعاء على الممدوح على هذا الوجه. والوجه الصحيح هو الثاني، وهو إنه تمنى رتبته في الحال التي قُدرت له من الشجاعة.

وقوله: وأضاف محمدا إلى الضربة إشارة إلى أنها كسته الحمد وأكثرت حتى صار محمدا بها خطأ من وجهين: أحدهما: إنه جعل الضربة كسته حمدا، وذلك بالعكس بل اكتست به، ويدل على ذلك قوله فيما بعد: المنسرح واغْتَبَطَتْ إذْ رَأتْ تَزَيُّنَهَ ... بمثِلِه والجِرَاحُ تَحسُدُهَا يعني: أن الضربة فرحت، لما تزينت بالممدوح، في حال حسد الجراح لها؛ لأنها تمنت أن تكون مكانها، لما حصل لها من الشرف به دونها. والوجه الثاني: من الخطأ قوله: كسته الحمد والشرف حتى صار محمدا، وذلك إنه جعل محمدا هاهنا صفة تكثير كما يقال: كرمته فهو مكرم، وقدمته فهو مقدم. وليس كذلك بل محمد اسم علم على الممدوح، أضافه إلى الضربة لشدة اعتناء الممدوح بذلك الفعل، والإكثار منه كقولهم: عمرو القنا، وزيد الخيل، وقيس الرأي، وقس البيان، وحاتم الجود، وقول الراجز: الرجز يا زيدُ زَيْدَ اليَعْمُلاتِ الذُّبَّلِ وأشباه ذلك. وقوله: المنسرح أثَّر فيها وفي الحَديدِ وما ... أثَّر في وَجْهِهِ مُهَنَّدُهَا قال: قصد السيف، والضربة إزهاق روحه وإهلاكه، فردهما عن قصدهما فهذا تأثيره

فيهما. وقوله: . . . . . . وما ... أثَّر في وَجْهِهِ مُهَنَّدُهَا أي: ما شانه، ولا أثَّر تأثيرا لأن الضربة على الوجه شعار الكرام، والعرب تفتخر بالضرب على الوجه. ألا ترى إلى قول الحصين: الطويل ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا تقطر الدما فيقال: هذا خبط عشواء وكلام من هو ذاهب عن الرشد ليس -كما ذكر في الخطبة- سالكاً الجدد ولا سابقاً غيره. البسيط ......... سبق الجواد إذا استولى على الأمد وقول المتنبي: المنسرح أثر فيها وفي الحديد ......... يس كما زعمت أنت غيرك، وإنما هذا من المقلوب على طريق المبالغة، يقول: الممدوح أثر في الضرب وفي السيف الذين من شأنهما أن يؤثرا وما أثرا فيه، وذلك نحو قوله: الطويل طِوَالُ الرُّدَيِنْيَّاتِ يَقْصِفُها دَمِي ... وبيضُ السُّرَيْجِيَّاتِ يَقْطَعُهَا لَحْمي وقوله: المنسرح

تَبْكي على الأنْصُلِ الغفُمُودُ إذا ... أنْذَرَهَا إنه يُجَرِّدُهَا لِعِلْمِهَا أنَّها تَصِيرُ دَماً ... وإنه في الرِّقابِ يُغْمِدُهَا قال: يقول: إذا أنذر الغمود بتجريد السيوف، بكت عليها، لعلم الغمود إنه يغمس السيوف في رقاب الاعداء، حتى تصير كأنها دم، لخفاء لونها بلون الدم؛ وإنه يتخذ لها أغمادا من رقاب الأعداء؛ أي: أنها لا تعود إلى الغمود فلذلك تبكي عليها. وأقول: لو أتم ذلك بأن قال: للمصاحبة التي بينهما؛ لأن المصاحب يبكي لفراق مصاحبه، لأفاد وأجاد. وهذان البيتان، يُرى كان الثاني منهما تتمة للاول؛ يزيد في معناه، أو لا معنى له من دونه، وليس الأمر كذلك بل إذا انفرد البيت الأول من الثاني، كان مستقلا بنفسه واكمل معنى؛ وبيانه: إنه إذا انذر الغمود إنه يُجرد السيوف، بكت عليها لعلمها بالعادة إنه سيقتلها في جسم القتيل بها، لما ذكرنا من الصحبة التي بينهما. وإذا اتصل بالبيت الثاني كان المعنى أن الغمود تبكي لفراقها، لكونها تصير في غمود غيرها وهي الرقاب، والبكاء على الفاني الماضي أولى من البكاء على الباقي النائي، والمديح به اكمل والمعنى اجمل. وقوله: المنسرح تَنْقَدِحُ النَّارُ من مَضَاربها ... وصَبُّ مَاءِ الرِّقابِ يُخْمِدُهَا

قال: إنها تصير إلى الأرض لشدة الضرب فتوري النار، ثم يُخمدها ما ينصب من الدماء عليها. وأقول: لم يُرد بمضاربها ضربها وإنما أراد حدودها، فالنار تنقدح منها لعتقها وجودتها وحسن جوهرها، لا بالضرب والإيراء بالبلوغ إلى الأرض؛ لأنها لا توري النار إلا وقد سبقت الدماء، ومستحيل الإيراء مع صب الدماء، فينبغي أن يكون انقداح النار منها قبل الضرب بها وصب ماء الرقاب عليها. وإذا كانت السيوف قد شُبهت كلها بالنار فالأولى أن تُشبه حدودها بالنار، أو تُجعل النار تنقدح منها. وقوله: المنسرح قد أجمْعَتْ هَذه الخَليقةُ لي ... أنَّكَ يا ابْنَ النَّبيَّ أوْحَدُهَا قال: أجمعت الخليقة موافقة لي، أنك أوحدها. ويجوز أن يكون على التقديم والتأخير؛ أي: أوحدها إحساناً إليَّ وأفضالاً عليَّ، ولا يكون في هذا كبير مدح. ويجوز أن يكون: أجمعت فقالت لي؛ لأن القول يُضمر كثيرا. وأقول: هذه الوجوه كلها تخيلات على تقرير قوله: لي، وهي أينما قُررت قلقة مضطربة، ولو إنه قال: قَدْ أجْمَعتْ سَادةُ الأنام معي ... . . . . . . أو: . . . . . . الكرام. . . . . . ... . . . . . . لهجر التكلف وأمن التعسف.

وقوله: المنسرح ومَكْرُمَاتٍ مَشَتْ على قَدَمِ ال ... برِّ إلى مَنْزلي تُرَدِّدُهَا أقَرَّ جِلْدي بها عَلَيَّ فما ... أَقْدِرُ حتى المَمَاتِ أَجْحَدُهَا قال: أراد بالمكرمات هاهنا ثيابا أنفذها؛ أي: أقر الجلد بظهور ما عليه من الخلع للناس الناظرين اليه، فكأنه باكتسائه ناطق مُقر، كما قال الناشئ الأكبر: الطويل ولَوْ لَمْ يَبُحْ بالشُّكْرِ لَفْظي لَخَبَّرَتْ ... يَميني بما أوْلَيْتَني وشِمَاليَا وأقول: المعنى الذي قصده أبو الطيب، أتم مما ذكره الواحدي، وهو إنه أراد بالثوب الناطق بشكره جلده؛ جعله كأنه كساه إياه بجوده وإحسانه، وهو من قول الحطيئة: الطويل سَقَوا جَارَكَ العَيْمَان لما تَرَكْتَهُ ... وَبَرَّدَ عن بَرْدِ الشِّتاءِ مَشَافِرُهْ سنَاماً ومَحْضاً أنْبَتَ اللَّحْمَ فاكْتَسَتْ ... عظامُ امرئٍ مَا كانَ يشبَعُ طائِرُهْ ومثله قوله: الوافر وإن يَكُ سَيْفَ دولةِ غيرِ قَيْسٍ ... فمنه جلودُ قَيسٍ والثيابُ

ويكون إقرار جلده هاهنا مثل قوله في مكان آخر: المنسرح تُنْشِدُ أثوابُنَا مدائِحَهُ ... بألْسُنٍ ما لَهُنَّ أفْواهُ وقوله: البسيط مُلَقَّبٌ بك ما لُقِّبتَ وَيْكَ به ... يا أيُّهَا اللَّقَبُ المُلْقَى على اللَّقَبِ قال: يقول: ما لُقبت به مُلقب بك؛ أي: أنت تشين لقبك وأنت بنفسك عار له، فلقبك مُلقى على لقب؛ أي: على عار وخزي. وأقول: تفسيره النصف الأول مستقيم، وهو ظاهر والثاني لم يتبين له وهوانه أراد بقوله: . . . . . . ... يا أيُّهَا اللقبُ المُلْقَى على اللَّقَبِ يا أيها الشائن العائب ما من شأنه أن يُعاب ويُشان به، وذلك إنه جعله لقباً للقب فهو عار مُلقى على اللقب، أي: عار له، لا اللقب ملقى عليه عار عليه.

وقوله: الكامل يا وَجْهَ دَاهِيَةَ الذي لولاك ما ... أكَلَ الضَّنَى جِسْمي وَرَضَّ الأعْظُمَا قال: قال ابن جني: داهية اسم التي شبب بها. وقال ابن فورجة: ليس باسم علم لها، ولكنه كنى به عن اسمها، على سبيل التضجر بما حل به من بلائها؛ أي: إنها لم تكن إلا داهية علي. والوجه قول ابن جني لترك صرفها في البيت، ولو لم تكن علما لكان الوجه صرفها. فيقال: إذا كنى عن اسمها فقال: يا وجه داهية على التحقيق لما حل به منها، لا: فلانة، يريد: نحو عائشة وفاطمة. كيف يكون الوجه صرفها لولا قلة التأمل وكثرة التغفل! فالوجه الذي ذكره ابن فورجة سائغ في المعنى وفي الاعراب، غير خارج من حيز الصواب. وقوله: الكامل أنْ كانَ أغْنَاهَا السُّلُوُّ فإنني ... أصْبَحْتُ من كَبِدِي ومنها مُعْدِمَا

أقول: لو قال: . . . . . . ... أصْبَحْتُ من صَبْري. . . . . . فوضع: صبري أو جلدي مكان كبدي لكان أحسن وألطف وأصنع. ولكنه أجفى وأغلظ من ذلك! وقوله: الكامل يا أيُّهَا المَلِكُ المُصَفَّى جَوْهَراً ... مِنْ ذاتِ ذي المَلَكُوتِ أسْمَى من سَمَا أقول: أن هذا البيت وثانيه ورابعه وخامسه من أقبح الشعر وأرذل الألفاظ وأخس المعاني، ولا يصدر مثل هذا إلا عن متهافت في الرأي والعقل، غير متماسك في التقى والدين، وكأنه ينبه على قائله بذلك بل ينادي! وقوله: الطويل وخُضْرَةُ ثَوْبِ العَيْش في الخُضْرَةِ التي ... أرتْكَ احْمِرَارَ المَوْتِ في مَدْرَجِ النَّمْلِ

قال: مدرج النمل: مدبه، وهو حيث درج فيه بقوائمه فأثر آثاراً دقيقة، وجعل النصل مدرج النمل لما فيه من آثار الفرند. وأقول: مفهوم قوله إنه شبه جوهر السيف بآثار النمل لخفائها ودقتها. وليس كذلك، إنما تشبيه جوهر السيف بالنمل أنفسها لا بآثارها، وذلك لما يُشاهد من تفرقه وتنقله واضطرابه مع صغره. وهذا الذي أرادته الشعراء؛ قال أوس: الطويل كأنَّ قُرَى نَمْلٍ على جَنَبِاتِه ... أحَسَّ بِقَلعٍ نَفْخَ ريحٍ فأجْفَلا وقوله: البسيط إلاَّ يَثِبْ فَلَقَدْ شَابَتْ له كَبِدٌ ... شَيْباً إذا خَضَّبَتْهُ سَلْوَةٌ نَصَلا قال: هذا من قول أبي تمام: الخفيف شَابَ رأسِي وما رأيتُ مَشِيبَ ال ... رَّأسِ إلاَّ من فَضْلِ شَيْبِ الفُؤادِ

وهو مما استُقبح من أشعاره، والمتنبي نقل شيب الفؤاد إلى الكبد. وأقول: الأشبه أن يكون أبو الطيب اخذ ذلك من قول أبي نواس: المنسرح يا عمرو أضْحَيْتُ مُبْيَضَّةً كَبِدي ... فأخْضِبْ بياضاً بعُصْفُرِ العنبِ ويكون أبو تمام نقل منه شيب الكبد إلى الفؤاد. وقوله: البسيط حَتَّى وَصَلْتُ بنَفْسٍ مَاتَ أكثَرُهَا ... وليتني عِشْتُ منها بالذي فَضَلا قال: مات أكثرها: ذهب أكثر لحمها وقوتها لما قاسته من هول الطريق وشدته، ثم تمنى أن يعيش بما بقي من نفسه ليقضي حق خدمة الممدوح. وأقول: قوله: ليقضي حق خدمة الممدوح ليس بشيء، إنما يريد أن نفسه نفس كبيرة عظيمة. ولما قال: مات أكثرها خاف أن يسبق إلى الوهم أن الذي بقي يسير ضعيف فقال: ليتني عشت بالذي فضل منها فأنه قوي كثير مع ذهاب أكثره.

وقوله: الخفيف ذاتُ فَرْعٍ كأنَّما ضُرِبَ العَنْبَ ... رُ فيه بماءِ وَرْدٍ وعُودِ

قال: يريد إن شعرها طيب الرائحة كأنه خُلط بهذه الأنواع من الطيب. ويقال: إن العود إنما تفوح رائحته عند الإحراق، ولا تطيب رائحة الشعر إذا خُلط بالعود. فيقال: أراد: ضُرب العنبر فيه بماء ورد ودُخن بعود، وحذف الفعل الثاني كقوله: الرجز عَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارِداً وقول الآخر: الكامل ورأيتُ بَعْلَكِ قد غَدَا ... مُتَقَلِّداً سَيْفاً ورُمْحَا فيقال: لا حاجة إلى حذف عاملين: الفعل والياء وإضمارهما والكلام مستقل بنفسه، والعود يُخلط بالعنبر مدقوقا، وهو معروف، ويرقق بما الورد إذا أريد وضعه في الشعر.

قوله: الخفيف جَمَعَتْ بين جِسْمِ أحْمَدَ والسُّقْ ... م وبينَ الجُفُونِ والتَّسْهِيدِ وأقول: أن هذا البيت والذي بعده فيه أيضا مناقضة كما ذكرت في الأول، لأن من يترشف ريقه كيف يسقم ويسهد ويُعذب؟ وهذا إنما وقع في هذه القصيدة لأنها من نظم الصبا كما ذكر. وقوله: الخفيف ولعَلَّي مُؤمِّلٌ بَعضَ ما أبْ ... لُغُ باللُّطْفِ من عَزيزٍ حَميدِ قال: يقول: لعلي راج بعض ما ابلغه بلطف الله العزيز الحميد؛ أي الذي أرجوه لعله بعض الذي أبلغه بلطف الله. . . وقيل: إن هذا على القلب؛ تقديره: لعلي بالغ بلطف الله تعالى بعض ما أؤمله. فيقال له: الوجه الأول، هو الحسن، والثاني هو القبيح، وذلك لأنه لا يقال: لعلي أبلغ بلطف الله دون ما أؤمله، أو بعض ما أؤمله، بل يقال: ابلغ بلطف الله فوق ما أؤمل. على أن الشيخ الكندي قال: حمل بعض الناس هذا البيت على القلب الوارد في كلام العرب، وهو أن يذكر الشيء ويراد عكسه، ولكن إنما يجوز ذلك عندهم إذا

أُمن الإلباس،. . . وهاهنا يقع اللبس، لأنه يجوز أن يريد أن الشيء الذي أبلغه بلطف الله أمر عظيم فوق أملي. وهذا هو الصحيح وهو الوجه الأول؛ يقول: أنا مؤمل أشياء لعلها بعض الذي أدركه بلطف الله وتيسيره. وكأن هذا من قول جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: كن لما لا ترجو، أرجى منك لما ترجو؛ فإن موسى ذهب ليقتبس لأهله ناراً، فعاد نبياً مرسلاً! وقوله: الخفيف لا كما قَدْ حَيِيتَ غيرَ حَميدٍ ... فَإذَا مِتَّ مِتَّ غَيْرَ فَقيدِ قال: يقال: حيي يَحيى حياة، ويقال أيضا: حي بالإدغام في الماضي، ولا يقال في المستقبل بالإدغام، وذلك أن حيي عين الفعل منه ياء مكسورة ولامه أيضا ياء، والياء أخت الكسرة، فكأنه اجتمع ثلاث كسرات، فحُذفت كسرة العين، وأدغمت في اللام، ولم يعرض في المستقبل شيء من هذا. فيقال له: ليس الإدغام في حيي وبابه لكسرة العين، وإنما هو للزوم فتحة اللام واجتماع مثلين متحركين. ولو إنه كما تقول: لجاز الإدغام في يُحيى من الرباعي لان عينه مكسورة، كما في حيي، ولامه ياء، والذي يدل على صحة ما قلت قوله تعالى: (. . . بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى) فقد اجتمع فيها ما جعله علة من الياءين والكسرة وزيادة فتحة اللام؛ ومع ذلك فلم يدغم؛ لأن الفتحة هاهنا عارضة، فهذا الذي ذكره ليس بشيء، وما كان له أن يتعاطاه لأنه ليس من شأنه!

وقوله: المنسرح وقد شَغَلَ الناسَ كَثْرَةُ الأمَلِ ... وأنْتَ بالمَكْرُمَاتِ في شُغُل قال: الناس مشغولون بكثرة آمالهم بك، وأطماعهم فيما يأخذون من أموالك، وأنت مشغول بتحقيق آمالهم، وتصديق أطماعهم. وأقول: الأولى أن يكون المعنى أن الناس شغلتهم الآمال بتحصيل الأموال وجمعها، وأنت مشغول بتفريقها في المكارم، وهذا كأنه من قول الآخر: الطويل لَشَتَّانَ ما بين اليَزِيدين في النَّدى ... يَزِيدَ سُلَيْمٍ والأغَرِّ ابن حَاتِم فَهَمُّ الفَتَى الأزْديِّ إِنفَاق مَالِهِ ... وَهَمُّ الفَتَى القَيْسيِّ جَمْعُ الدَّراهمِ فلا يَحْسبِ التَّمْتَامُ أني هَجَوْتُهُ ... ولكنَّني فَضَّلْتُ أهْلَ المكارمِ وقوله: المنسرح تَمَثَّلُوا حَاتِماً ولو عَلموا ... لكُنْتَ في الجُودِ غَايةَ المَثَلِ

قال: أراد تمثلوا بحاتم، أي في الجود، فحذف الباء ضرورة وذلك أن المثل يُضرب بحاتم؛ فيقال: أجود من حاتم. فيقال: ليس في هذا ضرورة بحذف الباء؛ والفعل متعد بنفسه لأن: تمثلت بمعنى: اتخذت مثلا، وتفعلت لاتخاذ الشيء كثير نحو: تديرت المكان وتوسدت الرأي، أي اتخذت ذلك داراً ووسادة، فتمثلوا حاتما، أي اتخذوه مثلا تُضرب به الأمثال، فيقال: فلان في الجود مثل حاتم فهذه حقيقة المثل. وبين تمثلت الشيء وتمثلت به فرق: فتمثلته: اتخذته مثلا، وتمثلت به: جعلته تُلحق به أمثال له. وقوله: الطويل خليليَّ ما هذا مُنَاخٌ لمِثْلِنَا ... فَشُدَّا عَلَيْها وارْحَلاَ بِنَهَارِ قال في قوله: فشدا عليها نوعان من الضرورة: حذف المفعول، والكناية عن غير مذكور. فيقال له: ما جاء مثله في كلام الله - سبحانه - فليس بضرورة: فأما حذف المفعول فقوله: (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) وأما الكناية عن غير مذكور فقوله: (حَتَّى تَوَارَتْ

بِالْحِجَابِ)، و: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ). ولو أعرض عن التعرض للعربية، واشتغل بتفسير المعاني الذي أرصد نفسه له، وجعله المعتمد الذي هو بصدده، وعاب على ابن جني بخروجه عن المقصود من الديوان فيما ذكره، لكان أليق به وأستر له!! وقوله: الكامل والمَرْءُ يأمُلُ والحَيَاةُ شَهِيَّةٌ ... والشَّيْبُ أوْقَرُ والشَّبيِبَةُ أنْزَقُ قال: الشهية: المشتهاة من شهي يشهى. . . ذا اشتهى الشيء، فهي فعيلة بمعنى مفعولة. فيقال له ولأبي الطيب: لا يجوز دخول فعيلة الهاء إذا كانت بمعنى مفعولة بل يستوي فيها المذكر والمؤنث فيقال: رجل قتيل وامرأة قتيل. وأما حميد وحميدة فمشبه رشيد ورشيدة. وأما الذبيحة والرمية من قولهم: بئست الرمية الارنب، فإنها دخلت في الأسماء. ألا ترى إنها يقال لها ذلك. ولم تُذبح ولم تُرم؟!

وقوله: الطويل أشَاروا بتَسْليمٍ فَجُدْنَا بأنْفُسٍ ... تَسِيلُ من الآمَاقِ والسِّمُ أدْمُعُ قال: يقول: أشاروا إلينا بالسلام فجدنا عليهم بأرواح سالت من الآماق واسمها دموع، وتفسير هذا قولي: الطويل خَلِيلَيَّ لا دَمْعاً بَكْيتُ وإنما ... هو الرُّوحُ من عَيْني تسيل فَتَخْرُجُ وأصل الاسم: سم، بكسر السين ويقال سم أيضا. فيقال له: لقد ضعف تفسيرك وشعرك وتصريفك! أما قوله: . . . فجُدْنَا بأنْفُسٍ. . . ... . . . فليس من الجود الذي هو كثرة العطاء، إنما هو من الجود الذي هو كثرة البكاء بإسالة الأنفس، التي اسمها دموع من الآماق. وأما البيت الذي فسر به بيت أبي الطيب فقد كان له مندوحة عن ذكره بستره، لضعف عجزه وثقل صدره، واكتفاء بقوله: الكامل أروَاحُنَا انهمَلَتْ وعِشْنَا بَعْدَهَا ... من بَعْدِ ما قَطَرَتْ على الأقْدامِ

وقد جاء مثله لبعض أهل العصر: المتقارب بعَادُكمُ في قَرارِ القُلوبِ ... أضْرَمَ نَاراً تُسَمَّى هُلوعَا وهَجْرُكُمُ من سَماءِ العيونِ ... أسَالَ نُفوساً تُسَمّىَ دُموعَا وأما الاسم فأصله: سمو، لأن كل معرب على حرفين فإنما أصله ثلاثة نحو: يد، ودم، وفم، وفيه لغات: اسم بالحذف وبالتعويض، وسِم وسُم بلا تعويض، وسما على الأصل من غير حذف. وقوله: الطويل يَتِيهُ الدَّقيقُ الفِكْرِ في بُعْدِ غَورِه ... ويَغْرَقُ في تَيَّارِه وهو مِصْقَعُ قال: المصقع: البليغ الفصيح لأنه يأخذ في كل صقع من القول، والدقيق الفكر: الفهم الفطن. . . . . .، وهذا هو الرواية الصحيحة بالألف واللام في الدقيق، مع الإضافة إلى الفكر، وهو جائز في أسماء الفاعلين كالحسن الوجه، ومن روى: دقيق الفكر جعل الدقة نعتا للفكر؛ أي: يتيه الدقيق من الأفكار، والأول أجود، ليكون نعتا للرجل كأنه قال: يتيه الرجل الدقيق الفكر؛ ألا تراه يقول: وهو مصقع، وهذا نعت للرجل لا للفكر.

فيقال له: قوله: أن المصقع مشتق من الصقع، وهي الناحية، ليس بشيء وإنما هو مشتق من الصاقعة كأنه يدفع الخطباء المتكلمين فلا يقدرون على الكلام. وقوله: الطويل ألَيْسَ عَجيباً أنَّ وَصْفَكَ مُعْجِزٌ ... وأنَّ ظُنُوني في مَعَاليكَ تَظْلَعُ قال: أليس من العجب أني مع جودة خاطري وبلاغة كلامي أعجز عن وصفك، ولا يبلغ ظني معاليك، ولا أدركها لكثرتها. وأقول: هذه عبارة قاصرة، وإنما يقول: أليس من العجب أن وصفك معجز وأنا آتي في القول بالمعجزات، وظنوني تقصر عن صفات معاليك فلا أقدر على الإتيان بها وهذا خرق للعادة من قبلك وقبلي. وقوله: المتقارب أنَا ابنُ الفَيَافي أنا ابنُ القَوافي ... أنا أبنُ السُّرُوج أنا ابنُ الرِّعَانِ

قال: وكان ينشده أيضا بطرح الياء منهما اكتفاء بالكسرة كقوله تعالى: (جَابُوا الصَّخْرَ بِالَوَادِ). وأقول: هذا التشبيه ليس بسائغ؛ لأن حذف الياء من الوادي إنما كان من أجل الفواصل لتشابه المقاطع بالوقوف على الدال، التي هي آخر السجع، وهذا البيت ليس كذلك. ولكن إنما كان ذلك لتوازن الفياف والقواف السروج والرعان فتجري هذه الألفاظ الأربع في البيت على متن واحد؛ لأنه يجوز الوقوف على الرعان من غير إطلاق فيحصل التوازن ويخف اللفظ ويعذب الذوق. وقوله: الطويل فما وَرَدَتْ رُوحَ امرئٍ روحُهُ له ... ولا صدَرَتْ عن بَاخِلٍ وهو بَاخلُ قال: إذا وردت السيوف روح امرئ، كانت بها املك منه، وصار - وإن كان بخيلا - غير بخيل؛ لأن السيف ينال منه ما يطلب أو يفتدي روحه بماله. وأقول: تفسيره أول البيت صالح، وتفسيره آخره ليس بشيء، ومعنى قوله: . . . . ... ولا صَدَرَتْ عن بَاخلٍ وهو بَاخِلُ

أي: إنها تقتله فيخرج من صفة البخل بخروجه، من صفة الحياة. وهذا مثل قوله: الخفيف فرؤوسُ الرِّماحِ أذهَبُ للغّيْ ... ظِ وأشْفَى لِغلِّ صَدْرِ الحَقُودِ أي: إنه يُقتل فيخرج من صفة الغل والحقد بخروجه من صفة الحي التي هي مُصححة لهما. وقوله: الطويل غَثَاثَةُ عَيْشي أن تَغِثَّ كَامتي ... وليس بِغَثٍّ أن تَغِثَّ المآكِلُ قال: يقول: هزال عيشي في هزال دمي، لا في هزال مطاعمي. وأقول: أن تفسيره كرامتي بمعنى دمي عجيب غريب. وهذا لم يقله أحد، ولا له هاهنا معنى سائغ. وإنما كرامتي بمعنى إكرامي؛ أي: إكرام غيري لي. يقول: هُزال عيشي في هُزال كرامتي، وفصد إهانتي وإضاعة حُرمتي. . . . . . . ... وليس بِغَثٍّ أن تَغِثَّ المآكِلُ بل أن تغث الكرامة والحرمة، وهذه إشارة إلى قوله: الطويل . . . . . . ... إلى أن بَدَتْ للضيم فيَّ زلازِلُ

وقوله: البسيط أبْدَيْتِ مثلَ الذي أَبْدَيْتُ من جَزَعٍ ... ولم تُجِنِّي الذي أجْنَنْتُ من ألَمِ إذاً لبَزَّكِ ثَوْبَ الحُسْنِ أصْغَرُهُ ... وَرُحْتِ مِثْلِيَ في ثَوبَيْنِ من سَقَمِ قال: ذكر إنها لم تجن الألم، كأنه قال: لو أجننت من الألم، ما أجننته، إذا لسلبك ثوب الحسن أصغر جزء من أجزائه. أقول: وهذا، من تفسيره، يدل على إنها لم تُجن شيئاً من ألم، وأقول: إن قول أبي الطيب: البسيط . . . . ... ولم تُجِنِّي الذي أجْنَنْتُ من ألَمِ لا يدل على إنها لم تجن ألما البتة، وإنما معناه: ولم تُجني مثل الذي أجننت. وكذلك إذا قلنا: زيد يفعل فعل أبيه أو لا يفعل، فإنما معناه إنه لا يفعل مثل فعله لأنه مستحيل إذ الفعل الواحد لا يكون من فاعلين. وعلى ذلك فسر أبو علي قوله - سبحانه -: (وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا) وقال: ولا يجوز أن يُعطف ورهبانية على ما قبلها لان ما يجعله هو - سبحانه - لا يبتدعونه هم. وصدر البيت يدل على هذا التفسير وهو قوله: البسيط

أبْدَيتِ مثلَ الذي أبْدَيْتُ من جَزَعٍ ... . . . . . . وإذا صح ذلك قلنا: إنها أجنت الما، الا إنه ليس مثل ألمه، وإنما احتجنا إلى ذلك لئلا يتناقض قوله، لأنه قال قبل: البسيط تَنَفَّسَتْ عن وَفَاءٍ غَيْرِ مُنْصدعٍ ... . . . . . . فلو قدرنا إنها أبدت جزعا مثل جزعه ولم تُجن ألما البتة، لكان ذلك خداعا، ولم يكن وفاء وقوله: البسيط مِنْ كُلِّ أحْورَ في أنيابِه شَنَبٌ ... خَمْرٌ مُخَامِرُهَا مِسْكٌ تُخَامِرُهُ قال: الشنب: صفاء الأسنان، ورقة مائها. وسئل ذو الرمة عن الشنب، فأخذ حبة رمان فقال: هذا الشنب؛ إشارة إلى صفائها ورقة مائها. قال: وقال ابن جني: خمر بدل من شنب، كأنه قال: في أنيابه خمر قد خالطت المسك، والمسك قد خالطها. وهذا قول جميع من فسر هذا الديوان.

قال: ويبعد إبدال الخمر من الشنب لأنه ليس في معنى الخمر، والقول فيه إن خمر رفع بالابتداء، ومخامرها ابتداء ثان ومسك خبره، وهما في محل الرفع بالخبر عن خمر، والهاء في مخامره ضمير الشنب. وأقول: إذا كان قد فسر الشنب برقة ماء الأسنان، فكيف استبعد أن تُجعل الخمر بدلا منه، كناية عن طيب النكهة ولذاذة الريق؟ وكيف جاز أن يجعل خمر، وهي نكرة، مبتدأ ولم يصفها؟ ولم جعل مخامرها مبتدأً ثانياً خبراً عنها ولم يجعله صفة لها؟ وما اضطره إلى ذلك وقد قال: ومن روى: يخامرها مسك جعل الجملة صفة للنكرة وتخامره الخبر؟ فيقال: وكذلك إذا قال: مخامرها مسك فهذا جائز حسن! وقوله: البسيط يا مَنْ تَحَكَّمَ في نَفْسِي فَعَذَّبَني ... ومَنْ فؤادي على قَتْلي يُضَافِرُهُ قال: المضافرة: المعاونة، يعني أن قلبه يهينه على قتله حيث لا يسلو مع ما يرى من كثرة الجفاء. وأقول: إن قوله حيث لا يسلو ليس بشيء. ولكن حيث يزداد له حباً، كلما ازداد له جفاء؛ لأن من شأن الذي يجفوه شخص أن يميل قلبه عنه، وهذا يميل قلبه اليه،

فكأنه يعينه عليه، وهو من قول الرشيد: قلب العاشق عليه مع المعشوق! قال الأصمعي: قلت هذا - والله - يا أمير المؤمنين أحسن من قول عروة بن حزام: الطويل ويُضْمِرُ قَلبي عُذْرَهَا ويُينُهَا ... عليَّ فما لي في الفُؤاد نَصِيبُ وقوله: البسيط من بَعْدِ ما كان لَيْلي لا صَبَاحَ له ... كأنَّ أولَ يَوْمِ الحَشْرِ آخرُهُ قال: يقول: بعد ما كنت أقاسي من الحزن ما يُسهرني فيطول عليَّ الليل للسهر حتى كأنه متصل بيوم الحشر. وأقول: ليس في الكلام ما يدل على الاتصال بيوم الحشر، ولكن أبا الطيب بالغ في وصف الليل بالطول، فجعل آخر ليله كأول يوم وهو يوم الحشر لقوله تعالى: (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ) وكأن هذه المبالغة التي بالغ بها أبو الطيب في عجز البيت نقص بل نقض م لما ذكره في صدره وذلك إنه قال: . . . . . . لَيْلي لا صَبَاحَ له ... . . . . . . فنفى أن يكون له آخر. ويوم الحشر وإن كان طويلا فله آخر، ويمكن أن يُعتذر عنه بحذف الصفة؛ أي: لا صباح قريب له، وليتأمل هذا الموضع فإنه صالح.

وقوله: البسيط قد اشْتَكَتْ وَحْشَةَ الأحْيَاءِ أرْبُعُهُ ... وخَبَّرَتْ عن أسَى المَوْتَى مَقَابِرُهُ قال: لما غاب الأمير عن البلد، حزن لغيبته الأحياء حتى أحست بذلك دورهم، وكذلك الموتى، حزنوا حتى أخبرت المقابر عن حزنهم. وأقول: إن قوله: أحست بذلك دورهم ليس بشيء، ولو قال: استوحش لغيبته الأحياء حتى سرت الوحشة إلى منازلهم فاشتكت ذلك بلسان الحال. وكذلك يقال في الموتى في مقابرهم لكان حسنا، وكان في هذا البيت من المجاز والاستعارة ما في قوله تعالى: (إنا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إنه كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً). كأنه يقوله - والله أعلم -: لو إن هذه الأشياء مما يعقل وعُرض عليها حمل الأمانة لأشفقت من حملها لعظمها. وكذلك يقال في الاربع، والمقابر، لو إنها مما ينطق لأخبرت عن وحشة الأحياء وأسى الموتى. وقوله: البسيط وَجدَّدَتْ فَرَحاً لا الغَمُّ يَطْرُدُهُ ... ولا الصَّبَابَةُ في قَلْبٍ تُجَاوِرُهُ قال: عودة دولته جددت فرحا لا يغلبه الغم، ولا تجاوره شدة الشوق بعد هذا الفرح في قلب؛ أي لا تسكنه لامتلاء كل قلب بهذا الفرح لا يكون م فيه موضع للعشق.

وأقول: إن قوله: لامتلاء كل قلب بالفرح، لا يكون فيه موضع للعشق ليس بشيء! وإنما غره بذلك ذكر الصبابة، فوهم إنها من العشق. والصبابة، وهي رقة الشوق، تكون من العشق وغيره. والمعنى أن الممدوح لما غاب عن ذلك البلد، حصل عند الناس غم لغيبته، وشوق شديد إليه، فلما عاد تجدد عندهم فرح أزال الغم والشوق لأنهما إنما حدثا بسبب بعده. وقوله: البسيط دَخَلْتَها وشُعَاعُ الشمس مُتَّقِدٌ ... ونُورُ وَجْهِكَ بين الخَيْلِ باهِرُهُ قال: يقول: دخلت هذه البلدة في إشراق الشمس حين توقد ضياؤها، ونور وجهك قد بهر ضوء الشمس؛ أي: غلبه. وأقول: إنه لم يُفسر معنى قوله: بين الخيل ولا بد له من فائدة. والمعنى إنه كان بين الخيل، وهي تُثير النقع، فلابد أن يعلو وجهه غباره فيؤدي إلى أن يستر من نوره، وهو مع ذلك يبهر شعاع الشمس، أي: يغلبها بكثرة ضيائه. وقوله: الطويل عَزِيزُ أسىً مَنْ داؤه الحَدَقُ النُّجْلُ ... عَيَاءٌ به ماتَ المُحِبُّون من قَبْلُ

قال: النجل: جمع أنجل، وهو الواسع العين. وأقول: النجل: جمع نجلاء، وهي العين الواسعة، وقد قال: الكامل مَثَّلْثِ عَيْنَكِ في حَشَايَ جراحَةً ... فتشابَهَا كِلْتَاهُمَا نَجْلاءُ ولم يرد جمع انجل، ويدل عليه قوله: الحدق النجل، أي: العيون. وقوله: الطويل وما هِيَ إلاَّ نَظْرَةٌ بعد نَظْرةٍ ... إذا نَزَلَتْ في قَلْبِهِ رَحَلَ العَقلُ قال: هي كناية عن لحظات العاشق. يقول: ما هي إلا أن يلحظ مرة بعد أخرى، فإذا تمكنت النظرة من قلبه زال عقله لأن الهوى والعقل لا يجتمعان. وأقول: إن هي محتمل أن تكون كناية عن الصبابة ويدل عليها الهوى قبلها. ويحتمل أن تكون ضميرا راجعا إلى الحدق للمبالغة؛ كأنه يقول: ما الحدق النجل إلا نظرات متتابعة تعقب الهوى فتزيل العقل. وقوله: الطويل رأيتَ ابنَ أمِّ المَوْتِ لو أنَّ بأسَهُ ... فَشَا بينَ أهْلِ الأرضِ لانقَطَعَ النَّسْلُ!

قال: المعنى: إن بأسه لو كان للناس، لكان كل واحد قتالا، فينقطع النسل بكثرة القتل. وأقول: هذا ليس بشيء! والمعنى: إنه لو ظهر للناس بأسه كله لأهلك الرجال فانقطع النسل، وإنما يخفيه عنهم بقيا عليهم. وقوله: الطويل ولولا تَوَلِّي نفسه حَمْلَ حِلْمِهِ ... عن الأرض لانْهَدَّت ونَاَء بها الثُّقْلُ قال: وصف حلمه بالرزانة. يقول: لولا إنه باشر بنفسه حمل حلمه عن الأرض لانكسرت الأرض بثقل حمله، وأثقلها ذلك الحمل. فيقال له ولأبي الطيب: أليست الأرض حاملة له وهو حامل حلمه الثقيل فقد ازدادت ثقلا على ثقل فلمَ لم تنهد؟ والجواب عنهما: إن الكلام مجاز وهو أن الأرض لو كانت من الأجسام الأحياء، وكان الحلم جسما وحملته كما يحمله الممدوح لانهدت وأثقلها حمله، والواو هنا لم تُرتب؛ لأن التقدير: لناء بها الحمل ولانهدت. والمعنى: وصفه بكثرة الحلم وقوة الصبر والجلد.

وقوله: الكامل اليومَ عَهْدُكُمُ فأين الموعِدُ ... هَيْهاتَ ليس ليومِ عَهْدِكُمُ غَدُ قال: العهد: اللقاء. يقول لأحبته عند الوداع: اليوم ألقاكم، فأين موعد لقائكم؟ ثم التفت إلى سلطان البين فقال: هيهات! بعد ما أطلبه! ليس لهذا اليوم غد! أي: لا أعيش بعد فراقكم، فلا غد لي بعد هذا اليوم، ولو قال: فمتى الموعد لكان أليق بما ذكر بعده؛ لأن: أين سؤال عن المكان، ومتى سؤال عن الزمان. ويريد بقوله: . . . . . . ... . . . . . . ليسَ ليَوْمِ عَهْدِكُمُ غَدُ أي: يوم عهدكم للوداع. وأقول: الكلام فيه تقدير محذوف، كأن أحبته وعدوه بالوصال، فسألهم عن وقته، فقالوا: في غد، فلما حضر قال: اليوم عهدكم بالوصال فأين الموعد؟ فلما تبين له خُلف موعدهم استبعد قولهم، فقال: . . . . . . ... هيهات ليس ليوم عَهْدِكُمُ غَدُ ومثل هذا قول بعضهم: الكامل في كُلِّ يومٍ قائلٌ لي في غَدٍ ... يَفْنَى الزَّمَانُ وما تَرَى عَيْني غَدَا

وانظر إلى غلط الواحدي وتخبطه في شرح هذا البيت، وغلطه في المعنى وفي اللغة بجعل العهد اللقاء، وفي قوله: لو قال: فمتى الموعد لكان أليق لظنه إن الموعد الزمان، وإنما هو المصدر. وكيف يسال بمتى عن الوقت وهو فيه يعلمه؟ وإنما يسال بأين عن مكان الوعد بالوصال لأنه لا يعلمه، وهذا السؤال كأنه تقريع وتوبيخ لأحبته؛ لأنه عند الرحيل، وفي ذلك الوقت لا يمكن الوصال. وقوله: الكامل إنَّ التي سَفَكَتْ دمي بجُفُونِها ... لم تَدْرِ أنَّ دَمِي الذي تَتَقَلَّدُ قال: إن التي قتلتني لما نظرت إلي، ليست تدري إن دمي في عنقها، وإنها باءت بإثم قتلي. وأقول: إن في هذا البيت خبئاً! وهو أن هذه المرأة لم تدر أن دمي عظيم، وإنها قد ارتكبت بسفكه خطراً عظيماً. وفي هذا تنبيه على كبر شأنه وعلو قدره. وقوله: الكامل قَالتْ، وقد رأت اصْفِراري مَنْ بهِ؟ ... وتَنَهَّدَتْ فأجَبْتُها المُتَنَهِّدُ قال: لما رأت صفرة لوني وجدا بفراقها قالت: من به؟ أي: من فعل به هذا الذي أراه؟ وقال ابن جني: من المطالب به؟

وأقول: إن قوله: وجدا بفراقها غير جيد، والجيد لو قال: وجدا بها. وتفسيره: من؟ أي: من فعل به، وتفسير ابن جني: من المطال به ليسا بصواب. ولو قالا: من به؟ أي: من في قلبه؟ أو: من يهواه؟ لا صابا، وهذا من قول ديك الجن، عبد السلام، شاعر الشام: الكامل مَرَّتْ فقلتُ لها مَقَالةَ مُغْرَمٍ ... مَاذَا عليكِ من السَّلامِ فَسَلِّمي قالتْ: بمَنْ تَعْني فَحُبُّكَ ظَاهِرٌ ... بنحُولِ جسْمِكَ قلتُ: بالمُتَكَلِّمِ فتضاحَكَتْ عَجَباً وقالَتْ يا فَتَى ... لو لَمْ أدَعْكَ تنامُ بي لم تَحْلُمِ وقوله: الكامل فَمضَتْ وقد صَبَغَ الحَيَاءُ بَيَاضَها ... لَوْني كَمَا صَبَغَ اللُّجَيْنَ العَسْجَدُ قال: إنما عدّي الصبغ إلى مفعولين لأنه تضمن معنى الإحالة؛ كأنه قال: أحال الحياء بياضها لوني. وأقول: إن لوني صفة مصدر محذوف؛ كأنه قال: لوناً مثل لوني. وهذا كما يقال: ضربته ضرب زيد؛ أي: ضربا مثل ضرب زيد. وكقول امرئ القيس: الطويل إذا قامَتَا تَضَوَّعَ المِسْكُ منهما ... نَسِيمَ الصَّبَا جَاَءتْ بِرَيَّا القَرنفلِ

وقوله: الكامل فَلَه بنو عبد العزيز بن الرِّضَا ... ولكلِّ رَكْبٍ عِيسُهُمْ والفَدْفَدُ قال: أي: للممرض المذكور قبل وهو المتنبي، هؤلاء الذين يقصدهم، ويبلغ بهم آماله، ولسائر الناس من المسافرين إلى غيرهم الإبل والمفازة؛ أي: لا يحصلون من سفرهم على شيء سوى التعب وقطع الطريق. وأقول: هذا ليس بشيء! والمعنى: إن المتنبي له هؤلاء؛ بنو عبد العزيز الممدوحون، ولكل ركب يقصدهم عيسهم التي يسيرون إليهم عليها؛ والأرض التي يسيرون فيها؛ أي: إذا قصدوا بني عبد العزيز ركبوا إليهم ما أخذوه قبل منهم، وساروا إليهم في أرضهم، وهذا إخبار بكثرة عطائهم وسعة مملكتهم، وهو مثل قوله: الطويل أسِيرُ إلى إقْطَاعِهِ في ثِيَابِهِ ... على طِرْفِهِ من دَارِهِ بحُسَامِهِ وقوله: الكامل ما مَنْبِجٌ مُذْ غِبْتَ إلاَّ مُقْلَةٌ ... سَهِدَتْ وَوَجْهُكَ نومُهَا والإثمِدُ

قال: يقول: هذه البلدة مذ غبت عنها كالمقلة الساهرة، ووجهك لها بمنزلة النوم والكحل، وهما اللذان بهما تصلح العين؛ أي: صلاحها بحضورك. وأقول: لو قال في قوله: . . . . . . ... . . . . . . وَوَجْهُكَ نَوْمُهَا والإثْمِدُ أي: تهدأ به وتُزين؛ فيجعل النوم للهدوء، والكحل للتزيين، لكان أكمل وأجمل. وقوله: الكامل قَطَّعْتَهُمْ حَسَداً أرَاهُمْ مَا بِهم ... فتقطَّعُوا حَسَداً لمن لا يَحْسُدُ قال: يريد أنهم حسدوك فماتوا لشدة حسدهم إياك فكأنك قطعتهم إربا حتى تقطعوا. وأقول: لم يرد الموت وإنما المعنى انك بالغت في المهم، وإذا هم - حسداً لك - بمنزله من تقطّع أعضاؤه. ولو أنهم ماتوا لم يحسن أن يقول فيما بعد: حتى انْثَنَوْا. . . . . . ... . . . . . . وقوله: الكامل وصُنِ الحُسَام فلا تُذِلْهُ فإنه ... يَشْكو يَمينَكَ والجَماجِمُ تَشْهَدُ

قال: قال ابن جني: صنه فانه به يُدرك الثار ويُحمى الذمار. قال ابن فورجة: كيف أمن أبو الفتح أن يقال له: ما أذلته ألا لأدرك ثأري وأحمي ذماري؟ وهذا تعليل، لو سكت عنه لكان أحب إلى أبي الطيب. إنما يعني إنك أكثرت القتل فحسبك واغمد سيفك. فقال: صن سيفك! وإنما يريد أغمده، وهذا كقوله: الكامل شِمْ ما انْتَضَيْتَ. . . . . . ... . . . . . . فيقال: كيف أمن ابن فورجة أن يقول له: ما أكثرت إلا قتل من يستحق القتل، ومن يجب عليه؛ فكيف نهيتني عن فعل الواجب؟ وهذا البيت لا يُجعل مثل: شِمْ ما انْتَضَيْتَ. . . . . . ... . . . . . . ومعناه قد ذكرته في شرح ابن جني. وقوله: المتقارب

تَعَجَّلَ فيَّ وُجُوب الحُدودِ ... وحَدِّيَ قبلَ وجُوب السُّجودِ قال: يريد أتعجل؟ الاستفهام، وحذف الهمزة. وأقول: هذا فيمن روى تعجل بفتح التاء والعين وضم اللام، وجعل وجوب الحدود مفعولا به منصوبا. والأكثر أن يُجعل تعجل فعل ما لم يُسم فاعله ووجوب مرفوعا به. وروي: تَعجل فعلا ماضيا ووجوب، مرفوعا، فاعله. والوجه الذي ذكره أضعف الوجوه الثلاثة لإضمار همزة الاستفهام وحذفها من غير دليل عليها. ومعنى البيت قد ذكره عن ابن جني، والأجود ما ذكرته هناك. وقوله: الوافر أبا عبد الإلهِ مُعَاذُ إني ... خَفِيُّ عنك في الهَيْجَا مُقَامي قال: يقول: يخفى عليك مقامي في الحرب لأني مختلط بالأبطال، ملتبس بالأقران بحيث لا تراني. وأقول: المعنى غير ذلك، وهو: إنك جاهل بي لا تعلم عنائي وبلائي في الحرب، فأنت تقيدني وتعظم ما أطلبه لتثبطني عن السعي فيه، وما بعده يدل عليه.

وقوله: الوافر فَمَوْتي في الوَغَى عَيشي لأنِّي ... رَأيْتُ العَيْشَ في أرَبِ النُّفوسِ قال: أي إذا قتلت في الحرب فكأني قد عشت؛ لأن حقيقة العيش أن يكون فيما تشتهي النفس، وحاجتي أن أقتل في الحرب، فإذا أدركت حاجتي فكأني قد عشت! وأقول: إن العاقل لا يؤثر القتل على الحياة من غير سبب يدعوه اليه، وغرض يقصده فيه، فقوله: فحاجتي أن أقتل في الحرب فإذا أدركت حاجتي فكأني قد عشت ليس بشيء. وإنما يريد بقوله: فَمْوتي في الوغى عَيْشي. . . . . . ... . . . . . . لأني أبلي فيها حسنا أذكر فيه كقوله: ذِكْر الفَتَى عُمْرُهُ الثَّاني. . . . . . ... . . . . . . فإذا كان كذلك فأنا لا أكره الموت في الوغى لأنه أرب نفسي الحصول ما تهواه من حسن الذكر وجميل الثناء؛ وعيش الإنسان في حصول أرب نفسه. وقوله: البسيط الفَرْقَدُ ابنُكَ والمِصْباحُ صاحِبُهُ ... وأنتَ بَدْرُ الدُّجَى والمَجْلِسُ الفَلَكُ

قال: جعل ابنه، وهو قريب من المصباح، كالفرقدين وأراد بالصاحب الفرقد الأخر، وهما كوكبان معروفان. وأقول: قد قيل في قوله: الفَرْقَدُ ابنُكَ والمِصْبَاحُ والمِصْبَاحُ صَاحِبُهُ ... . . . . . . يحتمل أن يكون صاحبه أخا له أو غيره، وأن يكون المصباح الشمس كقوله تعالى: (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجا)، فلم يمكنه أن يقول السراج فقال: المصباح لأنه في معناه كقول بعضهم: أنشدنا أبو علي: الطويل وقاَء عليه اللَّيْثُ أفلاذَ كِبْدِهِ ... وكَهَّلَهُ قِلْدٌ من البَطْنِ مُرْدِمُ يصف نبتا أصيب بنوء الأسد، فوضع الليث موضع الأسد لإقامة الوزن. والوجه الصحيح هو الأول. وفي هذا البيت أربعة تشبيهات. وقد جاء مثل ذلك لبعض أهل العصر: الرمل رُبَّ كَأسٍ قد شَرِبْنَاها على ... وَجْهِ خَوْدٍ ذاتِ ثَدْيٍ قد فَلَكْ إنْ تَقُلْ من دونها بدرُ الدُّجَى ... في السَّنَا والحُسْنِ والظَّرْفِ فَلَكْ وهي قُطْبٌ والنَّدامَى أبْرُجٌ ... والطِّلا شَمْسٌ وسَاقِينَا فَلَكْ

وقوله: البسيط أظبَيْةَ الوَحْش لَوْلاَ ظَبْيَةُ الأنَسِ ... لما غَدَوْتُ بِجَدٍّ في الهَوَى تَعِسِ قال: يخاطب الظبية الوحشية، لأنها أليفة لكثرة ملازمته ومساءلته الأطلال كما قال ذو الرمة: الطويل أخُطُّ وأمْحُو الخَطَّ ثم أعِيدُهُ ... بِكَفِّيَ والغِزْلاَنُ حَوْليَ رُتَّعُ وهو قول ابن جني. وأقول: ليس بدؤه لظبية الوحش لما ذكره، ولكن لمشابهتها لها في عينيها وجيدها ونفارها، فخاطبها كانها نسيبة لها، كقول ذي الرمة أيضا: الطويل أيا ظَبْيَةَ الوَعْسَاءِ بين جُلاجِلٍ ... وبين النَّقَا آأنتِ أمْ أمُّ سَالمِ فلا حاجة إلى ذكر ملازمة الفيافي وسؤال الأطلال.

وقوله: الكامل هذي بَرَزتِ لَنَا فهِجْتِ رَسِيسَا ... ثم انْصَرَفْتِ ومَا شَفَيْتِ نَسِيسَا قال: يقول: برزت لنا فحركت ما كان في قلوبنا من هواك، ثم انصرفت عنا ولم تشفي بقايا نفوسنا التي أبقيت لنا. وأقول: الجيد أن يقال: إن هواك أفنى نفوسنا إلا بقية بقيت منها مريضة كنا نؤمل أن تشفيها بوصلك فانصرفت وما شفيتها. وقوله: الكامل حَاشَا لِمِثْلِكِ أنْ تكونَ بخيلَةً ... ولِمِثْلِ وجْهِكِ أن يكونَ عَبُوسَا ولمثلِ وَصْلِكِ أن يكون مُمَنَّعاً ... ولمثلِ نَيْلِكِ أن يكونَ خَسيِسَا أقول: إنه قد اعترض على أبي الطيب بقوله: حَاشَا لمثِلكِ أن تكونَ بَخيلةً ... . . . . . .

وبقوله: ولمثلِ وَصْلِكِ أن يكوَنَ مُمَنَّعاً ... . . . . . . بأن قيل: البخل بالوصل في النساء محمود، وأطيب الوصل ما كان ممنعا، واستشهد على ذلك بأبيات للعرب وللمحدثين نحو قول أبي تمام: الكامل عالي الهَوَى مما يُرَقِّصُ هامتي ... أرْوِيَّةُ الشَّعَفِ التي لم تُسْهِلِ وقول كثير: الطويل وإني لأسْمُو بالوِصَالِ إلى التي ... يكونُ سَناءً وَصْلُهَا وازْدِيَارُهَا وقيل: بل يحسن البذل منهن، وهو مذهب لبعضهم، وقد جاء عنهم: الطويل أحِبُّ اللواتي هُنَّ من وَرَقِ الصِّبَا ... وفيهنَّ عن أزْوَاجِهنَّ طِماحُ ومن ذلك قول بعض المحدثين: الكامل قالُوا: فَفِيهِ تَبَذُّلٌ ... يأباهُ مثلُكَ قلت: أدري لو كانَ مَسْتُوراً لما ... هَتَكَ الغَرامُ عليهِ سِتْري! ويحتمل وجهاً آخر، وهو أن صفة الجود لما كانت محمودة في الرجال، معروفة بين الناس ذكرها لها ليخدعها عن وصلها فتسمح له به، ويكون مثل قوله: الوافر أخِفْتِ اللَّهَ في إِحْيَاءِ مَيْتٍ ... مَتَى عُصِيَ الإلهُ بأنْ أُطِيعَا

وقوله: الكامل لمَّا وَجَدْتُ دَوَاَء دَائي عندَهَا ... هانَتْ عليَّ صِفَاتُ جَالينُوسَا قال: يريد بصفاته: ما وصفه من الأدوية في كتبه ومعالجاته. وأقول: يقول: دائي عشقها، ودواؤه وصلها، وإذا كان كذلك فحقير لدي وهين علي ما وصفه جالينوس في كتبه من معالجة العشق، فقد ذكر فيها أشياء لا تُغني غناء الوصل ولا تقوم مقامه. وقوله: الكامل ولَحَظْتُ أنْمُلَهُ فَسِلْنَ مَوَاهِباً ... ولمَسْتُ مُنْصُلَهُ فَسَالَ نُفُوسَا قال: لحظ الأنامل كناية عن الاستمطار، ولمس المنصل كناية عن الاستنصار. يقول: تعرضت لعطائه فسالت بالمواهب أنامله، وتعرضت لإعانته فسال سيفه بنفوس أعدائه وأرواحهم لأنه قتلهم. وأقول: ما ينبغي أن يكون بنفوس أعدائه - وهكذا رايته في نسخ - بل بنفوس أعدائي لأني أنا المستنصر به، فنصره لي بقتل أعدائي لا أعدائه. والمعنى: أني لما سمعت به أردت أن أختبره جوده وبأسه وكنى عن اختبار الجود بلحظ الأنمل وعن اختبار البأس بلمس المنصل فوجدتهما يفعلان ويؤثران في غاية الكثرة؛ هذه تسيل مواهب وهذه تسيل نفوسا!

وقوله: البسيط أيَّامَ فيك شُموسٌ ما انْبَعَثْنَ لنَا ... إلاَّ انْبَعَثْنَ دَماً باللَّحْظِ مَسْفُوكَا قال: أي لم يظهرن لنا إلا أبكيننا دما مصبوبا بنظرنا إليهن. وأقول: لم يُرد باللحظ لحظ العشاق ولكن أراد لحظ الشموس اللواتي هن النساء؛ أي: يسفكن دماءنا بسيوف لحاظهن، وهو ابلغ في المعنى وأصح في اللفظ وأكمل في الاستعارة. قوله: البسيط نَجَا امرؤٌ - يا ابنَ يَحْيَى - كنتَ بِغيَتَهُ ... وخَابَ رَكْبُ رِكَابٍ لم يَؤُمُّوكَا قال: تخلص من مكاره الزمان من كنت حاجته؛ أي من قصدك بسفره، وخاب من لم يقصدك كما قال: الكامل . . . . . . ... ولكل رَكْبٍ عِيسُهُمْ والفَدْفَدُ وأقول: ليس بينهما تماثل إلا بذكر ركب. ومعنى: ولكل ركب قد ذكرته قبل وبينت خطأه فيه، واستشهاده به خطأ على خطأ فلا يشبه هذا البيت.

وقوله: البسيط أحْيَيْتَ للشُّعَراءِ الشِّعْرَ فامْتَدَحُوا ... جَميعَ من مَدَحُوه بالذي فيكَا قال: يقول: أحييت لهم الشعر بما أريتهم من دقائق الكرم، وعلمتهم من غوامض المعاني، حتى استغنوا عن استخراجها بالفكر، فسهل عليهم الشعر حتى كأنه صار حيا بعد أن كان ميتاً، ثم امتدحوا ممدوحهم بما فيك من خصال المجد ومعاني الشرف، وهي لك غير أنهم ينحلونها ممدوحيهم. وأقول: إن موت الشعر إنما هو بموت الكرام وحياته بحياتهم، أي: كان الشعر قبل وجودك ميتاً؛ فلما وجدت ورأى الشعراء ما فيك من الخلال الحميدة، والأفعال الجميلة، فكأنك أحييته لهم وسهلته عليهم فاخذوا ما فيك فمدحوا به غيرك. وهذا مثل قوله: الكامل من يَهْتَدي في الفِعْلِ مالا تَهْتَدي ... في القَوْلِ حَتى يَفْعَل الشُّعَراءُ والبيت الذي بعده يشهد بما قلته وهو قوله: البسيط وعَلَّمُوا النَّاسَ منكَ المجدَ واقْتَدَرُوا ... على دَقيقِ المعَاني من مَعَانيكا ومثله قول أبي العتاهية: الخفيف شِيَمٌ فَتَّحَتْ من المَجْدِ ما قَدْ ... كانَ مُسْتَغْلِقاً على المُدَّاحِ وقول احمد بن أبي فنن: الطويل يُعَلِّمُنَا الفتح المَدِيحَ بجُودِهِ ... ويُحسِنُ حتى يُحْسِنَ القَوْلَ قَائِلُهْ

وضده قول أبي تمام: الطويل ولولا خِلاَلٌ سَنَّها الشِّعْرُ ما دَرَى ... بُغَاةُ العُلا من أين تُؤْتَى المَكارِمُ وقوله: الطويل وإنْ كانَ يُبِقي جُودهُ من تَلِيدهِ ... شَبيهاً بما يُبْقي من العاشِقِ الهَجْرُ قال: يقول: سارت ناقتي إليه وقصدته وإن لم أكن واثقاً بإبقاء نواله شيئاً من ماله، والمعنى أن جوده يبقي من ماله الشيء اليسير. وأقول: إن قوله: وإن لم أكن واثقا بإبقاء نواله شيئاً من ماله ثم يقول: إن جوده يبقي من ماله الشيء اليسير تناقض. والصحيح في هذا أن قوله: وإن كان يُبْقي جُودُهُ. . . . . . ... . . . . . . متعلق بقوله: الطويل . . . . . . ... وبَحْرِ نَدىً. . . . . . لا بقوله: الطويل . . . . . . تَجَاوَزَتْ ... بي البِيدَ عِيسٌ. . . . . .

والمعنى؛ إن هذا الممدوح يعطي عطاء كثيرا وإن كان يبقى جوده من ماله شيئا يسيرا؛ لا يكاد ينتفع به بمنزلة إبقاء الهجر من العاشق بخلاف المعهود من عطاء غيره من الأجواد فإنه لا يكاد يعطي الكثير إلا وقد أبقى أكثر مما أعطى؛ كأنه يقول: يؤثر الطالب من ماله بعطاء كثير، يزيد على البحر ويغرقه ولا يبقى له شيء. وقوله: البسيط ولا الدِّيَارُ التي كانَ الحَبيبُ بِهَا ... تَشْكُو إليَّ ولا أشْكُو إلى أحَدِ قال: قال ابن جني: لم يبق في فضل للشكوى، ولا في الديار أيضا فضل لأن الزمان أبلاها. قال ابن فورجة: ذهب أبو الفتح إلى إن تقدير الكلام: ولا الديار تشكو إلي، وقد عُلم أن الديار لما كانت أشد دثوراً وبلىً كانت أشكى لما تُلاقي من الوحشة بفراق الأحبة، فكيف جعل الديار لا فضل فيها للشكوى، وشكواها ليس بحقيقة وإنما هو مجاز؟ وإنما كان يكون على ما ذُكر لو أن شكواها حقيقة فكانت تُقصّر عنها لضعفها

وبلاها كما يصح ذلك في العاشق، كما قال الملقب بالببغاء: البسيط لم يَبْقَ لي رَمَقٌ أشكُو إليك بهِ ... وإنما يَتَشَكَّى من به رَمَقُ وأيضا: فلو كان على ما ادعى ما كان لعطف هذه الجملة على قوله: ما الشَّوق مُقْتَنِعاً مِنَّي ... . . . . . . معنى، ولما عطفها عليها دل على إنها منها بسبيل، وإنما يعني: ما الشوق مُقتنعا مني بذا الكمد، ولا الديار تقنع مني وتم الكلام عند قوله: . . . . . . كان الحَبيبُ بها ... . . . . . . ثم ابتدأ فقال: هذه الديار تشكو إلي وحشتها بفراق أهلها، وأنا لا أشكو إلى أحد: أما لجلدي، أو لأني كتوم لأسراري، ويكون قد نظر إلى قول القائل: الوافر فإنِّي مثلُ ما تَجدِينَ وَجْدي ... ولكنِّي أُسِرُّ وتُعْلِنينَا وأقول: الأولى ما قال ابن جني وليس بمخطئ؛ وذلك إن الديار توصف بالنحول والصمم والخرس؛ قال: الرجز مَنْزِلةٌ صَمَّ صَدَاهَا وعَفَتْ ... أرْسُمُهَا إنْ سُئِلَتْ لم تُجِبِ

وتوصف أيضا بالموت والقتل وكل ذلك مجاز واستعارة كقوله: المنسرح لا تَحْسِبُوا رَبْعَكُمْ ولا طَلَلَهْ ... أوَّلَ حَيٍّ فِراقُكُمْ قَتَلَهْ فإذا وصفها إنها لا تشكو إليه، ولا تكلمه لفرط نحولها، فقد سلك طريق من تقدمه، ويدل على ذلك قوله في البيت الذي يليه: البسيط ما زالَ كلُّ هَزِيمِ الوَدْقِ يُنْحِلُها ... والسُّقْمُ يُنحِلُني حتى حَكَتْ جَسَدي فقد جعل حالها كحاله. ولا يلزم أن تكون هذه الجملة معطوفة على ما قبلها في المعنى كما ذكر، فيكون التقدير: ما الشوق مقتنعا، ولا الديار مقتنعة؛ لأن ذلك يلزم في عطف المفرد وأما عطف الجملة على الجملة فلا. وقوله: البسيط فأينَ من زَفَراتي من كَلِفْتُ بِهَا ... وأينَ منكَ - ابنَ يَحْيَى - صَوْلَةُ الأسَدِ قال: يقول: أين من عشقته من معرفة ما بي من الشوق إليه والحسرة على فراقه، وأين تقع منك - أيها الممدوح - صولة الأسد؛ أي: من صولتك! كأنه قال: صولتك فوق صولة الأسد فلا تقع صولة الأسد من صولتك إلا دونها! أنكر أن يعرف الحبيب حاله، وأن تكون صولة الأسد كصولة الممدوح! وأقول: لو قال: إن تكون زفرات الحبيب كزفراته وصولة الأسد كصولة الممدوح لأصاب. تقديره: فأين من زفراتي زفرات من كلفت به؟ فحذف المضاف وأقام المضاف

إليه مقامه لأن ما قبله وهو زفراتي تدل عليه. كما إنه حذف المضاف في قوله: . . . . . . ... وأين منكَ - ابنَ يَحْيَى - صولَةُ الأسَدِ أي: من صولتك، لدلالة ما بعده عليه وهو صولة الأسد. فهذا هو التقدير الصحيح، واللفظ الفصيح، والمعنى المليح وقوله: البسيط لمَّا وَزَنْتُ بك الدُّنْيَا فَمِلْتَ بهَا ... وبالوَرَى قَلَّ عندي كَثرةُ العَدَدِ قال: يقول: لما رجحت كفتك، وقد وضعت الدنيا وأهلها في الكفة الثانية علمت أن الرزانة للمعاني لا للاشخص؛ أي: إذا رجح الواحد على الكثير كان ذلك الكثير قليلا بالإضافة إلى ذلك الواحد الراجح. وأقول: هذا كأنه مما حدث به ابن المغازلي عن رقبة بن مصقلة عن عبد الله عن أبيه عن جده قال: أتى عمر رجلان فسألاه عن طلاق العبد، فانتهى إلى حلقة فيها رجل أصلع، فقال: يا أصلع! كم طلاق العبد؟ فقال له بإصبعيه هكذا وحرك السبابة والتي تليها، فالتفت إليهما فقال: اثنتان، فقال أحدهما: سبحان الله! جئناك، وأنت أمير المؤمنين، فسألناك، فجئت إلى رجل - والله - ما كلمك! فقال: ويلك! أتدري من هذا؟ هذا علي بن أبي طالب، سمعت رسول الله - صلى الله عليه - يقول: لو أن السموات والارضين وضعتا في كفة وإيمان علي لرجح إيمان علي.

وقوله: البسيط ماذَا البَهَاءُ ولاذا النُّورُ في بَشَرٍ ... ولا السَّمَاحُ الذي فيه سَمَاحُ يَدِ قال: يقول: أنت أجل من أن تكون بشرا، فإن ما نشاهده منك من الجمال والنور لا يكون في البشر، وليس سماحك سماح يد؛ لأن اليد لا تسمح بما تسمح به، بل هو سماح غيث وبحر. وأقول: لو كان قال بعد قوله: ما نشاهده منك من الجمال والنور لا يكون في البشر بل في القمر، كما قال: لأن اليد لا تسمح به، بل هو سماح غيث وبحر. فيستدرك بالقمر كما استدرك بالغيث والبحر لكما المعنى وحسنه بتكميل اللفظ وتحسينه. وقوله: الكامل نازَعْتُهُ قُلُصَ الرِّكَابِ وَرَكْبُهَا ... خَوْفَ الهَلاكِ حُدَاهُمُ التَّسْبيحُ قال: قال ابن جني: نازعته: أخذت منه بقطعي إياه وأعطيته ما نال من الركاب. وليس المعنى على ما قال؛ لأن التقلص هي المتنازع فيها فالبلد يفنيها ويأخذ منها وهو يستبقيها، والمعنى: أني أحب إبقاءها والبلد يحب إفناءها بالمنازعة فيها.

وأقول: هذه عبارة ملجلجة، وألفاظ مجذجة، والمعنى ذكرته في شرح ابن جني. وقوله: الكامل ومَتَى وَنَتْ وأبُو المُظَفَّرِ أَمُّهَا ... فأتَاحَ لي ولَهَا الحِمَامَ مُتِيحُ قال: ونت: ضعفت وفترت، وأمها: قصدها، والمعنى: مقصودها؛ أي: ان الموت خير لنا أن تخلفنا عنه. وأقول: هذا الذي قاله ضعيف. والمعنى إنه أقسم، بلفظ الدعاء، على نفسه وإبله؛ يقول: أهلكني الله وأهلكها إن ونت في السير، والممدوح أمها كقول الشاعر: الطويل أنْ كانَ ما بُلِّغْتِ عني فَلامَني ... صَدِيقي وشَلَّتْ من يَدَيَّ الأنَامِلُ وأمثاله كثير. وهذا فيه إخبار عن جده وجد ابله في السير وترك الفتور والتمكث والتلبث عن قصد الممدوح. وقوله: الكامل يَغْشَى الطِّعَانَ فلا يَرُدُّ قناتَهُ ... مَكْسُورةً ومن الكُمَاةِ صَحِيحُ

قال: قوله: مكسورة: حشو، أراد أن يطابق بينها وبين الصحيح، لأنه لا فائدة في أن يرد القناة من الحرب مكسورة، ولو ردها صحيحة لم يلحقه نقص. فيقال له: وعلام قلت: لا فائدة في قوله: المتقارب وهَوْلٍ كَشَفْتَ ونَصْلٍ قَصَفْتَ ... ورُمْحٍ تَرَكْتَ مُبَاداً مُبِيدَا وفي قوله: البسيط القَاتِلِ السَّيْفَ في جسْمِ القتيلِ به ... . . . . . . أو قول أبي تمام: الطويل فما كنْتَ إلاَّ السَّيفَ لاقى ضَرِيبَةً ... فقَطَّعَها ثم انْثَنَى فَتَقَطَّعَا وهو من قول البعيث: الطويل وإنَّا لَنُعْطي المشرفيةَ حَقَّهَا ... فَتَقْطَعُ في أيمانِنَا وتَقَطَّعُ لأنه لو ردهما صحيحين لم يلحقه بذلك نقص، وهذا لا يقوله من له أدنى تأمل، والفائدة في ذلك ظاهرة وهي كثرة الطعن بالرمح والضرب بالسيف.

وقوله: الكامل يَخْطُو القتيلَ إلى القَتِيلِ أمَامَهُ ... ربُّ الجَوادِ وخَلْفَهُ المَبْطوحُ قال: يقول: قد امتلأت المعركة من القتلى؛ فالفارس على الفرس الجواد يخطو من قتيل إلى قتيل، ويخلف وراءه فارسا مبطوحا، أي: مطروحا على وجهه. ويجوز ان يكون رب الجواد الممدوح؛ يصف إغراقه في القتل. وأقول: هذا الذي قاله ليس بشيء، والضمير في يخطو راجع إلى الممدوح؛ يعني إنه يبارز فارسا فيقتله، ويتجاوزه إلى قتيل آخر؛ أي: إنه سيُقتل، كقوله تعالى: (أِنَّكَ مَيِتٌ) فقدامه رب الجواد الذي لم يُقتل، وخلفه المبطوح الذي قُتل، يصفه بشدة الإقدام في الحرب والإغراق في القتل. وقوله: الكامل جُهْدُ المُقِلِّ فكيفَ بابْنِ كَريمةٍ ... تُوليهِ خَيْراً واللِّسَانُ فَصِيحُ قال: يقول: ذاك من الرياض جهد المقل لأنها لا تملك النطق، ولا تقدر من شكر السحاب إلا على ما يفوح منها من الروائح الطيبة، فكيف ظنك بابن كريمة - يعني نفسه - تُحسن اليه، وله لسان فصيح وقدرة على الثناء لا يترك شكرك والثناء عليك.

وأقول: لو قال موضع لا يترك شكرك والثناء عليك يبالغ فيه ويأتي منه بما لا تقدر عليه الرياض، لكان أحسن وأكمل. وقوله: الكامل فَغَدا أسِيراً قد بَلَلْتَ ثيابَهُ ... بِدَمٍ، وبَلَّ بِبَوْلهِ الأفْخَاذَا قال: يريد إنه تلطخ بالبول والدم جميعاً. وأقول: لو أتم كلامه بان قال: فيه بلللان: أحدهما منك وهو الدم، والآخر منه وهو البول للخوف، والأول سبب للثاني لكان حسناً. وقوله: الكامل مُتَعَوِّدٌ لِبْسَ الدُّروع يَخَالُها ... في البَرْدِ خَزّاً والهَوَاجرِ لاذَا قال: عطف في هذا البيت على عاملين مختلفين؛ لأنه عطف الهواجر على البرد، واللاذ على الخز. وذلك لا يجوز إلا على قول الأخفش، على إنه قد حُكي عنه الرجوع عن هذا. وقال أبو بكر بن السراج: إجماع إنه لا يجوز: مر زيد بعمرو وبكر خال.

وأقول: إن مثال البيت لا يجوز، لا على قول الأخفش ولا غيره. وهو كما قال ابن السراج، وإنما الخلاف إذا جعلوا المخفوض يلي الواو كقول الأعور الشني: المتقارب هَوِّنْ عليكَ فإن الأمُورَ ... بكَفِّ الإلهِ مَقَاديرُهَا فلَيْسَ بآتيكَ مَنْهِيُّهَا ... ولا قاصِرٍ عنك مَأمورهَا على إنه يحتمل أن يكون أضمر حرف الجر الذي هو في، كأنه قال: وفي الهواجر وهو مذهبه لأنه كان كوفي النسب والأدب مثل قولهم: ما كل سوداء تمرة ولا بيضاء شحمة. قال سيبويه: كأنك أظهرت كل فقلت: ولا كل بيضاء شحمة، وكذلك قول أبي دؤاد: المتقارب أكلَّ امرئٍ تَحْسَبين امرءاً ... ونارٍ تَوَقَّدُ باللَّيلِ نِارَا فعلى هذا لا يكون عطف على عاملين.

وقوله: الكامل بِمُزَوَّدٍ كَفَنَ البِلَى من مُلْكِهِ ... مُغْفٍ وإثْمِدُ عَيْنِهِ الكَافُورُ قال: يعني إنه لم يزود من مُلكه ومِلكه إلا كفناً يبلى، وجعله مُغفيا؛ لأن الميت كالنائم لإطباق جفنه. يقول: كُحل بالكافور بدل الاثمد. وأقول: احسن من هذه العبارة؛ أن يقول: هذا المرثي مسافر، لا كالمسافرين؛ لأنه لم يُزود من مُلكه إلا كفناً يبلى، ونائم لا كالأحياء لأن من شأن الأحياء أن يكتحلوا بالاثمد؛ وهذا ميت كُحله الكافور. وقوله: الطويل وَقَفْنَا وممَّا زَادَ بثّاً وُقُوفُنَا ... فَرِيقَيْ هَوىً مِنَّا مَشُوقٌ وشَائِقُ قال: فريقي هوى: منصوب على الحال من النون والألف في وقوفنا وجعل هذه الحال تزيده بثا؛ لأن فراق الأحبة أشد على القلب من فراق المجاورين والمعارف الذين لا علاقة بينك وبينهم. وأقول: إنه ظن أن زيادة البث إنما كانت بسبب وقوفهم فريقين: مشوق وشائق فحسب، ففسر هذا التفسير، وليس كذلك وإنما كان بسبب ما ذكره في آخر البيت

الأول، وما ذكره أبو الطيب في البيت الثاني وهو قوله: الطويل وقد صَارَتِ الأجْفَانُ قُرْحاً من البُكا ... وصَارَ بَهَاراً في الخُدودِ الشَّقائقُ وذلك إنه في موضع الحال معطوف على الأول، مقسم مرتب عليه، بصيرورة الأجفان قرحا من جانب المشوق، وهو العاشق، وصيرورة الشقائق بهاراً من جانب الشائق وهو المعشوق، فزيادة البث إنما بزيادة البيت الثاني بما تضمنه وعطفه على الأول لا بانفراده. فتأمل إحكام هذه الصناعة، وإتقان هذه الصياغة! وقوله: الطويل طوالُ الرُّدَيْنِيَّاتِ يَقْصِفُهَا دَمِي ... وبِيضُ السُّرَيْجِيَّات يَقْطَعُهَا لحْمي قال: يقول: الرماح تنقصف قبل الوصول إلى إراقة دمي، والسيوف تنقطع قبل قطع لحمي، فجعل دمه يقصفها لما كان السبب في قصفها وكذلك لحمه. وأقول: هذا ليس بشيء! وإنما يريد أن الشيء الصُلب الذي من شأنه أن يؤثر في اللين، قد انعكس بالإضافة إليّ، فجعل دمه يؤثر في الرماح القصف، ولحمه يؤثر في السيوف القطع على طريق المبالغة كقول ذي الرمة: الطويل ورَمْلٍ كأوْرَاكِ العَذَارَى قَطَعْتُهُ ... . . . . . .

إذ من شأن الأوراك، أن تُشبه بكثب الرمل، كما من شأن السيوف أن تقطع، ومثله: الوافر أرِانبُ غير أنَّهُمُ مُلُوكٌ ... . . . . . . ومثله قوله: المنسرح أثَّرَ فيها وفي الحَديدِ ومَا ... أثَّرَ في وَجْهِهِ مُهَنَّدُهَا وقوله: الوافر نلومُكَ يا عَليُّ لغيرِ ذَنْبٍ ... لأنَّكَ قد زَرَيْتَ على العِبَادِ قال: أي عبت أفعالهم وصغرت مناقبهم بزيادتك عليها. وأقول: ويكون هذا مثل قوله: الكامل شَادُوا مناقِبَهُمْ وشِدْتَ مَنَاقِباً ... وُجِدَتْ مُنَاقِبُهُمْ بِهِنَّ مَثَالِبَا وكقول أبي تمام: الطويل مَحَاسِنُ من مَجْدٍ مَتَى يَقْرِنوا بهَا ... مَحَاسِنَ أقْوَامٍ تَكُنْ كالمعائبِ

وقوله: الوافر كأنَّ سَخَاَءكَ الإسلامُ تَخْشَى ... إذا ما حُلْتَ عَاقِبَةَ ارْتِدَادِ قال: يقول: أنت تعتقد سخاءك اعتقاد الدين، وتخاف لو تحولت عنه عاقبة الردة، وهو القتل ودخول النار. وأقول: ليس للقتل هاهنا معنى صالح، والحد ما ذكرته في شرح ابن جني. وقوله: الوافر وحامَ بها الهَلاكُ على أنَاسٍ ... لهُمْ باللاَّذِقِيَّةِ بَغْيُ عَادِ قال: يقول: دار الهلاك بخيلك على قوم لهم ببلدك ظلم عاد. وأقول: اللاذقية: يحتمل أن يكون بلد عدو الممدوح، وهو الأشبه والأظهر ويدل عليه قوله قبله: الوافر ويومَ جَلَبْتَهَا. . . . . . ... . . . . . . والجلب إنما يكون من مكان إلى مكان، وقوله فيما بعد: الوافر فكانَ الغَرْبُ بَحْراً من مِيَاهٍ ... وكانَ الشَّرْقُ بَحْراً من جِيَادِ لأنهم لو كانوا من بلده لكانوا رعيته ولم يُحتج في قتالهم إلى جيش يكون بهذه الصفة.

وقوله: الوافر وقَدْ خَفَقَتْ لك الرَّاياتُ فيه ... فَظَلَّ يَمُوجُ بالبِيِض الصِّعَادِ قال: أي: اضطربت الأعلام وتحركت لك لا عليك. وأقول: قوله: لك لا عليك زيادة في اللفظ ونقص في المعنى، وذلك إنها لو خفقت عليه من جيش العدو لم يكن في ذلك عيب له ولا عار عليه بل دل ذلك على عظم الأمر وعظم العدو وعظم من يلقاه. وقوله: الوافر وإنَّ المَاَء يَخْرُج من جَمادٍ ... وإنَّ النَّارَ تَخْرُجُ من زِنَادِ قال: يريد أن يقول: إن العداوة تكمن في الوداد ككمون النار في الزناد، والماء في الجماد، كما قال نصر بن سيار: الوافر وإنَّ النَّارَ بالزَّنْدَيْنِ تُورَى ... وإنَّ الفِعْلَ يَقْدُمُهُ الكَلامُ وأقول: هذا ليس بطائل، والصحيح ما ذكرته قبل.

وقوله: الوافر تُرَفِّعُ ثوبَهَا الأردافُ عَنْهَا ... فَيَبْقَى من وِشَاحَيْهَا شَسُوعَا قال: يريد بالوشاحين قلادتين تتوشح بهما المراة؛ ترسل إحداهما على جنبها الأيمن، والأخرى على الجانب الأيسر. يقول: أردافهما سمينة، عظيمة، شاخصة عن بدنها، ترفع ثوبها، وتمنعه من أن يلاصق جسدها حتى يكون بعيدا عما توشحت به من القلائد. وأقول: هذا ليس بشيء، والوشاح يكون على خصرها بمنزلة القلادة في عنقها، ويدل على ذلك قول أبي تمام: الطويل من الهِيفِ لو أنَّ الخلاخِلَ صُيِّرَتْ ... لهَا وُشُحاً جَالَتْ عليها الخلاخِلُ وأحسن من قول أبي الطيب قول الآخر: الكامل أبَتِ الرَّوادِفُ والثُّدِيُّ لِقُمْصِهَا ... مَسَّ البُطونِ وأن تَمَسَّ ظُهُورَا ومثل ذلك قول بعض الأعراب في صفة امرأة: ما يمس ثوبها منها إلا طرفا حلمتيها ورانفتا اليتيها، ومشاشا منكبيها!

وقوله: الوافر ذراعَاهَا عَدُوَّا دُمْلَجَيْهَا ... يَظُنُّ ضَجِيعُهَا الزَّنْدَ الضَّجِيعَا قال: الدملج يضيق عن ذراعها فتفصمه وتكسره لامتلائه بها، وعظم ساعديها غليظ اللحم حتى يظن الضجيع زندها شخصا مضاجعا له! وأقول: إن أبا الطيب يبالغ في مواضع حتى تخرجه المبالغة إلى الإحالة أو الثقالة! وقوله: الوافر فليسَ بَواهِبٍ إلا كَثيراً ... وليسَ بقَاتِلٍ إلاَّ قَرِيعَا أقول: لو قال في موضع كثيرا نفيسا لكان أطيب في الذوق، وأفصح في اللفظ، وأبلغ في المعنى، لأن النفيس هو الشيء الذي ينفس به؛ أي: يظن، كقوله: الكامل لا تَجْزَعي إنْ مُنْفِساً أهْلَكْتُهُ ... وإذا هلكتَ فعنْدَ ذلك فاجْزَعِي

وقوله: الوافر وليسَ مُؤَدِّباً إلاَّ بسَيْفٍ ... كفَى الصَّمْصَامةُ التَّعَبَ القَطِيعَا قال: يقول: أقام سيفه في التأديب مقام سوطه فقد أغنى السيف السوط عن التعب؛ يصف شدته على المذنب المريب، وصعوبة سياسته للناس. وأقول: المعنى على هذا التفسير في وقله: . . . . . . ... كَفَى الصَّمْصَامَةُ التَّعَبَ القَطِيعَا أي: إنه يضرب المذنب ضربة واحدة، عقابا له فليس على السيف فيها تعب، والسوط عقابه ضربات كثيرة بحركات كثيرة، فكأنه يتعب بذلك. ويحتمل البيت معنى غير ما قال الواحدي، وذلك إنه لما كان يؤدب الأعداء بالسيف، وذلك للذنب العظيم، تحومي الذنب اليسير الذي يؤدب فيه بالسوط، فترك السوط لأنه لم يحتج إليه فكأنه كفاه التعب بالترك، فهذا أولى من ذكر صعوبة سياسته للناس، وإنه يؤدب بالسيف من يستحق التأديب بالسوط، لأن ذلك وضع الشيء في غير موضعه فهو صفة ظلم، والظلم لا يمدح به. وقوله: الوافر فصَيَّرَ سيلُهُ بَلَدِي غَدِيراً ... وصَيَّر خَيْرُهُ سَنَتي رَبِيعَا

قال: أي: ملاني بالعطاء كما يملأ السيل الغدير، وأصلح دهري حتى صار كالربيع؛ وهو فصل الخصب والأمطار. وأقول: البلد: المكان القفر. قال رؤبة: الرجز بل بلدٍ مِلءَ الفِجَاج قَتَمُهْ والسنة: الجدب، قال الله: (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آل فِرْعَوْنَ بِالسّنِيِنَ) أي: فصير مطره الذي سال - أي جوده - أرضي القفر غديرا، وزمني الجدب خصبا، فاصلح مكاني وزماني. وقوله: الوافر وجَاوَدَني بأنْ يُعْطٍي وأحْوِي ... فَغَرَّقَ نَيْلُهُ أخْذِي سَريعَا قال: جعل العطاء من الممدوح، والأخذ منه، مجاودة على معنى: أن أخذي منه كالجود مني عليه؛ يقول: لم يلحق أخذي إعطاءه حتى اغترق أخذي؛ أي: كان هو في العطاء أسرع مني في الأخذ. وأقول: إن الجود وهو كثرة العطاء، والمجاودة المفاعلة منه تكون من اثنين فصاعدا،

يقال: جاود فلان فلانا، إذا كاثره بالعطاء كقوله: الطويل كأنك ما جاوَدْتَ من بَانَ جودُهُ ... عليكَ ولا قابَلْتَ من لم تُقَاومِ إلا أنها هاهنا من الممدوح بكثرة العطاء، ومن المتنبي بكثرة الأخذ لأن الممدوح يرى الأخذ منه جودا عليه كقوله: الوافر قبولَكَ مَنَّهُ مَنٌّ عليه. . . . . . ... . . . . . . فغلبت كثرة العطاء كثرة الأخذ مع سرعة، وذلك معنى قوله: . . . . . . ... فَغَرَّق نَيْلُهُ أخْذِي سَرِيعَا وقول الواحدي: كان في العطاء، أسرع مني في الأخذ. ولم يذكر الكثرة التي تقتضيها المجاورة، فيه نقص، بل فضله وغلبه في الكثرة والسرعة جميعا. وقوله: الوافر قد اسْتَقْصَيْتَ في سَلَبِ الأعَادي ... فَرُدَّ لهم من السَّلَبِ الهُجوعَا قال: يقول: بالغت في سلب الأعداء؛ تسلبهم كل شيء حتى النوم، فرد عليهم ذلك، فإنهم لا يجدون ذلك خوفا منك.

فيقال له: ولم يرد عليهم النوم، وهم أعداء، وهو أضر الأسلاب لهم، التي سلبها منهم؟ فهذه العبارة لا تؤدي هذا المعنى، وإنما يقول: استقصيت في أذى الأعداء، والاستقصاء بغي، والبغي مذموم، وهم ضعفاء عنك، والضعيف ينبغي أن تكف عنه. وما بعد هذا البيت من صفتهم يدل على ذلك، فسأله الكف عنهم والبقيا عليهم والأمن لهم برد سلب النوم، وهو كناية عن الخوف، ولأن رد السلب وتركه مما توصف العرب به، كفعل النبي صلى الله عليه وسلم في يوم حنين وفعل علي - عليه السلام - حين قتل عمرو بن عبد ود في قوله: الكامل وعَفَفْتُ عن أثوابهِ وَلَوَ أنني ... كنتُ المُقَطَّرَ بَزَّني أثْوابي وقوله: المنسرح تُشْرِقُ أعْراضُهُمْ وأوْجُهُمْ ... كأنها في نُفُوسِهم شِيَمُ قال: يصفهم بنقاء الأعراض والوجوه والشيم. وأقول: إن هذا البيت فيه إحكام وإتقان للصناعة. وذلك إنما يشبه الشيء بالشيء الذي هو أظهر منه، المشهور المسلّم له، كقولنا: فلان كأنه البحر، أو كأنه الأسد؛ لأنهما معروفان بالجود والبأس مسلّم لهما ذلك، فشبه أبو الطيب بعض خلال الممدوح ببعض حتى كان المشبه به ظاهر للناس، معروف لهم مسلّم.

وقوله: المنسرح فهي كمَاوِيَّةٍ مُطَوَّقَةٍ ... جُرِّدَ عنها غِشَاؤهَا الأدَمُ قال: الماوية: المرآة وجعلها مطوقة، لما حولها من سواد الجنان. وأقول: لم يُرد إنها مطوقة بالسواد؛ لان السواد لا يكون طوقاً بل غُلاً، ولكن بذهب وفضة، وذلك إنه شبهها في صفاتها بالماوية، وهي المرآة، والروض الذي حولها بالطوق من الذهب والفضة لان الروض يشبه بذلك. وقوله: المنسرح أبا الحُسَينِ اسْتَمِعْ فَمَدْحُكُمُ ... في الفِعْلِ قبل الكَلامِ مُنْتَظِمُ قال: يقول: فعلكم يمدحكم، قبل ان ينظم في الشعر؛ أي: بحسنه يُثنى عليكم. وأقول: هذا مثل قوله: الكامل من يَهْتَدي في الفِعْل. . . . . . البيت.

وقوله: المنسرح وقد تَوَالى العِهَادُ منه لكُمْ ... وجَادَتِ المَطْرَةُ التي تَسِمُ قال: العهاد: الأمطار، والمطرة التي تسم: هي الوسمي الذي يسم الأرض بالنبات. شبه مدائحه فيهم بأمطار تتابعت فانبتت له أنعامهم عليه، والتي؛ يعني بها هذه القصيدة. وأقول: هذا التفسير على أن الضمير في (منه) راجع في البيت الذي قبله: إلى: (فَمَدْحُكُمُ. . . . . .)، وليس كذلك بل راجع فيه إلى قوله: (في الفعل)؛ يقول: أول جودكم علي ظاهر بمنزلة المطرة التي تسم الأرض بالنبات، ولم تقنعوا بذلك حتى اتبعتم الجود الأول بجود ثان متوال وذلك بمنزلة العهاد، وهو الولي وما بعده من المطر الذي يتعاهد الأرض بالري. وقوله: البسيط هَامَ الفُؤادُ بأعْرابِيَّةٍ سَكَنَتْ ... بيتاً من القَلْبِ لم تَمْدُدْ له طُنُبَا قال: قال ابن جني: أي ملكت قلبي بلا كلفة ولا مشقة؛ فكانت كمن سكن بيتا

لم يتعب بإقامة أوتاده، ولا مد أطنابه. واحسن من هذا أن يقول: اتخذت بيتا من قلبي فنزلته والقلب بيت بلا أطناب ولا أوتاد. وأقول: وأحسن من ذلك أن يقول: سكنت بيتا من قلبي، بخلاف بيتها المعتاد، إذ بيوت الأعراب بأوتاد وأطناب، وهي أعرابية، وهو ليس كذلك. وقوله: البسيط وكُلَّمَا لقِيَ الدَّينارُ صاحِبَهُ ... في مِلكِهِ افْتَرَقَا من قَبْلِ يَصْطَحِبَا قال: أراد إذا التقيا تفرقا قبل الاصطحاب؛ فهما يلتقيان مجتازين لا مصطحبين. وأقول: هذا المعنى قد بينته في شرح ابن جني. وقوله: البسيط مالٌ كأنَّ غُرابَ البَيْنِ يَرْقُبُهُ ... فكُلَّما قيلَ: هذا مُجْتَدٍ نَعَبَا ذكر في هذا البيت قول ابن جني، قال: هذا معنى حسن: يقول: كما ان غراب البين لا يهدأ من الصياح، فكذلك هذا الممدوح، لا يفتر من العطاء.

وقال: قال العروضي: لعمري إن الذي قاله المتنبي، لحسن لكن تفسيره غير حسن! ومن قال: إن الغراب لا يهدأ من الصياح؟! ولكن معناه: إن العرب تقول: إن غراب البين إذا صاح في ديار قوم تفرقوا فقال المتنبي: كأن المجتدي إذا ظهر صاح هذا الغراب في ماله فتفرق وأقول: كأن في هذا البيت مناقضة لما قبله، وذلك أن غراب البين، إذا صاح تفرق الجمع. وهو في البيت الذي قبله قال: إن الدينار يفارق الدينار الآخر إذا لاقاه في ملكه قبل الاصطحاب فلا معنى لصياح الغراب، إذ لم يكن لماله اجتماع!! وقوله: الوافر قَبِيلٌ أنْتَ أنتَ، وأنْتَ منهم ... وَجَدُّكَ بِشْرٌ المَلِكُ الهُمَامُ قال: أراد: قبيل أنت منهم وأنت أنت في علو قدرك. يعني: إذا كنت منهم وجدك بشر فكفاهم بذلك فخرا، وقد أخر حرف العطف وهو قبيح جداً. وقال التبريزي: قوله: أنت أنت، أي: أنت الرجل المشهور المعروف، يقول: الرجل فلان هو هو، أي، قد عُرف وشُهر، ومن ذلك قول أبي خراش: الطويل رَفَوْني وقالُوا يا خُوَيلدُ لا تُرَعْ ... فقلتُ: وأنكَرْتُ الوُجُوهَ هُمُ هُمُ

أي: هم الذين كنت أخافهم واتقيهم. ولما شهد له بالفضل قال: أنت من هؤلاء القوم الذين هم بنو عجل، وفيهم جدك المسمى ببشر. وأقول: هذا الذي ذكره التبريزي هو في معنى الصفة لقبيل، وهو تفسير قول ابن جني الثاني؛ لأنه قال: وقد جوز ابن جني أن يجعل جميع ما بعد قبيل وصفا له، ولم ينو تقديم بعضه. قال: وفيه قبح، فعلى هذا يكون قبيل الثاني بدلا من قبيل الأول أعني قوله: قَبِبلٌ يَحْمِلونَ من المَعَالي ... . . . . . . والأول وما بعده إلى آخر البيت وصف له فكذلك الثاني. وقوله: الطويل وخّيَّلَ منها مِرْطُهَا فكأنَّما ... تَثَنَّى لنَا غُصْنٌ ولا حَظَنَا خِشْفُ

قال: خيّل: من قوله تعالى: (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ. . . . . .) أي: يرى ذلك كالخيال، والمرط: كساء من خز أو صوف. يقول: مرطها يرينا ويُمثّل لنا صورتها كغصن بأن تثنّى، وولد ظبي رنا. وأقول: لا يجوز أن يكون وخيّل بالياء لوجود الفاء في (كأنما) وكان ينبغي أن يقول: وخيّل منها مرطها كأنما تثنّى، والصحيح ما رواه عن ابن جني إنه و (خبّل) بالباء ولكن لا كما فسره من ستر محاسنها وإنما خبّل من الخبل وهو الجنون. يقول: لما نفرت خبّلها، أي أدهشها وحيرها، سقوط مرطها في تلك النفرة، فبدا لنا قدُّها وكأنه غصن تثنّى، ولاحظتنا فكأنما لاحظنا خشف. وقد روي: (وخُبّل) بضم الخاء وبالباء، أي: جن واضطرب مرطها من نفرتها ودقة خصرها ومجاذبته ردفها، فوصف مرطها بالخبل لاضطرابه، كقول ذي الرمة: الطويل . . . . . . ... على خَصْرِ مِقْلاتٍ سَفيهٍ جَدِيلُهَا فوصف جديلها بالسفه لاضطرابه؛ لأنه دليل على نشاطها وحدة قلبها. وقوله: الطويل زِيَادةُ شَيْبٍ وَهْيَ نَقْصُ زِيَادَتي ... وقُوَّةُ عِشْقٍ وَهْيَ في قُوَّتي ضَعْفُ هَرَاقَتْ دَمي مَنْ بي من الوَجْدِ ما بِهَا ... مِنَ الوَجْدِ بي والشَّوْقُ لي ولها حِلْفُ

أقول: أن أبا الطيب أخبر في البيت الأول بزيادة الشيب فيه وقوة العشق، وأخبر في البيت الثاني أن وجده بالمعشوقة كوجدها به، وأن الشوق لها حلف كما هو له حلف، وفي هذا دليل على قوة عشقها له كقوة عشقه لها لأنهما متماثلان في الوجد، فإخباره عن هذه المحبوبة بشدة عشقها له ومحالفة الشوق لها مع ذكر زيادة شيبه وشعف قوته أقبح من زيادة شيبه وضعف قوته! وقوله: الطويل وقابَلَني رُمَّانَتَا غُصْنِ بانَةٍ ... يَمِيلُ به بَدْرٌ ويُمْسِكُهُ حِقْفُ قال: المعنى: إنها عند الوداع قامت بحذائي فقابلني من ثدييها رمانتان على قد كالغصن يميله وجه كالبدر، يعني إنها إذا قصدت مشياً بوجهها مالت إليه نحو الوجه فكان وجهها يميل قامتها، ثم يميل الردف بثقله قامتها فلا تقدر على سرعة الحركة. وأقول: انظر إلى هذا التفسير وما فيه من ضعف التقدير! وأقول: إن قوله: عند الوداع قامت بحذائي ليس بشيء! لأن الوداع لم يجر له ذكر وإنما وقابلني عطف على: الطويل . . . . . . ... كسَاهَا ثِياباً غَيْرَهَا الشَّعَرُ الوَحْفُ

وأما تفسيره أن وجهها يميل قدها فهو بالعكس وإنما غره قوله: . . . . . . غُصْنُ بانةٍ ... يَميلُ به بَدْرٌ. . . . . . وإنما التقدير: يميل بميله، فحذف المضاف للعلم به، فالبدر في أعلى الغصن فإذا مال الغصن مال به البدر، أي لميله لأنه كالثمرة فيه. وأما قوله: ثم يميل الردف بثقله قامتها الخفيفة فلا تقدر على سرعة الحركة فمن جنس تفسيره ما قبله. والظاهر المعلوم أن الردف بثقله لا يميل القامة بل يمسكها ويقيمها وذلك إنه حقف قد أنبت غصنا فهو يمسكه ويقيمه ولا يميله، وإنما تقدير البيت: وقابلني من المحبوبة لما جردتها من ثيابها نهدان كالرمانتين في قد كغصن بانة، وذلك عجب يميل بميل الغصن، الذي هو قدها، وجه كالبدر، ويمسك قدها الذي هو كالغصن في اللين والخفة ردف كالحقف في الثقل. وقوله: الطويل أكَيْداً لنا - يا بَيْنُ - واصَلْتَ وَصْلَنَا ... فلا دَارُنَا تَدْنُو ولا عَيْشُنَا يَصْفُو وأقول: ولم يُفسر هذا البيت وما فيه من حسن الترتيب. يقول: إذا واصل البين الوصال بعد من العاشق، وإذا بعد الوصال بعدت الدار، وإذا بعُدت الدار لم يصف العيش.

وقوله: الطويل ولمَّا فَقَدْنَا مِثْلَهُ دامَ كَشْفُنَا ... عليه فَدامَ الفَقْدُ وانكشَفَ الكَشْفُ قال: يقول: لما فقدنا نظيره ومن يكون مثلا له دام كشفنا على حال الفقد عن مثل له، يعني: طلبنا ذلك فلم نجد، وهو قوله: . . . . . . ... . . . . . . فَدَامَ الفَقْدُ وانكشَفَ الكَشْفُ أي: زال وبطل لأنا يئسنا عن وجود مثله. قال: ولم يُفسر أحد هذا البيت تفسيرا شافيا كما فسرته وبينته، ولو حكيت تخبيط الناس فيه، وأقوالهم المرذولة، والروايات الفاسدة لطال الخطب! وأقول: إنه قد خبّط في قوله: عليه؛ أي: على حال الفقد، وجعل الضمير في عليه لشيء غير مذكور وهو حال الفقد، وإنما الضمير في عليه راجع إلى مثله ويكون على بمعنى عن كقول القُحيف العُقيلي: الوافر إذَا رَضِيَتْ عليَّ بنو قُشَيْرٍ ... لعَمْرُ اللَّهِ أعْجَبَني رِضَاهَا وقول الراجز: الرجز أرْمي عليها وَهْيَ فَرْعٌ أجْمَعُ يقول: لما فقدنا مثل الممدوح دام كشفنا عنه، هل نجده؟ فلما لم نجده دام الفقد لمثله بعد دوام الكشف عن مثله، وانكشف الكشف؛ أي: زال أن يكون له مثل.

وقوله: الطويل ولم نَرَ شَيْئاً يَحْمِلُ العِبَْء حَمْلَهُ ... وَيَسْتَصْغِرُ الدُّنْيَا ويَحْمِلُهُ طِرْفُ لم يذكر ما في هذا البيت! وأقول: العبء: الحمل الثقيل، فيجوز أن يكون الممدوح يحمل العبء، ويستصغر الدنيا بالإضافة إلى ما يحمله، ومع ذلك يحمله طرف وقد حمل ما تصغر الدنيا عنده فيكون التعجب من شيئين: من حمل العبء الذي تصغر الدنيا عنده، ومن حمل الطرف له ولما يحمله. ويجوزان يكون قوله: ويستصغر الدنيا لأنه أعظم منها، ويحمله مع ذلك الطرف! فالتعجب هاهنا من شيء واحد؛ ممن هو أعظم من الدنيا كيف يحمله طرف، والطرف جزء من الدنيا صغير؟! وقوله: الطويل وَلَسْتَ بدونٍ يُرْتَجَى الغَيْثُ دُونَهُ ... ولا مُنْتَهَى الجُودِ الذي خَلْفَهُ خَلْفُ قال: أي لست بقليل من الرجال ولا صغير المقدار، ولست بخسيس يرتجى الغيث ولا ترتجى، وليس وراءك للجود منتهى، والمعنى: أن الجود مقصور عليك لا يرتجى دونك ولا يتجاوز عنك كما قال أشجع: المتقارب فلا خَلْفَهُ لامرئٍ مَطْمَعٌ ... ولا دُونَهُ لامرئٍ مَقْنَعُ

وقال الطائي: الطويل إليكَ تَنَاهَى الجُودُ من كلِّ وجْهَةٍ ... يَصِيرُ فما يَعْدوكَ حيث تَصِيرُ قال: وأراد أبو الطيب هذا المعنى وأساء العبارة. وأقول: إن الذي يُثنى عليه ويُمدح لا يحسن أن يقال له: لست بخسيس ولست بقليل كما ذكر في تفسيره. وقوله ولسْتَ بدُونٍ يُرْتَجَى الغيث دُونَهُ ... . . . . . . فيه مبالغة وذلك إنه قدّر إذا رُجي الغيث دونه إنه بخيل، وليس يُبخّل الإنسان بإضافته إلى الغيث أو البحر، وإنما يُبخّل بإضافته إلى إنسان مثله فبقي عيبه أن يُرتجى الغيث دونه فيكون بخيلا فعبر (بدون) بدون (بخيل) لحسن الترديد وازدواج اللفظ. وقوله: الكامل المُنْهِبَاتُ قُلُوبَنَا وعُقُولَنَا ... وجَنَاتِهِنَّ النَّاهِبَاتِ النَّاهِبَا

قال: يقول: أنهبته الشيء إذا جعلته نُهبى له. يقول: انهبن وجوههن قلوبنا وعقولنا حتى نهبنها بحسنهن، ثم وصف تلك الوجنات بأنها تنهب الناهب؛ أي: الرجل الشجاع المغوار. وأقول: لم يرد بالناهب الرجل الشجاع، كما ذكر، وإنما الناهب هاهنا القلوب والعقول، فجعل الوجنات التي نهبتها القلوب والعقول ناهبة لها بحسنها على طريق القصاص، فكل من الوجنات والقلوب والعقول ناهب منهوب وهذا من قول أبي تمام: الطويل سَلَبْنَ غِطاَء الحُسْنِ عن حُرِّ أوْجُهٍ ... تَظَلُّ لِلُبِّ السَّالِبِيهَا سَوَالبَا وقوله: الكامل يا حَبَّذا المُتَحمِّلونَ وحَبَّذا ... وَادٍ لثمتُ به الغَزَالةَ كَاعِبَا قال: الغزالة من أسماء الشمس، كنى بها عن الحبيبة وأخبر أنها كانت كاعبا حين لشمها. وأقول: الأحسن، أن تكون الغزالة هاهنا الظبية لذكر الوادي وتقارب الاستعارة بينهما.

وقوله: الكامل يَسْتَصْغِرُ الخَطَر العَظيمَ لوفدهِ ... ويَظُنُّ دِجْلَةَ ليس تَكْفي شَارِبَا كَرَماً فَلَوْ حَدَّثْتَهُ عن نَفْسِهِ ... بِعَظِيمِ ما صَنَعَتْ لظَنَّكَ كاذِبَا قال: يعني كرما يفعل ما ذكرت. ثم قال: فلو حدثته بعظيم ما صنعه لكذبك استعظاما له. وقد أساء في هذا، لأنه جعله يستعظم فعله، وبضده يُمدح، وإنما يحسن أن يستعظم غيره ما فعل كما قال أبو تمام: الطويل تجاوزَ غاياتِ القلوبِ رَغَائِبٌ ... تكادُ بهَا لولاَ العَيَانُ تُكَذِّبُ وقال البحتري: الكامل وحديثِ مجدٍ عنكَ أفرَطَ حُسْنُهُ ... حَتَّى ظَنَنَّا إنه مَصْنُوعُ وأقول: أن قوله: لو حدثته بعظيم ما صنعت لكذبك استعظاما له خطأ بل لكذبك استصغارا له وذلك إنه إذا أخبره بأنه قد فعل عظيما من الجود، ظن إنه يكذب لأنه: يَسْتصْغِرُ الخَطَر الكبير لوَفْدِهِ ... . . . . . . كما ذكر في البيت الذي قبله، فإذا كان كذلك وحدثه بأنه قد فعل عظيما ظنه كاذبا؛ لأنه أخبر بالشيء على خلاف ما عنده، وما هو ثابت في ذهنه من أن دجلة

لا تكفي شاربا، وذلك في غاية الاحتقار فكيف يكذبه استعظاما له لولا كثرة التغفل وقلة التأمل؟ فعلى هذا الوجه ما أساء أبو الطيب بل أساء الراد عليه بغير علم وقوله: الطويل ظَلُومٌ كمَتْنَيْهَا لِصَبٍّ كَخَصْرِها ... ضَعيفِ القُوَى من فِعْلِهَا يتظَلَّمُ قال: العادة جرت للشعراء، بوصف الردف بالعظم، والخصر بالهيف، ولم نسمع ذكر سمن المتن وكثرة لحمه، بل يصفون النصف الأعلى بالخفة والرشاقة. فيقال له: والمتن ليس من النصف الأعلى، والمتنان مكتنفا الصلب من اللحم والعصب فهو إذا من الردف. ويؤيد ذلك أن المتن ما غلظ من الأرض، فقوله: لم نسمع لا يدل على عدم الجواز! وقوله: الطويل يَجِلُّ عن التَّشْبيهِ لا الكفُّ لُجَّةٌ ... ولا هو ضِرْغَامٌ ولا الرأيُ مِخْذَمُ ولا جُرْحُهُ يُؤسَى ولا غَورُهُ يُرَى ... ولا حَدُّهُ يَنْبُو ولا يتثلَّمُ

قال: عطف لا في قوله: ولا جرحه يؤسى على لا في البيت قبله في ظاهر اللفظ، لا في المعنى لأن قوله: لا الكف لجة يريد أن فيها ما في اللجة وزيادة عليها، وكذلك ما بعده في هذا البيت. وقوله: ولا جرحه يؤسى ليس يريد إنه يؤسى ويزاد عليه، فهو في هذا ينفي ما في اللفظ والمعنى، وفيما قبل مثبت في المعنى ما نفاه لفظا. والمعنى: جرحه أوسع من أن يُعالج. وأقول: هذا الذي ذكره هو قول ابن جني وليس بشيء؛ وذلك إنه يمكن أن يتأول البيت الأول بما تؤول به البيت الثاني فيقال: كفه أكرم من أن تُشبه باللجة، وهو أشجع من أن يُشبه بالضرغام كما قال: جرحه أوسع من أن يؤسى. على أن قوله أن معنى: لا الكف لجة أي فيها ما في اللجة وزيادة هو بمعنى أكرم من اللجة، لأن لفظة افعل تقتضي ذلك؛ فعلى هذا يكون الأول كالثاني نفيا في اللفظ والمعنى. وقوله: الطويل ولا يَشْتَهي يَبْقَى وتَفْنَى هِبَاتُهُ ... ولا يَسْلَمُ الأعداءُ منه ويَسْلَمُ قال: يقول: لا يحب ان يبقى ولا عطاء له، وإنما يحب البقاء ليعطي، فإذا لم يكن له عطاء لم يحب البقاء، ولا يحب ان يسلم في نفسه مع سلامة الأعداء؛ أي إنه يحب أن يقتلهم وإن كان في ذلك هلاكه.

وأقول: يُحتمل أن يكون أراد: ولا يسلم الأعداء منه، ويسلم منهم؛ فحذف منهم للعلم به ولما دل عليه الأول؛ أي: لا يحب مسالمة الأعداء وموادعتهم خوفا وفرقا منهم، فيكون بمعنى قولهم: دعني كفافاً؛ أي: تكف عني واكف عنك. وقوله: الطويل سَنِيُّ العَطَايا لَوْ رَأى نَوْمَ عَيْنِهِ ... من اللُّؤومِ إلى أنَّها لا تُهَوِّمُ قال: التهويم: اختلاس أدنى النوم. يقول: لو كان النوم الذي لابد منه لؤما حلف إنه لا ينام وأقول: إنه قصّر في العبارة فنقص المعنى الذي أراده أبو الطيب؛ وذلك إنه بالغ فقال: . . . . . . لو رأى نَوْمَ عَيْنِهِ ... من اللؤمِ. . . . . . أي: من بعض اللؤم لأقسم إنه لا يذوق أدنى النوم. وقوله: الطويل إلى اليَوْم ما حَطَّ الفِدَاءُ سُرُوجَهُ ... مُذُ الغَزْوُ سارٍ مُسْرِجُ الخَيْلِ مُلْجِمُ

قال: قوله: مذ الغزو: مبتدأ محذوف الخبر كأنه قال: مذ الغزو واقع أو كائن. وقوله: سار: خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو سار، يعني الممدوح. وأقول: ليس سار الممدوح وإنما هو الغزو. وشار خبر عنه ولا حاجة إلى تقدير محذوفين في مكان واحد؛ أحدهما خبر عن الغزو والآخر مبتدأ لسار، وهو الممدوح بل: . . . . . . ... الغَزْوُ سَارٍ مُسْرِجُ الخَيْلِ مُلْجِمُ على طريق المبالغة كما قالوا: ليل قائم ونهار صائم. وقوله: الطويل ومن عَاتِقٍ نَصْرانَةٍ بَرَزَتْ لَهُ ... أسِيلةِ خَدٍّ عن قَريبٍ سَيُلْطَمُ قال: يريد جارية عاتقا؛ أي: شابة بكرا. والنصرانية تأنيث نصران؛ أي برزت للممدوح وخرجت من سترها لأنها سُبيت فهي تُلطم وتُهان وإن كانت أسيلة الخد. وأقول: العاتق من الجواري التي أدركت فخُدرت. وقوله: برزت له: أي للملك الطاغي، يعني: ملك الروم؛ أي: من نسائه. ويحتمل أن يكون (له) راجعا إلى الممدوح، أي: لأجله، أي: خوفا منه. يقول: انكشفت للناس في بلادها وخدرها وقد أجفلوا من شق الممدوح بلاد الروم ودخوله فيها، كما ذكر. وقوله: . . . . . . ... . . . . . . عن قريبٍ سَيُلْطَمُ

أي: بقتل من سيقتله من أقاربها وأهل دينها. وقول الواحدي: (سُبيت فهي تُلطم وتهان) غير صحيح لأن ذلك لم يقع بعد لقوله: عن قريب، والمعنى ما ذكرته. وقوله: الطويل صُفًوفاً لليثٍ في لُيُوثٍ حُصُونها ... مُتونُ المَذَاكي والوَشيجُ المُقَوَّمُ قال: أي برزت له صفوفا، يعني: النصرانة، لأن من عاتق هاهنا في معنى جملة كما تقول: كم من رجل جاءني. وأقول: إن صفوفا ليست صفة للنساء، كما ذكر، وإنما هي للرجال وهي راجعة إلى قوله: الطويل . . . . . . فكم من كَتِبَةٍ ... . . . . . . يقول: كم من كتيبة للروم رجالها وأبطالها اصطفت صفوفا للقاء ليث - يعني الممدوح - في ليوث من عسكره وأصحابه، ليس لهم حصون كحصون الروم من الجبال والصخور، وإنما حصونهم متون الخيل والرماح. وقوله: الكامل وكَفَى بمَنْ فَضَح الجَدَايَةَ فاضِحاً ... لِمُحِبِّهِ وبمَصْرَعي ذَا مَصْرَعَا

قال: يقول: من فضح الجداية بحسنه، كفى فاضحا لمن أحبه، وكفى بمصرعي في حبه مصرعا؛ يريد إنه غاية في الحسن، وهو غاية في عشقه وحبه. وأقول: إن هذا المعنى محتاج إلى زيادة ايضاح؛ وذلك إنه لما ذكر فيما قبل من البيتين زوال حيائه بكثرة بكائه وكثرة ما به من رنة، وله من دمع، قال بعد ذلك: كفى بمن فضح الجداية بالحسن أن يفضحني بالحب، فاعتذر لنفسه في ظهور حبه بزيادة حسن حبيبه فقال: إذا فضح الغزال بحسنه فجدير أن يفضح العاشق بحبه لأن حسنه أوفى حسن، ومصرعي في عشقه أوفى مصرع. وقوله: الكامل أَلِفَ المُروءةَ مُذْ نَشَا فكأنَّهُ ... سُقِيَ اللِّبَانَ بهَا صَبيّاً مُرْضَعَا نُظِمَتْ مَوَاهِبُهُ عليهِ تَمائِماً ... فاعتادَهَا فإذا سَقَطْنَ تَفَزَّعَا قال: من روى: (نُظمت) بضم النون فالمعنى أن هباته وما يفعله من الإعطاء جُعلت له كالتمائم التي تُعلق على من خاف شيئاً، فإذا سقطت عنه عاد الخوف؛ أي: إنه ألف العطاء واعتاده، حتى لو ترك ذلك بمنزلة من سقطت تمائمه. ومن روى (نظمت) بفتح النون فقال ابن فورجة: إنما يعني ما حصّلت له المواهب من الحمد والثناء والمدح بالأشعار وأدعية الفقراء فهو إذا لم يسمع ما تعود أنكر ذلك وكان كمن ألقى تميمته فتفزّع.

وأقول: إن (نظمت) وما بعدها صفة لقوله: صبيا مرضعا لأن التمائم تُستعار للصبي، وما نرى الواحدي وابن فورجة ذكرا ذلك، بل أطلقا القول بذكر الممدوح من غير اعتبار قوله: (صبيا) فذكرا الخوف للممدوح والفزع والتمائم وتلك من صفات المجانين! م فلا بد من جعل البيت الثاني صفة لآخر البيت الاول، لتصح الاستعارة فيصح المعنى، وإلا لا مقال بصحته دون ذلك. ويجوز نظمت مواهبه، بفتح النون ونصب المواهب، ويكون ضمير الفاعل للمروءة قبل. وقوله: الطويل أَجارُكِ يا أُسْدَ الفَراديسِ مُكْرَمٌ ... فَتَسْكُنَ نَفْسِي أمْ مُهَانٌ فَمُسْلَمُ قال: هذه عادة العرب يخاطبون الوحوش والسباع، لأنهم يساكنونها في البرية؛ يقول لأسود هذا المكان: هل يكون من جاورك مكرما عزيزا فتسكن نفسي أو يكون مخذولا مهانا؟ وأقول: إنه فسر البيت بإعادة لفظه! والمعنى: إنه استفهم الأسد اتهاما لها لأنها غير مأمونة على جار، وجعلها بمنزلة من يعقل؛ يقول: أنا قد نزلت جاراً لك، وأنت فيك منعة، وعندك حماية فهل اُكرم منك بكف الأذى عني، والذب من دوني كما يفعل الكريم بجاره فأطمئن أم أهان وأسلم وتُخفر ذمتي كجار اللئام الضعاف فاحترز لنفسي؟ وفي هذا تنبيه على خوفه، وما بعده يدل عليه.

وقوله: الخفيف ما تُرِيدُ النَّوَى من الحَيَّةِ الذَّوَّ ... اقِ حَرَّ الفَلا وبَرْدَ الظِّلالِ قال: عنى بالحية نفسه؛ يريد إنه كثير السفر قد تعود حر الفلوات بالنهار وبرد الليل، والليل ظل كله، وهذا شكاية من الفراق وانه مبتلى به. وأقول: ليس هذا شكاية من الفراق كما ذكر لأن الشكاية إنما تكون من الضعيف المتألم؛ مأخوذ من الشكو وهو المرض، وكيف يشكو وقد جعل نفسه بمنزلة الحية التي قد أدمنت وتمرنت على الحر والبرد، وإنما هذا استفهام إنكار وتوبيخ للنوى في ولوعها به وتعرضها له وهو لا يعبأ بها، وكيف يشكو النوى وهو أمضى في الروع من ملك الموت لا يخاف أحداً م ولا يرتدع من أحد عن زيارة محبوبه: الخفيف . . . . . . ... وأسْرَى في ظُلْمَةٍ من خَيَالِ أي: إذا شاء وصال حبيبه كان في الليل كطيف الخيال وهذه صفات لنفسه بالقوة لا بالشكاية التي هي ضعف. وقوله: الخفيف وربيعاً يضَاحِكُ الغَيْثَ فيه ... زَهَرُ الشُّكْرِ في رِيَاضِ المَعَالي

قال: جعله ربيعا وجعل عطاءه غيث ذلك الربيع، وجعل شكر الشاكرين زهرا يُضاحك الغيث، لأن الزهر إنما يتفتح ويحسن بعد مجيء الغيث كالشكر يكون بعد العطاء، ثم استعار لمعاليه رياضا ليجانس الألفاظ، وكأن هذا الزهر قد طلع من رياض معاليه؛ لأنه لولا كرمه وحبه للجود، ما أثنى عليه الشاكرون. وأقول: أن تفسيره إلى قوله: يُضاحك الغيث حسن، وقوله بعد ذلك في تعليله: لأن الزهر إنما يتفتح. . . . . . إلى اخره، ضعيف إلا قوله: استعار لمعاليه رياضا ليجانس الألفاظ فإنه أيضا حسن لتكميل الاستعارة به. ولم يذكر معنى المضاحكة، وبها يحسن المعنى، وقد جعلها أبو الطيب بين الغيث، الذي هو الجود، وزهر الشكر فهما يتضاحكان؛ هذا بالبرق في حال الأمطار، وهذا بالتفتيح والإنارة في حال الأزهار، فكلاهما يتقابلان في الحُسن ويزايدان. وقد جاء مثل هذا لأبي تمام في قوله: الطويل إذا ضاحَكَ الرَّوْضُ الغَزَالةَ نُشِّرَتْ ... زرابيُّ في أكنَافِهَا ودَرَانِكُ وكلاهما من قول البصير أبي البصير: البسيط يضاحِكُ الشمسَ منها كَوْكَبٌ شَرِقٌ ... مُؤَزَّرٌ بِعَميمِ النَّبْتِ مُكْتَهِلُ وقوله: الخفيف والجِراحَاتُ عنَدهُ نَغَماتٌ ... سَبَقَتْ قَبْلَ سَيْبهِ بِسُؤَالِ

قال: يقول: عادته أن يعطي بغير سؤال، فان سبقت نغمة من سائل عطائه بلغ ذلك منه مبلغ الجراحات. وأقول: كأن هذا رد لقول أبي تمام: الطويل تكادُ عَطَاياهُ يُجَنُّ جُنُونُهَا ... إذا لم يُعَوِّذْهَا بنَغْمةِ طَالبِ لأنه يقول: ينتظر بالعطايا السؤال فهي تنتفع به كانتفاع المجنون بالعوذ، وأبو الطيب يقول: إنه يستضر بالسؤال إذا سبق النوال فنغمات السائل عنده بمنزلة الجراحات. وقوله: الخفيف ذا السَّراجُ المُنِيرُ هذا النَّقِي الْ ... جَيْبِ هذا بَقِيَّةُ الأبدالِ قال: نقي الجيب عبارة عن الطاهر من العيب؛ يعني أن ثوبه لم يشتمل منه على دنس وأقول: إن الجيب بمنزلة الثوب عبارة عن القلب. يقال: فلان نقي الجيب وناصح الجيب، يعني به سلامة الباطن وصفاء السريرة كقول أبي نواس: البسيط تَئِطُّ دونَ الرَّجالِ الأقربين به ... قُوىً رؤومٌ وجَيْبٌ طالمَا نَصَحَا

وقوله: الخفيف وله في جَمَاجِمِ المَالِ ضَرْبٌ ... وقعهُ في جَمَاجمِ الأبْطَالِ قال: قال ابن جني: يهب المال فيقدر بذلك على رؤوس الأبطال، وهذا فاسد وكلام من لم يعرف المعنى. والرجل يوصف بضرب رؤوس الأعداء من حيث الشجاعة لا من حيث الجود والهبة؛ والمعنى إنه يُفرّق ماله بالعطاء، فإذا فني ماله أتى أعداءه فضرب جماجمهم وأغار على أموالهم كما يقال: هو مفيد متلاف، فوقع ضربه في رؤوس أمواله يكون في الحقيقة في رؤوس الأبطال، وهذا كقوله: الكامل والسِّلْمُ تَكْسِرُ من جَنَاحَيْ مَالِهِ ... بنَوالِهِ ما تَجْبُرُ الهَيْجَاءُ وأقول: قوله: جماجم المال؛ أراد اشرف العطاء وأعلاه وأسناه كالجماجم من الأعضاء، ولما ذكر جماجم الأبطال استعار للمال جماجم على وجه المقابلة كقول أبي تمام: الكامل لا تَسْقِني مَاَء المَلامِ فإنَّني ... صَبٌّ قد اسْتَعْذَبْتُ مَاَء بُكَائي يقول: لكثرة إعطائه نفيس الأموال، أوقع خوفا في صدور الأبطال فهي ترى كأن ضربه، أي تفريقه، لنفيس ماله في المكارم ضرب منها في الجماجم، فالذي ذكره ابن جني أقرب إلى المعنى، إلا إنه أساء فيه بسوء العبارة عنه، والذي ذكره الواحدي معنى

مشهور إلا أن الأشبه به ما ذكرته؛ لأنه يصف رجلا بالزهد والانقطاع وترك الدنيا وإنه بقية الأبدال، ويدل على ذلك قوله قبل: الخفيف قَابِضاً كَفَّهُ اليمين عن الدُّنيا ... . . . . . . وقوله بعد: الخفيف فَهُمُ لاتِّقَائِه الدَّهْرَ في يَوْ ... مِ نزَالٍ ولَيْسَ يَوْمَ نِزَالِ وقوله: الكامل أمِنَ ازْدِيَارَكِ في الدُّجَى الرُّقَبَاءُ ... إذ حيث أنتِ من الظَّلامِ ضِيَاءُ قال: ويروى: حيث كنت، وعلى هذا ضياء ابتداء وهبره محذوف على تقدير: حيث كنت من الظلام ضياء هناك. وكان: في معنى حصلت، لا يحتاج إلى خبر.

وأقول: إن ضياء هاهنا مبتدأ نكرة قد تقدم خبرها عليها، وهو الظرف، تقدم وجوب، فلا يحتاج إلى تقدير خبر محذوف، والتقدير: إذ ضياء حيث حللت من الظلام؛ أي إذ نور في مكان وجودك، فلا تقدرين على الزيارة. وقوله: الكامل أسَفي على أسَفي الذي دَلَّهْتِني ... عَنْ عِلْمِهِ فَبِهِ عَلَيَّ خَفَاءُ قال: يقول: إنما أتأسف على أن شغلتني عن معرفة الأسف، حتى خفي علي ما الأسف؟ لأنك أذهبت عقلي وإنما تُعرف الأشياء بالعقل. فيقال له: فإذا أذهبت عقله فكيف يتأسف؟ والأسف: الحزن، والحزن إنما يكون للعاقل ومن ذهب عقله لا يحزن ولا يفرح؟! فهذا الذي ذكره ليس بشيء! وقوله: الكامل شِيَمُ اللَّيَالي أنْ تُشَكِّكَ نَاقَتي ... صَدْري بها أفْضَى أم البَيْداءُ قال: قال ابن جني: من عادات الليالي أن توقع لناقتي الشك: أصدري أوسع أم البيداء؟ لما ترى من سعة قلبي وبُعد مطلبي. وهذا إنما يصح إذا لم يكن في البيت بها

وإذا رددت الكناية في (بها) إلى الليالي بطل ما قال لأن المعنى: أصدري بالليالي وحوادثها، وما تورده علي من مشقة الأسفار وقطع المفاوز، أوسع أم البيداء؟ وأقول: لا يبطل ما قال ابن جني برد الكناية إلى الليالي، وقوله أحسن من قولك! وبها لها في البيت معنى حسن. يقول: من عادات الليالي أن توقع لناقتي الشك، أصدري أوسع أم البيداء؟ أي شيمتها الجور علي وإحواجي إلى السير الطويل في الفلاة الواسعة، فتشكك ناقتي: أصدري أوسع بها، أي بسيرها وأعمالها، أم البيداء؟ وذلك إن الناقة يطول عليها السير، وتتسع بها الفلاة، ويتسع بأعمالها صدري، فتشك أيهما أوسع؟ وإنما ذلك مما تباشره وتعانيه من هذين الأمرين الشاقين، فهو أولى من غيره. ويحتمل أن تكون بها بمعنى فيها، وهو راجع إلى الليالي، أي: لما تشاهده في الليالي من سعة الفلاة، وسعة صدري تشك أيهما أوسع. وقوله: الكامل وكذَا الكريمُ إذا أقامَ بِبَلْدَةٍ ... سَالَ النُّضَارُ بها وقَامَ المَاءُ قال: معنى هذا البيت متصل بالذي قبله لأنه يقول: بياض الثلوج يعمي فقام مقام السواد والبياض، إذا عمل عمل السواد نقض العادة كذلك الكريم إذا أقام ببلدة نقض

العادة، فيجعل الذهب سائلا ويجمد الماء، وإنما قال هذا لأنه في الشتاء عند جمود الماء، ولم يعرف أحد ممن فسر هذا الشعر معنى قوله: وكذا الكريم؛ والتشبيه فيه واتصاله بما قبله. وأقول: قد روي البيت الذي بعده وهو: جَمَد القِطَارُ. . . . . . ... . . . . . . مقدما عليه وهو الصحيح، وإذا كان كذلك فقد اتضح المعنى وزال الإشكال وحسن الاتصال، ولم يُحتج إلى هذا التقدير البعيد والتعسف الشديد! وقوله: الكامل يا أيُّها المُجْدَى عليه نَفْسُهُ ... إذْ لَيْسَ يأتيهِ لها اسْتِجْداءُ أحْمَدْ عُفَاتَك لا فُجِعْتَ بحَمْدِهِمْ ... فَلَتَرْكُ ما لم يأخُذُوا إعْطَاءُ قال: يريد: لا قطع الله شكرهم عنك.

وأقول: اقلب تُصب! يريد لا قطع الله شكرك عنهم؛ لأنهم محسنون إليك بإبقاء روحك عليك، ولهذا قال له: أحمد عفاتك، وقوله: بحمدهم أي بحمدك إياهم على إبقاء روحك إياك وبينه بقوله: . . . . . . ... فَلَتَرْكُ مَا لمْ يأخُذُوا إعْطَاءُ ويحتمل أن يكون الحمد منهم، ويكون دعاء له على إحسانه إليهم، وتكون جملة معترضة لا موضع لها من الإعراب. وقوله: الكامل لا تَكْثُرُ الأمواتُ كَثْرَةَ قِلَّةٍ ... إلاَّ إذا شَقِيَتْ بكَ الأحْيَاءُ قال: أراد بالأموات القتلى الذين ماتوا قبل الممدوح ومعنى شقيت بك: أي بغضبك فقتلك إياهم. يقول: لا تكثر القتلى إلا إذا قاتلت الأحياء وشقوا بغضبك، فإذا غضبت عليهم وقاتلتهم قتلتهم فزدت في الأموات زيادة ظاهرة، ونقصت من الأحياء نقصانا ظاهرا، ولم يفسر أحد هذا البيت كما فسرته. فيقال له: أنت مصدق في قولك: لم يفسر أحد هذا البيت كتفسيرك ولكن في الرداءة لا في الجودة! لكونك جعلت الأموات القتلى من غير على محوجة، واللفظ إذا استقل بالمعنى على ظاهره وعلى الحقيقة لم يحمل على المجاز. والتقدير الصحيح:

لا تكثر الأموات الذين في القبور إلا إذا شقيت بك: أي: بغضبك، الأحياء، كما فسرت، بأن تقتلهم فتُكثر بهم الأموات وتلك الكثرة لا فائدة فيها ولا تأثير بها فهي كالمقلة. وقوله: الكامل وإذا مُدِحْتَ فلا لتُكْسَبَ رِفْعَةً ... للشَّاكرينِ على الإلهِ ثَنَاءُ قال: يقول: بلغت من الرفعة غاية لا تزداد بمدح المادحين علوا، ولكنك تُمد ليؤخذ منك العطاء، وليعد الشاعر في جملة مدّاحك كالشاكر لله تعالى يُثنى عليه ليستحق به أجرا ومثوبة. وأقول: قوله: ولكنك تُمدح ليؤخذ منك العطاء. . . . . . إلى آخره ليس بشيء! والمعنى: إنك تُمدح لا لتكسب بالمدح علوا - وقد جاوزت العلو - ولكن لك نعم على الناس شكرها واجب، فيذكرونها شاكرين لك، وفيها ثناء عليك، كما أن البارئ - سبحانه - إذا شكرت نعمه لا يُكسب بالثناء عليه رفعة فكذلك أنت. وفي هذا قلة تحرج وكثرة غلو. وقوله: المتقارب وهَوْلٍ كَشَفْتَ ونَصْلٍ قَصَفْتَ ... ورُمْحٍ تَرَكْتَ مُبَاداً مُبِيدَا

قال: يقول: ورب هول كشفته عن أوليائك وحزبك، ورب سيف كسرته بقوة ضربك، ورب رمح تركته مهلكا باستعمالك إياه في الطعن. ومبيدا حال من الممدوح، أي: تركته مهلكا في حال إبادتك وطعنك العدو به. ولا يجوز أن يكون نصبه كنصب مبادا لأنه بعد أن صار مبادا لا يكون مبيدا. وجميع من فسر هذا الديوان جعلوا المباد والمبيد للرمح، ومثل هذا قول البعيث: الطويل وإنَّا لنُعْطي المَشْرَفِيَّةَ حَقَّهَا ... فَتَقْطَعُ في أيْمانِنَا وتَقَطَّعُ فيقال له: في قوله: بعد أن صار مبادا لا يكون مبيدا ما تعني بالإبادة؟ إن أردت بها الفناء الذي هو العدم فمستحيل فيه ذلك، كما ذكرت؛ لأن المعدوم لا يُعدم كما إن الموجود لا يوجد. وان جعلتها كناية عن الكسر على طريق المجاز كما يقال للشيخ الكبير: فإن، فذلك جائز ويكون المبيد والمباد كالسبب والمسّبب يجوز فيهما ذلك في حالة واحدة من غير تقديم وتأخير، ولا فرق في اللفظ بين أن تقول كاسر ومكسور أو مكسور وكاسر، ويقال، على هذا، إن كسر الرمح، إنما كان بالطعن، ودخوله في المطعون ففي ذلك الوقت حصلت الإبادة من الرمح والمطعون معا؛ هذا بالحطم وهذا بالقتل، ويكون قد أصاب جميع من فسر المباد والمبيد للرمح. وقوله: المنسرح يَجْذِبُها تحت خَصْرِهَا كفَلٌ ... كأنه من فِراقِهَا وَجِلُ

قال: اخطأ في تفسير النصف الثاني ابن جني وابن دُوست. قال ابن جني: كأن عجزها وجل من فراقها، فهو متساقط متحرك، قد ذهبت منته وتماسكه. وإنما يصير العجز بالصفة التي وصف عند الموت، وما دامت الحياة باقية فلا يصير العجز متساقطا ذاهب المُنة. وقال ابن دوست: عجزها يجذبها إلى القعود، كأنه خائف من فراقها فيقعدها بالأرض. وهذا افسد مما قاله ابن جني، ومتى يوصف العجز بالخوف من فراق صاحبه؟ وأين رأى ذلك؟ ولكنه أراد وصف عجزها بكثرة اللحم، وتحرك اللحم عليه لكثرته، فشبهه في ارتعاده واضطرابه بخائف من فراقها، والخائف يوصف بالارتعاد، وكذلك العجز إذا كثر لحمه كما قال: الوافر إذا مَاسَتْ رَأْيتَ لها ارِتْجَاجَا ... . . . . . . وأقول: لم يخطئ ابن دوست، وإنما قصّر في البيان وعن الاتمام، وفي قوله إشارة إلى عظم العجز ودقة الخصر، وذلك إنها إذا أرادت القيام أبطأت فيه لثقل عجزها ودقة

خصرها، فجعل عجزها كأنه - في إقعادها عن القيام ومسكها - خائف أن ينفصل منها ويفارقها لثقله ودقة خصرها. فإن جعل الارتجاج في الردف استعارة للخوف، وإمارة عليه فهو تمام لما ذكره، وان جعله للخائف من فراقها، كما ذكره، ولم يرد ما ذكره ابن دوست، فهو مقصّر كغيره مخطئ لنقص الاستعارة. فمجموع قوله، وقول ابن دوست كمال المعنى، وهو من قول الأعشى: البسيط صِفْرُ الوِشَاح ومِلءُ الدِّرْعِ بَهْكَنَةٌ ... إذا تأتَّى يَكادُ الخَصْرُ ينخرِلُ أي: إذا تهيأت للقيام يكاد خصرها ينقطع. وقوله: المنسرح أصْبَحَ مَالاً كَمَالِهِ لذَوِي ال ... حاجَةِ لا يُبْتَدَى ولا يُسَلُ قال: أي: يغنيهم بنفسه وماله، فهو لهم مال، كما أن ماله يؤخذ بلا إذن، كذلك الاستئذان في الدخول عليه، وكل من ورد عليه اخذ ماله بلا ابتداء ولا مسالة من الوراد.

وأقول: ليس للاستئذان في الدخول عليه ذكر ولا وجه! وإنما يصفه بكثرة الجود والسخاء. يقول: إنه للمحتاج مال يأخذه ويملكه من غير ابتدائه بسؤال كما قد عُلم ذلك من ماله. وهذا المعنى مطروق، كثير، منه قول مسلم: البسيط يَجُودُ بالنَّفْسِ إنْ ضَنَّ الجَوادُ بِهَا ... والجُودُ بالنَّفْس أقْصَى غَايةِ الجُودِ وقوله: المنسرح هَانَ على قلبهِ الزَّمَان فَمَا ... يَبِينُ فيه غَمٌّ ولا جَذَلُ قال: هذه صفة الكامل العقل، الذي يستخف بالنوائب والحوادث؛ لعلمه إنها لا تُبقي لا الغم ولا السرور فلا يُتبين لهما فيه اثر، فلا يبطر عند السرور، ولا يجزع عند ما يُحزنه. وأقول: إنه لم يجد العبارة مع التطويل! وأجود منها أن لو قال: هذا الممدوح علم بأحوال الدهر وتغيرها فهان عليه أمرها فلا يبين به في الشدة غم ولا في الرخاء سرور، وهذا كقول أمير المؤمنين - عليه السلام -: الزهد كله في كلمتين من القرآن وهما قوله تعالى: (لِكَيْلا تأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ (؛ لأنه من لم يأس على الماضي ولم يفرح بآلاتي فقد أخذ الزهد بطرفيه.

وقوله: المنسرح خَامَرَهُ إذْ مَدَدْتَها جَزَعٌ ... كأنَّهُ من حَذاقةٍ عَجِلُ قال: خالط الطبيب لما مددت يدك للفصد جزع من هيبتك، فعجل في الفصد ولم يتأن؛ كأنه عجل من حذقه. قال: ومن روىعجلعلى المصدر أراد: كأنه ذو عجل من حذقه فحذف المضاف. وأقول: الجيد أن لا يُقدر حذف المضاف، ولا يجعل الضمير راجعا إلى الطبيب ولكن إلى قوله: جزع. يقول: كأن ذلك الجزع عجل وليس به. وقوله: الوافر ويا ابنَ الضَّاربين بكُلِّ عَضْبٍ ... من العَرَبِ الأسافِلَ والقِلالا قال: يريد بالأسافل الأرجل وبالقلال الرؤوس، وهو جمع قلة رؤوس الجبال فجعلها رؤوس الرجال. وأقول: إن تخصيصه بذلك الضرب للعرب دون غيرهم قد ذكرته فيما قبل.

وقوله: الوافر إذا وَطِئَتْ بأيْدِيهَا صُخُوراً ... يَفِئْنَ لِوَطْءِ أرْجُلِهَا رِمَالا ويروى: بقين. وهذا كما قال ابن المعتز: الطويل وأقول: يُحتمل أن يكون أراد: إذا وطئت بأيديها صخوراً اندقت فصارت حصى فإذا وطئتها بأرجلها صارت رمالا، فتكون من عند الأرجل كما قال ابن المعتز. وقوله: الرمل ما بِهِ قَتْلُ أعَاديهِ ولكِنْ ... يَتَّقِي إخْلاَفَ ما تَرْجو الذِّئَابُ قال: يقول: ليس له مراد في قتل الأعداء لأنه قد أمنهم بقصورهم عنه، ولكنه يحذر أن يخالف رجاء الذئاب، وما عودها من إطعامه إياها لحوم القتلى؛ أي: فلذلك يقتلهم.

وأقول: هذا مثل قوله: الكامل سَفَكَ الدِّمَاَء بجُودِهِ لا بأسِهِ ... كَرَماً لأنَّ الطَّيْرَ بَعْضُ عِيَالِهِ وكلاهما من قول مسلم؛ إلا إنه زاد عليه فيهما أحسن زيادة: البسيط قد عَوَّدَ الطَّيْرَ عَادَاتٍ وَثِقْنَ بها ... فَهُنَّ يَتْبَعْنَهُ في كُلِّ مُرْتَحَلِ وقول أبي نواس: المديد تتأيَّا الطَّيْرُ غدوَتَهُ ... ثِقَةً بالشِّبْعِ من جَزَرِهْ وقوله: الكامل سَبَقَ التِقاَءكَهُ بوَثْبِة هَاجِمٍ ... لو لَمْ تُصَادِمْهُ لجَازكَ مِيلاَ قال: يقول: عجل الأسد بوثبته على ردف فرسك، قبل التقائك معه فهجم عليك بوثبة فلو لم تصكه لجازك ميلا. وأقول: هذا ليس بشيء، والمعنى في قوله: سبق التقاءكه: يعني إنه وثب عليك أولا فتلقيته بضربة السوط؛ فلو لم تصادمه بتلك الضربة لجازك ميلا. يصف قوة الأسد

في هجومه عليه بشدة تلك الوثبة، وقوة الممدوح بشدة تلك الضربة، ولا يكون الالتقاء بالضرب إلا بعد الوثوب؛ ليجتمع بالمصادمة قوة الوثوب وقوة الضرب فيحصل التأثير باجتماعهما ما لا يحصل بالانفراد. وقوله: الكامل خَذَلَتْهُ قُوَّتُهُ وقد كافَحْتَهُ ... فاسْتَنْصَرَ التَّسْلِيمَ والتَّجدِيلا قَبَضَتْ مَنِيَّتُهُ يَدَيْهِ وعُنْقَهُ ... فكأنَّما صَادَفْتَهُ مَغْلُولا قال: أساء أبو الطيب في هذا حيث لم يجعل أثرا للممدوح، ولا غناء في قتل الأسد. وقال: كأنما كان مغلول اليد والعنق بقبض المنية عليه. فيقال له: وأي غناء أوفى من التقائه له بسوطه، وصكه به تلك الصكة التي لو لم تصادمه لجازه ميلا وهل يكون غناء أو قوة أو شجاعة أوفى من ذلك؟ وإنما قال: قَبَضَتْ مَنِيَّتُهُ يديهِ وعُنْقَهُ ... . . . . . . لما قال قبله: خذلته قوته خوفا منك وقد كافحته؛ أي قابلته وجها لوجه: . . . . ... فاستَنْصَرَ التَّسْلِيمَ والتَّجْدِيلا أي: رأى إن قتاله لك لا يُغني عنه ولا ينجي منك فرأى النصر عليك في التسليم لك، وذلك أن بدرا لم يقتله وإنما قتله عسكره وهذا مثل قوله: الطويل أعَدُّوا رماحاً في خُضُوعٍ. . . . . . ... . . . . . .

والتجديل: سقوطه على الجدالة، وهي الارض، لسقوط قوته، وكل هذا من جهة الممدوح، فكأن الأسد لما لم يُغن شيئاً في قتالك، وحل به ما حل منك، قبضت منيته، التي أنت سببها، يديه وعنقه فكأنك صادفته مغلولا لذلك. وهذا في ظني ابلغ ما يُحتج به عنه ويُعتذر له به. وقوله: الوافر أرَى حُلَلاً مُطَوَّاةً حِسَاناً ... عَدَاني أنْ أرَاكَ بها اعْتِلالي قال: إنما قال هذا لأنه رأى الحلل مطوية إلى جانبه ولم يره فيها؛ لأنه كان ذلك اليوم الذي لبس فيه الخلعة عليلا. ومعنى: أراك بها أي: أراك وهي عليك ومعك كما يقال: ركب بسلاحه وخرج بثيابه. فيقال له: أسهل من هذا التقدير أن تكون بها بمعنى فيها، وقد قال ذلك في شرحه وقوله: مطوية إلى جانبه ولم يره فيها. ويكون كقول الأعشى: الخفيف ما بُكاءُ الكبيرِ بالأطْلالِ ... . . . . . . ولكنه أراد الإغراب في الإعراب!

وقوله: الكامل الحبُّ ما مَنَعَ الكلامَ الألْسُنَا ... وألذُّ شَكْوَى عَاشِقٍ ما أعْلَنَا قال: يروى بفتح السين وضمها، وتكون ما بمعنى الذي، والمعنى: غاية الحب ما منع لسان صاحبه من الكلام، فلم يقدر على وصف ما في قلبه منه؛ كقول المجنون: الطويل شكوتُ إليها الحُبَّ قالَتْ: كَذَبْتَني ... فما لي أرَى الأعْضَاَء منك كَواسِيَا فَمَا الحُبُّ حَتَّى يَلْصَقَ الجِلْدُ بالحَشَا ... وتَخْرَسَ حتى لا تُجِيبَ المُنَادِيَا ثم قال: والظاهر أن ما نفي لان المصراع الثاني حث على إعلان العشق، وإنما يعلن من قدر على الكلام - وأنشد أبياتا على ذلك منها قول أبي نواس: الطويل فَبُحْ باسِمْ من تَهْوَى وَدَعْنِي من الكُنَى ... فلا خَيْرَ في اللَّذاتِ من دُونها سِتْرُ وأقول: بل الظاهر هو المعنى الأول، وقيل فيه وجهان: أحدهما: ما ذكر من أن يكون الحب قد بلغ بالعاشق إلى حال لا يقدر فيه على

الكلام من النحول والضعف. والثاني، وهو المختار: أن يكون الحب ما أوجب على العاشق الكتمان، ويكون في النصف الأول مضادة للنصف الثاني وهي قوله: . . . . . . ... وأَلَذُّ شَكْوَى عَاشِقٍ ما أعْلَنَا كأنه يقول: العاشق بين أمرين متضادين: الحب يوجب الكتمان، ولذة العشق تقتضي الإعلان، فالعاشق حائر بينهما. وقوله: الكامل بِنَّ فَلَوْ حَلَّيْتَنَا لم تَدْرِ ما ... ألوانُنَا مما امْتُقِعْنَ تَلَوُّنَا قال: يقول: فارقنا أحبابنا، فلو أردت أن تُثبت حليتنا لم تدر ألواننا لتغيرها عند الفراق، فكنت لا تدري بأي شيء تصفها. وأقول: يحتما أن يكون: بنا بمعنى: بدونا وظهرنا كقوله: الطويل يَرَى أنَّ ما ما بانَ منه لِضَاربٍ ... . . . . . . يقول: ومع ذلك فلو أردت تحلية لنا، لم تدر بأي صفة تصفنا بها لتغير ألواننا، وهذا المعنى أولى وأبلغ لأنه مع الرؤية لا يتحقق الوصف.

وقوله: الكامل نَفَتِ التَّوهُّمَ عنه حِدَّةُ ذِهْنِهِ ... فَقَضَى على غَيْبِ الأمور تَيَقُّنَا قال: هذا كأنه اعتذار له مما ذكره من إقدامه، فذكر أن فطنته تقفه على عواقب الأمور؛ حتى يعرفها يقينا لا توهما. وأقول: ليس هذا اعتذار له مما ذكره من شدة إقدامه وإيغاله بالطعن في أعدائه، ولا بينه وبين البيت الذي قبله تعلق، ولو كان كما قال: إنه يطّلع في حال إقدامه على عواقب الأمور، بأنه يظفر ويقتل ولا يُقتل؛ لم يكن في ذلك كبير فضيلة؛ بل لا فضيلة فيه رأسا. ولكن هذا البيت قائم بنفسه، منفصل من غيره، فيه وصفه له بالذكاء وصحة الفراسة، وحدة الذهن، وانه يقضي على الغائبات يقينا، لا حدسا وتخمينا. وقوله: الكامل عَقَدَتْ سَنَابِكُهَا عليها عثِيْرَاً ... لو تَبْتَغي عَنَقاً عليهِ أَمْكَنا أقول: لو أتى باللام في قوله: أمكنا لكان أحسن من وجهين: أحدهما: إنه جواب لو. والثاني: قولك: عليه مال أحسن من قولك: عليهي مال لما ذكره أبو علي.

وقوله: الكامل أضْحَى فراقُكَ لي عَلَيْهِ عُقُوبَةً ... ليس الذي قاسَيْتُ منه هَيِّنَا قال: إن الضمير في عليه راجع إلى قوله فيما قبله: الكامل فَطَنَ الفُؤَادُ لما أتيتُ على النَّوَى ... . . . . . . أي إنه اعترف بتقصير منه. أقول: يحتمل أن الضمير راجع إلى قوله: فراقك بل هو الواجب، وقد ذكرته قبل. وقوله: الكامل ومكائدُ السُّفَهَاءِ وَاقِعَةٌ بهم ... وعَداوةُ الشُّعراءِ بئس المُقْتَنَى أقول: إن في هذا البيت والذي بعده تخويفا وترهيبا لبدر من عداوة الشعراء ومقارنة اللئيم الذي يصحب الكريم فيكسبه من سوء أخلاقه لآمة وندامة خوفا من أن يفرط إليه أذى من جهته. وهذا لم يذكره الواحدي ولا غيره.

وقوله: الطويل علَى أنَّني طُوِّقتُ منكَ بنعمَةٍ ... شهيدٌ بها بَعْضي لغَيْري على بَعْض قال: يريد: انصرف عنك مع انك قلدتني نعمة يشهد بها بعضي على بعضي. وأقول: لا يقدر محذوف في الكلام إذا استقل بالمعنى من غير تقدير محذوف، والتقدير قد ذكرته فيما قبل. وقوله: المنسرح سَأشْرَبُ الرَّاحَ من إشارتها ... ودَمْعُ عَيْني في الخَدِّ مَسْفُوحُ قال: إنما يبكي كراهة للشرب ولكنه لا يمكنه مخالفة إشارتها. فيقال له: لم يبك كراهة للشرب وإنما بكى للعشق؛ لأنه جعل اللعبة بمنزلة الجارية، وقد قال: المنسرح جَارِيةٌ ما لِجْسمِهَا رُوحُ ... في القَلْبِ من حُبِّهَا تَبَارِيحُ

فهذا التفسير الذي فسره تغفل عن شيء قريب المتناول، وتكلف لشيء بعيد الامتناع، لأن المتنبي ما كان ليكره الخمر ويمتنع من شربه فيبكي إذا فعله! وقوله: الخفيف وكَفَتْكَ الصَّفَائِحُ الناسَ حتى ... قد كَفَتْكَ الصَّفَائحَ الأقلامُ قال: قال ابن جني: استغنيت بسيوفك عن نصرة الناس لك. وليس المعنى على ما ذكر. يقول: هاب الناس سيوفك فكفوا عنك، ولم تحتج إلى قتالهم، ثم صرت إلى إن كفتك الأقلام السيوف لما استقر لك من الهيبة في قلوب الناس. وقال ابن دوست: كفتك سيوفك الناس، من العساكر وغيرها، حتى استغنيت عنهم ولم تحتج اليهم. وهذا أيضا ضعيف لان السيوف تحتاج إلى من يحملها لتحصل بها الهيبة، وهي بمجردها لا تكفيه الناس. والمعنى ما ذكرنا. وأقول: المعنى على ما ذكر ابن جني: يقول: كفتك الصفائح؛ أي سيوفك نصرة الناس. والذي يدل عليه القسم الثاني من

البيت وهو قوله: . . . . . . حَتَّى ... قد كَفَتْكَ الصَّفَائِحَ الأقْلامُ أي: كفتك الأقلام نصرة السيوف، أي: استغنيت بسيوفك عن الناس، وبأقلامك عن السيوف وكذلك تقدير البيت الثاني. وقول ابن دوست هو قول ابن جني بعينه، واعتراضه عليه بأن السيوف تحتاج إلى من يحملها لتحصل الهيبة. فيقال له: هو يحملها وحده، كالأقلام، ولا يلزم أن يحملها جميعها في مرة واحدة بل يحملها على البدل! وقوله: الوافر عَدُوِّي كُلُّ شيءٍ فيكَ حَتَّى ... لَخِلْتُ الأكْمَ موغَرَةَ الصُّدورِ ذكر فيه ابن جني وجهين ردهما ابن فورجة وقد ذكرتهما قبل، وذكر وجها ثالثا من عنده، ذكره الواحدي وسكت عليه كأنه راض به، وهو إن قال: والذي يعني أبو الطيب، ان كل شيء يعاديه حتى الأكمة، التي هي شخص بلا عقل، معادية له، وإن لم يظهر منها ما يوجب ذلك، كما يقول الرجل الخائف: أخاف الجدار وأخاف كل شخص ماثل. وإن لم يظهر من الحائط ما يستريب به، وإنما يريد بذلك المبالغة في الخوف.

وأقول: هذا ليس بشيء. وإنما خص الأكم لارتفاعها، ولو أمكنه أن يقول الجبال لقال. يقول: عدوي فيك كل شيء رفيع حتى الأكم لأنها تحسدني على سموي ورفعتي لكونها دوني في ذلك، وقد ذكرته قبل. وهذا كقوله: البسيط صَحِبْتُ في الفَلَواتِ الوَحْشَ مُنْفَرِداً ... حتى تَعَجَّبَ مني القُورُ والأكَمُ وإنما خص القور والاكم دون ما انخفض من الأرض واستوى للمناسبة التي بينه وبينها في ارتفاع. وقوله: البسيط ألْقَى الكِرامُ الأُلَى بادوا مَكَارِمَهُمْ ... على الخَصِيبيِّ عند الفَرْضِ والسُّنَنِ فهنَّ في الحَجْرِ منه كلَّمَا عَرَضَتْ ... له اليَتَامَى بَدَا بالمَجْدِ والمِنَنِ قال: يقول: فالمكارم في حجره يربيها وكلما عرضت الأيتام بدأهم باستعمال المجد فمن عليهم، واحسن اليهم، وإنما ذكر اليتامى لأنه يمدح قاضيا، والقضاة يتكلفون أمر الأيتام!

قال: وأطال ابن فورجة الكلام في معنى البيتين. وذلك إنه قال: يعني أن المكارم قل طالبوها، وكان لها من الكرام آباء كفلوها هذا الممدوح لأنه قاض، والقضاة تتكفل اليتامى فجعلوه كفيلها فهو يربيها مع سائر الأيتام! غير إنه يؤثر المكارم بحسن التربية على سائر الأيتام وهذا معنى: . . . . . . كلَّمَا عرضَتْ ... له اليَتَامَى بَدَا بالمَجْدِ والمِنَنِ أراد بذلك المكارم فأقام المجد والمنن مقامها لأنهما في معناها. قال: وهذا كلامه وهو تكلف من لم يعرف المعنى. فيقال له: المعنى ما ذكره ابن فورجة لا معنى سواه. فيقول: إن المكارم كاليتامى في فقد من تنتسب إليه من الكرام. إلا إنه كان ينبغي له أن يجعل في موضع قوله: إن المكارم قل طالبوها وكان لها من الكرام آباء كفلوها هذا الممدوح لأنه قاض، فكأن هذا الممدوح كفيلها، لأنه قاض، والباقي منهم والأولى بها. والذي ذكره ليس بشيء وكلام من لم يعرف المعنى. وقوله: البسيط قَاضٍ إذا الْتَبَسَ الأمْرَانِ عَنَّ لَهُ ... رَأيٌ يُخَلِّصُ بين المَاءِ واللَّبنِ

أقول: أنشدني الشيخ الوجيه الضرير النحوي لنفسه في هذا المعنى: الطويل وَلَوْ وَقَعَتْ في لُجَّةِ البَحْرِ قَطْرَةٌ ... من المُزْنِ يوماً ثم شَاَء لمَازَهَا ولو مَلَكَ الدُّنيا فأضْحَتْ مُلوكُهَا ... عَبِيداً في الخَافِقَيْنِ لَمَا زَهَا وقال: قولي في هذا أبلغ من قول المتنبي؛ لأن ماء القطر لا يمكن تمييزه من ماء البحر إذا خالطه، والماء يمكن تخليصه من اللبن بالقش يُلقى فيه فيشرب الماء ويبقى اللبن. وأقول: وهذا شيء لم أجربه إلى الآن فاعلم صحته!! وقوله: البسيط لم نَفْتَقِدْ بكَ من مُزْنٍ سِوَى لَثَقٍ ... ولا من البَحْرِ غيرَ الرِّيحِ والسُّفُنِ قال: يقول: لم نفتقد بجودك من السحاب سوى الوحل الذي يكون من مائه ولا من ماء البحر غير الريح والسفن التي لا يمكن عبور البحر الا بهما. والمعنى: إنه سحاب وبحر. وأقول: اللثق: هو الندى والبلل، يقال: لثق الشيء بمعنى ابتل، وطائر لثق: مبتل. والمعنى: إنه يفضل السحاب والبحر لان السحاب، مع نفعه، قد يؤذي بالبلل، والبحر يتكلف له ويكون الإنسان معه وفيه على خطر، وليس كذلك الممدوح.

وقوله: البسيط ولا من اللَّيْثِ إلاَّ قُبْحَ مَنْظَرِهِ ... ومن سِوَاهُ سِوَى ما لَيْسَ بالحَسَنِ قال: يقول: وجدنا بك كل شيء إلا ما كان قبيحا. يعني أن جميع محاسن الدنيا مجتمعة فيه، وجميع المقابح منفية عنه. وأقول: أراد فقدنا بك من الليث قُبح المنظر، أي: الذي ليس بحسن، ولم نفقد بك من سوء الليث سوى الذي ليس بحسن، أي: لم نفقد الحسن، وفي هذا نفي قُبح الأسد عنه وإثبات ما سواه من شجاعته وحميته، واثبات المحاسن جميعها له. وقوله: الطويل ألا لاَ أُرِي الأحْدَاثَ حَمْداً ولا ذَمَّا ... فَمَا بَطْشُهَا جَهْلاً ولا كَفُّهَا حِلْمَا قال: يقول: لا أحمد الحوادث السارة ولا أذم الضارة، فأنها إذا بطشت بنا وأضرب لم يكن ذلك جهلا منها، وإذا كفت عن الضرر لم يكن ذلك حلما، يعني أن الفعل في جميع ذلك لله لا لها، وإنما تنسب الأفعال إليها استعارة ومجازا. وأقول: إنه أراد بذلك وصف الأحداث بصفات الخُرق والجهل - استعارة ومجازا -

أي: أن بطشها وكفها، وحربها وسلمها عن غير قصد. وهذا كقوله: البسيط لكنَّهَا خَطَراتٌ من وساوسهِ ... يُعْطي ويَمْنَعُ لا بُخْلاً ولا كَرَمَا وقول زهير: الطويل رأيتُ المنَايَا خَبْطَ عَشْوَاَء من تُصِبْ ... تُمِتْهُ، ومن تُخْطِئْ يُعَمَّرْ فَيَهْرم وقوله: الكامل مَمْطُورَةٌ طُرُقي إليه ودونَهُ ... من جُودِهِ في كلِّ فَجٍّ وَابِلُ قال: يعني أن طريقه إلى الممدوح مملوءة بآثار بره. ويروى: إليها دونها؛ رواه ابن جني والضمير للرؤية. والمعنى: يصل إلي إحسانه قبل الوصول إليه.

وأقول: إن هذا البيت والذي قبله وهو قوله: الكامل . . . . . . رؤ ... يَتُهُ المُنَى وهي المَقَامُ الهَائِلُ تبين لما قبلهما من قوله: الكامل . . . . . . فما لذيذٌ خالصٌ ... مما يَشُوبُ ولا سُرورٌ كَامِلُ فجعل جود الممدوح كالوابل، فالطرق دون الوصول إليه ممطورة به، والسير في حال المطر كلفة ومشقة، ورؤيته منى الزائر، إلا أنها هائلة له، فما خلصت لذة المطر والسرور به ورؤية الممدوح والانتفاع بها من شوب يُنغصه. وأراد بذلك المبالغة، وهذا لا يدل على نقص في المدح، ولا نقص في الممدوح؛ ولكنه وصفه بصفتين فيه من اجتماع الجود والهيبة له، ولم يُرد أن إحداهما تنقص الأخرى؛ لأنه لو انفردت كل واحدة منهما لكانت له فضيلة، فكذلك إذا اجتمعتا. فشوب اللذيذ، ضرب له مثلا من جوده بتشبيهه بالوابل للسائر إليه وما يقاسي منه. وعدم كمال السرور، ضرب له مثلا برؤيته الحسنة النافعة، وهيبته الهائلة المانعة؛ إلا إنه أغرق وأسرف في البيت الذي يليه من قوله: الكامل محجوبَةٌ بِسُرَادِقٍ من هَيْبَةٍ ... تَثْنِي الأزِمَّةَ والمَطِيُّ ذَوَاملُ

فجعل رؤيته محجوبة بسرادق من هيبة تثني أزمة مطي القاصدين إليه والوافدين عليه في حال ذم لأنها، وهي شدة سيرها، أي: تردها عنه خوفا منه. وهذا، كما قال الواحدي، إلى الهجاء اقرب منه إلى المدح، إلا على رأي ابن جني فقد تكلف تصحيحه وأقول: إن أبا الطيب مديحه في جميع شعره أجود من غزله، إلا في هذه القصيدة فانه جاء فيها بما يخالف المعهود منه. وقوله: البسيط وتَسْحَبُ الحِبَرَ القَيْنَاتُ رافِلةً ... في جُودِهِ وتَجُرُّ الخَيْلُ أرْسَانَا قال: يريد أن جميع ما تنفقه من ماله وما تلبسه الجواري وترفل فيه من ثياب الحبر من جوده. وكذلك ما تجر خيلنا من الأرسان. وأقول: هذا كلام من لم يفهم هذا المعنى مع وضوحه! والمعنى إنه يهب الجواري وعليهن الحبر، والخيل وعليهن الأرسان. وهو من قول النابغة: البسيط

الوَاهِبُ المئةَ الأبكارَ زَيَّنَها ... سَعدانُ تُوضِحَ في أوبارِهَا اللِّبَدِ والسَّاحباتِ ذُيولَ الرِّيْط فَنَّقَهَ ... بَرْدُ الهَوَاجِر كالغِزْلانِ في الجَرَدِ وقوله: البسيط خَلائِقٌ لو حَوَاهَا الزَّنْجُ لانْقَلَبُوا ... ظُمْيَ الشِّفَاهِ جِعَادَ الشَّعْرِ غُرَّانَا قال: يريد بالخلائق الخلق، جمع الخليقة، وهي الخلق، وليس يريد السجايا لأن السجايا الحسان قد تكون في الصورة القبيحة، والزنج لا يجتمع فيهم بياض الوجه مع جعودة الشعر ورقة الشفاه؛ لان شفاههم غليظة وهو سود الألوان. ومعنى: ظمى الشفاه: رقاق الشفاه كأنها لم ترو فتغلظ. والمعنى: لو أن خلقهم للزنج لحسنوا مع جعودة شعرهم فكانوا احسن خلق الله، وهذا معنى قد ذكرناه؛ إلا أن الخليقة بمعنى الخلقة لا يصح، وإذا حملنا الخلائق على السجايا فسد معنى البيت لأن الخلقة لا تتغير بالسجية. فيقال له: أن الخليقة بمعنى الخلقة لا يصح كما ذكرته وقدرته. ويصح أن تُحمل الخلائق على السجايا ولا يفسد المعنى، وهو الذي أراده أبو الطيب، وذلك على وجه المبالغة؛ يقول: إن خلائقهم لو حواها الزنج الذين يوصفون بالقبح لوصفوا بالحسن، واستجمعوا هذه الأشياء المتضادة فجعل خلائقهم تؤثر في الخلقة، حتى تجعل القبيح الصورة حسنا، فالمعنى على هذا صحيح غير فاسد.

وقوله: الكامل أوْفَى فَكُنْتُ إذا رَمَيْتُ بِمُقْلَتي ... بَشَراً رأيتُ أرَقَّ من عَبَراتِهَا ذكر أن الضمير في عبراتها للمقلة ثم قال: ويجوز أن يكون الضمير للبشر. وأراد بالعبرات عرقهن الذي يسيل منهم، ويكون فيه إشارة إلى أنهن قد عرقن من الإعياء. فيقال له: يجوز أن يكون الضمير في عبراتها للبشر كما ذكرت، ولا يريد بالعبرات عرقهن بل دموعهن حزنا وجزعا عند الفراق، ويُحمل الكلام على الحقيقة وهو الوجه السديد لا على المجاز الغريب البعيد. وقوله: الكامل لَيْسَ التَّعَجُّبُ من مَوَاهِبِ مَالهِ ... بل من سَلامَتِهَا إلى أوقاتِهَا قال: يقول: لسنا نتعجب من كثرة مواهبه وعطاياه، وإنما نتعجب كيف سلمت من بذله وتفريقه إلى أن وهبها لأنه من عادته الإمساك. ومعنى: إلى أوقاتها: إلى أوقات بذلها.

وأقول: في هذا اخذ على الممدوح في اجمام ماله وترك تفريقه ولم يعتذر له. والجواب: إنما أخره انتظارا لمستحق فلما وجده أخرجه مرة واحدة، فدل على أن ترك تفريقه واجمامه إنما كان انتظارا لمستحقه، وليس هو من بخل. وقوله: الكامل كَرَمٌ تَبَيَّنَ في كَلامِكَ مَاثلاً ... ويَبينُ عِتْقُ الخَيْلِ في أصْوَاتِهَا قال: الماثل: الظاهر. يقول: إذا سمع إنسان كلامك عرف كرمك، كما أن الفرس الكريم إذا صهل عرف عتقه بصهيله. والمعنى: إن كلامك أمر بالعطاء ووعد بالإحسان وما أشبه ذلك مما يدل على كرمك. وأقول: هذا وهم منه إذ توهم أن الكرم هاهنا الجود والعطاء والوعد بالإحسان. وإنما الكرم هاهنا جودة النفس وكرم الاصل، وذلك إنه وصفه قبل هذا بجودة القراءة وحسن الترتيل حتى جعل ذلك آية، ثم قال: كَرَمٌ تَبَيَّنَ في كَلامِكَ. . . . . . ... . . . . . .

أي: جودة نفسك وكرم أصلك يبين في حسن صوتك كما يبين عتق الخيل، أي: كرمها، في أصواتها وذلك كقول الشاعر: المتقارب ويَصْهِلُ في مِثْلِ جَوْفِ الطَّوِيِّ ... صَهِيلاً يُبَيَّنُ للمُعْرِبِ وقوله: الطويل ولا يَنْفَعُ الإمْكَانُ لَوْلاَ سَخَاؤهُ ... وهَلْ نافِعٌ لوْلاَ الأكُفُّ القَنَا السُّمْرُ قال: يقول: لولا سخاؤه ما انتفع الناس بإمكانه وغناه؛ لأنه قد يكون الإمكان مع الشح فلا ينفع. والمعنى: إن الوجود لا ينفع بلا جود كالرماح لا تنفع ولا تعمل بلا راح. وأقول: الأولى أن يكون النفع راجعا إليه لا إلى الناس كما ذكرته قبل. وقوله: الطويل كأنَّكَ بَرْدُ الماءِ لا عَيْشَ دونَهُ ... ولو كُنْتَ بَرْدَ الماءِ لم يَكُنِ العِشْرُ قال: العشر: أبعد إظماء الإبل.

يقول: لو كنت الماء لوسعت، بطبع الجود، كل حيوان في كل مكان، وفي ذلك ارتفاع الإظماء. ويجوز أن يقال: لو كنت برد الماء لما عاودت غلة أطفأتها. وقال ابن جني: حتى كانت تتجاوز المدة في وردها العشر لغنائها بعذوبتك وبردك. وأقول: انظر إلى هذا التفسير الذي هو خبط عشواء في ظلماء من قوله: لارتفعت الإظماء! وأبو الطيب إنما نفى العشر وهو أحد إظماء الإبل وآخرها فكيف ينتفي الجميع؟ وكان ينبغي على هذا أن يقول: لم يكن الغب أو الثلث؛ لأنه إذا نفى ذلك انتفى ما فوقه. وإيراده قول ابن جني، وهو ضد المعنى، دليل على إنه غير واثق بوجهيه المظلمين، والمعنى قد ذكرته في شرحه. وقوله: الوافر أعَزْمي طالَ هَذا اللَّيلُ فانْظُرْ ... أمِنْكَ الصُّبْحُ يَفْرَقُ أَنْ يَؤوبَا قال: قال ابن فورجة: أراد: لعظم ما عزمت عليه، ولشدة الأمر الذي هممت به كان الصبح يفرق من عزمي ويخشى أن يصيبه بمكروه فهو يتأخر عنه ولا يؤوب.

وقال العروضي: يخاطب عزمه، يقول: انظر يا عزمي: هل علم الصبح بما اعزم عليه من الاقتحام فخشي أن يكون من جملة أعدائي؟ وأقول: ويحتمل أن يكون المعنى إن الصبح لما عوده من إغارتي فيه، وإثارتي عجاج الخيل حتى أرده مظلما كالليل، خاف أن يؤوب لذلك؛ فخاطب عزمه وسأله لأن ذلك إنما يكون به. وهذا وجه ظاهر كثير في الكلام، مستعمل، فهو أولى مما ذكراه أو أراده فجمجما عنه ولم يبيناه! وقوله: الوافر أَيَا مَنْ عَادَ روحُ المَجْدِ فيهِ ... وصَارَ زمَانُهُ البَالي قَشِيبَا قال: قال ابن جني: معناه: أي: روح المجد انتقل إليه فصار هو المجد على المبالغة. وقال غيره: يا من عاد روح المجد في المجد. يعني إن المجد كان ميتا فعاد به حيا وعاد الزمان، الذي كان باليا، جديدا. وأقول: قول ابن جني هو الأولى من جانب اللفظ لأنه لا يفتقر إلى تقدير محذوف، وقول غيره يفتقر اليه، فيقال: أيا من عاد روح المجد في المجد به أو بجوده أو ما أشبه ذلك.

وقوله: الطويل سأطلبُ حَقِّي بالقَنَا ومشَائخٍ ... كأنَّهُمُ من طُولِ مَا الْتَثَمُوا مُرْدُ قال: أراد إنه يطلب حقه بنفسه وبغيره، فكنى بالقنا عن نفسه وبالمشائخ عن أصحابه. وأقول: لم يكن بالقنا عن نفسه، وإنما كنى بها عن الحرب؛ أي اطلب حقي، وهو أشبه بالمعنى، بالإباء والقهر والقتال، لا بالتذلل والتضرع والسؤال كما يفعل السائل. وقوله: الطويل ويُنْفِذُهُ في العَقْدِ وهو مُضَيَّقٌ ... من الشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ واللَّيلُ مُسْوَدُّ وأقول: إن أبا الطيب أتى في هذا من المبالغة بما لم يكد يأتي لغيره وذلك إنه قال: وينفذه يعني السهم، والرمي منه نافذ وغير نافذ، فبالغ بذكر الإنفاذ.

ثم قال: في العقد وهو مضيّق والعقد يكون منه مضيّق وغير مضيّق فبالغ بذكر المضيّق ثم قال: من الشعرة والعقد يكون في الشَّعرة وفي غيرها من خيط وحبل فبالغ بذكر الشعرة ثم قال: السوداء والليل مسود فبالغ بذكر السوداء في الليل لخفائها. ولم يقنع بذلك حتى وصف الليل بالاسوداد، ومثل هذا قول الأعشى: الكامل كنتَ المُقَدَّمَ غير لاَبِسِ جُنَّةٍ ... بالسَّيفِ تَضْرِبُ مُعْلِماً أبْطَالَهَا وذلك إنه قال: كنت المقدم فبالغ لأن من الفرسان من يكون متقدما وغير متقدم. ثم قال: غير لابس جنة فبالغ في الإقدام لأن من الشجعان من يكون لابس جنة. ثم قال: بالسيف فبالغ لان منهم من يطعن بالرمح، وهو دون الضرب بالسيف. ثم قال: معلما فبالغ لأنه لا يُعلم إلا كل مشهور بالبأس. ثم قال: أبطالها فبالغ لأنه خص بذلك الأبطال دون غيرهم لشدة إقدامه. وكنت اجتمعت ببعض متأدبي حلب وقد جرى ذكر المبالغة في الوصف والإغراق فذكرت له بيت أبي الطيب هذا ومبالغته في صفة الرمي فقال لي: قد جاء مثل هذا المعنى للشيخ أبي العلاء في قصيدته الطائية وأنشد: الطويل ونَبَّالةٍ من بُحْتُرٍ لو تَعَمَّدوُا ... بِلَيْلٍ أنَاسِيَّ النواظرِ لم يُخْطُوا فقلت: هذا من هذا إلا إنه قصّر عنه وذلك إنه قال: أناسي النواظر فأطلق، فدخل في ذلك ناظر الأسد والهر وهما يريان في الليل، كالنارين، اظهر من النهار فيمكن رميهما، ونقص مع ذلك من درج المبالغة. فاعترف بذلك بعد مدة وشدة!.

وقوله: الطويل ويَصْطَنِعُ المَعْروفَ مبتدئاً بهِ ... ويَمْنَعُهُ مِن كُلِّ من ذَمُّهُ حَمْدُ قال: يصفه بالتيقظ، ومعرفة ما يأتي وما يدع. يقول: يمنع معروفه من كل ساقط، إذا ذمّ أحدا فقد مدحه، لأنه يُنبئ عن بُعد ما بينهما. يعني إنه يُعطي المستحقين وذوي القدر ويبدأهم بالإحسان قبل أن يسألوه. وأقول: هذا الذي ذكره قول ابن جني؛ نقله فجعل المصدر مضافا إلى ضمير الفاعل، والمفعول محذوف لقوله: إذا ذم أحدا فقد مدحه لأنه ينبئ عن بُعد ما بينهما. وليس الأمر كذلك وهذا لا يعطي معنى صالحا، وإنما المصدر مضاف إلى ضمير المفعول والفاعل محذوف كقولك: يعجبني من زيد ضربه، أي: ضربك إياه، أي: أن ضربته. فيكون على هذا المعنى: إنه يصطنع المعروف ابتداء إلى الأفاضل، ويمنعه الأراذل الذين إذا ذممت أحدهم تنزّل ذمه منزلة الحمد، أما لأنه مستحق لذلك، أو لجهله ولؤمه يتساوى الأمران عنده فلا يفرق بينهما.

وقوله: الطويل ألُومُ به مَنْ لامَنِي في وِدَادِهِ ... وحُقَّ لخَيْرِ الخَلْقِ من خَيْرِهِ الوُدُّ قال: يقول: من لامني في وده لمته بما وصفت من فضائله، فيتبين أن من أحبه لا يستحق اللوم، وإنه أهل أن يحب وحق له مني الود؛ لأنه خير الأمراء، وأنا خير الشعراء، وحقيق على أهل الخير أن يود بعضهم بعضا. وأقول: القول الصحيح أو الأجود في هذا قد ذكرته قبل. وقوله: الكامل أمَّا الفِراقُ فإنَّهُ ما أعْهَدُ ... هُوَ تَوْأمي لو أنَّ بَيْناً يُولَدُ ولَقَدْ عَلِمْنَا أنَّنَا سَنُطِيعُهُ ... لمَّا عَلِمْنَا أننا لا نَخْلُدُ لم يذكر أحد من شراح الديوان تعلقا بين البيت الأول والثاني ولا فسروا معناهما تفسيرا جليا تسكن إليه النفس ويقبله القلب. وأقول: إنما ذكر البيت الثاني عذرا لما ذكره في البيت الاول، وذلك إنه أخبر فيه عند وداع صديقه عن ألفه للفراق، وصبره عليه لمّا جعله أخا له فهو لا يستنكره وقد نظر فيه إلى قول طفيل: الطويل وما أنا بالمُسْتنكرِ البَيْنَ إنَّني ... بذي لَطَفِ الجِيرَانِ قِدْماً مُفَجَّعُ

قال: إنما قلت ذلك لأنه لا يجدي الجزع للفراق والامتناع منه شيئا، وأقسم على ذلك فقال: والله لقد علمنا إننا سنطيعه، واستدللنا على ذلك بالموت المفرق بين الأخلاء والأحباء، وذلك لا يمكن الإباء له والعصيان عليه فعلمنا بوجوب فراق الأرواح أفادنا علمنا بطاعة فراق الأجسام وسهله علينا. وقوله: الخفيف وأطَاعَتْهُمُ الجُيوشُ وهِيبُوا ... فَكَلامُ العِدَا لَهُمْ كالنُّحازِ قال: قال ابن فورجة: أي لم يعبئوا بكلام أحد لما صاروا إلى هذه الحال. وأجود من هذا أن يقال: السعال يرقق الصوت. والمعنى: لهيبتهم كانوا لا يرفعون الصوت بين أيديهم فيقال له: أما الوجه الذي ذكرته عن ابن فورجة فإنما هو لابن جني قلبه! وأما قولك: إن السعال يرقق الصوت فهو بخلاف المعلوم بل يجفي الصوت، والمراد أنهم كانوا لعظم هيبتهم إذا كلمهم الناس خافوهم فضغط الخوف النفس وقطع الصوت فلا تتبين الحروف فيكون كلامهم كالسعال لا يفهم منه معنى.

وقوله: الطويل سُهَادٌ أتَانَا مِنْكَ في العَيْنِ عِنْدنَا ... رُقَادٌ وقُلاَّمٌ رَعَى سَرْبُكُمْ وَرْدُ قال: يقول: السهاد، إذا كان لأجلكم، رقاد في الطيب، والقلاّم، على خبث رائحته، إذا رعته ابلكم ورد. فيقال: لم يُرد بالقلام خبث الرائحة، وإنما أراد الخشونة. وقوله: الطويل ضَروبٌ لِهَامِ الضَّاربي الهَامِ في الوَغَى ... خفيفٌ إذا ما أثْقَلَ الفَرَسَ اللِّبْدُ قال: يقول: هو خفيف مسرع إلى الحرب، إذا بلغ الفرس من الجهد ما يثقل عليه لبده. وأقول: لم يرد إنه خفيف إلى الحرب، ولكن في الحرب بعد طول القتال والطراد والوصول إلى حال يُثقل الفرس فيها لبده من الجهد والكلال، فيكون في تلك الحال خفيفا، أي: قويا شديدا لم يثقل بالتعب على ظهر فرسه عن حمل درعه وسلاحه أو عن لقاء قرنه.

وقوله: الطويل بتأمِيلِهِ يَغْنَى الفَتَى قَبْلَ نَيْلِهِ ... وبالذُّعْرِ من قَبْلِ المُهَنَّدِ يَنْقَدُّ قال: يقول: إذا أمله الفتى صار غنيا قبل أن يأخذ عطاءه، ومعنى غناه أن يُنفق ما يملكه، ثقة بالخلف من عنده، إذا كان يأمل عطاءه فيعيش عيش الأغنياء. فيقال له: لم يرد بقوله: . . . . . . يَغْنَى الفَتَى قَبْلَ نَيْلِهِ ... . . . . . . ما ذكرته من إنه ينفق ماله ثقة بالخلف؛ لان هذا يسوغ فيمن له مال، وإنما أراد بذلك الإطلاق على وجه المبالغة والإغراق لا على وجه الحقيقة. يقول: إذا أملّه الفتى تيقن بلوغ الامل، وحصول النيل قبل النيل فكأنه مستغن فجعل تأميله لثقته به لعطائه وهذا كقوله: الوافر لقد أمِنَتْ بك الإعْدامَ نَفْسٌ ... تَعُدُّ رجاَءهَا إيَّاكَ مَالا وقوله: الطويل وأنْفُسُهُمْ مَبْذُولَةٌ لوفُودِهِمْ ... وأمْوَالهُمْ في دَارِ من لم يَفِدْ وَفْدُ قال: أي أنهم غير محجوبين عمن يقصدهم من الوفود، وأموالهم ترد على من لم يأتهم لأنهم يبعثونها إليهم.

وأقول: لم يرد انهم غير محجوبين عمن يقصدهم؛ فإن ذلك ليس فيه كبير فائدة، ولكنه قسّم الناس قسمين: وفود عليهم، وغير وفود، فجعلوا للوافدين إليهم مزيدا على غيرهم بأن بذلوا لهم أنفسهم، والذين لم يفدوا إليهم، جعلوا أموالهم تفد إلى بلادهم عليهم. فالمعنى على هذا التقسيم والترتيب في غاية الكمال، وعلى ما قال في غاية النقص! وقوله: الكامل أحْبَبْتُ تَشْبِيهاً لها ... فَوَجَدْتُهُ ما لَيْسَ يُوجَدْ قال: يقول: أردت أن أشبهها بشيء فوجدت تشبيهها معدوما. ويجوز أن يريد بالتشبيه المفعول، وهو المشبه به، فقال: أردت مشبها لها فكان مستحيل الوجود، فإن قيل: هذا يناقض ما قبله؛ لأنه ذكر التشبيه، قلنا: ذاك تشبيه جزئي لأنه ذكر خضرة النبات على حمرة التراب في التشبيه وأراد في هذا البيت تشبيه الجملة فلم يتعارضا. وأقول: هذا تخليط من أخلاط في الدماغ! وإنما يقول: أحببت تشبيها لها بجنة أخرى فأقول: كأن هذه الجنة جنة فلان فوجدت ذلك غير موجود. ولهذا قال في البيت

الذي بعده: إنها واحدة، أي: ليس لها مثيل من جنة اخرى، وكذلك صاحبها أوحد. وقوله: الوافر لأنِّي كُلَّمَا فَارقْتُ طَرْفي ... بَعِيدٌ بَيْنُ جَفْني والصَّبَاحِ قال: هذا تعليل لقوله: . . . . . . ... ومُنصَرفي له أمْضَى السِّلاح لأني كلما لم أرك، طال ليلي فبعُدما بين جفني والصباح لسهري شوقا إلى لقائك ولو قال: . . . . . . ... . . . . . . بينَ عَيْني والصَّبَاحِ كان اظهر؛ لان الصبح إنما يُرى بالعين لا بالجفن. فيقال له: إن النائم والساهر والرائي، على الحقيقة، إنما هو الإنسان وإنما خص الجفن بالذكر لأنه بانطباقه يتبين النوم وبانفتاحه يتبين السهر. والعين، وإن كانت آلة النوم، والجفن فيه تبع لها، إلا إنه فيه اظهر منها، ولو قال: . . . . . . ... بعيدٌ بين عَيْني والصَّبَاحِ وقد قال قبله:

كلَّمَا فارَقْتُ طَرْفي ... . . . . . . والطرف هو العين، لحصل التكرار ولزم الإضمار، فكأنه قال: إذا فارقت عيني سهرت فلم يغمض جفني، وطال بالسهر عليه الليل فبعُد عنه الصباح. والموصوف على الحقيقة بذلك إنما هو الحي لا أعضاؤه. وقوله: المتقارب فماذا تَركْتَ لمن لم يَسُدْ ... وماذَا تَرَكْتَ لمن كانَ سَادَا قال: يعني لم يبق شيء من أسباب السيادة إلا وقد جمعتها، فلم تترك منها شيئاً يختص به من لم يسد أو من ساد من قبل. وأقول: لم يزد في الشرح على ما في الشعر! وقوله: فماذَا تَرَكْتَ لمن لم يَسُدْ ... . . . . . . أي: لو أراد الإنسان أن يسود، أي: يأتي بفضيلة غريبة لم يسبق إليها ليعلو بها ويدعى سيدا لم يجد، لأنك قد سبقته إليها. وقوله: . . . . . . ... وماذا تَرَكْتَ لمن كانَ سَادَا أي: أنك صغّرت أفعالهم العظيمة، التي سادوا بها بحسن أفعالك؛ فكأنك سلبت مآثرهم ومحاسنهم بمآثرك ومحاسنك، وقد حقّرتها وأخفيتها.

وقوله: الرجز يُسَارُ من مَضِيقهِ والجَلْمَدِ ... في مِثْلِ مَتْنِ المَسَدِ المُعَقَّدِ أقول: لم يذكر معنى قوله: في مثلِ مَتْن المسَدِ. . . . . . وذلك إنه شبه طريقا في وسط هذا الجبل وطرفيه في الخشونة والخزونة بحبل ليف عقد وسطه ولم يُعقد طرفاه فجعل الجبل الذي في وسط الطريق كالعقد التي في وسط الحبل، وطرفيه في الخشونة كطرفيه، وهذا من بديع التشبيه وغريب التمثيل. وقوله: الرجز للصَّيْدِ والنُّزْهَةِ والتَّمَرُّدِ أقول: النزهة والتنزه، على ما ذكر ليس من كلام العرب، إنما التنزه التباعد عن الريف والمياه لئلا يتأذى بها. ولذلك قالوا: فلان يتنزه عن الأقذار، إذا

كان يباعد نفسه عن الدنايا، وفلان نزيه كريم إذا كان بعيدا من اللؤم. والعامة تجعل التنزه الخروج إلى البساتين وهو غلط. وقد جوز ذلك ابن قتيبة على طريق التوسع وقال: لان في كل مصر وبلد بساتين، فإذا أرادوا الخروج إليها فقد تباعدوا عن المنازل، ثم كثر ذلك حتى صارت النزهة القعود في الخضر والجنان. وقول ابن قتيبة في ذلك ليس بحجة، إلا أن العرب تجوزت في ذلك كما تجوزت في الفرس وأصله دق العنق، ثم كثر ذلك في كلامهم، حتى صار كل قتل فرسا. وكذلك: الاخيذ: المشدود ثم كثر حتى صار كل اخيذ أسيرا، شُد أو لم يُشد، وأشباه ذلك كثير في كلامهم. وقوله: الخفيف غيرَ أنِّي تَرَكْتُ مُقْتَضَبَ الشِّعْ ... رِ لأمْرٍ مِثْلي به مَعْذُورُ قال: لم يبين العذ الذي اعتذر به في ترك الشعر؛ كأنه كان واضحا قد عرفه الممدوح فأهمل ذكره. فيقال له: بلى، قد بينه وذكره من حيث لم تعلم، وهو واضح ظاهر ولم تره في البيت الذي يليه من أوله إلى آخره في قوله: الخفيف وسجَايَاك مَادِحَاتُكَ لاشِعْ ... ري وَجُودٌ على كلامي يُغِيرُ

وهو في موضع الحال. يقول: تركت اقتضاب الشعر مادحا لك لأمر أنا به معذور، وهو أن سجاياك مادحة لك لا شعري، وجود لك يغير على كلامي، أي: يأخذه ويستغرقه ويستنفده؛ لأنه أكثر وأقوى منه، فجعله بمنزلة الجيش الذي يغير على ما دونه فيأخذه فقد اعتذر بأمرين: أحدهما: أن سجايا الممدوح، أي: خلاله العظيمة الكريمة، تمدحه لشهرتها، فشعر أبي الطيب غير شيء بالإضافة إليها. والثاني: أن جوده أكثر من شعره فقد غلبه وملكه وأهلكه، وقد فسره هو بهذا التفسير إلا إنه لم ينتبه له إنه عذر! وقوله: الطويل فإنَّ نَهَاري ليلةٌ مُدْلَهِمَّةٌ ... على مُقْلَةٍ من فَقْدِكُمْ في غَيَاهِبِ قال: إنما جعل النهار ليلا، إشارة إلى إنه لا يهتدي إلى شيء من مصالحه، أو إلى أن جفونا فُتحت على وجوههن، مختومة لا تُفتح على غيرها، وإذا انطبقت الجفون فالنهار ليل كقوله: الوافر ولو أنِّي استَطَعْتُ خَتَمْتُ طَرْفي ... فَلَمْ أُبْصِرْ به حَتَّى أرَاكَا

وأقول: تفسير هذا البيت على ما ذكره، يفسده البيت الذي يليه وهو قوله: الطويل بعيدةُ ما بَيْنَ الجُفُونِ كأنَّما ... عَقَدْتُمْ أعَالِي كلِّ جفنٍ بحاجِبِ فكيف تكون الجفون مختومة لا تُفتح على غيرها، وهي بعيد ما بينها، لولا أن هذه غفلة شديدة وفطنة بعيدة؟! ولو استدل على معنى هذا البيت بما قبله لأمن النقض بما بعده، وهو ما ذكره ابن فورجة: لا صباح إلا وجوههن، وإذا كان كذلك فنهاره ليل مدلهم بعدهن ومقتله في غياهب لفقدهن. وقوله: الطويل وأحْسِبُ أنِّي لو هَوِيتُ فرِاقَكُمْ ... لفَارَقْتُهُ والدَّهْرُ أخْبَثُ صَاحِبِ قال: يريد أن الدهر يخالفه في كل ما اراد، حتى لو أحب فراقهم لواصلوه وكان من حقه أن يقول: لفارقني؛ لأن قوله: لفارقته، فعل نفسه، وهو يشكو الدهر فلا يشكو فعل نفسه ولكنه قلبه؛ لأن من فارقك فقد فارقته فهذا من باب القلب. وأقول: لم يرد بذلك: لو أحب فراقهم لواصلوه. ولا قوله: فارقته، من باب القلب. وإنما معنى قوله: . . . . . . لو هَوِيتُ فراقَكُمْ ... . . . . . .

أي لو أن فراقكم الذي هو غاية المكروه والأذى مما يُهوى، لاضطرني الدهر إلى أن أفارقه قصدا لعنادي وخلافي؛ يذم بذلك صحبة الدهر في إنه لا يقع منه لصاحب مساعدة بل مخالفة ومعاندة. وأما قوله: كان من حقه أن يقول: لفارقني، لما علل به، فليس بشيء، وقوله: لفارقته أبلغ لأن معناه لاضطررت إلى فراقه، وإذا كان كذلك فالشخص المحبوب الذي تضطر إلى أن تفارقه أنت بنفسك، أبلغ في أذاك من أن يفارقك هو بنفسه لأن ذلك لا يمكن أن يقع من جهة المحب اختيارا، ويمكن أن يقع من جهة الحبيب اختيارا. وقوله: الطويل إليك فإني لسْتُ مِمَّنْ إذا اتَّقَى ... عِضَاضَ الأفَاعي نَامَ فَوْقَ العَقَارِبِ أقول: إنه ذكر عن ابن فورجة في معنى هذا البيت كلاما فيه طول، وليس بطائل فأذكره وأجيب عنه. وذكر قول ابن جني وذكرت ما فيه وأجبت عنه وبينت المعنى هناك. وقوله: الرجز وزَادَ في السَّاقِ على النَّقَانِقِ

قال: زاد في طول الساق وشدتها على النعام، كما قال امرؤ القيس: الطويل لهُ أيْطَلاَ ظَبْيٍ وسَاقَا نَعَامَةٍ ... وإرخاءُ سِرْحَانٍ وتَقْريبُ تَنْفُلِ وأقول: النعامة لا توصف بطول الساق بل بقصرها وغلظها وصلابتها، وطول وظيفها، وكذلك ساق الفرس ووظيفها، وبخلاف ذلك اليد فانه يُستحب قصر وظيفها وطول ذراعها لأنه اشد لرميه بها. وقوله: الرجز يُمَيَّزُ الهَزْلَ من الحَقَائقِ قال: أي يعرف أن صاحبه إذا استحضره يطلب بحضوره هزلا أم حقيقة. وأقول: هذا لا يعرفه الفرس وإنما يصفه بصحة السمع، أي: يميز الصوت الصحيح الذي يسمعه من الذي ليس بصحيح، وهذا من قول طرفة: الطويل وصادِقَتَا سَمْعِ التَّوَجُّسِ في السُّرَى ... لِهَجْسٍ خَفِيٍّ أو لِصَوْتٍ مُنَدَّدِ وقوله: الطويل وعيني إلى أذْنَيْ أغَرَّ. . . . . . ... . . . . . .

وقوله: الكامل . . . . . . ... . . . . . . فكأنَّما يُبْصِرْنَ بالآذَانِ ويدل على ما قلته قوله بعده: الرجز وَيُنْذِرُ الرَّكْبَ بِكُلِّ سَارِقِ أي: إذا أحس بسارق صهل ليعلم مكانه. وقوله: الرجز يُرِيكَ خُرْقاً وهو عَيْنُ الحَاذِقِ قال: أي لشدة جريه وتناهيه في العدو، يُظن به خرق، وهو مع ذلك حاذق، وحذقه أن لا يُخرج ما عنده من الجري مرة واحدة، بل يعلم ما يراد منه فيستبقي جريه كما قال: الطويل ولَلْقَارِحُ اليَعْبُوبُ خَيْرٌ عُلالَةً ... من الجَذَع المُرْخَى وأبْعَدُ مَنْزَعَا وأقول: كأن الشيخ قليل المخبرة بالخيل فلذلك لم يُصب في صفاتها، فإن كان ذلك لقلة اقتنائه لها واعتنائه بها فهلاّ استقرأ ذلك من أقوال الشعراء فيها؟!! وهذا الذي ذكره ليس بشيء!

والمعنى: إنه يصف هذا الفرس لنشاطه ونزقه وحدة قلبه بالخُرق، وقد يتجاوز ذلك إلى وصفه بالجنون كقول امرئ القيس: الطويل ويَخْضِدُ في الآرِيِّ حَتَّى كأنَّما ... به جِنَّةٌ أو طَائِفٌ غيرُ مُعْقِبِ وأما استشهاده بالبيت الذي ذكره فليس على ما قال، وإنما القارح من الخيل الذي استكمل قوته، والجذع لم يستكمل قوته؛ فكان بُعد منزعه أي: غايته، وعلالته: أي: بقية جريه لقوته، ومثل ذلك قول أبي نواس: البسيط مَنْ للجِذَاعِ إذا المَيْدانُ مَاطَلَهَا ... بِشَأوِ مُطَّلعِ الغَايَاتِ قَدْ قَرَحَا وقوله: الكامل والنَّاسُ قَدْ نَيَذُوا الحِفَاظَ فَمُطْلَقٌ ... يَنْسَى الذي يُولَى وعَافٍ يَنْدَمُ قال: يريد أنهم لا يحافظون على الحقوق، ولا يُراعون الاذمة؛ فمطلق من الإسار ينسى ما أُزلّ إليه من الإحسان، وعاف عن مجرم يندم لأن صنيعته كُفرت فلم تُشكر. وأقول: إن قوله: يندم لأن صنيعته كُفرت فلم تُشكر ليس بشيء لأنه إذا كُفرت صنيعته، وندم على وضعها في غير موضعها لم يكن نابذا للحفاظ وإنما يقول: الناس اثنان؛ محسن اليه، وهو المطلق من إسار، ينسى الذي أولى من الجميل، ومحسن عاف عن مجرم يندم على العفو من غير سبب وكلاهما تارك للحفاظ.

وقوله: الكامل يَقْلِي مُفَارَقَةَ الأكُفِّ قَذَالُهُ ... حَتَّى يَكَادَ على يَدٍ يَتَعَمَّمُ قال: يريد إنه صفعان فيكاد يتعمم على يده فتُصفع يده أيضا! وأقول: هذا ليس بشيء، وإنما يقول: يُبغض قذاله مفارقة الاكف، ويهوى مصاحبتها. . . . . . ليُصفع بها فلو أمكنه أن يجعل يدا على قذاله، وهو جماع مؤخر رأسه، ويتعمم عليه حبا للصفع لفعل. وقوله: الطويل ولو لَمْ يَكُنْ بين ابن صَفْراَء حَائِلٌ ... وبَيْني سِوَى رُمْحِي لكانَ طَويلا قال: قال ابن جني: صفراء: اسم أمه. وقال ابن فورجة: صفراء: كناية عن الاست، والعرب تسب بنسبة الرجل إلى الأست كما قال: الطويل . . . . . . ... بأنَّ بني أسْتَاهِهَا نَذَرُوا دَمِي

وأقول: ومما يؤكد ما قاله ابن فورجة قول عتبة بن ربيعة في بدر، وقد أشار على قريش بأن يرجعوا عن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فقال أبو جهل: انتفخ سحره! فقال عُتبة: سيعلم مُصفر أسته من ينتفخ سحره! والظاهر قول ابن جني أن صفراء أمه لقول أبي الطيب: الكامل أرْسَلْتَ تَسْألني المَدِيحَ سَفَاهَةً ... صَفْراءُ أضْيَقُ منك مَاذَا أزْعُمُ وقوله: الخفيف أتُرَاهَا لِكَثْرِةَ العُشَّاقِ ... تَحْسِبُ الدَّمْعَ خِلْقَةً في المآقي قال: يصف المعشوقة؛ يقول لصاحبه: أتظنها لكثرة ما ترى الدمع في مآقي عشاقها تتوهم إنه خلقة فهي لا ترثي لمن يبكي. وأقول: الجيد في هذا ان يكون القول لنفسه لا لصاحبه وذلك كقول ذي الرمة: البسيط ما بَالُ عَيْنِكَ منها الماء يَنْسَكِبُ ... . . . . . .

وقول الراعي: الكامل ما بالُ دَفِّكَ في الفِراشِ مُذِيلاَ ... . . . . . . وأشباه ذلك. يقول لنفسه: أتظنها تحسب الدمع خلقة، وإذا كانت كذلك فلا ترثي لباك فلا يحصل منها لعاشق راحة ولا رحمة، كما ذكره في البيت الذي يليه. وقوله: الخفيف حُلْتِ دون المَزارِ فاليَوْمَ لوزُرْ ... تِ لحَالَ النُّحولُ دُونَ العنَاقِ قال: يقول: منعتني من زيارتك حتى نحلت شوقا اليك، فلو زرتني اليوم لم تقدري على معانقتي لشدة النحول ورقة الجسم. وأقول: إن قوله: لم تقدري على معانقتي ليس بجيد، والجيد أن تقول: لم اقدر على معانقتك. كأنه يقول: منعتني الوصال في حال عدم الزيارة وفي حال وجودها فلم أقدر عليه في الحالين للهجر والنحول. وقوله: الخفيف كاثَرَتْ نَائِلَ الأميرِ من الما ... لِ بما نَوَّلَتْ من الإيرَاقِ

قال: الإيراق مصدر قولهم أورق الصائد إذا لم يصد شيئا، وأورق الغازي إذا لم يغنم. والناس يحملون هذا البيت على الأفعال من الأرق، فكان ابن جني يقول في تفسير هذا البيت: هي تطلب باسهارها إيانا الغاية طلب الأمير بإنالته النهاية فكأنها تكاثره نوالا؛ لكن نوالها الأرق ونواله الورق! فإن كان أبو الطيب أراد بالإيراق هذا، فقد أخطأ؛ لأنه لا يبنى الأفعال من الأرق، وإنما يقال: أرق يأرق أرقا، وأرقه تأريقا. والأولى أن يُحمل الإيراق على منع الوصل والتخييب منه، يقول: هي في منعها وصلها في النهاية، كما إن الأمير في بذله نائله قد بلغ الغاية، فكأنها تُكاثر عطاءه بمنعها. وأقول: قد طوّل في شرح هذا البيت أقصى غاية التطويل وقصّر أقصى غاية التقصير! والصحيح ما ذكره ابن جني، ولم يخطئ المتنبي، والإيراق هاهنا فيعال، لا أفعال كما ذكر، وذلك مثل: القيتال: مصدر قاتل، من المفاعلة. وكذلك آرق إيراقا. قال تأبط شرا: البسيط يا عيدُ مَالَكَ من شَوْقٍ وإيَراقِ ... . . . . . . وهذا من الأرق لا من إيراق الصائد!

وقوله: الخفيف لو تَنَكَّرْتَ في المَكَرِّ لِقَوْمٍ ... حَلَفُوا، أنَّكَ ابنُهُ، بالطَّلاقِ قال: يقول: لو غيرت زيك في الحرب، حتى لا يعرفك أهلها لعرفوك بشبه أبيك حتى يحلفوا بالطلاق انك ابنه. وأقول: لم يذكر ما يعرفونه به وما وجه المشابهة بينهما عند التنكير بتغيير الزي وإخفاء النفس، وذلك بما يظهر من أفعاله عند إخفاء خلقه وزيه من شدة إقدامه وكثرة قتاله كفعل علي - عليه السلام - في قتال صفين لأنه كان عُرف فتحومي فجعل يتنكر ولذلك خص المكر بالذكر فيُحلف عند ذلك بالطلاق لمشابهة الأخلاق إنه ابن أبيه لأن أباه أيضا، كان مشهورا بالشجاعة معروفا بالاقدام، فلا يفعل أفعاله إلا من هو منه وفي هذا مدح له ولأبيه. وقوله: الوافر

يُشَارِكُ في النِّدامِ إذا نَزَلْنَا ... بِطانٌ لا تُشَارِكُ في الجِحَاشِ وَمِنْ قَبْلِ النِّطَاحِ وقَبْلِ يَأني ... تَبِينُ لك النِّعَاجُ من الكِبَاشِ قال في تفسير البيت الثاني: يقول: قبل المناطحة وقبل أوانها يتبين من ينلطح ممن لا يناطح، ومن يقاتل ممن لا يقاتل، وذلك إن الكباش تتلاعب بقرونها وان لم ترد النطاح بها، وكذلك تتلاعب الناس بالأسلحة في غير الحرب فيُعرف من يحسن استعمالها. وأقول: قوله: وذلك أن الكباش تتلاعب. . . . . . إلى اخره، ليس بشيء، وإنما ضرب مثلا لمن يصلح للقتال، ولمن لا يصلح له بالكباش والنعاج؛ يقول: قبل النطاح يبين ذلك منهما، فتعلم أن النطاح لا يكون إلا بالكباش، ولا يكون بالنعاج، وإن كانوا من الغنم؛ لأن ذلك إنما يكون بالذُكران منها دون الإناث، فكذلك هؤلاء الذين ذكرهم في البيت الأول من أنهم يشاركون في الندام ولا يشاركون في القتال؛ يقول: قبل القتال يتبين انهم لا يصلحون له، كما قبل النطاح يتبين أن النعاج لا تصلح له، فهم، وإن كانوا رجالا، بمنزلة الإناث وقوله: الوافر فما خَاشِيكَ للتَّكْذِيبِ رَاجٍ ... ولا رَاجِيكَ للتَّخْيِيبِ خَاشِي

قال: قال ابن فورجة: أي: أن خاشيك حال به بأسك، واقع به سخطك وانتقامك فما يرجو تكذيبا لما يخافه لشدة خوفه، ولا راجيك يخشى أن يُخيبه لقطع عرفك. قال: والصحيح في هذا البيت رواية من روى: فما خاشِيكَ للتَّثرِيبِ رَاجٍ ... . . . . . . أي: من خشيك لم يخف أن يُثرّب ويُعيّر بخشيتك؛ وراج بمعنى خائف. قال: ومن روى للتكذيب لم يكن فيه مدح، لأن المدح في العفو لا في تحقيق الخشية، فإنما يُمدح بتحقيق الأمل وتكذيب الخوف كما قال السري: الطويل إذا وَعَدَ السرَّاَء أنْجَزَ وَعْدَهُ ... وإنْ وَعَدَ الضَّرَّاَء فالعَفْوُ مَانِعُهْ فيقال له: دعنا من تفسير ابن جني: راج بمعنى خائف، والتمحل لتصحيح المعنى إذ لم يصح على قوله برواية شاذة، واجعله من الطمع الذي أراده الشاعر واستدل على ذلك بقلب صدر البيت على عجزه، فانه بذلك المعنى يقول: خاشيك في الحرب وعند القتال لا يرجو التكذيب بأنك تقتله وانه ينجو منك، وكذلك راجيك لا يخشى أن يخيب من جودك وإنك تحرمه لأنه مستحيل لراجيك أن لا تبلغه ما يرجو، كما أن مستحيل لخاشيك في الحرب أن ينجو. وعلى هذا التفسير لا يرد عليه ما أورده من أن المدح في العفو لا تحقيق الخشية، ولم نحتج إلى أن نجعل موضع للتكذيب للتثريب، ونفسر راج بمعنى خائف فنلتزم ضعف معنى البيت أو ضعف صناعته.

وقوله: الوافر مِن المُتَمَرِّدَاتِ أذُبُّ عَنْهَا ... بِرُمْحِي كُلَّ طَائرِة الرَّشَاشِ قال: المتمرد متفعل من المارد والمريد، وهو الذي قد أعيى خبثا، والمتمردة: المتمنعة، يصف فرسه بالخبث وترك الانقياد لمن لا يحسن ركوبها. والمعنى: أني أصونها برمحي من كل طعنة يترشش دمها. وأقول: المارد والمريد هو العاتي، أي: المتكبر الشديد، فوصفها بأنها متمردة كناية عند حدتها ونزقها وشدتها، ولا يصفها بالخبث وترك الانقياد فان تلك من الصفات التي تضاد الجياد بالإضافة إلى كل ركب وكل مركوب. وقوله: الوافر إذا ذُكِرَتْ مَوَاقِفُهُ لِحَافٍ ... وشِيكَ فما يُنَكِّسُ لانْتِقَاشِ تُزِيلُ مَخَافةَ المَصْبُورِ عَنْهُ ... وتُلْهِي ذا الفِيَاشِ عن الفِيَاشِ

قال: يقول: إنه يستنقذ المصبور على القتل فيزيل خوفه، ويشغل المفاخر عن المفاخرة، لأنه يتواضع له ويقر بفضله. وفسر الكلام على أن الضمير في يزيل للممدوح. قال: ومن روى تُزيل بالتاء فقد خاطب، يعني الممدوح. وأقول: الرواية الصحيحة: تزيل بالتاء لا للمخاطب ولكن للمواقف التي ذكرها قبل. يقول: هذه المواقف في الحرب إذا سمع ذكرها المصبور، أي: المحبوس على القتل، ازالت، لعظم هولها ما عنده من الهول والخوف بالإضافة اليها، وألهت ذا المفاخرة عن مفاخرته لحقارتها عندها. وهذا التفسير لم ينتبه له أحد من الجماعة، وهو الذي قصده أبو الطيب، وغيره ليس بشيء إلا شيئاً لا يعبأ به. وقوله: المنسرح أنا ابنُ مَنْ بَعْضُهُ يَفُوقُ أبا البَ ... احِثِ والنَّجْلُ بَعْضُ من نَجَلَهْ قال: يقول: أنا فوق أب الذي يبحث عن نسبي. ثم بيّن في المصراع الثاني إنه أراد ببعضه الولد، والنجل: الولد. وأقول: إن هذا البيت لم يعلم معناه ولم يعلم فحواه، وقد بيّنته في شرح ابن جني.

وكأن هذا البيت جواب لمن سأل المتنبي عن أبيه. وقيل: إنه رجل يُعرف بالمسعودي، من أصحاب أبي العشائر؛ لأن أباه كان خاملا غير معروف، وكان المتنبي يُعرف بابن عيدان السقاء. ذكره ابن ماكولا في إكماله بكسر العين من عيدان. وسألت شيخنا الكندي عنه فقال: هو بفتح العين، وذكر إنه كان يغضب إذا سُئل عن أبيه ونسبه لضعفه وقماءته، وذلك لأنه قد كان يتيه بخدمة سيف الدولة، إلى أن صار يجلس إلى جانبه، ويأكل معه في صحفته، ويشرب من قدحه، ويأخذ ما شاء من خزانته، فدخله الإعجاب بنفسه حتى إنه كان إذا مدحه أو مدح بعض أهله وكبراء دولته أودع في ذلك النظم فخرا، واظهر كبرا؛ فمن ذلك قوله في هذه القصيدة: المنسرح فَخْراً لِعَضْبٍ أرُوحُ مُشْتَمِلَهْ ... وسَمْهَرِيٍّ أرُوحُ مُعْتَقِلَهْ والبيت الذي بعده. وهذا لا يحسن بذي أدب وافر، وعقل طاهر، ومعرفة بمواضع النظام، ومواقع الكلام، ومخبرة بإتقان المدائح، ومخاطبة أولى المنائح، وبذلك وأمثاله تبغّض إلى سيف الدولة وأهله وأصحابه، وكان السبب في بعده عن بابه ومفارقة جنابه. وقوله: المنسرح أأخْفَتِ العَيْنُ عندَهُ خَبراً ... أمْ بَلَغَ الكَيْذُبَانُ ما أمَلَهْ

قال: أكذبتني عيني فيما أدت إلي من محاسنه، أم وجد الكاذب فرصة فغيّر ما بيننا؟ ويجوز أن يريد بالعين الرقيب وأنّث على اللفظ. يقول: هل أخفى الرقيب عنده خبرا من أخباري في حبي إياه وميلي إليه؟ وهذا استفهام إنكار. وأقول: هذا الذي فسره من صدر البيت، على المعنيين في العين، غير سائغ رائق، ولا معجب شائق، وإنما يقول: هل نظرت عيني إلى شيء من أفعاله كان جميلا فاستقبحته فأخفته، أي: هل تغير لي عما كنت أعهده عليه من الإحسان إلي فأترك مدحه لذلك؟ أي: ليس الأمر كذلك. ولو قال: - أعني المتنبي -: أأكذبَ العَيْنَ بَرْقُ عَارِضِه ... . . . . . . وعارضه، يريد به: مبسمه أو سحابه، وفيه تورية، وكذلك العين، وهي الباصرة أو المطر الدائم، لكان اظهر واحسن لفظا وأتم معنى. وقوله: المنسرح فَأكْبَرُوا فِعْلَهُ وأصْغَرهُ ... أكْبَرُ من فِعْلِهِ الذي فَعَلَهْ قال: قال ابن جني: أي استكبروا فعله واستصغره هو، وتم الكلام، ثم

استأنف فقال: . . . . . . ... أكْبَرُ من فِعْلِهِ الذي فَعَلَهْ قال: وقال العروضي فيما أملاه علي: على هذا التفسير لا يكون مدحا؛ لأن من المعلوم إن كل فاعل أكبر من فعله الذي فعله، وان الخالق - تعالى - فوق المخلوقين. ومعنى البيت: إن الناس استكبروا فعله واستصغره هو، فكان استصغاره لما فعل أحسن من فعله. فيقال له: فهذا الذي ذكره ابن جني في النصف الأول بعينه، وإنما المؤاخذة في النصف الآخر. وقوله: لا يكون مدحا فيقال: لم لا يكون إذا قال: فعله عظيم، وهو أعظم منه، مدحا له وهذا معنى قوله: . . . . . . ... أعظَمُ من فِعِلْهِ الذي فَعَلَهْ وهو من قول أعرابي دخل على يزيد بن المهلب فقال له: كبُرت أن يستعان بك أو يستعان عليك، وليس من شيء وإن كبُر إلا وهو صغير عندك وأنت أكبر منه، ولا أرى العجب في أن تفعل، وإنما العجب في أن لا تفعل! فقال: حاجتك؟ فقال: عشر ديات، قال: هي لك ومثلها! وقوله: الوافر أعَنْ إذْني تَهُبُّ الرِّيحُ رَهْواً ... ويَسْري كلَّما شِئْتُ الغَمَامُ

قال: هذا استفهام معناه الإنكار. يقول: الريح لا تهب سهلة ساكنة بأذني، وكذا الغمام لا يسري على مشيئتي؛ يريد بالريح والغمام الممدوح في سرعته في العطاء وجوده. يقول: إن الذي يفعله لا يفعله بأذني أو بمشيئتي إنما يفعله طبعا طُبع عليه. وأقول: الجيد في هذا، لو قال: إنه لما رأى أفعال الممدوح جارية على اقتراحه، موافقة لأغراضه، شبهه بالريح ساكنة سهلة للين أخلاقه، وبالغمام لكثرة عطائه فقال مُتشككا: أعن أذني تهب الريح، وعن مشيئتي يسري الغمام، أي: يهدي إلي العطاء، أم ليس كذلك؟ ثم أنكر هذه الحالة التي لو أثبتها لكانت غاية في المدح إلى ما هو أعلى منها، مستدركا بقوله في البيت التالي: الوافر ولكنَّ الغَمَامَ له طِبَاعٌ ... تَبَجُّسُهُ بهَا وكَذَا الكِرامُ يقول: إنه يفعل الجود طبعا كالغمام لا كما بدا لي وخطر ببالي. وقوله: المنسرح بِضَرْبِ هَامِ الكُمَاةِ تَمَّ لَهُ ... كَسْبُ الذينَ يَكْسِبونَ بالمَلَقِ قال: يريد أن كل أحد يحبه لشجاعته كما يُحب من يتملق إلى الناس، ويلين لهم ويتودد إليهم، فتم له بضرب الهام ما يكسبه بالتملق. أقول: كأنه يقول: يقتل الكماة وهم يحبونه. وهذا الذي ذكره ليس بشيء!

وإنما يقول: تم لأبي العشائر بالقهر، وهو ضرب رؤوس الكماة في الحرب واخذ أموالهم، مثل ما تم لغيره من كسب الأموال باللين والضعف. والبيت الذي بعده يدل عليه وهو قوله: المنسرح كُنْ لُجَّةً أيها السَّمَاحُ فَقَدْ ... آمَنَهُ سَيْفُهُ من الغَرَقِ قال: يقول: هو لا يغرق في بحر السماح إن كان بحرا لأن سيفه آمنه من كل محذور حتى من الغرق. يعني إنه وإن كان سمحا؛ فإنه شجاع لا يخاف مهلكا، حتى لو صار السماح مهلكا ما خافه لشجاعته. فيقال له: لقد وقعت في التيه! فأين يتاه بك عن هذا المعنى وهو ظاهر لمن تأمله بعين البصيرة؟! يقول: كن أيها السماح لجة، أي: كثيرا، فانك لا تُغرقه، أي: لا تجحف به وتُفقره؛ لأن سيفه قد آمنه من ذلك بقتل أعدائه وأخذ أموالهم، وهو كقوله: الكامل وَالسِّلْمُ تَكْسِرُ من جناحَيْ مالِهِ ... بنَوَالهِ ما تَجْبُرُ الهَيْجَاءُ وينظر إلى قول الخطيئة: الطويل كَسُوبٌ ومِتْلافٌ. . . . . . ... . . . . . . انتهى

وقوله: الطويل بَلِيتُ بِلَى الأطْلالِ إنْ لَمْ أقِفْ بها ... وقوفَ شَحيحٍ ضَاعَ في التُرْبِ خَاتِمُهْ ذكر فيه أقوالا منها قول ابن جني: قال: ليس في وقوف الشحيح على طلب الخاتم مبالغة يُضرب بها المثل. وأجاب عن هذا بأن قال: إن العرب كما تبالغ في وصف الشيء فتتجاوز الحد، فقد تقتصر أيضاً وتستعمل المقاربة. قال: وهذا بعينه قد جاء في الشعر الفصيح فضربت العرب به المثل في الحيرة، وهو قول الراجز: الرجز فَهُنَّ حَيْرَى كمُضِلاَّتِ الخَدَمْ وقول العروضي: لا نلتزم هذا في قدر وقوف الشحيح، بل في صورة وقوفه بالانحناء ووضع يده على كبده وإطراقه، واستشهد على ذلك بقول الشاعر: المنسرح نَكَّسَ لما أتَيْتُ سائِلَهُ ... واعْتَلَّ تَنْكِيسَ ناظِمِ الخَرَزِ

ثم قال: على أنّا إن التزمنا هذا؛ يعني قدر الوقوف فقد تبلغ قيمة الخاتم ما يحق للشحيح أن يُطيل وقوفه لطلبه بأن يكون خاتما ذا فص نفيس، أو يختم به خزائن ملك أو يُحبس به ويُطلق. وقول ابن فورجة: وهو إنما وهو وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه. ثم قال الواحدي: ونقول أيضاً في جواب هذا السؤال: إن وقوف الشحيح، وإن كان لا يطول كل الطول، فقد يكون أطول من وقوف غيره فجاز ضرب المثل به، كقول الشاعر: الخفيف ربَّ لَيْلٍ أمَدَّ من نَفَسِ العا ... شِقِ طُولاً قطَعْتُهُ بانْتِحَابِ وقد علمنا أن أقصر ليل أطول من نفس العاشق، ولكن لمّا كان نفس العاشق أمدّ من نفس غيره جاز ضرب المثل به، وإن لم يبلغ النهاية في الطول. وكذلك قول الآخر: الطويل ويومٍ كظِلِّ الرمح قَصَّر طولَهُ ... دَمُ الزِّقِّ عَنَّ واصطفاقُ المزَاهِر وأقول: أما اعتراض ابن جني عليه وجوابه عنه، واستشهاده له بالرجز الذي ذكره فقد حرّفه لآن الذي أنشده أبو العلاء في وصف الإبل: الرجز

إذَا قطَعْنَ عَلَماً بَدَا عَلَمْ ... يَبْحَثْنَ بَحْثاً كمُضِلاَّتِ الخَدَمْ حتى يوافين بنا إلى حكَمْ وإذا كان كذلك، فلا وقوف هناك ولا حيرة، ولكنه يصف هذه الإبل إنها؛ لشدة سيرها، ورميها بأيديها؛ كأنها تبحث الترب كما تفعل النساء اللاتي اضللن خلاخيلهن. وأما ما ذكره العروضي من الانحناء واستشهاده عليه ببيت الخرز، وإن الخاتم يحتمل أن يكون خاتما نفيسا فوجه قريب ضعيف. وأما ما رواه ابن فورجة فليس بسائغ لو صح! ولكن إطباق الروايات على خلافه يبطله. وأما ما ذكره الواحدي من أن وقوف الشحيح، وإن كان لا يطول كل الطول، فقد يكون أطول من غيره، واستشهاده عليه بالبيتين فغير حسن، وذلك أن الشعراء والعرب إنما ذكرت ذلك وهي تريد به المبالغة في طول الليل وطول اليوم؛ لأن عندها أن لا شيء أمد من نفس العاشق وأطول من ظل الرمح. وكذلك وصفهم القصر بإبهام القطاة، فكان ينبغي أن يقول على هذا: فلا وقوف إذا أطول من وقوف الشحيح. ولعله هذا اراد، فقصّر في الإيراد!

وقوله: الطويل إذا ظَفِرَتْ منكِ العُيونُ بنَظْرةٍ ... أثَابَ بها مُعْيِي المَطِيِّ ورَازِمُهْ قال: المعنى إن الإبل الرازحة التي كلّت وعجزت عن المشي إذا نظرت إليك عاشت أنفسها وعادت قوتها فكيف بنا نحن؟ وهذا قول ابن جني. قال: وقال ابن فورجة: إنما يعني بالمطي أصحابها، وأما الإبل فإنه لا فائدة لها في النظر إلى هذه المحبوبة وإن فاقت حسنا وجمالا، وإنما ركّابها يُسرون بذلك. ثم قال: والقول ما قال ابن جني. وأقول: إن هذين الوجهين ضعيفان، وقد ذكرت وجهين غيرهما فليُتأملا في شرح الكندي. وقوله: الطويل حَبِيبٌ كأنَّ الحُسْنَ كانَ يُحِبُّهُ ... فآثَرَهُ أو جَارَ في الحُسنِ قاسِمُهْ قال: يقول: هذا الحبيب منفرد بالحسن لا حظ لغيره فيه، فكأن الحسن أحبه فاستخلصه لنفسه دون غيره. أو: من قسّم الحسن من الناس جار فأعطاه جميع الحسن وحرمه من الناس.

وأقول: تفسيره صدر البيت حسن وعجزه غير حسن! لأن الذي يقسم الشيء بين اثنين ويجوز، لابد أن يُعطي أحدهما شيئا ما ويجعل قسم الآخر أوفر من قسم صاحبه. وأما أن لا يعطي شيئا البتة ويعطي الآخر الجميع فهذا لا يسمى قسما بل إيثارا، وقد ذكره في صدر البيت. على أن البيت من أصله فيه شيء؛ وذلك إنه لا يجوز مع هذا الحبيب إلا وقد أعطاه أكثر مما يستحقه من الحسن! فهل يحسن بأحد ويسوغ له أن يصف حبيبه بذلك؟! وقوله: الطويل مُشِبُّ الذي يَبْكِي الشبابَ مَشِيُهُ ... فكيفَ تَوَقِّيهِ وبَانيهِ هَادِمُهْ قال: يقول: الذي يجزع على فَقد الشباب إنما أشابه من اشبّه، والشيب حصل من عند من حصل منه الشباب فلا سبيل له إلى التوقي من الشيب لأن أموره بيد غيره. فيقال له: هذا التفسير على ما تقول، ولكن: أي مناسبة بين هذا البيت والذي قبله؟ فقد كان يحسن ذكرها وهي: إنه لمّا ذكر في البيت الذي قبله عادته من معاناة الشدائد، وألفه للمهالك ذكر الشيب وحاله لأنه من جملة الشدائد، وعرّض بأن الإنسان لا يحسن به أن يجزع من مصيره إليه، وقدومه عليه إذ لا يمكنه أن يتوقى منه.

وأقول: إن هذا البيت، واللذين بعده، من موطئات التخلص إلى المدح، وهي من الموطئات المظلمة، والمقدمات المؤلمة تُعمي ناظر الخاطر وخاطر الناظر، ألفاظها واقفة راكدة، ومعانيها باردة جامدة. ومثلها الأبيات الموطئة للتخلص في قصيدته التي أولها: الطويل لياليَّ بعدَ الظَّاعنينَ شُكولُ ... . . . . . . فإن الشيخ الكندي كان يقول فيها ما هو قريب من هذا. وقوله: الطويل قياماً لِمَنْ يَشْفي من الدَّاءِ كَيُّهُ ... ومَنْ بَيْنَ أُذْنَي كُلِّ قَرْمٍ مَواسِمُهْ قال: قياما مصدر لم يُذكر فعله، كأنه قال: قاموا قياما، وكنى بالكي عن طعنه وضربه، ولذعة حربه، وبالداء عن غوائل الأعداء. ومعناه إنه يرد، بالطعن والضرب من عصاه إلى طاعته كما يُرد من به الداء إلى الصحة بالكي. وأقول: إن قياما جمع قائم وهو نصب على الحال فلا يُجعل مصدرا فيحتاج إلى إضمار فعل. وقوله: . . . . . . يَشْفي من الدَّاءِ كيُّهُ ... . . . . . .

كناية عن علمه بالأشياء ووضعها في مواضعها؛ لأن من الناس من لا يشفي من الداء كيّه لجهله بالداء وبمواضع الكي، وهو مثل يدخل تحته علمه بالحرب وغيرها. وإن جُعل من قولهم: آخر الطب الكي، فمعناه إنه صبور على الأعداء، حليم عنهم، غير مستعجل بهلاكهم لعلهم يرجعون عن خلافه إلى طاعته فيُسلمون، وفي ذلك بقيا عليهم، فإن أبوا إلا تماديا ولجاجاً، كان آخر أمرهم معه هلاكهم. وقوله: الطويل قَبَائِعُهَا تَحْتَ المَرَافِقِ هَيْبَةً ... وأنْفَذُ مما في الجُفُونِ عَزَائِمُهْ قال: يقول: قاموا متكئين على قبائع سيوفهم هيبة له وتعظيما. وأقول: هذا التفسير ليس بشيء! لأنهم إذا كانوا متكئين عليها لا تكون تحت مرافقهم، وإنما تكون كذلك إذا كانت مشدودة في أوساطهم أو معلقة في حمائلهم. ويحتمل أن يكون إنما يفعل بها ذلك لأنها على اسمه؛ لأنه سيف وهي سيوف فتختفي تحت مرافق حامليها هيبة له، ويُجعل الفعل لها على طريق المجاز، أو لحامليها. وهذا التفسير ما علمت أحداً سبقني إليه! وقوله: الطويل له عَسْكرَا خَيْلٍ وطَيْرٍ إذا رَمَى ... بها عَسْكراً لم تَبْقَ إلاَّ جَمَاجِمُهْ

قال: يقول: له عسكران، خيله والطير التي تطير معها للوقوع على القتلى، فإذا رمى عسكرا بعسكره لم يبق إلا عظام الجماجم، لأن عسكر الخيل يقتلهم وعسكر الطير يأكلهم. وأقول: لا ادري لم خص بإلقاء عظام الجماجم؟ ونحن نعلم إن عظام الناس والأضلاع والأسوق والأيدي تبقى أيضاً! وإنما يقول: إذا رمى بهذين العسكرين من الخيل والطير عسكر أعدائه قتلتهم الفرسان فسقطوا إلى الأرض فدّقت الخيل عظامهم بوطئها إلا الجماجم فإنها كُرية لا تثبت تحت حوافر الخيل فتبقى، وأكلت الطير اللحوم. وقد بالغ في موضع آخر من مدحه اكثر من هذا فجعل الجماجم تندق بالوطء في قوله: المتقارب تَرَكْتَ جَمَاجِمَهُمْ في النَّقَا ... وما يَتَحَصَّلْنَ للنَّاخِلِ فهذا وجه لبقاء الجماجم ويحتمل وجها آخر وهو أن تكون الرؤوس تقطع لتُحمل فتبقى، والأجسام تُدق بالخيل وأكل الطير فتفنى. وقوله: الخفيف ليتَ أنَّا إذا ارْتَحَلْتَ لَكَ الخْي ... لُ وأنَّا إذا نَزَلْتَ الخِيَامُ

قال: ليتنا معك نتحمل عنك المشقة في مسيرك ونزولك في سفرك. هذا معنى البيت، ولكنه أساء حيث تمنى أن يكون بهيمة أو جمادا، ولا يحسن بالشاعر أن يمدح غيره بما هو وضع منه؛ لا يحسن أن يقول: ليتني امرأتك فأخدمك! فيقال له: هذا الذي ذكره آخرا لا يحسن، ولكن يحسن من الشاعر أن يبالغ أكثر مما بالغ أبو الطيب فيتجاوز الخيل إلى أن يقول: ليت خدي أرضا لك تطؤها، وكما قال: الوافر وكُلُّ شَواةِ غِطْريفٍ تَمَنَّى ... لِسَيْرِكَ أنَّ مَفْرِقَهَا السَّبيلُ ومثل هذا كثير في كلامهم. وقد تلطف أبو الطيب غاية التلطف في المراد، لكنه أحسن غاية الإحسان، وقد بينت القول في ذلك أولا من الشروح وآخرا، فتبينه! وقوله: الخفيف والذي تُنْبِتُ البلادُ سرورٌ ... والذي تُمْطِرُ السَّماءُ مُدَامُ قال: والذي ينبت ذلك المكان الذي حللت به سرور؛ أي: يقيم السرور والطرب بذلك المكان.

وأقول: يُحتمل ان تكون الواو في قوله: . . . . . . ... والذي تمطرُ السَّماءُ مدامُ للعطف. والجيد أن تكون للحال من البلاد؛ أي: تنبت البلاد سرورا في حال أمطارها بالمدام؛ لأن المدام توصف بالسرور، وتُعرف بالاطراب، كما تقول: الذي سمعته منك الفصاحة، والذي نشأت به نجد؛ لان نجداً يُعرف ويوصف بالفصاحة، وهذا معنى حسن لم يتنبه له ولا غيره! وقوله: الوافر وكنتُ أعِيبُ عذلاً في سَماحٍ ... فها أنا في السَّماحِ له عَذُولُ قال: يقول: كنت فيما مضى أعيب الملامة في الجود، وقد صرت الآن عذولا له لإفراطه في السماح، والمعنى من قول الطائي: الطويل عطاءٌ لو اسْطَاع الذي يَسْتَمِيحُهُ ... لأصْبَحَ من بَينِ الوَرَى وهو عَاذِلُهْ وأقول: إنه توهم الضمير الذي في (له) راجع إلى سيف الدولة ولي كذلك إنما هو راجع إلى السحاب وقد ذكرته قبل.

وقوله: الوافر ومثلُ العَمْقِ مملوءٌ دماءً ... مَشَتْ بك في مَجَاريهِ الخُيُولُ قال: يقول: رب مكان مثل المكان العميق قد امتلأ دما مشت بك الخيل في مجاريه. وأقول: لم يفهم أن (العمق) مكان بعينه علم من أرض (حلب)؛ أي: رب مكان مثل (العمق)، هذا الذي هو في بلدك، العميق الأرض الكثير الوحل، كثر فيه القتل حتى جرت فيه الدماء، ومشت بك في مجاريه الخيول ولم يصدك عن المسير، فكيف يصدك العمق بكثرة وحوله، والسحاب بشدة هطوله. ويحتمل أن يكون قوله: ومثلُ العَمْق. . . . . . ... . . . . . . وهو يريد (العمق) نفسه، كما يقال: مثل زيد من يقول ويفعل، وكأنه يشير إلى وقعة كانت له فيه، والوجه الأول أثبت. وقوله: الوافر يَحِيدُ الرُّمْحُ عنك وفيه قَصْدٌ ... وَيَقْصُرُ أن يَنَالَ وفيه طُولُ قال: يقول: بلغ من نباهتك وشرفك أن الجماد يعرفك! فالرمح يميل عنك مع أن فيه قصدا إذا طُعن به غيرك، ويقصر أن ينالك، مع طوله، هيبة لك.

وأقول: هذا الذي ذكره ليس بشيء! وقوله: مع أن فيه قصدا إلى سواك؛ أي: اعتمادا، غير صحيح. والقصد هاهنا الاستقامة؛ يقول: يحيد الرمح عنك؛ أي: يميل وفيه استقامة، ويقصر أن يصل إليك وفيه طول، وإنما يريد بذلك لخوف حامله منك. وقوله: الوافر وما التأنيثُ لاسم الشَّمسِ عَيْبٌ ... ولا التَّذكيرُ فخرٌ للهِلالِ قال: يقول: لم تُزر بها الانوثة، كما لم يُزر بالشمس تأنيث اسمها. والذكورة لا تُعد فضيلة في احد، كما لم يحصل للقمر فخر بتذكير اسمه. وأقول: العبارة فيها قصور، وكان ينبغي أن يقول: إنه ضرب لهذه المرأة في الأنوثة، ولغيرها من الرجال في الذكورة، مثلا بالشمس والقمر فقال: هذه وإن كانت مؤنثة فإنها أشرف ممن هو مذكر، كما إن الشمس، وإن كانت مؤنثة أشرف من القمر الذي هو مذكر. وقوله: المتقارب كأنَّ خلاصَ أبي وائلٍ ... معاوَدَةُ القَمَرِ الآفِلِ

قال: كنا بعد استتاره في ظلمة فلما تخلص وعاد إلينا، كان كعودة القمر بعد الأفول. وأقول: هذا القول مع وجود سيف الدولة لا يحسن. ولم يُرد أبو الطيب ذلك وإنما جعل أبا وائل في شرفه وأسره بمنزلة القمر إذا افل، ثم إنه عاود الطلوع باستنقاذ سيف الدولة له. وقوله: المتقارب ولما نَشِفْنَ لَقِينَ السِّياطَ ... بِمِثْلِ صَفَا البَلَدِ الماحِلِ قال: يقول: لما نشفت الخيل من السوق لقيت السياط من أعجازها بمثل الصفا لا ندوة به، فإنها لم تسترح، ولم تضعف لما لحقها من التعب؛ أي: لما ضُربن بالسياط وقعت من مفاصلها على مثل صفا البلد الماحل. وأقول: هذا التفسير فيه تقصير، وقد ذكرته قبل. وقوله: المتقارب ومَا بَيْنَ كاذَتِي المُسْتَغيرِ ... كما بَيْنَ كاذَتِي البَائِلِ

قال: أي يشتد عدو الفرس المستغير؛ أي: الذي يطلب الغارة فينفحج للعدو كما ينفحج البائل يصيبه البول. قال: ويجوز إنه يعرق في عدوه حتى يسيل العرق بين رجليه كالبول. قال: وذكر في هذا البيت انه أراد أن المنهزم يبول فرقا، وهذا لا يصح لأن المستغير لا يكون منهزما. وأقول: انظر إلى أقوال هؤلاء واتباع بعضهم بعضا تقليدا في الخطأ، وتهورا في الضلال! فهم في ذلك كقوله تعالى: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ). والذي ينبغي أن يقال فيه ما قلته قبل. وقوله: المتقارب وأقْبَلْنَ يَنْحَزْنَ قُدَّامَهُ ... نَوَافِرَ كالنَّحْلِ والعاسِلِ قال: الانحياز: الانهزام؛ هو الانضمام إلى جانبه. قال: يقول: أقبلت خيل الخارجي تنفر وتهرب من جيش سيف الدولة نفور النحل من العاسل. وأقول: إن هؤلاء القوم إذا كان في البيت معنى مشكل، أو لفظ محتمل لم ينتبهوا

له ولم يحملوه على وجهه! وهم في ذلك كقوله تعالى: (ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِنَ الْعِلْم). والذي فيه من اللفظ والمعنى قد ذكرته أيضاً قبل. وقوله: المتقارب إذا طَلَبَ التَّبْلَ لم يَشْأَهُ ... وإنْ كان دَيْناً على مَاطِلِ قال: إذا طلب وترة لم تفته، وان مطل بها من يطلب عنده تلك الترة؛ يعني: يدرك ثأره وان طال العهد. وأقول: إن قوله: وإن طال العهد ليس بشيء! والماطل هو الغريم العسر الوفاء، وهو هاهنا كناية عن الشجاع، وذلك إنه لما جعل الترة دينا جعل الماطل بها شجاعا للمناسبة بين الاستعارة، وهما بخلاف الدَّين والغريم في الدَّين، فهذا معنى المطل لا ما ذكره وذلك كقوله: الكامل مَحِكٌ إذا مطَلَ الغَريمُ بدينِهِ ... جَعَلَ الحُسَامَ لما أرادَ كفِيلا وقوله: المتقارب يُشَمِّرُ للُّجِّ عن ساقِهِ ... ويَغْمرُهُ المَوْجُ في السَّاحِلِ

ذكر في هذا البيت قول ابن فورجة، وهو الصحيح، وصوّب قول ابن جني الذي خطّأه فيه ابن فورجة. فخطّأ المصيب وصوّب المخطئ! والذي ذكر فيه ابن فورجة ذكرته في مآخذ شرح الكندي - شهد الله - إلا اختلافا قليلا في العبارة من غير وقوف عليه، لأن النهج الواضح لا يكاد يختلف فيه البصيران. وإنما ذكرته آخرا لأن هذه الشروح لم تصل إلي وتقع في يدي على الترتيب، وكل شرح منها قائم بنفسه، فإذا نصصت على موضع منها، فلا فرق بين أن يكون منها أولا أو آخرا. وقوله: المتقارب أمَا للخلافةِ من مُشْفِقٍ ... على سَيْفِ دَوْلَتِهَا الفَاصِلِ يَقُدُّ عِداها بلا ضَارِبٍ ... ويَسْري إليهم بلا حامِلِ قال: يقول: هذا سيف يقطع الأعداء من غير أن يُضرب به، ويسري إليهم غير محمول. وأقول: هكذا قال أبو الطيب إلا إنه جعل موضع: يقطع، وموضع: عداها الأعداء، وموضع: بلا ضارب من غير أن يضرب به، وموضع: بلا حامل غير محمول! وفي ذلك بيان للمعنى ظاهر وفضل وافر!! وأقول: البيت يحتمل وجهين من التفسير، أحدهما:

أنه سيف لا كالسيوف، لان السيف لا يقد حتى يحمل ويضرب به وهذا يقد بلا ضارب وبلا حامل، وهذا استعار ومجاز. والثاني: يقول: أما لخلافة الله في بلاده وعلى عباده من مشفق على هذا السيف، ويعني به سيف الدولة حقيقة لا مجازا، فيعنيه على جهاد الأعداء في قتاله إياهم، وسيره إليهم؟ وفي هذا إشارة إلى أن ما ثم من يشار إليه في أعانته. وقوله: الطويل ومن كانَ ذا نَفْسٍ كنَفْسِكَ حُرَّةٍ ... فَفِيه لها مُغْنٍ وفيها له مُسْلي قال: يقول: من كانت نفسه حرة، كنفسك، أغنته عن تعزية غيره، واسلته عن مصيبته؛ لأنه يعرف أن الإنسان لا يخلو في دهره من الحوادث، ومن عرف هذا وطَّن نفسه على فقد الأحبة. وأقول: إن قوله: . . . . . . ... ففيه لها مُغْنٍ. . . . . . أي: تستغني نفسه به عن غيره كما قال: البسيط . . . . . . ... إذا سلمتَ فَكُلُّ الناس قد سَلِمُوا

وقوله: . . . . . . ... . . . . . . وفيَهَا لَهُ مُسْلِي أي: يسلو بنفسه عن غيرها لفضل شرفه وشرفها؛ أي: إذا سلم لنفسه وسلمت نفسه له ففي ذينك مغن ومسل له عن كل واحد. وقوله: الطويل نُبَكِّي لِمَوْتانَا على غيرِ رَغْبةٍ ... تَفُوتُ من الدُّنْيَا ولا مَوْهبٍ جَزْلِ إذا ما تأمَّلْتَ الزَّمانَ وصَرْفَهُ ... تَيَقَّنْتَ أنَّ الموتَ ضَرْبٌ من القَتْلِ أقول: لم يذكر تعلق ما بين البيتين وهو كأنه يقول: نُبكي لموتانا محبة للبقاء ورغبة في الحياة، وليس يفوتهم بذلك من الدنيا رغبة ولا عطاء كثير، وذلك غير صواب منا لأنك إذا نظرت إلى الزمان، الذي هو قوام الدنيا، وجدت صرفه يقتل الناس بالموت. فهل يسوغ لعاقل أن يحب الدنيا أو يرغب فيها وهي على هذه الصفة عدوة له، تقتله بالموت؟ ثم قال بعد ذلك: الطويل هَلِ الوَلدُ المحبُوب إلاَّ تَعِلَّةٌ ... وهَلْ خَلْوَةُ الحَسْنَاءِ إلاَّ أذَى البَعْلِ أي: هذه من المواهب التي ليست بجزلة، وذلك أن شهوة الولد مرض وعلة، ووجوده تعلة؛ أي: تعليل لذلك المرض، فهو وان كان فيه لذة فغبه آلام. وكذلك يقال في خلوة الحسناء، وهي كناية عن جماعها، إنه أذى بما يصحبه من نهك القوة وضعف الجسم، أو بما يُعقبه من الولادة، والتعب بها، والكلفة لها!

وقوله: المنسرح اخْتَرْتُ دَهْمَاَء تَيْنِ يا مَطَرُ ... ومَنْ له في الفَضَائِلِ الخِيَرُ قال: أراد يا من له الاختيار في الفضائل، يعني تأخذ، مختارا، الفضائل ونخبتها فتختار منها ما تريد. قال: ويروى الخبر؛ يعني اشتهاره في الفضائل، وخبره في الناس. وأقول: إنه جعل الفضائل له بمنزلة الملك فهو يختار منها ما يشاء، فإذا أراد أن يفعل مكرمة أو يسدي إلى أحد صنيعة كان ذلك خيرها. يقول: اخترت إحدى هاتين الفرسين، وهي الدهماء فيهما، وينبغي أن لا أتخير عليك؛ بل لك الخير في الفضائل التي تفعلها. وهذا مثل قوله: الخفيف ما لنا في النَّدى عليكَ اختيارٌ ... كلُّ ما يَمْنَحُ الشَّريفُ شَرِيفُ وأما روايته الخبر بالباء فضعيف لأن الصناعة تقتضي الخير بالياء. . وقوله: الكامل أنِّي لأبْغِضُ طَيْفَ من أحْبَبْتُهُ ... إذْ كانَ يَهْجُرنَا زَمَانَ وِصَالِهِ

قال: أني أبغض طيف الحبيب لأن رؤيتي الطيف عنوان الهجر إذ لا أراه إلا في حال فراق الحبيب. وكان من حقه أن يقول: إذ كان يواصلني زمان الهجران؛ لأن هجران الطيف زمان الوصال لا يوجب بغضا له، إذ حاجة به إلى الطيف زمان الوصال، ولكنه قلب الكلام على معنى أن هجراته زمان الوصال يوجب وصاله زمان الهجران. فيقال له: لم يقلب الكلام، ولكنك أنت انقلب فهمك! إذ توهمت أن الضمير في يهجرنا راجع إلى الطيف، والضمير في وصاله راجع إلى الحبيب وهو بالعكس! والتقدير: أبغض طبع الحبيب، إذ كان يهجرنا الحبيب زمان وصال الطيف، ولو واصلنا الحبيب لهجرنا الطيف؛ لأن الطيف لا يكون إلا عند هجره وبعده. وقوله: الكامل مثلَ الصبَّابةِ والكآبةِ والأسَى ... فَارَقْتُهُ فَحَدَثْنَ من تَرْحَالِهِ قال: يقول: يهجرنا الطيف زمان الوصال مثل هجر هذه الأشياء، وأبغضه مثل بغض هذه الأشياء التي حدثت من ترحال الحبيب. وأقول: تفسيره هذا البيت مرتب على البيت الذي قبله لمّا فسره مقلوبا! وهل يسوغ لذي فهم أن يقول: ابغض الطيف والصبابة والكآبة والأسى إذ كانت هذه الأشياء تهجر المحب زمان وصال الحبيب؟! وهل شيء أحب إلى المحب من هجر هذه الأشياء له

ووصل حبيبه؟! والتقدير: أني أبغض الطيف مثل بغض الصبابة والكآبة والأسى لأن هذه الأشياء إنما حدثت بسبب ترحاله فكذلك الطيف. ومثل ينتصب بأنه صفة مصدر محذوف والعامل فيه ما قبله، وهو الفعل في أول البيت الذي قبله، وهو: أبغض وتقديره: أني لأبغض طيف من أحببته بغضا مثل بغض الصبابة، وحذف المضاف لدلالة الفعل عليه. وقوله: الكامل ولَقَدْ دَخَرْتُ لكُلِّ أرْضٍ سَاعةً ... تَسْتَجْفِلُ الضِّرْغَامَ عن أشْبَالِهِ قال: لكل أرض أي: لافتتاح كل أرض فحذف المضاف. وتستجفل: يستدعي سرعته في الهرب؛ من قولهم: جفل الظليم وأجفل إذا أسرع، وكنى بالساعة عن قصر المدة التي يستولي عليها، وسرعة تمكنه منها؛ يقول: ادخرت لفتح كل ارض ساعة شديدة تحمل الأسد على الفرار عن أشباله لشدتها وهولها. وأقول: لا معنى لذكر فتح الأرض، والجيد ما ذكره التبريزي؛ قال: يقول: ذخرت لكل أرض مخوفة، أحل فيها، ساعة أكون فيها شجاعا أُفزع من أمن بها، حتى أني لأُفزع الليث فيفر عن الأشبال.

وقوله: الكامل وإذَا تَعَثَّرتِ الجيادُ بَسَهْلِهِ ... بَرَّزْتُ غَيْرَ مُعَثَّرٍ بجبالِهِ قال: يقول: الشعراء الفصحاء إذا تعثروا بالكلام السهل، سبقتهم غير متعثر بحزنه؛ يعني: إذا لم يقدروا على السهل المستعمل، كنت قادرا على الغريب المهمل. وأقول: الغريب المهمل من الكلام لا يفضل السهل المستعمل، فليس في ذلك فضل له عليهم. وإنما فضل عمر بن الخطاب - رحمه الله - زُهيرا على غيره من الشعراء لقوله: كان لا يتتبع حوشي الكلام. وقد قال البحتري: الكامل مِيلُوا إلى سَهْلِ الكلامِ فإنه ... من خَافَ مال إلى الطريق الأوْعَر وكأن أبا الطيب يريد بذلك المنظوم، والمسارعة فيه، والمسابقة اليه؛ يقول: إذا الجياد، وهم البلغاء الفصحاء، جاروني فيه تعثّروا بالسهل منه، أي الضعيف اللفظ والمعنى، سبقتهم لا أتوقف ولا أتعثر منه بالجزل اللفظ والمعنى. وقد كان معروفا في البداية بالسرعة والاجادة، فمن ذلك تشبيهه بطيخة الند، وقد قال له أبو العشائر: أي شيء تُشبه هذه؟ فقال مجيبا له: الكامل وبَنِيَّةٍ من خيزُرانٍ. . . . . . ... . . . . . . وقال فيها: الطويل وسوداَء منظومٌ. . . . . . ... . . . . . .

فعجب أبو العشائر من سرعة خاطره فقال: الوافر أتنكِرُ ما أتيتُ به بديهاً ... وليسَ بمُنْكَرٍ سَبْقُ الجَوادِ أرَاكِضُ مُعْوِصَات الشِّعْرِ قَسْراً ... فأقْتُلُهَا وغيري في الطِّرادِ والمعوصات: يعني المعاني الآبية الغريبة. وقوله: الكامل وَهَبَ الذي وَرِثَ الجُدودَ وما رأى ... أفْعَالَهُمْ لابْنٍ بلا أفْعَالِهِ قال: يقول: وهب ما ورثّهم من المال والمآثلا كلها، فوهب المال للعفاة وترك مفاخر آبائه لقومه غير مفتخر بها؛ لأنه يرى الافتخار بفعل نفسه، ولا يرى أفعال الجدود شرفا له دون أن يبني عليها. قال: واخذ الشريف الرضي هذا المعنى فقال: الطويل فَخَرْتُ بِنَفْسِي لا بقومي مُوَفِّراً ... عَلَى نَاقِصِي قَوْمي مَآثِرَ أسْرَتي فيقال له: الاقتصار على مآثر الجدود وأفعال الآباء من غير أن يضاف إليها من أفعال النفس نقص، وترك مآثر الآباء من غير اعتداد بها جهل، والجمع بينهما فضل. ولذلك قال عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر - عليه السلام: الكامل

لَسْنَا وإنْ أحْسَابُنَا كَرُمَتْ ... يوماً على الأحْسَابِ نَتَّكِلُ نَبْني كما كانَتْ أوائِلُنَا ... تَبْنِي ونَفْعَلُ مثل ما فَعَلُوا والتفسير الذي ذكره ليس بسديد، وإنما حمله عليه بيت الرضي وهو غير مرضي! ويدل على ما قلته بعده: الكامل حتَّى إذا فَنِيَ التُّراث سوى العُلاَ ... . . . . . . لأنه تفسير لما قبله؛ يعني إنه وهب الموروث من آبائه من المال سوى العلا فإنه لا يحسن به أن يهبها وأن يتركها لغيره، كما قال الواحدي؛ لأن ذلك ذم له لا مدح. وقوله: الكامل الجيشُ جَيْشُكَ غير أنَّكَ جَيْشُهُ ... في قَلْبهِ ويميِنِهِ وشمَالِهِ

قال: يقول: الجيش في الحقيقة جيشك، وكل جيش سوى جيشك فليس بجيش. وأقول: إنه ظن إن هذا مثل قولهم: الجود جود حاتم، والحلم حلم أحنف، يراد به المبالغة؛ أي: لا حلم ولا جود معروف إلا ذلك، وهذا التأويل سائغ، إلا إنه لم يرده هاهنا، وإنما الكلام باق على ظاهره؛ يقول: الجيش جيشك على الحقيقة، غير أنك أنت جيشه؛ لأنه بك يتقوى وتحتمي أقسامه؛ وهي قلبه ويمينه وشماله، وبيّن ذلك في البيت الذي بعده وهو قوله: الكامل تَرِدُ الطِّعانَ المُرَّ عن فُرْسَانِه ... وتُنَازِلُ الأبطالَ عن أبْطَالِه وهذه الصفات لم تجتمع لأحد حقيقة إلا لعلي - عليه السلام - لأنه كان المشهور بذلك، وما أجدر أن يكون هذان البيتان فيه، لا بغضا لعلي بن أبي الهيجاء، وهو ممن يُحَب، ولكن زيادة حب لعلي بن أبي طالب! وقوله: الوافر وخَضْرٌ تَثْبُتُ الأبْصَارُ فيه ... كأنَّ عليه من حَدَقٍ نِطَاقَا

ذكر فيه قول ابن جني أنه لنعمته وبضاضته تؤثر فيه الأبصار، وذكر عليه قول ابن فورجة أن الخصر لا يتجرد من الثياب، ومع ذلك فالنعمة والرقة إنما توصف بها الخدود والوجنات. قال: ولكن المتنبي أراد أن الأبصار تثبت في خصرها استحسانا له وتكثر عليه من الجوانب حتى تصير كالنطاق له، وهذا منقول من قول بشار: الكامل ومُكَلَّلاتٍ بالعُيو ... نِ طَرَقْنَنَا ورَجَعْنَ مُلْسَا وأقول: أنهم لم يذكروا معنى: . . . . . . تَثْبُتُ الأبصَارُ فيه ... . . . . . . وهو إنه بالغ في وصف هذا الموضع، فجعل الأبصار، للنهاية في حسنه، لا تنتقل عنه إلى غيره كقول أبي تمام: الطويل لها مَنْظَرٌ قيدُ النَّواظِرِ لم يَزَلْ ... يروحُ ويغدو في خُفَارتِهِ الحبُّ وهو بضد قول امرئ القيس: الطويل . . . . . . ... مَتَى ما تَرَقَّ العَيْنُ فيه تَسَهَّلِ أي لا تقف العين عند عضو من أعضائه لفضله على غيره، بل أعضاؤه متشابهة في الحسن، فإذا رقت العين إلى ما علا منها، استحسانا له، تسفلت إلى غيرها كذلك. وقوله: الوافر سَلِي عن سِيرَتي فَرَسي ورُمْحي ... وسَيْفي والهَملَّعَةَ الدِّفَاقَا

قال: يقول للمرأة: سلي عن سيرتي هذه الأشياء؛ يعني إنه كان وحده لم يصحبه غير ما ذكره فلا يستخبر عن سيره غيرها. وأقول: إن قوله كان وحده غير صحيح، لأنه قال فيما بعد: تركنا، ونكبنا، وهذا ضمير الجمع على الحقيقة، وليس في كونه منفردا في السير قاصدا سيف الدولة بحلب تاركا وراءه نجدا كبير فائدة في فخر وحسن ذكر. والجيد أن يكون في جماعة من اتباعه، وجملة من غلمانه، وكذلك كان ينبغي أن يكون، وإنما خص سؤالها لهذه الأشياء إعظاما لشأنه ومدحا لنفسه تفهم من أمره أكثر مما يفهمه صحبه لأنها هي المباشرة لأحواله ولما كلفها من أفعاله. وقوله: الوافر وما التْتَرَى والليلُ داجٍ ... لسيَفِ الدَّولة المَلِكِ ائتلاقَا أدَلَّتْهَا رياحُ المِسْكِ منهُ ... إذا فتَحَتْ مَنَاخِرَهَا انتِشَاقا أقول: إنه وصف العيس باهتدائها إلى سيف الدولة في البيت الأول بنور بشره وفي البيت الثاني بطيب نشره، ويكون المعني بذلك أصحابها وركابها. ويحتمل أن يكون وصفها بذلك للمبالغة. وكلا الوجهين حسن بالغ، كثير سائغ.

وقوله: الوافر أقامَ الشِّعرُ ينتظِرُ العطايا ... فلمَّا فاقَتِ الأمطارَ فَاقَا قال: أقام الشعر ببابه منتظرا لعطائه، فلما فاق عطاؤه الأمطار في الكثرة فاق الشعر أيضاً الأمطار؛ يعني كثرت عطاياه، وكثرت الأشعار في مدحه ليس بمراد، ولا بذي سداد! وقوله: الطويل ولو زَحَمَتْهَا بالمنَاكِبِ زَحْمَةً ... دَرَتْ أيُّ سُورَيْهَا الضَّعِيفُ المُهَدَّمُ قال: يعني أن الخيل أقوى من هذه البلدة، فهي لو قصدتها لهدمت سورها، فكانت تعلم أن سورها ضعيف لا يقوى على دفع خيل سيف الدولة.

وأقول: إن هذه البلدة - أعني ميافارقين - هي لسيف الدولة، وكذلك الخيل التي ذكرها، اجتازت بها قاصدة غزو غيرها من بلاد العدو فمالت عنها، فجعل أبو الطيب أنها مالت عنها، كما ذكر أولا، رحمة لها ورقة عليها أن لو دنت منها لزاحمتها، فكان يزدحم سوراها؛ بناؤها وخيل سيف الدولة. وجعل الخيل سورا لها ثانيا لأنها أيضاً تحفظها وهي أقوى من سور البناء، فكان حينئذ تبين القوة في سور الخيل والضعف في سور البناء، وإنما ذكر هذا على وجه المبالغة في قوة الخيل، ولا يدل ذلك على ضعف بناء سورها كما توسمه ابن جني فروى إنه سقط في تلك الليلة! وقوله: المتقارب أيَنْفَعُ في الخَيْمَةِ العُذَّلُ ... وتَشْمَلُ مَنْ دَهْرَهَا يَشْمَلُ قال في جملة شرح هذا البيت: إن إضافة الدهر إلى الخيمة غير مستحسن ولو قال: . . . . . . ... . . . . . . مَنْ دَهْرَهُ يَشْمَلُ لكان أحسن: ومعنى شمل الشيء: أحاط به؛ يقول: أتحيط الخيمة بمن أحاط بالدهر؛ يعني: علم كل شيء، فلا يحدث الدهر شيئا لم يعلمه، ومن كان المحل لا يعلوه شيء ولا يحيط به شيء. فيقال له: بل إضافة الدهر إلى الخيمة، كما قال أبو الطيب، أولى من إضافته إلى سيف الدولة وأبلغ في المعنى وأصنع في اللفظ وهذا كما يقال: أتحيط هذه الدار بزيد

وهو يحيط ببلدها؟ أي: إذا كانت جزءا مما أحاط به فكيف تحيط به؟ وأما قوله: أحاط بالدهر من جانب العلم، وان الدهر لا يُحدث شيئا لا يعلمه فلذلك لم يحط به لم يُرد العلم، والمراد بذلك وصفه بالجلالة وعظم القدرة، وجعل ذلك كعظم الجسم استعارة وتوسعا، فجعل الدهر دونه في العظم، فالدهر لا يحيط به. كما وصفه بالمجد والشرف فجعل زحل في العلو دونه فزحل لا يعلوه. وقوله: المتقارب فَلَيْتَ وقارَكَ فَرَّقْتَهُ ... وحَمَّلْتَ أرْضَكَ ما تَحْمِلُ قال: ليت ما فيك من الوقار، فرّقته على الناس، وحمّلت أرضك من باقي وقارك ما تُطيق حمله؛ أي: لو فرّقت وقارك لكان يخص الخيمة منه ما يوقّرها ويثبتها.

فيقال له: إن الخيمة لم تقوّض لخفتها حتى إذا ثقلت بوقاره ثبتت، وإنما تقوّضت لأنها لا تحيط بسيف الدولة لأنه أعظم منها فلا وجه لذكر الخيمة في هذا البيت. وقول أبي الطيب: فليتَ وَقارَكَ فَرَّقْتَهُ ... . . . . . . أطلق بقوله: فرّقته وهو يريد: فرّقت بعضه، ولذلك قال: المتقارب . . . . . . ... وسُدْتَهُمُ بالذي يَفْضُلُ وقوله: المتقارب الأبيات الثلاثة: رأت لَوْنَ نُورِكَ. . . . . . ... . . . . . . والبيتان اللذان يليانه وهما: وأنَّ لها شَرَفاً باذِخاً ... . . . . . . فلا تُنْكِرَنَّ لها صَرْعَةً ... . . . . . . أقول: إنه علّل أولا سقوط الخيمة بكونها لا تشمل من هو أعظم منها وأولى.

هاهنا علّل سقوطها بشيء غيره، وهو ما ذكره في هذه الأبيات من أن نوره فيها كنور الغزالة، وإنها تشرف به، فسقطت لذلك فرحا. ولا يكون النور الذي فيها، والشرف الذي حصل لها، إلا وقد دخلها، فقد علته وشملته. وقد قال أولا إنها لا تشمله لان الاستفهام هنا يراد به النفي في قوله: أينفع، وتشمل وهذا هو التناقض بعينه! إلا أن يريد إنها علته شيئا يسيرا ثم سقطت به وكذلك كانت القضية، فيكون قوله أولا: . . . . . . ... وتَشْمَلُ مَنْ دَهْرَهَا يَشْمَلُ أي: كيف تشمل مدى طويلا، أو: كيف تشمل دائما من دهرها يشمل، فأطلق لفظه ولم يُقيده للأمارة التي دلت عليه. . وقوله: المتقارب ولو بُلِّغَ الناسُ ما بُلِّغَتْ ... لخَانَتْهُمُ حولَكَ الأرْجُلُ قال: أي لو بُلغوا مبلغها من القرب منك لخانتهم أرجلهم ولم تحملهم هيبة لك كما خانتها أطنابها وعمودها. وأقول: لم يُرد بقوله: ما بُلغت قربها من الممدوح ولكن علوها عليه؛ يقول: إن هذه الخيمة، مع كونها جماداً، قد حل بها من هيبتك ما حل، فلو اتفق أن يُبلّغ ذلك أحد من الناس لكان أبلغ في ذلك من الخيمة، ولسقط كما سقطت، ولخانتهم أرجلهم حولك في قصدهم العلو عليك كما خان الخيمة ما هو لها بمنزلة الأرجل، وهي أطنابها وعمودها.

وقوله: المتقارب وعَرَّفَ أنَّكَ من هَمِّهِ ... وأنَّكَ في نَصْرِهِ تُرْقِلُ قال: من همه: أي: من إرادته؛ يقول: عرّف الله الناس بتقويض الخيمة إنه لم يخذلك، ولم يُسلمك، بل يُعنى بك ويريد إرشادك، وإنك تمشي في نصر دينه، فجعل قلع الخيمة سببا لمسيرك، وعلامة على إنه خار لك الارتحال. وأقول: استعمال هم الله بمعنى إرادته لا يجوز، كما لا يجوز عشق الله بمعنى محبة الله، ولا فهم الله بمعنى علم الله، بل يراعى في ذلك استعمال ما جاء ولا يقاس عليه. ولم أسمع هم الله بمعنى إرادته ولعله قد جاء على أن له محملا غير ذلك، وهوان يكون: من همه مضافا إلى المفعول لا الفاعل؛ أي: عرف الله إنك من همه؛ أي ممن يهتم بطاعته، ويناسبه ما بعده من قوله: . . . . . . ... وأنَّكَ في نَصْرِهِ تُرْقِلُ لأن ذلك أيضاً من جملة طاعة الله ومضاف إلى المفعول. وقوله: الوافر وَوَجْهُ البَحْرِ يُعْرَفُ من بَعيدٍ ... إذا يَسْجُو فكيفَ إذا يَموجُ

قال: يقول: البحر يعرف وان كان ساكنا، فكيف إذا تحرك واضطرب! ضرب هذا مثلا له حيث عرفه، وهو يدير الرمح فجعله كالبحر الهائج. وأقول: الصحيح؛ إن البحر هاهنا جيشه، ويموج: يسير، ووجه البحر: سيف الدولة، فجعل جيشه بحرا وهو وجهه؛ يقول: البحر إذا سجا عُرف وجهه من بعيد فكيف إذا تحرك! وكذلك سيف الدولة يُعرف إنه وجه عسكره وملكه، وهو واقف بما يتبين فيه من الجلالة والشهامة والصرامة. فكيف إذا سار الجيش فإنه يكون اشد تبيينا، وأوفى ظهورا، بحُكمه فيه من أمره ونهيه، وتقديمه وتأخيره، وجمعه وتفريقه وما أشبه ذلك. فالذي رُوي عن ابن جني من إدارة الرمح ليس بشيء! وكذلك روايته: الوافر . . . . . . ... وأنت بغير سَيْفِكَ. . . . . . والصحيح: . . . . . . ... وأنت بغير سَيْرِكَ. . . . . . لقوله بعد: تحاول نَفْسَ مَلْكِ الروم. . . . . . ... . . . . . . ولو إنه كما ذكر كان يُقلّب رمحا لقال: وأنتَ بغَيْرِ رُمْحِكَ. . . . . . ... . . . . . .

ولم يقل: . . . . . . بغير سَيْفِكَ. . . . . . ... . . . . . . فلا حقيقة للرمح ولا للسيف في الرواية، وإنما جاء بهما شيئا فريّا! وإنما أوقعه في ذلك جعله البحر سيف الدولة، ولم يدر أن البحر هو جيشه، وإنه هو وجهه، وكثيرا ما يقع في مثل هذه المواضع فيحكي عنه حكاية قد أخذها من شعره، وفسرها على غير الوجه بسوء فهمه، كما وقع له وحسن مع قبحه في رأيه! وليس لها حقيقة معلومة ولا قصة مشهورة! وقوله: البسيط وما نَجَا من شِفَار البِيضِ مُنْفَلِتٌ ... نَجَا ومِنْهُنَّ في أحْشَائِهِ فَزَعُ قال: لم ينج من السيوف من نجا وفي قلبه منها فزع؛ لان ذلك الفزع يقتله ولو بعد حين. وأقول: إنه توهم ما حرف نفي والحق أن تكون ما هاهنا بمعنى الذي وجعلها صفة؛ يقول: والرجل الذي نجا من شفار البيض منفلت، أي: منهزم، نجا وفي أحشائه من السيوف فزع، فما وصلتها في موضع رفع بالابتداء، ومنفلت خبره، ونجا الثانية وما بعدها، إلى آخر البيت، صفة لمنفلت، والبيت الثاني بدل من الصفة؛ أي: الذي نجا منفلت من السيوف بهذه الصفة، في قلبه منهن فزع يباشر الأمن

في أرضه وفي قومه دهراً، وهو مختبل أي: ذاهب العقل ويشرب الخمر التي من شأنها أن تُظهر دم الوجه وتحمره حولا وهو ممتقع؛ أي متغير الوجه من الفزع. فهذا التفسير اقرب إلى المعنى وأشبه باللفظ من تفسيره، وهو مع ذلك جائز مأخوذ من قوله: الطويل صَدَدْتُ كما صَدَّ الرَّمِيُّ تطاوَلَتْ ... به مُدَّةُ الأيَّامِ وهو قَتِيلُ وقوله: البسيط وَجَدْتُموهُمْ نِياماً في دِمائِكُمْ ... كأنَّ قتلاكُمُ إياهُمُ فَجَعُوا قال: أي: في دماء قتلاكم، وذلك أنهم تخللوا القتلى وتلطخوا بدمائهم وألقوا أنفسهم بينهم تشبها بهم خوفا من الروم. يقول: كأنهم كانوا مفجوعين بقتلاكم فهم فيما بينهم يتوجعون لهم. وأقول: هذا من جملة التفاسير التي استنبطها ابن جني، واستخرجها من شعره بسوء فهمه وضعف رأيه! وجعلها حكاية عن المتنبي، وتلقّاها من بعده بالنص والقبول، وقد ذكرتها في مواضع من الشروح، وبينت ما فيها من الغلط، واستخرجته بما قبل البيت وما بعده، ومن وقف عليه تبين منه نور الصواب، ولم يغتر بلمع السراب!

وقوله: الطويل ضُرِبْنَ إلينا بالسِّيَاطِ جَهَالةً ... فلمَّا تَعَارَفْنَا ضُرِبْنَ بها عَنَّا قال: إنما قال: جهالة لأن خيل الروم رأت عسكر سيف الدولة، فظنتهم روما، فأسرعت إليهم، فلما عرفوا الحال أسرعوا هاربين. وأقول: إن هذه الحكاية أيضاً من خرافات ابن جني! ذلك أن قوله قبل: الطويل وخَيْلٍ حَشَوْناها الأسِنَّةَ بعدما ... تكَدَّسْنَ مِنْ هَنَّا علَيْنَا ومِنْ هَنَّا يُفسد هذه الحكاية لأنه وصف خيل الروم بالتكدس من جوانب، وذكر أنهم حشوها الأسنة؛ يعني فرسانها، وذلك كله لا يكون عن جهل بالردية لان الجهل بها إنما يكون مع البعد، فأما إذا قاربوهم عرفوهم لا محالة؛ لان زي المسلمين وشعارهم لا يكاد يُلبس بزي الروم وشعارهم، فرجعوا عنهم ولم يحشوهم الأسنة. وإنما قوله: ضُرِبْنَ إلينا بالسِّيَاطِ جَهَالَةً ... . . . . . . أي: جهالة بقتالنا وطعاننا، فلما تعارفنا بالطعان وصدق القتال ضُربن بها عنا، لأنهم إنما دعاهم إلى ذلك الطمع بنا والجهل بأمرنا.

وقوله: الطويل ولا فَضْلَ فيها للشَّجَاعة والنَّدَى ... وصَبْرِ الفَتَى لولا لقاءُ شَعُوبِ قال: يقول: لولا الموت لم يكن لهذه المعاني فضل، وذلك ان الناس لو أمنوا الموت لما كان للشجاع فضل على الجبان؛ لأنه قد أيقن بالخلود فلا خوف عليه، ولا حمد له على شجاعته. وكذلك الصابر على المكروه والسخي لان في الخلود وتنقل الأحوال من عسر إلى يسر، ومن شدة إلى رخاء ما يُسكن النفوس ويُسهل البؤس. وهذا قول ابن جني، نقله! قال: ويجوز أن يكون المعنى: إنما يشجع ليدفع الموت عن نفسه، ويجود أيضاً لذلك، ويصبر في الحرب ليدفع الموت أيضاً. فلو لم يكن في الدنيا موت لم يكن لهذه الأشياء فضل. وأقول: إن تعليل ابن جني للشجاع بما ذكره صواب، وتعليله الصبر والندى بما ذكره تزويق في اللفظ وتلفيق، ليس تحته لمعنى تحقيق! واتباع الواحدي له في نقل ألفاظه، كأنه إعجاب بكلامه، وجهل بمراد الشاعر ومرامه! وكذلك تفسيره هو أيضاً الندى بما فسره به، لم يتنبه له ولا أبان عنه! وقد ابنته في شرح ابن جني.

وقوله: الطويل وأوْفَى حياةِ الغابرين لصَاحِبٍ ... حياةُ امرئٍ خانَتْهُ بعد مَشِيبِ قال: يقول: أوفى عمر أن يبقى المرء حتى يشيب ثم يخونه عمره بعد المشيب. يعني أن الحياة وإن طالت فهي إلى انقضاء. وأقول: إنه توهم أن أوفى بمعنى أزيد، ففسره على ما ذكر، وليس كذلك. وإنما أوفى من الوفاء؛ ضد الخيانة والغدر. يقول: أوفى حياة؛ أي أشد وفاء لغابر حياة خانته بعد مشيبه، فجعلها كأنها إذا خانته بعد مشيبه فقد وفت له، إذ لم تعاجله قبل المشيب بالموت. فعلى هذا التفسير يكون معنى البيت غريبا؛ وهو أن جعل الخائن وافيا على الوجه الذي ذكره. وعلى التفسير الأول ليس فيه كبير فائدة؛ بل لا فائدة فيه أصلا لأن معناه أن حياة المرء التي تخونه بعد المشيب أزيد من التي تخونه قبله، كأنه يقول: حياة الشائب أزيد من حياة الشاب، وهذا معلوم ضرورة كما يقال: الباع أطول من الذراع، والجمل أكبر من الحمل، والعشرة أكثر من الخمسة! وقوله: الطويل ولولا أيَادي الدَّهْرِ في الجَمْعِ بينَنَا ... غَفَلْنَا فلَمْ نَشْعُرْ له بذُنوبِ

قال: يقول: لولا إن الدهر أحسن إلينا في الجمع بيننا ما كنا نعلم بذنوبه في التفريق، أي: بإحسانه عرفنا إساءته! وهذا كالاعتذار للدهر في التفريق، ثم عاد إلى ذمه. وأقول: هذا الذي ذكره ليس بشيء! والمعنى قد بينته في شرح التبريزي. وقوله: الطويل وكم لكَ جَدّاً لم تَرَ العينُ وَجْهَهُ ... فَلَمْ تَجْرِ في آثارِه بغُروبِ قال: يقول: كم لك من أب وجد لم تره عينك فلم تبك عليه فهب هذا مثلهم لأنه غاب عنك، والغائب عن قرب كالغائب عن بعد. وأقول: هذا قول ضعيف، والقول ما ذكرته قبل. وقوله: الطويل فَدَتْكَ نُفُوسُ الحَاسِدين فإنَّها ... مُعَذَّبَةٌ في حَضْرةٍ وَمَغِيبِ لم يُفسر هذا البيت!

وأقول: أن فيه دعاء لحساده بالراحة إذا فدوه، لان نفوسهم في الحياة معذبة بحالي حضوره ومغيبه وهو بضد قوله: الطويل بَلاَ اللَّهُ حُسَّادَ الأميرِ بحِلْمَهَ ... وأجْلَسَهُ منهم مكانَ العَمائمِ فإنَّ لهم في سُرْعَةِ الموتِ راحةً ... وإنَّ لهم في العَيْشِ حَرَّ الغَلاصِمِ وقوله: الطويل ويَخْتَلِفُ الرِّزقانِ والفِعْلُ واحِدٌ ... إلى أنْ تَرَى إحْسَانَ هذا لِذا ذَنْبا أقول: إنه فسر هذا البيت، كما فسره غيره، ولم يصيبوا! وهذا البيت كالمفسر للبيت الذي قبله، وقد ذكرته قبل وبعد، فقف عليه تهتد الطريق، وتتبين التحقيق! وقوله: الطويل وأضحتْ كأنَّ السُّورَ من فَوْقِ بَدْئِهِ ... إلى الأرض قد شَقَّ الكَواكبَ والتُّرْبا

قال: كان سورها، يعني: جدارها، من فوق بدئه، أي: من أعلى ابتدائه، قد شق الكواكب والتراب برسوخه في الأرض، وروى ابن جني: فأضْحَتْ كأنَّ السُّورَ من فَوْقُ بَدْؤُهُ ... . . . . . . بالرفع فيهما. قال: أراد: من فوقه، فلما حذف الهاء بناه قال: وعلى هذه الرواية لا يستقيم لفظ البيت ولا معناه. وأقول: إن هذه الرواية الكثيرة الظاهرة! ولفظ البيت معها مستقيم ومعناه، والتقدير: فأضحت القلعة كأن السور بدؤه من فوقه؛ أي: من أعلاه، آخذ إلى الأرض؛ أي: بدئت عمارتها كذلك فشق الكواكب أولا ونزل إلى الترب، وهذا بناء بخلاف الأبنية المعتادة فإنها تبدأ من أسفل إلى فوق، وهذا من فوق إلى أسفل! وإنما أراد بذلك المبالغة فتناهى فيها، وتجاوز الغاية بها، وهو من قول السموأل إلا إنه قلبه: الطويل رَسَا أصْلُهُ تحتَ الثَّرَى وسَمَا بهِ ... إلى النَّجْمِ فَرْعٌ لا يُرَامُ طويلُ وهو مثل قوله: الوافر وقالوا هل يُبَلِّغُكَ الثُّرَيَّا ... فَقُلْتُ نَعَمْ إذا شئتُ اسْتِفَالا

وقوله: الكامل . . . . . . ... فإذا أرادوا حاجةً نَزَلُوا فعلى هذا بدؤها مبتدأ من فوق خبره مقدم عليه، والجملة في موضع رفع خبرا لكأن، وقد شق الكواكب والتربا في موضع الحال. وعلى قول الواحدي يكون قوله: قد شق الكواكب والتربا خبرا لكأن ومن فوق بدئه في موضع الحال. يقول: كأن السور قد شق الكواكب والترب كائنا من أعلى ابتدائه؛ أي: في تلك الحال، وهذا تقدير القولين، ورواية ابن جني أكثر، والمعنى معها أظهر! وقوله: الطويل وجَيْشٍ يُثَنِّي كُلَّ طَوْدٍ كأَنَّهُ ... خَرِيقُ رياحٍ واجَهَتْ غُصُناً رَطْبا قال: وجيش إذا مروا بجبل شقوه، لكثرتهم، نصفين فيجعلونه اثنين كالريح إذا مرت بأغصان رطبة. والخريق: الريح الشديدة. وأقول: لم يرد هاهنا بيُثني إلا يُعطف؛ شدد للتكثير والمبالغة، فجعل الجبل كالغصن إذا واجهته الريح الشديدة فإنها تزيد في عطفه وانثنائه. وهذا المعنى الذي أراد أبو الطيب لأنه أمكن في الصناعة، وأكمل في الاستعارة، وإن كان الأول جائزا وقد ذكرته.

وقوله: الطويل وسَمْراءُ يَسْتَغْوي الفوارس قَدُّهَا ... ويُذْكِرْهُمُ كَرَّاتِهَا وطِعَانَهَا قال: استغواء قد هذه القناة للفوارس أطماعه إياهم بطوله، وملاسته، وشرائط كماله، وتصريفه واستعماله، وإظهار عجزهم عنه إذا باشروا ذلك. وأقول: إن معنى: يستغوي الفوارس أي: تدعو الفوارس إلى الغي بحسن قدها؛ أي: تزيد في إقدامهم وشجاعتهم فتفرط إلى أن تصير غيا، وتشوقهم وتعجبهم فيذكرون بها كراتها في الحرب وطعانها. ولم يُرد ما ذكره من أطماعهم بتصريفه واستعماله وإظهار عجزهم عنه إذا باشروا ذلك، لأنه لا دليل في اللفظ عليه. وقوله: البسيط أنَا الذي نَظَر الأعْمَى إلى أدَبي ... وأسْمَعَتْ كلماتي من به صَمَمُ قال: يقول: الأعمى على فساد حاسة بصره، أبصر أدبي، وكذلك الأصم يسمع

شعري؛ يعني إنه شعر اشتهر وسار في البلاد حتى تحقق عند الأصمعي والأصم أدبه فكأن الأعمى رآه، لتحققه عنده، وكأن الأصم سمعه. وأقول: تعليله، من قوله: يعني. . . . . . إلى آخره. . . . . . ليس بشيء! والمعنى على تعريضه بسيف الدولة، وهو مرتب على البيت قبله وهو قوله: البسيط وما انتفاعُ أخي الدُّنيا بناظِرِهِ ... إذا استَوَتْ عنده الأنوارُ والظُّلَمُ! كأنه يقول له: أنت مع كونك صحيح حاسة البصر والسمع أسوأ حالا من الأعمى والأصم لأنهما قد جعلهما أدبي وشعري وكلامي مدركين له رؤية وسمعا وأنت لا تراه ولا تسمعه! وقوله: البسيط أنامُ مِلَْء عن شواردها ... ويَسْهَرُ الخَلْقُ جَرَّاهَا ويَخْتصِمُ قال: يقول: أنا أنام عنها وجفوني ممتلئة بها، كأني انظر اليها، والناس يسهرون ويتعبون ويختصمون. وأقول: هذا الذي ذكره ليس بشيء! لأنه لم يذكر ما معنى نومه عن شواردها، ولا لأي سبب يسهرون الناس ويختصمون لأجلها؟ وذلك أن هذه شوارد ليست كالإبل الشوارد التي يسهر الإنسان في طلبها، وإنما هي قواف فلا أخشى عليها إذا شردت، ولا أسهر في طلبها إذا ندّت، بل أنام ملء جفوني لأنها حينئذ تكون محفوظة لا ضائعة، وقوله:

... ويَسْهَرُ الخلق جَرَّاهَا. . . . . . أي: محبة لها واهتماما بها، ويختصم: لا نكل أحد يريد أن يحويها ويستبد بها، لجلالتها وجلالة من يُمتدح بها. ويحتمل أن يكون ذلك في استنباط معانيها بغموضها والخلاف الذي يقع بينهم فيها. وقوله: البسيط صَحِبْتُ في الفَلَواتِ الوَحْشَ مُنْفَرِداً ... حتى تَعَجَّبَ مني القُورُ والأكَمُ قال: يقول: سافرت وحدي حتى لو كانت الجبال تتعجب من أحد لتعجبت مني، لكثرة ما تلقاني وحدي. وأقول: هذا ليس بشيء! لان ما انخفض من الأرض، مثل الأودية والوهاد والتلاع تلقاه أيضا وحده، وإنما خص القور والاكم، وهي ما ارتفع من الأرض، بالذكر لمشابهتها له في الرفعة، ومناسبتها له في العلو، وهذا كقوله: الوافر عَدُوِّيْ كُلُّ شيءٍ فيك حَتَّى ... لخِلْتُ الأكْمَ مُوغَرَةَ الصُّدورِ أي: لكوني أعلى منها، واثبت وأقوى، تحسدني، فصدورها موغرة علي لذلك. وقوله: الطويل ألا ما لسَيْفِ الدَّولةِ اليومَ عاتِبَا ... فَداهُ الوَرَى أمضى السُّيوفِ مَضَارِبَا

قال: أمضى خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو أمضى مضارب؛ أي: لا سيف أمضى مضربا منه. فيقال له: لا يحتاج البيت إلى تقدير محذوف، وأمضى ليس بمرفوع بل هو منصوب حالا أو تمييزا! وإضافة أفعل إضافة ليست بمحضة لأنها في تقدير الانفصال، فهي نكرة وإن أضيفت إلى المعرفة. وقوله: الطويل وما لي إذا ما اشْتَقْتُ أبْصَرْتُ دونَهُ ... تنائِفَ لا أشْتَاقُهَا وسَبَاسِبَا قال: وما لي بعيدا عنه إذا اشتقت إليه رأيت بيني وبينه مفاوز وأمكنة خالية؟! وأقول: لم يتبين ما أراد بقوله: . . . . ... تنائفَ لا أشتاقُهَا وسَبَاسِبَا وذلك إنه لما انشد القصيدة الميمية، التي قبل هذه الأبيات، أغضبت سيف الدولة بما ذكره فيها من ممض العتاب، ومؤلم التقريع، تلويحا وتصريحا، أمر أبا العشائر بقتله، فكمن له جماعة من غلمانه، والقضية مشهورة مذكورة، فلهذا جعلها مع القُرب تنائف وسباسب للخوف والوحشة الذي أدركه منها، والهلاك الذي كاد يلحقه فيها.

وقوله: الطويل وقَدْ كانَ يُدْني مَجْلسِي من سَمَائِه ... أُحَادِثُ فيها بَدْرَها والكواكِبَا قال: أراد بالسماء مجلسه، جعله كالسماء رفعا له، وجعله كالبدر، وندماءه وأهل مجلسه كالكواكب حوله. وأقول: لو قال هذا القول أولا في ندمائه وجلسائه - ولعل أكثرهم الذين عرّض بهم، والذين لا تكاد تخلو قصيدة يمدح بها سيف الدولة من ذمهم - لم يُحوج سيف الدولة إلى ما أحوجه ولم يحملهم على ما حملهم من التعصب عليه ولم يحتج إلى هذا التضرع والتذلل فيما بعد ذلك من قوله: الطويل حَنَانيْكَ. . . . . . ... . . . . . . وما بعده، إلى آخر الأبيات، ولكنه للؤم النجر لا يعطي إلا على القسر! وقوله: البسيط مُطَاعَةُ اللَّحْظِ في الألحاظِ مالِكَةٌ ... لُمْلَتَيْهَا عَظِيمُ المُلْكِ في المُقَلِ

قال: يقول: هي مطاعة اللحظ في جملة ألحاظ النسوان، أي إنها إذا لحظت إلى إنسان فتنته حتى يصير الملحوظ إليه مطيعا لها، وهي مالكة للقلوب، ولمقلتيها ملك عظيم في جملة المقل. وقال ابن فورجة: أي إن العيون إذا نظرت إلى عينيها لم تملك صرف ألحاظها عنها، لأنها تصير عُقلة لها، فكأنما عينها مالكة للعيون. وأقول: لم يرد ما ذكرا، وإنما قوله: مُطَاعةُ اللَّحظ في الألحاظِ. . . . . . ... . . . . . . كقولهم: فلان مطاع الأمر في الامراء، أي انهم تبع له وهو مقدم عليهم لامتثالهم أمره، وانقيادهم اليه، فكذلك لحظ هذه المحبوبة، والنصف الثاني مفسر للأول ومؤكد له. وقوله: البسيط تُمسِي الأمَانيُّ صَرْعَى دونَ مَبْلَغِهِ ... فما يقولُ لشيءٍ ليْتَ ذلك لي قال: يريد إنه مسلط على الأنام، مالك للرقاب والأموال فما يتمنى شيئا، والأماني لا ترتقي إليه.

وأقول: إن تفسيره وصرعى دون مبلغه بقوله: لا ترتقي إليه ليس بشيء! وإنما معناه: قاصرة دون بلوغه الأشياء لأنه قد أدرك منها ما تعجز الأماني من الوصول اليه، فلا يتمنى، لأن التمني إنما يكون للشيء الذي لم يحصل، وأما الممدوح فقد حصلت له الأشياء جميعها. وقوله: البسيط وما الفِرَارُ إلى الأجبْالِ من أسَدٍ ... تَمْشي النَّعامُ به في مَعْقِلِ الوَعِلِ قال: يريد بالنعام خيله، شبهها بها في سرعة العدو وطول الساق. فيقال له: النعامة لا توصف بطول الساق ولكن بقصرها، وقد ذكرت هذا قبل في تفسيره الرجز وزاد بالسَّاق على النَّقَانِقِ وأما تفسيره قوله: . . . . . . ... تَمْشي النَّعامُ به في مَعْقِلِ الوَعِلِ بمعنى إن خيله لا تعجز عن قطع الجبال في آثار الروم فحسن. وأما رواية ابن جني: تمسي وتفسيره بأنه قد اخرج النعام من البر إلى الاعتصام بالجبال فهوس، كما ذكر الواحدي! ولكن له تفسير غير ذلك، إن لم يزد على تفسير

الواحدي في الجودة فلا ينقص عنه؛ يقول: تمسي النعام، أي: من حلّ في السهل فهو بأمنه ومسالمته في معقل الوعل حماية وتمنعا؛ كأنه يقول: ما الحاجة إلى الاحتماء بالجبال، وهذا الممدوح إذا أطيع وأمن صار الذي في السهل من أعدائه كأنه به في جبل وقوله: البسيط ما كانَ نَوْمِيَ إلاَّ فَوْقَ مَعْرفتي ... بأنَّ رأيَكَ لا يُؤْتَى من الزَّلَلِ قال: روى ابن جني: . . . . . . إلاَّ بعد مَعْفتي ... . . . . . . وقال: ما لحقني من السهو والتفريط إلا بعد سكون نفسي إلى فضلك وحلمك. وقال ابن فورجة: أقام النوم مقام السهو والغفلة؛ يقول: ما نمت عمّا وجب علي من صيانة مدحك عن خلطه بالعتاب إلا لثقتي باحتمالك، وسكوني إلى جزالة رأيك. قال: وكلاهما قد بعُد عن الصواب! والمعنى إنه يقول: إنما أخذني النوم مع عتبك لثقتي بحلمك، ولزوم التوفيق لرأيك، وعلمي أنك لا تعجل علي، ولا ترهقني عقوبة، وأراد النوم الحقيقي لا السهو والتفريط؛ إلا ترى إنه قال: فوق معرفتي فجعل المعرفة بمنزلة الحشية ينام فوقها! ومعنى قوله:

... بأنَّ رأيَكَ لا يُؤْتَى من الزَّلَلِ أي إنه موفق فيما يفعله، لا يأتي الزلل رأيك. وأقول: إن قول ابن جني وقول ابن فورجة متقاربان في إنه كنى بالنوم عن السهو والتفريط، فيما قال من العتاب، وذلك ليس ببعيد من الصواب. وأما تفسيره نومي بالنوم الحقيقي، ومنعه أن يكون ذلك استعارة ومجازا لقوله: فوق معرفتي وجعل المعرفة كالحشية، فلا يجب مع ذلك أن يكون النوم الحقيقي، بل جائز أن يكون نومي كناية عن اطمئناني، وامني، وسكون نفسي، وذلك اكمل في الصناعة، وأحسن في الاستعارة؛ يقول: ما كان أمني وسكون نفسي فيما قلته من العتب في شعري حال الإنشاد إلا فوق معرفتي بأن رأيك مصيب فيّ لما تعلمه من صدق محبتي، وصفاء سريرتي لا يؤتى من زلل، وتكون المعرفة حشية، ولا بُعد في ذلك عن الصواب. وإن جعل نومي بعد إنشاده الشعر، ومفارقته سيف الدولة، ونومه في منزله أمنا له وسكونا إليه فجائز والأول الأجود. وقوله: الوافر شَدِيدُ البُعْدِ من شُرْبِ الشَّمُولِ ... تُرُنْجُ الهِنْدِ أو طَلْعُ النَّخِيلِ

قال: قال ابن جني: أنت شديد البعد من شرب الشمول، وأراد: بين يديك تُرنج الهند، أو في مجلسك، فحذف لأنه مُشاهد فدلّت الحال على ما أراد. وقال ابن فورجة: أراد: شديد البعد من شرب الشمول تُرنج الهند لديك، فحذف لديك وأتى به في البيت دالاً على المحذوف، والظروف كثير ما تُضمر. وأراد من شرب الناس الشمول عليه أو على رؤيته، وهو من باب إضافة المصدر إلى المفعول كما تقول: أعجبني دق هذا الثوب، كذلك تقول: تُرنج الهند بعيد من شرب الشمول؛ أي: شُرب الناس الشمول عليه. والمعنى: إن هذا الاترج الذي حضرك لم يحضرك للشرب عليه، ولكن كل شيء فيه طيب بحضرتك، ويكون عندك. وأقول: أما التقدير الذي قدّره ابن جني فبعيد عن الصواب. وأما تقدير ابن فورجة فهو من باب إضافة المصدر إلى المفعول المعدّى إليه بحرف الجر مع عدم اللبس كما ذُكر، ومنه قول الشاعر: الوافر ولستُ مُسَلٍّماً ما دمتُ حَيّاً ... على زَيْدٍ بتَسْليمِ الأميرِ إلا أن إضافة الشرب إلى الناس غير جيد، والجيد إضافة الشرب إلى سيف الدولة من غير إضمار لديك لأنه لا حاجة اليه؛ تقول: تُرنج الهند أو طلع النخيل بعيد شُربك الشمول عليه، فحذف الفاعل الذي هو ضمير سيف الدولة، وحرف الجر، وأضاف المصدر إلى المفعول. فهذا وجه صالح على هذا التقدير الذي ذكرته. وقول

المعترض من الحاضرين على المتنبي يدل على هذا الوجه والتقدير الذي ذكرته وهو قوله: بعيد أنت من شُرب الشمول على النارنج أو طلع النخيل. وفيه وجه آخر قد ذكرته قبل. وقوله: الوافر وهذا الدُّرُّ مأمونُ التَّشَظِّي ... وأنتَ السَّيفُ مأمونُ الفُلولِ قال: يقول: هذا الكلام كالدر لا تُثقب أجزاؤه، ولا تصير قطعا لاكتنازه وصلابته، وأنت السيف لا ينفل بالضرب. وأقول: لو قال: هذا الكلام در لا كالدر، لأن الدر يتشظى، وهذا إنما هو نظم فقد أمن فيه التشظي، وهذا سيف الدولة لا كالسيوف لان السيوف تفل، وهذا إنما هو شجاع ماض فقد أمن فيه الفلول، لكان احسن في العبارة، واكمل في الاستعارة. وقوله: المتقارب لقيتَ العُفَاةَ بآمَالِهَا ... وزُرْتَ العُداةَ بآجَالِهَا

قال: أي أعطيت سائليك ما أملوا، وأحضرت آجال أعدائك بقتلهم. وأقول: تفسيره النصف الأول صواب، والثاني خطأ! ومعنى: . . . . . . ... وزُرْتَ العُدَاة بآجَالهِا أي زرتهم زيارة مهلك، لا زيارة محب مشفق كما تكون الزيارة؛ يعني: بغزوك إياهم في بلادهم. وهو مثل قوله: الطويل نَزُورُ دِيَاراً ما نُحِبُّ لها مَغْنَى ... . . . . . . وقوله: الطويل ولم أرَ كالألْحَاظِ يومَ رحيلِهمْ ... بَعَثْنَ بكُلِّ القَتْلِ من كُلِّ مُشْفِقِ قال: قال ابن جني: أي نظرت إليهن ونظرن إلي، فقتلتهن وقتلنني، وما منا إلا مشفق على صاحبه. هذا كلامه! ولم يعرف معنى البيت ولا تفسيره. وقال ابن فورجة: بعثن: يعني النساء، ومفعول بعثن ضمير الألحاظ، وإن لم يذكره كقولك: لم أر كزيد أقام الأمير عريفا، ويريد: أقامه. ولا يجوز أن

يكون ضمير بعثن للألحاظ على إسناد الفعل إليها، لأن الألحاظ تُبعث عند خوف الرقيب. وقوله: بكل القتل أي بقتل فظيع. ثم قال: وإن بعثن ألحاظهن رسل القتل، فهن مشفقات علينا، غير قاصدات لقتلنا. وأقول: الصواب ما ذكره ابن جني! وهذا الذي ذكره عن ابن فورجة وارتضاه لنفسه لا يرتضيه محصّل! لأن ابن جني جعل اللحظ منه ومن أحبته، وكلاهما محب مشفق، ويدل عليه قوله فيما بعد: الطويل أدَرْنَ عيوناً. . . . . . ... . . . . . . فجعل ضمير في بعثن للنساء، ولم يجر لهن ذكر، فاعلا، وتقدير مفعول راجع إلى الألحاظ لما ذكره من إن الألحاظ تُبعث عند خوف الرقيب ليس بشيء لأنها بئست الرسالة بكل القتل! وإنما البعث هاهنا للألحاظ لبعدها عن الحقيقة فهي في ذلك اسهل من النساء، لأنهن مشفقات فلا يبعثن القتل، وإنما الألحاظ بعثته بغير قصدهن. وقوله: المنسرح أحْسَنُ ما يُخْضَبُ الحديدُ به ... وخَاضِبَيْهِ النَّجيعُ والغَضَبُ

قال: قال ابن جني: أحسن ما يخضب الحديد النجيع، وأحسن خاضبيه الغضب. وخاضبيه عطف على ما، وجمع الخاضبين جمع التصحيح لأنه أراد من يعقل وما لا يعقل كقوله تعالى: (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مّنِ مَّاءٍ فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ) لأنه لما خلط الجميع كنى عنهم يكنى عمن يعقل، وذكر الغضب مجازا وأراد صاحب الغضب. وقال ابن فورجة: وخاضبيه: قسم؛ أراد: وحق خاضبيه وجعل الغضب خضابا للحديد لأنه يخضبه بالدم كما يقال: احسن ما يخضب الخدود الحمرة والخجل. وأقول: الوجه ما قاله ابن جني لأنه أعرب وأغرب وأصنع؛ كأنه قال: أحسن خضاب الحديد وأحسن خاضبيه النجيع والغضب، فالنجيع أحسن ما خُضب به والغضب أحسن من خضبه، على الوجه الذي ذكره. وهذا مما أشرت إليه من أقوال ابن فورجة التي تُترك سدى لميله فيها عن طريق الهدى! وقوله: الكامل وَهَبِ الملامَةَ في اللذاذة كالكَرَى ... مَطْرودةً بِسُهَادِهِ وبُكَائِهِ قال: قال ابن جني: اجعل ملامتك إياه في التذاذك كالنوم في لذته فاطردها عنه

بما عنده من السهاد والبكاء؛ أي: لا تجمع عليه اللوم والسهاد والبكاء؛ أي: فكما أن السهاد والبكاء قد أزالا كراه، فلتترك ملامتك إياه! وهذا كلام من لم يفهم المعنى وظن زوال الكرى عن العاشق. وليس على ما ظن ولكنه يقول للعاذل: هب انك تستلذ الملامة كاستلذاذك النوم، وهو مطرود عنك بسهاد العاشق وبكائه؛ فكذلك دع الملامة فإنها ليست بألذ من النوم؛ أي: فإن جاز أن لا تنام جاز أن لا تعذل. وأقول: قول ابن جني اقرب إلى الصواب من قوله، والموضع الذي خطاه منه، منه أخطأ! ولا شك أن فهمه انقلب هاهنا فتأوله اقبح تأول، وقال ما لم يقله من له أدنى تأمل! والمعنى قد بينته في شرح ابن جني أولا، واستقصيته في شرح الكندي آخرا. وقوله: الكامل لَوْ قلتَ للدَّنِفِ الحَزِيِن فَدَيْتُهُ ... مِمَّا به لأغَرْتَهُ بفِدائِهِ قال: أراد: بفدائك إياه بأن تفديه فتقول: ليت ما بك من حزن الصبابة وبرح الأسى بي. وأقول: هذا الذي ذكره إنما هو تمن له، وليس بفداء منه، والفداء أن يقول للمخاطب: فديتك مما بك، أو للغائب: فديته مما به، كما ذكر الشاعر.

وقوله: الطويل وما عِشْتُ من بعد الأحِبَّة سَلْوَةً ... ولكنَّني للنائباتِ حَمُولُ قال: يقول: ليس بقائي بعدهم لسلوي عنهم، ولكن لاحتمالي النوائب والشدائد كما قال أبو خراش: الطويل ولا تَحْسَبي أنَّي نَسِيتُ عهودَكُمْ ... ولكنَّ صَبْري يا أمَيْمَ جَمِيلُ فيقال له: هو كما شبّهت، لا كما فسّرت! لأنك جعلت بقاءه إنما كان لاحتمال النوائب والشدائد، وإنه علّة لذلك، ولا فائدة في ذلك، وهو يقول: ليس بقائي بعد فرق أحبتي سلوة عنهم، لكن فراقهم نائبة، وأنا حمول للنوائب أي صبور عليها وكذلك يقول أبو خراش: لا تحسبي أني نسيت عهودكم لبعد عهدي بكم، وطول تركي لزيارتكم، بل أنا ذاكر لعهودكم، قلق لفراقكم، ولكن صبري على ذلك جميل.

وقوله: الطويل إذا كانَ شمُّ الرَّوْحِ أدْنَى إليكُمُ ... فلا بَرِحَتْني رَوْضَةٌ وقَبولُ قال: ابن جني: إذا كنتم تؤثرون شم الروح في الدنيا، وملاقاة نسيمها، فلا زلت روضة وقبولا اجتذابا إلى هواكم، ومصيرا لما تؤثرونه، ويكون سبب الدنو؛ وأراد: فلا برحت روضة وقبولا. ثم إنه جعل الاسم نكرة والخبر معرفة لأجل القافية. قال: ومن فسَّر هذا التفسير فقد فضح نفسه وغرّ غيره. وقال ابن فورجة: روح الهواء يؤثره من يأوي إلى هم، وينطوي على شوق، فأما المحبوب، وان كان إيثار الروح طبعا من الناس كلهم فانهم لا يوصفون بطلب الروح، وشميم النسيم، والتعرض لبرد الريح، والتشفِّي بنسيم الهواء. وأيضا: فما الحاجة إلى أن يجعل فلا برح من أخوات كان فيجعل اسمها نكرة وخبرها معرفة، وإنما هي من: برح فلان من مكانه، أي: فارقه؛ يقول: إذا لم يكن من فراقكم راحة إلا التعلل بالنسيم، وطلب روح الهواء، وتشبيهي لطيب روائحكم، وما كان ينالني أيام اللهو من الفرح بقربكم فلا فارقتني روضة وقبول تشوق إلى روائح تلك الروضة، وهذا من قول البحتري: الطويل يُذَكِّرُنَا رَيَّا الأحِبَّةِ كُلَّما ... تَنَفَّسّ في جُنْحٍ من اللَّيلِ بَارِدِ

وأقول: انه خطأ ابن جني وأخطأ هو أيضا في المعنى، ولم يلابسه أدنى ملابسة، ولا قاربه أدنى مقاربة! وإنما هذا البيت مرتب على البيت الذي قبله، وهو قوله: الطويل وإنَّ رحيلاً واحداً حَالَ بَيْنَنَا ... وفي المَوْتِ من بعد الرَّحيلِ رَحِيلُ يقول: رحيل واحد حال بيننا، وهو الفراق، وثم رحيا ثان وهو الموت، وهو أطول وأبعد من رحيل الفراق. ثم قال فإذا كان شم الروح أدنى إليكم؛ أي: إذا كان للرحيل الذي يشم معه روح الحياة أدنى إليكم، وهو رحيل الفراق، فلا زايلتني روضة وقبول أشمهما لطيبهما لان بهما بقاء روح الحياة عليَّ، أو زيادتهما فيَّ، فأكون بهذا الرحيل أقرب إليكم من الرحيل الثاني وهو رحيل الموت. فهذا المعنى الذي يقتضيه اللفظ ويدل عليه لا ما ذكره، وما أعلم أحدا ذكره قبلي! وقوله: الطويل وما هيَ إلاَّ خَطْرَةٌ عَرَضَتْ له ... بِحَرَّانَ لَبَّتْهَا قناً ونُصُولُ قال: هي كناية عن الرمية التي دل عليها قوله: الطويل رَمَى الدَّرْبَ. . . . . . ... . . . . . . يقول: لم يكن إلا خاطر عرض له فأجاب خاطره الرماح والسيوف. وأقول: يحتمل أن يكون هي ضمير القصة؛ يقول الشأن والقصة خطرة عرضت

له ثم أثبتها ونفى ماعداها بما وإلا؛ أي: لم تكن حركته هذه وغزوته عن اهتمام وجمع واستعداد، وإنما هي خطرة عرضت له دعت أصحابه إلى الغزو فلبتها منهم القنا والنصول. وقوله: الطويل وَرُعْنَ بِنا قَلْبَ الفُراتِ كأنَّما ... تَخِرُّ عليه بالرِّجالِ سُيُولُ قال: لما جعل الفرات مروعا، استعار له قلبا؛ لان الروع يكون في القلب. فيقال: هذا تكميل للاستعارة وإتمام للصناعة، وإنما كنى بقلب الفرات عن وسط مائه ومعظمه، وإشارة مع ذلك إلى قطعه، وما بعده دليل عليه. وقوله: الطويل يطاردُ فيه مَوْجَهُ كلُّ سابحٍ ... سَوَاءٌ عليه غَمْرَةٌ ومَسِيلُ قال: الموج كان يتجفل عن قوائم الخيل، وهي تتبعه، فجعل ذلك كالمطاردة. والغمرة: معظم الماء. والمعنى إن الخيل تسبح في الغمرة وتسير في الجبل. وأقول: المطاردة هي المفاعلة؛ تكون من اثنين فصاعدا، فجعل المطاردة بين الخيل

والموج، وجعل الموج كالخيل لأنها تشبه بها، وبالإبل ايضا، كقوله: المنسرح والطيرُ فوقَ الحَبَاب تَحْسبُهَا ... فُرْسَانَ بُلْق تَخُونها اللُّجُمُ والموجُ مثلُ الفُحولِ مُزْبِدةٌ ... تَهْدِرُ فيها وما بها قَطَمُ فذكر القوائم هاهنا ضعيف لأن ذلك إنما يكون في الماء الرقيق؛ ألا ترى إلى قوله فيما بعد: الطويل تراهُ كأنَّ الماَء مَرَّ بِجِسْمهِ ... وأقْبَلَ رأسٌ وَحْدَهُ وتَلِيلُ وهذا لا يكون معه مطاردة بالقوائم، وإنما المطاردة هنا إن الخيل قُدّامها موج وخلفها موج فكأنها تطرد وتُطرد، وقوله: . . . . . . ... سَواءٌ عليه غَمْرَةٌ ومَسِيلُ أي: سواء على هذا السابح، ويعني الفرس، وهو من صفات الخيل، جريه في غمرة من الماء، وهو معظمه، أو مسيل وهو المكان، أي: سواء عليه بحر وبر. وقوله: الطويل وأضْحَتْ بِحصْنِ الرَّانِ من الوَجَى ... وكلُّ عَزِيزٍ للأميرِ ذَليلُ قال: باتت الخيل رزاحة معيبة بذلك المكان بما أصابها في حوافرها، ثم اعتذر لها فقال: لم يلحقها ذلك لضعفها، ولكن الأمير كلفها من همته صعبا، فذلّت له وإن كانت قوية عزيزة.

وأقول: إنه توهم قوله: . . . . . . ... وكلُّ عَزِيزٍ للأميرِ ذَليلُ مثلا ضربه للخيل في أنها ذلت بعد عزة؛ أي: كلّت وتعبت فلا ينكر لها ذلك لأن كل عزيز ذليل للأمير وليس الأمر كذلك، وإنما قوله: . . . . . . ... وكلُّ عَزيزٍ للأميرِ ذَليلُ في موضع الحال من الخيل؛ يقول: أمست الخيل رازحة في حال ذل كل صعب من ملوك الروم للأمير. وإنما أخبر برزوح خيله في حال ذل غيرها له. وقوله: الطويل فأوْرَدَهُمْ صَدْرَ الحصانِ وسَيْفَهُ ... فَتىً بأسُهُ مثلُ العَطَاءِ جَزِيلُ قال: يعني انهم قُتلوا بحضرته وهو راكب؛ جعلهم واردين صدر فرسه حين احضروا بين يديه وهو راكب، وواردين سيفه حين قُتلوا. وأقول: سبحان رب أبلى هذا الشعر، بل قائله، بهؤلاء الشراح يتلاعبون به كيف شاءوا تلعّب الصبيان ولا يدرون بما يجنون عليه! هذا الواحدي أصلحهم في المعاني! وانظر إلى تفسيره هذا وما فيه من الغلط والعمى عن القصد، والذهاب عن الصواب، وكأنه قد التزم أن لا يهتدي إلى إدراك معنى فيه أدنى إشكال! وليس أوردهم بمعنى جعلهم يردون سيفه، بل جعل صدر فرسه، وصدر سيفه، يردهم وهم له كالورد، كما يردُ الظمآن الماء؛ أي: دخل فيهم وخالطهم وحده إقداما ونجدة وجعلهم كالبحر في

الكثرة، ويدل عليه قوله فيما بعد: الطويل أغَرَّكُمُ طولُ الجيوشِ وعَرْضُهَا ... عَلِيّ شَرُوبٌ للجيوشِ أكُولُ وليس في البيت ما يدل على انهم احضروا بين يديه، لا راكبا ولا راجلا! وقوله: الطويل أُعادَى على ما يُوجِبُ الحبَّ للفَتَى ... وأَهْدَأُ والأفكارُ فيَّ تَجُولُ قال: أي: أعادي على فضلي وعلمي وتقدمي في الشعر، وذلك مما يوجب الحب لا العداوة، وأسكن أنا وأفكاري تجول فيّ ولا تسكن. وأقول: يحتمل أن يكون قوله: . . . . . . ... . . . . . . والأفكارُ فيَّ تَجُولُ أي: أفكار الحساد تجول في السعاية بي وطلب أذاي لا أفكار نفسي، وهو أشبه باللفظ لأن الأفكار جمع والحساد جمع فيُجعل الجمع للجمع. وأسكن: يريد به ثباته وحلمه، ولم يُرد السكون الذي هو ضد الحركة. وقوله: الوافر يُجَمِّشكَ الزَّمانُ هَوىً وَحُبّاً ... وقد يُؤذَى من المِقَةِ الحَبِيبُ

قال: التجميش شبه المغازلة وهي الملاعبة بين الحبيبين؛ يقول: الذي أصابك تجميش من الزمان حبا لك، لأنك جماله وشرف أهله، فإن تأذيب به، فقد يكون من الأذى ما يكون من مقة. وأقول: كأنه يقول: هذا الذي بك، ليس هو مرضا على الحقيقة، وإنما هو تجميش، وهو الملاعبة التي تقع بين المحب والمحبوب، على إنه قد يؤذي، بكثرة المقة له والشفقة عليه المحبوب، وكأن هذا المعنى الذي ذكره أبو الطيب لا يليق بمثل سيف الدولة أن يجعله بمنزلة المعشوق الذي ويداعب ويلاعب، ولم يبق بعد ذلك إلا أن يضاجع ويباضع، فهذه الصفات يُجل عنها ولا تحسن بمثله. وقوله: الوافر مَلِلْتَ مُقَامَ يومٍ ليس فيه ... طِعَانٌ صَادِقٌ وَدمٌ صَبِيبُ قال: المقام بمعنى الإقامة. يقول: أقمت يوما ولم تخرج إلى الغزو، ولم يكن لك فيه طعان ولا دم مصبوب فمللت ذلك؛ أي انك تعوّدت الطعان وسفك دم الأعداء فإذا أقمت يوما واحدا مللته. وأقول: كأنه قد حظر على نفسه الإصابة في دقيق المعاني وجليلها! ولم يُرد هاهنا يوما واحدا! كيف ولم يكن مرضه ذلك المقدار، وإنما أراد يوما ما من الأيام؛ أي: أيُّ

يوم لا يقع فيه طعان ودم صبيب فقد مللت مقامه. وهذا كما يقال: شنئت رؤية رجل ليس فيه شجاعة وسماحة. فلست تعني بذلك رجلا واحدا، بل أي رجل لم يكن بهذه الصفة فقد شنئته، وذلك يحتمل أن يكون قليلا أو كثيرا، فكذلك قوله: مقام يوم. وقوله: المتقارب عَوَاقِبُ هذا تَسُوءُ العدوَّ ... وتَثْبُتُ فيهِ وهَذا يَزولُ قال: عاقبة العارض الذي أصابك تسوء العدو؛ لأنك تغزوهم وتثبت فيهم، لأنك لا تنفك عن غزوهم. وأقول: يقول: عواقب هذا المرض غزوك العدو فهي تسوء العدو وتثبت فيه بشدة الأذى له والنكاية به، وهذا المرض يزول، فالضمير في تثبت راجع إلى العواقب عطفا على تسوء وضعيف أن يرجع إلى سيف الدولة، فإن كان أراد ذلك فغير قوي، كأنه يقول: أذى هذا المرض زائل وأذاك للعدو غير زائل. وقوله: الطويل عَرَضْتَ له دون الحياةِ وطَرْفِهِ ... وأبْصَرَ سيفَ اللَّه منك مُجَرَّدَا

قال: أي لما رآك لم تسع عينه غيرك لعظمك في نفسه، وحُلت بينه وبين حياته فصار كالميت في بطلان حواسه إلا منك. فيقال له: هذا قول ابن جني! وقد أجبت عنه وذكرت اتّباعك له في شرحه. وقوله: الطويل هو الجَدُّ حتى تَفْضُلَ العينُ أخْتَهَا ... وحتى يكونَ اليومُ لليوم سَيِّدا قال: جعل العينين واليومين مثلا لكل متساويين يجد أحدهما ويحد الآخر؛ يقول: الجد يؤثر في كل شيء حتى العينين تجمعهما بنية ثم تصح إحداهما وتسقم الآخر، ويسود اليوم وكلاهما ضوء الشمس. وأقول: إن قوله في العينين تصح إحداهما وتسقم الأخرى، بمعنى تعمى أو ترمد أو تحل بها آفة، غير صحيح، ولم يرد ذلك لأنه لا يصح به التمثيل، وكان يقال ذلك في اليدين أيضا بأن تُشل إحداهما وتسلم الاخرى، وإنما تفضل إحدى العينين أختها بأن تكون يمينا، ولعله امتنع من هذا القول نظرا إلى ديتهما وانهما سواء، وليس المراد ذلك ولكن الفضل بين العينين بالإضافة إلى الإنسان وما هو معروف في الاستعمال. وكذلك القول في اليدين فمن ذلك قول النابغة: الوافر ولو كَفِّي اليمينُ بَغَتْكَ خوناً ... لأفْرَدْتُ اليمينَ من الشّمالِ وقول الآخر: الوافر ترابُهُمُ وحَقِّ أبي تُرَابٍ ... أعزُّ عليَّ من عَيْني اليَمينِ وهذا كثير أمثاله، مطرد استعماله.

وقوله: الطويل رأيتُكَ مَحْضَ الحِلْمِ في مَحْضِ قُدْرَةٍ ... ولو شئتَ كانَ الحِلم منكَ المُهنَّداَ قال: المعنى ان حلمك عن الجهال حلم عن قدرة، ولو شئت لسللت عليهم السيف. وأقول: هذا قول ابن جني وليس بشيء، وقد ذكرته في شرحه. وقوله: الطويل أتاك كأن الرأسَ يَجْحَدُ عُنْقَهُ ... وتَنْقَدُّ تحت الذُّعر منه المَفَاصِلُ قال: أتاك هذا الرسول وبعضه يتبرأ من بعض، لإقدامه على المصير إليك هيبة لك، وهو قوله: . . . . . . يكادُ الرأسُ يَجْحَدُ عُنْقَهُ ... . . . . . . والمعنى: يجحد صحبة عنقه، وتتقطع مفاصله بالارتعاد. وأقول: إن قوله: يتبرأ بعضه من بعض بضد ما أراد أبو الطيب لما ذكرته آخرا في شرح الكندي.

وقوله: الوافر فَمَسَّلهُمْ وبُسْطُهُمُ حَرِيرٌ ... وصَبَّحَهُمْ وبُسْطُهُمُ تُرابُ قال: أتاهم مساء وهم يفترشون الحرير فبيتهم وقتلهم ليلا حتى جدّلوا على الأرض مقتولين مع الصباح. وأقول: لم يقاتلوا حتى يُقتلوا، ويدل على ذلك قوله قبل: الوافر وقاتلَ عن حرِيمهمُ وفَرُّوا ... نَدَى كَفَّيْكَ والنَّسَبُ القُرابُ ولكن أراد بذلك: فمساهم وهم أغنياء وصبحهم فقراء، فكنى ببسط الحرير عن الغنى، وببسط التراب عن الفقر. وقوله: إن صبحهم بمعنى بيّتهم وقتلهم ليلا خطأ لأن التصبيح غير التبييت، وإنما صبحهم: أغار عليهم صباحا؛ لأن الغارة تكون في ذلك الوقت، وذلك مشهور في فعلهم وقولهم. وقوله: الطويل وما ضَرَّهَا خَلْقٌ بغير مَخَالبٍ ... وقد خُلِقَتْ أسيافُهُ والقوائمُ قال: يقول ما ضر الأحداث من النسور، يعني الفراخ، والقشاعم؛ وهي المسنة التي ضعفت عن طلب الرزق، وخص هذين النوعين من النسور لعجزهما عن طلب القوت؛ يقول: فليس يضرها أن لا مخالب لها قوية مفترسة، بعد أن خُلقت أسيافه فإنها تقوم بكفاية قوتها وأقول: لم يرد بالقشاعم المسنة التي

قد ضعفت عن طلب الرزق كما ذكر فيكون ثم قسم ثالث بين الفراخ والقشاعم يطلب الرزق لنفسه بكسره فذلك مستحيل، وإنما قسم النسور قسمين: صغير وكبير، وكلاهما ليس له مخلب يكسر به ويرتزق به كغيره من الجوارح كالعقاب وما أشبهه من الكواسر، فلا يضر النسور ذلك لان سيوفه تقوم مقام مخالبها فتستغني بها عنها بأكلها ما كسرته؛ أي: قتلته. وقوله: الطويل هل الحَدَثُ الحمراءُ تعرِفُ لونَهَا ... وتعلَمُ أيُّ السَّاقيينِ الغَمائِمُ قال: قوله: الحمراء لأنها احمرت بدماء الروم، وذلك انهم غلبوا عليها فأتاهم سيف الدولة فقتلهم فيها حتى احمرت بدمائهم فقال المتنبي: هل تعرف الحدث لونها؟ يعني إنه غيّر ما كان لونها بالدم، وهل تعلم أي الساقيين سقتها: الغمائم أم

الجماجم؟ وحذف ذكر الجماجم اكتفاء بذكر الغمائم كما قال الهذلي: الطويل عَصَيْتُ إليها القلبَ إنِّي لأَِمْرِهَا ... مُطِيعٌ فما أدري أرشدٌ طِلابُهَا أي: أم غيٌّ. وأقول: يحتمل أن يكون ذكر ساقيين سقياها وهما المطر والدم، وجعلهما غمائم لكثرتهما؛ ولذلك استفهم؛ لأنه أُلبس عليه ذلك منهما. وإنما قصد المبالغة في كثرة إراقة دماء الروم حتى جعلها موازية للمطر وجمعهما ولم يبينهما اعتمادا على تبيينهما وتقسيمهما في البيت الذي يليه وهو قوله: الطويل سَقَتْهَا الغمامُ الغُرُّ قبل نزوله ... فلما دنا منها سَقَتْهَا الجَماجِمُ وقوله: الطويل وكانَ بها مثلُ الجنون فَأصْبَحَتْ ... ومن جِيَفِ القَتْلَى عليها تَمَائمُ قال: جعل اضطراب الفتنة فيها جنونا لها، وذلك أن الروم كانوا يقصدونها ويحاربون أهلها فلا تزال الفتنة بها قائمة، فلما قتل سيف الدولة الروم وعلق القتلى على حيطانها سكنت الفتنة وسلم أهلها فجعل جثث القتلى كالتمائم عليها. وأقول: لم يرد تعليق الجثث على حيطانها، ولكن إلقاءها على أرضها، لأن تعليق الجثث إنما يكون في الشي الخفي القليل، والشاعر قد وصف كثرة القتل والقتلى إلى أن

بدّل لون أرضها بلون غيره لكثرة الدم، فلا حاجة إلى تعليق القتلى على حيطانها مع كثرة إلقائها على أرضها واشتهار ذلك فيها. فإن قيل: فالتمائم تكون معلقة على المجنون قيل: يكفي أن يقال: عليها. وقوله: الطويل وَقَفْتَ وما في الموتِ شَكٌّ لواقفٍ ... كأنَّكَ في جَفْنِ الرَّدِى وهو نائمُ ذكر في هذا البيت والذي بعده حكاية عن سيف الدولة وتشبيههما ببيتي امرئ القيس: الطويل كأنِّيَ لم أرْكَبْ جواداً لِلَذَّةٍ ... . . . . . . والذي بعده، وما قيل من اخذ منهما ورد عنهما، ثم قال: ولا تطبيق بين صدر وعجز احسن من بيتي المتنبي لان قوله: . . . . . . ... كأنَّكَ في جَفْنِ الرَّدَى وهو نَائِمُ هو معنى قوله: وَقَفْتَ وما في الموتِ شَكٌّ لواقِفٍ ... . . . . . .

فلا معدل لهذا العجز عن هذا المصدر؛ لأن النائم إذا أطبق جفنه أحاط بما تحته، فكأن الموت قد أظله من كل مكان كما يحدق الجفن بما تضمنه من جميع جهاته، وجعله نائما لسلامته من الهلاك؛ لأنه لم يبصره وغفل عنه بالنوم فسلم ولم يهلك. وأقول: إن تفسيره لآخر البيت يناقض أوله: وما في الموت شك، أي: الموت متيقن، ثم جعل الموت، آخرا، نائما لم يبصره وغافلا عنه، فالموت حينئذ غير متيقن، وإنما أوقعه في ذلك ظنه أن نائم من النوم الذي يكون معه ذهاب العقل والعلم، وإنما أراد هاهنا بنائم صورة النائم في تغميض عينه وطبق جفنه. وإنما يقول: وقفت في وقت لا يشك فيه الموت لواقف؛ أي: الموت فيه متيقن، وضرب لذلك مثلا بقوله: . . . . . . ... كأنَّكَ في جَفْنِ الرَّدَى وهو نَائِمُ أي: أحاط بك الردى وأطبق عليك؛ يصف شدة ذلك الوقت، وصعوبة ذلك المكان. فهذا هو المعنى لمن تأمله بنور البصيرة! وقوله: الطويل بِضَرْبٍ أتَى الهاماتِ والنَّصْرُ غائِبٌ ... وَصَارَ إلى اللَّبَّاتِ والنَّصْرُ قادمُ ذكر فيه ما قال ابن جني وغيره، وليس بشيء! وقد بينت ما فيه هناك في الشرح التبريزي.

وقوله: الطويل حَقَرْتَ الرُّدَيْنِيَّاتِ حتى طَرَحْتَهَا ... وحَتَّى كأنَّ السَّيْفَ للرُّمْحِ شَاتِمُ قال: يقول: تركت القتال بالرماح وازدريتها؛ لأنها من سلاح الجبناء، وسلاح الشجعان السيف. وأقول: قوله: لأنها من سلاح الجبناء ضعيف، ولو قال: كأنها لكان الصواب. وقوله: الطويل وإني لتَعْدُو بي عَطَاياكَ في الوَغَى ... فلا أنا مَذْمُومٌ ولا أنتَ نَادِمُ قال: أي: امتطي في الغزو خيلك التي أركبتنيها ولست مذموما في أخذها لأني شاكر أياديك، ناشر ذكرك. وأقول: أن تعليله بقوله: لأني شاكر لأياديك ناشر لذكرك ليس بشيء! وإنما يصف نفسه بأن الخيل التي يأخذها من سيف الدولة يقاتل عليها فلا يُذم بأنه يفر عليها، ولا يندم سيف الدولة لأنه وضع العطاء في غير موضعه. فإن أريد بالشكر هاهنا الفعل لا القول فصواب، لأن الشكر قد يكون بالفعل أيضا فيكون شكره له بما يفعله من نصره له بقتال أعدائه.

وقوله: الطويل وَلِمْ لا يَقِي الرَّحمنُ حَدَّيْكَ ما وَقَى ... وتَفْلِيقُهُ هامَ العِدَا بِكَ دائِمُ قال: يقول: لم لا يحفظ الرحمن ما دام يحفظ. وأقول: إنه توهم إن ما هاهنا ظرفية وليس كذلك، وإنما هي هاهنا بمعنى الذي، وذلك إنه لمّا قال: الطويل هنيئاً لضَرْبِ الهَامِ. . . . . . ... . . . . . . وما بعده: الطويل . . . . ... . . . . . . أنَّكَ سالم أخبر بسلامته فقال: وَلِمْ لا يَقِي الرحمنُ حَدَّيْكَ ما وَقَى ... . . . . . . أي: ما وقاهما؛ أي: لم لا يُسلمك، فحذف المفعول العائد إلى الذي تحقيقا، وللعلم به، كقوله تعالى: (أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً)؛ كأنه يقول: لم لا يُسلم منك الله الذي سلّم وأنت سيف، وهو يُفلق بك هام عداه دائما؛ أي: لا يكون ذلك إلا مع سلامتك.

وقوله: الطويل إذا زار سيفُ الدولةِ الرومَ غَازِياً ... كفَاهَا لِمامٌ لو كَفَاهُ لِمَامُ قال: اللمام الزيارة القليلة. يقول: إذا غزاهم كفاهم أدنى نزول منه بهم لو اكتفى هو بذلك، لكنه لا يكتفي حتى يبلغ أقصى بلادهم. وأقول: لو قال: حتى يطيل الغزو والنزول في بلادهم، ويكثر القتل والسبي، لكان أولى، وهو ضد اللمام. وقوله: الطويل وما تنفَعُ الخَيْلُ الكرامُ ولا القَنَا ... إذا لم يكُنْ فَوْقَ الكرام كِرامُ قال: يذكر ان النفع والقنا للرجال والفرسان لا للخيل، وان كرمها ليس بنافع إذا لم يكن فوقها رجال كرام في الحرب. وأقول: إن قوله: إن النفع والقنا للرجال والفرسان لا للخيل عبارة ناقصة! وأي نفع أعظم من نفع الكرام من الخيل في الحرب! وإنما ذلك النفع لا يحصل إلا إذا كان فوقها فرسان كرام. فلو أسقط أول الكلام وقال: إن كرم الخيل لا ينفع إلا بكرم فرسانها لقصّر العبارة وأصاب الصواب!

وقوله: الطويل ومَنٌّ لفُرْسَانِ الثُّغُورِ عليهمُ ... بِتَبْلِيغِهِمْ ما لا يكادُ يُرامُ قال: يعني أن فرسان الثغور كانوا شفعاء لهم إليك حتى تؤخر الحرب أياما، وذلك ما لا يكادون يقدرون على طلبه اليك، فلهم المنة عليهم إذ بلّغوهم ما كانوا لا يبلغونه بأنفسهم. وأقول: هذا كلام من لم يصب فص المعنى، ولا وقع على مفصله! وليس هاهنا شفاعة لهم ولا تأخير منهم، وإنما يقول: إن هذا الصلح ذل للروم وغرام لهم، ومن فوقه لفرسان الثغور بكفهم عنهم، وهم قادرون عليهم، حين تأمرهم بالكف وقد سألوك واستجاروا بك. وقوله: الطويل وصُحْبَةَ قَوْمٍ يَذْبَحُونَ قَنِيصَهُمْ ... بِفَضْلاتِ ما قد كسَّروا في المَفَارِقِ قال: يقول: تذكرت صحبة قوم صعاليك يذبحون ما يصيدون بما بقي من فضلات سيوفهم التي كسّروها في الرؤوس، وهذه إشارة إلى جودة ضربهم، وقوة سواعدهم.

وأقول: لو قال: إشارة إلى هؤلاء القوم الذين صحبهم أولو جد يفضل كل جد، وأولو لعب يفضل كل لعب، وذلك لكسر سيوفهم في رؤوس أعدائهم، وذبحهم، بما بقي منها، صيدهم لكان أولى وأحسن. والتكسير هاهنا يريد به كثرة التثليم ولم يرد التحطيم لأنها لو كانت كذلك لم تصحبهم أو لم يكن في صحبتها طائل. ولعل الشيخ الواحدي أراد ذلك، فوصفهم بأنهم صعاليك لذبحهم القنيص بكسر السيوف وقطعها، وهذا ليس بشيء ولا يقوله محقق! لأن صحبة أولئك لا فخر فيها. ويدل على ما قلت إن التكسير صيغة التكثير والسيف لا يحتمله، ولا يصح فيه أكثر من مرة واحدة. وإنما بالغ في صفة التثليم إلى أن جعله كالتكسير، وهذا كقوله: الطويل . . . . . . كأنَّمَا ... مَارِبُهَا مما انْفَلَلْنَ مَضَارِبُ وكقول البحتري: الطويل وكنتَ متى تَجْمَعْ يَمِينَكَ يَهْتِكِ ال ... ضَّرِيبَةَ أو لا تُبْقِ للسَّيْفِ مَضْرِبَا فالصحيح ما ذكرته، وإذا كان كذلك؛ فليسوا بصعاليك على الإطلاق، أو صعاليك ولا إلى هذا الحد الذي ذكره.

وقوله: الطويل وليلاً توسَّدْنا الثَّوِيَّةَ تَحْتَهُ ... كأنَّ ثَراهَا عَنْبَرٌ في المَرافِقِ قال: الثوية: موضع بالقرب من الكوفة. يقول: تذكرت ليلا اتخذنا فيه هذا المكان وسائد لنا؛ أي: نمنا عليه وكان طيب التراب، فكأن ترابها الذي تتربت به مرافقنا حين اتكأنا عليه عنبر فيها. قال: وقال ابن جني: المرافق: جمع مرفقة، وهي الوسادة. قال: ولم يرد بالمرافق ما ذكر، إنما أراد مرافق الأيدي لأن الصعلوك الفاتك لا وسادة له. وقال العروضي فيما استدركه عليه: ألا ينظر أبو الفتح إلى قوله: توسدنا الثوية؛ وإنما يصف تصعلكه وتصعلك أصحابه وصبرهم على شدائد السفر، ففضلات المتكسر من السيوف مداهم، والأرض وسائدهم لأنه وضع رأسه على المرفق من يده، وإنما سميت الوسادة مرفقة لأن المرفق يوضع عليها، ولا يفتخر الصعلوك بوضع رأسه على الوسادة. فيقال له: ألا ينظر العروضي إلى قول أبي الطيب: توسدنا الثوية، أي: اتخذناها وسادة ثم وصف ترابها بالطيب فقال: . . . . . . ... كأنَّ ثَراهَا عَنْبَرٌ في المَرافِقِ أي: في الوسائد التي اتخذناها من أرضها. فان كان ابن جني أراد ذلك فقد أصاب،

ويكون موافقا للعروضي فيما ذكره من تصعلكه وتصعلك اصحابه؛ بل يزيد على ما أرداه من ذلك، ويجوز ان تكون المرافق هنا الأيدي، ويكون من قول الحادرة: الكامل عَرَّسْتُهُ وَوِسَادُ رأسِيَ سَاعِدٌ ... خَاطي البَضيعِ عُرُوقُهُ لم تَدْسَعِ وما ذكر من التصعلك بقطع السيوف وجعلها كالمدى فقد ذكرت ما فيه في البيت الذي قبله وقوله: الطويل بلادٌ إذا زَارَ الحِسَانَ بِغَيْرها ... حَصَى تُرْبِهَا ثَقَّبْنَهُ للمَخَانِقِ قال: أي إذا حُمل حصى هذه البلاد إلى النساء الحسان بأرض غيره ثقبنه لحسنه ونفاسته. والحصى مرفوع بفعله. وأقول: ويحتمل ان يكون الحصى فاعلا ومفعولا، وكذلك النساء بأن تكون مزورات له وزائرات لنفاسته. وقوله: الطويل سُهَادٌ لأجفانٍ وشَمْسٌ لنَاظِرٍ ... وسُقْمٌ لأبدانٍ ومِسْكٌ لناشِقِ

قال: قال ابن جني: قد اجتمعت فيها الأضداد: فعاشقها لا ينام شوقا إليها، وإذا رآها كأنه يرى بها الشمس، وهي سقم لبدنه، ومسك عند شمه. وقد جعل البيت من صفة المليحة. وقال العروضي: البيت من صفات القطربلي، والخمر تجمع هذه الصفات. فيقال له: أن الأولى أن تكون من صفات المليحة لأنها مرفوعة، وصفاتها مرفوعة؛ هكذا جاءت الرواية. والقطربلي منصوب، فلا يستقيم ان تكون هذه الصفات المرفوعة جارية عليه إلا بإضمار مبتدأ. هذا من جانب اللفظ والإعراب. وأما من جانب المعنى فكذلك؛ وذلك إنه يقول: إن هذه المليحة تُسهر عاشقها مع إنها شمس بادية له غير محجوبة عنه، وذلك بخلاف المعتاد. وتُسقم بدنه مع إنها مسك إذا شمها، والرائحة الطيبة لا يحدث عنها سقم البدن وضعفه بل قوته بقوة قلبه وذلك منها بخلاف المعتاد أيضا.

وقوله: الطويل أتاهُمْ بها حَشْوَ العَجاجَةِ والقَنَا ... سَنَابِكُهَا تَحْشُو بطونَ الحَمَالِقِ قال: يقول: أتاهم بالخيل وقد أحاطت بها الرماح والعجاج فهي حشو هاذين، وحوافرها تحشو العيون بما تثير من الغبار. قال ابن جني: تحشو الجفون بالعجاجة. وقال العروضي: أحسن من هذا وأبلغ؛ إن الخيل تطأ رؤوس القتلى فتحشو حمالقها بسنابكها كما قال: الطويل . . . . . . ... وموطِئُهَا من كلِّ باغٍ مَلاغِمُهْ فأما أن يرتفع الغبار فيدخل فلا كثير فخر في هذا. وأقول: هذا الذي ذكره العروضي ليس بشيء ولا يشبه معنى هذا البيت، معنى البيت الذي أشار اليه، وما أعلم لم جعل الخيل تحشو حمالق القتلى بسنابكها إذا وطئت رؤوسها، دون أقدامها وآنفها وآذانها! وإنما يصف هذه الكتيبة بكثرة العجاج وتكاثفه إلى أن يحشو بطون الحمالق، وذلك يدل على كثرتها ويدل عليه قوله: أتاهم بها حَشْوَ العَجاجةِ والقَنَا ... . . . . . . وقوله فيما بعد: الطويل ومَلْمُومَةٌ سَيْفيَّةٌ. . . . . . ... . . . . . .

وقوله: . . . . . . ... . . . . . . قَرِيبةُ بَيْنِ البِيضِ. . . . . . وفي ذلك كثير فائدة كبير افتخار. وقوله: الطويل فهاجوكَ أهْدَى في الفَلا من نُجومِهِ ... وأبْدَى بيوتاً من أدَاحي النَّقَائِقِ قال: حركوك بحربهم فكنت أهدي في الفلاة من النجم، واظهر بيوتا فيها من مواضع بيت النعام. وأقول: إنه أراد بأبدى من البادية، أي بيوتك الزم للبدو من لزوم بيوت النعام له؛ يصفه بكثرة الغزو، وقلة مقامه في المدن. وإذا كان كذلك، فالبادية الأعراب الذين هاجوه دونه في ذلك. وقوله: الطويل تَعَوَّدَ أنْ لا تَقْضَمَ الحَبَّ خَيْلُهُ ... إذا الهامُ لم تَرْفَعْ جُنُوبَ العَلائِقِ قال: يروى: جيوب وجنوب وترفع وترقع.

قال: جنوب العلائق نواحيها، وجيوبها ما جيب من أعلاها؛ أي فُتح، وجيب المخلاة فمها، فعلى هذا يروى: لم ترقع جيوب ويكون المعنى: إذا الرؤوس لم تسد جيوب المخالي؛ يقول: تعودت خيله أن لا تقضم إلا من المخلاة لأنها أبدا تسافر. ويجوز أن يريد بالهام هام الأعداء وإنها، لكثرتها، اجتمعت حتى توضع عليها مخالي دوابه فترفعها إليها، وقد تعودت خيله في اعتلافها ذلك، وهذا قول ابن جني حكاه عن أبي الطيب. وأقول: هذا تفسير ابن جني في ترفع بالفاء، ومن روى بالقاف أراد بالهام أيضا هام الأعداء وأراد أن مخاليها إذا جيبت؛ أي: قورت من طول الغزو، رقعت برؤوس الأعداء؛ أي: سدت؛ أي: قد الفت ذلك فلا تنكره، وهذا أبلغ من الأول والبيت الذي بعده اقرب إلى تقوية هذا الوجه من الأول وهو قوله: الطويل ولا تَرِدُ الغُدْرانَ إلاَّ وماؤُهَا ... من الدَّمِ كالرَّيحانِ تحت الشَّقائِقِ وذلك لمخالطة الرؤوس لما يعلف كمخالطة الدم لما يشرب، ويضعف تفسيره بالهام هام الخيل ويؤيد هام القتلى. وقوله: الوافر وأفْرَحَتِ المَقاوِدُ ذفْرَيَيْهَا ... وصَعَّرَ خَدَّهَا هذا العِذَارُ

قال: الصحيح رواية من يروي بالفاء - يعني في أفرحت - ومعناه: أثقلت؛ يقال: أفرحه الدين: إذا أثقله. يقول: لمّا وضعت المقاود على العرب لتقودهم إلى طاعتك أثقلت مقاودك رؤوسهم لأنك ضبطتهم ومنعتهم عن التلصص والغارة، فصاروا كالدابة التي تُقاد بحكمة شديدة، وشكيمة ثقيلة. ومن روى بالقاف جعلهم قرحا؛ أي: بالغت في رياضتهم حتى جعلتهم كالقرح في الذل والانقياد. والصحيح هو الأول لأن الذفرى لا تختص بالذل والانقياد إلا على بعد. فيقال له: الرواية بالقاف اكثر، ولم يرد بذلك ما ذكرته من إنه جعلهم قرحا، ولكن: أقرحت من القرح؛ أي: جعلت المقاود في ذفرييها قروحا بشدة ضبطها لها وأخذها منها، وهو مثل ضربه لسيف الدولة في إذلالهم، وذلك أشبه بالاستعارة وابلغ في المعنى. وقوله: الوافر وغَيَّرها التراسُلُ والتَّشَاكي ... وأعْجَبَهَا التَّلَبُّبُ والمُغَارُ قال: أي: غيرها عن الطاعة، إنها كانت ترسل لك الرسل وتشكو ما يجري عليها من سراياك. فيقال له: الصحيح ما قال ابن جني، ويقوله كل بصير! أي: غيرها عن الطاعة إنها راسلت وتشاكت ما يجري عليها من سيف الدولة؛ أي: من إذلالها وضبطها ومنعها مما كانت معودة له من العيث في البلاد والفساد. وهذا أشبه بالحال واحسن، واصح في الاستعمال.

وقوله: الوافر وظَلَّ الطَّعْنُ في الخَيْلَيْنِ خَلْساً ... كأنَّ المَوتَ بينهما اخْتِصَارُ قال: يقول: اختلسوا الطعن فأسرع فيهم الموت حتى كأنه وجد طريقا مختصرا إليهم. وأقول: بيان ذلك أن الطعن الخلس هو السريع، فلما أسرعوا الطعن، وكان الموت مع الطعن، كان الموت أيضا سريعا لسرعة ما أوجبه؛ فسرعته اختصاره. وقوله: الوافر مَضَوْا مُتَسَابِقي الأعْضاءِ فيه ... لأرْؤسِهِمْ بأرجُلِهِمْ عِثَارُ قال: يقول: هربوا والرجل تسابق الرأس، والرأس يسابق الرجل سراعا في الهرب وخوفا من القتل، فهذا معنى قوله: . . . . . . مُتَسَابقي الأعضاء. . . . . . ... . . . . . . وقوله: . . . . . . ... لأرؤسِهِمْ بأرْجُلِهِمْ عِثَارُ قال ابن جني: إذا ندر رأس أحدهم فتدحرج تعثر برجله أو رجل غيره. قال: وهذا إبداع لان المعهود أن تعثر الرجل لا الرأس. قال الواحدي: وأبين مما قاله وأجود أن يقال: بأرجلهم عثار لأجل رؤوسهم؛ أي: لأجل حفظها ينهزمون.

وأقول: هذا الذي ذكره لا يقوله محصل، فضلا عن أن يستجده على الوجه الأول! والأظهر - فيما قال ابن جني - أن يكون رأس المقتول الذي طار رأسه يعثر برجل غيره؛ لأنه إذا ضرب الرأس فطار عن الجسد فبعيد أن يسبقه الجسد فيكون قدامه حتى يعثر به، فالعدو والحركة من الجسد بعد سقوط الرأس بعيد إلا ما يحكى عن هدبة ابن خشوم وتحريكه رجله بعد سقوط رأسه ثلاثا. وإنما الرأس إذا ندر عن جسد أحدهم تدحرج فعثر برجل آخر فكأنه يسابقها. وقوله: الوافر وكلِّ أصَمَّ يَعْسِلُ جانِبَاهُ ... على الكَعْبَيْنِ منه دَمٌ مُمَارُ قال: أراد بالكعبين اللذين في عامله وهما يغيبان في المطعون؛ فلذلك وصفهما بأن عليهما دما، ويجوز أن يريد الكعب الأعلى والكعب الأسفل؛ لأن الطعن يقع بهما. ويجوز أن يريد بالتثنية الجمع، وهو قول ابن جني. وأقول: يجوز أن يريد بالكعبين الأعلى والأسفل، ولكن على غير ما ذكر لأن الطعن لا يكون بأسفل الرمح، وإنما خص الكعبين بالذكر؛ لأن الأعلى به يقع الطعن، والأسفل، لكثرة الطعن بالأعلى يكثر الدم حتى يصل إليه، فاستغنى بذلك عن ذكر ما بينهما لأن الدم لا يصل إليه إلا وقد وصل إلى جميع كعاب الرمح. ويحتمل أن يريد بالكعبين نفوذ الأعلى بقوة الطعن ونفوذ الرمح إلى الكعب الأسفل.

وقوله: الوافر فكانوا الأُسْدَ ليس لها مَصَالٌ ... على طَيْرٍ وليسَ لهَا مَطارُ قال: قال ابن جني: كانوا قبل ذلك اسدا، فلما غضبت عليهم وقصدتهم، ولم تكن لهم صولة على طير لضعفهم، ولم يقدروا أيضا على الطيران فأهلكتهم. وعلى هذا القول يكون البيت من صفة المنهزمين. وقال العروضي: هذا من صفة خيل سيف الدولة؛ يقول: كانوا اسودا ولا عيب عليهم إذ لم يدركوا هؤلاء؛ لأن الأسد القوي لا يمكنه أن يصيد الطائر لأنه لا مطار للأسد. والمعنى أنهم أسرعوا في الهرب إسراع الطير في الطيران وهذا كالعذر لهم في التخلف عمن لم يلحقوهم من سرعان الهرّاب. وأقول: الصحيح ما ذكرته في شرح ابن جني. وقوله: الوافر فهم حِزَقٌ على الخَابورِ صَرْعَى ... بهم من شُرْبِ غَيْرِهمُ خُمَارُ

قال: الحزق: الجماعات؛ أي ظنوا أنهم المقصودون، فهربوا وتفرقوا في الهرب، فصاروا جماعات، فكان الذنب لغيرهم وتعب الهرب لحقهم. وأقول: لم يرد بذلك تعب الهرب، وإنما ذلك لخوف الطلب، وقد بينه فيما بعده بقوله: الوافر حِذَارَ فَتىً. . . . . . ... . . . . . . وقد ذكرته في شرح ابن جني مبينا. وقوله: الطويل أيا رامياً يُصْمِي مَرامِهِ ... يُرَبِّي عداهُ ريشَهَا لِسهَامِهِ قال: أي: أعداؤه يجمعون الأموال والعدد وهو يأخذها فيتقوى بها على قتالهم؛ فكأنهم يربون الريش لسهامه حيث يجمعون المال له. فالريش مثل لأموالهم والسهام مثل له. وأقول: أن السهام هاهنا مثل لأصحابه وفرسانه، يصفهم بالنفوذ في أوامره، والمضاء في مقاصده، والأقدام في الحرب كقوله: الطويل . . . . . . ... وأقْدَامُ بين الجَحْفَلينِ من النَّبْلِ

وقوله: الطويل أَسِيرُ إلى إقطاعِهِ في ثِيَابهِ ... عَلَى طِرْفِهِ مِنْ دَارِهِ بِحُسَامِهِ قال: هذا تفصيل ما أجمله النابغة في قوله: الوافر وما أغْفَلْتُ شُكْرَكَ فانْتَصِحْني ... وكيف ومن عطائِكَ جُلُّ مالي وقد فصله النابغة أيضا في قوله: الطويل وإنَّ تلاَدِي إنْ نَظَرْتُ وشِكَّتي ... ورُمْحي وما ضَمَّتْ إليَّ الأناملُ حِبَاؤُكَ والعيسُ الهجانُ كأنها ... نعاجُ الملا تَرْدي عليها الرَّحَائلُ وأقول: إن قول النابغة حسن، إلا أن قول أبي الطيب أخصر لفظا وأكثر معنى واصنع وانصع لأنه ذكر الخمسة الأشياء وعدى الفعل إليها بخمسة أحرف الجر من غير حشو حرف ولا زيادته. وهذا التركيب لم يتفق لأحد من الشعراء في هذا المدح الذي لم يمدح بمثله غير سيف الدولة من الكبراء. وقوله: الطويل ولا زالتِ الشَّمسُ التي في سمائِهِ ... مُطِالعَةَ الشَّمسِ التي في لِثامِهِ

قال: قال ابن جني: أضاف السماء إليه، لإشرافها عليه كما قال الآخر: الطويل إذا كوكَبُ الخَرْقاءِ لاحَ بسُحْرَةٍ ... سُهَيْلٌ أذاعتْ غَزْلَهَا في القَرائبِ وأقول: هذا ليس بشيء! لأن السماء تشرف عليه وعلى غيره، فالسماء سماء كل أحد لعلوها عليه، وإنما أضافها إليه دون غيره واختصه بالذكر لشرفه كقوله تعالى: (مَن كَانَ عَدُوّاً وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ) ومثله كثير. والبيت الذي انشده يصلح أن يكون استشهادا لما ذكرته. وجعل الشمس تطالع شمس لثامه - ويعني وجهه - لتكسب النور منه كقوله في موضع آخر: البسيط تَكسَّبُ الشمسُ منكَ النورَ طالعةً ... كما تكَسَّبَ منها نُورَهَا القَمَرُ وقوله: الخفيف قاسَمَتْكَ المَنُونُ شَخْصَيْنِ جَوْراً ... جَعَلَ القَسْمَ نَفْسَهُ فيه عَدْلاَ قال: المنون: المنية والدهر، ويجوز تذكيره وتأنيثه. يقول: قاسمك الموت أو الزمان شخصين؛ يعني أختيه.

وأقول: لم يستدل على أن المنون الدهر ولا على جواز تذكيره وتأنيثه، والذي يدل عليه قول أبي ذؤيب: الكامل أمِنَ المَنُونِ ورَيْبِهَا تَتَوَجَّعُ ... والدَّهْرُ ليس بِمُعْتِبٍ من يَجْزَعُ فقد روي: ريبها وريبة. وقوله: . . . . . . ... والدَّهْرُ ليسَ بمُعْتِبٍ من يَجْزَعُ يدل على أن المنون الدهر؛ لأنه تفسير للاول، فالتذكير في قوله: وريبة راجع إلى الدهر، والتأنيث راجع إلى الأيام لأنها هي الدهر لقوله: الطويل هل الدَّهْرُ إلاَّ ليلة ونهارها ... وإلاَّ طلوع الشمس ثم عيارها . . . . . . صفة للمذكر والمؤنث، والمعنى على هذا التفسير في المنون واحد. وقوله: الخفيف قارَعَتْ رُمْحَكَ الرِّماحُ ولكن ... تَرَكَ الرَّامِحِينَ رُمْحُكَ عُزْلاَ

قال: أي: غلبتهم حتى سلبت رماحهم فتركتهم عزلا لا سلاح معهم. وأقول: القول الجيد، ما ذكرته في شرح أبي العلاء. وقوله: الخفيف وَقِسيٍّ رُمِيتَ عنها فَرَدَّتْ ... في قُلوبِ الرُّماةِ عنك النِّبَالاَ قال: يقول: رب قسي لهم كانوا يرمونك عنها، فلما هربوا أخذت تلك القسي فقوتلُوا بها ورموا بالسهام عنك، والتقدير: فردت عنك النصال في قلوب الرماة الذين كانوا يرمونك. وأقول: الأحسن أن يكون ضرب القسي والنبال مثلا للمكائد وما يصدر عنها من الأذى؛ أي: أعدوا لك مكائد بالأذى فعادت إليهم. وقوله: الخفيف أخَذُوا الطُّرْقَ يقطعون بها الرُّسْ ... لَ فكانَ انقطاعُهَا إرسَالاَ

قال: يقطعون بتلك الطرق عن النفاذ إلى سيف الدولة، لئلا يبلغه الخبر أنهم يقصدون الحدث فلما أبطأت الأخبار وتأخرت عن عادتها، تطلَّع سيف الدولة لما وراء ذلك فوقف على الأمر فكان الانقطاع كالإرسال. قال: وهذا كقوله: قَصَدوا هَدْم سُورها فَبَنَوْهُ ... . . . . . . وأقول: لم يرد قطع الأخبار وإبطاءها وتأخرها عن عادتها بقوله: . . . . . . ... . . . . . . فكانَ انقطاعُها إرسالا وإنما هذا كما تقول: أردت بذلك الكلام حبس زيد فكان حبسه اطلاقه؛ أي: حبسه الذي أردته ولم يقع؛ أي: كان سببا له وذلك من حسن المجاز. وكذلك قوله: انقطاع الأخبار ارسالها؛ أي: لم يقدروا على قطعها وقتا من الأوقات لشدة تيقظ سيف الدولة ورعايته للأمور وضبطه وحفظه لها. وهو كما قال: قَصَدوا هَدْم سُورها فَبَنَوْهُ ... . . . . . . كأنه قال: فكانوا سبب بنائه، فكذلك يقال في الأخبار، وهو أبلغ من قطعهم الأخبار بحفظهم الطرق وتطلع سيف الدولة وتنبيهه من ذات نفسه. وقوله: الخفيف أبصَرُوا الطَّعْنَ في القلوبِ دِرَاكاً ... قبلَ أن يُبْصِروا الرِّماحَ خَيَالاَ

قال: فيه تقديم وتأخير؛ لأن المعنى ابصروا الطعن في القلوب دراكا خيالا قبل أن يبصروا الرماح؛ أي: لشدة خوفهم وتصورهم ما صنعت بهم قديما رأوا الطعن متداركة متتابعة في قلوبهم تخيلا قبل أن يروا الرماح. وأقول: ليس في الكلام تقديم ولا تأخير كما ذكر، ولكن الكلام جار على سننه! والمعنى أنهم لشدة خوفهم منك أبصروا طعنك في قلوبهم متدراكا قبل أن يبصروا رماحك خيالا؛ أي: قبل أن يتخيلوها على بعد، وهو مثل قوله: الوافر يَرَى في النَّومِ رُمْحَكَ في كُلاَهُ ... ويَخْشَى أنْ يَراهُ في السُّهادِ وقوله: الخفيف وإذا حاوَلَتْ طِعَانَكَ خَيْلٌ ... أبْصَرَتْ أذْرُعَ القَنَا أَمْيَالاَ قال: يقول: الأعداء إذا أرادوا طعانك رأوا اذرع القنا لطولها وسرعة وصولها إليهم أميالا. وقال ابن جني: ذلك لشدة الرعب. قال: وهو كقوله تعالى: (يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ). هذا كلامه.

أمَّا شِدَّةُ الرُّعْبِ فلَهُ وَجْهٌ. وأمَّا احتجاجُهُ بالآية فَخَطأ. وأقول: لم يبين وجه الخطأ، وأرى أن قول ابن جني صواب؛ وذلك أن الخائف يرى البعيد قريبا، والصغير كبيرا، فما يمنعه أن يرى القصير طويلا؟ ولم يرد ابن جني أن الذراع مثليه على الحقيقة حتى يدخل عليه إنه جعل الذراع ميلا، والميل أذرع كثيرة، بل يريد أن الخائف يرى الشيء أكبر مما هو، ويرى القليل أكثر مما هو عليه، وسواء كان ذلك مثليه أو أمثاله وذلك على قدر الخوف. وقوله: الخفيف ووجوهاً أخافَهَا منكَ وَجْهٌ ... تركَتْ حُسْنَهَا له والجَمالاَ قال: قوله: ووجوها عطف على الأيدي من حيث اللفظ لا من حيث المعنى، لأنه ليس يريد: وينفض وجوها والمعنى ويغير وجوها؛ أي يغير ألوانها ويصغرها ومعنى أخافها: أخاف أصحابها.

فيقال له: فإن كان أخافها بمعنى أخاف أصحابها، واستعمال ذلك كثير كقوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ) وقوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ) وأشباه ذلك. فما المانع أن تُعطف ووجوها على أبديا من حيث اللفظ والمعنى، ولا يحتاج إلى تقدير فعل غير الأول عاملا في المعطوف، وذلك ظاهر لا خفاء فيه؟ وقوله: الخفيف أقسَمُوا لا رأوكَ إلا بقَلْبٍ ... طَالما غَرَّتِ العُيونُ الرِّجالاَ قال: قوله: إلا بقلب أي: إلا والقلب معهم؛ يريد: حلفوا ليحضرن عقولهم، وليعملن أفكارهم في ذلك. قال: طالما غرت العيون الرجال، أي: كذبهم عنك كثيرا ما رأوه بعيونهم مما يوهمهم أنهم يقاومونك. وأقول: إن هذا المثل في قوله: . . . . . . ... طالما غَرَّتِ العُيونُ الرِّجالاَ لم يرد به سيف الدولة وحده والروم كما ذكره من كثرة ما غرتهم أعينهم مما يوهمهم مقاومته، ولكن هذا مثل لكل أحد. يقول: هؤلاء الروم لحزمهم وجدهم وشدة بأسهم وأقدامهم، اقسموا لا رأوك إلا بقلوبهم دون أعينهم؛ فإن العيون قد تغر الرجال بأن تخطئ في إدراك المرئي بالزيادة والنقص في إدراك الصغير كبيرا؛ كالجسم الذي تراه في قعر الماء الصافي، وإدراك الكبير صغيرا كرؤية الكواكب والجبال على بعد.

وقوله: الخفيف أيُّ عَيْنٍ تأمَّلَتْكَ فَلاقَتْ ... كَ وطَرْفٍ رَنَا إليكَ فآلاَ قال: هذا متناقض الظاهر لأنه ينكر أن تمسكه عين تديم إليه النظر في المصراع الأول، وفي الثاني ينكر أن يعود طرف رنا إليه ولم يشخص. قال: والمعنى يحمل على عيون الأعداء والاولياء، فعين العدو لا تليقه؛ لأنه لا يديم النظر إليه هيبة له. وعين الولي تتحير فيه فتبقى شاخصة فلا تؤول إلى صاحبها. وهذا مما لم يتكلم فيه أحد. فيقال له: قولك: هذا مما لم يقله أحد مسلّم، وليس لاقتك من لاق كما ذكرت، ولكن من لاقى لأنه في ذكر الحرب والقتال. يقول: أي عين تأملتك في الحرب فلاقتك ولا تهرب منك؟ أي: ذلك بعيد، وأي طرف رنا إليك فآل؛ أي رجع سالما ولم يذهب ويهلك؟ ويعني بالعين والطرف صاحبهما، وهذا استفهام بمعنى الإنكار والنفي. وقوله: الخفيف غَصَبَ الدهرَ والملوكَ عليها ... فَبنَاهَا في وَجْنَةِ الدهر خَالاَ قال: يعني استنقذها من أيدي الدهر والملوك؛ يقال: غصبته على كذا: أي: قهرته

عليه، وقوله: . . . . . . ... . . . . . . في وَجْنَة الدهر خَالا يجوز أن يريد به الشهرة، كشهرة الخال في الوجنة، ويجوز أن يريد ثبوتها ورسوخها فيكون كقول مزرد: الطويل فمن أرْمِهِ منها بسَهْمٍ يَلُحْ بهِ ... كشامَةِ وَجْهٍ ليس للشَّامِ غَاسِلُ وأقول: ويجوز أن يكون أراد حسّن الدهر بها، كما يحسّن الخد، وهو الأولى، ويدل عليه ما يعده من قوله: الخفيف فهيَ تَمْشي مَشْيَ العَروسِ اخْتِيَالاً ... وتَثَنَّى على الزَّمانِ دَلالاَ وقوله: الخفيف وَظُباً تَعْرِفُ الحَرَامَ من الحِ ... لِّ فَقَدْ أفْنَتِ الدِّمَاَء حَلاَلاَ قال: قال ابن جني: هذا مثل ضربه؛ أي سيوفه معودة للضرب؛ أي تعرف بالدربة الحلال من الحرام.

وقال ابن فورجة: العادة والدربة ليستا مما يعرف به الحلال والحرام في الناس فكيف فيما لا يعقل! وإنما يعني أن سيف الدولة غاز للروم وهم كفار فلا يقتل إلا من حل دمه ونسب ذلك إلى سيوفه. هذا كلامه. وأظهر مما قاله أن يقال: إنما عنى بمعرفة الحلال والحرام أصحابها، فكأنه قال: وذوي ضبا يعرفون الحرام من الحلال، فلما حذف المضاف عاد الكلام إلى المضاف إليه. وأقول: الأحسن من قال ابن فورجة: وأن يحمل الكلام على المجاز بجعل ذلك للسيوف دون أصحابها، لأن به تحصل الاستعارة، وتكمل الصناعة، وتختصر الألفاظ، وليس ذلك من باب: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) بلا مرية. ومثله قوله: الطويل تَحَرَّجَ عن حَقْنِ الدِّماءِ كأنما ... يَرَى قتلَ نَفْسٍ تَرْكَ رأسٍ على جِسْمِ فإنه صفة لسيف الممدوح، وهو صحيح، لا للممدوح. وقوله: الكامل يَقْمُصْنَ في مِثْلِ المُدَى من بَاردٍ ... يَذَرُ الفحولَ وهُنَّ كالخِصْيانِ

قال: يقول: هذه الخيل تثب في هذا النهر الذي هو كالمدى بضرب الريح اياه حتى صيرته طرائق كأنها مدى. وأقول: لم يرد بذلك شكل الماء؛ وإنما أراد حدته بشدة برده، فجعله كالمدى لمّا كان يقلص خصي الفحول فيجعلها كالخصيان. وقوله: الكامل يَغْشَاهُمُ مَطرُ السَّحابِ مُفَصَّلاً ... بِمُثَقَّفٍ ومُهَنَّدٍ وسِنَانِ قال: يعني أن وقع السلاح بهم، كوقع المطر يأتي دفعة دفعة، وأراد بالسحاب الجيش وبالمطر الوقعات التي تقع بهم من هذه الأسلحة التي ذكرها، وهي تقع بهم مفصلة لأنهم يضربون تارة بالرماح وتارة بالسيوف. وأقول: الأظهر؛ إن القتال كان في يوم مطر، وجعل قطر السحاب يهمي عليهم بمنزلة العقد، وهو مفصل بما ذكره من رمح وسيف وسنان كما يفصل العقد من الدر بغيره من الجوهر، وهذا من أحسن التشبيه وأغرب البديع. وقوله: الكامل رفَعَتْ بك العُرْبُ العِمَادَ وصَيَّرَتْ ... قِمَمَ الملوكِ مَوَاقِدَ النِّيرانِ

أي: قاتلوا الملوك وأوقدوا على رؤوسهم نار الحرب. وأقول: لم يرد نار الحرب، وإنما أراد نار الحطب؛ أي: جعلت رؤوس الملوك أثافي القدور، موضع الأثافي من الحجارة؛ يصف عز العرب به وقهرهم وغلبهم من سواهم من الملوك حتى فعلوا بهم ذلك. وقوله: البسيط ولَّى صوارِمَهُ إكْذَابَ قولِهِمُ ... فهنَّ ألسِنَةٌ أفواهُهَا القِمَمُ قال: ولى سيف الدولة سيوفه أن تكذبهم فيما قالوا من الصبر على القتال، فكذبتهم بقطع رؤوسهم، وجعلها كالألسنة تعبر عن تكذيبهم، وأمّا جعلها ألسنة جعل رؤوسهم كالأفواه لأنها تتحرك في تلك الرؤوس. وأقول: إن كان أراد الرؤوس تبريتها عن الأجسام فلا يحسن التشبيه بأن تجعل أفواها للسيوف التي هي كالألسنة. وإن كان أراد بالقطع الشق فيها والتفليق منها فذلك أحسن، لأن بذلك تصير كالأفواه وهي فيها كالألسن، فلا يصلح التمثيل وتكمل الاستعارة وتتحرك، كما ذكر في تلك الرؤوس، إلا على هذا التقدير، وهذا موضع لا يتنبه له إلا من نزع إلى هذه الصناعة بعرق وضرب فيها بقدح.

وقوله: البسيط والنَّقْعُ يأخُذُ حَرَّاناً وبُقْعَتَها ... والشَّمسُ تُسْفِرُ أحْيَاناً وتَلْتَثِمُ قال: حران على بعد من سروج؛ يعني أن الغبار وصل إليها لعظم الحرب. وأقول: إنه توهم بالبيت الذي قبله، وهو قوله: البسيط فَلَمْ تُتِمَّ سَرُوجٌ فَتْحَ ناظِرِهَا ... إلاَّ وجيشُكَ في جَفْنَيْهِ مُزْدَحِمُ إنه كان قتال على سروج، وإن النقع لقوته واشتداده يصل منها إلى حران وبقعتها، وليس الأمر كذلك، بل حران وسروج من بلاد سيف الدولة متوسطة في مملكته، فليس النقع لقتال في تلك البلاد، وإنما ذلك صفة لكثرة جيشه في دخوله إلى بلاد الروم، وممره بحران وغيرها من بلاده، ولهذا قال بعده: سُحْبٌ تَمُرُّ بِحصْنِ اللرَّان ممسِكَةً ... وما بهَا البُخْلُ لولا أنَّها نِقَمُ فجعل هذا الجيش، لكثرته، يتوالى كالسحب، وتلك السحب على حصن الران وغيره من بلاده ممسكة لأنها نقم لا نعم وديم، لئلا يؤذيها ويهلكها. والشيخ الواحدي لا شك إنه غر من هذه البلاد لبعده عنها، فكان ينبغي - إذ لم يحققها - أن لا يفسرها ولا يتعرض لذكرها! وقوله: البسيط وجَاوَزوا أرْسَنَاياً مُعْصِمينَ به ... وكيفَ يَعْصِمُهُمْ ما ليس يَنْعَصِمُ

قال: يقول: قطعوا هذا النهر ممسكين بقطعه ليعصمهم عنك، وكيف يعصمهم ما ليس ينعصم منك لأنك تقطعه وتركبه بالسفن وراءهم. فيقال له: لا حاجة به، في قطع أرسناس، إلى السفن مع وجود الخيل، ألا ترى إلى قوله قبل هذه القصيدة: الكامل حتى عَبَرْنَ بأرْسَنَاسَ سوابحاً ... . . . . . . وما بعده؟! فما بعد بذلك عهد ولا طال عليه طول، وإلى ما بعده ببيت من قوله، يعني ارسناس: البسيط ضربْتَهُ بصدور الخيل. . . . . . ... . . . . . . والذي يليه: البسيط تَجَفَّلَ الموجُ عن لَبَّاتِ خيلِهمُ ... . . . . . . فإن ذلك قريب منك غير بعيد عنك! وقوله: البسيط وفي أكُفِّهِمُ النَّارُ التي عُبِدَتْ ... قبلَ المَجُوس إلى ذَا اليومِ تَضْطَرِمُ

قال: يعني السيوف التي كانت مطاعة في كل وقت قبل إن عبدت المجوس النار، وهي نار تضطرم إلى هذا اليوم؛ أي تتوقد وتبرق. وأقول: إنه جعل سيوفه وفضلّها على نار المجوس؛ بأن جعلها قبلها وبعدها في قوله: . . . . . . ... قبلَ المَجُوس إلى ذَا اليوم تَضْطَرِمُ وذلك أن نار فارس انطفأت عند مولد النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث، وهذه النار التي هي السيوف لم تنطفئ بل تضطرم إلى اليوم. وقوله: البسيط وقد تَمَنَّوا غداةَ الدَّرب في لَجَبٍ ... أنْ يُبصروكَ فلمَّا أبْصروكَ عَموا ذكر عن ابن جني في تفسير عموا وجهين: أحدهما: هلكوا وزالت أبصارهم. والثاني: عموا عن الرأي والرشد. قال: وكلاهما ليس بالوجه، وذكر وجها من عنده، وهو: أنهم أرادوا ان يبصروك فلما أبصروك غضت هيبتك أبصارهم وعيونهم فكأنهم عموا.

وأقول: إن هذا الوجه لا يزيد على الوجه الثاني من شرح ابن جني، وفيه وجه رابع قد ذكرته قبل. وقوله: البسيط تَرُدُّ عنه قَنَا الفُرْسَانِ سَابغةٌ ... صَوْبُ الأسِنَّةِ في أثْنائِها دِيَمُ قال: أي تمنع الرماح من النفوذ فيه درع سابغة، قد تلطخت بالدماء التي تسيل من الأسنة عليها. وأقول: إنه لم يفهم معنى هذه الاستعارة، ولم يرد بصوب الأسنة الدم، وإنما يصف كثرة سقوط الأسنة على درعه فجعل ذلك كالديم في الكثرة. وقوله: البسيط أُجِلُّ قَدْرَكِ أن تُسْمَيْ مُؤَبَّنَةً ... ومن يَصِفْكِ فَقَدْ سَمَّاكِ للعَرَبِ

قال: مؤبنة: مرثية، من التأبين وهو مدح الميت، أي: أنت أجل من أن تعرفي باسمك، بل وصفك يعرفك بما فيك من المحاسن والمحامد التي ليست في غيرك. وأقول: رواية ابن جني: مؤبنة من التأبين، وروى غيره: مؤنثة وذلك إنه لما قال مبتدئا: البسيط يا أختَ خيْرِ أخٍ يا بنتَ خير أبٍ ... . . . . . . أغناه أن يقول: يا خولة لأنه أجلها عن التسمية بالتأنيث إذ هو دون التذكير، فوصفها بصفات تغني عن التسمية وتقوم مقامها في التعريف بإضافتها إلى خير أخ وخير أب، لأن عنده إذا قيل ذلك عرف أنهما سيف الدولة وأبوه لاشتهارهما بالفضل على الناس. وانتصب مؤنثة بأنها مفعول ثان. ومن قال مؤبنة نصبها على الحال؛ أي: أجل قدرك في حال التأبين وإنما أصفك بصفات تقوم مقام الاسم. وقوله: الخفيف كلَّمَا صَبَّحَتْ دِيَارَ عَدُوٍّ ... قالَ تلكَ الغُيُوثُ هذي السُّيُولُ قال: أي كلما أتت متوالية صباحا للغارة دار عدو، قال العدو: تلك التي رأينا قبل كانت بالإضافة إلى هؤلاء غيوثا عند الإضافة إلى السيول؛ يريد كثرة مواليه.

وقال ابن جني: هذا مثل: عنى بالغيوث سيف الدولة، وبالسيول مواليه، وذلك إن السيل عن الغيث يكون، كذلك مواليه، به قدروا وغزوا. وأقول: المعنى ما قال ابن جني، ويحتمل أن تكون السيول النعم التي ذكرها قبل؛ تحيي مواليه، وتقتل أعاديه لكثرتها. وقد ذكرت فيه وجها آخر في شرح التبريزي. وقوله: الطويل بِعَزْمٍ يَسِيرُ الجِسْمُ في السَّرجِ راكباً ... به ويَسِيرُ القلبُ في الجسْمِ مَاشِيَا قال: يقول: سرنا بعزم قوي كان الجسم، وهو مقيم في السرج، يسبق السرج، وكان القلب، وهو مقيم في الجسم، يسبق الجسم. وأقول: هذا الذي قاله ليس بشيء! والوجه ما ذكرته في شرح الكندي آخرا. وقوله: الطويل نَجُوزُ عليها المُحْسِنينَ إلى الذي ... نَرَى عندهم إحسَانَهُ والأيَادِيَا

قال: أي نتخطى على هذه الخيل المحسنين؛ يعني سيف الدولة وعشيرته، إلى الذي يحسن إليهم وينعم عليهم وإنه فوقهم؛ يعني الأسود. وأقول: لم يرد بقوله: نَجُوزُ عليها المُحْسِنينَ. . . . . . ... . . . . . . سيف الدولة وعشيرته، لأن أولئك خلاهم وراءه، وهم البياض والمآقي. وإنما عنى بالمحسنين من عداهم ممن جاوزه بعدهم في ولايته من دمشق إلى مصر. وقوله: البسيط ليتَ الحوادثَ باعَتْني الذي أخَذَتْ ... منِّي بِحِلْمِي الذي أعْطَتْ وتَجْريبي قال: يقول: الحوادث أخذت مني الشباب، وأعطتني الحلم والتجربة، فليتها باعت ما أخذت مني بما أعطت. قال: وهذا من قول ابن جبلة: الكامل وأرَى اللَّياليَ ما طَوَتْ من قُوَّتي ... أدَّتْهُ في عَقْلي وفي إفْهَامي فيقال له: إلا أن فيه زيادة وهو إنه تمنى أن يباع ما أخذ منه، وهو الشباب، بالذي

أعطيه وهو الحلم والتجربة. وذلك أن حال الشبيبة قد يجد فيه مثل ما أعطيه، ولا يجد في حال الشيب مثل ما اخذ منه، وجعل ذلك توطئة لما اعتزمه من مدح كافور بأنه شاب، وإن عنده ما عند الإنسان من الحلم والتجريب، وهذا من لطيف البديع، ودقيق التوليد والتفريع وحسن التخلص. وقوله: البسيط يَحُطُّ كلَّ طَويلِ الرُّمْحِ حَامِلُهُ ... عن سَرْجِ كلِّ طَويلِ البَاعِ يَعْبُوبِ قال: يقول: حامل خاتمه ينزل الفارس الطويل الرمح من سرج الفرس، وذلك أن الفرس إذا رأى خاتمه سجد له فنزل عن فرسه. وأقول: يحتمل أن يكون حامله فاعلا ومفعولا، والأحسن أن يكون مفعولا صفة أو بدلا من كل طويل الرمح، والفاعل في البيت الأول: البسيط . . . . . . طينُ خَاتَمِهِ ... . . . . . . وذلك إنه إذا رآه حطه عن سرجه هيبة له وخوفا منه، ونفاذا لأمره وانساط قدرته من غير واسطة؛ لأن حامله أن حطه - أعني: كل طويل الرمح - برؤيته إياه فهو

الأول، وإن حطه بجذبه وإكراهه على النزول فليس بشيء، لأن الأول اسهل وابلغ، وجعل حامله مفعولا بدلا من كل تأكيد لطويل الرمح إنه حامله، واحتراز من ان يكون غير حامله، فحطه مع ذلك أبلغ. وقوله: البسيط ولا يَرُوعُ بمَغْدورٍ به أَحَداً ... ولا يُفَزِّعُ مَوْفُوراً بِمَنْكُوبِ قال: أي لا يغدر بأحد من أصحابه ليروع به غيره، ولا ينكب أحدا بظلم وأخذ مال ليفزع به موفورا، وهو الذي لم يؤخذ ماله أي إنه حسن السيرة. وأقول: لم يكن كافور عند أبي الطيب ولا عند غيره بهذه الصفة، وإنما مدحه بذلك ليلزمه به خوفا على نفسه وماله منه، كما بالغ في مديح عضد الدولة بحفظ الطرق وأمن السبل بقوله: الوافر أُرُوضُ النَّاسِ من تُرْبٍ وخَوْفٍ ... وأرْضٍ أبي شُجاعٍ في أمَانِ وما بعده في ذلك، وهي خمسة أبيات1، والصحيح إنها اربعة، وذلك حذق منه وفطانة به ليؤكده عنده، ويزيده محافظة عليه، وكل ذلك خوفا على نفسه، وإشفاقا على ماله، لما رأى من خشونة تلك البلاد، ووعورة تلك الجبال، ومع ذلك فلم ينج حذر من قدر، والذي خاف منه وقع فيه!

وقوله: البسيط فُتْنَ المَهَالِكَ حتَّى قالَ قائِلُهَا ... ماذا لَقِينَا من الجُرْدِ السَّراحِيبِ قال: قال ابن جني: أي ضجت المفاوز من سرعة خيلي ونجاتها وقوتها، وعلى ما قال: المهالك: المفاوز. والمعنى أن خيله قطعت المفاوز حتى لو كان بها قائل لقال: ماذا لقينا من هذه الخيل، وتذليلها إيانا بالوطء، وقطعها البعد في سرعة، ونجاتها من غوائل الطرق. وقال ابن فورجة: المهالك إذا أطلقت لم يفهم منها المفاوز، وإنما يفهم الأمور المهلكة، يعني أن هذه الخيل لم يعلق بها شيء من الهلاك، حتى تعجبت المهالك من نجاتها بسلامة منها. هذا كلامه. وآخر البيت يدل على ما قال ابن جني. وأقول: أما قول ابن فورجة: إن المهالك إذا أطلقت لم يفهم منها المفاوز فغير صواب، وذلك لأن المهلكة المفازة، وقد استشهد عليها ببيت معروف وهو قول الخنساء: البسيط ورُفْقَةٌ حَارَ هاديها بمَهْلَكَةٍ ... كأنَّ ظُلْمَتَهَا في اللُّجَّةِ القَارُ ولا خلاف أن الفلاة تسمى مهلكة فجمعها على مهالك وكذلك سميت الفلاة مفازة تفاؤلا بالسلامة والظفر، واشتياقا من التطير بذكر الهلاك، لأن أصلها

مهلكة. فما ذكره ابن جني وجه حسن، وما ذكره ابن فورجة مثله في الجودة. وأما قول الواحدي: أن آخر البيت يدل على ما قال ابن جني؛ يعني: ولا يدل على ما قال ابن فورجة، فغير سديد لأن قوله: . . . . . . ... مَاذَا لَقِينَا من الجُرْدِ السَّرَاحيبِ يجوز أن يستعار هذا القول للمفاوز، كما ذكر، ويجوز أن يستعار للأمور المهلكة؛ كأنها تقول للخيل: ماذا لقينا منها بتنجيتها من أردنا إهلاكه، وتسليمها من حاولنا إتلافه؛ لأن القول منهما استعارة ومجاز لا حقيقة. وقوله: الطويل أبَى خُلُقُ الدُّنْيَا حَبيباَ تُدِيمُهُ ... فما طَلَبي منها حَبِيباً تَرُدُّهُ قال: تديمه: من فعل الدنيا، وكذلك ترده؛ أي: تدفعه. ويجوز أن يريد: ترده إلى الوصل. فيقال له: الوجه الثاني من الوجهين اللذين ذكرتهما هو الصحيح الجائز، والأول لا يجوز لأن ذلك لا يطلب، والبيت الذي بعده يدل على ما قلت، وهو قوله: الطويل وأسْرَعُ مَفْعُولٍ فَعَلْتَ تَغَيُّراً ... تَكَلُّفُ شِيْءٍ في طباعِكَ ضِدُّهُ يقول: إن الدنيا من طباعها التفرقة بين الأحباء فكيف أروم منها رد الحبيب؛ أي وصله والاجتماع به، وهو ضد طباعها. فترده بمعنى تدفعه لا معنى له.

وقوله: الطويل ووعدُكَ فِعْلٌ قبل وَعْدٍ لأنه ... نَظِيرُ فَعَالِ الصَّادق القَوْلِ وَعْدُهُ كان كافور وعد أبا الطيب وحلف له ليبلغنه جميع ما في نفسه، لمّا أنشده القصيدة المهموزة يهنئه بالدار، وكان في نفس أبي الطيب الولاية، والارتفاع عن درجة الشعر لكثرة فضله، وعزة نفسه وانفه لمّا أسن وكبر عن قيامه قيام المنشد المستعطي تارة والمستعطف أخرى، وكان لا يطمع بذلك من سيف الدولة ولا يخرجه عن كونه شاعرا. فهذا من بعض أسباب فراقه له، ولم يفارقه من قلة عطاء، لأن اقطاعه له كان كثيرا؛ فهذا مقطعا قرية اسمها بصف، مغلها، كما ذكر، عشرة آلاف دينار، وهذا سوى الإطلاق والخلع التي كانت تصير إليه في كل عام، فحمله البطر والكبر والأنفة من الشعر، على أن فارقه وأوقع في نفسه إنه يصير إلى كافور، وهو أسود خصي، يتلهى به ويخدعه ليوليه بعض الولايات فيتقوى بها فربما غلبه على ما في يده، أو أقام على طاعته فزاد ماله، وارتفع شانه، وعلت منزلته، ورأى سيف الدولة إنه قد زاد عما كان عليه عنده، وارتفع عما كان يسومه منه. فاقتضى كافورا بهذا البيت والأبيات التي بعده، وسامه أن يجربه ببعض أعماله، ويختبره ببعض أشغاله، ليعلم موقعه من حسن التدبير وجودة السياسة، فانعكس عليه قياسه، وانتفض رأيه مما لقي من هوان كافور له بقيامه بين يديه، وتوكيله عليه، وقلة اهتمامه به وكثرة غفلته عنه، أضعاف إكرام سيف الدولة له، وقربه منه! وهذه الأبيات، بل القصيدة من جيد الشعر وحر الكلام.

وقوله: الطويل فَأحسن وَجْهٍ في الوَرَى وَجْهُ مُحْسِنٍ ... وأيْمَنُ كفٍّ فيهُمُ كفُّ مُنْعِمِ قال: هذا البيت يوري عن هجائه بقبح الصورة، وإنه لا منقبة له يمدح بها غير إنه أن أحسن الإعطاء فوجهه أحسن الوجوه بالإحسان، ويده أيمن الأيدي بالإنعام، وكذلك البيت الذي بعده. وأقول: ليس في هذا البيت ولا الذي بعده تورية عن هجائه بقبح صورته وإنه لا منقبة له يمدحلها، ولا ما يدل على ذلك، ولكن إن كان فيه تعريض له بالعطاء، وتحريض عليه فربما؛ كأنه يقول: لا يشينك سوادك إن كنت محسنا كما ان غيرك لا يزينه بياضه إن كان مسيئا، بل أحسن الوجوه وجه محسن. وقوله: الطويل وما عَدِمَ اللاَّقوكَ بأساً وشِدَّةً ... ولكنَّ من لاقَوْا أشَدُّ وأنْجَبُ

قال: يقول: لم يعدم هؤلاء الذين لقوك محاربين شجاعة وشدة إقدام، أي كانوا شجعاء اشداء، ولكن أصحابك كانوا أشد منهم وأنجب، وهو كقول زفر بن الحارث: الطويل سَقَيْنَاهُمُ كأساً سَقَوْنَا بِمِثْلِهَا ... ولكنَّهم كانوا على المَوْتِ أصْبَرَا وأقول: إن قوله: ولكن أصحابك كانوا أشد منهم وأنجب ليس بشيء! ولو قال: ولكنك أنت كنت أشد منهم وأنجب، ورد الفعل إليه لكان هو الوجه، وقوله: الطويل ثَنَاهُمْ. . . . . . ... . . . . . . فيما بعد، يدل على ما قلت، ويكون أصحابه في ذلك تبعا له، فلا تجعل لهم دونه. وقوله: الخفيف كلَّمَا أنْبَتَ الزَّمَانُ قَنَاةً ... رَكَّبَ المَرْءُ في القَنَاةِ سِنَابَا

قال: يقول: إذا انتدب الزمان للإساءة بما جبل عليه صارت عداوة المعادي مددا لقصده فجعل القناة مثلا لما في طبع الزمان، وجعل السنان مثلا للعداوة. وأقول: هذه العبارة غير مرضية، والجيد لو قال: جعل الدهر، بما عرف من غدره بأبنائه، إذا انبت قناة فكأنما أنبتها لأذاهم ولم يقنع أحدنا منه بذلك الأذى حتى زاده بأن ركّب في تلك القناة سنابا، وذلك مثل لعداوة بعضنا بعضا، وهذا البيت تفسير لما قبله من قوله: الخفيف وكأنَّا لم نَرْضَ فِينَا بِرَيْبِ ال ... دَّهْرِ حتَّى أعَانَهُ من أعَانَا وهو من قول الآخر: الطويل أعَانَ عليَّ الدَّهْرَ إذ حَكَّ بَرْكَهُ ... كَفَى الدَّهْرُ لو وكَّلْتَهُ بي كافِيَا وقوله: الخفيف غَيْرَ أنَّ الفَتَى يُلاقِي المَنَايَا ... كَالِحاتٍ ولا يُلاقِي الهَوَانَا قال: يعني إن الحر أحب إليه الموت من أن يلقى ذلا وهوانا. وأقول: إنه هوّن مراد النفوس فيما قبل وحقّره في جنب التعادي والتفاني فيه، ثم استثنى منه ما أفضى تركه إلى هوان، فإن لقاء الموت كالحا دون لقائه.

وقوله: الوافر زمَلَّنِيَ الفِراشُ وكانَ جَنْبي ... يمَلُّ لِقَاَءهُ في كُلِّ عامِ قال: يعني إن مرضه قد طال حتى مله الفراش، وكان هو يمل الفراش، وإن لاقى جنبه في العام مرة واحدة لأنه أبدا كان يكون في السفر. وأقول: قوله: مرة واحدة ليس بشيء! لأنه لا دليل في الكلام عليه، والمعنى ذكرته في شرح الكندي. وقوله: الوافر إذا ما فَارقَتْني غَسَّلَتَنْي ... كأنَّا عاكِفَانِ على حَرَامِ قال: يريد إنه يعرق عند فراقها فكأنها تغسله لعكوفهما على ما يوجب الغسل، وإنما خص الحرام لحاجته إلى القافية وإلا فالاجتماع على الحرام كالاجتماع على الحلال في وجوب الغسل. وأقول: ليس ذلك لحاجته إلى القافية، وإنما ذلك لمعنى لم يتنبه له، وهو إنه لمّا قال: الوافر وزَائِرَتي كأنَّ بها حَياءً ... فليسَ تَزُورُ إلاَّ في الظَّلامِ أخبر إنها غريبة منه؛ أي: معشوقة له وليست بزوج ولا سرية، فعكوفهما على جماع لا يكون إلا من حرام!

وقوله: الوافر كأنَّ الصُّبْحَ يَطْرُدُهَا فَتَجْري ... مَدَامِعُهَا بأربْعَةٍ سِجَامِ قال: يعني إنها تفارقه عند الصبح فكأن الصبح يطؤدها، وكأنها تكره فراقه فتبكي بأربعة آماق؛ يريد كثرة الرخصاء، والدمع يجري من المؤقين فإذا غلب وكثر جرى من اللحاظ أيضا فأراد بالأربعة: لحاضين ومؤقين. ولك يعرف ابن جني هذا فقال: أراد الغروب وهي مجاري الدمع، والغروب لا تنحصر بأربعة ذات سجام فحذف المضاف. فيقال له: أما قولك: الدمع يجري من المؤقين فصحيح. وأما قولك: إذا كثر حري من اللحاظ فليس بمعروف، والصحيح ما قال ابن جني وذلك ان لكل عين غربين، فلذلك قال: بأربعة سجام؛ قالت فاطمة الخثعمية: الكامل يا عَيْنُ بَكِّي عند كلِّ صَبَاحِ ... جُودي بأربعةٍ على الجِرَّاحِ تريد العينين.

وقوله: الطويل لياليَ عند البِيضِ فَوْدايَ فِتْنَةٌ ... وفَخْرٌ وذاكَ الفَخرُ عِنْدِيَ عَابُ قال: تمنيت ذاك ليالي كان رأسي فتنة عند النساء لحسن شعري وسواده، وكن يفتخرن بوصلي وذاك الفخر عيب عندي لأني أعف عنهن، وازهد في وصالهن. وأقول: إن قوله: وكن يفتخرن بوصلي ليس بشيء! وإنما يريد: يفتتن بشعري لحسنه ويرينه فخرا لي لشرفه عندهن بسواده وطوله، وأنا أراه عابا لأنه علامة ومظنة للصبا وذلك يدعو إلى اللهو والجهل، وأنا حينئذ أريد الجد في الأمور، وحسن الذكر، وعلو القدر، وأرى الفخر في ذلك لا في سواه. فقوله: يفتخرن بوصلي لا يدل عليه اللفظ، ولا هو حسن في المعنى لأن النساء لا يفتخرن بذلك. وقوله: الطويل وعن ذَمَلانِ العِيسِ إنْ سَامَحَتْ به ... وإلاَّ فَفِي أكوارِهِنَّ عُقَابُ قال: يقول: أنا غني عن سير الإبل، أن سامحت بالسير سرت عليها وإلا فأنا كالعقاب الذي لا حاجة به أن يُحمل.

وأقول: هذا الذي ذكره هو قول ابن جني وغيره، وليس بشيء! والمعنى ما ذكرته في شرحه. وقوله: الطويل وغَيْرُ فُؤَادي للغَوَاني رَمِيَّةٌ ... وغَيْرُ بَنَاني للزُّجاجِ رِكَابُ قال في تفسير عجز البيت: بناني لا تصير مركبا للزجاج؛ أي: لا احمل كأس الخمر بيدي. وروى ابن جني: للرخاخ بالخاء معجمة، وقال في تفسير البيت: أي لست ممن يصبو إلى الغواني واللهو بالشطرنج. وقال ابن فورجة: البنان ركاب للقدح، وأما الرخ فالبنان راكبة له في حال حمله. وأيضا فإنها كلمة أعجمية لم تستعملها العرب القدماء الفصحاء. وأيضا فإن التنزه عن شرب الخمر أليق بالتنزه عن الغزل من التنزه عن لعب الشطرنج. فيقال لهما: يجوز أن يكون البنان ركابا للرخ وان كانت فوقه لأنها حاملته ويكون مثل قول بعضهم ملغزا في نعل: المنسرح وَجْرَةٍ أشْتَكي إذا نَقِبَتْ ... تَحْمِلُني ماشِياً وأحْمِلُهَا فاعْجَبْ لها في المَسِيرِ يَعْمَلَةً ... تُعْمِلُني فَوْقَهَا وأُعْمِلُهَا وأما قوله: لم تستعمل هذه اللفظة العرب فيقال له: لاشك أن هذه الآلة كانت

موجودة مستعملة في زمانهم، لعب بها جماعة من الصحابه، وهم عرب، وكانوا يسمونها بهذه الأسماء المعروفة في قطعها. على إنه يقال: لعل العرب إنما لم تستعمل هذه اللفظة أو الألفاظ لأنها لم تلعب بهذه الآلة وتتعاطاها فتحتاج إلى تسميتها والتعبير عنها، وذلك لا يخرجها من الوجود، ولا يمنع من تسمية هذه الآلة الكثيرة الاستعمال والمعاطاة بأسماء تحصل بها الإبانة والفائدة فتقر على ما وضعها واضعها وإن كان أعجميا، وتكون من جنس الأسماء التي أفقت موافقة الأعجمية فيها العربية نحو يعقوب وإسحاق وما أشبههما. وأما قوله: التنزه عن شرب الخمر أولى من التنزه عن لعب الشطرنج، فيقال له: هو كما قلت إلا أن ابن جني اعتبر قافية البيت الذي يليه وهو قوله: الطويل . . . . . . ... وليسَ لنا إلاَّ بِهنَّ لِعَابُ فرأى أن استعمال لفظ اللعب أكثر وأولى بالشطرنج من اللعب بالأقداح فلذلك اختار الرخاخ، بالخاء، على الزجاج، بالجيم. وقوله: الطويل وأوسَعُ ما تَلْقَاهُ صَدْراً وخَلْفَهُ ... رِمَاءٌ وطَعْنٌ والأمامَ ضِرَابُ قال: قال ابن جني: يقول: أوسع ما يكون صدرا إذا تقدّم في أول الكتيبة يضرب بالسيف وأصحابه من ورائه ما بين طاعن ورام.

قال ابن فورجة: جعل ابن جني الرماء والطعن من أصحاب الممدوح، ولا يكون هناك كثير مدح؛ لأن كل أحد إذا كان خلفه من يرمي ويطعن من أصحابه؛ فصدره واسع وقلبه مطمئن. وإنما أراد: خلفه رماء وأمامه طعن من أعدائه، وإنما المعنى: فإذا كان في مضيق من الحرب قد أحاط به العدو من كل جانب، لم يضجر، ولم يعد ذلك لضيق صدره. فيقال له: الذي قاله ابن جني صحيح، والذي اعترضه ابن فورجة ليس بشيء، وذلك أن الرماء والطعن إذا كان خلفه من أصحابه في أعدائه، فلا بد أن يكون بعض أعدائه خلفه أيضا، فهو أمامهم متقدم يضرب بالسيف من هو قدامه وهم متأخرون عنه يطاعنون ويرامون. ولم يرد أبو الطيب ولا ابن جني إنه متقدم وأصحابه يتبعونه من ورائه محامين ومدافعين عنه؛ هذا لا طائل فيه وإنما في هذا الكلام تفضيل الممدوح بإفراط تقدمه على أصحابه ضاربا بالسيف وتأخرهم عنه مطاعنين ومرامين، وإشارة إلى قول زهير، وإن انحط عنه: البسيط يَطْعَنُهُمْ في الوَرَى إذا اطَّعَنُوا ... ضارَبَ حتى إذا ما ضَارَبُوا اعْتَنَقَا وأما قوله: وخلفه رماء وأماه طعن فليس ذلك في الكلام، ولا يكون هذا مثل قوله: مجزوء الكامل

يا ليتَ زَوْجَكِ قد غَدَا ... متَقَلِّداً سَيْفاً ورُمْحَا لأن الكلام تام على ما ذكر فلا حاجة به إلى التقدير كحاجة ذلك، ولا يجوز ذلك مع الإلباس. وقوله: الطويل أرَى لي بِقُرْبي منكَ عَيْناً قَرِيرَةً ... وإنْ كانَ قُرْباً بالبِعَادِ يُشَابُ قال: يقول: عيني قريرة بالقرب منك لحصول مرادي، وإن كان هذا القرب مستويا بالبعاد عن الوطن والأحبة. وأقول: لم يرد ما فسره، من إنه مشوب بالبعاد عن الوطن والأحبة، ولكنه مشوب بالبعاد عما وعده إياه وأطمعه به من الإقطاع والولاية، وهو قوله: الطويل إذا لم تُنِطْ بي ضَيْعَةً أو ولايةً ... فجودُكَ يَكْسُوني وشُغْلُكَ يَسْلُبُ والبيت الذي بعده يدل على ما قلته وهو قوله: الطويل وهَلْ نَافِعِي أنْ تُرْفَعَ الحُجْبُ بَيْنَنَا ... ودونَ الذي أمَّلْتُ منكَ حِجَابُ أي: لا ينفعني قربي منك أن ترفع الحجب بيني وبينك ودون أملى منك حجاب. وأمله منه هي الولاية المشئومة عليه التي لو قدرت له لما قنع فيها بالمتنبي دون التأله!!

وقوله: البسيط جَازَ الأُلَى مَلَكَتْ كفَّاك قَدْرَهُمُ ... فَعُرِّفُوا بك أن الكَلْبَ فَوْقَهُمُ قال: يقول: هؤلاء الذين تملكهم تجاوزوا قدرهم بالبطر والطغيان فملكت عليهم تحقيرا لهم، ووضعا من قدرهم حين ملكهم كلب. وأقول: يحتمل ان يقال: هؤلاء الذين ملكتهم جازوا قدرهم في الفخر والعلو على الناس، فعُرفوا، أي: بُين لهم بانتمائهم اليك، وبملكك لهم، أن الكلب فوقهم، أي: يعلوهم ويفضلهم، وأن يقال: فبُين لهم إن الذي يملكهم كلب في الخسة والدناءة واللُّؤم، فهذا معنى قوله: الكلب فوقهم. وقوله: فملكت عليهم تحقيرا لهم ووضعا من قدرهم - وهو تفسير: فعُرفوا بك - ليس بشيء! لأنه يدل على أن بطرهم وفخرهم كان قبل تمليكه لهم، وليس كذلك، بل إنما كان منهم بتمليكه لهم فأرادوا به الارتفاع، فحصل لهم الاتضاع فالوجه الصحيح ما فسرته. وقوله: البسيط ما أقْدَرَ اللهَ أنْ يُخْزي خَلِيقَتَهُ ... ولا يُصَدِّقَ قَوْماً في الذي زَعَمُوا

قال: يقول: الله تعالى قادر على إخزاء الخليقة؛ بأن يملك عليهم اسما ساقطا من غير أن يصدق المُلحدة الذين يقولون بقدم الدهر؛ يشير إلى أن تأمير مثله إخزاء الزمان، والله تعالى فعل ذلك؛ عقوبة لهم، وليس كما تقول الملحدة. وأقول: يحتمل أن يكون أراد بالخليقة اختراع الكذب، ويخزي: يبعد، من قولهم: أخزاه الله؛ يقول: الله - سبحانه - قادر على أن يبعد ولايته المكذوبة، ولا يصدق قوما في قولهم: إنما ثم صانع للعالم، ولو كان ثم صانع لما ولاَّه، أو لما أدام ولايته. وهذا كأن فيه معنى الدعاء عليه كقول الآخر: البسيط ما أقْدَرَ الله أنْ يُدْني على شَحَطٍ ... من دَارُهُ الحَزْنُ مِمَّنْ دَارُهُ صُولُ وقوله: الوافر تَشَابَهَتِ البَهَائمُ والعِبِدَّى ... عَلَيْنَا والمَوالي والصَّمِيمُ قال: العبدى: العبيد. يقول: عم الجهل الناس كلهم؛ الذين هم عبيد الله حتى أشبهوا البهائم في الجهل، وملك المملوكون، فالتبس الصميم، وهو الصريح النسب الخالص، يعني: الأحرار بالموالي وهو الذين كانوا عبيدا ارقاء، وذلك أن نفاذ الأمر يترجم عن علو القدر،

والإمارة إذا صارت إلى اللئام التبسوا على هذا الأصل بالكرام؛ يعني أن التمليك إنما استحقه الكرام فإذا صار إلى اللئام ظنوا كراما. وأقول: لم يرد بالعبدى جمع الناس الذين هم عبيد الله إنما يريد العبيد الذين هم مماليك. يقول: إن الناس قد تغيرت وفسدت؛ حتى تشابهت العبيد وهم ممن يفهم، بالبهائم التي لا يفهم؛ أي: تساووا في الجهل وعدم الفهم والتحصيل، وتشابهت الموالي وهم المعتقون بالصريحي الأنساب في اللؤم والدناءة. وما ذكره من أن نفاذ الأمر يترجم عن علو القدر. . . . . . إلى آخره غير مرضي. وقوله: الوافر وما أدْري إذا دَاءٌ حَدِيثٌ ... أصَابَ النَّاسَ أمْ دَاءٌ قَدِيمُ؟ قال: يقول: هذا الذي أصاب الناس من تمليك العبيد واللئام عليهم حدث الآن أم هو قديم؟ فيقال له: لم يرد تمليك العبيد واللئام، ولم يجر لذلك ذكر، ولا اشتمل عليه لفظ، وإنما يشير إلى تشابه الأجناس التي ذكرها، والتباسها عليه فقال: وما أدري، وهو يدري، وإنما تجاهل لتأكيد الندم بحصول الاشتباه بينها وهو مثل قول زهير: الوافر وما أدْري وسوفَ إخَالُ أدْري ... أقومٌ آلُ حِصْنٍ أمْ نِسَاءُ

وقوله: الوافر ولمَّا أنْ هَجَوْتُ رأيتُ عِيّاً ... مَقَالي لابْنِ آوَى يَالَئِيمُ قال: يقول: لما هجوته، وهو ظاهر اللؤم؛ كان نسبتي إياه إلى اللؤم عيا، لأن التكلم بما لا يحتاج فيه إلى بيان عي، ومن قال لابن آوى، وهو من أخس السباع: يا لئيم كان متكلفا. وأقول: قوله: إن التكلم بما لا يحتاج فيه إلى بيان عي حسن، وذلك كمن قال للشمس: هي مضيئة، أو للنار: هي حارة فإن وصفهما بذلك، مع بيانه، بمنزلة العي والخرس إذ لا فائدة فيه للسامع؛ لأنه يعلم ذلك ضرورة. وقوله: ومن قال لابن آوى، وهو من أخس السباع: يا لئيم كان متكلفا ليس بشيء! لأن الأخس هو الأحقر، ولعل في السباع ما هو أحقر منه. ولو قال: وهو من ألأم السباع، للؤم اصله؛ لأنه لا يعرف له أب، وذلك إشارة إلى قول الشاعر: الطويل وما خبرُهُ إلاَّ كآوَى يُرَى ابنُهُ ... ولم يُرَ آوَى في الحُزونِ ولا السَّهْلِ لأصاب المعنى وأحسن العبارة. وقوله: البسيط لا يَقْبِضُ المَوْتُ نَفْساً من نُفُوسِهِمُ ... إلاَّ وفي يَدِهِ من نَتْنِهَا عُودُ

قال: يقول: لا يباشر الموت بيده قبض أرواحهم؛ تقززا واستقذارا لهم. وأقول: هذا ليس بشيء! والمعنى قد ذكرته أولا وآخرا. وقوله: البسيط العَبْدُ ليسَ لِحُرٍّ صَالحٍ بأخٍ ... لَوَ إنه في ثيابِ الحُرِّ مَوْبودُ قال: يقول: العبد لا يؤاخي الحر لما بينهما من التباعد في الأخلاق، وإن ولد العبد في ملك الحر، وهذا إغراء لابن سيده به! يعني أن الأسود وإن أظهر له الود؛ فليس له بمصاف مخلص. وأقول: يقول لا ينبغي لحر صالح، أن يتخذ عبدا صديقا وأخا ولو ولد في ثيابه؛ أي: نشأ معه وهو طفل على سنه؛ لأن العبد لا تلائم طباعه طباع الحر للؤم أصله. وليس هذا، كما قال، إغراء لابن سيده به، ولكن هذا تبيين لكل أحد، وإشارة من أبي الطيب بذلك إلى نفسه في ترك الاغترار بكافور والركون إلى قوله.

وقوله: إنَّ امرأً أمَةٌ حُبْلَى تُدَبِّرُهُ ... لَمُسْتَضَامٌ سَخِينُ العَيْنِ مَفْؤودُ قال: جعل الأسود أمة لعدم آلة الرجال، وجعله حبلى لعظم بطنه، وكذا خلقه الخصيان، وهذا تعريض بابن سيده؛ يقول: الذي صار تدبيره إلى من هذه صفته فهو مظلوم مصاب العقل. وأقول: قوله: . . . . . . ... لَمُسْتَضَامٌ سَخِينُ العَيْنِ مَفْؤودُ أي: مستذل، حزين، مصاب الفؤاد. وفسر ابن جني، وتبعه الواحدي، مفؤود ذاهب العقل. قال: كأنه أصيب فؤاده بسهم أو غيره، يقال: فادت الظبي: أفاده؛ إذا أصبت فؤاده. وإصابة فؤاده لا يعبر بها عن ذهاب عقله، ولا يصح هذا إلا على أن يجعل الفؤاد القلب العقل لقوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ) أي: عقل، هكذا فسر. وليس المعنى في هذا البيت تعريض بابن سيده، ولكن تعريض بنفسه، وإزراء بها في مقامه عنده، ممتثلا أمره، قابلا حكمه، متدبرا رأيه، لا يفارقه فيأبى الضيم، ويأنف من الذل، ولهذا قال فيما بعد: البسيط وَيْلمِّهَا خُطَّةً وَيْلُمِّ قابِلِهَا ... لِمِثْلِهَا خُلِقَ المَهْرِيَّةُ القُودُ

أي: لمثل هذه الخطة والحالة الصعبة، خُلقت الإبل الكرام؛ يعني: للنجاء عليها، ومفارقة الذل بها، وهذا دليل على ما قلته، وأنه أراد بالضمير في تدبره نفسه لا ابن سيده. ولو نظر الواحدي إلى البيت الثاني وما بعده وتدبره، لم يفسر الأول على ما فسره. وما رأيته، مع حذقه، يتفقد هذه المواضع التي هي أصل التفسير، ليأمن التناقض والاختلاف، بل وقع في كثير منها. وقوله: الطويل لَقَدْ كنتُ الغَدْرَ عن تُوسِ طَيِّىءٍ ... فلا تَعْذُلاني رُبَّ صِدْقٍ مُكَذَّبِ قال: يقول: كنت أقول أن طيئا لا تغدر، ولم تكن آباؤهم غدارين فلا تعذلاني إن غدر هذا لأنه ليس من الأصل الذي يدعي من طيئ. وقوله: . . . . . . ... . . . . . . ربَّ صِدْقٍ مُكَذَّبِ أي: رب صدق يكذبه الناس، يعني: كنت صادقا في نفي الغدر عن طيئ، وإن كذبني الناس لأجل وردان بادعائه إنه من طيئ، ويريد إنه صادق أن وردان ليس من طيئ. ولم يعرف ابن جني هذا فقال: رجع عن نفي الغدر عنهم، وليس في البيت ما يدل على رجوعه عن نفي الغدر.

فيقال: بل الصحيح إنه ليس في البيت ما يدل على أن وردان ليس من طيئ والذي ذكرته خبط وتخليط، والذي ذكره ابن جني ظاهر، وذلك إنه اقسم لصاحبيه فقال: والله لقد كنت أنفي الغدر عن القدماء من طيئ فلا تعذلاني على ذلك بما ظهر من غدر وردان؛ فأني فيما قلت صادق، والصدق قد يكذب في بعض الأحيان؛ يعني أن القدماء منهم أهل وفاء إلا هذا حدث فيهم؛ يعني وردان فإنه غدَّار. وقوله: المتقارب ألاَ كُلُّ مَاشِيَةِ الخَيْزَلَى ... فَدا كلِّ مَاشِيَةِ الهَيْدَبى وكلِّ نَجَاةٍ بُجَاوِيَّةٍ ... خَنُوفٍ ومَا بِيَ حُسْنُ المِشَى قال في تفسير البيت الأول: يقول: فدت كل امرأة تمشي الخيزلي كل ناقة تمشي الهيدبى، وذلك وهم لأن الهيدبى من مشى الخيل، قال امرؤ القيس: الطويل على كُلِّ مَقْصُوصِ الذُّنابَى مُعَاوِدٍ ... بَرِيدَ السُّرَى في اللَّيلِ من خَيْلِ بَرْبَرْا إذا رُعْتَهُ من جانِبَيْهِ كِلَيْهِمَا ... مَشَى الهَيْدبَى في دَفِّهِ ثم فَرْفَرا

وقال في تفسير البيت الثاني: يقول: لا أحب مشية النساء؛ وما بي إلى ذلك ميل، وإنما أحب كل ناقة خفيفة المشي. وأقول: لو أن المعنى على ما ذكر من إنه لا يحب مشى النساء، ويحب مشي الجمال لقال في البيت الثالث: لأنهن ولم يقل ولكنهن. والمعنى إنه لما قال: ألا كُلُّ ماشِيَةِ الخَيْزَلَى ... . . . . . . ويعني بذلك النساء: . . . . . . ... فِدَا كُلِّ مَاشِيَةِ الهَيْدَبَى ويعني بذلك الخيل، وفدى كل نجاة بجاوية خنوف، وهي الناقة التي ترمي بيديها إلى وحشيها، والخناف: ضرب من مشي الإبل، قال الأعشى: الطويل أجَدَّتْ بِرِجْلَيْها نجاءً وَراجَعَتْ ... يَداهَا خِنَافاً لَيِّناً غيرَ أحْرَدَا وهو يرى أن مشي الخيل عنده ومشي الإبل أحسن من مشى النساء لجده في الأمور وطلبه للمعالي وتركه للهو والغزل، قال: . . . . ... . . . . . . ومَا بِيَ حُسْنُ المِشَى أي: ما قصدي ومرادي حسن المشى وتفضيلي للخيل عليهن في ذلك، ولكن لما هو أحسن وأفضل من ذلك وهو ما استدركه من قوله: المتقارب ولكِنَّهُنَّ حِبَالُ الحياة ... وكَيْدُ العُداةِ ومَيْطُ الأذَى وقد وهو في اعتقاده أن الهيدبى من مشي الإبل، وذلك لما رآه قد عطف قوله:

وكل نَجَاةٍ بُجَاوِيَّةٍ ... . . . . . . وهي من صفات الإبل، على قوله: . . . . . . ... . . . . . . ماشِيَةِ الهَيْدَبَى توهم إنه عطف لتأكيد الوصف للإبل وذلك خطأ لما ذكرته. وقوله: المتقارب وشِعْرٍ مَدَحْتُ به الكَرْكدَنْ ... نَ بين القَرِيضِ وبين الرُّقَى قال: يقول: هو شعر من وجه ورقية من وجه، لأني كنت أرقبه لأخذ ماله. وأقول: الجيد لو قال: لأسلم منه، كذات السموم التي ترقى خوفا من أذاها. وقوله: المتقارب فما كانَ ذلك مَدْحاً لَهُ ... ولكنَّهُ كانَ هَجْوَ الوَرَى قال: يقول: لم يكن ذلك الشعر مدحا له، ولكنه كان في الحقيقة هجوا للخلق كلهم حيث أحوجوني إلى مدحه. وقال ابن جني: إذا كانت طباعه تنافي طباع الناس كلهم سفالا ثم مدح فذلك

هجوهم لأن فيه إرغامهم، ومدحا لما ينافي طباعهم. فيقال له: هذا ليس بشيء! والقول غير قولك وقول ابن جني، وهو ما ذكرته في شرح الكندي. وقوله: البسيط وإنْ تَكُنْ مُحْكماتُ الشُّكْلِ تَمْنَعُني ... ظُهورَ جَرْيٍ فلي فيهنَّ تَصْهَالُ قال: يقول: إن لم تكن عندي مكافأة بالفعل؛ فعندي مكافأة بالقول. والمعنى: إن لم أقدر على المكاشفة بنصرتك على كافور؛ فإني أمدحك إلى أوان، ذلك كما أن الجواد إذا شكل عن الحركة صهل شوقا إليها. وكان فاتك يسر خلاف الأسود، وينطوي على بغضه ومعاداته، وكان أبو الطيب يحبه ويميل إليه ولكن ليس يمكنه إظهار ذلك خوفا من الأسود. وأقول: الجيد أن يقال: إنه يقول: إن لم أقدر على مهاداتك ومجازاتك بالبذل والعطاء، لعلو قدرك، وعظم شأنك، وضيق مالي عن ذلك، فجعل نفسه جوادا،

وجعل الإقلال له بمنزلة الشكال الذي يمنعه عن الجري وهو المجازاة بالعطاء، فإني أجازيك بالقول؛ أي: بالمدح والثناء، وجعل ذلك بمنزلة الصهيل للجواد إذا لم يقدر على الجري شوقا إليه. وقوله: البسيط لا وارِثٌ جَهِلَتْ يُمْنَاهُ ما وَهَبَتْ ... ولا كَسُوبٌ بغير السَّيفِ سَآَّلُ قال: يقول: لا يدرك المجد إلا سيد لا وارث؛ أي: لم يرث أباه شيئا لأنه كان جوادا فلم يُخلف مالا، ويمناه جهلت ما وهبت لكثرته. وأقول: لم يفهم المعنى! وتفسيره: لا وارث بقوله: لم يرث أباه شيئا. . . . . . إلى آخره، خطأ، ومعنى هذا البيت في الظهور كقول الشاعر: البسيط حَتَّى ظَهَرْتَ فما تَخْفَى على أحَدٍ ... إلاَّ على أحَدٍ لا يَعْرِفُ القَمرَا والمعنى: لا يدرك المجد إلا سيد فطن المكارم، يفعل منها أفعالا تشق على السادات، ووصف ذلك السيد فقال: لا وارثٌ جَهِلَتْ يُمْنَاهُ ما كَسَبَتْ ... . . . . . . وذلك أن الوارث لم يتعب في تحصيل المال، فإذا وهبه فهو جاهل به، وإنما كسب ذلك المال بسيفه ثم جاد به فهو ابلغ في الجود وافضل في العطاء. وقد ذكرت هذا في

شرح التبريزي، وهو من قول ابن الرومي: الوافر وما في الأرض أكْرَمُ من جَوادٍ ... . . . . . . وقوله: البسيط القائدُ الأُسْدَ غَذَّتْها بَراثِنُهُ ... بِمِثْلهَا من عِداهُ وَهْيَ أشْبَالُ قال: أي: الذي يقود إلى الحرب رجالا هم أسود تغذوهم براثن فالتك بأمثالهم من الأعداء، يعني إنه يغنمهم الأبطال، وجعلهم كالأشبال له حيث قام بتغذيتهم. وأقول: إن هذه عبارة غير بينة مرضية. والمعنى إنه جعل فاتكا اسدا، يقود من غلمانه أسدا غذتها براثنه في حال صغرها بأسد مثلها من عداه. يعني إنه كان يصحبهم وهم صغار فيغنمهم ويجرئهم على القتال، ويرشحهم للقاء الأبطال، فهذا معنى قوله: . . . . . . ... . . . . . . وهي أشْبَالُ وقوله: الكامل ما كانَ منكَ إلى خَليلٍ قبلَهَا ... ما يُسْتَرابُ به ولا ما يُوجِعُ قال: يقول: لم يكن منك إلى خليل قبل المنية ما يريبه منك أو يوجعه، وذلك أشد لتوجعه عليك إذ لم تربه في حياتك.

وأقول: المعنى إنه لما ساله ان يبرد حشاه بكلمة ولم تقع منه، استراب به لأنه لم يعهد ذلك منه، وتوجع له لترك جوابه فقال: ما كان منك إلى خليل قبل هذه الحالة، ما يوقع له ريبة بك وتوجعا منك بكونك لا تكلمه، ولا تقدر على نفعه لما حل بك من الموت. وقوله: البسيط لا أبْغِضُ العيسَ لكنِّي شَفَيْتُ بها ... قَلْبي من الهَمِّ أو جِسْمي من السَّقَمِ قال: يقول: ليست الإبل ببغيضة إلي، أي: ليس إتعابي لها في السفر بغضا لها مني، لكن أسافر عليها لأقي قلبي من الحزن، وجسمي من السقم، وذلك أن السقيم إذا غيّر الماء والهواء وسافر صح جسمه، وكذلك المحزون يتنسم بروح الهواء، ويصير إلى مكان يسر فيه بالإكرام. وأقول: لم يرد ما ذكره من حال السقيم وحال المحزون، ولكن يشير إلى ما كان يجده ويكابده في مصر، بسبب كافور، من الحزن في قلبه، والسقم في جسمه؛ يعني

إنه بسير العيس، خلص من كافور ووقى وجسمه من ذلك، فهذا الكلام حكاية للحالة التي كان عليها، والشدة التي نجا منها. وقوله: البسيط في غِلْمَةٍ أخْطَروا أرْوَاحَهمْ ورَضُوا ... بما لَقُوهُ رِضَا الأيْسَار بالزُّلَمِ قال: يقول: سريت من مصر في غلمة حملوا أرواحهم على الخطر لبعد المسافة، وصعوبة الطريق، ورضوا بما يستقبلهم من هلك أو ملك، كما يرضى المقامرون بما يخرج لهم من القداح. وأقول: الجيد لو قال: بما يلقونه من نجاة أو هلاك، لأن أبا الطيب في خروجه من مصر على تلك الحال لم يحاول ملكا وإنما حاول نجاة من الأسود لخوفه على نفسه وماله منه بتوصيته عليه، ولكنه قصد بتلك العبارة الازدواج فوقع في الاعوجاج. وقوله: الطويل تُمِرُّ الأنابيبُ الخواطِرُ بينَنَا ... ونَذْكُر إقبالَ الأميرِ فَتَحْلَوْ لي

قال: عند بعض الناس لا تجوز هذه الواو في هذه القافية. وقال: خطأ أن يجمع بين تجلي وتحلو لي في قافية. وليس كذلك؛ لأن الواو والياء إذا سكنتا وانفتح ما قبلهما جرتا مجرى الصحيح مثل القول والمين، وكذلك إذا انفتحتا وسكن ما قبلهما مثل أسود وأبيض، وهذا مثل قول الكسعي: الرجز يا رَبِّ وَفِّقْني لِنَحْتِ قَوْسِي فإنَّها من أرَبِي لِنَفْسي وانْفَعْ بِقَوْسي وَلَدِي وعِرْسِي وأقول: ليس هذا عند بعض الناس، كما ذكر، بل عند كل الناس ممن له علم بالقوافي واستقراء لأشعار العرب. وقوله: أن الواو والياء إذا سكنتا وانفتح ما قبلهما جرتا مجرى الصحيح؛ غير صحيح، ولو كانا كذلك لجاز أن يجتمع في قافية: الطول والصقل والقول والقتل. وهذا لا يجيزه أحد. ولجاز أن يأتي في قول رويشد: البسيط يا أيُّها الرَّاكبُ المُزْجي مَطِيَّتَهُ ... بَلَّغْ بني أسَدٍ ما هذه الصَّوْتُ المرت والخبت.

وفي قول عبد الشارق: الوافر ألا حُيِّيتِ عنا يا رُدَيْنَا ... نُحَيِّيهَا وإنْ كَرُمَتْ عَلَيْنَا ردعنا وغلبنا، وذلك غير جائز البتة. قالوا: والواو والياء إذا سكنتا وانفتح ما قبلهما لم يصيرا كالصحاح، ولكن يقربان من الصحاح بنقص المد فيهما، فإذا جاءا في قافية مجردة كان ذلك فيهما أسهل من مجيئهما إذا كانت حركة ما قبلهما من جنسهما، فالأبيات التي انشدها ببكسعي، والتي ذكرها ابن جني في المعرب وهي: الوافر نَدِمْتُ ندامةً لو أنَّ نَفْسي ... تُطَاوعُني إذا لقَتَلْتُ نَفْسي تَبَيَّنَ لي سَفَاهُ الرَّأي مني ... لعَمْرُ إبِيكَ حين كَسَرْتُ قَوْسِي معدودة في عيوب الشعر؛ ذكر ذلك ابن جني وغيره. وأما قوله: وكذلك إذا انفتحتا وسكن ما قبلهما فالقول: أنهما إذا تحركا أشبها الصحاح، وسواء في ذلك انفتحتا أو انضمتا أو انكسرتا أو سكن ما قبلهما أو تحرك. وقوله: الطويل ظَلِلْنَا إذا أنْبَى الحديدُ نُصولَنَا ... نُجَرِّدُ ذِكْراً منك أمْضَى من النَّصْلِ

قال: يقول: إذا لم تنفذ نصولنا على أسلحة الأعداء ذكرناك فنفذت عليهم بدولتك فكان ذكرك أمضى من النصل. وأقول: هذا ليس بشيء! وليس في الكلام ما يدل على أن نصولهم إذا لم تنفذ من ملاقاتها الأسلحة، تنفذ بذكره. ولكن المعنى أنا ظللنا إذا أنبي سيوفنا كرة الضرب بملاقاة الحديد، فلا تغني سيوفنا هنالك شيئا، ولا تؤذي الأعداء، ذكرناك لهم لما اشتهر من بأسك وهيبتك، فكان ذكرك أمضى من نصولنا فيهم؛ يشير إلى الخوف في قلوبهم، وذلك لا يرد بدرع وسلاح. وقوله: الطويل فَوَلَّتْ تُرِيغُ الغَيْثَ والغيْثَ خَلَّفَتْ ... وتَطْلُبُ ما قَدْ كانَ في اليَدِ بالرِّجْلِ قال: قال ابن جني: لو ظفرت بالكوفة وما قصدت له لوصلت إلى تناول الغيث باليد عن قرب. وقال العروضي فيما أملاه عليَّ: هذا تفسير من لم يخطر البيت بباله؛ لأنه ظاهر على المتدبر! إنما يقول: قد كانوا في أمن ونعمة، وشبّه ما كانوا فيه بالغيث فاستزادوا طلب الملك، وجاءوا محاربين فهزموا فلما تولوا هاربين قصدوا ما كان في أيديهم من

مواطنهم ونعمتهم يطلبون بأرجلهم، فذلك قوله: . . . . . . ... ويطلُبُ ما قد كانَ في اليَدِ بالرِّجْلِ وقال ابن فورجة: يعني قد كانت في غيث من إقطاع السلطان وإنعامه، فلما عصوا وحاربوا، ثم انهزموا وولوا هاربين تطلب حصنا ومأمناً وقد خلّفت آمنا كان حاصلا لها، وتطلب بأرجلها ما كان في أيديها؛ أي: تطلب بهربها وإغذاذها على أرجلها ما كان حاصلا في أيديها. وأقول: لم يصب أحد منهم المعنى! والغيث هاهنا هو العشب والكلأ كقوله تعالى: (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجِبِ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ) وقال امرؤ القيس: الطويل وغيثٍ كألوانِ القَنَا قد هَبَطْتُهُ ... تجاوَبَ فيه كلُّ أوْطَفَ حَنَّانِ يقول: ولت بنو كلاب منهزمين تطلب العشب الذي كانت مقيمة فيه في راحة وطمأنينة بتعب ونصب، فكنى بالأيدي عن الراحة، وبالأرجل عن التعب متجاوزين المكان الذي كانوا فيه حين أمنهم وتركهم العيث والفساد في الكوفة، وقوله: . . . . . . ... وتَطْلُبُ ما قد كانَ في اليَدِ بالرِّجْلِ تفسير لما ذكره في صدر البيت؛ أي: تطلب ما قد كان في اليد؛ أيدي الخيل في حال أمنها، بارجلها لخوفها، ولو طلبته بأيديها لوقفت عنده، ولكنها لمّا جاوزته للخوف كأنها طلبته بأرجلها؛ يقول: ما كان أمامها صار وراءها، وما كان قريبا منها صار بعيدا عنها، فكنى باليد والرجل عن القرب والبعد وعن استقبال الشيء واستدباره. وهذا

هو المعنى لم يتنبه له أحد سواي، ولا ألم به غيري! وإنما أوقعهم في التفسير الذي فسروه، ظنهم أن اليد والرجل للإنسان وليس كذلك. والذي يدل على إنه لم يكن بالغيث عن الأمن والنعمة، كما ذكر العروضي، ولا عن الإقطاع والانعام، كما ذكر ابن فورجة، ولم يرد به إلا ما ذكرته من العشب والكلأ قوله فيما بعد: الطويل تُحاذِرُ هَزْلَ المالِ وهي ذليلةٌ ... وأشْهَدُ أنَّ الذُّلَّ شَرٌّ من الهَزْلِ وقوله: الكامل بَادٍ هَواكَ صَبَرْتَ أم لم تَصْبِرا ... وبُكَاكَ إن لم يَجْرِ دمُعكَ أو جَرَى أقول: إنه أخبر في هذا البيت أن هواه باد صبر أو لم يصبر، وإن بكاه باد جرى دمعه أو لم يجر، وأخبر في البيت التالي وهو قوله: الكامل كم غَرَّ صَبْرُكَ وابْتِسَامُكَ صَاحِباً ... لمَّا رآهُ وفي الحَشَا ما لا يُرَى أن هواه خاف، لأنه لا يغر صاحبه بابتسامه وصبره وهو باد، وهذا ظاهره التناقض كما ترى. وقد سئل أبو الطيب عن هذا فقال: ليس هذا في حال واحد إنما هو في حالين، وبيانه أن قوله: الكامل كَمْ غَرَّ صَبْرُكَ وابتسامُكَ صَاحِباً ... . . . . . .

إنما كان أولا، فكان صاحبه يرى منه الصبر والابتسام، ولا يرى ما في حشاه من الهوى والغرام، ثم إنه بعد ذلك بدا وظهر. فالبيت الثالث وهو قوله: الكامل أمَرَ الفؤادُ لسَانَهُ وجفُونَهُ ... فكتَمْنَهُ وكَفَى بِجِسْمِكَ مُخْبِرا ينبغي ان يكون متعلقا بالبيت الأول مؤكدا لما فيه من ظهور الهوى، ولا يكون للثاني لأنه يناقضه بما يناقضه بما في الثاني من الإخفاء بالصبر والابتسام، ولما في الثالث من الإبداء بالنحول والسقام. وقوله: الكامل يَتَكَسَّبُ القَصَبُ الضَّعِيفُ بخَطِّهِ ... شَرَفاً على صُمِّ الرِّماح ومَفْخَرا قال: يقول: قلمه اشرف من الرماح؛ لأن كفه تباشره عند الخط فيحصل له الشرف والفخر على الرماح التي لم يباشرها. وأقول: أن بعض مفسري الديوان حمل هذا القول على أن ابن العميد كاتب وليس من أهل الحرب، فالأقلام التي يحملها، مع كونها ضعيفة، تشرف الرماح التي يحملها غيره، مع كونها قوية، فلذلك أطلق القول على صم الرماح، وذلك منه غير سديد، لأنه قد وصفه قبل هذا البيت بشدة الإقدام في الحرب، وكثرة الطعن للأبطال، وذلك لابد أن يكون بالرماح. فالذي ذكره الواحدي تخصيص للرماح، وهو الصواب؛ فجعل بعض الأقلام، وهي التي مسها، تفتخر على بعض الرماح، وهي التي لم يمسها، وإنه أتى بلفظ العموم وهو يريد الخصوص. وبهذا التفسير يسلم قول أبي الطيب من التناقض.

وقوله: الكامل ويَبِينُ فيما مَسَّ منه بنَانُهُ ... تِيهُ المُدِلِّ مَشَى لتَبَخْتَرَا قال: يقول: كل شيء يمسه ببنانه يظهر فيه الكبر حتى لو مشى الشيء لتبختر شرفا بمسه إياه. وأقول: إنه جعل الضمير في منه راجعا إلى الشيء الذي قدره ووصفه بالذي وليس ذلك بحسن وإن كان فيه مبالغة، بل الضمير راجع إلى ما قبله من القصب الضعيف وصفه بتيه المدل لمسه إياه. فلو إنه بمنزلة إنسان يمشي لتبختر كبرا وعجبا. وقوله: الكامل قَطَفَ الرِّجالُ القولَ قبلَ نباتِهِ ... وقَطَفْتَ أنت القَول لما نَوَّرَا قال: يقول: أقوال الناس كالثمر التي تقطف قبل ينعها وأدركها، وقولك كالنبات المتناهي في نبته. وقوله: قبل نباته، أي: قبل تمام نباته فحذف المضاف.

وأقول: لم يرد بالقطف هاهنا الثمر، ولكن أراد الزهر، وإنما غره ذكر القطف فظن إنه للثمر وحده، والقطف يستعمل فيهما كليهما، ولهذا قال: . . . . . . ... وقطَفْتَ أنت القولَ لما نَوَّرا وتفسيره: قبل نباته بقوله: قبل ينعه، ويريد به الثمر، خطأ، بل يريد قبل تمام نباته كما ذكر، وذلك يدل على الزهر. وقوله: الكامل وتَرَى الفَضِيلَةَ لا تَرُدُّ فَضِيلَةً ... الشَّمْسَ تُشْرِقُ والسَحَابَ كَنَهْوَرَا ذكر في هذا البيت قول ابن جني، وهو قول مرغوب عنه إعرابا ومعنى! وذكر قول ابن فورجة وتخطئته لابن جني، وهو صواب، ثم قال: والمعنى أنها ترى الفضيلة لا ترد ضدها من الفضائل على ما عهده في المتضادين، وفسر ذلك فقال: يوجدك الشمس مشرقة، والسحاب كنهورا أي: في حال واحدة يُوجدك هذا الممدوح هاذين المتضادين، إذ كانت الشمس يسترها السحاب كنهورا، فوجهه كالشمس إضاءة، ونائله كالسحاب الكنهور فيضا، وهما لا يتنافيان في وقت واحد. وأقول: لا يحتاج قوله:

... الشَّمْسَ تُشْرِقُ والسَّحابَ كَنَهْوَرا إضمار فعل كما ذكر من قوله يوجدك ولا غيره! بل ذلك نصب على البدل من الفضيلة. وأما قوله: فوجهه كالشمس إضاءة إن أراد بذلك حسن الخلق فليس بصحيح؛ لأن ذلك ليس بفضيلة له، وإن أراد حسن الخلق من بشر وطلاقة تبدو في وجهه فتلك فضيلة فيه، وبها يصح المعنى لا بسواه. وقوله: الخفيف ما لبِسْنَا فيه الأكاليلَ حتَّى ... لَبِسَتْهَا تلاعُهُ ووِهَادُهْ قال: يريد بلبس التلاع ما عليها من النبات، والوهاد ضد التلاع؛ جمع وهدة، وهي المنخفض من الارض، وجعل ما على الوهاد أكاليل ولا يحسن ذلك. والبيت مأخوذ من بيت أبي تمام: الكامل حَتَّى تعَمَّمَ صُلْعُ هَامَاتِ الرُّبَا ... من نَبْتِهِ وتَأزَّرَ الأهْضَامُ وهذا البيت سليم لأنه جعل ما على الربا بمنزلة العمامة، وما على الاهضام - جمع هضم وهو المطمئن من الأرض - بمنزلة الإزار، ووجه قول أبي الطيب إنه أراد: حتى لبستها تلاعه والتحفت بها وهاده، فيكون من باب: عَلَفْتُهَا تِبْناً وماءً بَارِدَا

وأقول: هذا التقدير لا يصح في بيت أبي الطيب، وذلك أن قوله: لبستها تلاعه راجع إلى الأكاليل فلا يجوز أن يقدر: والتحفت بها وهاده لأن الأكاليل لا يلتحف بها، وإنما الأكاليل هنا هي الأزهار المنظومة، والأكاليل استعارة فيها وكناية عنها لأنها تجعل على الرؤوس فصح أن يقال فيها: . . . . . . حَتَّى ... لَبِسَتْهَ تِلاعُهُ وَوِهَادُهْ ولا حاجة إلى إضمار فعل. وقوله: الخفيف مَثَّلُوهُ في جَفْنِهِ خَشْيَةَ الفَقْ ... دِ فَفِي مِثْلِ أَثْرِهِ إغمادُهْ قال: يقول: مثلوا هذا في غمده؛ يعني: جعلوا على مثاله وصورته، وهو انهم غشوه فضة محرقة فأشبهت تلك الآثار هذا السيف وما عليه من آثار الفرند فهو قوله: . . . . . . ... فَفِي مِثْلِ أثْرِهِ إغمادُهْ أي إنه يغمد في جفن عليه آثار كأثره. وقوله: خشية الفقد: الناس يقولون: أراد أن هذا السيف عزيز، فلعزه وخوف فقده غشوا جفنه الفضة. وقال ابن جني: صونا للجفن من الفقد لئلا يأكل جفنه. وقال ابن فورجة: يعني ما نسج من الفضة على جفنه تصويرا لما على متنه من

الفرند؛ فعل ذلك به إرادة أن لا تفقده العين بكونه في غمده؛ بل تكون كأنها ناظرة إليه، ولم يرد بقوله: خشية الفقد ذهابه وضياعه بل أراد أنه، لحسنه، لا يشتهي مالكه أن يفقد منظره بأغماده فقد مثله في جفنه. وأقول: قد أطال المشائخ الكلام في شرح هذا البيت ولم يأتوا بطائل والمعنى ما ذكرته أولا وآخرا في شرح ابن جني والكندي. وقوله: الخفيف ورَجَتْ رَاحةً بنا لا تَراها ... وبلادٌ تَسِيرُ فيها بلادُهْ قال: قال ابن جني: لما انتقلت خيله إلي، رجت أن تستريح من طول كده إياها وليست ترى ذلك من جهتي ما دمت أسير في بلاده والعمل الذي يتولاه لسعته وامتداد الناحية التي تحت يده. هذا كلامه! وليس لسعة البلد وامتداد الناحية هاهنا مهنى، إنما يقول: لا ترى هذه الخيل ما ترجوه، لانّا لا نزال نغزو معه بغزواته، ونطارد عليها معه إذا ركب إلى الصيد، وإنما نستريح إذا فارقنا خدمته، ونحن لا نفارق خدمته وبلاده. وأقول: القول ما قال ابن جني لما ذكرته في شرح الكندي.

وقوله: الخفيف هَلْ لعُذْري إلى الهُمامِ أبي الفَضْ ... لِ قبولٌ سَوادُ عَيْني مِدَادُهْ قال: قال ابن جني: أني رضيت أن يجعل المداد، الذي يكتب به، قبول عذري، سواد عيني حبا له وتقربا منه. هذا كلامه! وليس على ما قال؛ لأن المراد قبول العذر لا أن يكتب الممدوح. والمعنى إنه يقول: هل يقبل عذري؟ أو: هل عنده قبول لعذري؟ ثم قال: . . . . . . ... . . . . . . سواد عَيْني مِدَادُهْ على طريق الدعاء، كأنه قال: جعل الله مداده سواد عيني؛ يعني إنه إن استمد من سواد عيني لم أبخل عليه. وإنما قال هذا لأنه كاتب حاسب يحتاج إلى المداد. والكناية في مداده يعود إلى أبي الفضل، وعلى ما قال ابن جني يعود إلى العذر وليس بشيء. وأقول: الوجه الذي ذكره ابن جني أحسن في المعنى واقرب إلى الصواب، وقد تصحف على الشيخ الواحدي يكتب؛ فعل ما لم يسم فاعله ب: يكتب فجعله للممدوح وقال: المراد قبول العذر لا أن يكتب الممدوح، ولم يرد ابن جني ذلك وإنما قال: يقول: رضيت أن يجعل المداد الذي يكتب به قبول عذري سواد عيني؛ يعني إذا كتبت اعتذر إليه من تقصيري في مدحه، وعجزي عن إحاطة وصفه. وهذا المعنى على هذا الوجه هو الحسن، والذي ذكره من قوله: . . . . . . ... . . . . . . سواد عَيْني مِدَادُهْ أنه دعاء، ليس بحسن؛ لأنه منفصل عن الأول غير متعلق به فلا يحسن أن يكون من تمامه.

وقوله: الخفيف ما سَمِعْنَا بمن أحبَّ العَطايَا ... فاشْتَهَى أنْ يكونَ فيها فؤادُهْ قال: يقول: لم نسمع قبله بجواد يحب الإعطاء ويتمنى أن يكون قلبه من جملة ما يعطي؛ يعني أن ما أفاده من العلم هو نتيجة عقله وقلبه وبنات فكره، فعبّر عن العلم بالفؤاد لأن محله الفؤاد كما قال تعالى ذكره: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ) أي: عقل، فسمى العقل قلبا، ولم يعرف ابن جني هذا فقال: الكلام الحسن الذي عنده إذا أفاد إنسانا فقد وهب له عقلا ولبا وفؤادا وهذا إنما يحسن لو قال: فاشتهى أن يكون فيها فؤاد؛ منكر، وأما إذا أضافه إلى الممدوح فليس يجوز. وأقول له: لم يعرف ابن جني المعنى ولا أنت!! ولا يجوز قولك ولا قوله لما ذكرته في شرح التبريزي والكندي!! وقوله في وصف كتاب ابن العميد: المتقارب فأخْرَقَ رِائَيهُ ما رَأى ... وأبْرَقَ ناقِدَهُ ما انْتَقَدْ إذا سَمِعَ الناسُ ألفاظهُ ... خَلَقْنَ له في القُلوبِ الحَسَدْ فقلتُ وقد فَرَسَ النَّاطِقينَ ... كذا يَفْعَلُ الأسَدُ ابن الأسَدْ

قال: لو خرس المتنبي فلم يصف كتاب أبي الفتح بن العميد بما وصف لكان خيرا له! وكأنه لم يسمع وصف كلام قط! وأي موضع للاخراق والبراق والفرس في وصف الألفاظ والكتب! وهلا احتذى على مثال البحتري في قوله يصف كلام ابن الزيات: الخفيف وكلامٌ كأنَّهُ الزَّهَرُ الضَّا ... حكُ في رَوْنقِ الرَّبيع الجَديدِ ومَعَانٍ لو فَصَّلَتْهَا القَوافي ... هَجَّنَتْ شِعْرَ جَرْوَلٍ وَلَبيدِ حُزْنَ مستعْمَلَ الكلامِ اختيارا ... وتَجَنَّبْنَ ظُلْمَةَ التَّعْقيدِ أو هلا ربع على ظلعه ولم يكن معورا تبدو مقاتله!! فيقال له: لم يكن أبو الطيب ممن يقال له: ربع على ظلعه وهو احذق الناس بأصل الشعر وفرعه، وهو المسلم إليه قصب السبق على تأخر العصر! وأما قوله: لو خرس فلم يصف كتاب ابن العميد. . . . . . فيقال له: لم يكن ليخرس وهو القائل: الكامل مَا نَالَ أهلُ الجَاهِلَّيةِ كُلُّهم ... شِعْري ولا سمِعَتْ بِسحْرِيَ بَابلُ والبيت الذي بعده. وإن كان وقع منه تقصير في هذه الأبيات؛ فلأنه لم يحتفل بها، ولم يتكلف لها بل قالها بديها.

وأما قوله: وأي موضع للاخراق والإبراق والفرس في صفة الألفاظ. فيقال له: هذه استعارة لم يسبق إليها، فلا يحتاج أن يقتدي بأحد فيها. وأما قوله: هلا احتذى على مثال البحتري في الأبيات التي ذكرها. فيقال له: لم يكن أبو الطيب ليحتذي به فيما هو اقل منها؛ ألا ترى إلى ما يحكى عنه من انه لما نظم قوله: الوافر إذا اعوَجَّ القَنَا في حَامِليهِ ... وجازَ إلى ضُلوعِهِمُ الضُّلُوعَا قال: كنت قلت: . . . . ... وأشْبَهَ في ضُلوعِهمُ الضُّلُوعَا ثم أنشدت بيتا لبعض المولدين يشلهه فرغبت عنه؛ يعني قول البحتري: الكامل في مَأزَقٍ ضَنْكٍ تُخَالُ به القَنَا ... بينَ الضُّلُوع إذا انْحَنَيْنَ ضُلُوعَا ولعمري ما أبيات البحتري بتلك الأبيات الغريبة المعاني المحكمة الألفاظ، وما المستحسن منها غير سهولتها وترك التكلف فيها. ولا أعلم لم خصها بالذكر دون غيرها مع أن لأبي تمام أشهر وأسير من أبيات البحتري وأشد أسرا وأتم معنى، وصف بها كتابا جاءه من الحسن بن وهب وهي: الوافر فَضَضْتُ خِتَامَهُ فَتَبَلَّجَتْ لي ... غَرائِبُهُ عن الخَبَرِ الجَلِيِّ وكان أغَضَّ في عَيْني وأنْدىَ ... على كَبدِي من الزَّهَرِ الجَنيِّ

وأحسن مَوْقِعاً منِّي وعندي ... من البُشْرَى أتَتْ بعدَ النَّعِيِّ وضُمِّنَ صَدْرُهُ ما لم تُضَمَّنْ ... صُدورُ الغَانياتِ من الحُلِيِّ وكأن الواحدي استضعف هذه الأبيات التي في أبي الفتح فقال فيها ما قال فهلاَّ تعرض لقوله في أبيه يصف بلاغته: الكامل أنت الوحيدُ إذا ارتكبْتَ طَرِيقةً ... فمن الرَّديفُ وقد رَكِبْتَ غَضنَفْرا قطَفَ الرجالُ القولَ قَبْلَ نباتِهِ ... وقطَفْتَ أنت القولَ لمَّا نَوَّرا فهو المُتَبَّعُ بالمسَامعِ إن مَضَى ... وهو المُضَاعَفُ حُسْنُهُ إنْ كُرِّرا وقوله: الطويل وليسَ حَيَاءُ الوَجْهِ في الذِّئبِ شيمةً ... ولكنَّهُ من شيمةِ الأسَدِ الوَرْدِ قال: المعنى أن حياءهم ليس بمزر بهم كما إنه لا يعيب الأسد حياؤه. وأقول: الجيد أن لو قال: حياؤهم فضيلة فيهم وفخر لهم، كما إنه في الأسد كذلك. وذكره الورد صفة للأسد زيادة يتم الكلام من دونها، لأن جميع الأسد توصف بالحياء؛ الورد منها وغير الورد، وإنما ذكرها للقافية.

وقوله: الطويل إذا ما اسْتَجَبْنَ الماء يَعْرِضُ نفسَهُ ... كَرِعْنَ بِسِبْتٍ في إناءٍ من الوَرْدِ قال: قال أبو الفضل العروضي: ما أصنع برجل ادعى إنه قرا على المتنبي ثم يروي هذه الرواية؛ يعني: استحين؛ بالحاء، ويفسر هذا التفسير! وقد صحت روايتنا عن جماعة منهم: محمد بن العباس الخوارزمي، وأبو محمد بن أبي القاسم الحرضي، وأبو الحسن الرخجي، وأبو بكر الشعراني، وعدة يطول ذكرهم رووا: إذا ما اسْتَجَبْنَ الماَء يَعْرِضُ نَفْسَهُ ... كَرِعْنَ بِشَيْبٍ. . . . . . وأقول: أن ابن جني لم يقرأ على أبي الطيب مديح ابن العميد ومديح عضد الدولة؛ لأنه لم يكن معه في حال توجهه إليهما، ولم يجتمع به بعد رحيله عنهما، وذلك إنه رجع من شيراز يريد الكوفة فقتل في الطريق فلا يؤخذ عليه ذلك من جانب الرواية، مع أن التصحيف لا يحسن بمثله لعلو قدره واشتهار فضله، وهؤلاء الجماعة الذين روى عنهم العروضي، استجبن وبشيب ينبغي أن يكونوا بارجان أو بشيراز وقد قرؤوا وسمعوا الديوان على أبي الطيب. وقد ذكرت ما ذكره من المآخذ في هذا البيت والجواب عنها في شرح ابن جني.

وقوله: الطويل هَلِ الخيرُ شَيءٌ لَيْسَ بالخَيْرِ غَائِبٌ ... هَلِ الرُّشْدُ شَيءٌ غائبٌ ليس بالرُّشْدِ؟ قال: يقول: لا ينبغي ان يعتقد في الخير والرشد الحاضرين انهما ليسا بخير ولا رشد، كذلك لا ينبغي أن يقال: ليس ابن العميد المهدي، والمهدي غيره وهذا استفهام معناه الإنكار. وقال ابن جني: أيحسن أن يترك الخير والرشد الحاضران وأن يقال: هما الرشد والخير ويدعي أن هنا رشدا وخيرا غائبين هما في الحقيقة الخير والرشد، أي اعتقاد هذا فاسد فلذلك ينبغي أن يكون من ترك أن يقول: إن ابن العميد هو المهدي في الحقيقة، وادعى أن المهدي غائب متوقع فاسد الاعتقاد. فيقال له: بل الفاسد الاعتقاد، من يرى أن المهدي من غير ولد النبي وقد قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: المهدي من فاطمة وذلك مروي عنه من طرق معروفة في أحاديث مشهورة. ولكن لا ينكر للمتنبي أن يدعي في ابن العميد إنه المهدي، ولو علم إنه يزيده في العطاء بزيادته على ذلك لقال إنه نبي بل قال إنه إله، وتهوره في هذا المديح، يدل على تهوره في الضلال ووقوعه في الوبال!!

وقوله: الطويل وكلُّ شَرِيكٍ في السُّرورِ بمَصْبَحي ... أرَى بَعْدَهُ من لا يَرَى مِثْلَهُ بَعْدي قال: يقول: كلمن شاركني في السرور بمصبحي عنده إذا عدت إليه من أهلي وغيرهم ورأى ما أوتيته أرى بعده منك يا ابن العميد إنسانا لا يرى هو مثله بعد مفارقتي إياه لأنه لا نظير لك في الدنيا. وأقول: هذا قول ابن جني، وليس بشيء! والمعنى قد بينته في شرحه. وقوله: المنسرح أوْهِ بَديلٌ من قَوْلتي وَاهَا ... لِمَنْ نَأتْ والبديلُ ذِكْراهَا أقول: إن هذا من الابتداءات البشعة، والافتتاحات المظلمة التي يتطير منها ويرغب عنها وهل يحسن بشاعر في أول قدومه على ملك ولقائه له، أن يبتدئ ناطقا

بأوه مكررا لها ثلاث مرات؟! أفأمن أن يقال له: علة تقطع أمعاءك وأعضاءك؟! وما أعلم هل وقع هذا منه لتغفل، أو لسوء أدب وجفاء طبع؟! ومثل ذلك ابتداؤه في مديح كافور أول وفوده عليه ووصوله إليه بقوله: الطويل كَفَى بك داءً أنْ تَرَى الموت شَافِيَاً ... وحَسْبُ المنايا أنْ يَكُنَّ أمَانِيَا وهذا إذا قيل مع كافور، وهو جاهل بالشعر وبما يقال فيه، فهل يقال ذلك في عضد الدولة وهو من الحذاق في العربية والنقاد للشعر؟ ولكنه أراد أن يتعرب ويتغرب بلفظ أوه وواها فتبرص وتبغض! وقوله: المنسرح شَامِيَّةٌ طالَماَ خَلَوْتُ بها ... تُبْصِرُ في ناظِري مُحَيَّاها قال: هذا يحتمل وجهين: أحدهما: إنه يريد فرط قربها منه حتى إنها منه بحيث ترى وجهها في ناظره، وهذه عبارة عن غاية القرب. والآخر: إنه أراد حبها إياه فهي تنظر إلى وجهه وتدنو منه لحبه، حتى ترى وجهها في ناظره

وأقول: الوجه الثاني وجه قبيح، وذلك إنه قال فيما يليه: المنسرح فَقَبَّلَتْ نَاظِري تُغًالطني ... وإنما قَبَّلَتْ به فَاهَا فكيف تقرب منه لحبها اياه، وهي تغالطه وتخادعه بما تظهر له من تقبيل ناظره غير الذي تخفيه من تقبيل فيها، وهذا لأن يدل على البغضاء أولى من أن يدل على المحبة، ومع ذلك فإن هذه من الألفاظ الغثة، والمعاني الباردة. وقوله: المنسرح في بَلدٍ تُضْرَبُ الحِجَالُ به ... على حِسَانٍ ولَسْنَ أشْبَاهَا قال: يقول: هي في بلد، الحسان المحبوسات في الحجال كثيرة بذلك البلد، ولسن أشباها لهذه؛ لأنها تفضلهن في الحسن والجمال. ويحوز أن يكون المعنى: إن كل واحدة منهن منفردة من الحسن بما لا يشاركها فيه غيرها، فلا يشبه بعضها بعضا. وأقول: الوجه الحسن في هذا، قد ذكرته في شرح المعري. وقوله: المنسرح لا تجدُ الخَمْرُ في مَكارِمِهِ ... إذا انْتَشَى خَلَّةً تلافَاهَا

قال: يقول: هو قبل الشرب متكرم بالبذل والعطاء، فلا يزيد تكرمه شرب الخمر، وليست في مكارمه حلة تتلافاها. وأول هذا المعنى لعنترة: الكامل وإذا صَحَوْتُ فما أقَصِّرُ عن نَدىً ... وكما عَلِمْتِ شمائلي وتَكَرُّمي فيقال له: بل أول هذا المعنى لامرئ القيس: الطويل وتعرِفُ فيه من أبيهِ شَمائلاً ... ومن خالِهِ ومن يَزِيدَ ومن حُجُرْ سماحَةَ ذَا وبِرَّ ذَا ووَفَاَء ذَا ... ونائِلَ ذَا إذا صَحَا وإذا سَكِرْ وقوله: المنسرح وصَارتِ الفَيْلقَانِ واحدةً ... تَعْثُرُ أحْيَاؤهَا بمَوْتَاها قال: قال ابن جني: أي: شن الغارة في جميع الارض، فخلط الجيش بالجيش، حتى يصير اختلاطهما كالشيء الواحد. وقال ابن فورجة: ليس أبو الطيب في ذكر الغارة وشنها، وإنما يقول قبله

بيتين: في قلبه همم إحداها أعظم من فؤاد الزمان، فهو لا يبديها لأنه لا يجد زمانا يسعها، فإن قضي لها وجاء حظها وبختها بأزمنة أوسع من هذا الزمان، حينئذ أظهر تلك الهمم، واجتمع أهل هذا الزمان وأهل تلك الأزمنة، وصارا شيئا واحدا، وضاقت الأرض بهم حتى يعثر حيها بميتها للزحمة وكثرة الناس، ومثل هذا في الزحمة قوله أيضا: الطويل سُبِقْنَا إلى الدُّنيا فلو عاشَ أهْلُهَا ... مُنِعْنَا بها من جيئةٍ وذُهوبِ وأنث الفيلق على إرادة الكتيبة والجماعة. وأقول: القول قول ابن جني. وقول ابن فورجة قول الذي يتخبطه الشيطان من المس!! وهل يلبس على أحد قوله: المنسرح وصارتِ الفَيْلَقَانِ واحدةٍ ... تَعْثُرُ أحياؤهَا بموتَاهَا إنه يريد اختلاط الجيشين في الحرب وكثرة القتال والقتل. وأما تفسير البيتين اللذين قبل هذا فانه يقول: تجمعت في فؤاد عضد الدولة همم لا يسعها فؤاد الزمان لعظمها؛ بل إحداها ملؤه! كأنه يقول: هذا الزمان يصغر عن هممه بأن يملكه بالقتال؛ أي: كل من فيه من الملوك ليسوا بأكفاء له، ولا بأهل أن

يقصد حربهم لحقارتهم بالإضافة إلى عظمته! فإن اتفق لهممه أن تتضاعف الأزمنة وتكثر، فحينئذ يقصد تملكها وقتال ملوكها، ويقدم إقداما في الحرب إلى أن يخلط الجيش بالجيش، ويكثر القتل إلى أن يعثر الحي بالميت. وإيراد الواحدي كلام ابن فورجة ووقوفه عليه وسكوته عنه، يدل على الرضا به فهو مشارك له في الخطأ، وزائد عليه في إيراده بالتعب! وقوله: المنسرح ودارَتِ النَّيِّراتُ في فَلَكٍ ... تَسْجُدُ أقمارُهُ لأبْهَاهَا قال: لم يأت ابن جني ولا ابن فورجة في هذا البيت بشيء يفهم ويتحصل! والمعنى: يريد بالنيرات، والأقمار ملوك الدنيا إذا عادوا واجتمعوا في زمان واحد كما ذكرنا فيما قبل. وأراد بأبهاها عضد الدولة. ومعنى سجود الأقمار: خضوع الملوك، فحينئذ يبدي هممه. وأقول: هذا البيت مرتب على ما ذكره عن ابن فورجة في تفسير البيت الذي قبله وهو خطأ نتيجة مقدمة خطأ، والصحيح ما ذكرته في شرح المعري. وقوله: الوافر ولكنَّ الفَتَى العربيَّ فيها ... غَريبُ الوَجْهِ واليَدِ واللِّسَانِ

ذكر في قوله غريب الوجه وجهين: أحدهما: إنه لا يعرف. والثاني: إنه اسمر اللون؛ لأنه عربي، وغالب ألوان العرب السمرة. وأهل الشعب شقر الوجوه. وذكر في غربة اليد أيضا وجهين: أحدهما: أن سلاحه الرمح، وأسلحة ذلك المكان الزانات والمزاريق، وهذا قول ابن جني وليس بشيء! والوجه الآخر، وهو الصحيح، أن كتابته العربية وكتابتهم الفارسية. وهذا الوجه كنت كتبته، وظننت أني لم اسبق اليه، وما كنت - شهد الله - رأيته لأحد قبل ذلك، فاتفقت مواردي له فيه، وذلك إنه المعنى الذي أراده الشاعر فالذهن الصحيح لا يميل عنه! وقوله: الوافر غَدَوْنَا تَنْفُضُ الأغصانُ فيها ... على أعْرافِهَا مِثْلَ الجُمَانِ

قال: الجمان خرز من فضة يشبه اللآلئ؛ يريد إنه إذا سار في شجر هذا المكان وقع من خلل الأغصان على أعراف خيله مثل الجمان من ضوء الشمس، فكأن الأغصان تنفضه على أعرافها. وأقول: لم يرد ما ذكره من تشبيه ضوء الشمس الساقط من خلل الأشجار بالجمان، وإنما أراد قطر الندى الذي تنفضه الأغصان بتحركها؛ شبهه للونه وصفائه، بالجمان، ولهذا قال: غدونا لأن الندى يكون بالغداة. وقوله: الوافر ولو كانَتْ دِمَشْقَ ثَنى عِنَاني ... لَبِيقُ الثُّرِدْ صِينِيُّ الجِفَانِ قال: يقول: لو كانت هذه المغاني الطيبة دمشق لثنى عناني إليه رجل ثريده ملبق وجفانه صينية؛ يعني: لأضافني هناك رجل ذو مروءة يحسن إلى الضيفان؛ لأنها من بلاد العرب، وشعب بوان من بلاد العجم. وحمل ابن جني قوله: لبيق الثرد على الممدوح. وليس الأمر على ما قال، فإن البيت ليس بمخلص، ولم يذكر الممدوح بعد. والمعنى إنه يبين فضل دمشق وأهلها وإحسانهم إلى الضيفان. فيقال له: الصحيح ما قال ابن جني في أن المراد بذلك عضد الدولة الممدوح. والذي قلته من إنه لغيره، وان البيت ليس بمخلص، والممدوح لم يذكر بعد، قول من ليس له اطلاع على طرائق أشعار العرب وغيرهم من فحول الشعراء، فمن ذلك قول زياد بن منقذ: البسيط لا حَبَّذَا أنت يا صَنْعَاءُ من بَلَدٍ ... ولا شَعوبُ هوىً منِّي ولا نُقُمُ

فابتدأ بذم صنعاء وبلادها، وبقاعها التي تحل بها عنس وقدم، ودعا عليها بسقيا النار إذا سقيت غيرها الأمطار، ثم خرج من ذلك إلى مدح وادي اشي ومن حاده من الجيران، ووصفهم بالكرم والإحسان في أبيات، ثم أخذ في الغزل فذكر منه شيئا، ثم عاد إلى ذكرهم والثناء على مواضعهم وديارهم، وأيامه التي تقضت له فيها، وتشوقه إليها وتأسفه عليها. وإذا تفقدت أشعار العرب وجد فيها مثل ذلك كثير. وإذا صح أن المراد بذلك الممدوح، كان البيتان اللذان بعد هذا البيت من صفاته أيضا، وبطلت المآخذ الفاسدة، والروايات الكاذبة، والاختلاف في القلبين اللذين في البيت الثالث هل هما للضيف أو للمضيف؛ اعني قوله: الوافر تَحُلُّ به على قَلْبٍ شُجَاعٍ ... وتَرْحَلُ منه عن قَلْبٍ جبان وقوله: الوافر منازلُ لم يَزَلْ منها خَيَالٌ ... يُشَيَّعُني إلى النَّوْبَنْدِجَانِ قال: نوبندجان: بلد بفارس؛ يريد إنه يرى دمشق في النوم وهو بفارس، فخيال منازل دمشق يتبعه. والمعنى إنه يحبها، ويكثر ودها، ويحلم بها. ويجوز أن يريد خيال حبيب له بدمشق ونواحيها يأتيه في منامه.

وأقول: لم يرد دمشق، ولا خيال حبيب فيها، وإنما يريد الواضع التي استحسنها ومغاني الشعب، ووصفها قبل، فعاد إلى ذكرها فقال: منازل لطيبها وحسنها لم يزل منها خيال يشيعني إلى مكان مثلها في الطيب والحسن أو أحسن منها وهو النوبندجان فإنه أنسانيها لزيادته في الطيب عليها. وقوله: الوافر رُقَاهُ كلُّ أبْيَضَ مَشْرَفِيٍّ ... لكلِّ أصَمَّ صِلٍّ أُفْعُوَانِ قال: جعل اللصوص كالافاعي، وجعل سيوفه رقى لتلك الأفاعي فكما أن الحية تدفع بالرقية، كذلك هو يدفع اللصوص بسيوفه. فيقال له: هذا الموضع أغمض من أن تدركه وأعز من أن تملكه! ولم يرد باللصوص الأفاعي أيها الشيخ الواحدي، لما ذكرته في شرح الكندي! وقد فسر قوله: الوافر حَمَى أطرافَ فَارِسَ شَمَّرِيٌّ ... يَحُضُّ على التَّبَاقي بالتَّفَاني بشيء من هذا حاكيا قول العروضي: إنه حمى فارس من الخراب واللصوص رادا على ابن جني قوله: إن المعنى: يقول لأصحابه: افنوا أنفسكم ليبقى ذكركم. وهو القول الحق، وقول العروضي هو الباطل! لأن ذكر اللصوص انقطع من لدن قوله:

فباتَتْ فوقَهُنَّ بلا صِحَابٍ ... . . . . . . وأخذ بعد ذلك في ذكر ما هو أعظم منهم متنقلا بذكر الحرب عنهم. وقوله: الوافر فلو طُرِحَتْ قلوبُ العِشْقِ فيها ... لما خافَتْ من الحَدَ قِ الحِسَانِ قال: أراد قلوب أهل العشق. والمعنى: إن الأمن قد عم بلاد فارس حتى لو كانت قلوب العشاق فيها، لما خافت سهام أحداق الحسان. وأقول: المعنى ما ذكره، إلا أن زيادة تخفى على مثله! وهي إن الأشياء المخوف عليها، التي لا تحمى بالبأس من جميع الناس، لو حلت في بلاده لأمنت وحميت وهي قلوب العشاق المرمية بسهام الأحداق. وفي هذا البيت زيادة على قوله: الكامل حَدَقٌ يُذِمُّ من القَواتِلِ غيرها ... بَدْرُ بنُ عَمَّارِ بن إسْمَاعِيلا وذلك إنه جعل بدر بن عمار لا يحمي من الحدق، وجعل عضد الدولة يحمي منها. وقوله: الوافر وأكثرَ في مَجَالسِهِ حَديثاً ... فُلانٌ دَقَّ رُمْحاً في فُلانِ

قال: لم أر ولدين أكثر منهما استماعا في مجالس الأدب دق رمحا فلان في فلان؛ يعني: لا يجري في مجلس أبيهما غير ذكر المطاعنة فهما لا يسمعان غير ذلك. وأقول: إنه قد نقص البيت بنقص العبارة، وذلك أن أبا الطيب إنما قال: أكثر استماع ولم يقل: لا يجري في مجلس أبيهما غير ذكر المطاعنة فهما لا يسمعان غير ذلك فينفي أن يجري في مجلسه ذكر العلم والجود، وهما اشرف من البأس! وإنما يقول: إن هذا ملك صاحب جد وقتال لا لهو ولعب فاكثر ما يجري في مجلسه ذكر الطعان، وقد يجري فيه غير ذلك من الفضائل. وقوله: المنسرح ناثِرُهُ ناثِرُ السُّيُوفِ دَماً ... وكلِّ قَوْلٍ يقولُهُ حِكَمَا قال: يقول: الذي نثر هذا الورد ينثر السيوف؛ أي يفرقها وهي دم؛ أي: متلطخة فكأنها دم. وأقول: الجيد البالغ، أن يقال: إنه ينثر السيوف بضرب يده؛ أي: يقطّعها به ولا يفرّقها

بأيدي غيره، ويدل على قولي، قوله بعده: المنسرح فَلْيُرِنَا الوَرْدُ إن شكا يَدَهُ ... أحسن منه من جُودها سَلِما والبيت الذي بعده1. وقوله: المنسرح والخيلُ قد فَصَّلَ الضِّياعَ بها ... والنِّعَمَ السَّبِغَاتِ والنِّقَمَا قال: يقال: فصل العقد إذا نظم فيه أنواع الخرز فجعل كل نوع من نوع ثم فصّل بين الأنواع بذهب أو بشيء آخر. هذا هو الأصل في تفصيل العقود، ثم يسمى نظم العقد تفصيلا فيقال: عقد مفصل إذا كان منظوما، ومنه قول امرئ القيس: الطويل . . . . . . ... . . . . . . أثناءِ الوشَاحِ المُفَصَّلِ والمعنى إنه جمع هذه الأشياء بالخيل؛ أي: تمكن من جمعها بالخيل، وجعل جمعها تفصيلا؛ لأنها أنواع فجعل ذلك كتفصيل العقد. والمعنى إنه ينثر الخيل؛ أي: يفرقها في الغارة، ثم ذكر إنه جمع بها هذه الأشياء التي ذكرها من النعم لأوليائه، والنقم لأعدائه. وأقول: إن الواحدي قد خبّط وخلّط في مواضع من هذا التفسير ولا كتخبطه

وتخليطه هاهنا!! وسأذكر لك المعنى حتى يتبين فساد ما ذكره جملة، فلا احتاج إلى تتبع ألفاظه مفرقة، وهو إنه لمّا ذكر في البيت الذي قبله ان ناثر الورد ناثر السيوف دما، فذكر حماسته، عطف عليه بهذا البيت ما فيه ذكر سماحته فقال: والخيل؛ أي: وناثر الخيل بمعنى مفرقها بالعطاء قد فصّل الضياع؛ أي: جعل الضياع في مواهبه منظومة كالعقد مفصلا بالخيل؛ لأن الذي يفصل به العقد من الدر مثل الذهب وغيره يكون دون الدر فكذلك الخيل المفصل بها الضياع، وكذلك قوله: . . . . . . ... والنَّعَمَ السَّابغاتِ والنَّقَمَا أي: فصّل النعم لأوليائه بالنقم على أعدائه. وقوله: المنسرح وقُلْ له لسْتَ خَيْرَ ما نَثَرَتْ ... وإنما عَوَّذَتْ بكَ الكَرَمَا قال: قل للورد: لست خير ما نثرت يده، وإنما جعلتك عوذة للكرم. فيقال له: لم تزد بالنثر على ما ذكره في النظم! والمعنى أن كرمه بنفيس مواهبه وجزيل عطاياه ظاهر، فأراد أن يبقى ولا يزول؛ فنثر الورد على أصحابه وجلسائه، وهو حقير خسيس بالإضافة إليها، فكان ذلك له بمنزلة العوذة من عظام الذئب والضبع وكعاب الأرانب التي كانت العرب تعلقها عليها عند الاوباء ليتعذر بها الموت كقول امرئ القيس: المتقارب

أيا هندُ لا تنكحي بُوهَةً ... عليهِ عَقِيقَتُهُ أحْسَبَا مُرَسَّعَةٌ بين أرساغِهِ ... به عَسَمٌ يَبْتَغي أرْنَبا ليَجْعَلَ في كَفِّهِ كَعْبَهَا ... حِذَارِ المَنِيَّةِ أنْ يَعْطَبا وقوله: الكامل يُشْتَاقُ من يَدِهِ إلى سَبَلٍ ... شَوْقاً إليه يَنْبُتُ الأسَلُ قال: السبل المطر؛ يريد به العطاء هاهنا. يقول: الناس يشتاقون إلى عطاء يده، والرماح تنبت شوقا إلى أن تباشر يده؛ أي: ليطعن بها ويستعملها في الحرب، وتقدير اللفظ: ينبت الأسل شوقا إليه؛ أي: إلى الممدوح. وأقول: إن جعل الضمير في إليه راجعا إلى الممدوح، غير صحيح، بل هو راجع إلى سبل لأن تقدير الكلام: يشتاق الناس من يده إلى سبل تنبت الرماح شوقا إليه، فجعل السبل يشتاق إلى ما يشتاق إليه الناس في يده من السبل، فما بعد سبل صفة له، فلا بد فيه من ضمير يرجع إليه.

وقوله: السريع لو دَرَتِ بما عنَدَهُ ... لاسْتَحْيَتِ الأيامُ من عَتْبِهِ أي: لو كانت الدنيا عالمة بما عنده من الفضل والنفاسة لأخذها الحياء من عتبه عليها، ولكفت من أذاها. وأقول: هذا قول الجماعة وليس بشيء! والمعنى ما ذكرته أولا وآخرا. وقوله: السريع أستغفِرُ اللَّهَ لِشَخْصٍ مَضَى ... كان نَدَاهُ مُنْتَهى ذَنْبِهِ قال: يقول: كان غاية ذنبه إسرافه في العطاء، والإسراف اقتراف، وورد النهي في النص عن الإسراف فلهذا استغفر له. وأقول: ليس في اللفظ ما يدل على الإسراف، وإنما اخرج الكلام على معنى قوله: الطويل ولا عَيْبَ فيهم غيرَ أن سيوفَهُمْ ... بهنَّ فلولٌ من قِراعِ الكتَائبِ وسؤال المغفرة له لا يدل علة وقوع ذنب منه، بل ذلك دعاء له كدعاء الأنبياء لأنفسهم، والاعتراف منهم بالاقتراف على وجه الخضوع لله والتذلل له والانقطاع اليه،

ومع ذلك فذكر الذنب لامرأة بوصف نداها والاستغفار لها قبيح، وان حُمل على أحسن محمل وتؤول على أجمل متأول. وقد كان أبو الطيب دخيلا في عشرة الملوك، حديث الصحبة لهم والاتصال لهم، فجفا لذلك في مدحهم طبعه، وجف زرعه، وهو مع ذلك شاعر عصره وواحد دهره. وقوله: المنسرح عُدْ وأعِدْهَا فَحَبَّذَا تَلَفٌ ... ألْصَقَ ثَدْيي بِثَدْيِهَا النَّاهِدْ قال: يقول للخيال: عد واعد الغشية التي لحقتني، وان كان فيها تلفي فحبذا تلف كان سببا لقربك ومعانقتك، وكان من حقه أن يقول للغشية: عودي وأعيدي الخيال لأن الغشية كانت سبب زيارة الخيال، لا الخيال سبب لحاق الغشية، ولكنه قلب الكلام في غير موضع القلب. وأقول: لم يقلب الكلام، ولكنه لمّا رأى طيف الحبيب في تلك الغشية توهم إنها بسببه، وإنه قادر عليها لمّا رآه فيها، فقال: عد وأعدها، وإن كانت من مقدمات الموت، فإن وصال طيف الحبيب محبوب إلي ولو بالموت، ومؤثر لدي على الحياة. وقوله: المنسرح حَكَيْتَ يا لَيْلُ فرعها الوَارِدْ ... فاحْكِ نَواهَا لِجَفْنِيَ السَّاهِدْ

قال: الوارد: الشعر الطويل المسترسل؛ يقول لليل: أشبهت شعرها في السواد فأشبه بعدها عني؛ أي: أبعد مني بعدها. وأقول: لم يرد بقوله: شعرها الوارد السواد وحده بل السواد والطول، وذلك إنه استطال الليل فقال: يا ليل أشبهت شعرها في السواد والطول، فأشبه نواها في البعد؛ أي: أبعد عني، بعدها عني. وقوله: المنسرح إذا المَنَايا بَدَتْ فَدَعْوَتُها ... أُبْدِلَ نُوناً بدالِهِ الحائدْ قال: أخبر عن المنايا، وهو يريد أهلها؛ لأن المنايا لا تقول شيئا. والمعنى أن أهل الحرب؛ يعني جيش عضد الدولة، يقولون عند الحرب: جعل الله الحائد منا حائنا؛ أي: من حاد منا صار هالكا. وقال ابن جني: أي يصير الحائد، وهو الذي يهرب من الشيء، حائنا وهو الهالك. يقول: إذا جاءت المنية، صار بعدك عن الموت سببا للوقوع فيه، ولم يكن لك بد من لقائه. فضعف أولا رأي وهسوذان ثم رجع كأنه يعذره، إنه إذا أتت المنية لم يكن منها بد، ولم يتجه لأحد دفعها. وقوله: فدعوتها أي: هذا قولها؛ استعار ذلك ولا قول لها.

وأقول: الصحيح؛ إنه أراد أن المنايا في الحرب إذا بدت واشتد الامر، فليس ينجي الفار فراره، ولا ينجي هنالك إلا صبر الصابر وقتاله والحائد خائن وهذا مثل قوله: الطويل وأورِدُ نَفْسي والمُهَنَّدُ في يَدي ... مَوَارِدَ لا يُصْدِرْنَ من لا يُجَاِلدُ وقد ذكرت هنالك إنه من قول المهلب4. وقوله: المنسرح ليتَ ثَنَائي الذي أصُوغُ فِدَى ... من صِيغَ فيه فإنه خَالِدْ لويتُهُ دُمْلُجاً على عَضُد ... لدولةٍ رُكْنُهَا له وَالدْ وأقول: ينبغي أن يقال له على هذا النظم: المنسرح عَريتَ من حُلَّةِ حتَّى ... جئتَ في القَوْلِ هاهُنا بارِدْ! ولاشك أن أبا الطيب استفرغ قوة ألفاظه وجودة معانيه، في مديح سيف الدولة فلم يبق لعضد الدولة غير الغث الغثاء والجف الجفاء! وقوله: الرجز

لو جَذَبَ الزَّرَّادُ من أذْيالي مُخَيِّراً لي صَنْعَتَيْ سِرْبَالِ ما سُمْتُهُ سَرْدَ سوى سِرْوَال قال: يقول: إذا اخبرني الزراد، فكنى بجذب الذيل عن الأخبار، لأنه ربما يجذب ثوب الإنسان إذا أريد إخباره بشيء. يخيرني بين صنعتي سربال - أي: درع من السابغة والبدن - لم اختر إحداهما. وإنما اختار السروال؛ يشير إلى أن سيفه درعه وهو يحمي به بدنه، وإنما حاجته أن يحصن عورته، وهذه طريقة المتنبي يترفع عن معاشرة النساء كبرا وتعففا. وأقول: أن تفسيره الجذب بالإخبار، وما ذكره من إنه ربما جذب ثوب الإنسان، إذا أريد إخباره بشيء، ليس بشيء! وهذا الذي ذكره من مفهوم العوام وفعل الجهال، وإنما يريد بجذب الزراد أذيال ثوبه عليه عند تقدير الطول والقصر في سرد السربال؛ يعني الدرع، يقول: لو جذب الزراد من ذيل ثوبي عليَّ مقدرا لي صنعتي سربال طويلة أو قصيرة لم اخترهما، ولا سمته إلا سرد سروال من حديد تحصن فرجي، وكنى بذلك عن عفته. وقوله: تحصن عورته، وهو قول ابن جني، قول قبيح وهو مع ذلك صحيح!

وقوله: الرجز مُعْتَمَّةً بِيُبَّسِ الأجْذَالِ وُلِدْنَ تحتَ أثقَلِ الأحْمَالِ قال: قال ابن جني: يعني بأثقل الأحمال، الأجبال. وقال ابن فورجة: ألا يكفي من الحمل الثقيل القرون ذوات الشعب التي تقطع فيحمل الواحد منها حمار أو رجل؟ فأثقل الأحمال على قول ابن فورجة القرون. وقول ابن جني أظهر، لأنها ولدت ولا قرون لها، ومن البعيد أن يراد قرون أبويها. وأقول: يحتمل أن تكون الأحمال لها قرونها. وإن لم تكن موجودة في حال الولادة لأنه متيقنة أن ستوجد فكأنها موجودة. وليس من البعيد، كما ذكره، أن تكون لأبويها بل هذا هو القريب لوصفه إياها بقوله: الرجز قَدْ مَنَعَتْهُنَّ من التَّفَالي وذلك لا يليق بذكر الجبال. فإن قال: هذا راجع إلى قوله فيما قال: مُعْتَمَّةً بِيُبَّسِ الأجْذَالِ فيقال له: بل هذا البيت أولى بها لقربه منها، ولحسن جواز معناه فيها.

وقوله: الوافر أتَتْرُكني وعينُ الشَّمسِ نَعْلي ... فتقطَعُ مِشْيَتي فيها الشِّراكَا قال: يقول: إذا كنت بحضرتك كنت من الرفعة كمن انتعل عين الشمس، وإذا ارتحلت عنك قطع مشيتي شراك تلك النعل، فيزول عني سبب الرفعة. وقوله: أتتركني معناه: أأتركك، وهو استفهام إنكار؛ أي: لا أتركك، ولكن من تركته فقد تركك فقلب الكلام كما قال الآخر: البسيط . . . . . . ... كأنَّما أسْلَمَتْ وَحْشِيَّةٌ وَهَقَا والوهق يسلم الوحشية. وأقول: لو اقتصر على التفسير الأول قبل تفسيره: أتتركني لكان قريبا من الصواب! وأما قوله: أتتركني بمعنى أأتركك، وإن هذا من المقلوب فليس كما قال، لأن ذلك إنما يكون عند الضرورة لتصحيح المعنى. واللفظة إذا حملت على وجهها من غير قلب وصحَّ بها المعنى لم تحتج إلى القلب. وقوله: أتتركني: أي: أتجعلني في منزلة عالية، عين الشمس فيها نعلي، ويقطع مشيتي فيها الشراكا؛ أي: لا أخسر رب هذه النعمة، ولا التمتع بها والمحافظة عليها بطلب فراقي لك ورحيلي عنك، فضرب ذلك مثلا لسوء رأيه وفعله!

وقوله: الوافر أغرَّ له شَمَائلُ من أبيهِ ... غَداً يَلْقَى بَنُوكَ بها أبَاكا قال: يقول: أنت ورثت شمائل أبيك، وكما ورثتها أباك تورثها بنيك فهم يلاقون أباك بمثل الخلائق التي ورثوها منك. وحقه أن يقول أباهم لكنه قال أباك إشارة إلى أنهم لم يبلغوا بعد رتبتك حتى يشبهوك بل يشبهون أباك. وأقول: إنه جعل أبناء الممدوح، وهم صبيان أو غلمان، انهم سيشبهون أبا الممدوح، واجل الممدوح عن ذلك، وفيه احتقار لأبيه وإصغار له. ولاشك أن في احتقار الأب احتقار الابن وهذا كلام من لم يفهم المعنى! وقوله: . . . . . . ... غَداً يَلْقَى بنوك بها أبَاكَا أي: الشمائل والخلائق التي ورثتها من أبيك وأشبهته بها، سوف يشبهه بنوك بها إذا كبروا كما أشبهته لما كبرت، وقد قيل: من أشبه أباه فما ظلم فاللقاء هنا كناية عن المماثلة والمشاكلة؛ فهذا المعنى الذي يفهم من كلامه، لا ما ذكره! وقوله: الوافر أذَمَّتْ مَكْرُمَاتُ أبي شُجَاعٍ ... لعَيْني من نَواي على أولاَكَا

قال: أذمت بمعنى منعت. يقول: مكرماته منعت عيني، وعقدت لها عقدا على أهلي من فراق عضد الدولة، ويكون على من صلة اذمت. ويروى: ثواي مقصور من الثوى بمعنى المقام. والمعنى: مكرماته اذمت لعيني من المقام عليهم؛ أي: عقدت لعيني عقدا يؤمنها من النظر إلى أولئك؛ يريد: أنها قصرها على عضد الدولة فلا تنظر إلى غيره. وأقول: وفسر هذا التفسير بعد أن حكى قولي ابن جني، وابن فورجة، وهما لا يساويان الحكاية! وقوله هذا مثل قولهما، وهو ضد المعنى الذي أراد أبو الطيب، وذلك إنه يقول: أن مكرمات عضد الدولة اذمت لعيني؛ أي: أعطتها ذماما من النوى على الإبل؛ أي: على رؤية اولئك؛ يعني أحبابه الذين خلقهم وراءه، فالنوى لا تقدر على منعي، ولهذا قال فيما بعد: فَزُل يا بُعْدُ. . . . . . ... . . . . . . وقوله: الوافر فَزُلْ يا بُعْدُ عن أيْدي ركابٍ ... لها وَقْعُ الأسِنَّةِ في حَشَاكَا قال: يقول للبعد تنح عن أيدي هذه المطايا، فأنها تقطعك كما تقطع الأسنة الحشا.

فيقال له: هذا يضاد التفسير الذي فسرته قبل من أن مكرمات عضد الدولة اذمت لعيني؛ أي عقدت لها عقدا يؤمنها من النظر إلى أولئك؛ أي: قصرها على عضد الدولة فلا تنظر إلى غيره؛ لأن هذا العقد قد انفسخ، ويوافق التفسير الذي فسرته. وكذلك قوله: الوافر وأيًّا شئتِ يا طُرُقي فكوني ... أذاةً أو نَجَاةً أو هَلاكَا قال: هذا كلام ضجر يقول لطريقه: كوني كيف شئت؛ فأني لا أبالي، وإن كان الهلاك في سلوكك. وأقول: هذا كلام مناقض، كأنه لا يعلم قبل ما ذكره ففسره هذا بما فسره! وكلام المتنبي هذا كلام معجب بنفسه، مدل بماله، متهور في مقالة، وأثق بما في يده، معتمد عليه غير معتمد على الله في الوقاية له، والمدافعة عنه، ولهذا قال فيما بعد: الوافر فلو سِرْنَا وفي تِشْرِينَ خَمْسٌ ... رَأوْني قَبْلَ أنْ يَرَوُا السِّمَاكَا لأنه لم يستثن مشيئة الله، فحل به ما كان يخشاه، وحال الهلاك دون الآل! قال الواحدي في تفسير هذا البيت: هذا كلام فيه حذف وتقديم وتأخير، تقديره: فلو سرنا في تشرين وقد مضت منه خمس، وإذا أخل الحذف بالكلام ولم يظهر المعنى لم يجز، والسماك يطلع لخمس خلون من تشرين الأول، وهذا مبالغة في ذكر سرعة السير والرجوع إلى اهله؛ يقول: لو أخذن في السير واخذ السماك في الطلوع لسبقته

بالطلوع عليهم وهم بالكوفة؛ كأنه قال: أسبق النجم بسرعة السير. فيقال له: ليس في الكلام حذف ولا تقديم ولا تأخير، بل الكلام مستقل لنفسه غير محتاج إلى غيره، والواو في قوله: وفي تشرين خمس واو الحال من الضمير في سرنا. وقوله: الوافر يُشَرِّدُ يُمْنُ فَنَّاخُسْرَ عنِّي ... قَنَا الأعداءِ والطَّعْنَ الدِّرَاكَا وألْبَسُ من رِضَاهُ في طريقي ... سْلاحاً يَذْعَرُ الأعداَء شَاكَا أقول: لم يشرد عنه يمن فناخسر الطعن الدراك، ولا البس من رضاه سلاحا منع الأعداء شاك، وذلك إنه استعان بغير الله على دفاع الأعداء، فوكله الله إلى من استعان به ولم ينجي من الاسواء، فذهبت نفسه، وثل عرشه، وجذ غرسه. انتهى

§1/1