اللباب في تفسير الاستعاذة والبسملة وفاتحة الكتاب
سليمان اللاحم
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة الحمد لله الذي أمر بالاستعاذة عند قراءة القرآن، فقال- عز وجل {فَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (¬1). والحمد لله الذي افتتح كتابه بالحمد فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. وحمد نفسه على إنزاله، فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} (¬2). وافتتح سوره سورة سورة بقوله- تعالى- {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} سوى سورة براءة، لما له في ذلك من الحكمة {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} (¬3). أحمده-تعالى - على أن هدانا للإسلام، وخصنا بالقرآن، وجعلنا من خير أمة أخرجت للناس. فلك الحمد ربي بالإيمان، ولك الحمد بالقرآن، ولك الحمد بإرسال محمد - صلى الله عليه وسلم - خير الأنام، ولك الحمد على نعمك التي لا تحصى على الدوام. ولك الحمد على أن وفقت خلاصة من العباد، نذروا أنفسهم وأوقاتهم لخدمة هذا القرآن حفظًا وتجويدًا، وتعلمًا وتعليمًا، ودراسة ¬
وتفسيرًا، واستخراجًا لما فيه من الهداية، وبيان العقائد والأحكام، والحلال والحرام، ولما اشتمل عليه من الأخلاق والآداب والمواعظ الجسام. ينفون عنه انتحال المبطلين وتأويل الجاهلين. كل ذلك تحقيقًا لوعدك، حيث قلت، وقولك الحق: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬1). وصلى الله وسلم، وبارك على المعلم الأول أفضل الحامدين، وخيرة الشاكرين، وسيد الخلق أجمعين، نبينا محمد الذي أنزل الله عليه هذا الكتاب ليخرج الناس به من الظلمات إلى النور. قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (¬2). فقام به - صلى الله عليه وسلم - حتى تفطرت قدماه (¬3)، وأقرأه أمته وبلبغهم إياه، وعلمهم ما فيه من الهداية والأحكام، وأوصاهم قبل وفاته - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «إنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا ¬
به. . . ثم قال: وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي. . .» الحديث (¬1). فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير ما يجزى نبيًا عن أمته، فقد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، حتى أتاه اليقين، فعليه من الله أزكى الصلاة، وأتم التسليم. ورضي الله عن صحابته الكرام، الذين كانوا إذا تعلموا عشر آيات من القرآن لم يتجاوزها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، فتعلموا القرآن والعلم والعمل جميعًا (¬2)، تعلموه، وعملوا بما فيه، وعلموه من بعدهم، ونقلوه بحروفه ومعانيه وأحكامه إلى أقطار الدنيا كلها، فرضي الله عنهم، وجزاهم عن الإسلام والمسلمين خيرًا. ورحم الله من جاء بعدهم، من سلف هذه الأمة من التابعين وتابعيهم، ومن تبعهم، الذين قاموا بخدمة هذا الكتاب، بما دونوا من مؤلفات فيها بيان معانيه وأحكامه، وحلاله وحرامه، وناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وأسباب نزوله، ومكيه ومدنيه وسائر علومه فرحمهم الله، وجزاهم عن الإسلام والمسلمين خيرًا. وعم بالرحمة كل من رفع بهذا الكتاب رأسا، أو قدم له خدمة، مبتغيًا بذلك وجه الله والدار الآخرة وبعد: ¬
فإن الاشتغال بعلم كتاب الله- تعالى- هو أجل عمل وأشرفه، وأرفعه مترلة، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح الذي رواه عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» رواه البخاري (¬1). ولا شك أن الهمم قد قصرت، والموانع من اللحاق بأهل العزم قد كثرت. حتى أصبح ما نقرأه في سير علمائنا السابقين وما قاموا به من جهود في التعليم والتأليف أشبه شيء بالخيال - رحمهم الله - رحمة واسعة وجزاهم عن الإسلام والمسلمين خيرًا، ونظمنا في سلكهم، ولو بالتشبه بأولئك الأماجد الأخيار، وكما قيل: فتشبهوا إ ن لم تكونوا مثلهم ... إن التشبه بالكرام فلاح «وما لا يدرك جله لا يترك كله». ولقد كان من أهم الأسباب التي دعتني إلى الكتابة في هذا الموضوع ما يلي: أولًا: أن الاستعاذة عند والبسملة هما المدخل لكتاب الله - تعالى- فقد أمر - تعالى - بالاستعاذة عند قراءة القرآن، وافتتح سوره كلها سوى براءة بـ (بسم الله الرحمن الرحيم)، فيشرع للمسلم أن يفتتح قراءته بهما، في الصلاة أو خارجها، وأن يعرف معناهما وأحكامهما. ¬
ثانيًا: أنني رأيت كلام أهل العلم - رحمهم الله - على الاستعاذة والبسملة والفاتحة مفرقًا في كتب التفسير والقراءات، وكتب الحديث والفقه والأحكام، لا يجمعه كتاب على وجه تتم به الفائدة، لا من كتب التفسير، ولا من غيرها. ثالثًا: أن سورة الفاتحة: افتتح الله بها كتابه العزيز، وهي أعظم وأفضل سورة في القرآن الكريم. رابعًا: أن هذه السورة تحوي من المعاني والفوائد والأحكام الشيء الكثير، وقد جاء في الأثر أنها تتضمن جميع معاني القرآن الكريم، وبهذا قال بعض أهل العلم كما سيأتي بيانه. ولهذا أفردها بعض أهل العلم بالتأليف كابن القيم في كتابه القيم «مدارج السالكين بيين منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}» وناهيك به من كتاب، كما خصصها جمع من المفسرين بجزء كبير من تفسيره كالرازي مثلا فقد تكلم عليها في مجلد كبير من تفسيره، وكذا أطال الكلام في تفسيرها إمام المفسرين الطبري والحافظ ابن كثير وشيخنا عبد الرحمن الدوسري-رحمهم الله جميعًا-. خامسًا: أن هذه السورة مما يجب على كل مسلم تعلمها وفهم معانيها إذ عليها مدار صحة الصلاة وبطلانها. فأردت بهذا العمل أن أجمع شتات كلام أهل العلم - على الاستعاذة والبسملة والفاتحة، وذلك حسب الإمكان راجيًا أن يكون هذا البحث بمثابة مدخل لتفسير كتاب الله -تعالى.
وقد سميت هذا الكتاب: اللباب في تفسير الاستعاذة، والبسملة، وفاتحة الكتاب وبيان ما اشتمل عليه كل منها من المعاني والفوائد والأحكام. وقد قسمت الكلام إلى بابين: الباب الأول: الاستعاذة والبسملة - معناهما، وأحكامها- وفيه فصلان: أ- الفصل الأول الاستعاذة - معناها - وأحكامها - وفيه ثمانية مباحث. ب- الفصل الثاني: البسملة معناها - وأحكامها- وفيه تسعة مباحث. الباب الثاني: تفسير سورة الفاتحة، معناها، وأحكامها وفيه فصلان: الفصل الأول: تفسير سورة الفاتحة وبيان ما فيها من المعاني والفوائد والأحكام. الفصل الثاني: الأحكام التي تتعلق بسورة الفاتحة وفيه مبحثان. وقد حرصت على أن أقدم للقارئ خلاصة لأصح ما جاء عن أهل العلم والتحقيق في تفسير الاستعاذة والبسملة (¬1) وهذه السورة العظيمة، ¬
سورة الفاتحة. وبذلت في ذلك جهدي وطاقتي، مع قلة البضاعة وكثرة المشاغل والعوائق. وقد اعتمدت اعتمادًا كبيرًا على كتب المحققين من علمائنا - رحمهم الله - سواء في التفسير أو غيره، وخاصة كتاب «مدارج السالكين» للإمام العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى - فقد اعتمدت عليه اعتمادًا كبيرًا - خاصة في الكلام على سورة الفاتحة، ونقلت عنه في كثير من المواضع، لأنني لم أجد من تكلم عن هذه السورة بمثل كلامه- رحمه الله تعالى-، وقد أشفقت أن أختصر كلامه أحيانًا فتجيء عبارتي قاصرة عن الوفاء بمضمون كلامه الذي هو في غاية الدقة والتحقيق وحسبي أني أحلت إليه. والله أسأل أن يرزقني وجميع إخواني المسلمين الإخلاص في القول والعمل إنه جواد كريم بر رؤوف رحيم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الباب الأول الاستعاذة والبسملة، معناهما، وأحكامهما
الباب الأول الاستعاذة والبسملة، معناهما، وأحكامهما وفيه فصلان: الفصل الأول: الاستعاذة، معناها، وأحكامها وفيه ثمانية مباحث الفصل الثاني: البسملة، معناها، وأحكامها وفيه تسعة مباحث
قال الله تعالى: {فَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم} سورة النحل، الآية: 98 أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
الفصل الأول الاستعاذة، معناها، وأحكامها
الفصل الأول الاستعاذة، معناها، وأحكامها وفيه ثمانية مباحث: المبحث الأول: صيغ الاستعاذة الصحيحة. المبحث الثاني: أركان الاستعاذة. المبحث الثالث: الاستعاذة ليست بآية من القرآن. المبحث الرابع: إعراب الاستعاذة ومعناها. أ - إعرابها. ب - معناها. المبحث الخامس: أحكام الاستعاذة. أ - مكان الاستعاذة من القراءة. ب - حكمها عند قراءة القرآن في الصلاة أو خارجها. ج - هل يتعوذ في الصلاة في كل ركعة، أو في الركعة الأولى فقط. د - حكم الجهر بها أو الإسرار. المبحث السادس: المواضع التي تشرع فيها الاستعاذة. المبحث السابع: بيان أن شيطان الجن أعظم ضررًا من شيطان الإنس، ومن النفس «المذمومة». المبحث الثامن: السبيل للخلاص من شر الشيطان ومكايده.
المبحث الأول صيغ الاستعاذة الصحيحة
المبحث الأول صيغ الاستعاذة الصحيحة الصيغة الأولى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وعلى هذا اللفظ دل الكتاب والسنة. قال الله - تعالى: {فَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (¬1). وعن سليمان ين صرد - رضي الله عنه - قال: استبَّ رجلان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن عنده جلوس، وأحدهما يسب صاحبه، مغضبا، قد احمر وجهه،.فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فقالوا للرجل: ألا تسمع ما يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني لست بمجنون» متفق عليه (¬2). وهذه الصيغة هي المختارة عند أكثر القراء (¬3). منهم: أبو عمرو البصري، وعاصم بن أبي النجود الكوفي، وعبد الله ابن كثير المكي (¬4). وبها كان يتعوذ جمهور السلف من الصحابة والتابعين ¬
الصيغة الثانية: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم
منهم: عمر بن الخطاب وابنه عبد الله بن عمر (¬1) -رضي الله عنهما-. وهي اختيار: أبي حنيفة (¬2)، والشافعي (¬3)، وأحمد بن حنبل (¬4) - رحمهم الله. قال مكي بن أبي طالب القيسي في كتابه «الكشف عن وجوه القراءات السبع (¬5)»: «الذي عليه العمل وهو الاختيار أن يقول القاراء: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. للآية». وقال ابن عطية في «تفسيره» (¬6): «وأما لفظ الاستعاذة، فالذي عليه جمهور الناس، هو لفظ كتاب الله - تعالى: {أعوذ بالله من الشيطان الرجيم}». الصيغة الثانية: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. يدل على هذا اللفظ، ما جاء في حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - في دعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة في الليل، وفيه: ¬
ثم يقول: «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم - الحديث وسيأتي بتمامه» (¬1). كما استدل له بقوله - تعالى -: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (¬2) وبقوله- تعالى-: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (¬3). وهي اختيار طائفة من القراء (¬4) منهم حمزة (¬5)، وسهل بن أبي حاتم (¬6)، وهي مروية عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - (¬7) - وبها يقول الحسن البصري (¬8) ومحمد بن سيرين (¬9)، والحسن بن صالح (¬10)، والشافعي (¬11)، وأحمد بن حنبل، في رواية النيسابوري (¬12). ¬
الصيغة الثالثة: أعوذ بالله السميع العليم، من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه
قال أبو عمرو الداني في جامعه: «إن على استعماله عامة أهل الأداء، من أهل الحرمين، والعراقيين، والشام» (¬1). الصيغة الثالثة: أعوذ بالله السميع العليم، من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه. يدل على هذا اللفظ، ما رواه أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة بالليل كبر، ثم يقول: «سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك، ثم يقول: «أعوذ بالله السميع العليم، من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه» (¬2). وقد خصها بعض أهل العلم بقيام الليل لحديث أبي سعيد. الصيغة الرابعة: اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم، وهمزه ونفخه ونفثه. ¬
الصيغة الخامسة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إن الله هو السميع العليم
يدل على ما راوه عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم، وهمزه ونفخه ونفثه» (¬1). وهي مروية عن بعض أهل العلم، منهم الحسن البصري (¬2)، وإسحاق بن راهويه (¬3). الصيغة الخامسة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إن الله هو السميع العليم (¬4). جمعًا بين أدلة الصيغة الأولى، وأدلة الصيغة الثانية والثالثة. وبها قرأ نافع وابن عامر والكسائي (¬5)، وهي مروية عن حمزة وعن أبي عمرو وقد رُويت عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ومحمد بن سيرين (¬6) ¬
الصيغة السادسة: أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم
وهي اختيار سفيان الثوري (¬1) والأوزاعي (¬2)، ومسلم بن يسار (¬3)، وأحمد في رواية، اختارها القاضي أبو يعلى، وابن عقيل (¬4). الصيغة السادسة: أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم. لما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا دخل المسجد قال: «أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم» (¬5). وهناك صيغ أخرى رويت عن بعض القراء، وبعض أهل العلم. منها: أعوذ بالله العظيم، من الشيطان الرجيم (¬6). ومنها: أعوذ بالله العظيم، السميع العليم، من الشيطان الرجيم (¬7). ومنها: أعوذ بالله العظيم، من الشيطان الرجيم، إن الله هو السميع ¬
العليم (¬1). ومنها: أعوذ بالله السميع العليم، من الشيطان الرجيم، إن الله هو السميع العليم (¬2). ومنها: أستعيذ بالله، أو نستعيذ بالله، من الشيطان الرجيم (¬3). ومنها: أعوذ بالله القوي، من الشيطان الغوي (¬4). ومنها: أعوذ بالله المجيد، من الشيطان المريد (¬5). ومنها أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وأستفتح الله وهو خير الفاتحين (¬6). ومنها أعوذ بالله السميع، الرحمن الرحيم، من الشيطان الرجيم، وأعوذ بك رب أن يحضرون، أو يدخلوا بيتي الذي يؤويني (¬7). ومنها: رب أعوذ بك من همزات الشيطان، وأعوذ بك رب أن ¬
يحضرون، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إن الله هو السميع العليم (¬1). ومنها: أعوذ بالله السميع العليم من همزات الشياطين، وأعوذ بالله أن يحضرون (¬2). وهذه الصيغ وإن رويت عن بعض السلف، فإن أقل أحوالها الجواز، وما صح عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - هو الأولى بالأتباع. * * * ¬
المبحث الثاني أركان الاستعاذة
المبحث الثاني أركان الاستعاذة تتكون الاستعاذة - كما يقول بعض أهل العلم (¬1) - من خمسة أركان هي: أ- صيغة الاستعاذة ولفظها، وقد تقدم. ب- المستعيذ، وهي المؤمن الذي رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيًا ورسولًا، ونطق بالاستعاذة، وواطأ عنده القلب اللسان، فأيقن أن هذه الاستعاذة تحميه، بإذن الله بن الشيطان الرجيم. ج - المستعاذ به وهو الله - جل وعلا - الذي من استعاذ به أعاذه، وأجاره وعصمه، وحفظه وحماه، كما أعاذ مريم ابنة عمران وذريتها وعصمها بسبب دعاء والدتها امرأة عمران وإعاذتها إياها بالله من الشيطان الرجيم، كما ذكر الله عنها أنها قالت: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} (¬2). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما ¬
من مولود يولد إلا نخسه الشيطان، فيستهل صارخا إلا ابن مريم وأمه» (¬1). فالاستعاذة إنما تكون بالله - جل وعلا -، وأسمائه الحسنى، وصفاته العليا، وكلماته التامة، التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر. وأكثر ما ورد في القرآن الاستعاذة باسمه - تعالى. «الله». قال الله - تعالى-: {فَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (¬2) وقال - تعالى-: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمُ} (¬3). وقال - تعالى-: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬4) وقال- تعالى-: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} (¬5) وقال موسى - عليه السلام - فيما ذكر الله عنه: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ ¬
مِنَ الْجَاهِلِينَ} (¬1) وقال يوسف - عليه السلام - {مَعَاذَ اللَّهِ} (¬2). أي عياذًا بالله. كما وردت الاستعاذة كثيرًا باسمه- تعالى-: «الرب». قال الله -تعالى-: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}. وقال موسى - عليه السلام -: {إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} (¬3). وقال - عليه السلام -: {وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ} (¬4). أو بمضمر يعود على الرب: قال -تعالى-: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} (¬5). وقال نوح - عليه السلام -: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} (¬6) وقالت امرأة عمران: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ ¬
الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (¬1) ووردت الاستعاذة باسمه الرحمن مرة واحدة. قال الله- تعالى- عن مريم - عليها السلام-: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} (¬2). وفي الحديث «أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق» (¬3). «أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق وبرأ وذرأ» الحديث (¬4). ولا تصح الاستعاذه بغير الله، فيما لا يقدر عليه إلا الله، لأن الاستعاذة بالمخلوق في أمر لا يقدر عليه إلا الله لا تدفع شرًا، ولا تجلب خيرًا، بل مما يزيد المستعيد خوفًا ورهقًا. قال -تعالى- في سورة الجن: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} (¬5). د- الركن الرابع من أركان الاستعاذة: المستعاذ منه، وهو الشيطان الرجيم، أعاذنا الله منه. ¬
هـ - الركن الخامس من أركانها: المطلب الذي من أجله يستعيذ المسلم، وهو السلامة في دينه وديناه، من الشيطان ووسوسته ومكايده وجميع شروره. قال الله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} (¬1). وقال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} (¬2) وقال - صلى الله عليه وسلم - «اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، رب كل شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي سوءًا، أو أجره إلى مسلم» (¬3) قال ابن القيم في «إغاثة اللهفان» (¬4) بعد أ، ذكر هذا الحديث: «فتضمن هذا الحديث الشريف، الاستعاذة من الشر وأسبابه، وغايته، فإن الشر كله، إما أ، يصدر من النفس، أو من الشيطان، وغايته: إما أن يعود على العامل أو على أخيه المسلم ..» ¬
وقال الطبري (¬1) - رحمه الله - في كلامه على معنى الاستعاذة: «أستجير بالله - دون غيره، من سائر خلقه - من الشيطان، أن يضرني في ديني، أو يصدني عن حق يلزمني لربي». وقال ابن كثير (¬2) - رحمه الله «أستجير بجناب الله من الشيطان الرجيم، أن يضرني في ديني أو دنياي أو يصدني عن فعل ما أمرت به، أو يحثني على فعل ما نهيت عنه». ... ¬
المبحث الثالث الاستعاذة ليست بآية من القرآن الكريم
المبحث الثالث الاستعاذة ليست بآية من القرآن الكريم أمر الله بالاستعاذة عند القراءة بقوله - تعالى: {فَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (¬1) فهذه الآية هي الأصل في مشروعية الاستعاذة، عند، القراءة، وهى مشتملة على جل ألفاظ صيغة الاستعاذة «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» التي هي أصح الصيغ. وقد أجمع العلماء على أن الاستعاذة بهذا االلفظ ليست آية حكى ذلك ابن عطية (¬2) وغيره (¬3). وقال ابن تيمية (¬4): «لكن الاستعاذة ليست بقرآن، ولم تكتب في المصاحب، وإنما فيه الأمر بالاستعاذة، وهذا قرآن». * * * ¬
المبحث الرابع إعراب الاستعاذة، ومعناها
المبحث الرابع إعراب الاستعاذة، ومعناها أ - إعرابها: لعل من المناسب إعراب الآية التي هي الأصل في مشروعية الاستعاذة عند القراءة. وهي قوله - تعالى -: {فَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (¬1) لأنها مشتملة - كما أشرت سابقًا - على جل ألفاظ صيغة الاستعاذة المختارة وهي: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم». فقوله {فَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآَنَ} فإذا: الفاء للاستئناف، وإذا: اسم شرط غير جارم مبني على السكون، في محل نصب مفعول فيه، ظرف زمان، متعلق بجوابه «استعذ». قرأت: قرأ فعل ماضٍ مبني على السكون لا تصاله بالضمير، والتاء ضمير للمخاطب مبني على الفتح في محل رفع فاعل. القرآن: مفعول به منصوب. فاستعذ: الفاء رابطة لجواب الشرط. استعذ: فعل أمر مبني على السكون الظاهر والفاعل ضمير مستتر وجوبًا تقديره: أنت. بالله: الباء حرف جر، ولفظ الجلالة اسم مجرور بالباء وعلامة جره الكسرة الظاهرة على آخره، والجار والمجرور متعلقان بـ (استعذ). ¬
ب - معناها
من الشيطان: من حرف جر، والشيطان أسم مجرور بمن، وعلامة جره الكسرة الظاهرة على آخره. والجار والمجرور متعلقان بـ (استعذ). الرجيم: صفة للشيطان مجرورة مثله، وعلامة جرها الكسرة الظاهرة على آخرها. ب - معناها: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. أعوذ: فعل مضارع، يقال: عذت أعوذ، كما يقال: عاذ يعوذ عوذًا وعياذًا، ومعاذا (¬1). قال يوسف - عليه السلام - {مَعَاذَ اللَّهِ} (¬2) أي عياذًا بالله. أعوذ بالله بمعنى أعتصم به (¬3)، كما جاء في حديث أبي هريرة في الدعاء عند دخول المسجد «اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم» (¬4). قال الحصين بن الحمام يخاطب قبيلته (¬5): وعوذي بأفناء العشيرة إنما ... يعوذ الذليل بالعزيز ليعصما ¬
وقال الراجز (¬1): قالت وفيها حيدة وذعر ... عوذي بربي منكم وحجر أي: اعتصامي بربي. وبمعنى: ألتجاء إلى الله. قال ابن فارس (¬2): «العين والواو والذال أصل صحيح، يدل على معنى واحد، وهو الالتجاء إلى الشيء». وبمعنى: أستجير بالله (¬3)، وأتحرز به (¬4)، واستعين به (¬5). وأمتنع به من المكروه (¬6)، وأتعلق به (¬7)، وأتحيز إليه (¬8)، وألوذ به (¬9). ¬
ويقال: إن العياذة لدفع الشر، واللياذة لطلب الخير. قال ابن كثير (¬1): «والعياذة تكون لدفع الشر، واللياذ يكون لطلب الخير كما قال المتنبي (¬2): يا من ألوذ به فيما أؤمله ... ومن أعوذ به ممن أحاذره لا يجبر الناس عظما أنت كاسره ... ولا يهيضون عظما أنت جابره لكن بعض أهل اللغة - كما تقدم - على أنهما بمعنى واحد. قال ابن منظور (¬3): «الملاذ مثل المعاذ». بالله: الباء للاستعانة (¬4)، وقيل للإلصاق (¬5). الله: علم على ذات الرب - جل وعلا، وأصل أسمائه سبحانه وتعالى، ومعناه: المألوه المعبود محبة وتعظيمًا. وسيأتي تفصيل الكلام فيه في البسملة - إن شاء الله. وجملة أعوذ بالله خبرية تتضمن طلب الإعاذة (¬6). من الشيطان: من لابتداء الغاية. ¬
الشيطان: مأخوذ عند جمهور أهل اللغة ومحققيهم من شطن بمعنى: بعد، يقال: بئر شطون، أي: بعيدة القعر والمدى (¬1). قال النابغة الذبياني (¬2): نأت بسعاد عنك نوى شطون ... فبانت والفؤاد بها رهين والشطن الحبل، أو الحبل الطويل (¬3) قال عنترة (¬4): يدعون عنتر والرماح كأنها ... أشطان بئرٍ في لبان الأدهم فأشطان جمع شَطَن وهو الحبل الطويل. فالنون فيه أصلية. قال ابن فارس (¬5): «الشين والطاء والنون أصل مطرد ويدل على البعد». والشيطان على وزن فيعال، للدلالة على أنه بلغ الغاية في البعد (¬6). وقيل: إنه مأخوذ من «شاط يشيط، إذا هاج واشتد غضبًا، وهلك ¬
واحترق وبطل، وعلى هذا فالنون فيه زائدة (¬1). والصحيح القول الأول. قال سيبويه (¬2): «العرب تقول تشيطن». وقال الطبري (¬3): بعدما ذكر القول بأنه مشتق من «شطن»: «ومما يدل على أن ذلك كذلك قول أمية بن أبي الصلت: (¬4). أيما شاطنٍ عصاه عكاه ... ثم يلقى في السجن والأكبال قال الطبري: ولو كان فعلان من شاط يشيط لقال أيما شائطٍ، ولكنه قال: أيما شاطن، لأنه من شطن يشطن فهو شاطن» (¬5). و «أل» في «الشيطان» للجنس (¬6)، فهو يشمل كل متمرد، عات، خارج عن الطاعة، من الجن، والإنس، والدواب، وكل شيء (¬7)، ¬
ولهذا جمع في قوله- تعالى- {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} (¬1). وقيل أل فيه للعهد (¬2). والصحيح الأول. وهو يكون من الإنس والجن، كما قال الله - تعالى -: {وكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} (¬3). وقال -تعالى- {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} (¬4).، أي: شياطين إنس يعوذون بشياطين جن. وقال - تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ* مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} (¬5) أي شياطين جن وإنس يوسوسون في صدور الناس. وقال تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} (¬6) أي شياطين إنس بإنس. قال جرير (¬7): أيام يدعونني الشيطان من غزلٍ ... وهن يهوينني إذ كنت شيطانًا ويكون من الحيوانات كما جاء في حديث عبد الله بن الصامت أبي ¬
ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا قام أحدكم يصلي، فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل، فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل، فإنه يقطع الصلاة الحمار والمرأة. والكلب الأسود». قلت: يا أباذر، ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر، من الكلب الأصفر؟! قال: يا ابن أخي، سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما سألتني، فقال: «الكلب الأسود شيطان» (¬1). وعن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ركب برذونا فجعل يتبختر به، فجعل يضربه، فلا يزداد إلا تبخترا، فنزل عنه، وقال: ما حملتموني إلا على شيطان، ما نزلت عنه حتى أنكرت نفسي (¬2). وإنما سمي المتمرد من كل شيء شيطانًا لمفارقته لبني جنسه في أخلاقه، وأفعاله، وصفاته، وطباعه، ومباعدته لهم، وبسبب فسقه، وبعده عن الحق والهدى والخير، وعن رحمة الله - تعالى - (¬3). الرجيم: فعيل بمعنى مفعول أي: مرجوم (¬4) كسعير بمعنى: ¬
مسعور. مأخوذ من الرجم: وهو الرمي بفعل أو قول (¬1). فمن الرجم بالفعل: الرجم والرمي بالحجارة. قال ابن فارس (¬2): الراء والجيم والميم، أصل واحد، يرجع إلى وجه واحد، وهو الرمي بالحجارة. ومن الرجم بالقول قوله - تعالى {رَجْمًا بِالْغَيْبِ} (¬3)، أي قولًا بالظن. وقوله- تعالى - عن آزر أنه قال لإبراهيم - عليه السلام - {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} (¬4) أي لأرمينك بسيء القول. قال المرقش الأصغر (¬5): وإني وإن كلت قلوصي لراجمٌ ... بها وبنفسي يا فطيم المراجم ومنه القذف بالزنى، فإنه رجم ورمي بالقول. والشيطان مرجوم بالفعل والقول: أي فعلًا وقولًا، حسًا ومعنى. فهو مرجوم فعلًا وحسًا بإخراجه من الجنة وطرده عنها، وعن الملأ الأعلى وبإهباطه من السموات إلى الأرض (¬6). ¬
قال الله - تعالى: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} (¬1)، وقال تعالى: {اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا} (¬2). وقال تعالى: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} (¬3). وقال تعالى: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} (¬4). وهو مرجوم حسًا وفعلًا بالشهب. قال الله- تعالى {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِير} (¬5). وقال- تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} (¬6). وقال تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} (¬7)، وقال تعالى: {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا} (¬8). وقال - تعالى: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ ¬
مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} (¬1). وهو مرجوم قولًا ومعنى لأن الله بعد أن أبعده ورجمه بالفعل بإخراجه من الجنة، ومن بين الملأ الأعلى. وطرده من جواره، وسلط عليه الرمي بالشهب حكم عليه أيضًا باللعنة فهو ملعون بلعنة الله إلى يوم القيامة مقضي عليه بالخيبة والخسران، ومطرود عن رحمة الله، وعن كل خير (¬2). قال الله - تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} (¬3) وقال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} (¬4)، وقال تعالى: {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ} (¬5). وقيل: فعيل بمعنى فاعل، لأنه يوسوس للناس، ويزين لهم المعاصي، وطرق الشر، ويحثهم عليها، ويبعدهم عن الخير، ويكيد لهم في ذلك كله، أنواع المكايد (¬6). قال ابن كثير: «والأول أشهر وأصح» (¬7). هذا هو معنى أصح صيغ الاستعاذة: ¬
«أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» وقد جاء في الصيغ الأخرى بعض الزيادات ففي الصيغة الثانية زيادة: السميع العليم. وهما اسمان من أسماء الله - تعالى - فالسميع مشتق من صفة السمع وهو على وزن «فعيل» صفة مشبهة وصيغة مبالغة، يدل على أنه جل وعلا ذو السمع الذي وسع جميع الأصوات. قال تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} (¬1). وقال تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} (¬2). قالت عائشة - رضي الله عنها - (الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا في ناحية البيت، تشكو زوجها، وما اسمع ما تقول. فأنزل الله {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} (¬3). والعليم: اسم من أسماء الله مشتق من العلم. والعلم هو إدراك المعلوم على ماهو عليه (¬4) إدراكًا جازمًا. وعليم على وزن «فعيل» صفة ¬
مشبهه وصيغة مبالغة يدل على أنه تعالى ذو العلم الواسع التام المحيط بالأشياء كلها جملة وتفصيلًا، في أطوارها الثلاثة، قبل الوجود، وبعده، وبعد العدم، كما قال موسى - عليه السلام - حينما سئل عن القرون الأولى {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} (¬1). فلا يعترى علمه جل وعلا جهل سابق، ولا نسيان لاحق. وجاء في الصيغة الثالثة والرابعة زيادة: من همزه ونفخه ونفثه. فهمز الشيطان: الموتة - بضم الميم، وهي الخنق: نوع من الجنون والصرع (¬2). ¬
ونفخه: الكبر (¬1). ونفثه: النفث: الشعر، لأنه ينفث من الفم (¬2). وقيل: السحر (¬3) ولا مانع من حمله عليهما معًا فالشعر والسحر كلاهما من نفث الشيطان لكن المراد بالشعر هنا الشعر المذموم، في الأغراض السيئة كنصرة الباطل وأهله، والهجاء المقذع، والغزل الماجن، والمدح المفرط، ونحو ذلك. أما الشعر المحمود، في الأغراض الشريفة السامية، كالانتصار للحق، والحث على الفضائل، ومكارم الأخلاق، والتحذير من الرذائل ومساوئ الأخلاق فهذا ليس من نفث الشيطان. قال تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ¬
وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} (¬1) أي انتصروا للحق وأهله. ولقد كان الشعر في صدر الإسلام من أقوى أسلحة الدعوة وأعظمها. فعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اهجوا قريشًا، فإنه أشد عليهم من رشق بالنبل»، فأرسل إلى ابن رواحة، فقال: «أهجهم»، فهجاهم، فلم يرض، فأرسل إلى كعب بن مالك، ثم أرسل إلى حسان بن ثابت، فلما دخل عليه، قال حسان: قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه، ثم أدلع لسانه، فجعل يحركه، فقال: والذي بعثك بالحق، لأفرينهم بلساني، فري الأديم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تعجل، فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها، وإن لي فيهم نسباً، حتى يلخص لك نسبي» فأتاه حسان، ثم رجع فقال: يا رسول الله، قد لخص لي نسبك، والذي بعثك بالحق لأسلنك منهم، كما تسل الشعرة من العجين. قالت عائشة فسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لحسان: «إن روح القدس، لا يزال يؤيدك، ما نافحت عن الله ورسوله» وقالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «هجاهم حسان فشفى واشتفى». قال حسان: هجوت محمدًا فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء ¬
هجوت محمدًا برًا تقيًا ... الخ (¬1) وعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لحسان بن ثابت: «اهجهم، أو هاجهم، وجبريل معك» متفق عليه (¬2). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - «أَّن عمر مر بحسَّان، وهو ينشد الشعر في المسجد فلحظ إليه، قد كنت أنشد، وفيه من هو خير منك. ثم التفت إلى أبي هريرة، فقال: أنشدك الله! أسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أجب عني، اللهم أيده بروح القدس» قال: اللهم نعم. متفق عليه (¬3). وقد كان - صلى الله عليه وسلم - ينشد مع أصحابه- رضوان الله عليهم- يوم الخندق: والله لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا إن الألى قد بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا (¬4) ¬
وكان يقول - أيضًا - يوم الخندق: «اللهم إن العيش عيش الآخرة فاغفر اللهم للأنصار والمهاجرة». فقالوا مجيبين له: نحن الذين بايعوا محمدًا ... على الجهاد ما بقينا أبدًا (¬1) وكان عليه الصلاة والسلام ينشد يوم حنين: أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبه المطلب (¬2) ومما يدل على أهمية الشعر في صدر الإسلام، وأنه كان من أقوى أسلحة الدعوة، ما جاء في قصة الأعشى، عندما جاء ليسلم، حاملًا قصيدته المأثورة المشهورة: ألم تغمض عيناك ليلة أرمدًا ... وبت كما بات السليم مهدًا والتي جاء فيها: فآليت لا أرثي لها من كلالة ... ولا حفى حتى تلاقي محمدًا متى ما تناخي عند باب ابن هاشم ... تراحي وتلقي من فواضله ندا نبيا يرى ما لا يرون وذكره ... أغار لعمري في البلاد وأنجدا له صدقات ما تغب ونائل ... وليس عطاء اليوم مانعه غدا ¬
أجدك لم تسمع وصاة محمد ... نبي الإله حيث أوصى وأشهدا إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ... ولاقيت بعد الموت من قد تزودا ندمت على ألا تكون كمثله ... وأنك لم ترصد لما كان أرصدا الخ. فقد قابله المشركون، فعرضوا عليه أن يرجع تلك السنة وأعطوه مائة ناقة، وذلك اتقاء لسانه، وخوفًا أن يكون في جانب الدعوة إلى الله، فقبل ذلك، على أن يعود من العام القابل فيسلم، وفي رجوعه، سقط من دابته على رقبته، فمات (¬1). والخلاصة أن المعنى العام للاستعاذة بصيغتها: ألجأ إلى الله وأعتصم به وبأسمائه الحسنى وصفاته العليا وكلماته التامة التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من الشيطان الرجيم، ونزغاته ووساوسه، وأسأل الله العصمة منه، والحفظ والصيانة والسلامة من جميع شرور الشيطان. ¬
المبحث الخامس أحكام الاستعاذة
المبحث الخامس أحكام الاستعاذة أ - مكان الاستعاذة من القراءة: قال الله - تعالى: {فَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (¬1). ظاهر الآية أن الاستعاذة محلها بعد القراءة. وقد تمسك بهذا الظاهر بعض القراء، فنقل ذلك عن حمزة (¬2)، وأبي حاتم السجستاني (¬3)، ورويَ ذلك- أيضًا- عن أبي هريرة (¬4) - رضي الله عنه - , ومحمد بن سيرين (¬5)، وإبراهيم النخعي (¬6)، وداود الظاهري (¬7) وحكاه ¬
القرطبي (¬1) وغيره عن مالك واستغرب ذلك ابن العربي (¬2) واحتج بعضهم لهذا القول بأن الاستعاذة بعد القراءة تدفع الإعجاب بعد فراغ القراءة (¬3)، وتكون سببًا للاستفادة من التلاوة، وحفظها وثباتها (¬4). وجمهور أهل العلم والتحقيق على أن الاستعاذة مشروعة قبل القراءة، وأن معنى قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} وأي: فإذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله، كقوله - تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (¬5) أي: إذا أردتم القيام إلى الصلاة (¬6)، وكقوله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} (¬7) أي: إذا أردتم القول، وكقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} (¬8) أي: إذا أردتم سؤالهن، فاسألوهن من وراء حجاب، ¬
وكقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَة} (¬1) أي إذا أردتم مناجاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - (¬2). قال القرطبي (¬3): «فأوقع الماضي، مكان المستقبل، كقول الشاعر: إني لأتيكم لذكر الذي مضى ... من الود واستئناف ما كان في غد (¬4) أي ما يكون في غد. وعلى هذا المعنى دلت السنة، كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة بالليل كبر، ثم يقول: «سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك، ثم يقول: الله أكبر كبيرا، ثم يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه» (¬5). وهذا القول هو الصحيح. قال الجصاص (¬6): «وقول من قال: إن الاستعاذة بعد الفراغ من القراءة شاذ، وإنما الاستعاذة قبل القراءة، لنفي وساوس الشيطان عند القراءة، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى ¬
أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} (¬1)، فإنما أمر الله بتقديم الاستعاذة قبل القراءة لهذه العلة». بل حكي الإجماع عليه. قال مكي في كتابه «الكشف عن وجوه القراءات السبع» (¬2): «فإن قيل: فإن ظاهر النص أن يتعوذ القارئ بعد القراءة، لأنه قال {فَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ} والفاء بعدما قبلها، تتبعه هو أصلها، فالجواب: أن المعنى على خلاف الظاهر، معناه: فإذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله، ودل على ذلك الإجماع أن الاستعاذة قبل القراءة، ودليل هذا المعنى قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَاسُنَا} (¬3)، فوقع في ظاهر التلاوة أن مجيء البأس بعد الهلاك، وليس المعنى على ذلك، إنما معناه: وكم من قرية أردنا إهلاكها، فجاءها بأسنا. فمجيء البأس، بعد إرادة الهلاك، وقبل الهلاك، وكذلك التعوذ، المأمور به، يكون بعد إرادة القراءة، وقبل القراءة، على أصل الفاء». وقد ضعف ابن الجزري (¬4) صحة المروي في هذا، عن حمزة وأبي حاتم، وأبي هريرة وابن سيرين والنخعي، في أنها بعد القراءة، وقال: «محلها قبل القراءة إجماعًا، ولا يصح قول، بخلافه، عن أحد ممن ¬
يعتبر قوله». واتفق القراء، على مشروعية التعوذ، قبل البسملة، في ابتداء السور، واختلفوا فيما إذا ابتدأ القارئ بوسط السورة، هل يتعوذ، أو يبسمل، أو يجمع بينهما. والصحيح أنه يتعوذ فقط. ويقف بعد الاستعاذة ثم يقرأ، ويجوز أن يصل الاستعاذة بالقراءة (¬1). واستثنى بعض أهل العلم، مثل قوله - تعالى: {الله لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} (¬2) وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ} (¬3)، وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} (¬4)، وقوله تعالى: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} (¬5)، ونحوها من الآيات، نظرًا لما في الاستعاذة قبلها من قبح اللفظ. قالوا: ففي مثل هذه المواضع يستعيذ ثم يبسمل (¬6). وهذا الاستثناء لا دليل عليه، بل الدليل على خلافه، لأن الأمر بالاستعاذة عام لكل قراءة للقرآن، من أي موضح منه كانت القراءة، والبسملة - على الصحيح - لا تشرع إلا في أول السورة. والتعليل بقبح ¬
اللفظ لا يكفي مسوغًا للبسملة وسط السورة بلا دليل، لكن كما يشرع الوقف على كثير من آي القرآن لمراعاة اللفظ والمعنى، فكذلك ينبغي أن يقف القارئ بعد الاستعاذة ويسكت قليلًا في مثل هذه المواضع المذكورة، وبهذا يزول القبح.
ب - حكمها عند قراءة القرآن، في الصلاة أو خارجها
ب - حكمها عند قراءة القرآن، في الصلاة أو خارجها: اختلف أهل العلم في حكم الاستعاذة عند القراءة. فذهب بعض أهل العلم إلى أنها واجبة في الصلاة وخارجها (¬1). منهم عطاء (¬2)، واختاره ابن حزم في المحلي (¬3)، وانتصر له. وقد استدل من ذهب إلى هذا القول بظاهر الآية {فَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (¬4). قالوا فالأمر يقتضي الوجوب، كما استدلوا بمواظبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على التعوذ وتعليمه ذلك لأصحابه، وبأن شر الشيطان يجب دفعه بكل وسيلة، وأعظم وسيلة لدفعه هي اللجوء إلى الله، والاستعاذة به من شر الشيطان، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب (¬5). فعلى هذا إذا نسي القارئ أن يستعيذ قطع القراءة فتعوذ، وابتدأ من حيث وقف، وقيل من أول الحزب. ¬
وجمهور أهل العلم من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم، على أن الاستعاذة مستحبة، قبل كل قراءة للقرآن، سواء كان ذلك في الصلاة، أو خارجها. وهذا مروي عن ابن عمر، وأبي هريرة (¬1)، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، وابن سيرين، وإبراهيم النخعي، والأوزاعي، والثوري (¬2). وهو قول أبي حنيفة، وأصحابه (¬3)، وأحمد بن حنبل، وأصحابه (¬4)، وإسحاق (¬5)، وهو الذي اختاره أكثر الشافعية، وصححوه عن الشافعي (¬6). وحملوا الأمر في الآية: {فَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} على الندب والاستحباب، كقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (¬7) وقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} (¬8). وقد استدلوا لهذا القول بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يذكر كثيرًا من الآيات ¬
ضمن الأحاديث التي صحت عنه - وما نقل عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يستعيذ، فدل هذا على أن الأمر هنا ليس للوجوب. وقال الطبري (¬1): يستدل له بإجماع الجميع على عدم وجوبها (¬2). وقال السرخسي في «المبسوط» (¬3) بعد أن ذكر قول عطاء بوجوبها: «وهو مخالف للإجماع السلف فقد كانوا مجمعين على أنها سنة». وقال ابن عطية (¬4): «أجمعوا على استحسان ذلك والتزامه في كل قراءة في غير الصلاة». وقال ابن هبيرة في «الافصاح» (¬5): «واتفقوا على أن التعوذ في الصلاة على الإطلاق قبل القراءة سنة إلا مالكًا، فإنه قال: لا يتعوذ في المكتوبة». وقال النووي في «التبيان» (¬6): «ثم إن التعوذ مستحب وليس بواجب، وهو مستحب لكل قاراء، سواء كان في الصلاة أو هي غيرها». وقال ابن كثير (¬7): «وجمهور العلما، على أن الاستعاذة مستحبة، ¬
ج - هل يتعوذ في الصلاة في كل ركعة، أو في الركعة الأولى فقط
ليست بمتحتمة، يأثم تاركها». ومعلوم أن التعوذ في إنما شرع للتلاوة المجردة، وشرع في البصلاة لأجل التلاوة (¬1)، لا لأنه من واجبات الصلاة أو سننها، بل لأنه مستحب قبل قراءة القرآن مطلقًا، لعموم قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)} فذلك شامل للقراءة في الصلاة وفي غيرها. وإذا قطع القراءة في غير الصلاة لعذر كعطاس أو كلام يتعلق بمصلحة القراءة فإنه لا يعيد الاستعاذة، وأما لو قطعها إعراضًا عن القراءة، أو لكلام لا يتعلق بالقراءة، فإنه يستأنف الاستعاذة استحبابًا (¬2). ج - هل يتعوذ في الصلاة في كل ركعة، أو في الركعة الأولى فقط: أكثر أهل العلم، على أن قراءة الصلاة كلها كقراءة واحدة، يكفي فيها الاستعاذة مرة واحدة، في الركعة الأولى. منهم عطاء (¬3) والحسن البصري (¬4) ¬
والنخعي (¬1) والثوري (¬2) وابن سيرين (¬3) وطاوس (¬4)، وأبو حنفة (¬5)، والشافعي (¬6)، وأحمد في رواية عنه (¬7) واذا نسي أن يتعوذ الركعة الأولى، تعوذ في الركعة الثانية عند الشافعي (¬8). وقال الإمام أحمد «إن نسي التعوذ حتى شرع في القراه ة لم يعد إليه لذلك» (¬9). واستدلوا بعموم قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ}. وبحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نهض من الركعة الثانية استفتح القراءة، ولم يسكت» (¬10). قال ابن القيم - (رحمه الله) - في «زاد المعاد» (¬11) بعدما ذكر الرواية عن أحمد: «الاكتفاء باستعاذة واحدة أظهر - ثم استدل بحديث أبي ¬
هريرة ثم قال: «وإنما يكفي استعاذة واحدة، لأنه لم يتخلل القراءتين سكوت، بل تخللهما ذكر، فهي كالقراءة الواحدة، إذا تخللها حمد الله، أو تسبيح، أو تهليل، أو صلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحو ذلك». وعلى هذا فيكتفي المصلي بالاستعاذة في الركعة الأولى، ثم يبسمل، ويقرأ الفاتحة، فإن قرأ بعدها من أول سورة بسمل فقط، وإن قرأ من وسط السورة تركهما معًا، أما في بقية الركعات فيبسمل مع الفاتحة، وفي أول السورة فقط، ولا يستعيذ، لا مع الفاتحة ولا مع ما يقرأ بعاها. وذهب بعض العلماء إلى أن المصلي يتعوذ في كل ركعبة، لأن كلل ركعة لها قراءة مستقلة. وهو مروي عن النخعي (¬1) وابن سيرين (¬2). وهو أحد الوجهين عند الشافعية (¬3)، بل صححه بعضهم. قال النووي قي «التييات» (¬4): «ويستحب التعوذ في الصلاة في كل ركعة على الصحيح من الوجهين عند أصحابنا». وهو رواية عن الإمام أحمد (¬5). واختاره ابن حزم في ¬
د - حكم الحهر بها، أو الإسرار
«المحلي» (¬1). وذهب الإمام مالك إلى أنه لا يتعوذ الرجل في المكتوبة، ولكن يتعوذ في قيام رمضان، وفي رواية في النافلة (¬2). د - حكم الحهر بها، أو الإسرار: أما في غير الصلاة فذهب جمهور القراء إلى أن القارئ، يجهر بالاستعاذة. قال مكي في «التبصرة» (¬3): «المختار لجميع القراء، المعول عليه، أن يبدأ بأعوذ بالله من الشيطان الرجيم» يعني جهرًا. وذهب بعض القراء إلى أن القاراء يُسر بالاستعاذة. وهو مروي عن حمزة (¬4)، ونافع (¬5)، وقيل: إن نافعًا لا يتعوذ (¬6). قال مكي في «الكشف عن وجوه القراءات السبع» (¬7) بعدما ذكر ¬
هـ - وأما حكم الجهر بها في الصلاة
القول بالأسرار: «لئلا يظن ظان أو يتوهم متوهم أمه من القرآن، أو أنه فرض لازم». أما الذين اختاروا الجهر بها فقالوا: قد عُلم يقينًا أنها ليست من القرآنن فلا محذور في الجهر بها، وهو أولى لإغاظة الشيطان، ودفع وساوسه، وتعليم الجاهل، وتذكير المستمع إلى غير ذلك من فوائد الجهر بها. هـ - وأما حكم الجهر بها في الصلاة: فهذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من القراء والفقهاء إلى مشروعية الأسرار بالاستعاذة في الصلاة: منهم الخلفاء الأربعة (¬1)، وعبد الله بن عمر (¬2)، وعبد الله بن مسعود (¬3)، وإبراهيم النخعي (¬4). وبه قال أبو حنيفة (¬5)، وأحمد بن حنبل (¬6)، وهو وجه في مذهب ¬
الشافعي (¬1)، وقول مالك في قيام الليل (¬2). وذهب بعض أهل العلم إلى الجهر بالاستعاذة في الصلاة وهو مروي عن أبي هريرة (¬3). وهو اختيار الشافعي في «الإملاء» (¬4) قال: «يجهر بالتعوذ، وإن أسر فلا يضر». وقال بعضهم بالتخيير بين الجهر والإسرار. وهو وجه في مذهب الشافعي (¬5). قال ابن أبي ليلى: «الإسرار والجهرسواء، هما حسنان» (¬6). والصحيح من أقوال أهل العلم، الإسرار بها، وعدم الجهر، إلا لحاجة كتعليم ونحوه. قال السرخسي (¬7): «لأن الجهر بالتعوذ لم ينقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولوكان يجهر به لنقل نقلًا مستفيضًا ...». ¬
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (¬1): «الجهر بالتعوذ أحيانًا للتعليم ونحوه لا بأس به، كما كان عمر بن الخطاب، يجهر بدعاء الاستفتاح مدة (¬2) ... وأما المداومة على الجهر بذلك، فبدعة، مخالفة لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين، فأنهم لم يكونوا يجهرون بذلك دائمًا، بل لم ينقل أحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه جهر الاستعاذة والله أعلم». وقال ابن الجزري (¬3) «المختار في الصلاة الاخفاء». ولكن إذا جهر الإمام ولم يسكت، قهل يستعيذ المأموم، أولًا، فيه قولان لأهل العلم، وهما روايتان عن الإمام أحمد (¬4)، القول الأول يستعيد، والثاني لا يستعيذ. قال ابن تيمية (¬5) «هو أصح، وهو قول أكثر العلماء كذلك والشافعي، وكذا أبو حنيفة فيما أظن». قلت وقد اختار القول الأول بأنه يستعيذ كما يبسمل - وإن لم يسكت الإمام - تبعًا لقراءة الفاتحة بعض أهل العلم (¬6). **** ¬
المبحث السادس المواضع التي تشرع فيها الاستعاذة
المبحث السادس المواضع التي تشرع فيها الاستعاذة تشرع الاستعاذة في مواضع كثيرة منها ما يلي: 1 - عند قراءة القرآن، قال الله تعالى: {فَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)} (¬1)، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)} (¬2). 2 - عند حصول نزغ من الشيطان، ووسوسة للإنسان، قال الله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَّمِيعُ عَلِيمُ} (¬3). وقال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)} (¬4). وقال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} (¬5). وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)} (¬6). 3 - عندما يوسوس الشيطان للمسلم في معتقده بربه. فعن أبي ¬
هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يأتي الشيطان أحدكم، فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول من خلق ريك، فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته» متفق عليه (¬1). 4 - عندما يلبس الشيطان، على الإنسان في صلاته. فعن عثمان بن أبي العاص - رضي الله عنه - أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يارسول الله، إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي، وقراءتي، يلبسها علي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ذاك شيطان، يقال له خنزب، فإذا أحسسته، فتعوذ بالله منه، واتفل على يسارك ئلائًا، قال: ففعلت ذلك، فأذهبه الله عني» رواه مسلم (¬2). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان، وله ضراط حتى لايسمع التأذين، فإذا قضي الندا، أقبل، حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر، حتى إذا قضي التثويب أقبل، حتى يخطر بين المرء فى نفسه، يقول: اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكر، حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى»، متفق عليه (¬3). 5 - عند الغضب، فقد أخرج البخاري ومسلم عن سليمان بن صرد - رضي الله عنه - قال استبَّ رجلان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن عنده ¬
جلوس، وأحدهما يسب صاحبه، مغضبًا قد احمر وجهه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «إني لأعلم كلمة لو قالها، لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. فقالوا للرجل: ألا تسمع ما يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني لست بمجنون» (¬1). 6 - عندما يرى الإنسان رؤيا يكرهها، فعن أبي قتادة - رضي الله عنه -، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقو ل: «الرؤيا من الله والحلم من الشيطان، فإذا رأى أحدكم شيئًا يكرهه، فلينفث عن يساره ثلاثًا، ويتعوذ بالله من شرها، فإنها لن تضره»، وفي رواية: «وليتعوذ بالله من شر الشيطان وشرها ... ، فإنها لن تضره» متفق عليه (¬2). وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها، فليبصق عن يساره، وليتعوذ بالله من الشيطان، ويتحول عن جنبه الذي كان عليه» رواه مسلم (¬3). 7 - عند دخول المسجد. فعن عبد الله بن عمره بن العاص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه: كان إذا دخل المسجد قال: «أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم» (¬4). ¬
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا دخل أحدكم المسجد، فليسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم ليقل اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليسلم على النبي، وليقل اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم» (¬1). 8 - عند سماع نهيق الحمار، ونُباخ الكلاب. فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي قال: «إذا سمعتم صياح الديكة فسلوا الله من فضله، فإنها رأت ملكًا، وإذا سمعتم نهيق الحمار، فتعوذوا بالله من الشيطان، فإنه رأى شيطانًا» متفق عليه (¬2). وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا سمعتم نباح الكلاب، ونهيق الحمر بالليل فتعوذوا بالله فإنهن يرين مالا ترون» رواه أبو داود (¬3). 9 - عند نزول منزل. فعن خولة بنت حكيم قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من نزلا منزلًا، ثم قال: أعوذ بكلمات الله التامات، من شر ما خلق، لم يضره شيء، حتى يرتحل من منزله ذلك» رواه ¬
مسلم (¬1). 10 - عند دخول الخلاء - فعن أنس - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء قال: «اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث» (¬2). 11 - عندما يجد الإنسان وجعًا في جسده. فعن عثمان بن أبي العاص أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ضع يدك على الذي يألم من جسدك، وقل: بسم الله ثلاثًا، وقل سبع مرات: أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر» رواه (¬3). 12 - عند الصباح والمساء وعند النوم. عن أبي هريرة أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - قال يا رسول الله مرني بكلمات أقولهن، إذا أصبحت، وإذا أمسيت، قال «قل اللهم فاطر الموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، رب كل شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بالله من شر نفسي، وشر الشيطان وشركه. قال: قلها إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك» (¬4). ¬
13 - عند الفزع من النوم: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا فزع أحدكم من النوم، فليقل: أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وشر عباده، ومن همزات الشياطين. وأن يحضرون» (¬1). 14 - كما يشرع للمسلم أن يعوذ أولاده: فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوذ الحسن والحسن، ويقول: «أن أباكما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق: أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة» رواه البخاري (¬2). إلى غير ذلك من الدافع والأوقات، التي تتأكد فيها مشروعية الاستعاذة، قال الله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)} (¬3). قال ابن زيد: «في كل شيء من أمري» (¬4). ¬
المبحث السابع بيان أن شيطان الجن أعظم ضررا من شيطان الإنس ومن النفس «المذمومة»
المبحث السابع بيان أن شيطان الجن أعظم ضررًا من شيطان الإنس ومن النفس «المذمومة» أ- شيطان الجن أعظم ضررًا من شيطان الإنس: قال ابن كثير (¬1) في كلامه على الاستعاذة: «وهي استعانة بالله، واعترافه له بالقدرة، وللعبد بالضعف والعجز، عن مقاومة هذا العدو المبين الباطني، الذي لا يقدر على منعه، ودفعه إلا الله، الذي خلقه، ولا يقبل مصانعة، ولا يدارى بالإحسان، بخلاف العدو من نوع الإنسان، كما دلت على ذلك آيات من القرآن، في ثلاث من المثاني، وقال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)} (¬2). وقد نزلت الملائكة لمقاتلة العدو البشري، فمن قتله العدو الظاهر البشري كان شهيدًا، ومن قتله العدو الباطني كان طريدًا، ومن غلبه العدو الظاهري كان مأجورًا، ومن قهره العدو الباطني، كان مفتونًا، أو موزورًا، ولما كان الشيطان، يرى الإنسان من حيث لا يراه، استعاذ منه بالذي يراه، ولا يراه الشيطان» (¬3). ¬
وقال ابن كثير - أيضًا (¬1) -: «فإن الشيطان لا يكفه عن الإنسان إلا الله، ولهدا أمر - تعالى - بمصانعة شيطان الإنس، ومداراته بإسداء الجميل إليه، ليرده طبعه عما هو فيه من الأذى، وأمر بالاستعاذة به من شيطان الجن، لأنه لا يقبل رشوة، ولا يؤثر فيه جميل، لأنه شرير بالطبع، ولا يكفه عنك إلا الذي خلقه، وهذا المعنى في ثلاث آيات من القرآن، لا أعلم لهن رابعة: قوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَامُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} (¬2) فهذا ما يتعلق بمعاملة الأعداء من البشرن ثم قال {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)} (¬3)، وقال تعالى في سورة: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)} (¬4)، وقال تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)} (¬5) قال ابن الجزري (¬6): ¬
شيطاننا المغوي عدو فاعتصم ... بالله منه والتجى وتعوذ وعدوك الإنسان دار وداده ... تملكه وادفع بالتي فإذا الذي فشيطان الإنس، قد ينفع فيه العفو، أو الأمر بالمعروف، أو الإعراض، أو الإحسان. أما شيطان الجن، فلا يعصم منه إلا الاستعاذة بالله منه، لأن شيطان الجن متسلط، لا يريد إلا إغواء الإنسان، وإهلاكه، وهو خفي لا يرى كما قال تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} (¬1). ولأنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، كما قال - صلى الله عليه وسلم - «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» (¬2). فامره خطير، وكيده عجيب (¬3)، فهو يتدرج بالإنسان - إن وجد سبيلًا إليه - حتى يوقعه بالكفر ويكبه في النار. قال تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ} (¬4)، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} (¬5). وإن لم يستطيع إيصاله إلى الكفر، بل إلى أعظم دركاته، فإنه ¬
لا يكف حتى يوصله إلى أقصى حد يمكنه إيصاله إليه، ولو كان دون الكفر، فيوقعه في البدعة، فإن لم يستطع أوقعه في الكبائر، فإذ لم يستطع أوقعه في الصغائر، فإن لم يستطع ثبطه عن الطاعات وشغله بالمباحات، فإن لم يستطع شغله بالمفضول عن الفاضل، فإن لم يستطع ذلك أتاه من باب الإعجاب والكبر والرياء، وهذا - في الغالب - مدخله على كثير من العباد والعلماء وذوي الجاه والسلطان والكرم والشجاعة ونحوهم، فليحذر العاقل اللبيب، من ذلك فإن الشيطان عندما يعجز عن حمله على ترك واجب أو انتهاك محرم ظاهر، فإنه يأتيه من هذا المدخل الخفي فيحبط عمله، وهو لا يدري. فإن لم يدرك منه شيئًا من هذه المراتب وأعيته فيه الحيل سلط عليه حزبه من شياطين الإنس والجن يبدعونه ويفسقونه ليشوش عليه قلبه ويمنع الناس من الانتفاع به فيبقى في مدافعة وتسلط هؤلاء الشياطين لا يفتر جتى يأتيه من ربه اليقين (¬1). ب- الشيطان أعظم ضررًا على الإنسان من النفس «المذمومة» (¬2)، بل إن النفس المذمومة كل ما يحصل منها من شر وفساد، إنما هو بسبب تزيين الشيطان، ووسوسته، لأنها مركب الشيطان، والأداة لتنفيذ شره، ولهذا أكثر الله في القرآن الكريم من ذكر الشيطان، وذمه، والتحذير منه، في مواضع كثيرة جدًا. وأمر بالاستعاذة منه عند قراءة القرآن. بينما ذكر النفس المذمومة في ثلاثة مواضع فقط، في قوله - ¬
تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوء} (¬1)، وقوله: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَة} (¬2)، وقوله: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} (¬3). ولم يأمر بالاستعاذة منها في موضع واحد من القرآن، وإنما جاءت الاستعاذة من شرها بالسنة، كما في حديث أبي هريرة، في تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر كلمات يقولهن إذا أصبح، وإذا أمسى، وإذا أخذ مضجعه، وفيهن أمره - صلى الله عليه وسلم - له أن يقول «أعوذ بالله من شر نفسي» (¬4). وفي خطبة الحاجة كما في حديث ابن مسعود قال: علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبة الحاجة: «إن الحمه لله نستعينه ونستغفره ونعوذ به من شرور أنفسنا ... الحديث» (¬5). **** ¬
المبحث الثامن السبيل للخلاص من شر الشيطان ومكايده
المبحث الثامن السبيل للخلاص من شر الشيطان ومكايده ابتلى الله آدم وذريته، بعداوة إبليس لهم، عداوة متأصلة، قديمة منذ أن تكبر عن السجود لآدم وحسده، وتسبب في إخراجه من الجنة، قال الله - تعالى: {يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)} (¬1). وقال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)} (¬2). وقال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)} (¬3). وقال تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)} (¬4). وقد أقسم - لعنه الله - على أنه سيعمل جاهدًا على إغواء بني آدم، فقال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} (¬5)، وقال - أيضًا - {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39)} (¬6)، وقال: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)} (¬7). ¬
وقد جعل الله له سلطانًا على الذين يتولونه، فقال: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)} (¬1)، وقال تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ وَعِدْهُمْ} (¬2). وقد طلب أن يُنظر إلى يوم القيامة، فأعطاه الله ذلك، ابتلاء واختبارًا للعباد، فقال تعالى: {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81)} (¬3). وهو ساع بكل الوسائل والحيل، إلى إغواء بني آدم، وإهلاكهم، فعلى المسلم أن يحذر من هذا العدو، وأن يعلم أن أسباب الخلاص منه، وأسباب حفظ الله للعبد من شر الشيطان ومكايده تتلخص فيما يلي:- أولًا: بالإيمان والعمل الصالح، ولزوم الكتاب والسنة، وطاعة الله - تعالى - والتوكل عليه، قال الله - تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)} (¬4)، وقال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} (¬5). ¬
وعن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من صلى الصبح فهو فى ذمة الله ...» الحديث رواه مسلم (¬1) ومفهوم هذا الحديث، وأمثاله أن من لم يصل الصبح فليس في ذمة الله، بل هو عرضه لتخبط الشيطان. وهكذا - بلا شك - كل تقصير في أداء ما أوجب الله - تعالى، فهو سبب لفقدان الأمان، الذي وعد الله به أهل الإيمان (¬2)، ومقرب من المخاوف ومصائد الشيطان. ثانيًا: البعد عن معاصي الله لأن ما يصيب الإنسان من مصائب، ومنها تسلط الشيطان، فهو بسبب الذنوب والمعاصي .. قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} (¬3) وقال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} (¬4). فينبغي تطهير القلب والنفس والجوارح عن كل ما نهى الله عنه، من الاعتقادات والأعمال التي تكون مجلبة للشيطان وسببًا لبعد الملائكة عن الإنسان. كالتعلق بالغناء والمزامير، قال تعالى مخاطبًا الشيطان: {وَاسْتَفْزِزْ ¬
مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} (¬1). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الجرس مزامير الشيطان» رواه مسلم (¬2). وكاقتناء الصور والتماثيل والكلاب. فعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن جبريل قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنا لا ندخل بيتًا فيه صور ولا كلب» رواه البخاري (¬3). عن أبي طلحة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا صورة تماثيل» متفق عليه (¬4). وكاقتناء الصليب، فعن عائشة - رضي الله عنها - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يترك في بيته شيئًا فيه تصاليب إلا نقضه» (¬5). إلى غير ذلك من المعاصي الظاهرة والباطنة التي ينبغي البعد عنها والحذر منها. ثالثًا: الاستعاذة بالله من الشيطان وهمزاته ووساوسه، وجميع شروره، والحذر منه، والاعتصام بالله - تعالى - والالتجاء إليه، ¬
بالألفاظ التي صحت في الاستعاذة، وبالمعوذتين، فإنه ما تعوذ متعوذ بمثلهما. وملازمة ذلك في جميع المواضع والأوقات التي شرع فيها التعوذ - مع الاعتقاد الجازم بأن النفع والضر بيد الله، وأنه - جل - وعلا - هو القادر على دفع شر الشيطان، مع قوة الاعتماد على الله والثقة. بهء وتيقن أن كيد الشيطان ضعيف، كما قال تعالى: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)} (¬1)، فغاية ما عنده الوسوسة كما قال - صلى الله عليه وسلم - «الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة» (¬2). ومع أن له تسلطًا على بني آدم، فهو لا يعلم الغيب، قال الله تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَاكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)} (¬3)، وقال تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (¬4)، وقال تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} (¬5)، وقال تعالى: {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} (¬6)، وأيضًا - وكما تقدم - فليس له سلطان ¬
على الذين آمنوا. قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)} (¬1). وتسلطه على كثير من المسلمين، وتزيينه لهم المعاصى، إنما هو بسبب ضعف إيمانهم ووقوعهم فى المعصية، المؤدية بهم إلى ما هو أعظم منها، كما قال تعالى عن الكفار: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)} (¬2)، وقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} (¬3) وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» (¬4): أى أن إيمانه يضعف فيتسلط عليه الشيطان فيوقعه فى الزنا والمعاصي المذكورة فى الحديث، وغيرها. رابعًا: ملازمة قراءة القرآن فذلك مما يحصن المسلم ويحفظه بإذن الله من الشياطين. قال تعالى: {إِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآَنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)} (¬5). وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36)} (¬6). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، فإن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة» رواه مسلم (¬7). وإذا نفر الشيطان حفت ¬
الملائكة بالإنسان، كما في حديث أبي سعيد الخدري في قصة أسيد حضير حين قام يقرأ القرآن، فجالت فرسه، وفيه ذكر شهود الملائكة لقراءته (¬1). خامسًا: ملازمة الأذكار والأدعية والأوراد الموظفة اليومية كأدعية الصباح والمساء والنوم وغيرها. قال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)} (¬2). فإن ملازمة هذه الأذكار، مما يحفظ الله به المسلم من الشيطان. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)} (¬3). وفي حديث أبي هريرة في قصة مجئ الشيطان إليه عندما كان يحرس الطعام وفيه «إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي، لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان، حتى تصبح» رواه البخاري (¬4). وفي حديث أبي مسعود الأنصاري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قرأ الآيتين، من آخر سورة البقرة كفتاه» متفق عليه (¬5). ¬
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، في يوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتب له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيثة، وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك، حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر من ذلك» متفق عليه (¬1). وكما في حديث أبي هريرة من أن الشيطان إذا سمع الأذان أدبر وله ضراط (¬2). سادسًا: أن يجعل المسلم شيئًا من صلاة النوافل في بيته، بل الأولى أن تكون النوافل كلها في البيت لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» متفق عليه (¬3). وذلك أن صلاة النوافل في البيت مما يطرد الشيطان، ولهذا قال: - صلى الله عليه وسلم -: «اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تتخذوها قبورًا» متفق عليه (¬4). وذلك لأن المقابر، والأماكن الخربة، والمستقذرة، مساكن ¬
الشياطين، حيث تخلو هذه الأماكن من ذكر الله. سابعًا: الإمساك عن فضول النظر والكلام والطعام ومخالطة الأنام فإن الشيطان إنما يتسلط على ابن آدم وينال منه غرضه من هذه الأبواب (¬1). فهذا مجمل الأسباب التي بها يخلص الله الإنسان، ويحفظه من شر الشيطان ومكائده، والتي تبين بها ضعف كيد الشيطان أمام قوة الإيمان والاعتصام بالملك الديان. وبهذا يرد على الذين يسهولون من أمر الشيطان سواء كان ذلك منهم عن جهل مع حسن النية والمعتقد أو كانوا ممن ابتلوا بخدمة هؤلاء الشياطين لأغراض مادية ونحو ذلك ولو كان ذلك على حساب دينهم، حتى صار فئام من الناس يتخوفون من الشياطين ويصدقونهم ويعتقدون فيهم ما لا يجوز اعتقاده من أنهم يعلمون الغيب. ويستطيعون أن يفعلوا، وأن يفعلوا، وهذا باطل، قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)} (¬2)، وقال تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (¬3)، وقال تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (¬4)، وقال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} (¬5). **** ¬
الفصل الثاني البسملة: معناها، وأحكامها
الفصل الثاني البسملة: معناها، وأحكامها وفيه تسعة مباحث: المبحث الأول: لفظ البسملة، وإعرابها. أ- لفظها. ب - إعرابها. المبحث الثاني: معنى البسملة. المبحث الثالث: هل البسملة آية مستقلة من القرآن الكريم، أو من سورة الفاتحة، أو من كل سورة سوى «براءة»، أو ليست بآية؟. المبحث الرابع: السبب في عدم كتابة البسملة في مطلع سورة براءة. المبحث الخامس: حكم قراءة البسملة في غير الصلاة. المبحث السادس: حكم قراءة البسملة في الصلاة. المبحث السابع: حكم البسملة من حيث الجهر بها والإسرار هي الصلاة، أو خارجها. المبحث الثامن: المواضع التي تشرح فيها البسملة. المبحث التاسع: فوائد البسملة، والأحكام التي تضمنتها.
المبحث الأول لفظ البسملة، وإعرابها
المبحث الأول لفظ البسملة، وإعرابها أ - لفظها:- لفظ البسملة المشروع هو: بسم الله الرحمن الرحيم عند جميع القراء (¬1)، وباتفاق أهل العلم. فلا يصح أن يقال عند القراءة: باسمك اللهم اقرأ، ولا عند الذبح: باسمك اللهم أذبح ... ، ولا يصح استبدال لفظ الجلالة «الله» ولا اسمي «الرحمن»، «الرحيم» بغيرها من أسمائه - جل وعلا. ب - إعرابها:- {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} بسم الله: الباء حرف الجر. اسم: اسم مجرور بالباء، وعلامة جره الكسرة، وحذفت منه الألف لفظًا وخطًا، تخفيفًا لكثرة الاستعمال (¬2)، ولا تحذف إلا مع لفظ الحلالة، ولهذا أثبتت في قوله تعالى: {اقْرَا بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (¬3). ¬
وهو نائب عن المصدر «تسمية» كقول القطامي (¬1). أكفرا بعد رد الموت عني ... وبعد عطائك المائة الرتاعا أي بعد إعطائك، فأناب «عطاء» عن المصدر «إعطاء» (¬2) وهذا كثير في اللغة. والجار والمجرور في محل نثب متعلقان بفعل محذوف (¬3). قدره الكوفيون متقدمًا، نحو: أبتداء باسم الله، أو ابتدأ باسم الله، على الأمر، كقوله تعالى: {اقْرَا بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} وقدره بعضهم متأخرًا نحو: باسم الله أبتداء، باسم الله أقرأ. أو متعلق باسم محذوف وقع خبرًا، قدره البصريون وأكثر النحويين متقدمًا نحو ابتدائي كائن، أو مستقر باسم الله، أو ابتدائي باسم الله. وقدره بعضهم اسمًا متأخرًا، ومنه قوله تعالى: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬4) فـ (بسم الله) متعلق ¬
بـ (مجريها). وكل هذه التقادير صحيحة (¬1). لكن الأولى - كما اختاره بعض المحققين - أن يكون المقدر فعلًا متأخرًا خاصًا: أي مناسبًا لما يسمى علية. فكونه فعلًا لأن الأصلى في العمل هو الأفعال، فهي تعمل بدون شروط، أما الأسماء فما يعمل منها كاسم الفاعل، واسم المفعول، والصفة المشبهة، إنما يعمل بشروط. وكونه متأخرًا تيمنًا وتبركًا بالبداءة باسم الله، ولإفادة الحصر (¬2)، لأن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر، كقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (¬3). فالمعنى: لا أقرأ إلا باسم الله، ولا أتوضأ إلا باسم الله، ولا أذبح إلا باسم الله، وهكذا وكونه خاصًا مناسبًا لما يسمى عليه ليكون أدل على المقصود، وأبين للمراد (¬4). فعند القراءة يكون التقدير: باسم الله أقرأ، وعند الوضوء: باسم ¬
الله أتوضأ، وعند الذبح: باسم الله أذبح، وهكذا (¬1). ويدل على التخصيص قوله تعالى في الآيتين السابقتين: {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} (¬2)، وقوله: {اقْرَا بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)} وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ومن لم يذبح فيلذبح باسم الله» (¬3) فقدر في الآية الأولى اسمًا خاصًا، وهو مجريها، وفي الآية الثانية فعلًا خاصًا وهو اقرأ وفي الحديث فعلًا خاصًا وهو «يذبح». الله: لفظ الجلالة مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الكسرة الظاهرة على آخره. الرحمن الرحيم: صفتان للفظ الجلالة، كل منهما مجرورة، وعلامة جرها الكسرة الظاهرة على آخرها. **** ¬
المبحث الثاني معنى البسملة
المبحث الثاني معنى البسملة بسم الله: الباء للاستعانة: أي بسم الله أقرأ، أو أتوضأ، مستعينًا به، ومتيمنًا، ومتبركًا (¬1). واسم: الاسم مأخوذ من الوسم، وهو العلامة، لأن الاسم علامة على من وضع له، وهذا اختيار الكوفيين وطائفة من النحويين. وذهب البصريون وأكثر النحويين إلى أنه مأخوذ من السمو، وهو العلو والارتفاع، لأن الاسم يسمو بالمسمى، فيرفعه عن غيره، وقيل لأن الاسم علا بقوته على الفعل والحرف، لأنه الأصل. وقول الكوفيين أظهر من حيث المعنى، وهو أن الاسم علامة على من وضع له، لكن تصريف اسم وجمعه يقوي قول البصريين: إنه من السمو، وهو العلو والارتفاع فهو يجمع على أسماء وأسامي، ويصغر على سمي، ولو كان من السمة، لكان أصله «وسم»، وجمع على «أوسام»، وصغر على «وسيم» لأن الجمع والتصغير يردان الأشياء إلى أصولها (¬2). ¬
وقد لا يمتنع أن يكون الاسم مأخوذًا من المعنيين معًا، لأن الاسم يظهر المسمى، فيكون فيه معنى العلو والارتفاع، ويميزه عن غيره فيكون فيه معنى العلامة. واسم: اسم مفرد أضيف إلى لفظ الجلالة - كما تقدم - وهو معرفة، فاستفاد العموم، فيعم جميع أسماء الله الحسنى، فالمعنى بكل اسم من أسماء الله (¬1). و «الله» علم على «الرب» تبارك وتعالى خاص به سبحانه ولا يجوز أن يسمى به غيره. قال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)} (¬2). قال سيبويه «وهو أعرف المعارف» وهو أصل أسمائه الحسنى، ودال عليها جميعًا، وعلى صفاته العليا (¬3). بل قيل إنه الاسم الأعظم (¬4). وتأتي أسماء الله - تعالى - تابعة لهذا الاسم، وأوصافًا له، ومضافة إليه (¬5) قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ ¬
الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)} (¬1). وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (¬2). وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (¬3)، وقال تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (¬4). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال: «إن لله تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة» متفق عليه (¬5). ولهذا يقال: الرحمن والرحيم والحكيم من أسماء الله، ولا يقال: الله من أسماء الرحمن، أو من أسماء الرحيم أو من أسماء الحكيم. وقد يأتي لفظ الجلالة «الله» تابعًا لغيره من الأسماء، كما في قوله تعالى: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ¬
الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2)} (¬1). فلفظ الجلالة «الله» على قراءة الجر عطف بيان، تابع للاسم الذي قبله. واختلف هل لفظ الجلالة (الله) مرتجل أو مشتق. فقيل إنه مرتجل غير مشتق، والألف واللام لازمه له، لا لتعريف، ولا لغيره، بدليل دخول حرف النداء عليه، وبدليل أنه لا يثنى، ولا يجمع. وهو اختيار الخليل وسيبويه والزجاج وأكثر الأصوليين والفقهاء (¬2). والصحيح أنه مشتق من «أله» إذا عبد، فهو مصدر في موضع المفعول، من أله الرجل يأله إلهه إذا تعبد وتأله وتنسك (¬3). قال تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} (¬4)، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} (¬5)، وقال تعالى: {أَءلَهٌ مَعَ اللَّهِ} (¬6). قال رؤبة بن العجاج (¬7). ¬
لله در الغانيات المده ... سبحان واسترجعن من تألهي أي من تعبدي وطلبي لله بعملي (¬1). وأصله «إله» حذفت منه الهمزة، وعوض منها حرف التعريف (¬2). ونظيره «الناس»، أصله «أناس». قال الشاعر: إن المنايا يطلـ ... ـن على الأناس الآمنينا (¬3) واختار سيبويه أن أصله «لاه»، فدخلت الألف واللازم للتعظيم (¬4). وأنشدوا قول ذي الإصبع العدواني (¬5): لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب ... عني ولا أنت دياني فتخزوني قال الزمخشري (¬6): «الإله من أسماء الأجناس، اسم يقع على كل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بحق، أما «الله» بحذف الهمزة، فيختص بالمعبود بالحق لم يطلق على غيره». ¬
ومعنى «الله»: أي المألوه المعبود الذي تعبده الخلائق، وتتأله له محبة وتعظيمًا وخضوعًا له، وفزعًا إليه في الحوائج والنوائب (¬1)، لما له من صفات الألوهية، وهي صفات الكمال (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية (¬3). «فإن الله سبحانه هو المستحق للعبادة لذاته لأنه المألوه المعبود الذي تألهه القلوب وترغب إليه، وتفزع إليه عند الشدائد». وقال رحمه الله (¬4): «الله وهو الإله المعبود، فهذا الاسم أحق بالعبادة يتضمن غاية العبد ومصيره ومنتهاه، وما خلق له، وما فيه صلاحه وكماله، وهو عبادة الله، ولهذا يقال: الله أكبر، الحمد لله، سبحان الله، لا إله إلا الله». الرحمن الرحيم: اسمان من أسماء الله - تعالى - مشتقان من الرحمة، وعن عبد الرحمن بن عوف، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «قال الله: أنا الرحمن، وهي الرحم، شققت لها اسمًا من اسمي، من وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته» (¬5). فالرحمن والرحيم مشتقان من ¬
الرحمة، والرحم مشتقة من اسمه تعالى «الرحمن». و «الرحمن» على وزن «فعلان»، و «الرحيم» على وزن «فعيل» كل منهما صفة مشبهة، ومن صيغ المبالغة. لكن «فعلان» أبلغ من «فعيل»، لأن صيغة «فعلان» تدل على الامتلاء، يقال: رجل غضبان أي ممتلئ عضبًا. ولهذا قدم «الرحمن» على «الرحيم» (¬1). والرحيم مشتقان من وكل منهما دال على إثبات صفة الرحمة الواسعة الكثيرة المستمرة العظيمة لله - تعالى، كما قال تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} (¬2). وقال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (¬3)، وقال تعالى: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} (¬4)، وقال تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ (¬5) كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} (¬6). ¬
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين، وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلائق، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها، خشية أن تصيبه» متفق عليه (¬1). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لما قضى الله الخلق، كتب في كتاب، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي» متفق عليه (¬2). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة، ما قنط من جنته أحد» رواه مسلم (¬3). وإذا اجتمع «الرحمن» مع «الرحيم» في مثل البسملة، والفاتحة، وقوله تعالى: {هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (¬4) دل «الرحمن» على إثبات صفة الرحمة الذاتية القائمة به سبحانه، كما قال تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو ¬
الرَّحْمَةِ} (¬1)، وقال تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} (¬2)، وقال تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} (¬3). ودل «الرحيم» على إثبات صفة الرحمة الفعلية لله عز وجل - المتعلقة بالمرحوم - فهو تعالى فاعل الرحمة وموصلها إلى من شاء من عباده، كما قال تعالى: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} (¬4) وقال تعالى: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَا يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَا يُعَذِّبْكُمْ} (¬5). قال ابن القيم رحمه الله (¬6) بعد ما ذكر قول السهيلي: «فائدة الجمع بين الصفتين «الرحمن» و «الرحيم» الإنباء عن رحمة عاجلة وآجلة فى خاصة وعامة ... قال وهو أن «الرحمن» دال على الصفة القائمة به سبحانه، و «الرحيم» دال على تعلقها بالمرحوم، فكان الأول للوصف، والثاني للفعل، فالأول دال على أن الرحمة صفته، والثاني دال على أنه يرحم خلقه برحمته، وإذا أردت فهم هذا فتأمل قوله {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} ولم يجيء قط «رحمن بهم» فعلم أن «الرحمن» هو الموصوف بالرحمة، و «رحيم» هو الراحم برحمته ....» أهـ. ¬
أما إذا جاء كل منهما منفردًا عن الآخر، كما في قوله - تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (¬1) وكما في قوله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} (¬2)، فإن كلا منهما - بمفرده - يدل على إثبات الرحمة لله، باعتبارها صفة ذاتية لله، وباعتبارها صفة فعلية له - تعالى (¬3). والفرق بين «الرحمن» و «الرحيم» من وجوه ثلاثة: الوجه الأول: أن بينهما عمومًا وخصوصًا، من حيث اللفظ، فالرحمن اسم خاص با لله - تعالى - لا يسمى به غيره (¬4)، كاسم «الله»، و «الرزاق». بل إن «الرحمن» يُعد عند طائفة من أهل العلم، ثاني اسم من أسماء الله - تعالى، لقوله - تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا ¬
تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (¬1) وقوله - تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ} (¬2). وإنما تسمى مسيلمة بذلك من باب التعنت والكفر (¬3)، فأذله الله. قال ابن كثير (¬4) - رحمه الله- تعالى: «ولما تجهرم مسيلمة الكذاب، وتسمى برحمن اليمامة، كساه الله جلباب الكذب، وشهر به، فلا يقال إلا مسيلمة الكذاب، فصار يضرب به المثل في الكذب، بين أهل الحضر من أهل المدر، وأهل الوبر من أهل البادية والأعراب». و «الرحيم» اسم عام يجوز أن يوصف به غير الله، كاسم الرؤو ف، والسميع، والبصير، قال - تعالى - عن نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (¬5)، وقال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} (¬6). الوجه الثاني: أن بينهما عمومًا وخصومًا من حيث المعنى ¬
(¬1)، فالرحمن رحمة عامة لجميع الخلق مؤمنهم وكافرهم، وناطقهم وبهيمهم، فى الدنيا والآخرة. فرحمته للمؤمنين فى الدنيا، هدايتهم للحق، وإلى الطريق المستقيم، إلى غير ذلك من نعم الله عليهم، مما هو دون ذلك، ورحمته لهم فى الآخرة، وإدخالهم جنات النعيم، ووقايتهم عذاب الجحيم. ورحمته لكافرين، والبهائم فى الدنيا، ما يتمتعون به من نعم الله، من الصحة والمآكل والمشارب ونحوها. ورحمته لهم فى الآخرة العدك فى حسابهم، كما قال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (¬2)، وقال تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} (¬3) حتى إنه ليقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء» (¬4). قال ابن كثير (¬5) - رحمه الله تعالى - بعد أن ذكر القول بأن «الرحمن» لجميع الخلق و «الرحيم» بالمؤمنين - قال: «ولهذا قال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} (¬6)، وقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (¬7). قال ابن ¬
كثير: «فذكر الاستواء باسمه الرحمن ليعم جميع خلقه برحمته». وقال الشنقيطي (¬1) - رحمه الله تعالى - بعد أن ذكر كلام ابن كثير السابق قال: «ومثله قو له تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ} (¬2). قال أي ومن رحمانيته لطفه بالطير، وإمساكه إياها صافات وقابضات في جو السماء، ومن أظهر الأدلة في ذلك قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2)} إلى قوله: {فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)} (¬3)». والرحيم رحمة خاصة بالمؤمنين في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} (¬4)، وقال تعالى: {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (¬5). الوجه الثالث: أن «الرحمن» أبلغ من «الرحيم» (¬6)، ولهذا، ولكونه أي: «الرحمن» أخص من، «الرحيم» قدم عليه «في البسملة والفاتحة، وقدم عليهما لفظ الجلالة لأنه أخص منهما وأعرف، وهما وغيرهما من ¬
أسمائه تعالى تبع له. قال ابن كثير (¬1) - رحمه الله تعالى -: «بدأ باسم الله، ووصفه بالرحمن، لأنه أخص وأعرف من الرحيم، لأن التسمية أولًا إنما تكون بأشرف الأسماء، فلهذا ابتدأ بالأخص فالأخص». وقد كان اسم «الرحمن» معروفًا - والله أعلم - عند العرب قبل الإسلام، وقد ورد ذلك في أشعارهم. كقول سلامة الجعدري (¬2): عجلتم علينا عجلتينا عليكم ... وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق وقول الآخر:- ألا ضربت تلك الفتاه هجينها ... ألا قبضب الرحمن ربي يمينها (¬3) أما قوله - تعالى عن المشركين {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَامُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} (¬4). وكذا قولهم في صلح الحديبية لما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعلي: ¬
«اكتب بسم الله الرحمن الرحيم» قالوا: «ما ندري ما الرحمن اكتب باسمك اللهم» (¬1). فذلك منهم محمول - والله أعلم - على الجحود والعناد، والتعنت في الكفر، كما قال كثير من المفسرين (¬2). **** ¬
المبحث الثالث هل البسملة آية مستقلة من القرآن الكريم
المبحث الثالث هل البسملة آية مستقلة من القرآن الكريم أو من سورة الفاتحة، أو من كل سورة سوى براءة، أو ليست بآية؟ اختلف أهل العلم في هذه المسألة على أقوال عدة، بعد إجماعهم على أنها بعض آية من سورة النمل، في قوله تعالى: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30)} (¬1). وفيما يلي ذكر خلاصة لأقوالهم، وأدلتهم في هذه المسألة (¬2). القول الأول:- أن البسملة ليست آية من القرآن الكريم مطلقًا (¬3)، إلا في سورة النمل فهي بعض آية منها. وانما كتبت البسملة في أوائل السور للاستفتاح بها، والابتداء والتبرك بها، والتيمن، والفصل بين السور. وهذا القول يُروى عن قراء ائمدينة والبصرة والشام (¬4)، وهو قول ¬
الإمام مالك (¬1) وعبد الله بن معبد (¬2)، ونسب لأبي حنيفة، وبعض أصحابه (¬3)، والأوزاعي (¬4)، وحُكي رواية عن الإمام أحمد (¬5)، لكن قال ابن تيمية (¬6): «لايمنح هذا عنه، وإن كان قولًا في مذهبه». واختاره الباقلاني (¬7). ولم أقف على دليل صحيح صريح لهذا القول، ولا على تعليل مقبول إلا التمسك بأدلة وأحاديث لا تدل عليه، كحديث أنس بن مالك وعائشة - رضي الله عنهما (¬8) - وما في معناهما من الأدلة، التي فيها: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخلفاءه كانوا يستفتحون القراءة، أو الصلاة بالحمد لله رب العالمين ... ، وسيأتي ذكر هذه الأحاديث - إن شاء الله - في القول الرابع من هذه الأقوال، وبيان أن غاية بما تدل عليه في هذه الأحاديث أنهم كانوا لا يجهرون بالبسملة، لا أنهم يتركونها، وليس عدم الجهر بها، مما يخرجها من القرآن، كما زعم بعض من ذهب إلى ¬
هذا القول (¬1). وقد احتج ابن العربي (¬2) لهذا القول بأن مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة من لدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى زمان الإمام مالك لم يقرأ فيه أحد قط (بسم الله الرحمن الرحيم) اتباعًا للسنة. وهذا إن أراد به أنهم لا يجهرون بها فصحيح، وإما أن أراد أنهم لا يقرؤونها أبدًا لا سرًا ولا جهرًا فالجواب عنه هو الجواب عن احتجاجهم بحديث عائشة وأنس المشار إليهما وأن ذلك محمول على أنهم يسرون بها لا أنهم يتركونها. كما احتج الباقلاني (¬3) والقرطبي (¬4) لهذا القول بأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، ولا تواتر هنا فيجب القطع بنفي كونها من القرآن. وقد أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية (¬5) عن هذا بقوله: «والتحقيق أن هذه الحجة مقابلة بمثلها، فيقال لهم: بل يقطع بكونها من القرآن حيث كتبت كما قطعتم بنفي كونها ليست منه - ومثل هذا النقل المتواتر عن الصحابة بأن ما بين اللوحين قرآن، فإن التفريق بين آية وآية يرفع الثقة بكون القرآن المكتوب بين لوحي المصحف كلام الله، ونحن نعلم بالاضطرار أن الصحابة الذين كتبوا المصاحف نقلوا إلينا أن ما كتبوه بين لوحي المصحف كلام الله الذي أنزله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ¬
القول الثاني
لم يكتبوا فيه ما ليس من كلام الله ... «ويكفي في ضعف هذا القول: أن فيه القول على الصحابة - رضي الله عنهم - أنهم أودعوا المصحف ما ليس من كلام الله، على سبيل التبرك (¬1). قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على «سنن الترمذي» (¬2)، بعد أن ذكر الخلاف في هذه المسألة: «القول الذي زعموا نسبته إلى مالك، ومن معه في أنها ليست آية أصلا قول لا يوافق قاعدة أصولية ثابتة، ولا قراءة صحيحة». القول الثاني: أنها آية من سورة الفاتحة فقط. وهذا القول مروي عن طائفة من السلف، منهم سعيد بن جبير (¬3)، وأكثر القراءة والفقهاء من أهل مكة (¬4) والكوفة (¬5)، وهو قول الشافعي (¬6)، ورواية عن الإمام ¬
أحمد (¬1)، وروي عن إسحاق (¬2)، وأبي عبيد (¬3)، وأبي ثور (¬4)، ومحمد ابن كعب القرظي، والزهري (¬5)، وعطاء (¬6)، وغيرهم (¬7). واستدلوا لهذا القول بأدلة منها: 1 - إثباتها في المصاحف مع الفاتحة، وعدها من آياتها. 2 - ما جاء عن أم سلمة - رضي الله عنها - أنها سُئلت عن قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: «كان يقطع قراءته آية آية، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم» (¬8). ووجه استدلالهم من هذا الحديث: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قرأ البسملة مع الفاتحة، قالوا: فدل هذا على أنها آية منها. والجواب من هذا: أنه لا يلزم من قراءتها مع الفاتحة أن تكون منها، إذ لو لزم هذا للزم أن ¬
تكون آية من كل سورة، لأنها تقرأ مع كل سورة، كما هو مثبت معلوم. 3 - وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه سئل عن قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «كانت مداً، ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، يمد بسم الله، ويمد بالرحمن، ويمد بالرحيم». رواه البخاري (¬1). قالوا: فقراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - للبسملة بالمد تدل على أنها آية من القرآن إذ لو لم تكون آية من القرآن لما قرأها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالمد كما يقرأ القرآن. وهذا الاستدلال صحيح في الرد على الذين ينفون أن تكون البسملة آية من القرآن مطلقا - لكن لا يلزم من قراءة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لها بالمد، كما يقرأ القرآن أن تكون آية من سورة الفاتحة (¬2)، ولا من غيرها، فالحديث يدل على أنها آية تقرأ - وهذا صحيح - لا أنها آية من سورة الفاتحة، أو من غيرها من السور. 4 - حديث نعيم بن المجمر قال: «صليت وراء أبي هريرة، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قرأ بأم القرآن حتى بلغ (ولا الضالين) فقال: «آمين»، فقال الناس: «آمين»، ويقول كلما سجد: الله أكبر، وإذا قام من الجلوس في الاثنتين قال: الله أكبر، وإذا سلم قال: والذي نفسي بيده، إني لأشبهكم صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -». ¬
ووجه استدلالهم من هذا الحديث أن أبا هريرة قرأ البسملة مع أم القرآن، ورفع ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال في آخر الحديث: «والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول لله - صلى الله عليه وسلم -». وهذا الحديث ضعفه جمع من أهل العلم (¬1). وأيضًا لو صح هذا الحديث فليس فيه ما ينص صراحة على أن البسملة من الفاتحة، وغاية ما فيه أن يكون أبو هريرة قرأ البسملة مع الفاتحة سواء كان ذلك جهرًا أم سرًا، ولا يلزم من قراءتها مع الفاتحة على أي حال أن تكون منها - كما تقدم في الجواب عن استدلالهم بحديث أم سلمة. 5 - ما رواه أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا قرأتم الحمد، فاقرؤوا بسم الله الرحمن الرحيم، إنها أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني، وبسم الله الرحمن الرحيم، أحد آياتها» (¬2). والصواب أن هذا الحديث موقوف من كلام أبي هريرة، كما ذكر ¬
القول الثالث
أهل العلم (¬1) قال الزيلعي (¬2) بعد ما صوب وقف الحديث على أبي هريرة «فإن قيل أن هذا موقوف في حكم المرفوع إذ لا يقول الصحابي إن البسملة إحدى آيات الفاتحة إلا عن توقيف أو دليل قوي ظهر له قلت: لعل أبا هريرة سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأها فظنها من الفاتحة , وأبو هريرة لم يخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن قال: هي إحدى آياتها وقراءتها قبل الفاتحة لا يدل على ذلك». وقال أيضًا: فالمحفوظ الثابت عن سعيد المقبري عن أبي هريرة في هذا الحديث عدم ذكر البسملة كما رواه البخاري في صحيحه من حديث ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة. قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «الحمد لله هي أم القرآن، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم» (¬3). القول الثالث: أنها آية أو بعض آية من كل سورة سوى سورة براءة، وقد نسب هذا القول لقراء مكة والكوفة وفقهائهما (¬4). وحكي هذا القول عن ابن عباس وابن عمر، وابن الزبير، وأبي هريرة، من الصحابة، ومن التابعين: عطاء وطاوس وسعيد ابن ¬
جبير ومكحول والزهري (¬1). وهو المشهور من مذهب الشافعي (¬2)، ورواية عن الإمام أحمد (¬3)، ونسب لأبي حنيفة (¬4)، وسفيان الثوري (¬5)، وعبد الله بن المبارك (¬6)، وإسحاق بن راهويه (¬7)، وأبي عبيد (¬8)، والأوزاعي (¬9). واستدل أصحاب هذا القول بأدلة منها ما يلي: 1 - ثبوت البسملة في المصاحف، بخط المصحف، مع كل سورة، سوى براءة، مما يدل على أنها آية، أو بعض آية، من كل سورة (¬10). والجواب: أنه لا يلزم من ثبوتها في المصاحف مع كل سورة، بل لا يلزم من قراءتها مع كل سورة أن تكون آية منها، فهناك سور ثبت ¬
بالسنة وباتفاق العادين عدد آياتها، من غير احتساب البسملة منها كما سيأتي في ذكر أدلة القول الرابع. 2 - ما رواه أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: «أغفى النبي - صلى الله عليه وسلم - إعفاءة - ثم تبسم ضاحكًا، فقال: أنزل علي آنفا سورة ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} إلى آخر السورة. رواه مسلم (¬1). ووجه استدلالهم من هذا الحديث: أن البسملة آية أنزلت مع سورة الكوثر، فهي كذلك آية، أو بعض آية من كل سورة، تنزل معها، وتعد منها. والجواب عن هذا أن يقال: صحيح أن البسملة تنزل مع كل سورة، لكن لا يلزم من نزولها مع السورة أن تكون آية منها، ولهذا اتفق العادون على أن سورة الكوثر ثلاث آيات، بدون البسملة. فالذين قالوا: البسملة آية مستقلة أسعد بهذا الدليل، من أصحاب هذا القول، كما سيأتي بيان ذلك. استدلوا - أيضًا - بحديث أم سلمة السابق (¬2)، الذي فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقطع قراءته آية آية: «بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب ¬
العالمين، الرحمن الرحيم». ووجه استدلالهم به أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ البسملة مع الفاتحة، مما يدل على أنها آية منها، وكذلك ينبغي أن تكون آية من سائر السور سوى براءة، لأنها مثبتة مع سائر السور، كما أثبتت في الفاتحة فهي آية من كل سورة، ينبغي أن تقرأ معها سواء الفاتحة وغيرها. والجواب: أن هذا الحديث إنما يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - يقرأ البسملة مع الفاتحة، ولا يدل على أنها آية منها - كما تقدم بيانه - فكيف تكون آية من غيرها!! 4 - كما استدلوا - أيضًا - بحديث أنس - السابق (¬1) - أنه سئل عن قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «كانت مداً، يمد بسم الله، ويمد بالرحمن، ويمد بالرحيم». ووجه استدلالهم بهذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ البسملة مداً، كما تمد آيات القرآن، مما يدل على أنها آية، أو بعض آية من كل سورة سوى براءة. والجواب: أن يقال: صحيح أن البسملة آية، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قرأها بالمد - كما تقرأ آيات القرآن، لهذا الحديث ولغيره، لكن لا يلزم من ذلك أن تكون آية أو بعض آية من كل سورة. وقد يحتمل أن أنسًا - رضي الله عنه - ذكر هذا من باب التمثيل للسائل لكيفية قراءة النبي ¬
القول الرابع
- صلى الله عليه وسلم - (¬1). 5 - كما استدلوا بحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعرف فصل السورة حتى تنزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم» (¬2). وكأنهم أخذوا من نزول البسملة مع السورة أن تكون آية منها، وهذا ليس بلازم، كما سيأتي بيان هذا في القول الرابع. القول الرابع: أن البسملة آية مستقلة من القرآن، وليست من السور، وإنما هي آية تنزل مع كل سورة، للفصل بينها وبين التي قبلها. وهذا قول طائفة من أهل العلم، منهم الإمام أحمد، في المنصوص الصريح عنه (¬3)، وعبد الله بن المبارك (¬4)، ومحمد بن الحسن الشيباني (¬5)، وأبو الحسن الكرخي (¬6)، وأبو بكر الرازي (¬7)، وداود ¬
الظاهري (¬1) وغيرهم. واختاره الطبري فيما يظهر من كلامه (¬2) واختاره ابن خزيمة (¬3)، والجصاص (¬4)، وابن قدامة (¬5) وشيخ الإسلام ابن تيمية (¬6)، والزيلعي (¬7). وهذا القول هو أصح الأقوال، وهو الذي تدل عليه الأدلة الصحيحة الصريحة ومنها ما يلي: 1 - إجماع الصحابة - رضوان الله عليهم - على إثباتها في المصحف، وكتابتهم لها بخطه، وقلمه، فنقلت نقله، كما نقلت في سورة النمل، فلا يجوز الخروج عن إجماعهم، وذلك لأنهم جردوا المصحف عن غير الآيات القرآنية، كالتفسير ونحوه (¬8). 2 - ما رواه أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم بين أظهرنا، إذ أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسمًا، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: «أنزلت علي آنفا سورة. فقرأ: ¬
بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}» رواه مسلم (¬1). ووجه الدلالة في هذا الحديث على أن البسملة آية مستقلة من القرآن، أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قرأ بها وأخبر أنها أنزلت مع هذه السورة. ولم تعد آية منها، فقد أجمع الناس على أن سورة الكوثر ثلاث آيات، بدون بسم الله الرحمن الرحيم (¬2)، كما أجمعوا على أن سورة الإخلاص أربع آيات بدون البسملة (¬3). 3 - ما رواه عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعرف فصل السورة، حتى تنزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم» رواه أبو داود (¬4). فكونها تنزل يدل على أنها آية من القرآن، وكونها للفصل بين السور يدل على أنها ليست من السور، وإنما هي آية مستقلة (¬5). 4 - ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن سورة من القرآن ثلاثون آية، شفعت لرجل حتى غفر له، وهي سورة ¬
تبارك الذي بيده الملك» (¬1). قال: فهذا الحديث يدل على أن البسملة ليست آية من السور من وجهين: الوجه الأول: أنه - صلى الله عليه وسلم - ابتدأ سورة الملك، بقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} دون البسملة، مما يدل على أن البسملة ليست من السورة. الوجه الثاني: أن أهل العلم، والعادين لآيات القرآن اتفقوا على أن سورة {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} (¬2)، ثلاثون آية بدون البسملة (¬3). 5 - ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج - ثلاثاً، غير تمام» فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام، فقال اقرأ بها في نفسك، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الله - تعالى -: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال الله - تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال: ¬
{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، قال: مجدني عبدي، وقال مرة: فوض إلى عبدي، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل» رواه مسلم (¬1). قالوا: فهذا الحديث كسابقه، يدل على أن البسملة ليست آية من الفاتحة من وجهين: الوجه الأول: أن الله تعالى - بدأ الفاتحة بقوله {الْحَمْدُ لِلَّهِ} ولو كانت البسملة آية من الفاتحة، لابتدأ بها، وعدها آية منها (¬2). الوجه الثاني: أن الله جعل الفاتحة بينه وبين عبده نصفين، وهي سبع آيات، باتفاق أهل العلم المعتد بقولهم، كما جعل تعالى - الآية: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} بينه وبين العبد، وهي منتصف السورة، فقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} وما قبله ثلاثة آيات ونصف، حمد وثناء وتمجيد وعبادة للرب، وقوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وما ¬
بعده ثلاثة آيات ونصف للعبد دعاء ومسألة، ويكون قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} هو الآية السادسة، وقوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} هو الآية السابعة، وبهذا يتحقق التنصيف للفاتحة بين الرب، وبين العبد، ولو كانت البسملة آية من الفاتحة لم يتحقق التنصيف، ولكان قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} وما قبله أربع آيات ونصف آية. وقوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وما بعده اثنتين ونصفًا، فلا يتحقق التنصيف بل يكون ما للرب في هذه القسمة أكثر مما للعبد، وهذا خلاف نص قوله - تعالى - في الحديث «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين» (¬1). قال ابن عبد البر في «الاستذكار» (¬2): «وأما قوله في هذا الحديث: «قال الله تعالى: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين: فنصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل «قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اقرؤوا، يقول العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، فبدأ بالحمد لله رب العالمين، ولم يقل {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، فهذا أوضح شيء وأبينه أن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ليست آية من الفاتحة لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدأ بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فجعلها آية، ثم {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، ثم {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فهذه ثلاث آيا لم يختلف فيها المسلمون. ¬
وجاء في هذا الحديث أنها له تبارك اسمه، ثم الآية الرابعة جعلها بينه وبين عبده، ثم ثلاث آيات لعبده تتمة سبع آيات. فهذا يدل على أن {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} آية، ثم الآية السابعة إلى آخر السورة. وهكذا تكون نصفين بين العبد، وبين ربه، لأنه قال في قوله {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إلى آخر السورة: فهؤلاء لعبدي، ولعبدي ما سأل. وهؤلاء إشارة إلى جماعة من يعقل، وما لا يعقل، وأقل الجماعة ثلاثة، فعلمنا بقوله (هؤلاء) أنه أراد الآيات، والآيات أقلها ثلاث، لأنه لو أراد اثنتين لقال: هاتان، ولو أراد واحدة لقال: هذه بيني وبين عبدي، وإذا كان من قوله: {اهْدِنَا} إلى آخر السورة ثلاث آيات كانت السبع آيات، من قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} إلى قوله {وَلَا الضَّالِّينَ} وصحت قسمة السبع على السواء، ثلاث وثلاث، وآية بينهما ... وأجمع القراء والفقهاء على أنها سبع آيات إلا أنهم اختلفوا فمن جعل {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} آية من فاتحة الكتاب لم يعد {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} آية، ومن لم يجعل {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} آية عد {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} آية، وهو عدد أهل المدينة وأهل الشام، وأهل البصرة، وما أهل مكة، وأهل الكوفة من القراء والفقهاء فإنهم عدوا فيها {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} آية، ولم يعدوا {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وهذا الحديث أبين ما يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في سقوط {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} من آي فاتحة الكتاب، وهو قاطع لموضع الخلاف ...»
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (¬1): «فهذا الحديث صحيح صريح في أنها ليست من الفاتحة، ولم يعارضه حديث صحيح صريح». قلت: وإذا كانت البسملة ليست من الفاتحة، فليست من غيرها من السور من باب أولى. 6 - حديث - عائشة - رضي الله عنها - الطويل في قصة بدء الوحي، وفيه أن أول ما جاءه الملك قال: {اقْرَا بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَا وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)}، الحديث متفق عليه (¬2). قال ابن تيمية (¬3) - بعد ما أشار إلى هذا الحديث: «فهذا أول ما نزل ول ينزل قبل ذلك {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وقال في موضع آخر (¬4): «فالذين قالوا ليست من السورة قالوا: إن جبريل ما أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمره بقراءتها بل أمره أن يقرأ: {بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}، ولو كانت هي أول السورة لأمره بها». 7 - حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: «صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -، وخلف أبي بكر وعمر وعثمان، فكانوا يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين، لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم، لا في ¬
أول قراءة ولا في آخرها». رواه مسلم (¬1). 8 - حديث عائشة - قالت: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفتتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين ..» (¬2). 9 - حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نهض من الركعة الثانية استفتح القراءة بالحمد لله رب العالمين، ولم يسكت». رواه مسلم (¬3). وهذه الأحاديث الثلاثة، حديث أنس برواياته، وحديث عائشة، وحديث أبي هريرة كلها تدل - كما سيأتي بيان ذلك - على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخلفاءه، كانوا لا يجهرون بالبسملة، لا أنهم يتركونها - كما زعم بعضهم. أما ما وجه الدلالة فيها على أن البسملة آية مستقلة؟ فهو كونهم ل يجهروا بها، كبقية آيات الفاتحة إذ لو كانت آية منها لما فرقوا بينها وبين بقية آيات هذه السورة (¬4)، وإذا لم تكن آية من الفاتحة فالأولى أن لا تكون آية من غيرها من السور. ¬
10 - قوله - تعالى: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يدل على أن البسملة ليست من الفاتحة، إذ لو كانت منها لكان فيها تكرار قوله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، والأصل عدم التكرار (¬1)، غالبًا (¬2). 11 - أن جعل قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} آية واحدة بهذا الطول لا يناسب بقية الآيات، إذ إن غالب السور تكون آياتها متناسبة من حيث الطول والقصر. مما يقوي القول بأن هذه الآية آيتان، وأن البسملة ليست من آيات الفاتحة خلافا للعدد الموجود في المصاحف. وإذا لم تكن آية من الفاتحة فالأولى أن لا تكون آية من غيرها من السور. 12 - كما يقال أيضا لمن يقول: إنها آية من الفاتحة فقط. إن الفاتحة سورة من سور القرآن، والبسملة مكتوبة في أولها كلها، فلا فرق بينها وبين غيرها من السور في مثل ذلك. قال ابن تيمية (¬3) «وهذا أظهر وجوه الاعتبار». ¬
قال القاضي أبو يعلى (¬1): «إن أكثر أهل العلم وجمهورهم على أن قراءتها مستحبة فقط، وهذا يدل على أنها ليست من الفاتحة». وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (¬2): «وهو قول سائر من حقق القول في هذه المسألة، وتوسط فيها، وجمع بين مقتضى الأدلة وكتابتها سطرا مفصولا عن هذه السورة». وقال أيضًا: «وهذا أعدل الأقوال» (¬3). ¬
المبحث الرابع السبب في عدم كتابة البسملة في مطلع سورة براءة
المبحث الرابع السبب في عدم كتابة البسملة في مطلع سورة براءة أجمع المسلمون على ترك الفصل بالبسملة بين سورة الأنفال وسورة براءة لإجماع المصاحف على ترك التسمية بينهما (¬1). وإذا ابتدأ القارئ بسورة براءة، فإنه يتعوذ فقط، كما لو قرأ من وسطها (¬2). وقد اختلف في السبب الذي من أجله تركت البسملة في مطلع سورة براءة. فذهب قوم إلى أن السبب هو كما جاء في حديث ابن عباس (¬3) عن عثمان، رضي الله عنهم - من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبين لهم في شأنها شيئًا، وكانت قصتها تشبه قصة الأنفال، فقرنوا بينهما، ولم يكتبوا: ¬
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وقد اختار هذا الطحاوي (¬1)، وصححه ابن العربي (¬2). وقيل: إن ذلك من شأن العرب إذا كان بينهم وبين قوم عهد، فإذا أرادوا نقضه كتبوا لهم كتابا، فلم يكتبوا فيه: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، فلما نزلت براءة بنقض العهد الذي كان بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين المشركين - بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقرأها عليهم في الموسم، ولم يبسمل على ما جرت به عادتهم. وقيل: لأن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} أمان، وبراءة نزلت بالسيف، ليس فيها أمان، روي هذا عن علي بن أبي طالب (¬3) وروي عن المبرد نحوه. وقيل: لأن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} رحمة، وبراءة سخط. وقيل: تركت التسمية، إعظاما لبسم الله الرحمن الرحيم، من خطاب المشركين (¬4). وقيل: لأنهم اختلفوا هل هما سورتان، أو سورة واحدة، فتركت بينهما فرجة لقول من قال: إنهما سورتان، وتركت {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} لقول من قال: إنهما سورة واحدة، فرضي الفريقان، وثبتت ¬
حجتاهما في المصحف (¬1). قال القرطبي (¬2): «والصحيح أن التسمية لم تكتب لأن جبريل - عليه السلام - لم ينزل بها في هذه السورة، قاله القشيري». قلت: وما ذكره القرطبي عن القشيري، هو الذي تطمئن إليه النفس، بل يجب الجزم به، وهو أن جبريل لم ينزل بالبسملة مع هذه السورة، ولو نزلت مع هذه السورة لحفظت مع ما حفظ، ونقلت إلينا، تحقيقًا لوعد الله - تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} (¬3) ولما لم تنقل، علمنا يقينا، لا يخالجه شك، أنها لم تنزل مع هذه السورة، لأن الله تكفل بحفظ القرآن، وقد وصل إلينا بحمد الله كاملا محفوظًا بحفظ الله، وهذا الذي يجب أن يعتقده كل مسلم. أما ما روي عن ابن عباس عن عثمان - رضي الله عنهم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبين لهم في شأن البسملة مع سورة براءة شيئًا، وكانت قصتها تشبه قصة الأنفال، فقرنوا بينهما، ولم يكتبوا {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} - فالحديث في هذا ضعيف - كما تقدم بيان ذلك. أما القول بأن الصحابة اختلفوا، هل الأنفال وبراءة سورة واحدة، أو سورتان ... الخ فإن الصحابة - رضوان الله عليهم - إنما أشكل ¬
عليهم فيما روي عنهم، هل براءة سورة مستقلة أو هي من سورة الأنفال، ولهذا فصلوا بينهما. أما أن هناك شكًا في نزول البسملة مع هذه السورة أم لا فلا شك بل يجب القطع بأن ما وصل إلينا بين دفتي المصحف، هو القرآن بكامله، من غير زيادة أو نقصان. أما بقية الأقوال، التي قيلت في عدم ذكر البسملة، والتي سبق ذكر جملة منها، فكلها يمكن حملها على البحث عن العلة، والسبب في عدم نزول البسملة مع هذه السورة، فهي مجرد تعليلات، تقبل حينا وترد أحيانا، وهي مجرد التماس للحكمة، وللعلة في عدم نزولها، مع هذه السورة، والتعليل قد يكون عليلا، فالأولى - والله أعلم - التوقف في هذا.
المبحث الخامس حكم قراءة البسملة في غير الصلاة
المبحث الخامس حكم قراءة البسملة في غير الصلاة أجمع أهل العلم على مشروعية التسمية، واستحبابها، بعد الاستعادة، تقديما للتخلية على التحلية، عند قراءة أول السورة في غير الصلاة، سواء في ذلك سورة الفاتحة، أو غيرها من السور، سوى سورة براءة (¬1)، لأنها آية من القرآن الكريم، نزلت مع كل سورة، سوى سورة براءة. لكن اختلف القراء في قراءتها في حال الوصل بين السور، فقرأ ابن كثير، وقالون، وعاصم، والكسائي بالفصل بالتسمية بين السور، سوى الأنفال وبراءة (¬2). وروي عن بعض القراء تركها في الوصل منهم حمزة، وروي عن ورش الفصل وعدمه، واختلف عن الباقين، وهم: خلف وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب ونافع، بين الفصل بالبسملة والوصل بين السورتين، أو السكت بينهما (¬3). والأولى الفصل بالتسمية بين جميع السور سوى سورة براءة، فلا ¬
يفصل بالتسمية بينها وبين ما يقرأ قبلها من السور سواء سورة الأنفال أو غيرها - لأن الله أنزل التسمية مع كل سورة سوى سورة براءة، وكذا لو كرر السورة فوصل بين آخرها وأولها فالأولى الفصل بالبسملة (¬1) - وإن كانت ليست آية من كل سورة - كما قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعرف فصل السورة، حتى تنزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم» (¬2)، ولأن ذلك هو الموافق لرسم المصحف، ومن شرط صحة القراءة موافقتها لرسم المصحف (¬3)، باتفاق أهل العلم، ولهذا أكثر القراء على الفصل بها بين السور، وكل من روي عنه الوصل، فقد روي عنه خلافه. والأولى: في حال الابتداء بأول السورة أن يستعيذ ثم يقف، ثم يسمي ويقف، ثم يشرع في أول السورة، لأن الوقف على الاستعاذة تام، وكذا الوقف على البسملة، ولأن الثابت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أم سلمة - رضي الله عنها - أنه كان يقطع قراءته آية آية (¬4). ويجوز أن يصل الاستعاذة بالبسملة، ثم يقف، ثم يشرع بأول السورة ويجوز أن يستعيذ ثم يقف، ثم يسمي ويصل البسملة بالسورة، ويجوز وصل الجميع، وصل الاستعاذة بالبسملة، ووصل البسملة ¬
بالسورة (¬1). وفي حال الوصل بين سورة وأخرى الأولى الوقف على نهاية السورة الأولى، لأن أواخر السور من أتم التمام، ثم يسمى ويقف، ثم يبتدأ بأول السورة الأخرى، سواء كانت السورتان متواليتين في ترتيب المصحف أم غير متواليتين. ويجوز أن يقف على آخر السورة، ثم يبسمل، ويصل البسملة بأول السورة الأخرى، ويجوز وصل آخر السورة بالبسملة، ووصل البسملة بأول السورة الأخرى، وهو دون الثاني. ويمتنع وصل البسملة بآخر السورة، ثم الوقف عليها، لأن البسملة إنما شرعت في الابتداء، لا في الانتهاء (¬2). أما في أوساط السور فيتعوذ فقط، ولا يبسمل عند أكثر أهل العلم، وهو الصحيح، وقيل يستعيذ ويبسمل، وقيل يبسمل فقط (¬3). وقد تقدم هذا في الكلام على الاستعاذة. ¬
المبحث السادس حكم قراءة البسملة في الصلاة
المبحث السادس حكم قراءة البسملة في الصلاة اختلف العلماء في حكم قراءة البسملة في الصلاة على أقوال: القول الأول: أنها تجب قراءتها في الصلاة، وجوب الفاتحة، لأنها آية منها. وهو مروي عن ابن عباس وابن عمر، والزهري، ومجاهد، ويحيى ابن جعدة (¬1) وإسحاق (¬2)، وأبي ثور، وأبي عبيد (¬3)، وهو المشهور من مذهب الشافعي (¬4)، ورواية عن الإمام أحمد (¬5). وهذا على أن البسملة آية من الفاتحة (¬6)، فتجب قراءتها عندهم كما تجب قراءة بقية آيات الفاتحة، كما يشرع الجهر بها عندهم، كما يجهر ببقية آيات الفاتحة. وسيأتي ذكر أدلتهم ومناقشتها عند ذكر قول من قال بالجهر بالبسملة في المبحث السابع إن شاء الله تعالى. القول الثاني: أن قراءتها في الصلاة مستحبة مع الفاتحة، ومع كل سورة، سوى ¬
سورة براءة، كما في المصحف، وهو قول جمهور أهل العلم (¬1)، منهم: أبو حنيفة (¬2)، وأحمد في المشهور عنه (¬3)، وأكثر أهل الحديث (¬4)، لأنها آية مستقلة من القرآن، وليست آية من السورة، لا من سورة الفاتحة، ولا من غيرها من السور، فلا تجب قراءتها، لا مع الفاتحة، ولا مع غيرها، لكن تستحب قراءتها معها، ومع كل سورة سوى براءة، لإثباتها في المصحف معها، ومع بقية السور، سوى براءة. وأيضًا فقد ثبت في حديث أنس وعائشة وأبي هريرة - رضي الله عنهم - أن الرسول ... - صلى الله عليه وسلم - وخلفاءه، لا يجهرون بها (¬5)، فلو كانت قراءتها واجبة، وجوب الفاتحة لجهروا بها، كما يجهرون ببقية آيات الفاتحة. القول الثالث: أنه لا تشرع قراءتها في المكتوبة، لا سرًا ولا جهرًا. وهذا هو المشهور من مذهب الإمام مالك، إلا أنه قال بقراءة البسملة في النقل وقيام الليل، ولمن يعرض القرآن عرضا (¬6). ¬
ونقل القول بعدم مشروعية قراءتها أيضا عن الأوزاعي (¬1). وهذا القول مبني على أن البسملة ليست آية من القرآن، لا في أول الفاتحة ولا في أوائل السور، وليست آية مستقلة من القرآن - وقد تقدم بيان ضعف هذا القول (¬2). وقد استدل من ذهب إلى هذا القول بأحاديث أنس وعائشة، وعبد الله بن مغفل - رضي الله عنهم - والتي فيها أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخلفاءه كانوا يستفتحون القراءة والصلاة بالحمد لله رب العالمين (¬3). وحديث أبي هريرة الذي فيه قوله تعالى: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ...» (¬4). لكن هذه الأحاديث ليس فيها نفي قراءتها مطلقًا، وإنما فيها نفي قراءتها جهرًا - كما جاء في بعض روايات حديث أنس قوله: «فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم». وفي عض الروايات «فكانوا يسرون ببسم الله الرحمن الرحيم». وسيأتي ذكر رواياته وتخريجها، هو وحديث عائشة، وعبد الله بن مغفل، في الكلام على حكم الجهر ¬
بالبسملة والإسرار بها (¬1). قال أبو بكر بن خزيمة - بعد أن أخرج روايات حديث أنس، والتي في بعضها التصريح بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يسرون ببسم الله الرحمن الرحيم، ولا يجهزون لها. قال ابن خزيمة: «هذا الخبر يصرح بخلاف ما توهم من لم يتبحر العلم، وادعى أن أنس بن مالك أراد بقوله: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين، وبقوله: «لم أسمع أحدًا منهم يقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} أنهم لم يكونوا يقرؤون ... جهرا، ولا خفيا. وهذا الخبر يصرح أنه أراد أنهم كانوا يسرون به ولا يجهزون به عند أنس» (¬2). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (¬3)، بعد أن نفي دلالة حديث أنس على ترك قراءة البسملة، وبين أنه إنما يدل على ترك الجهر بها قال: «وأما كون الإمام لم يقرأها، فهذا لا يمكن إدراكه، إلا إذا لم يكن له بين التكبير والقراءة سكتة، يمكن فيها القراءة سرًا، ولهذا استدل بحديث أنس على عدم القراءة، من لم ير هناك سكوتا كمالك وغيره، لكن ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه قال: يا رسول الله. «أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول؟ قال: أقول: كذا وكذا ¬
إلى آخره». وفي الصحيحين وغيرهما من حديث عمران وأبي وغيرهما أنه كان يسكت قبل القراءة، وفيها أنه كان يستعيذ، وإذا كان له سكوت، لم يمكن أنسا أن ينفي قراءتها في ذلك السكوت، فيكون نفيه للذكر، وإخباره بافتتاح القراءة بها، إنما هو في الجهر، وكما أن الإمساك عن الجهر مع الذكر يسمى سكوتا، كما في حديث أبي هريرة فيصلح أن يقال: لم يقرأها، ولم يذكرها، أي جهرا، فإن لفظ السكوت، ولفظ نفي الذكر والقراءة مدلولهما هنا واحد». وقد اختلف العلماء فيما إذا جهر الإمام ولم يسكت هل يبسمل المأموم أو لا: على قولين منهم: من قال: لا يبسمل ولا يقرأ بل يجب عليه الإنصات، وقال بعض أهل العلم: بأنه يستعيذ ثم يبسمل ويقرأ الفاتحة وذلك لأن قراءة الفاتحة في الصلاة واجبة الاستعاذة والبسملة تشرع قراءتها تبعًا لها. وهذه المسألة مبنية على اختلافهم في حكم قراءة الفاتحة في حق المأموم (¬1). **** ¬
المبحث السابع حكم البسملة من حيث الجهر بها والإسرار، في الصلاة، أو خارجها
المبحث السابع حكم البسملة من حيث الجهر بها والإسرار، في الصلاة، أو خارجها أما في غير الصلاة: فأكثر القراء على الجهر بها (¬1)، وروي عن بعضهم إخفاؤها، منهم حمزة، ونافع (¬2)، وروي عنهما الجهر بها (¬3). وأخذ بعض أهل الأداء بالتسمية جهرًا لجميع القراء وأخذ بعض أهل الأداء لهم إخفاءها (¬4). وأما في الصلاة فاختلف أهل العلم في ذلك على أقوال: القول الأول: أنه يسن الجهر بها في الصلاة الجهرية، والإسرار بها في الصلاة السرية. وهو مروي عن عمر، وعلي وعبد الله بن الزبير (¬5) وابن عباس وابن ¬
عمر، وأبي هريرة، ومعاوية بن أبي سفيان (¬1)، وشداد بن أوس (¬2) - رضي الله عنهم -. ومن التابعين: سعيد بن جبير (¬3)، ومحمد بن شهاب الزهري (¬4)، ومجاهد وعطاء وطاوس (¬5). وحكاه ابن كثير - أيضًا (¬6) - عن عكرمة، وأبي قلابة، وعلي بن الحسين وابنه محمد، وسعيد بن المسيب، وسالم، ومحمد بن كعب القرظي، وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وأبي وائل، وابن سيرين، ومحمد بن المنكدر ونافع مولى ابن عمر، وعمر بن عبد العزيز، والأزرق بن قيس، وحبيب بن أبي ثابت، وأبي الشعثاء، وعبد الله بن معقل بن مقرن، وعبد الله بن صفوان، ومحمد بن الحنفية وعمرو بن دينار. ¬
وهو المشهور من مذهب الشافعي (¬1). ونسب لأحمد في رواية له (¬2). ولكن قال ابن قدامة (¬3): «ولا تختلف الرواية عن أحمد أن الجهر بها غير مسنون». وقال ابن تيمية (¬4): «وقد حكي القول بالجهر عن أحمد وغيره، بناء على إحدى الروايتين عنه، من أنها من الفاتحة فيجهر بها كما يجهر بسائر الفاتحة، وليس هذا مذهبه، بل يخافت بها عنده»، وروي عن الليث بن سعد (¬5)، وأبي عبيد (¬6)، وداود الظاهري (¬7). وقد سبقت الإشارة - في المبحث السادس - إلى أن أدلة القائلين بوجوب قراءة البسملة في الصلاة هي نفسا أدلة القائلين بالجهر بها ومنها ما يلي: 1 - أن الصحابة كتبوها في المصحف، مع أنهم جردوه عما ليس من القرآن (¬8)، مما يدل على وجوب قراءتها والجهر بها. والجواب عن هذا: أنه إنما تجب قراءتها لو كانت من السورة، ¬
وبخاصة مع الفاتحة، والصحيح أنها آية مستقلة من القرآن - كما تقدم بيان ذلك في المبحث الثالث. 2 - ما رواه نعيم بن المجمر قال: «صليت وراء أبي هريرة، فقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، ثم قرأ بأم القرآن، حتى بلغ {وَلَا الضَّالِّينَ} فقال: آمين. فقال الناس: آمين. ويقول كلما سجد: الله أكبر، وإذا قام من الجلوس في الاثنتين، قال: الله أكبر، وإذا سلم قال: والذي نفسي بيده، إني لأشبهكم صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -» (¬1). قالوا: فهذا الحديث يدل على مشروعية الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، لأن قوله «فقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يؤخذ منه أنه قرأها جهرًا، وإلا فكيف يعلم أن أبا هريرة قرأها، وحيث قال أبو هريرة في نهاية الحديث: «والذي نفسي بيده، إني لأشبهكم صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -». فهذا يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - يجهر بها. وقد أجاب أهل العلم من القائلين بعدم الجهر عن هذا الحديث بجوابين: الأول: من حيث صحة سنده، فقد ضعفه جمع من أهل العلم. ¬
وقد أطال الزيلعي في «نصب الراية» (¬1) في ذكر كلام الأئمة في تضعيفه، وأجاب عنه، وأعله من وجوه عدة، وكذا أعله وأجاب عنه من وجوه عدة الزبيدي (¬2)، كما ضعف إسناده الألباني (¬3). الجواب الثاني أن دلالته على الجهر ليست صريحة - على فرض صحته، فيحتمل أن أبا هريرة أسر بها، ويحتمل أنه قصد تعليمهم، أو غير ذلك. قال الجصاص (¬4): حديث نعيم بن المجمر لا دلالة فيه على الجهر بها، لأنه إنما ذكر أنه قرأها، ولم ينقل عنه أنه جهر بها. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (¬5) «فإن العارفين بالحديث يقولون: إنه عمدتهم في هذه المسألة، ولا حجة فيه ... فقد يكون أبو هريرة قصد تعريفهم أنها تقرأ في الجملة، وإن لم يجهر بها، وحينئذ فلا يكون هذا مخالفًا لحديث أنس الذي في الصحيح وحديث عائشة الذي في الصحيح، هذا إذا كان الحديث دالًا على أنه جهر بها، فإن لفظه ليس صريحًا بذلك من وجهين، أحدهما: أنه قال قرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فيحتمل أنه قرأها سرًا ... الثاني: أنه لم يخبر أن ¬
النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأها، وإنما قال في آخر الصلاة: «إني لأشبهكم صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -». وفي الحديث: أنه أمن، وكبر في الخفض والرفع، وهذا نحوه مما كان يتركه الأئمة، فيكون أشبههم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذه الوجوه التي فيها ما فعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتركوه هم، ولعل قراءتها مع الجهر أشبه بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تركها». 3 - ما رواه أنس بن مالك: أن معاوية لما قدم المدينة - صلى بهم، فلم يجهر بالبسملة، فأنكر عليه المهاجرون والأنصار، فأعاد بهم الصلاة وجهر بها» (¬1). قالوا: فإنكار المهاجرين والأنصار على معاوية ترك الجهر بالبسملة، وإعادته الصلاة بهم، والجهر بها، يدل على أن السنة الجهر. وهذا الحديث ضعفه من حيث سنده ومتنه عدد من المحققين، منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية (¬2)، فقد ضعفه من وجوه ستة، ثم قال ¬
بعدها: «فهذه الوجوه وأمثالها، إذا تدبرها العالم، قطع بأن حديث معاوية إما باطل لا حقيقة له، وإما مغير عن وجهه، وأن الذي حدث به بلغه من وجه ليس بصحيح، فحصلت الآفة من انقطاع إسناده. وقيل: هذا الحديث لو كان تقوم به حجه، لكان شاذًا، لأنه خلاف ما رواه الناس الثقات الأثبات عن أنس وعن أهل المدينة وأهل الشام، ومن شرط الحديث الثابت ألا يكون شاذًا، ولا معللًا، وهذا شاذ معلل، وإن لم يكن من سوء حفظ بعض رواته. . .» كما ضعفه الزيلعي (¬1) والزبيدي (¬2) من حيث سنده ومتنه من وجوه عدة، وذكرا كلام الأئمة في تضعيفه. 4 - ما رواه أنس بن مالك أنه سئل عن قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «كانت مدا يمد (بسم الله)، ويمد بـ (الرحمن)، ويمد بـ (الرحيم)». رواه البخاري (¬3). 5 - ما روته أم سملة، قالت: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقطع قراءته تقطيعًا {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} الحديث» رواه أبو داود وغيره (¬4). ¬
قالوا: فهذان الحديثان يدلان على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجهر بالبسملة. والصحيح أنه لا حجة في هذين الحديثين، لأنه ليس فيهما ما يدل صراحة على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك في الصلاة (¬1). 6 - ما رواه المعتمر بن سليمان عن أبيه عن أنس قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجهر بالقراءة ببسم الله الرحمن الرحيم» (¬2). وهذا الحديث - وإن صححه الحاكم - ففيه نظر، لأنه يعارض ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن أنس وغيره، من عدم جهر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وخلفائه بها - كما سيأتي في أدلة القول التالي. قال شيخ الإسلام ابن تيمية (¬3): «يعلم أولاً أن تصحيح الحاكم وحده وتوثيقه وحده لا يوثق به فيما دون هذا، فكيف في مثل هذا الموضع الذي يعارض فيه بتوثيق الحاكم، وقد اتفق أهل العلم بالصحيح على خلافه، ومن له أدنى خبرة في الحديث وأهله، لا يعارض بتوثيق الحاكم، ما قد ثبت في الصحيح خلافه ..». إلى غير ذلك من الأحاديث التي استدلوا بها (¬4) وهي بين ضعيف، أو موضوع، أو مما لا حجة لهم فيه، كما بين ذلك جمع من ¬
المحققين. قال الدارقطني (¬1): «كل ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجهر فليس بصحيح، وأما عن الصحابة فمنه صحيح ومنه ضعيف». وقال ابن الجوزي في «التحقيق» (¬2) بعد أن ذكر الأحاديث التي استدل بها الشافعية على الجهر وبين ضعفها: «وهذه الأحاديث في الجملة لا يحسن بمن له علم بالنقل أن يعارض بها الأحاديث الصحاح. . ويكفي في هجرانها إعراض المصنفين للمسانيد والسنن عن جمهورها» - وبعد أن ذكر قول الدارقطني السابق قال: «ثم إنا بعد ذلك نحمل أحاديثهم على أحد أمرين: إما أن يكون جهر بها للتعليم، كما روي أنه كان يصلي بهم الظهر فيسمعهم الآية والآيتين، بعد الفاتحة أحيانًا ...». وقال ابن قدامة (¬3): «وسائر أخبار الجهر ضعيفة فإن رواتها هم رواة الإخفاء، وإسناد الإخفاء صحيح ثابت بغير خلاف فيه، فدل على ضعف رواية الجهر». وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (¬4): «وقد اتفق أهل المعرفة بالحديث على أنه ليس في الجهر بها حديث صريح، ولم يرو أهل السنن ¬
المشهورة: كأبي داود والترمذي والنسائي شيئا من ذلك، وإنما يوجد الجهر بها صريحًا في أحاديث موضوعة يرويها الثعلبي والماوردي وأمثالهما في التفسير، أو في بعض كتب الفقهاء، الذين لا يميزون بين الموضوع وغيره، بل يحتجون بمثل حديث الحميراء». وقال - أيضًا (¬1) - بعدما ذكر مذهب القائلين بالجهر بالبسملة: «واعتمدوا على آثار منقولة بعضها عن الصحابة، وبعضها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأما المأثور عن الصحابة كابن الزبير ونحوه، ففيه صحيح، وفيه ضعيف، وأما المأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو ضعيف، أو موضوع، كما ذكر ذلك حفاظ الحديث، كالدارقطني وغيره ...». وقال - أيضًا (¬2) -: «وإنما كثر الكذب في أحاديث الجهر، لأن الشيعة ترى الجهر، وهم أكذب الطوائف فوضعوا في ذلك أحاديث لبسوا بها على الناس دينهم، ولهذا يوجد في كلام أئمة السنة من الكوفيين كسفيان الثوري أنهم يذكرون من السنة المسح على الخفين، وترك الجهر بالبسملة، كما يذكرون تقديم أبي بكر وعمر، ونحو ذلك، لأن هذا من شعار الرافضة، ولهذا ذهب أبو علي بن أبي هريرة أحد الأئمة من أصحاب الشافعي على ترك الجهر بها، قال: لأن الجهر بها صار من شعار المخالفين». ¬
وقال ابن القيم (¬1) مشيرا إلى أحاديث الجهر: «فصحيح تلك الأحاديث غير صريح وصريحها غير صحيح». وقد أطال الزيلعي في «نصب الراية» (¬2) في ذكر كلاهم أهل العلم في تضعيف الأحاديث والآثار الواردة في الجهر بالبسملة، ثم قال (¬3): «وبالجملة هذه الأحاديث ليس فيها صريح، ولا صحيح، بل فيها عدمهما، أو عدم أحدهما. وكيف تكون صحيحة، وليست مخرجة في شيء من الصحيح، ولا المسانيد، ولا السنن المشهورة، وفي روايتها الكذابون والضعفاء والمجاهيل ...». كما ضعف أحاديث الجهر الزبيدي (¬4). القول الثاني: أنه يسن الإسرار بالبسملة في الصلاة مطلقا، وهو قول جمهور أهل العلم من المحدثين والفقهاء وغيرهم (¬5). وهو الثابت من الخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان (¬6)، وعلي (¬7)، ¬
وعن أنس (¬1)، وعائشة (¬2) وروي عن ابن عباس (¬3)، وبه قال ابن مسعود، وعبد الله بن الزبير، وعمار بن ياسر وعروة بن الزبير، وأبو وائل، ومحمد بن سيرين، والحكم بن عتيبة، وإبراهيم النخعي (¬4)، والحسن وقتادة وعمر بن عبد العزيز (¬5)، وعكرمة (¬6)، والأوزاعي، وسفيان الثوري (¬7)، وسعيد بن جبير والأعمش والشعبي (¬8)، وأبو حنيفة وأصحابه (¬9)، وأحمد بن حنبل (¬10) وعبد الله بن المبارك، وإسحاق بن راهويه (¬11)، وأبو عبيد (¬12)، وجماعة من أصحاب ¬
الشافعي (¬1) وغيرهم كثير (¬2). واستدل أصحاب هذا القول بأحاديث صحيحة صريحة منها: 1 - ما رواه أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن الخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - أنهم كانوا لا يجهرون بـ «بسم الله الرحمن الرحيم». وقد أخرجه الأئمة عن أنس، منهم البخاري ومسلم، وأصحاب السنن، وغيرهم بروايات وألفاظ متعددة فأخرجه البخاري (¬3) عن أنس ابن مالك - بلفظ: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين». وأخرجه مسلم عن أنس بلفظ: «صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر، وعمر، وعثمان، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين، لا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في أول قراءة، ولا في آخرها». وفي لفظ آخر عند مسلم - أيضًا (¬4) - «صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر، وعثمان، فلم أسمع أحدا منهم، يقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}». ¬
وأخرجه النسائي (¬1) عن أنس بلفظ: «صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يسمعنا قراءة {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، وصلى بنا أبو بكر وعمر، فلم نسمعها منهما». وفي لفظ آخر للنسائي (¬2) عن أنس قال: «صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر، وعمر، وعثمان - رضي الله عنهم - فلم أسمع أحدا منهم يجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وأخرجه بهذا اللفظ الدارقطني (¬3)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (¬4)، وابن خزيمة (¬5) أيضا بهذا اللفظ، إلا أنه قال: «فلم أسمع أحدا منهم يقرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}. أخرجه الإمام أحمد (¬6) بلفظ: «صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومع أبي بكر وعمر فلم يجهروا بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، وأخرجه بلفظه ابن خزيمة (¬7)، وفي رواية له (¬8) وللدارقطني (¬9) بهذا اللفظ، وزادا ¬
«وعثمان». وفي لفظ لابن خزيمة (¬1): «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، ولا أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان» وفي لفظ له - أيضًا (¬2) -: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في الصلاة وأبو بكر وعمر». وفي لفظ للطحاوي (¬3): «لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا أبو بكر، ولا عمر - رضي الله عنهما - يجهرون بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}». فحديث أنس هذا برواياته كلها، يدل على أن الثابت من فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الاسرار بالبسملة، وعدم الجهر بها (¬4). قال الدارمي في «سننه» (¬5) مبوبًا: «باب كراهية الجهر بـ .. ثم أخرج حديث أنس بلفظ «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر وعثمان، كانوا يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين». قال الدرامي: وبهذا نقول ولا أرى الجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وقال ابن خزيمة في «صحيحه» (¬6) مبوبًا: باب ذكر الدليل على أن أنسا إنما أراد بقوله: «لم أسمع أحدًا منهم يقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}: أي لم أسمع أحدًا منهم يقرأ جهرًا {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ ¬
الرَّحِيمِ}، وأنهم كانوا يسرون بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في الصلاة». وقال الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (¬1) بعد أن ذكر روايات حديث أنس: «ففي ذلك دليل على أنهم يقولونها من غير طريق الجهر، ولولا ذلك لما كان لذكرهم نفي الجهر معنى، فثبت بتصحيح هذه الآثار ترك الجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}». وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (¬2): «أما حديث أنس في نفي الجهر، فهو حديث صريح لا يحتمل هذا التأويل (¬3)، فإنه قد رواه مسلم في صحيحه، فقال فيه: «صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين، لا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في أول قراءة، ولا في آخرها» وهذا النفي لا يجوز إلا مع العلم بذلك، لا يجوز بمجرد كونه لم يسمع مع إمكان الجهر بلا سماع. واللفظ الآخر في صحيح مسلم «صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدًا منهم يجهر، أو قال يصلي بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فهذا نفى فيه السماع، ولو لم يرو إلا هذا اللفظ ¬
لم يجز تأويله بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ جهرًا، ولا يسمع أنس، لوجوه ... - وبعد أن ذكر ابن تيمية هذه الوجوه - قال: فتبين أن هذا تحريف لا تأويل، ولو لم يرو إلا هذا اللفظ، فكيف والآخر صريح في نفي الذكر بها، وهو يفضل هذه الرواية الأخرى، وكلا الروايتين ينفي تأويل من تأول قوله: «يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين» أنه أراد السورة، فإن قوله: «يفتتحون بالحمد لله رب العالمين، لا يذكرون «بسم الله الرحمن الرحيم» في أول قراءة، ولا في آخرها «صريح أنه في قصد الافتتاح بالآية، لا بسورة الفاتحة، التي أولها {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} إذ لو كان مقصوده ذلك لتناقض حديثاه». وقال - أيضًا (¬1) -: «وأما اللفظ الآخر» لا يذكرون» فهو إنما ينفي ما يمكن العلم بانتفائه، وذلك موجود في الجهر، فإنه إذا لم يسمع مع القرب، علم أنهم لم يجهروا ... يؤيد هذا حديث عبد الله بن مغفل (¬2). ¬
ويؤيد قول ابن تيمية ما أخرجه الدارقطني (¬1) عن أبي مسلمة سعيد ابن يزيد قال: سألت أنس بن مالك، أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستفتح بالحمد لله رب العالمين، أو بـ (بسم الله الرحمن الرحيم)؟ فقال: إنك تسألني عن شيء ما أحفظه، وما سألني عنه أحد قبلك. قلت: أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في النعلين؟ قال: نعم». وقال ابن حجر في «بلوغ المرام» (¬2) بعد أن ذكر حديث أنس، من رواية البخاري ومسلم، وبعد أن أشار إلى أن في رواية أحمد والنسائي وابن خزيمة «لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم»، وإلى الرواية الأخرى لابن خزيمة: «كانوا يسرون» قال: «وعلى هذا يحمل النفي في رواية مسلم». يعني قوله «لا يذكرون اسم الله في أول قراءة، ولا في آخرها». 2 - حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬
يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين ..» رواه مسلم (¬1). 3 - حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نهض إلى الركعة الثانية استفتح القراءة ولم يسكت». رواه مسلم (¬2). ووجه الدلالة من هذين الحديثين - كما تقدم في حديث أنس - هو أنهم يسرون بقراءتها، ولا يجهرون بها، لا أنهم يتركونها. 4 - حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: قال الله تعالى: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد «الحمد لله رب العالمين» قال الله: حمدني عبدي الحديث». رواه مسلم (¬3). قال ابن قدامة (¬4): «وهذا يدل على أنه لم يذكر {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ولم يجهر بها» وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (¬5) - بعد أن أشار إلى حديث أبي ¬
هريرة هذا: «فيه دليل على أنها ليست من القراءة الواجبة، ولا من القراءة المقسومة»، فهذا يدل على أن البسملة ليست من السورة، فلا يجهر بها». إلى غير ذلك من الأدلة الصحيحة الصريحة على أن السنة الإسرار بالبسملة وقد اختار هذا أكثر المحققين: قال الجصاص (¬1) «والإخفاء أولى من وجهين: أحدهما ظهور عمل السلف بالإخفاء دون الجهر، وقول إبراهيم الجهر بها بدعة. والوجه الآخر: أن الجهر بها لو كان ثابتًا لورد النقل به مستفيضًا متواترًا، كوروده في سائر القراءة، فلما لم يرد النقل به من جهة التواتر، علمنا أنه غير ثابت إذ الحاجة إلى معرفة مسنون الجهر بها، كهي إلى معرفة الجهر في سائرفاتحة الكتاب». وقال القرطبي (¬2): «وهذا قول حسن، وعليه تتفق الآثار عن أنس، ولا تتضاد ويخرج به من الخلاف في قراءة {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}». وقال شيخ الاسلام ابن تيمية (¬3): «لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يجهر بها، وليس في الصحاح، ولا السنن حديث صحيح صريح بالجهر، والأحاديث الصريحة بالجهر كلها ضعيفة، بل موضوعة، ¬
ولهذا لما صنف الدارقطني في ذلك مصنفًا قيل له: هل في ذلك شيء صحيح؟ فقال: أما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا، وأما عن الصحابة فمنه صحيح، ومنه ضعيف. ولو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجهر بها دائمًا، لكان الصحابة ينقلون ذلك، ولكان الخلفاء يعلمون ذلك، ولما كان الناس يحتاجون أن يسألوا أنس بن مالك، بعد انقضاء عصر الخلفاء، ولما كان الخلفاء الراشدون، ثم خلفاء بني أمية، وبني العباس كلهم متفقين على ترك الجهر، ولما كان أهل المدينة- وهم أعلم أهل المدائن بسنته- ينكرون قراءتها بالكلية سرًا وجهرًا. وقال- أيضًا (¬1) -: «فمن المعلوم أن الجهر بها مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله، فلو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجهر بها كالجهر بسائر الفاتحة، لم يكن في العادة، ولا في الشرع ترك نقل ذلك، بل لو انفرد بنقل مثل هذا الواحد والاثنان لقطع بكذبهما، إذ التواطؤ فيما تمنع العادة والشرع كتمانه كالتواطؤ على الكذب فيه». القول الثالث: التخيير بين الجهر والإسرار، وهذا القول يروى عن الحكم بن عتيبة، وإسحاق بن راهويه (¬2)، وابن أبي ليلى (¬3)، وهو اختيار ابن حزم (¬4). ¬
والذين روي عنهم هذا القول، كأنهم أرادوا الجمع بين أدلة الجهر، وأدلة الإسرار علمًا أن أدلة الجهر لا تكافئ أدلة الإسرار، بل وليس فيها دليل واحد صحيح النقل صريح الدلالة على الجهر- كما تقدم ذكر كلام الأئمة في ذلك. فالقول بالتخيير للمصلي بين الجهر والإسرار بالبسملة ليس بصحيح، وفرق بين هذا، وبين أن يقال: يجوز الجهر بها لحاجة كتعليم ونحوه، فهذا لا بأس به، أو أن يقال: تصح صلاة من أسر بها ومن جهر، فهذا- أيضًا- صحيح. قال شيخ الإسلام ابن تيمية (¬1): «فإن الجهر بها والمخافتة سنة، فلو جهر بها المخافت صحت صلاته بلا ريب». وقال الحافظ ابن كثير (¬2): «أجمعوا على صحة صلاة من جهر بالبسملة، ومن أسر بها، ولله الحمد والمنة». أما أن يكون المصلي مخيرًا بين هذا وهذا على حد سواء فليس بصحيح فالجهر إنما يجوز أحيانًا لعارض، كتعليم المأمومين ونحو ذلك. كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية (¬3) أنه يستحب الجهر بها لمصلحة ¬
راجحة، وذكر عن أحمد أنه يستحب الجهر بها في المدينة، لأنهم ينكرون على من لم يجهر بها. ثم ذكر ابن تيمية- أيضًا- أنه يجوز الجهر بها لبيان أن قراءتها سنة، ثم قال: «ولهذا نقل عن أكثر من روي عنه الجهر بها المخافتة ...». وقال- أيضًا (¬1) -: «وكون الجهر بها لا يشرع بحال- مع أنه قد ثبت عن غيره واحد من الصحابة- نسبة للصحابة إلى فعل المكروه، وإقراره مع أن الجهر في صلاة المخافتة يشرع لعارض». وقال- أيضًا (¬2) -: «ومع هذا فالصواب أن ما لا يجهر به، قد يشرع الجهر به لمصلحة أحيانًا، لمثل تعليم المأمومين، ويسوغ للمصلين أن يجهروا بالكلمات اليسيرة أحيانًا (¬3)، ويسوغ- أيضًا- أن يترك الإنسان الأفضل لتأليف القلوب، واجتماع الكلمة خوفًا من التنفير عما يصلح، كما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - بناء البيت على قواعد إبراهيم، لكون قريش كانوا حديثي عهد بالجاهلية، وخشي تنفيرهم بذلك (¬4)، ورأى أن مصلحة ¬
الاجتماع والائتلاف مقدمة على مصلحة البناء على قواعد إبراهيم». وقال ابن القيم في «زاد المعاد» (¬1): «وكان - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - يجهز ب {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} تارة, ويخفيها أكثر مما يجهز بها, ولا ريب أنه لم يكن يجهر بها دائمًا, في كل يوم وليلة, خمس مرات, أبدًا حضرًا وسفرًا, ويخفى ذلك على خلفائه الراشدين, وعلى جمهور أصحابه, وأهل بلده, فيالأعصار الفاضلة, هذا من أمحل المحال, حتى يحتاج إلى التثبيت فيه بألفاظ مجملة, وأحاديث واهية فصحيح تلك الأحاديث غير صريح, وصريحها غير صحيح». **** ¬
المبحث الثامن المواضع التي تشرع فيها البسملة
المبحث الثامن المواضع التي تشرع فيها البسملة تشرع البسملة وهي قول: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في مواضع منها مايلي: 1 - عند قراءة القرآن, وبخاصة عند الابتداء بأوائل السور سوى سورة براءة, لأنها آية تنزل مع كل سورة سوى براءة, ولهذا أثبتت في المصاحف مع كل سورة نزلت معها, وإن كانت ليست آية من السور مطلقًا. 2 - في بداية الكتب والرسائل والخطب والمسائل العلمية, تأسيًا بكتاب الله تعالى, وبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد كان يبتدئ بها في كتبه - صلى الله عليه وسلم - للملوك كما في كتابه إلى هرقل فقد ابتدأه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم. . .» (¬1).وكذا كان الأنبياء قبله كما جاء في كتاب سليمان لبلقيس: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (¬2). وقد درج على هذا سلف الأمة وخلفها في كتبهم ورسائلهم وخطبهم ومقالاتهم. وقد اختلفوا في حكم كتابتها مع الشعر، فذهب بعضهم إلى كراهة ¬
ذلك والمنع منه، وأجازه آخرون (¬1)، والذي يظهر- والله أعلم- أن الشعر لا يختلف عن النثر من حيث جواز كتابتها مع المحمود منهما، وعدم جواز ذلك مع المذموم منهما، لأن في ذلك استخفافًا بالله، وأسمائه وصفاته. ب-وتشرع التسمية وهي قول: «بسم الله» في مواضع كثيرة منها مايلي: 1 - عند الوضوء- فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» (¬2). ¬
2 - عند الدخول في المسجد والخروج منه، فعن فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل المسجد يقول: «بسم الله، والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج قال: بسم الله والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب فضلك» (¬1). 3 - عند الركوب قال الله- تعالى: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬2). وجاء في حديث جابر الطويل في قصة بعيره: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: «اركب باسم الله» رواه مسلم (¬3). ¬
وفي حديث علي - رضي الله عنه - «وأتي بدابة ليركبها، فلما وضع رجله في الركاب، قال: «بسم الله ..» الحديث، ثم قال في آخره: «رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل كما فعلت» رواه أبو داود (¬1). 4 - عند الذبح (¬2)، وعند الصيد لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآَيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} (¬3)، وقوله: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَاكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (¬4)، ¬
وقوله: {وَلَا تَاكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (¬1)، وقوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} (¬2). وعن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله عليه، فكل مما أمسك عليك» الحديث متفق عليه (¬3). وأخرجا نحوه من حديث أبي ثعلبة، وفيه زيادة «وما صدت بقوسك، فذكرت اسم الله فكل» (¬4). 5 - عند الأكل لحديث عمرو بن سلمة - رضي الله عنه - قال: كنت غلامًا في حجر النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانت يدي تطيش في الصفحة، فقال: «يا غلام سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك» متفق عليه (¬5). وعن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الشيطان يستحل الطعام، أن لا يذكر اسم الله عليه» رواه مسلم (¬6). وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله، وعند طعامه، قال ¬
الشيطان: لا مبيت لكم، ولا عشاء». رواه مسلم (¬1). 6 - عند الجماع- لما رواه ابن عباس - رضي الله عنهم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أما أحدكم إذا أتى أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فرزقا ولدًا لم يضره الشيطان» متفق عليه (¬2). 7 - عند الخروج من البيت لما رواه أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا خرج الرجل من بيته، فقال: بسم الله توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله. قال: يقال حينئذ: هديت وكفيت ووقيت، فتتنحى له الشياطين، فيقول له شيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي» (¬3). 8 - في المساء والصباح. فعن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من قال: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم، ثلاث ¬
مرات، لم تصبه فجأة بلاء حتى يصبح، ومن قالها حين يصبح ثلاث مرات لم تصيه فجأة بلاء حتى يمسي» (¬1). 9 - عند النوم- فعن أبي الأزهر الأنماري: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أخذ مضجعه من الليل، قال: «بسم الله وضعت جنبي، اللهم اغفر لي ذنبي، وأخسئ شيطاني، وفك رهاني، واجعلني في الندي الأعلى» (¬2). 10 - عند دخول الخلاء- فعن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ستر ما بين الجن وعورات بني آدم، إذا دخل الكنيف، أن يقول: بسم الله» (¬3). ¬
11 - إذا عثر المرء أو عثرت دابته- لما رواه أبو تميمة الهجيمي عن أبي المليح بن أسامة بن عمير عن أبيه، قال: كنت رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - فعثر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: تعس الشيطان فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقل تعس الشيطان، فإنك إذا قلت تعس الشيطان تعاظم، وقال: بقوتي صرعته، وإذا قلت: بسم الله تصاغر حتى يصير مثل الذباب» (¬1). 12 - عندما يجد المسلم وجعًا في جسده, يشرع له أن يضع يده على موضع الألم, ويُسمي, ويذكر بقية الدعاء. لما رواه عثمان بن أبي العاص أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعًا في جسده, منذ أسلم, فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ضع يدك على الذي يألم من جسدك, وقل: بسم الله ثلاثًا. . . الحديث» رواه مسلم (¬2). 13 - عند وضع الميت في قبره - فعن ابن عمر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا وضع الميت في القبر قال: «بسم الله, وعلى ¬
سنة رسول الله» (¬1). 14 - عند إغلاق الباب، وإطفاء المصباح، وعند إيكاء السقاء, وتخميرالإناء لما رواه جابر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا استجنح الليل, أو كان جنح الليل, فكفوا صبيانكم, فإن الشياطين تنتشر حينئذ, فإذا ذهب ساعة من العشاء فخلوهم, وأغلق بابك, واذكر اسم الله, وأطفئ مصباحك, واذكر اسم الله, وأوك سقاءك, واذكر اسم الله عليه, وخمر إناءك, واذكر اسم الله, ولو تعرض عليه شيئًا» متفق عليه (¬2). إلى غير ذلك من المواضيع, بل إن الذي يفهم من الحديث جابر هذا أنه ينبغي أن يذكر المسلم اسم الله على جميع أحواله, تبركًا وتيمنًا واستعانة. أما حديث أبي هريرة الذي رواه أحمد (¬3) , قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كل كلام, أو أمر ذي بال, لايفتح بذكر الله - عز وجل - فهو أبتر, أو قال أقطع» فهو حديث ضعيف (¬4). * * ** ¬
المبحث التاسع فوائد البسملة، والأحكام التي تضمنتها
المبحث التاسع فوائد البسملة، والأحكام التي تضمنتها فوائد البسملة والأحكام التي تضمنتها كثيرة منها ما يلي: 1 - مشروعة البداءة باسم الله على كل أمر ديني، أودنيوي، استعانة وتبركًا وتيمنًا. 2 - إثبات اسمه تعالى «الله» الدال على أنه له كمال الألوهية والعبودية سبحانه وتعالى. 3 - إثبات اسمي الله: «الرحمن»، «الرحيم»، وما تضمناه من الصفة والأثر. قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي (¬1) - رحمه الله -: «الرحمن، الرحيم» اسمان دالان على أنه تعالى ذو الرحمة الواسعة العظيمة، التي وسعت كل شيء، وعمت كل حي، وكتبها للمتقين المتبعين لأنبيائه ورسله، فهؤلاء لهم الرحمة المطلقة، ومن عداهم، فله نصيب منها. واعلم أن من القواعد المتفق عليها بين سلف الأمة وأئمتها، الإيمان بأسماء الله وصفاته، وأحكام الصفات، فيؤمنون مثلًا بأنه «رحمن رحيم» ذو الرحمة التي اتصف بها المتعلقة بالمرحوم، فالنعم ¬
كلها أثر من آثار رحمته، وهكذا في سائر الأسماء، يقال في العليم: إنه عليم، ذوعلم يعلم به كل شيء، قدير، ذو قدرة يقدر على كل شيء». 4 - أن اسمه تعالى «الله» هو أصل أسمائه- تعالى- تأتي بقية أسمائه تابعة له، لهذا جاء اسماه «الرحمن» و «الرحيم» تابعين لهذا الاسم. 5 - أن اسم «الله» أعظم من اسمه «الرحمن» ولهذا قدم عليه، وأن اسمه «الرحمن» أبلغ من «الرحيم» وأخص منه من حيث اللفظ، ولهذا قدم عليه، تقديمًا للأعظم والأهم. 6 - الاعتراف بنعمة الله - تعالى - وفضله وإحسانه، أن هذا كله من آثار رحمته المذكورة في قوله- تعالى (الرحمن الرحيم). 7 - الجمع بين أسلوب الترهيب والترغيب، لأن في قوله (الله) دلالة على عظمة الله وقهره، وفي قوله (الرحمن الرحيم) دلالة على فضل الله، وإحسانه وإنعامه، والأول أسلوب ترهيب، والثاني ترغيب. 8 - الدلالة على أن الاستعانة إنما تستمد من الله- تعالى، ويجب صرفها له، فهو القادر على إعانة من استعان به، وهو (الرحمن الرحيم) بعباده، أرحم من الوالدة بولدها، كما جاء في الحديث: «الله أرحم بعباده، من هذه بولدها» (¬1) فهو نعم النصير والمعين، ومفزع الخائفين وأرحم الراحمين. ¬
9 - إظهار مخالفة المشركين، الذين يفتتحون أمورهم باسم اللات والعزى ومناة، وغيرها من الأصنام والأنداد، من المخلوقين وغيرهم، ومن المؤسف أن نرى كثيرًا من الكتاب من المسلمين أو من المنتسبين إلى الإسلام يصدرون كتبهم وصحفهم باسم الشعب وباسم الحرية، وتقرأ الكتاب من أوله إلى آخره لا تجد فيه ذكر اسم الله. 10 - فيها الرد على القدرية الذين يقولون: إن العبد يخلق فعل نفسه، إذ لو كان ذلك كذلك لما احتاج العبد إلى طلب العون من الله- تعالى. 11 - أن ذكر اسم الله عون للعبد على جميع أحواله، وسبب لحصول الخير، والبركة، والحصول على مطلوبه، والنجاة من مرهوبه، بإذن الله تعالى، والسلامة من الشيطان وهمزاته وشروره، وإغاظته ودحره وطرده من أن يحول بين العبد وبين قراءته، ويوسوس له فيها، أو في وضوئه، أو أن يشاركه في أكله وشربه ودخوله وخروجه، وسائر أحواله (¬1). **** ¬
الباب الثاني تفسير سورة الفاتحة
الباب الثاني تفسير سورة الفاتحة معناها، وأحكامها وفيه فصلان: الفصل الأول: تفسير سورة الفاتحة، وبيان ما فيها من المعاني والفوائد والأحكام- وفيه ثمانية مباحث. الفصل الثاني: الأحكام التي تتعلق بسورة الفاتحة- وفيه مبحثان.
الفصل الأول تفسير سورة الفاتحة
الفصل الأول تفسير سورة الفاتحة، وبيان ما فيها من المعاني والفوائد والأحكام وفيه ثمانية مباحث المبحث الأول: مكان نزول الفاتحة المبحث الثاني: أسماء الفاتحة. المبحث الثالث: عدد آيات الفاتحة، وهل البسملة آية منها. المبحث الرابع: فضل سورة الفاتحة. المبحث الخامس: المعاني التي اشتملت عليها سورة الفاتحة. المبحث السادس: بيان معنى السورة والآية. المبحث السابع: تفسير مفردات الفاتحة، وبيان معاني آياتها. المبحث الثامن: ما يؤخذ من سورة الفاتحة من فوائد والأحكام.
المبحث الأول مكان نزول الفاتحة
المبحث الأول مكان نزول الفاتحة نزلت سورة الفاتحة بمكة، بدليل أنها ذكت في سورة الحجر، وهي مكية، وذلك في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ} (¬1) وسورة الحجر مكية بالإجماع (¬2). وقد فسر الرسول - صلى الله عليه وسلم - السبع المثاني في هذه الآية بالفاتحة. فعن أبي سعيد بن المعلى، قال: «كنت أصلي في المسجد، فدعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم أجبه، فقلت: يا رسول الله، إني كنت أصلي، فقال: ألم يقل الله: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} (¬3) الآية. ثم قال لي: لأعلمنك سورة، هي أعظم السور في القرآن، قبل أن تخرج من المسجد، ثم أخذ بيدي، فلما أراد أن يخرج، قلت: ألم تقل: لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن، قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» رواه البخاري (¬4). ¬
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أم القرآن, هي السبع المثاني والقرآن العظيم» رواه البخاري (¬1) , ورواه ابن جرير (¬2) بلفظ: «هي أم القرآن, وهي فاتحة الكتاب, وهي السبع المثاني». ورواه أبو داود (¬3) بلفظ «الحمد لله رب العالمين: أم القرآن, وأم الكتاب, والسبع المثاني» وكذا رواه الترمذي (¬4) , وزاد «والقرآن العظيم» وقال: حديث صحيح «. وأيضًا فقراءتها ركن من أركان الصلاة - على الصحيح-, لا تصح الصلاة بدونها, وقد فرضت الصلاة بمكة, عندما أسرى بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ¬
وما حفظ أنه كان في الإسلام قط صلاة بغير الفاتحة (¬1). بل روى أنها من أول ما نزل, وأنها أول سورة نزلت كاملة (¬2). ¬
المبحث الثاني أسماء الفاتحة
المبحث الثاني أسماء الفاتحة تعددت أسماء الفاتحة, وقد أوصلها بعضهم إلى نحو من عشرين اسمًا (¬1) , منها ما يلي: 1 - السبع المثاني والقرآن العظيم: لقوله -تعالى- في سورة الحجر {وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ (87)} (¬2). وقد فسر الرسول - صلى الله عليه وسلم - السبع المثاني والقرآن العظيم بالفاتحة, كما في حديث أبى سعيد بن المعلى, وأبى بن كعب, وأبى هريرة - رضي الله عنهم (¬3) -. وسميت بالمثاني - والله أعلم- لأنها حمد لله وثناء عليه وتمجيد له, ولأنها تثنى في كل صلاة, بل في كل ركعة (¬4) , ولأنها اشتملت ¬
على جميع المعاني التي اشتمل عليها القرآن الكريم - كما سيأتي بيانه- وهو مثاني تثنى فيه المواعظ والقصص والأخبار والحكم والأحكام, كما قال الله- تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} (¬1). وقيل: لأن الله استثناها لهذه الأمة فخصها بها من بين الأمم (¬2) , كما في حديث أبي بن كعب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «والذي نفسي بيده ما نزل في التوراة, ولا في الزبور, ولا في الإنجيل, ولا في القرآن مثلها» (¬3). 2 - فاتحة الكتاب: عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» متفق عليه (¬4). وعن أبى قتادة - رضي الله عنه - قال: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر بفاتحة الكتاب وسورتين وفي رواية: ويقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب» متفق عليه (¬5). ¬
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أنادي «أنه لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد» (¬1). وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: «أُمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر» (¬2). وفي حديث ابن عباس الآتي في المبحث الرابع في فضل سورة الفاتحة «أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك, فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة» (¬3). وعن جابر بن عبد الله قال: «كنا نقرأ في الظهر والعصر خلف الإمام في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة, وفي الأخريين بفاتحة الكتاب» (¬4). وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند الطبري (¬5) - كما سبق في الاسم الأول للفاتحة: «هي أم القرآن, وهي فاتحة الكتاب». وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ¬
«كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج» (¬1). وسميت بهذا الاسم لأنها تفتتح بها المصاحف خطًا وتلاوةً, وتفتتح فيها القراءة في الصلاة (¬2). 3 - الرقية: عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: «كنا في مسير لنا, فنزلنا, فجاءت جارية, فقالت: إن سيد الحي سليم, وإن نفرنا غُيَّب فهل منكم راق؟ فقام معها رجل ما كنا نأبنه (¬3) برقية, فرقاه, فبرأ, فأمر لنا بثلاثين شاة, وسقانا لبنا, فلما رجع قلنا له: أكنت تحسن رقية, أو كنت ترقى؟ قال: لا, ما رقيت إلا بأم الكتاب. فقلنا: لا تحدثوا شيئًا, حتى نأتي, أو نسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - , فلما قدمنا المدينة, ذكرناه للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «وما يدريه أنها رقية؟ اقسموا, واضربوا لي بسهم» متفق عليه (¬4). ¬
وعن خارجة ابن الصلت عن عمه أنه مر بقوم فأتوه, فقالوا: إنك جئت من عند هذا الرجل بخير, فارق لنا هذا الرجل , فأتوه برجل معتوه في القيود, فرقاه بأم القرآن, ثلاثة أيام غدوة وعشية, كلما ختمها جمع بزاقه, ثم تفل, فكأنما أنشط عن عقال, فأعطوه شيئًا فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكره له, فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كل فلعمري لمن أكل برقية باطل, لقد أكلت برقية حق (¬1)» (¬2). 4 - أم القرآن: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج- ثلاثًا, غير تمام» الحديث رواه مسلم (¬3). ¬
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «في كل صلاة يقرأ, فما أسمعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسمعناكم, وما أخفي أخفينا عنكم, وإن لم تزد على أم القرآن أجزأت, وإن زدت فهو خير» متفق عليه (¬1). وعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: «لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن» رواه مسلم (¬2). وعن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا صلاة تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن» (¬3). وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - السابق في المبحث الأول عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أم القرآن هي السبع المثاني, والقرآن العظيم» (¬4) وفي رواية «هي أم القرآن وهي فاتحة الكتاب, وهي السبع المثاني» (¬5). وفي رواية: «{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أم القرآن وأم الكتاب ¬
والسبع المثاني» (¬1). وسميت أم القرآن, لأنه ابتديء بها, فهي أصله وابتداؤه, ولأنها أيضًا اشتملت على معاني القرآن كلها (¬2) , كما سميت مكة أم القرى لتقدمها أمام جميعها, وجمعها ما سواها, وقيل: لأن الأرض دحيت منها (¬3). قال الطبري (¬4): «سميت أم القرآن لتقدمها على سائر سور القرآن غيرها, وتأخر ما سواها في القراءة والكتابة, وذلك من معناها شبيه بمعنى فاتحة الكتاب, وإنما قيل لها بكونها كذلك أم القرآن لتسمية العرب كل جامع أمرًا, أو مقدم لأمر - إذا كانت له توابع تتبعه- هو لها إمام جامع «أمُّا». فتقول للجلدة التي تجمع الدماغ: «أمّ الرأس «. وتسمى لواء الجيش ورايتهم التي يجتمعون تحتها للجيش «أمًّا». ومن ذلك قول ذي الرمة (¬5) يصف راية معقودة على قناة, يجتمع تحتها هو وصحبه: على رأسه أم لنا نقتدي بها ... جماع أمور لا نعاصي لها أمرًا 5 - الصلاة: ¬
عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال الله تعالى: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل, فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الله: حمدني عبدي ...» الحديث رواه مسلم (¬1). فالمراد بالصلاة في الحديث الفاتحة, كما قال تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا}: أي لا تجهز بقراءتك, ولا تخافت بها. قال ابن كثير (¬2): «فدل على عظمة القراءة في الصلاة, وأنها من أكبر أركانها .. , كما أطلق لفظ القراءة والمراد به الصلاة في قوله تعالى {وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (¬3). والمراد صلاة الفجر ...». 6 - أم الكتاب: عن أبى هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أم القرآن, وأم الكتاب, والسبع المثاني, والقرآن العظيم» (¬4). ¬
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كل صلاة لا يقرأ فيها بأم الكتاب, فهي خداج» (¬1). وفي حديث أبي سعيد الخدري في قصة اللديغ (¬2) أن الرجل رقاه بأم الكتاب. قال البخاري (¬3): «سميت أم الكتاب, لأنه يبتدأ بكتابتها في المصاحف, ويبدأ بقراءتها في الصلاة». وقد أخرج ابن الضريس في «فضائل القرآن» عن محمد بن سيرين أنه كان يكره أن يقول: أم الكتاب. يقول: قال الله- تعالى: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} , ولكن يقول: «فاتحة الكتاب «وروي نحوه عن أنس ابن مالك (¬4). وروي عن الحسن قال: «أم الكتاب الحلال والحرام. قال الله تعالى: {مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} (¬5)». وإنما كرهه هؤلاء لأن الله سمى اللوح المحفوظ أم الكتاب. في ¬
قوله: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (¬1) , وفي قوله: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} (¬2). كما سمى الآيات المحكمات المشتملة على الحلال والحرام وغيره «أم الكتاب» في قوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} (¬3). وهذه العلة لا تكفي حجة إذ لا يلزم من تسمية الفاتحة «أم الكتاب» أن لا يسمى غيرها بذلك. قال القرطبي (¬4) بعدما ما رُويَ عن أنس والحسن وابن سيرين من ركاهتهم تسميتها أم الكتاب, وما روُىَ عن أنس وابن سيرين - أيضًا- من كراهيتهما تسميتها أم القرآن قال: «والأحاديث الثابتة ترد هذين القولين». 7 - القرآن العظيم: لقوله تعالى في سورة الحجر {وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ} (¬5). ولما جاء في حديث أبي سعيد المعلى, وأبي بن كعب وأبي ¬
هريرة - رضي الله عنهم- من قوله - صلى الله عليه وسلم -: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هي السبع المثاني والقرآن العظيم» (¬1). على اعتبار أن الواو في الحديث لعطف الصفات, والتي بمعنى التفصيل, كقوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} (¬2). وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} (¬3). وذلك لأن سورة الفاتحة تضمنت معاني القرآن كلها كما سبقت الإشارة إلى ذلك (¬4). ويحتمل أن تكون الواو لعطف التغاير, كما هو الأصل في العطف فيكون المراد بالقرآن العظيم: أي الذي أوتيته زيادة على الفاتحة (¬5). 8 - الحمد لله رب العالمين: لما جاء في حديث أبي سعيد بن المعلي (¬6). قال - صلى الله عليه وسلم -: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} هي السبع المثاني ... «الحديث». ¬
هذه الأسماء الثمانية هي التي دل عليها الدليل من الكتاب والسنة. وهناك أسماء عدة ذكرها بعض أهل العلم, منها ما يلي:- 1 - الأساس, قيل: لأنها أساس القرآن. روى عن ابن عباس: «إذا اعتللت أو اشتكيت فعليك بالأساس» (¬1). 2 - الشافية (¬2) , أو الشفاء (¬3). 3 - الواقية. بالقاف المثناة (¬4). 4 - الوافية: بالفاء الموحدة, قالوا: لأنها لا تُنصَّف, ولا تحتمل التصنيف ولا يجوز تنصيفها (¬5). 5 - الكافية: قالوا لأنها تكفي عن غيرها, ولا يكفي غيرها عنها (¬6). 6 - الكنز: رُوي أنها نزلت من كنز تحت العرش (¬7). ¬
7 - سورة السؤال, أو المناجاة (¬1). 8 - الواجبة: لأنها تجب قراءتها في الصلوات, ولا تصح الصلاة إلا بها (¬2). 9 - سورة النور (¬3). 10 - سورة التفويض (¬4). 11 - سورة الحمد (¬5). 12 - سورة الصلاة (¬6). 13 - سورة تعليم المسألة (¬7). إلى غير ذلك (¬8). **** ¬
المبحث الثالث عدد آيات الفاتحة, وهل البسملة آية منها؟
المبحث الثالث عدد آيات الفاتحة, وهل البسملة آية منها؟ عدد آيات الفاتحة سبع آيات بإجماع المسلمين (¬1) , لقوله تعالى في سورة الحجر {وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ (87)} (¬2). وقد فسر الرسول - صلى الله عليه وسلم - السبع المثاني والقرآن العظيم بالفاتحة - كما سبق ذكره- في حديث أبي سعيد بن المعلى وأبي بن كعب وأبي هريرة (¬3). وهي سبع آيات بدون البسملة آية الأولى منها: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} , والثانية: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} , والثالثة: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} , والرابعة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} , والخامسة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} , والسادسة: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} , والسابعة: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (¬4). والبسملة ليست آية منها - على الصحيح- الذي تؤيده ¬
الأدلة الصحيحة الصريحة. أما الترقيم الموجود في المصاحف فهو وفق قول قراء الكوفة وبعض أهل العلم, لكن الصحيح خلافه. وقد تقدم بيان ذلك وبسط الأدلة فيه في الكلام على البسملة (¬1). **** ¬
المبحث الرابع فضل سورة الفاتحة
المبحث الرابع فضل سورة الفاتحة سورة الفاتحة من أعظم سور القرآن, وأفضلها, بل هي أفضل سورة في القرآن, ومما يدل على فضلها: 1 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ (87)} (¬1). 2 - ما رواه البخاري وغيره عن أبي سعيد بن المعلى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لأعلمنك أعظم سورة في القرآن. قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} هي السبع المثاني, والقرآن العظيم, الذي أوتيته» (¬2). وقد أخرج الإمام أحمد وابن ماجه وغيرهما عن أبي بن كعب نحوه (¬3). وفي بعض روايات حديث أُبيّ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما أنزل في التوراة, ولا في الإنجيل, ولا في الزبور, ولا في القرن مثلها, هي السبع المثاني, والقرآن العظيم الذي أوتيته «. 3 - ما رواه مسلم وغيره (¬4) عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: ¬
«بينما جبريل قاعد عند النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع نقيضًا من فوقه, فرفع رأسه, فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم, لم يفتح قط إلا اليوم, فنزل منه ملك, فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض, لم ينزل قط إلا اليوم, فسلم, وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك, فاتحة الكتاب, وخواتيم سورة البقرة, لن تقرأ بحرف إلا أعطيته «(¬1). 4 - ما رواه البخاري ومسلم عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب». وغيره من الأحاديث الدالة على وجوب قراءة الفاتحة (¬2) , وأنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها, مما يدل على فضلها. 5 - ما رواه مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن, فهي خداج, ثلاثًا - غير تمام ...» (¬3). ¬
وكذا ما جاء من الأحاديث في الدالة على أن من صلى صلاة لا يقرأ فيها بالفاتحة فصلاته ناقصة غير تامة, أو أنها غير مجزئة, فهذا أيضًا يدل على فضلها. 6 - ما رواه مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال الله تعالى: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين, ولعبدي ما سأل ...» الحديث (¬1). فقد سمى الله - تعالى- الفاتحة الصلاة وقسمها بينه وبين عبده, فأولها حمد وثناء وتمجيد للرب, وآخرها للعبد دعاء ومسألة. وكل هذا يدل على عظمها وفضلها (¬2). 7 - ما رواه البخاري ومسلم - عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر وعثمان -رضي عنهم- كانوا يفتتحون الصلاة, وفي بعض الروايات يفتتحون القراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} (¬3). 8 - ما رواه مسلم عن عائشة - رضي الله عنها-: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين» (¬4). ¬
9 - ما وراه البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي سعيد الخدري في قصة اللديغ وأن رجلا منهم رقاه بأم الكتاب, وفي بعض رواياته «فقام الرجل كأنما نشط من عقال». وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «وما يدريه أنها رقية, اقسموا واضربوا لي بسهم». وفي حديث خارجة عن عمه (¬1): «أنه مر بقوم فأتوه برجل معتوه في القيود فرقاه بأم القرآن» وذكر نحوه. فأثرها في إبراء المريض يدل عظمها وفضلها, ولهذا سماها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالرقية. 10 - وعن عبد الله بن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ألا أخبرك بخير سورة في القرآن, قلت: بلى يا رسول الله - قال: اقرأ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} حتى تختمها» (¬2). 11 - ومما يدل على عظم سورة الفاتحة, وفضلها اشتمالها على معاني القرآن كله, من حمد الله وثنائه وتمجيده, وأنواع توحيده, وإثبات الرسالات والبعث والجزاء, وذكر العامل وعمله وأقسام الناس وغير ذلك -كما سيأتي بسط ذلك قريبًا إن شاء الله. قال شيخ الإسلام ابن تيمية (¬3) - في الكلام على الفاتحة: «والصلاة ¬
فائدة
أفضل الأعمال, وهي مؤلفة من كلم طيب وعمل صالح, أفضل كلمها الطيب, وأوجبه أم القرآن, وأفضل عملها الصالح وأوجبه السجود». وقال أيضًا: «وأم الكتاب كما أنها القراءة الواجبة, فهي أفضل سورة في القرآن ..». وفضائلها كثيرة جدًا. وقد جاء مأثورًا عن الحسن البصري, رواه ابن ماجه وغيره: أن الله أنزل مائة كتاب وأربعة كتب, جمع علمها في الأربعة, وجمع علم الأربعة في القرآن, وجمع علم القرآن في المفصل, وجمع علم المفصل في أم القرآن, وجمع علم أم القرآن في هاتين الكلمتين {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. فائدة: حيث ثبت بالأحاديث الصريحة الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الفاتحة أعظم سورة في القرآن فتجوز المفاضلة بين السور, خلافًا لمن منع ذلك (¬1). وقد أخرج مسلم وغيره عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قال: قلت: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} قال: فضرب في ¬
صدري, وقال: والله ليهنك العلم أبا المنذر (¬1)». لكن التفضيل بين السور والآيات مقيد بأن يكون ثبت بالنص الصحيح الصريح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أما المفاضلة بين السور والآيات بلا دليل صحيح فإنها لا تجوز. * * * ¬
المبحث الخامس المعاني التي اشتملن عليها سورة الفاتحة
المبحث الخامس المعاني التي اشتملن عليها سورة الفاتحة اشتملت سورة الفاتحة على جميع المعاني التي اشتمل عليها القرآن الكريم. ففيها حمد الله والثناء عليه وتمجيده, وفيها توحيده بأقسام التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية, وتوحيد الألوهية, وتوحيد الأسماء والصفات. وفيها الترغيب والترهيب والوعد والوعيد, وإثبات البعث والجزاء والعمل: أى العمل وجزائه, والعامل وعمله. وفيها: إرشاد الخلق إلى حمد الله والثناء عليه وتمجيده وعبادته والاستعانة به في جميع أمورهم الدينية والدنيوية, وإخلاص العمل لله, وإعلان البراءة من حولهم وقوتهم, وطلب الهداية إلى الصراط المستقيم المؤدي بسالكه إلى سعادة الدارين. وفيها ذكر أقسام الناس الثلاثة: المنعم عليهم, وهم الذين هداهم الله ووفقهم إلى العلم, ومعرفة الحق, والعمل به. والمغضوب عليهم: وهم الذين علموا الحق وعرفوه, ولو يعملوا به, والضالين: وهم الذين جهلوا الحق, فعملوا بالباطل. وفيها إثبات الرسل والرسالات والوحي, إذ كيف يحمده العباد,
وكيف يعبدونه وفق ما شرع, وكيف لهم بمعرفة طريق المنعم عليهم واقتفائه, والحذر من طريق المغضوب عليهم, وطريق الضالين, والبعد عنهما, إلا من طريق الوحي والرسل والرسالات, وكيف يجازون على ذلك حسب أعمالهم إلا بعد البيان وإقامة الحجة عليهم, بإرسال الرسل, وإنزال الكتب, كما قال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (¬1) , وقال تعالى: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} (¬2). وقال حذيفة بن اليمان: «كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير, وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني» (¬3). وكما قيل: عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه ... ومن لم يعرف الشر حري أن يقع فيه كما تضمنت السورة الرد على جميع المبطلين, وأهل البدع والضلال والإلحاد. قال ابن القيم - رحمه الله - في «مدارج السالكين» (¬4): «اعلم أن هذه السورة اشتملت على أمهات المطالب العالية أتم اشتمال, ¬
وتضمنتها أكمل تضمن فاشتملت على التعريف بالمعبود تبارك وتعالى بثلاثة أسماء مرجع الأسماء الحسنى والصفات العليا إليها, ومدارها عليها وهي: «الله» , و «الرب» , و «الرحمن». وبنيت السورة على الإلهية والربوبية والرحمة, و {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} مبني على الإلهية, و {نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} على الربوبية. وطلب الهداية إلى الصراط المستقيم بصفة الرحمة, والحمد يتضمن الأمور الثلاثة, فهو المحمود في إلهيته, وربوبيته, ورحمته, والثناء والمجد كما لان لجده. وتضمنت إثبات المعاد, وجزاء العباد بأعمالهم, حسنها وسيئها, وتفرد الرب - تعالى- بالحكم إذ ذاك بين الخلائق, وكون حكمه بالعدل. وكل هذا تحت قوله {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وتضمنت إثبات النبوات من جهات عديدة ...». وقال - أيضًا- في كتابه «الفوائد» (¬1): «فائدة: للإنسان قوتان: قوة علمية نظرية, وقوة علمية إرادية, وسعادته التامة موقوفة على استكمال قوتيه العلمية والإرادية, واستكمال القوة اللمية إنما يكون بمعرفة فاطره وبارئه, ومعرفة أسمائه وصفاته, ومعرفة الطريق التي توصل إليه, ومعرفة آفاتها, ومعرفة نفسه, ومعرفة عيوبها, فبهذه المعارف الخمس يحصل كمال قوته العلمية. وأعلم الناس أعرفهم بها, وأفقههم فيها, واستكمال القوة العلمية الإرادية لا يحصل إلا بمراعاة حقوقه سبحانه على العبد, والقيام بها, إخلاصًا وصدقًا, ونصحًا وإحسانًا, ¬
ومتابعة, وشهودًا لمنته عليه وتقصيره هو في أداء حقه, فهو مستحيٍ من مواجهته بتلك الخدمة, لعلمه أنها دون ما يستحقه عليه, ودون دون ذلك, وأنه لا سبيل له إلى استكمال هاتين القوتين إلا بمعونته, فهو مضطر إلى أن يهديه الصراط المستقيم, الذي هدى إليه أولياءه وخاصته, وأن يجنبه الخروج عن ذلك الصراط, أما بفساد في قوته العلمية, فيقع في الضلال, وإما في قوته العملية, فيوجب له الغضب. فكمال الإنسان وسعادته لا تتم إلا بمجموع هذه الأمور, وقد تضمنتها سورة الفاتحة, وانتظمتها أكمل انتظام فإن قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} يتضمن الأصل الأول, وهو معرفة الرب تعلى, ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله. والأسماء المذكورة في هذه السورة هي أصول الأسماء الحسنى, وهو اسم «الله» و «الرب» و «الرحمن». فاسم «الله «متضمن لصفات الألوهية, واسم «الرب «متضمن لصفات الربوبية, واسم «الرحمن «متضمن لصفات الإحسان والجود والبر, ومعاني أسمائه تدور على هذا. وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} يتضمن معرفة الطريق الموصلة إليه, وأنها ليست إلا عبادته وحده بما يحبه ويرضاه, واستعانته على عبادته. وقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} يتضمن بيان أن العبد
لا سبيل إلى سعادته إلا باستقامته على الصراط المستقيم, وأنه لا سبيل له إلى الاستقامة إلا بمعونته, فلا سبيل له إلى الاستقامة على الصراط إلا بهدايته. وقوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} يتضمن طرفي الانحراف عن الصراط المستقيم, وأن الانحراف إلى أحد. الطرفين انحراف إلى الضلال, الذي هو فساد العلم والاعتقاد, والانحراف إلى الطرف الآخر انحراف إلى الغضب الذي سببه فساد القصد والعمل. فأول السورة رحمة, وأوسطها هداية, وآخرها نعمة. وحظ العبد من النعمة على قدر حظه من الهداية, وحظه منها على قدر حظه من الرحمة, فعاد الأمر كله إلى نعمته ورحمته, والنعمة والرحمة من لوازم ربوبيته فلا يكون إلا رحيمًا منعمًا, وذلك من موجبات إلهيته, فهو الإله الحق, وإن جحده الجاحدون, وعدل به المشركون, فمتى تحقق بمعني الفاتحة علمًا ومعرفة وعملًا وحالًا فقد فاز من كماله بأوفر نصيب, وصارت عبوديته عبودية الخاصة, الذين ارتفعت درجتهم عن عوام المتعبدين, والله المستعان». وقال ابن كثير - رحمه الله- (¬1): «اشتملت هذه السورة الكريمة وهي سبع آيات على حمد الله وتمجيده, والثناء عليه, بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا, وعلى ذكر المعاد, وهو يوم الدين, ¬
وعلى إرشاد عبيده إلى سؤاله, والتضرع إليه, والتبرؤ من حولهم وقوتهم, وإلى إخلاص العبادة له, وتوحيده بالألوهية تبارك تعالى, وتنزيه أن يكون له شريك, أو نظير, أو مماثل, وإلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم وهو الدين القويم, وتثبيتهم عليه حتى يفضي لهم بذلك إلى جواز الصراط الحسي يوم القيامة, المفضي بهم إلى جنات النعيم في جوار النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. واشتملت على الترغيب في الأعمال الصالحة ليكونوا مع أهلها يوم القيامة. والتحذير من مسالك الباطل لا يحشروا مع سالكيها يوم القيامة, وهم المغضوب عليهم والضالون ...». ** * *
المبحث السادس بيان معنى السورة والآية
المبحث السادس بيان معنى السورة والآية أ- بيان معنى السورة: السورة: فيها لغتان: «سورة «بدون همز. و «سؤرة» بالهمز. أما «سورة» بدون همز فهي لغة قريش وأكثر قبائل العرب, تجمع على «سور» (¬1). قال تعالى: {فَاتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ} (¬2). وقال الراعي (¬3): هن الحرائر لاربات أخمرة ... سود المحاجر لا يقرأن بالسور ويجوز أن تجمع على سُوْرات, وسُوَرَات (¬4). وهي مأخوذة من معنى الإبانة والارتفاع ومن معنى الإحاطة ومعنى التمام. أما كونها مأخوذة من معنى الإبانة والارتفاع فإن السورة بائنة عن السورة الأخرى منفصلة عنها, ولأن منزلتها رفيعة وعظيمة وشريفة ¬
يشرف بها القارئ ويرتفع بها من منزلة إلى منزلة (¬1)؛، كما قال النابغة الذبياني (¬2). ألم تر أن الله أعطاك سورة ... ترى كل ملْك دونها يتذبذب أي: أعطاك منزلة رفيعة قصرت عنها منازل الملوك. وأما كونها بمعنى الإحاطة فلأنها محيطة بما احتوت عليه من الآيات، ومن قرأها بكاملها أشرف واطلع على ما فيها من الآيات. كسور البلد يكون عاليًا مرتفعًا ويحيط بما في داخله من العمران من المنازل والدور والبيوت وغيرها (¬3)، ومن صعد عليه شاهد ما بداخله من ذلك العمران. وأما كونها بمعنى التمام فلأنها تامة منفصلة عن السورة الأخرى، تامة بموضوعاتها وآياتها، كما تسمي العرب الناقة التامة الكريمة سورة (¬4). وأما اللغة الثانية: «سؤرة» بالهمز فإنها لغة تميم وتجمع على «سُؤَر» بهمز. والسؤرة في الأصل معناها القطعة من الشيء، والبقية منه، ومنه ¬
«سؤر الشراب»: أي بقيته. قال الأعشى (¬1): فبانت وقد أسارت في الفؤا ... د صدعا على نأيها مستطيرا أي: أبقت في الفؤاد. ومعنى السؤرة من القرآن هي القطعة منه. والقرآن من سؤرة بعد سؤرة: أي قطعة بعد قطعة، حتى كمل منها القرآن (¬2). والسورة من القرآن في الاصطلاح: القطعة من كلام الله - تعالى- في كتابه، ذات بداية ونهاية معروفة، تشتمل على ثلاث آيات فأكثر. وسور القرآن الكريم مائة وأربع عشرة سورة، أطولها سورة البقرة، وأقصرها سورة الكوثر. ¬
ب- بيان معنى الآية
ب- بيان معنى الآية: الآية لغة: العلامة (¬1). قال تعالى: {إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَاتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)} (¬2). وقال تعالى عن الحواريين أنهم قالوا: {رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ} (¬3). وقال الأسير الموصي لقومه (¬4): «بآية ما أكلت معكم حيسا». وقال النابغة الذبياني (¬5): توهمت آيات لها فعرفتها ... لستة أعوام وذا العام سابع جج وتطلق الآية بمعنى الجماعة، يقال: خرج القوم بآيتهم: أي بجماعتهم (¬6). قال برج بن مسهر الطائي (¬7): ¬
خرجنا من النقيين لا حي مثلنا ... بآيتنا نزجي اللقاح المطافلا والآية القرآنية مأخوذة من معنى العلامة، لأن الآية القرآنية علامة على وجود الله وكماله في ذاته وصفاته. كما أنها علامة للفصل بين ما قبلها وما بعدها (¬1). ويحتمل أنها من المعنيين جميعًا من معنى العلامة، ومعنى الجماعة لأنها مع كونها من معنى العلامة فهي أيضًا فيها معنى الجمع، لأنها تجمع حروفًا وكلمات من القرآن» (¬2). وتجمع الآية على آيات، وآيات الله تنقسم إلى قسمين: آيات كونية، وآيات شرعية. فالآيات الشرعية هي ما يتعلق بالوحي، من كلام الله تعالى، وسميت بذلك لمباينتها كلام البشر، وعجزهم عن الإتيان بمثلها، ولأن في إصلاح هذا الوحي لمن أنزله الله عليه، حسب ما شرع الله. علامة ودلالة واضحة على أنه من عند الله ذو الكمال في ذاته وصفاته، كما قال: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (¬3). والآية الشرعية في الاصطلاح: هي القطعة من كلام الله - تعالى- ¬
ذات بداية ونهاية، منفصلة عما قبلها وعما بعدها، مندرجة تحت سورة من سور القرآن الكريم (¬1). وأطول آية في القرآن آية الدين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ ...} (¬2) الآية، وأقصر آية {مُدْهَامَّتَانِ} (¬3) باستثناء الحروف المقطعة أوائل السور. والآيات الكونية: ما يتعلق بالخلق والتقدير، وهي تشمل كل ما خلق الله في هذا الكون من أرض وسماء، وليل ونهار، وشمس وقمر، وحجر وشجر، وجن وإنس، وحيوان، وسائر المخلوقات. لأن في إيجاد هذه المخلوقات وانتظامها علامة ودلالة واضحة على وجود خالقها وباريها، وعلى قدرته وحكمته ووحدانيته ورحمته، وكماله في ذاته وصفاته. قال تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} (¬4). وقال تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} (¬5). وقال تعالى: {وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَاكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ* ¬
لِيَاكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ} (¬1). وقال تعالى: {وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ*وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} (¬2). وقال تعالى: {وَآَيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} (¬3). وقال تعالى: {مِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} (¬4). وقال تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (¬5). **** ¬
المبحث السابع تفسير مفردات الفاتحة، وبيان معاني آياتها
المبحث السابع تفسير مفردات الفاتحة، وبيان معاني آياتها. {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} الحمد مبتدأ مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره. وهو مصدر سماعي للفعل «حمد» دخلت عليه «أل». و «أل»: إذا دخلت على الأوصاف، وأسماء الأجناس دلت على الاستغراق والشمول والاستقصاء (¬1)، وعلامتها صحة وضع كل الشمولية مكانها: أي كل الحمد بجميع صنوفه وأجناسه لله تعالى. والحمد: وصف المحمود بصفات الكمال مع المحبة والتعظيم. فإن لم يكن مع المحبة والتعظيم كان نفاقًا ورياء، وكذبًا وتزلفا ومدحًا مذمومًا. قال شيخ الإسلام ابن تيمية (¬2): «الحمد الإخبار بمحاسن المحمود مع المحبة لها. فلو أخبر مخبر بمحاسن غيره من غير محبة لها لم يكن حامدًا، ولو أحبها ولم يخبر بها لم يكن حامدًا». وإذا كرر الحمد مرة ثانية سمي ثناء، وإذا كرر ثالثة سمي «تمجيدًا» ¬
الفرق بين الحمد والشكر
بدليل ما جاء في حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قال الله تعالى: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الله: حمدني عبدي، وإذ قال العبد {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال الله: أثنى علي عبدي. فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال الله: مجدني عبدي ...» الحديث رواه مسلم (¬1). فقوله (الحمد لله) حمد مطلق. و «الحمد» اسم جنس والجنس له كمية وكيفية. فالثناء كمية الحمد وتكثيره والتمجيد كيفيته وتعظيمه. وهذا يدل على خلاف ما درج عليه كثير من المفسرين وأهل اللغة من تفسير الحمد مطلقًا بالثناء (¬2). الفرق بين الحمد والشكر: فسر بعض أهل العلم الحمد بمعنى الشكر، منهم المبرد (¬3) والطبري (¬4). قال الطبري: «العرب تقول الحمد لله شكرًا». والصحيح أن الحمد غير الشكر فالحمد كالمدح نقيضه الذم، ¬
والشكر نقيضه الكفران (¬1) وبين الحمد والشكر عموم وخصوص (¬2). فالحمد أعم من حيث ما يقع عليه، فهو يقع على الصفات اللازمة والمتعدية تقول: حمدته لفروسيته وشجاعته، وحمدته لكرمه. وهو أخص من حيث الأداة التي يقع بها، فهو يقع على الصفات اللازمة والمتعدية تقول: حمدته لفروسيته وشجاعته، وحمدته لكرمه. وهو أخص من حيث الأداة التي يقع بها، فهو يقع باللسان فقط، قال تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} (¬3). قال الزمخشري (¬4): «وهو إحدى شعب الشكر «. قلت: وليس معنى كونه يقع باللسان فقط أن يكون ذلك بدون مواطأة القلب وموافقته، لأن الحمد كما تقدم وصف المحمود بصفات الكمال مع المحبة والتعظيم في القلب، ومعلوم أن مدار الأعمال كلها صلاحًا أو فسادًا على القلب قال - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى «(¬5) وقال - صلى الله عليه وسلم -: «ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي ¬
القلب «(¬1). ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية (¬2) رحمه الله: (والحمد إنما يكون بالقلب واللسان ...). والشكر أخص من حيث ما يقع عليه فهو لا يقع إلا على الصفات المتعدية. تقول: شكرته لكرمه، ولا تقول: شكرته لفروسيته وشجاعته، فهو لا يكون إلا جزاء على نعمة بينما الحمد يكون جزاء كالشكر، ويكون ابتداء. وهو: أي الشكر أعم من حيث الأداة التي يقع بها، فهو يقع في القلب واللسان والجوارح كما قال الشاعر: ولكنني حاولت في الجهد مذهبًا وما كان شكري وافيًا بِنَوَالِكُم أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا (¬3) فالشكر بالقلب بالاعتراف بالنعمة باطنًا ونسبتها إلى المُنعم بها ومسديها. والشكر باللسان بالاعتراف بالنعمة ظاهرًا والتحدث بها باللسان. قال الله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (¬4). ¬
وهذا على القول بأنه يدخل تحت معنى الآية التحدث بنعم الله عامة والآية تحتمله بلا شك، لأنه لا ينافي القول بأن المراد بالنعمة هنا نعمة النبوة. والشكر بالجوارح بالاستعانة بالنعمة على طاعة المُنعم قولًا وعملًا كما قال تعالى {اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا} (¬1). وقام - صلى الله عليه وسلم - حتى تورمت قدماه، وقال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا» (¬2). ويكون بظهور أثر النعمة على المنعم عليه. كما في الحديث «إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده «(¬3). وفي حديث أبي مالك الجشمي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا آتاك الله مالًا فلْيُرَ أثر نعمة الله عليك وكرامته» (¬4). والمدح أعم منهما جميعًا: من حيث ما يقع عليه (¬5)، فإنه يقال مما يقع من الإنسان بالتسخير، ومما يقع منه باختياره متعديًا أو لازمًا، فقد يُمدح الإنسان بطول قامته، كما يُمدح ببذل ماله وسخائه وعلمه، ¬
«لله»
كما يمدح بفروسيته وشجاعته. وهو تقع على الحي والميت، وعلى الحيوان والنبات والجماد والزمان والمكان وغير ذلك، وهو كالحمد من حيث إنه يقع بالقول باللسان لا غير. قال الراغب (¬1): «فكل شكر حمد، وليس كل حمد شكرًا، وكل حمد مدح، وليس كل مدح حمدًا». «لله» اللام حرف جر، وهي تفيد معنى الاختصاص والاستحقاق (¬2)، ولفظ الجلالة مجرور بها والجار والمجرور متعلقان بمحذوف هو خبر (الحمد) تقديره: مستحق، أو واجب أو ثابت لله. وقد تقدم في بحث البسملة الكلام مستوفي على معنى لفظ الجلالة (الله) واشتقاقه (¬3). ومعنى (الحمد لله): أي أن الحمد المطلق لله وحده فهو المستحق له المختص به دون سواه وحمده - تعالى هو وصفه - عز وجل - بصفات الكمال اللازمة والمتعدية، كمال العظمة وكمال الإحسان والنعمة مع المحبة والتعظيم له والرضا عنه والخضوع له، لأنه المنعم بأكبر النعم وأعظمها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية (¬4) - رحمه الله -: «والحمد نوعان حمد على إحسانه إلى عباده وهو من الشكر، وحمد لما يستحقه هو بنفسه من نعوت كماله، وهذا الحمد لا يكون إلا على ما هو في نفسه مستحق» ¬
للحمد، وإنما يستحق ذلك من هو متصف بصفات الكمال، وهي أمور وجودية،، فإن الأمور العدمية المحضة لا حمد فيها، ولا خير ولا كمال. ومعلوم أن كل ما يحمد فإنما يحمد على ماله من صفات الكمال، فكل ما يحمده به الخلق فهو من الخالق، والذي منه ما يحمد عليه هو أحق بالحمد، فثبت أنه المستحق للمحامد الكاملة، وهو أحق من كل محمود بالحمد، والكمال من كل كامل، وهو المطلوب». وقال ابن القيم (¬1) - رحمه الله تعالى-: «الحمد يتضمن مدح المحمود بصفات كماله، ونعوت جلاله، مع محبته والرضا عنه والخضوع له، فلا يكون حامدًا من جحد صفات المحمود، ولا من أعرض عن محبته والخضوع له. وكلما كانت صفات كمال المحمود أكثر كان حمده أكمل، وكلما نقص من صفات كماله نقص من حمده بحبسها. ولهذا كان الحمد لله، حمدًا لا يحصيه سواه، لكمال صفاته وكثرتها، ولأجل هذا لا يحصي أحد من خلقه ثناء عليه (¬2)، لما له من صفات الكمال، ونعوت الجلال التي لا يحصيها سواه ...». والذين قالوا معنى الحمد الثناء، معناه عندهم: الثناء عليه - تبارك ¬
وتعالى - بأسمائه الحسنى وصفاته العليا. قال القرطبي (¬1) - رحمه الله تعالى- «الحمد قي كلام العرب معناه الثناء الكامل ... فهو سبحانه يستحق الحمد بأجمعه إذ له الأسماء الحسنى والصفات العليا». وقال - أيضًا - «الحمد ثناء على الممدوح بصفاته .... وذكر عن جعفر الصادق في قوله (الحمد لله) قال: من حمده بصفاته كما وصف نفسه فقد حمد ....». وقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} جملة خبرية فيها معنى الأمر، فهو - جل وعلا - يخبر عن اتصافه بالحمد، ويأمر عباده أن يحمدوه (¬2). كما قال تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّه} (¬3). وإنما جاءت جملة اسمية للدلالة على الاستمرار والدوام، فله سبحانه وتعالى الحمد في جميع الأوقات والأزمان، وهو المحمود بكل حال، على ماله - سبحانه - من المحاسن والإحسان، وعلى ماله من الأسماء الحسنى والمثل الأعلى، وما خلقه في الآخرة والأولى (¬4). افتتح كتابه بالحمد فقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ¬
وله الحمد على إنزاله، كما قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} (¬1). وله الحمد على خلق السموات والأرض وسائر المخلوقات. قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} (¬2). وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} (¬3). وله الحمد على ملك ما في السموات والأرض قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} (¬4). وله الحمد في السموات والأرض، وفي جميع الأوقات. قال تعالى: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} (¬5). وله الحمد في الدنيا والآخرة. قال تعالى: {لَهُ الحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآَخِرَةِ} (¬6). وقال تعالى: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} (¬7). وحمده تعالى آخر دعوى أهل الجنة، كما قال تعالى: {وَآَخِرُ ¬
دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬1). وشق لنبيه - صلى الله عليه وسلم - اسمًا من الحمد، فسماه: محمدًا. قال حسان بن ثابت - رضي الله عنه - (¬2) -: وضم الإله اسم النبي إلى اسمه ... إذا قال في الخمس المؤذن أشهد وشق له من اسمه (¬3) ليجله ... فذو العرش محمد وهذا محمد فهو تعالى المحمود على الدوام في جميع الأحوال، ولهذا أمر عباده أن يحمدوه في آيات كثيرة. وكان نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى ما يحب قال: «الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وإذا رأى ما يكره قال: الحمد لله على كل حال» (¬4). كما رغب - صلى الله عليه وسلم - بحمد الله تعالى في أحاديث كثيرة منها: ما رواه أبو مسلم الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك، أو عليك، كل ¬
الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها، أو موبقها» رواه مسلم (¬1). وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله ليرضى عن العبد أن يأكله الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها» رواه مسلم (¬2). وبما أن كل نعمة على العباد فهي من الله تعالى كما قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (¬3)، وبما أن نعم الله على العباد كثيرة لا تحصى، كما قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} (¬4). فإن العبد ليس بمقدوره أن يشكر الله حق شكره على هذه النعم التي منها النعم الدينية من الإيمان والعلم والتقوى، والنعم الدنيوية كالصحة والمال والنعم أخروية وهي الجزاء الكثير على العمل القليل في العمر القصير، ومضاعفة الحسنة إلى عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة. إذ كيف يمكن العبد أن يشكر الله حق شكره والشكر نفسه نعمة من الله على العبد تستوجب الشكر. فما على العبد إلا أن يقوم بما يستطيع من الشكر ويقول «سبحانك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» (¬5). ¬
وكما قيل: إذا كان شكري نعمة الله نعمة ... علي بها لله يستوجب الشكر فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله ... وإن طالت الأيام واتصل العمر {رَبِّ الْعَالَمِينَ}: رب صفة أولى للفظ الجلالة «الله»، أو بدل منه. ورب مضاف والعالمين مضاف إليه، مجرور وعلامة جره الياء، لأنه ملحق بجمع المذكر السالم. و «رب العالمين» بمعنى خالقهم ومالكهم والمتصرف فيهم. و «رب» في الأصل مأخوذ من التربية للشيء وتنميته، وتبليغه إلى كماله، كما قال تعالى: {نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} (¬1) أي اللاتي تربونهن في حجوركم. وهو بمعنى المالك والسيد، كما قال تعالى: {أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا} (¬2) أي مالكه وسيده. وفي الحديث: «أن تلد الأمة ربتها» (¬3) ¬
أي مالكتها وسيدتها. وبمعنى: المعبود حتى لو كان بغير حق، كما قال تعالى: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (¬1). وقال أحد المشركين وقد وجد الثعلب قد بال على صنمه: أرب يبول الثعلبان برأسه ... لقد هان من بالت عليه الثعالب (¬2) وبمعنى القائم على الشيء ومدبره ومصلحه ومتوليه. ومنه قول في الحديث: «هل لك عليه من نعمة تربها (¬3)»: أي تقوم بها وتصلحها. وقال ابن عباس - رضي الله عنه -: «لأن يربني بنو عمي أحب إلي من أن يربني غيرهم» (¬4): أي يكون على ربا، أي أميرًا يقوم بأمره ويملك تدبيره ويدخل تحت طاعته. ومنه قولهم: «أديم مربوب» (¬5) وقول النابغة الذبياني (¬6): تخب إلى النعمان حتى تناله ... فدى لك من رب طريفي وتالدي ¬
وبمعنى صاحب الشي، كما قال تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} (¬1) أي صاحب العزة. وكل هذه المعاني حق بالنسبة له - تعالى - فهو تعالى مربي الخلق وخالقهم ومالكهم وسيدهم، وهو معبودهم بحق، وهو القيوم على كل شيء ومدبره ومصلحه. وهو صاحب العزة سبحانه وتعالى (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية (¬3) «الرب: هو المربي الخالق الرازق الناصر الهادي». واسمه تعالى «الرب» يفيد أن الربوبية صفة ذاتية له - تبارك وتعالى وصفة فعلية (¬4). وربوبية الله لخلقه نوعان: ربوبية خاصة، وربوبية عامة: فالربوبية العامة: هي خلقه للمخلوقين وملكه لهم، وتدبيره الكوني لهم، ورزقه لهم، وهدايتهم لمصالح دنياهم ونحو ذلك. وهذه شاملة لجميع الخلق مؤمنهم وكافرهم، ناطقهم وبهيمهم، جيهم وجمادهم كما في قوله - تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. ¬
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} (¬1). وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} (¬2). والربوبية الخاصة: هي ربوبية الله - تعالى - لأوليائه بهدايتهم إلى الصراط المستقيم بالإيمان والعلم الناف، والعمل الصالح، وفعل الخيرات، وترك المنكرات، وذلك ملاك الأمر مع توفيقهم وحفظهم. كما قال إبراهيم - عليه السلام -: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا} (¬3). وقال موسى - عليه السلام -: {رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} (¬4). وكما في قول المؤمنين: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (¬5) وغير ذلك. ولما كان من أخص معاني الرب المالك والمدبر والقائم بما يصلح الخلق كان كثير من دعاء الأنبياء والمؤمنين باسمه تعالى «الرب» لأنه أحق باسم الاستعانة والمسألة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية (¬6): «فعامة المسألة والاستعانة ¬
المشروعة باسم الرب». و «الرب» بالتعريف لا يطلق إلا على الله تعالى. ورب كذا بالإضافة يطلق عليه وعلى غيره فلزم إذا أريد به غير الله أن يقيد بالإضافة فيقال: رب الدار، ورب الإبل (¬1)، كما قال تعالى: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا} (¬2). وقال يوسف عليه السلام: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} (¬3). وقال أيضًا: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} (¬4). وفي الحديث: «أن تلد الأمة ربتها» (¬5). ويظهر جليًا من تعريف اسمه تعالى «الله»، و «رب العالمين» دخول اسم «الرب» في اسمه تعالى «الله». قال شيخ الإسلام ابن تيمية (¬6) عن هذين الاسمين: «فالاسم الأول - يعني - «الله» يتضمن غاية العبد ومصيره ومنتهاه، وما خلق له، وما فيه صلاحه وكماله وهو عبادة الله. والاسم الثاني - يعني - «رب العالمين» يتضمن خلق العبد ومبتداه، وهو أنه يربه ويتولاه، مع أن ¬
الثاني يدخل في الأول دخول الربوبية في الإلهية، والربوبية تستلزم الألوهية أيضًا». والعالمين: جمع عالم بفتح اللام، اسم جمع لا واحد له من لفظه، كرهط وقوم. والعالمين: كل موجود سوى الله - تعالى - وقد جمع ليشمل كل جنس ممن سُمي به، فيعم جميع المخلوقات في السموات والأرض، وما بينهما من الملائكة والإنس والجن والشياطين، والحيوانات والجمادات وغير ذلك من سائر المخلوقات (¬1) كما خلت عليه «أل» الدالة على الاستغراق ليشمل كل فرد من أفراد تلك الأجناس (¬2). وهو مشتق من العلامة (¬3)، لأن كل ما في الوجودمن المخلوقات علامة على وجود الله، وكماله بذاته وصفاته. كما قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)} (¬4). وقال تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ ¬
وَأَلْوَانِكُمْ} (¬1). إلى غير ذلك من الآيات (¬2). قال ابن المعتز: فواعجبا كيف يعصى الإله ... أم كيف يجحده الجاحد وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد ويقال إنه مشتق من «العلم» بكسر العين (¬3). والقول بأنه مشتق من «العلم» إن أريد به أنه تعالى خلق «العالمين» عن علم منه جل وعلا بهم، كما خلقهم - أيضًا - عن قدرة تامة «فصحيح»، كما قال تعالى {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (¬4). وإن أريد به أن هذه المخلوقات سميت عوالم، لأن عندها شيئًا من العلم المحدود الناقص القليل، أو عندها ما يخصها من العلم. كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (¬5) فهذا محتمل. والقول بأنه مشتق من العلامة هو الأظهر، ويحتمل أنه مشتق منها ¬
ومن العلم (¬1) والله أعلم. وجميع «العالمين» جمع من يعقل، علمًا أنه يتناول العقلاء وغيرهم من باب تغليب العقلاء على من سواهم، لأن العقلاء هم المعنيون بالخطاب والتكليف، لما ميزهم الله به عن الحيوان والجماد من العقل والإدراك، الذي هو مناط التكليف. وهذا كقوله - تعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (¬2). وكقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} (¬3). فقد غلب العقلاء على غيرهم في الآية الأولى بقوله {عَرَضَهُمْ}، {هَؤُلَاءِ}، وفي الآية الثانية بقوله: {فَمِنْهُمْ}. أما قوله تعالى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (¬4) ونحوه. فالمراد به الإنس والجن فقط فاستخدم لفظ «العالمين» لبعض مدلوله. وإنما حمل على أنه خاص بهم، لأنهم هم المعنيون بالنذارة دون غيرهم من سائر المخلوقات. ¬
وهكذا فإن السياق نفسه يحدد المراد بلفظه: «العالمين» أهو العموم لجميع المخلوقات كما في أكثر المواضع الواردة في القرآن أم الخصوص لبعضعها كما في آية الفرقان. وكما في قوله: {أَتَاتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} (¬1). فالمراد بهذا الذكران من عالمي زمانهم من الإنس، وهكذا. {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}: الرحمن صفة ثانية للفظ الجلالة «الله» والرحيم صفة ثالثة له، وكل منهما مجرور وعلامة جره الكسرة الظاهرة على آخره أو هما بدلان من لفظ الجلالة. وهذا بعد قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} ثناء على الله - تبارك وتعالى لقوله - عز وجل - في حديث أبي هريرة: «فإذا قال العبد (الرحمن الرحيم) قال الله: أثنى علي عبدي» رواه مسلم (¬2). و «الرحمن الرحيم»: اسمان من أسماء الله - تعالى يدل كل منهما على إثبات صفة الرحمة وأثرها، وقد تقدم الكلام عليهما مستوفى في الكلام على البسملة (¬3). قال شيخ الإسلام ابن تيمية (¬4) بعدما بين أن اسم «الله» أحق بالعبادة، وأن اسم «الرب» أحق بالاستعانة - قال: «والاسم «الرحمن» ¬
يتضمن كمال المتعلقين، وبوصف (¬1) الحالين فيه تتم سعادته - يعني العبد - في دنياه وأخراه، ولهذا قال - تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}. فذكر ههنا الأسماء الثلاثة: «الرحمن»، و «ربي»، و «الإله»، وقال: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} (¬2) كما ذكر الأسماء الثلاثة في أم القرآن ...». {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} مالك صفة رابعة للفظ الجلالة «الله» أو بدل منه مجرور مثله وعلامة جره الكسرة الظاهرة على آخره، وهو مضاف و «يوم» مضاف إليه مجرور، ويوم مضاف و «الدين» مضاف إليه مجرور وعلامة جره كل منهما الكسرة الظاهرة على آخره. وهذا بعد قوله - تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ*الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} تمجيد الله - تعالى. لقوله - تعالى - في حديث أبي هريرة: [«فإذا قال العبد: {مَالِكِ} قال الله: «مجدني عبدي». قرأ عاصم والكسائي: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} بالالف اسم فاعل من «الملك» بكسر الميم وسكون اللام كقوله - تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} (¬3). ومعنى «المالك»: المتصرف في الأعيان المملوكة كيف يشاء. وقرأ باقي السبعة (ملك) والملك هو الحي الذي يتصرف فيأمر وينهي ويطاع، مأخوذ من «الملك» بضم الميم كقوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ ¬
أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (¬1)، وقوله: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (¬2)، وقوله: {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ} (¬3)، وقوله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ} (¬4)، وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} (¬5)، وقوله تعالى {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} (¬6)، وقوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ} (¬7). و «ملك» على وزن «فعل» صفة مشبهة تدل على ثبوت ملكه ودوامه، وأن له التصرف التام في الأمر والنهي. وقراءة «ملك» أعم وأشمل من قراءة «مالك» إذ إن كل ملك مالك، وليس كل مالك ملكًا (¬8). وقال بعضهم بل قراءة (مالك) أعم وأشمل. قال في «لسان العرب» (¬9): «روى المنذر عن أبي العباس أنه اختار «مالك يوم الدين» وقال: كل من يملك فهو مالك، لأن بتأويل الفعل مالك يوم الدين أي ¬
يملك إقامته، ومنه قوله تعالى: {مَالِكَ الْمُلْكِ}» (¬1). وكل من القراءتين سبعية وصحيحة ثابتة، نزل بها جبريل من عند الله على النبي - صلى الله عليه وسلم - وإذا صح في الآية أكثر من قراءة فكل قراءة بمثابة آية. ولا تجوز المقارنة بين ألفاظ تلك القراءات من حيث الجودة والحسن إذ ليس في كلام الله جيد وأجود، وحسن أحسن، بل كل كلامه - تعالى في غاية الجودة والحسن، وفي أعلى مراتب الفصاحة والبلاغة، قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (¬2). {يَوْمِ الدِّينِ} «اليوم» في الأصل هو القطعة من الزمن قليلة كانت أو كثيرة: أي مطلق الوقت. فمن إطلاقه على الزمن وإن كان قليلًا قوله - تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} (¬3): أي ساعة التي الجمعان. وقوله تعالى: {رَبِّكَ يَوْمَ يَاتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} (¬4). وقوله تعالى: {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} (¬5)، ويقال: «شاهدتك يومًا، أو سمعتك يوم كذا»: أي لحظة من يوم (¬6). ¬
كما يطلق على الزمن الطويل قال تعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} (¬1). وقال تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} (¬2)، وهو اليوم الآخر، ويوم القيامة، كما ذكره الله تعالى في آيات عديدة من كتابه العزيز. واليوم في الشرع: ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس (¬3). ومنه قوله - تعالى -: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} (¬4)، وقوله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (¬5). وقوله: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} (¬6)، وقوله: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} (¬7)، وقوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} (¬8). ومنه قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} (¬9). ¬
لأن الصحيح من أقوال أهل العلم أن هذه الأيام الستة كأيام الدنيا، لأن الله خاطب العرب بما يعرفون. وأيام الله تعالى هي نعمه تعالى، وثوابه للمطيعين، ووقائعه في العاصين كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} (¬1). وقال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (¬2). و (الدين) هو الحساب والجزاء على الأعمال خيرها وشرها (¬3). كما قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)} (¬4) أي جزاء أعمالهم. وقال تعالى: {فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87)} (¬5): أي غير مجزيين بأعمالكم ومحاسبين عليها. وذكر الله عن الكفار قولهم: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا ¬
لَمَدِينُونَ} (¬1): أي لمجزيون، وقال تعالى: {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} (¬2): أي إن الجزاء على الأعمال لواقع حقيقة. وقال تعالى: {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} (¬3): أي تكذبون بالحساب والجزاء على الأعمال. وقال تعالى: {يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ} (¬4). وقال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} (¬5). وقال تعالى: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} (¬6): أي فما يكذبك بالبعث والحساب والجزاء على الأعمال. وتفسير الدين بالمحاسبة والمجازاة معروف مشهور في كلام العرب. قال شهل بن شيبان من قصيدة له في حرب البسوس (¬7). ولم يبق سوى العدوا ... ن دناهم كما دانوا واعلم يقينًا أن ملكك زائل ... واعلم بأن كما تدين تدان (¬8) ¬
وقال آخر: حصادك يومًا ما زرعت وإنما ... يدان الفتى يومًا كما هو دائن (¬1) وفي المثل والأثر: «كما تدين تدان» (¬2). والمراد بـ {يَوْمَ الدِّينِ} يوم القيامة، يوم قيام الناس من قبورهم، وقيام الأشهاد من الرسل والأنبياء والصالحين والملائكة، ويوم قيام العدل الحقيقي، يوم إدانة الخلائق ومحاسبتهم ومجازاتهم بأعمالهم إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر. كما قال تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (¬3)، وقال تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (¬4). قال عمر - رضي الله عنه -: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا وتأهبوا للعرض الأكبر على من لا تخفى عليه أعمالكم {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} (¬5). ويطلق الدين على الملة والشريعة، كما قال تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ ¬
مُسْلِمُونَ} (¬1). وقال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (¬2)، وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (¬3)، وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} (¬4)، وقال تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (¬5)، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} (¬6)، وقال تعالى: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} (¬7)، وقال تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} (¬8). ويطلق على الحكم والقضاء الشرعي قال تعالى: {وَلَا تَاخُذْكُمْ بِهِمَا رَافَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} (¬9): أي في حكمه وقضائه الشرعي (¬10). وقال تعالى: {مَا كَانَ لِيَاخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} (¬11): أي في قضاء الملك ويطلق على العادة والشأن والحال والخلق (¬12). ¬
قال امرؤ القيس (¬1): كدينك من أم الحويرث قبلها ... وجارتها أم الرباب بمأسل وقال المثقب العبدي (¬2): تقول إذا درأت لها وضيني ... أهذا دينه أبدًا وديني ويطلق على الطاعة (¬3). قال زهير (¬4): لئن حللت بجو في بني أسد ... في دين عمرو وحالت بيننا فدك أي: في طاعة عمرو. وفي السير أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لقريش: «كلمة واحدة تعطونيها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم» (¬5): أي تطيعكم وتخضع لكم. ويطلق على القهر ومنه: المدين للعبد، والمدينة للأمة (¬6)، ومنه ¬
قول عمرو بن كلثوم (¬1): وأيام لنا غر طوال ... عصينا الملك فيها أن ندينا أي: أن نقهر. وقال ذو الاصبع العدواني (¬2): لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب ... عني ولا أنت دياني فتخزوني والدين: بالفتح ما تعلق بذمة العبد من حقوق الله، كصيام نذر، أو من حقوق العباد كثمن مبيع، أورد قرض ونحو ذلك. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (¬3)، وقال تعالى: {بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (¬4). وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ فقال: «لو كان على أمك دين، أكنت قاضيه عنها؟. قال: نعم. قال: «فدين الله أحق أن يقضى» متفق عليه (¬5). ¬
معنى (مالك يوم الدين)
وقال الشاعر: تعيرني بالدين قومي، وإنما ... تدينت في أشياء تكسبهم حمدًا (¬1) ومعنى (مالك يوم الدين): أي أنه - عز وجل - مالك ذلك اليوم، ومليكه، لا ملك في ذلك اليوم، ولا مالك سواه - تبارك وتعالى - فهو تعالى المالك لجميع الأعيان، المتصرف فيها، لا ينازعه أحد في مملوكاته. وهو الملك الذي أمره ونهيه نافذ في جميع مملكته جل وعلا. كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} (¬2)، وقال تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} (¬3)، وقال تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} (¬4)، وقال تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (¬5)، وقال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (¬6)، وقال تعالى: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} (¬7)، وقال تعالى: {يَوْمَ يَاتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} (¬8)، وقال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ ¬
وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} (¬1). وإنما أضاف «الملك» ليوم الدين، وخصه به، دون ملك أيام الدنيا، مع أنه تعالى مالك الدنيا والآخرة، ومليكهما كما قال تعالى: {وَإِنَّ لَنَا لَلْآَخِرَةَ وَالْأُولَى} (¬2)، وقال تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} (¬3)، وقال تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} (¬4)، لعظمة ذلك اليوم (¬5)، وتفرده - تعالى - بنفوذ الأمر فيه حيث يظهر للخلائق تمام الظهور تفرده بالملك حقيقة، وتمام ملكه وعدله تعالى - وحكمته، وانقطاع أملاك الخلائق الدنيوية (¬6). تلك الأملاك التي خولها الله تعالى - من شاء كما قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} (¬7) وقال ¬
تعالى: {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ} (¬1). وكما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} (¬2)، وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآَتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} (¬3). وهذه الأملاك الدنيوية، ملوكها وما ملكوا ملك له - جل وعلا -. ولهذا حرم أن يتسمى بملك الأملاك، لأن الله - عز وجل - هو مالك الأملاك كلها ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة: «أخنع الأسماء عند الله رجل تسمى بملك الأملاك» (¬4). وكثير من هؤلاء الملوك خارجون عن طاعته - جل وعلا - مبارزون له في المعصية كما قال تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَاخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} (¬5) أي ملك عاص لله ظالم للعباد. بل كثير منهم يحكمون ممالكهم بغير حكم الله، ويظلمون عباد الله، ويتخوضون في مال الله بغير ما يرضي الله. وقد حكم الله تبارك وتعالى وقضى بزوال هذه الأملاك، ورجوع الملك له وحده في ذلك اليوم، كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ ¬
عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} (¬1)، وقال تعالى: {وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} (¬2)، وذلك هو الملك الحقيقي، كما قال تعالى: {وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} (¬3)، وقال تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} (¬4) وقال تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} (¬5)، وقال تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (¬6)، وقال تعالى: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} (¬7). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «يقبض الله الأرض، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض» (¬8). وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «يطوي الله - عز وجل - السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟، أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين ¬
المتكبرون؟» (¬1). بل إن ذلك اليوم هو اليوم الحقيقي، قال تعالى: {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآَبًا} (¬2). فمجيئه حق، وفيه يظهر الحق تمام الظهور، وهو اليوم الذي يستحق أن يعمل له، وأن يحسب له كل حساب لا أيام الدنيا بل ولا الدنيا كلها. ولهذا نجد القرآن الكريم كثيرًا ما يقرن بين الإيمان بالله تعالى، والإيمان بهذا اليوم «اليوم الآخر» لأنه أكبر حافز على الاستعداد بالأعمال الصالحة (¬3). وقد روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: «لولا الإيمان باليوم الآخر لرأيت من الناس غير ما ترى»: أي إن ذلك اليوم أعظم مانع للناس من التهالك في الشر والمعاصي. وتلك الدار هي الدار الحقة، وتلك الحياة هي الحياة الحقيقة، قال الله - تعالى-: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (¬4). لهذا كله أضاف الله تبارك وتعالى - الملك إلى يوم الدين، إضافة ¬
إلى أن في قوله قبل هذا: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} ما يدل على أنه مالك الدنيا (¬1). قال ابن كثير (¬2): «وتخصيص الملك بيوم الدين لا ينفيه عما عداه، لأنه قد تقدم الإخبار بأنه رب العالمين، وذلك عام في الدنيا والآخرة ...». {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} هذه الآية هي الآية الرابعة من الفاتحة، نصفها للرب - جل وعلا -، ونصفها للعبد كما قال الله - عز وجل - في حديث أبي هريرة: «فإذا قال العبد {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال الله: هذا بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل ...» فقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} للرب تبارك وتعالى - مع ثلاث آيات قبلها، وقوله {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} للعبد، مع ثلاث آيات بعدها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية (¬3) في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}: فهذا تفصيل لقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فهذا يدل على أنه لا معبود إلا الله، وأنه لا يستحق أن يعبد أحد سواه، فقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} إشارة إلى عبادته بما اقتضته إلهيته من المحبة والخوف والرجاء والأمر والنهي. {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ¬
إشارة إلى ما اقتضته الربوبية، من التوكل والتفويض والتسليم». و {إِيَّاكَ} في الموضعين ضمير بارز منفصل مبني على الفتح في محل نصب مفعول به مقدم للفعل بعده أو «إيا» ضمير مبني في محل نصب مفعول به والكاف حرف خطاب، لا محل له من الإعراب. وهذا مذهب الأخفش، واختاره الزمخشري، وقال: «وعليه ... المحققون» (¬1). وقُدم المفعول «إياك» على الفعل فى الموضعين للاهتمام (¬2)، ولئلا يتقدم ذكر العبد والعبادة على المعبود (¬3)، كقوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا} (¬4)، وقوله: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَامُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64)} (¬5)، ولئلا يتقدم ذكر الاستعانة والمستعين على المستعان به- جل وعلا كقوله -تعالى: {فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)} (¬6). وقُدم أيضًا لإفادة الحصر والاختصاص، لأن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر (¬7) والاختصاص (¬8)، لأن في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} تحقيق لمعنى «لا إله إلا الله»، ففي تقديم المعمول ¬
إياك» في الموضعين نفي للعبادة عن الغير الله، ونفي للاستعانة بغيره. وفي قوله: «نعبد» و «نستعين» إثبات العبادة والاستعانة له سبحانه. قال ابن القيم - رحمه الله - في «مدارج السالكين» (¬1): «فهو في قوة لا نعبد إلا إياك ولا نستعين إلا بك. . مع أن في ضمير «إياك» الإشارة إلى نفس الذات والحقيقة ما ليس في الضمير المتصل، ففي «إياك» قصدت وأحببت من» الدلالة على معنى حقيقتك وذاتك قصدي ما ليس في قولك: «قصدتك وأحببتك. .» وكرر الضمير «إياك» مرة أخرى للاهتمام (¬2)، ولأن ذلك أفصح (¬3). قال ابن القيم (¬4): وفي إعادة «إياك» مرة أخرى دلالة على تعلق هذه الأمور بكل من الفعلان، ففي إعادة الضمير من قوة الاقتضاء لذلك ما ليس في حذفه فإذا قلت لملك مثلا: «إياك احب، وإياك أخاف وإياك أخاف» كان فيه من اختصاص الحب والخوف بذاته والاهتمام بذكره ما ليس في قوله: «إياك أحب وأخاف». وفي قوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} بعد الآيات الثلاث التفات من الغيبة إلى الخطاب كقوله - تعالى - ¬
{وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا *إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} (¬1) وعكسه قوله - تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} (¬2). والغرض العام من الالتفات في جميع المواضع التي ورد فيها هو تنبيه القارئ والمستمع لأن انتقال الكلام من الغيبة إلى الخطاب أو التكلم أو العكس ونحو ذلك مما بنيه القارئ والمستمع، وأدعى للصفاء، وأبعث على النشاط (¬3)، بخلاف ما إذا جاء الكلام على وتيرة واحدة، فإن القارئ أو المستمع قد يغفل أو يمل. وهناك غرض خاص في كل التفات بكل موضع بحسبه، وقد يكون هذا الغرض ظاهرًا كما في قوله -تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} (¬4). ثم قال: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} (¬5) فقوله: {وَمَا يُدْرِيكَ} التفات للخطاب بعد الغيبة في قوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى}. والغرض من مجيء الكلام أولا بضمير الغيبة كراهية مواجهة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بذلك فلم يقل: «عبست وتوليت أن جاءك الأعمى». بينما خاطبه مواجهة بقوله: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} إذ لا غضاضة، ولا ¬
{نعبد}
محذور في مواجهة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهذا الخطاب، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم الغيب قال تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (¬1). واختلف في الغرض الخاص من الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ... بعد الآيات الثلاث قبلها. فقد قيل إنه لما أثنى على الله فكأنه اقترب وحضر بين يدي الله تعالى- فلهذا قال:: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ.} (¬2) وقيل: لما ذكر الحقيق بالحمد والثناء والعبادة والاستعانة، فخوطب ذلك المعلوم المتميز بتلك الصفات، فقيل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. أي: (إياك) يا من هذه صفاته يخص بالعبادة والاستقامة (¬3). والله أعلم. {نَعْبُد}: العبادة في الأصل: التذلل والخضوع، ومنه سمي العبد عبدًا لذلته وخضوعه وسكينته وخشوعه وانقياده لمولاه. ومنه قولهم: بعير معبّد أي مذلّل بالركوب في الحوائج. قال طرفة بن العبد: (¬4) ¬
إلى أن تحتامني العشيرة كلها ... وأفردت إفراد البعير المعبد أي: المذلّل ومنه قولهم: طريق معبّد: أي مذلل بكثرة وطئه بالأقدام (¬1). وقال طرفة بن العبد (¬2): تُبارى عِتاقا ناجيات وأتبعت ... وظيفًا وظيفًا فوق مَور مُعَبَّد وقال عامر بن الطفيل (¬3): شحنا أرضهم بالخيل حتى ... تركناهم أذلّ من الصراط فمعنى {إِيَّاكَ نَعْبُد} أي نخصك دون غيرك بأقصى غاية التذلل والخضوع لك محبة وتعظيمًا وخوفًا. والعبادة تطلق ويراد بها فعل العبادة: أي التعبد وهو التذلل والخضوع لله محبة وتعظيمًا، وتطلق ويراد بها نفس العبادات، وهي بهذا الإطلاق: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال ¬
والأعمال الباطنة والظاهرة (¬1). قال ابن القيم (¬2): «وبني {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} على أربع قواعد: التحقق بما يحبه الله ورسوله ويرضاه من قول اللسان والقلب وعمل القلب والجوارح. فالعبودية اسم جامع لهذه المراتب الأربع، فأصحاب (إياك نعبد) حقًا هم أصحابها. فقول القلب هو اعتقاد ما أخبر الله سبحانه به عن نفسه، وعن أسمائه وصفاته وأفعاله وملائكته ولقائه على لسان رسله. وقول اللسان الإخبار عنه بذلك والدعوة إليه والذب عنه وتبيين بطلان البدع المخالفة له، والقيام بذكره، وتبليغ أوامره. وعمل القلب كالمحبة له، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والخوف منه، والرجاء له، وإخلاص الدين له، والصبر على أوامره، وعن نواهيه، وعلى أقداره، والرضى به وعنه، والموالاة فيه، والمعاداة فيه، والذل له والخضوع، والإخبات إليه، والطمأنينة به، وغير ذلك من أعمال القلوب التي فرضها أفرض من أعمال الجوارح، ومستحبها أحب إلى الله من مستحبها، وعمل الجوارح بدونها إما عديم المنفعة، أو قليل المنفعة، وأعمال الجوارح كالصلاة والجهاد ونقل الأقدام إلى الجمعة والجماعات، ومساعدة العاجز والإحسان إلى الخلق، ونحو ذلك، ف (إياك نعبد) التزام لأحكام هذه الأربعة وإقرار بها». وعلى هذا فكل ما أمر الله به، بل كل ما تعبد له به - سبحانه ¬
وتعالى - فهو عبادة سواء كان ذلك مما يجب فعله كالصلاة والزكاة والحج والصيام ونحو ذلك، أو مما يجب تركه من المحرمات كالربا والزنا والسرقة ونحو ذلك أو مما يستحب فعله كالصدقة والإحسان وإماطة الأذى عن الطريق، أو مما يستحب تركه كتدخل الإنسان فيما لا يعنيه، كما يدخل في ذلك الأمور المباحة كالأكل والشرب والنوم ونحو ذلك، فهذه المباحات مما يفعله الإنسان جبلة، وهي مصلحة صرفة للنفس إلا أن فعلها تقربًا إلى الله - تعالى -، وامتثالًا لأمره، وصيانة للنفس، وبهدف التقوى على طاعة الله تعالى، وإظهارًا لنعمته - تعالى على العبد، كل ذلك عبادة لله تعالى. عن عوف بن مالك بن نضلة الجشمي، قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في ثوب دون، فقال: «ألك مال؟ قال: نعم. قال: من أي المال؟ قال: آتاني الله من الإبل والغنم والخيل والرقيق. قال: فإذا آتاك الله مالا فليُرَ أثر نعمه الله عليك وكرامته» (¬1). وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده (¬2)». وبهذه النية والقصد الحسن تكون جميع أعمال العبد المباحة من عادات ونحوها عبادات بينما قد تصبح عبادات كثيرين أشبه شيء ¬
لا بد لصحة العبادة من توفر شرطين
بالعادات، بسبب الغفلة، وعدم استحضار النية والقصد الحسن. ولهذا يقال «المُوَّفقون عاداتهم عبادات والمخذولون عباداتهم عادات» والمُوَّفق من وفقه الله. ولا بد لصحة العبادة من توفر شرطين: الأول: الإخلاص لله -تعالى- كما دل على ذلك قوله -تعالى- {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}: أي نخصك بالعبادة ونخلصها لك، ونتبرأ من الشرك وأهله ووسائله. وقوله تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (¬1) وقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (¬2). وقوله تعالى: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (¬3). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قال الله -تبارك وتعالى-: أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه (¬4)». وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بالنيات» متفق عليه (¬5) والشرط الثاني: متابعة شرع الله. فقال - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في ¬
أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» متفق عليه (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد» (¬2). وذلك بأن تكون العبادة وفق ما شرع الله من حيث الجنس والقدر والصفة والزمان والمكان والسبب. فمثلًا زكاة الفطر عبادة ولا بد أن يكون المخرج فيها من جنس ما أمر الشرع بإخراجه وهو الطعام لا من الخضار، ولا بد من أن يكون المخرج عن الشخص الواحد بمقدار صاع على الصحيح. وأما موافقة الشرع في الصفة فبأن تكون العبادة على الصفة التي شرع الله كالصلاة مثلا ركوعها قبل سجودها ولو عكس لما صحت صلاته. وأما الزمان فيكون بالعبادة في وقتها كالصلاة مثلًا. وأما المكان فتكون العبادة في مكانها كذبح الهدي. وأما السبب فبأن يكون سبب العبادة قد وجد كصلاة الكسوف لا تصلى إلا عندما يحصل الكسوف أو الخسوف. وينتظم الشرطين معًا في الدلالة قوله تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عليهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (¬3)، وقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} (¬4) وقوله ¬
تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} (¬1) فالمراد بإسلام الوجه لله الإخلاص له في العبادة. والمراد بقوله: {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي متبع لما جاء عن الله، لا مبتدع وقال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (¬2)، وقال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (¬3). قال الفضيل بن عياض: «أي أخلصه وأصوبه» (¬4) وقد جعل الله -تعالى- العبودية وصفًا لأكمل خلقه وأحبهم إليه، وهم رسله وأنبياؤه -عليهم السلام، كما جعلها وصفًا لمن اصطفاه من المؤمنين. فوصف بها نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أفضل خلقه وخاتم رسله، في أشرف مقاماته، وهو مقام إنزال الكتاب عليه، فقال تعالى: {وَإِنْ ¬
كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَاتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} (¬1)، وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} (¬2)، وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} (¬3). ووصفه بها في مقام دعائه - صلى الله عليه وسلم - لربه، وعبادته له، ودعوته إليه فقال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} (¬4). وأرشده إلى القيام بالعبادة في أوقات الشدة والضيق، وأمره بالاستمرار عليها حتى الموت فقال: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَاتِيَكَ الْيَقِينُ} (¬5). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله» (¬6). وعن عبد الله بن عمرو قال: «قرأت في التوراة صفة محمد - صلى الله عليه وسلم -: محمد رسول الله، عبدي ورسولي، سميته المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ¬
ويغفر» (¬1) كما وصف الله بها سائر أنبيائه ورسله فقال تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} (¬2)، وقال تعالى {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ} (¬3)، وقال عن سليمان: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (¬4)، وقال تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ} (¬5)، وقال تعالى عن المسيح: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عليهِ} (¬6) وقال عنه وعن الملائكة: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} (¬7). وقال أيضًا عن الملائكة {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} (¬8)، وقال عنهم: {وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} (¬9)، وقال عنهم: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} (¬10) كما وصف الله بها الصالحين من المؤمنين فقال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} (¬11)، وقال تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ¬
اللَّهِ} (¬1). وجعل لهم البشارة المطلقة فقال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (¬2).كما جعل لهم الأمن المطلق فقال: {يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عليكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ *الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} (¬3) عزل عنهم سلطان الشيطان فقال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عليهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} (¬4). وجعل - صلى الله عليه وسلم - إحسان العبودية أعلى مراتب الدين فقال في حديث جبريل وقد سأله عن الإحسان فقال: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» متفق عليه (¬5). وقوله {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} معطوف على {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} وهو وما بعده من الآيات للعبد كما سبق بيانه. ومعنى {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}: أي نخصك بطلب العون منك في جميع أمورنا (¬6) الدينية والدنيوية في جميع الأوقات ¬
والأحوال، ونعتمد عليك في جلب المنافع ودفع المضار، مع تمام الثقة بك يا ربنا في تحصيل ذلك (¬1)، ونعلن لك عجزنا وضعفنا وبراءتنا من حولنا وقوتنا وحول كل مخلوق وقوته، فلا حول ولا قوة إلا بالله. ولهذا شرع للمسلم أن يقول عند قول المؤذن: حي على الصلاة حي على الفلاح: «لا حول ولا قوة إلا بالله» (¬2) وفي الدعاء في الحديث: «اللهم لا تكلني إلى نفسي ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين» (¬3). قال ابن القيم (¬4) - رحمه الله -: «فإن قلت فما معنى التوكل والاستعانة؟ قلت: هو حال للقلب ينشأ عن معرفته بالله، والإيمان بتفرده بالخلق والتدبير والضر والنفع والعطاء والمنع، وأنه ما شاء كان، وإن لم يشأ الناس، وما لم يشأ لم يكن، وإن شاءه الناس فيوجب له هذا اعتمادًا عليه، وتفويضًا إليه، وطمأنينة به، وثقة به، ويقينًا بكفايته لما توكل عليه فيه، وأنه ملئ به، ولا يكون إلا بمشيئته شاءه الناس أم أبوه، فتشبه حالته حالة الطفل مع أبويه، فيما ينوبه من رغبة ورهبة هما مليان بهما، فانظر في تجرد قلبه عن الالتفات إلى غير أبويه، وحبسه همه على إنزال ما ينوبه بهما فهذه حال المتوكل، ومن كان هكذا مع الله فالله كافيه ولا بد. ¬
قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (¬1) أي كافيه، والحسب: الكافي، فإن كان مع هذا من أهل التقوى كانت له العاقبة الحميدة». وذكرت الاستعانة بعد العبادة مع أن الاستعانة من العبادة من باب ذكر الخاص بعد العام، وتقديم حقه تعالى على حق عباده وحاجتهم، ومن باب تقديم الغاية المقصودة على الوسيلة، وتقديم الأهم على المهم. والعبادة والاستعانة متلازمتان: فلا تحقق أحداهما دون الأخرى فالعبادة لا تتحقق بدون الاستعانة بالله، وعونه للعبد، ولا يحصل العون من الله بدون عبادته، وطلب العون منه (¬2). وبهما معًا يتحقق الإيمان فبالعبادة الخالصة لله براءة من الشرك، وبالاستعانة بالله دون سواء براءة من الحول والقوة، وتمام التفويض إلى الله - عز وجل - وهما كمال الطاعة وبهما تحصل السعادة الأبدية والنجاة من جميع الشرور. قال ابن القيم (¬3): «وتقديم العبادة على الاستعانة في الفاتحة من باب تقديم الغايات على الوسائل، إذ العبادة غاية العباد التي خلقوا لها، والاستعانة وسيلة إليها، ولأن {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}» متعلق بألوهيته ¬
واسمه «الله» و {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} متعلق بربوبيته واسمه «الرب». فقدم {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} على {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، كما تقدم اسم ... «الله» على «الرب» في أول السورة (¬1)، ولأن {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} قسم الرب، فكان من الشطر الأول، الذي هو ثناء على الله تعالى، لكونه أولى به و {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قسم العبد، فكان من الشطر الذي له وهو {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إلى آخر السورة، لأن العبادة المطلقة تتضمن الاستعانة من غير عكس، فكل عابد لله تعالى عبودية تامة مستعين به، ولا ينعكس، لأن صاحب الأغراض والشهوات قد يستعين به على شهواته فكانت العبادة أكمل وأتم، ولهذا كانت قسم الرب، ولأن الاستعانة جزء من العبادة، من غير عكس، ولأن الاستعانة طلب منه، والعبادة طلب له، ولأن العبادة لا تكون إلا من مخلص، والاستعانة تكون من مخلص ومن غير مخلص، ولأن العبادة حقه الذي أوجبه عليك، والاستعانة طلب العون على العبادة، وهو بيان صدقته التي تصدق بها عليك، وأداء حقه أهم من التعرض لصدقته. ولأن العبادة شكر نعمته عليك، والله يحب أن يشكر. والإعانة فعله بك، وتوفيقه لك. فإذا التزمت بعبوديته، ودخلت تحت رقها أعانك عليها، فكان التزامها والدخول تحت رقها سببًا لنيل الإعانة، وكلما كان العبد أتم عبودية كانت الإعانة من الله له أعظم. والعبودية محفوفة بإعانتين إعانة ¬
قبلها على التزامها، والقيام بها، وإعانة بعدها على عبودية أخرى، وهكذا أبدًا حتى يقضي العبد نحبه. ولأن {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} له و {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} به، وما لم مقدم على ما به، لأن ماله متعلق بمحبته ورضاه، وما به متعلق بمشيئته، وما تعلق بمحبته أكمل مما تعلق بمجرد مشيئته، فإن الكون كله متعلق بمشيئته، والملائكة والشياطين والمؤمنون والكفار والطاعات والمعاصي. والمتعلق بمحبته طاعاتهم وإيمانهم. فالكفار أهل مشيئته، والمؤمنون أهل محبته، ولهذا لا يستقر في النار شيء لله أبدًا، وكل ما فيها فإنه به تعالى وبمشيئته. فهذه الأسرار يتبين بها حكمة تقديم {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} على {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. وقد قرن الله تعالى بين عبادته وبين الاستعانة به، والتوكل عليه، وأكد ذلك في مواضع كثيرة من القرآن الكريم (¬1). قال الله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عليهِ} (¬2). وقال تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عليهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (¬3)، وقال تعالى: {قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عليهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} (¬4)، وقال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ ¬
بِحَمْدِهِ} (¬1). وقال شعيب - عليه السلام -: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عليهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (¬2). وقال المؤمنون فيما ذكره الله عنهم: {رَبَّنَا عليكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (¬3). وقال تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} (¬4). وقال تعالى: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عليهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عليهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} (¬5). قال الزمخشري (¬6) في كلامه على قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} «فإن قلت لم قرنت الاستعانة بالعبادة؟ قلت: ليجمع بين ما يتقرب به العباد إلى ربهم، وبينما يطلبونه ويحتاجون إليه من جهته». ¬
{اهدنا الصراط المستقيم}
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}: إهدنا: فعل أمر معناه الدعاء (¬1)، لأن الأمر إذا صدر من الأعلى إلى الأدنى فهو أمر، وأما إذا جاء من الأدنى إلى الأعلى فهو دعاء، وإن كان من المتساويين فهو التماس. والفاعل: ضمير مستتر وجوبًا تقديره: «أنت» و «نا» ضمير متصل في محل نصب مفعول أول للفعل «اهد». والمفعول الثاني ... «الصراط». والأصل في الفعل «هدى» أنه يتعدى إلى مفعولين الأول بنفسه، ويتعدى إلى المفعول الثاني تارة بنفسه كما في قوله- تعالى -: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}. ومنه قوله تعالى: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} (¬2)، وقوله تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (¬3). وتارة يتعدى إلى المفعول الثاني بحرف الجر، إما باللام كقوله - تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (¬4)، وكقوله - تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} (¬5)، وإما بإلى كقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬6). وقوله: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬7)، وقوله: {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ ¬
مُسْتَقِيمٍ} (¬1)، وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬2)، وقوله تعالى: {اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬3)، وقوله تعالى: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} (¬4)، وقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬5). قال الطبري (¬6): «والعرب تقول: هديت فلانًا الطريق، وهديته للطريق، وهديته إلى الطريق». والهداية تنقسم إلى قسمين: هداية البيان والدلالة والإرشاد، كما قال تعالى: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ} (¬7) أي: أفلم يتبين لهم. وقال تعالي: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} (¬8) أي: لتستدلوا بها وتسترشدوا. وهذه الهداية عامة. فالله -تعالى هاد، بمعنى مبين ومرشد للعباد ¬
كما قال - تعالى -: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} (¬1)، وقال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (¬2)، وقال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (¬3)، وقال تعالى: {إِنَّ علينَا لَلْهُدَى} (¬4). والرسل هداة إلى الله تعالى، كما قال تعالى - عن أفضلهم نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬5) وقال: {فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} (¬6). وقال موسى - عليه السلام - مخاطبًا فرعون {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} (¬7). والدعاة إلى الله من المؤمنين هداة كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} (¬8). والقسم الثاني هداية التوفيق والإلهام والقبول. وهذه خاصة بالله - تبارك وتعالى - كما قال تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (¬9)، وقال تعالى: {لَيْسَ عليكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي ¬
مَنْ يَشَاءُ} (¬1) فنفي عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - هذه الهداية التي بمعني التوفيق , وأثبتها تعالى لنفسه، وقال تعالى {يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} , وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} (¬2) , وقال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (¬3). وقال تعالى: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (¬4) أي: هدي كل شيء لما خلق له وألهمه كقوله: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} (¬5): أي هدي كل مخلوق لما قدر له. قال الشاعر: ولا تعجلني هداك المليك ... فإن لكل مقام مقالاً (¬6) أي: وفقك المليك - تبارك وتعالى - وهذه الهداية الحقة التي من وفق لها ظفر بخيري الدنيا والآخرة قال تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} (¬7) , ويجمع الهدايتين قوله ¬
تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} (¬1) أي وجدك ضالًا لا تدري ما الكتاب ولا الأيمان , فعلمك ما لم تكن تعلم , ووفقك لأحسن الأعمال والأخلاق (¬2). وكذا قوله - تعالى - هنا {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} يشمل الهدايتين وينتظم القسمين لان فعل الهداية إذا عدي بحرف تعين معناه وتخصص بحسب معني الحرف فإذا عدي بإلى تضمن الإيصال إلى الغاية المطلوبة, وإذا عدي باللام تضمن الاختصاص والتعيين، فإذا عدي بنفسه كما في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} تضمن ما يجمع ذلك كله أي بين لنا ودلنا وأرشدنا إلى الصراط المستقيم , وألهمنا ووفقنا فيه وثبتنا عليه (¬3). وقد ذكر ابن القيم رحمه الله (¬4) «إن للهداية عشر مراتب الأولي هداية العلم والبيان للحق والثانية أن يقدره الله عليه , والثالثة أن يجعله مريداً له , والرابعة أن يجعله فاعلًا له , والخامسة أن يثبته على ذلك , والسادسة أن يصرف عنه الموانع والعوارض , والسابعة أن يهديه في الطريق نفسها هداية خاصة أخص من الأولى فإن الأولى هداية إلى الطريق إجمالًا وهذه هداية فيها وفي منازلها تفصيلًا , والثامنة أن يشهده ¬
{الصراط المستقيم}
المقصود في الطريق فلا يحجب عنه بالوسيلة , والتاسعة أن يشهده فقره وضرورته إلى هذه الهداية فوق كل ضرورة , والعاشرة أن يشهده الطريقين المنحرفين عن طريقها وهما طريق أهل الغضب وطريق أهل الضلال» {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} الصراط مفعول ثاني لـ {اهْدِنَا} كما تقدم و «أل» في الصراط للعهد العلمي الذهني أي الصراط المعلوم المعهود , لأن اللام إذا دخلت على موصوف اقتضت انه أحق بتلك الصفة من غيره. وإنما جاء الصراط معرفًا لأن المقام مقام دعاء وطلب. ويأتي الصراط منكرًا إذا كان المقام مقام إخبار كقوله تعالى: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} (¬1) وكقوله: {وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬2) وكقوله: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (¬3). قرأ ابن كثير (السراط) بالسين في جميع القران , وقرأ حمزة بإشمام السين بين الزاي والصاد , وقرأ بقية القراء (الصراط) بالصاد (¬4). ومعني الصراط: الطريق المسلوك , والسبيل الواضح مأخوذ من الاستراط وهو الابتلاع , يبتلع السائر فيه , والماشي عليه: أي ¬
يضمه بين جانبيه (¬1). (المستقيم): صفة للصراط منصوبة مثله. والمستقيم: هو اقرب خط يصل بين نقطتين (¬2). وهو المعتدل المستوي , الذي لا اعوجاج فيه , ولا التواء (¬3). قال جرير (¬4) يمدح هشام بن عبد الملك أمير المؤمنين على صراط ... إذا اعوج الموارد مستقيم وقال الآخر: فصد عن نهج الصراط القاصد. فالصراط المستقيم: هو الطريق المعتدل الواضح الذي لا اعوجاج فيه , ولا التواء , وهو صراط الله كما قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} (¬5) , وقال تعالى: {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} (¬6). وهو الصراط الذي عليه ربنا تبارك وتعالى كما قال هود عليه ¬
السلام: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬1). وهو الصراط المؤدي إلى الله تعالى , قال تعالى: {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ على مُسْتَقِيم} (¬2) , وقال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} (¬3). أي أن السبيل القاصد , وهو المستقيم المعتدل , يرجع إلى الله - تعالى ويوصل إليه كما قال طفيل الغنوي: مضوا سلفا قصد السبيل عليهم ... وصرف المنايا بالرجال تقلب أي ممرنا عليهم , ووصولنا إليهم. وقال الآخر: فهن المنايا أي واد سلكته ... عليها طريقي أو على طريقها (¬4) قال ابن القيم (¬5): «ولا تكون الطريق صراطًا حتى تتضمن خمسة أمور: الاستقامة والإيصال إلى المقصود, والقرب, وسعته للمارين عليه, وتعينه طريقًا للمقصود. ولا يخفي تضمن الصراط المستقيم لهذه الأمور الخمسة: ¬
فوصفه بالاستقامة يتضمن قربه, لأن الخط المستقيم هو اقرب فاصل بين نقطتين, وكلما تعوج طال وبعد, واستقامته تتضمن إيصاله إلى المقصود, ونصبة لجميع من يمر عليه يستلزم سعته, وإضافته إلى المنعم عليهم , ووصفة بمخالفة صراط أهل الغضب والضلال يستلزم تعينه طريقًا». والمراد بالصراط المستقيم: طريق الحق والأيمان, والدين القيم , ومعرفة ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن ربه في الكتاب والسنة والعمل به وفق ما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - (¬1) - إخلاصًا لله ومتابعة لرسوله - صلى الله عليه وسلم - كما قال الله تعالى: {وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (¬2). وهو الطريق الموصل إلى ساحل النجاة , وإلى الغاية المنشودة والهدف المقصود , وهي: السعادة في الدنيا والآخرة , والحصول على مرضاة الله وجنته , بأقل وقت وأقصر طريق. قال ابن القيم (¬3) بعد أن ذكر قسمي الهداية , وهما هداية البيان والدلالة , وهداية التوفيق والإلهام - قال: «وللهداية مرتبة أخرى - وهي أخر مراتبها - وهي الهداية يوم القيامة إلى طريق الجنة, وهو الصراط ¬
الموصل إليها , فمن هدي في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم , الذي أرسل به رسله , وانزل به كتبه هدي هناك إلى الصراط المستقيم الموصل إلى جنته , ودار ثوابه , وعلى قدر ثبوت العبد على هذا الصراط الذي نصبه الله لعباده في هذه الدار يكون ثبوت قدمه على الصراط المنصوب على متن جهنم , وعلى قدر سيره على هذا الصراط يكون سيره على ذلك الصراط». كما ذكر في كتابه «بدائع الفوائد» (¬1) أن الهداية أربعة أنواع: الهداية العامة المشتركة كما قال تعالى: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (¬2) أي هداه لما خلق له من الأعمال وهذه تشمل الحيوان والجماد. ثم ذكر هداية البيان والدلالة والتعريف لنجدي الخير والشر , وهداية التوفيق والإلهام , ثم قال: والرابع غاية هذه الهداية وهي الهداية إلى الجنة والنار إذا سبق أليهما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِأيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} (¬3) وقال أهل الجنة {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا} (¬4) وقال تعالى عن أهل النار {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} (¬5). ¬
فالمعنى العام لقوله - تعالى {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} أي بين لنا وأرشدنا إلى سلوك الطريق المستقيم بالعلم النافع والعمل الصالح بمعرفة الحق والعمل به, ووفقنا فيه وثبتنا عليه, وزدنا هداية وأيمانًا وعلمًا, كما قال تعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} (¬1) , وقال تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} (¬2) , وقال تعالى {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} (¬3) {فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ أيمَانًا} (¬4). فالعبد في كل لحظة, وفي كل حال, وعند كل مسألة محتاج أعظم الحاجة إلى الهداية إلى الصراط المستقيم. وذلك بان يهتدي لمعرفة الحق والحكم في كل مسألة , ويوفق للعمل بما طلب منه سواء كان ذلك فعلًا أو تركا. قال الطبري (¬5) في كلامه على قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}: «ومعناه نظير معني قوله: {إياكَ نَعْبُدُ} في أنه مسألة من العبد ربه بالتوفيق للثبات على العمل بطاعته. وإصابة الحق ¬
والصواب , فيما أمره به ونهاه عنه فيما يستقبل من عمره». وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (¬1): «وأما سؤال من يقول: فقد هداهم الله فلا حاجة بهم إلى لسؤال وجواب من إجابة بان المطلوب دوامها كلام من لا يعرف حقيقة الأسباب وما أمر الله به , فان «الصراط المستقيم» أن يفعل العبد في كل وقت ما أمر الله به في ذلك الوقت من علم وعمل, ولا يفعل ما نهي عنه, وهذا يحتاج في كل وقت إلى أن يعلم ويعمل ما أمر به في ذلك الوقت , وما نهي عنه, وإلى أن يحصل له إدارة جازمة لفعل المأمور , وكراهة جازمة لترك المحظور, فهذا العلم المفصل والإرادة المفصلة لا يتصور أن تحصل للعبد في وقت واحد , بل كل وقت يحتاج إلى أن يجعل الله في قلبه من العلوم والإرادات ما يهتدي به في ذلك الصراط المستقيم. نعم حصل له هدي مجمل بأن القرآن حق, والرسول حق, ودين الإسلام حق, وذلك حق , ولكن هذا المجمل لا يغنيه أن لم يحصل له هدي مفصل في كل ما يأتيه ويذره من الجزئيات التي يحار فيها أكثر عقول الخلق , ويغلب الهوى والشهوات أكثر عقولهم لغلبة الشهوات والشبهات عليهم». وقال ابن القيم (¬2) بعد أن ذكر قسمي الهداية: «وهما هدايتان مستقلتان , لا يحصل الفلاح إلا بهما , وهما متضمنتان تعريف ما لم ¬
نعلمه من الحق تفصيلًا وإجمالًا , وإلهامنا له , وجعلنا مريدين لإتباعه ظاهرًا وباطنًا , ثم خلق القدرة لنا على القيام بموجب الهدي بالقول والعمل , ثم إدامه ذلك لنا وتثبيتنا عليه إلى الوفاة. قال: ومن هنا يعلم اضطرار العبد إلى السؤال هذه الدعوة فوق كل ضرورة» وبطلان قول من يقول: إذا كنا مهتدين فكيف نسال الهداية؟ فان المجهول لنا من الحق أضعاف المعلوم , وما لا نريد فعله تهاونًا وكسلا مثل ما نريده , أو أكثر منه , أو دونه , وما لا نقدر عليه مما نريده - كذلك , وما نعرف جملته ولا نهتدي لتفاصيله فأمر يفوت الحصر , ونحن محتاجون إلى الهداية التامة , فمن كملت له هذه الأمور كان سؤال الهداية له سؤال التثبيت والدوام». وقال ابن كثير (¬1): «فإن العبد مفتقر في كل ساعة وحالة إلى الله في تثبيته على الهداية ورسوخه فيها وتبصره وازدياده منها واستمراره عليها. كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} (¬2). وقال السعدي (¬3): «اهدنا إلى الصراط المستقيم, وإهدنا في الصراط, فالهداية إلى الصراط لزوم دين الإسلام وترك ما سواه من الأديان, والهداية في الصراط تشمل الهداية لجميع التفاصيل الدينية علمًا وعملًا». ¬
{صراط الذين أنعمت عليهم}
{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عليهِمْ} صراط بدل كل من الصراط في قوله {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} , أو عطف بيان (¬1). و (الذين) مضاف إليه, وما بعده صلة الموصول. وفائدة هذا التوكيل والإيضاح والبيان , فهو تفسير للصراط المستقيم , وبيان أنه صراط المنعم عليهم (¬2) , وفي ذلك شهادة له بالاستقامة على ابلغ وجه وأكده (¬3). وإنما عرف الصراط في الموضع الأول «بأل» , وهنا بالإضافة , لأن طريق الحق واحد أما طرق الشر فهي كثيرة , متعددة متشعبة , كما قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (¬4). وعن النواس بن سمعان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ضرب الله مثلا صراطًا مستقيمًا وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة , وعلى الأبواب ستور مرخاه وعلى باب الصراع داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعًا ولا تعوجوا , وداع يدعو فوق الصراط , فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئًا من تلك الأبواب , قال: ويحك , لا تفتحه , فإنك أن تفتحه تلجه فالصراط الإسلام , والسوران حدود الله , والأبواب ¬
المفتحة محارم الله, وذلك الداعي على الصراط كتاب الله , والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم» (¬1). وهكذا غالبًا ما يذكر طريق الحق بالأفراد بينما يذكر طريق الشر متعددًا, وقد يذكر أحيانًا طريق الخير بالتعدد, ويراد به فروع الشريعة. {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عليهِمْ} الإنعام: إيصال النعمة. والنعمة في الأصل الحالة التي يستلذها الإنسان من لين العيش , والخفض والدعة والمال ونحوها (¬2). والنعمة: اسم جنس يقع على القليل والكثير , وإذا أضيفت إلى معرفة دلت على الإنعام المطلق التام أي على عموم النعم الدينية والدنيوية والأخروية (¬3) , كما في قوله تعالى: {وَأَتْمَمْتُ عليكُمْ نِعْمَتِي} (¬4) , وقوله تعالى: {يَا أيهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عليكُمْ} (¬5) , ولهذا قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} (¬6). والأنعام خاص بإيصال النعمة والإحسان والخير إلى الغير من بني ¬
آدم , كما قال تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عليهِ وَأَنْعَمْتَ عليهِ} (¬1). ولا يسمي الإحسان إلى غير الناطقين إنعامًا فلا تقول: أنعمت على الفرس. (عليهم) قرأ حمزة بضم الهاء (عليهُم) , وقرا الباقون بكسرها (عليهِم) (¬2). والمنعم عليهم: هم الذين ووفقهم الله لسلوك الطريق المستقيم, للهدي ودين الحق. كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} (¬3) أي إلى العلم النافع والعمل الصالح، إلى معرفة الحق والعمل به, إلى الإيمان بالله تعالى, إلى طاعة الله وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وتلك أجل نعمة وأعظمها, فهي سبب للسعادة في الدارين, وأفوز بأعلى الدرجات في جنات النعيم. وهم المذكورون في قوله - تعالى -: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإذا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عليهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عليمًا (70)} (¬4). ¬
وهم المذكورون في قوله تعالى في سورة مريم {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عليهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إذا تُتْلَى عليهِمْ أياتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} (¬1) أي الذين انعم الله عليهم بأجل نعمة وأعظمها , وهي: نعمة الإيمان , كما قال تعالى ردا على الأعراب: {يَمُنُّونَ عليكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا على إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عليكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْأيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (¬2). «والنبيين» جمع نبي , ويدخل فيهم الرسل من باب أولى , لأن كل رسول نبي ولا عكس , ويأتي في مقدمتهم أولو العزم , كما قال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} (¬3). وهم المذكورون في قوله - تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} (¬4). «وَالصِّدِّيقِينَ»: جمع صديق , يدخل فيهم من ثبت بالكتاب أو السنة وصفة أو تسميته بذلك منهم مريم ابنة عمران التي قال الله عنها: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ¬
كَانَا يَاكُلَانِ الطَّعَامَ} (¬1). ومنهم أبو بكر الصدِّيق - رضي الله عنه - لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - سماه «الصدِّيق» كما سيأتي الحديث في ذلك. «والشهداء» جمع شهيد, وهو من قتل في سبيل الله , ويأتي في مقدمة الشهداء عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان - رضي الله عنهما - حيث شهد لهما الرسول - صلى الله عليه وسلم - بذلك كما روي أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صعد أحدًا وأبو بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - فرجف بهم. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اسكن أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان» رواه البخاري (¬2). ومنهم أيضًا: على بن أبي طالب - رضي الله عنه - , وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص. كما روى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان على جبل حراء هو أبو بكر وعمر وعثمان وعلى وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص, فتحركت الصخرة, وفي رواية «فتحرك» فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «اسكن حراء» وفي رواية: «اهدأ فما عليك إلا نبيُّ وصدِّيق وشهيد» رواه مسلم (¬3). ¬
ومنهم أيضًا: حمزة عم النبي - صلى الله عليه وسلم - , وأنس بن النضر , ومصعب ابن عمير - رضي الله عنهم - وغيرهم ممن قتل أو يقتل في سبيل الله , وكذا كل من قتل دون ماله كما في حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - , قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من قتل دون ماله فهو شهيد» متفق عليه (¬1). لكن ينبغي أن يعلم انه لا تجوز الشهادة لشخص بعينه أنه شهيد , وإن قتل في المعركة , لأن النبات مغيبة عنا لكن يرجي له ذلك , إلا من ثبت له الشهادة بذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد عقد البخاري: باب لا يقال فلان شهيد , وأخرج فيه عن سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التقي هو والمشتركون فاقتتلوا فلما مال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عسكرة, ومال الآخرون إلى عسكرهم , وفي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل لا يدع لهم شاذة ولا فاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه. فقالوا: ما أجزأ منا اليوم أحد , كما أجزأ فلان, فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أما إنه من أهل النار» الحديث , وفيه: انه استعجل الموت لما جرح فقتل نفسه (¬2). وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: لما كان يوم خبير قُتل نفر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: فلان شهيد , وفلان شهيد, ¬
{غير المغضوب عليهم ولا الضالين}
حتى مروا على رجل , فقالوا: فلان شهيد , فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كلا إني رأيته في النار غلها أو عباءة» رواه مسلم (¬1). وروى أبو العجفاء أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خطب , فقال: «تقولون في مغازيكم: فلان شهيد , ومات فلان شهيدا , ولعله يكون قد أوقر راحلته , إلا لا تقولوا ذلكم , ولكن قولوا كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من مات في سبيل الله أو قتل فهو في الجنة» (¬2). {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عليهِمْ وَلَا الضَّالينَ}: «غير» صفة للاسم الموصول «الذين» مبينة أو مقيدة على معني إنهم جمعوا بين النعمة المطلقة , وهي نعمة الأيمان , وبين السلامة من الغضب والضلال , وقيل هي بدل من الاسم الموصول على معني أن المنعم عليهم هم الذين سلموا من الغضب والضلال والتقدير: غير صراط المغضوب عليهم (¬3). والصحيح إنها صفة , وإنما صح مجيء «غير» صفة لمعرفة وهو الاسم الموصول مع أن «غيرًا» لا تتعرف لشدة إبهامها - لما في من ¬
الإبهام ورائحة النكرة, ولان «غيرًا» أضيفت إلى «المغضوب» وهي معرفة , ووقعت بين ضدين منعم عليهم ومغضوب عليهم فضعف إبهامها كما قال ابن هشام (¬1). أو زال إبهامها وتعرفت كما قال ابن السراج (¬2). واختاره ابن القيم (¬3). و «غير» ملازمة للأفراد والتذكير , وللإضافة لفظًا أو تقديرًا , وهي لا تعرف وان أضيفت إلى معرفة عند أكثر من اللغة , ولا تدخل عليها الألف واللام (¬4). وقد روي عن ابن كثير انه قراها بالنصب «غير» على الحال , وثبت عنه وعن بقية القراء السبعة قراءتها بالكسر «غير» (¬5). «غير» مضاف و «المغضوب» مضاف إليه مجرور. و «عليهم» متعلق ب «المغضوب» , قراها حمزة بالضم «عليهم» وقرأها بقية السبعة بالكسر «عليهم» كقراءة «عليهم» في قوله: {أَنْعَمْتَ عليهِمْ} (¬6). وإنما وصف الله تبارك وتعالى صراط المنعم عليهم بقوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عليهِمْ وَلَا الضَّالينَ} لتأكيد كمال صراط المنعم عليهم , لأن الصفات السلبية يؤتي بها لإثبات كمال ضدها, كما في قوله - تعالى: ¬
{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} (¬1). فقوله: {الَّذِي لَا يَمُوتُ} صفة سلبية جئ بها لإثبات كمال ضدها , وهي الحياة. وكقوله - تعالى: {لَا تَاخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} (¬2). فهو لإثبات كمال قيوميته - تبارك وتعالى. والغضب: ضد الرضا (¬3). وفي الحديث: «ألا وإن الغضب جمرة توقد في ابن ادم , ألا ترون إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه (¬4)»). والغضب صفة من صفات الله - تعالى - يجب إثباتها لله , كما يليق بجلاله وعظمته , ولا تشبه صفات المخلوقين. قال تعالى: {وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عليكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عليهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} (¬5). وفي حديث أبي هريرة في الشفاعة: «إنَّ ربي قد غضب اليوم غضبًا لم ¬
يغضب قبله مثله». متفق عليه (¬1). والمراد بالمغضوب عليهم من استوجبوا غضب الله , ووصفوا به , ممن فسدت إرادتهم فعدلوا عن الحق بعد أن عرفوه وعلموه. وفي مقدمتهم اليهود , قال عدي بن حاتم: سالت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عليهِمْ} قال: هم اليهود , {وَلَا الضَّالينَ} قال: هم النصارى» (¬2). وقد وصف الله الاهود بالغضب وحكم به في مواضع من كتابه. قال تعالى: {وَضُرِبَتْ عليهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} (¬3) , وقال تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ}. وقال تعالى: {ضُرِبَتْ عليهِمُ الذِّلَّةُ أينَ مَا ¬
ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} (¬1) وقال تعالى: «قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عليهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ» (¬2) ,وقال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا» (¬3) , وقال تعالى: {لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عليهِمْ} (¬4) ,وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عليهِمْ} (¬5). وإنما وصفوا بالغضب ووصموا به, واستوجبوه, لأنهم عرفوا الحق وتركوه كفرًا وحسدًا, كما قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} (¬6). وقال تعالى: {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} (¬7). وعن زيد بن عمرو بن نفيل أنه خرج إلي الشام, يسأل عن الدين, ويتبعه, فلقي عالمًا من اليهود، فسأله عن دينهم, فقال: إني لعلي أن أدين دينكم فأخبرني. فقال: لا تكون على ديننا حتى تأخذ نصيبك من غضب الله قال زيد: ما أفر إلا من غضب الله, ولا أحمل من غضب الله شيئًا أبدًا, ¬
{ولا الضالين}
وأني أستطيعه, فهل تدلني على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفًا. قال زيد: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم لم يكن يهوديًا ولا نصرانيًا ولا يعبد إلا الله, فخرج فلقي عالمًا من النصارى, فذكر مثله. فقال: لن تكون على ديننا حتى تأخذ نصيبك من لعنة الله. قال ما أفر إلا من لعنة الله ..» الحديث رواه البخاري (¬1). {وَلَا الضَّالِّينَ}: أي ولا صراط الضالين. فـ الواو: عاطفة و «لا» زائدة إعرابًا عند البصريين مؤكدة لمعني النفي المفهوم من «غير» (¬2) لئلا يتوهم عطف الضالين على {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عليهِمْ} (¬3) وليدل على أن ثم مسلكين فاسدين, وهما: طريق المغضوب عليهم وطريق الضالين (¬4) ولرفع توهم أن الضالين وصف للمغضوب عليهم وأن ذلك من عطف الصفات بعضها على بعض (¬5). وقال الكوفيون هي بمعني «غير» مؤكدة أيضًا (¬6). ويؤيده قراءة عمر {غير المغضوب عليهم وغير الضالين} (¬7). ¬
قال الحافظ بن كثير (¬1): «والصحيح من مذاهب العلماء أنه يغتفر الإخلال بتحرير ما بين الضاد والظاء, لقرب مخرجيهما .. لمن لا يميز ذلك» والضالين: جمع ضال. والضلال هو التيه والجهل والبعد عن الحق (¬2) والعدول عن طريق المستقيم, والانحراف عن المنهج القويم. يقال: ضل الطريق: أي تاه وانحرف, كما يقال ضال, بدون إضافة قرينة, وإذا أطلق فالمراد به العدول عن طريق المستقيم, طريق الحق. ويطلق الضلال على النسيان, كما قال تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} (¬3) أي أن تنسي إحداهما. ويطلق على الاختفاء وغياب الشيء كما قال تعالى: {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} (¬4) أي غيبنا فيها, وصرنا ترابًا. ومنه قول الشاعر: ألم تسأل فتخبرك الديار ... عن الركب المضلل أين ساروا (¬5) ¬
والمراد بالضالين: من فقدوا العلم, فتركوا الحق عن جهل, وعبدوا الله على غير هدي, وعلى غير بصيرة (¬1). قال تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} (¬2). ويأتي في مقدمة الضالين النصارى (¬3) كما في حديث عدي بن حاتم- المتقدم قريبًا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في قوله: (ولا الضالين) هم «النصارى». وهكذا وصف الله النصارى بالضلال في غير هذا الموضع. قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} (¬4). قال ابن كثير (¬5) بعد أن ذكر تفسير المغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى: «وقال ابن أبي حاتم لا أعلم بين المفسرين في تأويل ذلك اختلافًا». وإذا كان سبب ضلال النصارى في الأصل هو الجهل, فلا يمنع أن يكون طرأ عليهم في هذا الزمن مع الجهل العناد والإصرار. وإتباع الهوى, ¬
كما هو واقع الآن. وكل من اليهود والنصارى مغضوب عليهم وضالون, وكذا كل من حاد عن منهج الله عن علم, أو عن جهل إلا أن أخص أوصاف اليهود الغضب, ومثلهم من ترك الحق بعد معرفته, وأخص أوصاف النصارى الضلال (¬1) ومثلهم من عبد الله على جهل. ولا يلزم من هذا أن لا يوجد من بين اليهود من هو جاهل ضال, ومن بين النصارى من هو عالم, ولا يمنع من هذا أن يكفر نصراني, وهو يعرف الإسلام كما يعرف ابنه وزوجته. ولما كان اليهود تركوا الحق بعد معرفته, وكانوا أجرأ على محارم الله- تعالى-, واقسي قلوبًا كانوا أحق بوصف الغضب, وأولي بأن يقدم وصفهم على وصف النصارى الضالين مصداق ذلك قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} (¬2). قال ابن القيم (¬3): «والمغضوب عليه ضال عن هداية العمل, والضال مغضوب عليه لضلاله عن العلم الموجب للعمل, فكل منهما ضال مغضوب عليه, ولكن تارك الحق بعد معرفته أولي بوصف الغضب وأحق ¬
به, ومن هنا كان اليهود أحق به, وهو متغلظ في حقهم. ,والجاهل بالحق أحق باسم الضلال, ومن هنا وصف النصارى به ...». وقد ذكر ابن القيم (¬1) من الوجوه في تقديم المغضوب عليهم على الضالين أن اليهود متقدمون على النصارى من حيث الزمان, وأنهم كانوا هم الذين يلون النبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل الكتابين لأنهم كانوا في المدينة أما النصارى فكانت ديارهم نائية, ولأنه تقدم ذكر المنعم عليهم والغضب ضد الإنعام والسورة هي السبع المثاني يذكر فيها الشيء وضده. وكل من كان عنده علم فلم يعمل به, بل اتبع هواه, وجانب شرع الله عن علم وبصيرة ومعرفته ففيه شبه من اليهود, ومتوعد بالغضب بقدر معصيته, وله منه نصيب بقدر شبهه فيهم. وكل من عبد الله على جهل وضلال- معذور بجهله- به شبه من النصارى وموصوف بالضلال على قدر معصيته, وله نصيب منه بقدر شبهه فيهم. ولهذا كان السلف- رضي الله عنهم يقولون «من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود, ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى» (¬2). وما أكثر من تشبه باليهود وبالنصارى من هذه الأمة. وصدق المصطفي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: «لتتبعنَّ سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعًا بذراع, حتى لو دخلوا جحر ضب لا تبعتموهم. قلنا: يا رسول الله اليهود ¬
والنصارى؟ قال: فمن» متفق عليه (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «افترقت اليهود على أحدي وسبعين فرقة وافترقت النصارى على اثنين وسبعين فرقة, وستفرق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة, كلها في النار إلا واحدة. قلنا من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي» (¬2). ومما يدل على شمول الغضب لليهود وغيرهم, وشمول الضلال للنصارى وغيرهم أن الله توعد بالغضب في القرآن الكريم مرتكبي بعض الكبائر والكفرة والمنافقين والمشركين من هذه الأمة, ووصف كثيرا منهم بالضلال, كما وصفهم بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عليهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (¬3). وقال تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} (¬4). وقال تعالى: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعليهِمْ غَضَبٌ مِنَ ¬
اللَّهِ} (¬1) , وقال تعالى: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عليهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (¬2). وقال تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عليهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عليهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (¬3). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من حلف على يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان» متفق عليه (¬4). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها بات الذي في السماء ساخطا عليها» (¬5). وقال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} (¬6) , وقال تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} (¬7) , وقال تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عليكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} (¬8) , وقال تعالى: ¬
{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (¬1) , وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي بكرة: «ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض» متفق عليه (¬3). قال ابن القيم (¬4): «والغضب نتيجة فساد القصد, والضلال نتيجة فساد العلم, فاعتلال القلوب ومرضها نتيجة لأحد هذين الفاسدين, وبالهداية للصراط المستقيم الشفاء من مرض الضلال, وبالتحقق بـ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} علمًا ومعرفة وعملًا وحالًا الشفاء من مرض فساد القصد». ¬
المبحث الثامن ما يؤخذ من سورة الفاتحة من فوائد وأحكام
المبحث الثامن ما يؤخذ من سورة الفاتحة من فوائد وأحكام 1 - مشروعية الابتداء في بالبسملة في الكتب والرسائل والخطب والمواعظ ونحوها تأسيًا بكتاب الله تعالى, حيث ابتدأ عز وجل كتابه بها ومشروعية الاستفتاح بها عند قراءة أي سورة من سور القرآن, لأن الله افتتح بها سورة الفاتحة وغيرها من السور عدا سورة براءة فلا تشرع البسملة معها. 2 - مشروعية حمد الله -تبارك وتعالى- في افتتاح الكتب والرسائل والخطب والمواعظ ونحوها تأسيا بكتاب الله- حيث افتتحه جل وعلا بالحمد. 3 - حمد لله -تعالى- لنفسه (¬1) , وثناؤه عليها, وتمجيده لها, لما له من صفات الكمال. قال تعالى: (الحمد لله) , وقد جاء هذا كثيرا في القرآن الكريم, قال تعالى: {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ» (¬2) , وقال تعالى: «وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ» (¬3). ولم يأذن في ذلك لأحد من خلقه, بل نهاهم في محكم كتابه ¬
4 - أمر الله -تعالى- عباده أن يحمدوه ويثنوا عليه ويمجدوه
فقال: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «أحثوا في وجوه المداحين التراب» (¬2) , وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم, إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله» (¬3). 4 - أمر الله -تعالى- عباده أن يحمدوه ويثنوا عليه ويمجدوه - لما له من صفات الكمال, وتعليمهم كيفية ذلك, لأن قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وان كانت هذه جملة خبرية, فهي متضمنة لمعني الطلب (¬4). وهكذا جل الآيات التي حمد الله- تعالى- بها نفسه هي متضمنة تعليم عباده وأمرهم أن يحمدوه. ولهذا رغب المصطفي - صلى الله عليه وسلم - بالحمد لله. فعن أبي مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الطُّهور شطر الإيمان, والحمد لله تملأ الميزان, وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض, والصلاة نور, والصدقة برهان, والصبر ضياء والقرآن حجة لك أو عليك كل الناس يغدو, فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها» (¬5). ¬
5 - أن الوصف الكامل مستحق لله على الدوام
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله ليرضي عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها, أو يشرب الشربة فيحمده عليها» (¬1). 5 - أن الوصف الكامل مستحق لله على الدوام, وفي جميع الأحوال لقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فهي جملة اسمية تفيد الاستمرار والدوام والكمال فهو المحمود على الدوام وبكل حال كما قال تعالى: {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ} (¬2). 6 - في قوله تعالى: (الحمد لله) رد على الجبرية, الذين يقولون إن الله جبر العبد على أفعاله, ومن ثم عاقبه عليها- تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا, ووجه الرد عليهم: أن في إثبات حمده ووصفه بصفات الكمال ما يقتضي أنه لا يعاقب عباده على ما لا قدرة لهم عليه, ولا هو من فعلهم (¬3). 7 - أن الحمد لا ينبغي أن يكون إلا لمن هو أهل له, ولمقتضي لذلك, وإلا فهو زور وباطل, لأن الله لما حمد نفسه ذكر ما يقتضي ذلك, وأنه تعالى أهل لذلك لكونه- تعالى-: الله رب العالمين {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (¬4) ¬
8 - يؤخذ من قوله -تعالى-: {الحمد لله رب العالمين} الإقرار والاعتراف من العبد لله جل وعلا بالكمال من جميع الوجوه وبالفضل والإنعام والإحسان
قال ابن القيم (¬1) رحمه الله: «في ذكر هذه الأسماء بعد الحمد, وإيقاع الحمد على مضمونها ومعناها ما يدل على أنه محمود في إلهيته, ومحمود في ربوبيته, محمود في رحمانيته, محمود في ملكه, وأنه إله محمود ورب محمود, ورحمن محمود, وملك محمود, فله بذلك جميع أقسام الكمال, كمال من هذا الاسم بمفرده, وكمال من اقتران أحدهما بالآخر ..». 8 - يؤخذ من قوله -تعالى-: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} الإقرار والاعتراف من العبد لله جل وعلا بالكمال من جميع الوجوه وبالفضل والإنعام والإحسان, والإقرار من العبد على نفسه بضعفه وفقره وحاجته إلى ربه في أمور دينه ودنياه. وهذا من أجل أنواع العبادة لله وأفضلها, بأن يعترف العبد لله بالكمال المطلق من جميع الوجوه, ويدخل على ربه من باب الذلة والانكسار, ولا يعجب بعملة. وهذا هو أصل معني العبادة لله تعالى- كما تقدم. وقد كان هذا دأب الأنبياء والمرسلين والصالحين من أممهم يدعون ربهم متذللين خاضعين سائلين ربهم المغفرة. قال - صلى الله عليه وسلم -: «أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي وأعترف بذنبي جميعا إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» (¬2). 9 - إثبات توحيد الأسماء والصفات «توحيد العلم» لأن الله افتتح ¬
السورة بقولة تعالى {الْحَمْدُ لِلَّهِ} ومعناه- كما تقدم- وصفه تعالى بصفات الكمال, كما ذكر تعالى فيها خمسة من أسمائه, وهي «الله» , و «الرب» و «الرحمن» و «الرحيم» و «الملك» وهذه الأسماء دالة على بقية أسمائه تعالى, وكل منها يؤخذ منه إثبات صفة من صفاته- تعالى فاسمه- تعالى «الله» يدل على إثبات صفة الربوبية العامة له تعالى صفة ذاتية له تعالى وصفة فعلية, واسماه «الرحمن» «الرحيم» يدل الأول على إثبات صفة الرحمة الذاتية له- تعالى ويدل الثاني «على إثبات صفة الرحمة الفعلية له عز وجل» كما قال تعالى: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} (¬1) , وقوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} على القراءتين يدل على أنه مالك يوم الدين ومليكه. وأن من صفاته تعالى الذاتية والفعلية أنه مالك, وملك يوم الدين. كما يدل قوله تعالى {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عليهِمْ} على إثبات صفة الغضب له- تعالى-, كما يليق بجلاله وعظمته. وفي إثبات أسمائه تعالى وصفاته رد على نفاتها من المعطلة وغيرهم. وقد ذكر ابن القيم (¬2) - رحمه الله- اشتمال الفاتحة على أنواع التوحيد الثلاثة ثم ذكر أنه دل من هذه السورة على توحيد الأسماء والصفات شيئان مجمل ومفصل, قال: «أما المجمل فإثبات الحمد له ¬
10 - إثبات توحيد الإلوهية
سبحانه, وأما المفصل فذكر صفة الإلهية والربوبية والرحمة والملك, وعلى هذه مدار الأسماء والصفات. فأما تضمن الحمد لذلك, فإن الحمد يتضمن مدح المحمود بصفات كماله ونعوت جلاله, مع محبته, والخضوع له, فلا يكون حامدًا من جحد صفات المحمود, ولا من أعرض عن محبته والخضوع له, وكلما كانت صفات كمال المحمود أكثر كان حمده أكمل, وكلما نقص من صفات كماله نقص من حمده بحسبها, ولهذا كان الحمد كله لله حمدا لا يحصيه سواه لكمال صفاته وكثرتها .. ثم ذكر دلالة هذه الأسماء الخمسة وغيرها من أسمائه تعالى على إثبات الذات والصفات له جلا وعلا ثم بين دلالة اسمه تعالى (الله) على جميع أسمائه الحسني وصفاته العليا, ولهذا تضاف إليه جميع أسمائه كما قال تعالى {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (¬1) , ثم ذكر ما هو أخص من الصفات بكل اسم من هذه الأسماء. 10 - إثبات توحيد الإلوهية, «توحيد العبادة» يؤخذ من اسمه- تعالى: (الله) لأن معناه كما تقدم: المألوه المعبود محبة وتعظيمًا. قال شيخ الإسلام ابن تيمية (¬2): «والله هو الإله المعبود, فهذا الاسم أحق بالعبادة, ولهذا يقال: الله أكبر, والحمد لله, سبحان الله, لا إله إلا الله, كما يؤخذ توحيد العبادة من قوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} كما سيأتي- إن شاء الله. ¬
11 - إثبات توحيد الربوبية بقسميه العام لجميع الخلق
11 - إثبات توحيد الربوبية بقسميه العام لجميع الخلق, والخاص بأولياء الله- تعالى- لقوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} وقوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فهو تعالى رب جميع الخلق خالقهم ومالكهم والمتصرف فيهم ومربيهم بجميع النعم, وفي هذا رد على الملحدين الذين ينكرون وجود الله تعالى الله عن قولهم علوا كبيرًا. إذ إن كل ما في الكون من المخلوقات دليل على وجوده وكماله في ذاته وصفاته, كما قيل: فوا عجباً كيف يعصي الإله ... أم كيف يجحده الجاحد وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد بل إنه تعالى دليل على كل شيء, ولهذا قالت الرسل لأمهم: {فِي اللَّهِ شَكٌّ} (¬1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية (¬2): «كيف يطلب الدليل على من هو دليل على كل شيء» , وكان كثيرًا ما يتمثل بهذا البيت: كيف يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلي دليل وهو تعالى مرب لأولياته المتقين وحزبه المفلحين تربية خاصة بتوفيقهم للإيمان والعمل الصالح, ودفع الصوارف عنهم مما يبعث في قلوبهم الطمأنينة إلي رعاية الله الدائمة وربوبيته القائمة وحفظه الذي لا ¬
يغيب (¬1). وإذا ثبتت الربوبية صفة عامة له تبارك وتعالى صفة ذاتية, وصفة فعلية وجب توجه جميع الخلق إليه في جميع حوائجهم, وفي جميع عبادتهم لأن من لازم ربوبيته لجميع خلقه, أن يكون هو الإله المعبود, لأن توحيد الربوبية يستلزم توحيد الإلوهية, كما أن توحيد الإلوهية يتضمن توحيد الربوبية, ولهذا لما قال تعالى {الْحَمْدُ لِلَّه} أتبع ذلك بوصفه تعالى بقوله {رَبِّ الْعَالَمِينَ} إشارة إلي أن المستحق للعبادة هو المتفرد بالربوبية والملك والخلق والتدبير, وعلى هذا فما دل من السورة على إثبات توحيد الإلوهية ففيه دلالة بالتضمن على توحيد الربوبية، وما دل منها على توحيد الربوبية ففيه دلالة بالالتزام على توحيد الإلوهية كما أن في إثبات ربوبيته ردًا على المشركين على معه في إلهيته الذي يعبدون غيره مع إقرارهم بربوبيته. كما أن في إثبات ربوبيته للعالمين دليلًا على مباينته لخلقه بذاته, وبربوبيته وصفاته وأفعاله, وفي هذا رد على من نفي مباينته لخلقه. كما أن في إثبات ربوبيته أيضًا ردًا على أهل الإشراك في ربوبيته من المجوس والقدرية وغيرهم الذين يثبتون مع الله خالقًا آخر. فالقدرية المجوسية يقولون: العبد يخلق فعل نفسه, فلا تدخل أفعالهم تحت ربوبيته- تعالى الله عن ذلك (¬2). ¬
12 - إثبات علم الله تعالى الشامل
12 - إثبات علم الله تعالى الشامل, وقدرته التامة من قوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} إذ مقتضي ربوبيته للعالمين وخلقة لهم أن يكون عالمًا بهم وبأحوالهم, وأن يكون ذا قدرة تامة نافذة فيهم, كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (¬1). 13 - إثبات أنه تعالى الأول بلا بداية لأن قوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} معناه أنه خالقهم وموجدهم من العدم بعد أن لم يكونوا شيئًا كما قال- تعالى-: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} (¬2) أي قد أتي على الإنسان. وهذا يدل على أنه تعالى هو الأول بلا بداية والآخر بلا نهاية كما قال تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عليمٌ} (¬3). 14 - أن الأحق بالاستعانة والمسألة هو اسم «الرب» لأن من معانيه المربي الخالق المالك الرازق المدبر الناصر الهادي. ولهذا كان جل دعاء الأنبياء والصالحين وسؤالهم بهذا الاسم (¬4). كما قال الأبوان عليهما السلام: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬5). ¬
وقال نوح عليه السلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} (¬1). وقال الخليل عليه السلام: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} (¬2). وقال موسي عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (¬3). وقال عيسي عليه السلام: {اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ علينَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ} (¬4). وقال تعالى لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} (¬5). وقال نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فأغفر لي ذنوبي جميعا إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» (¬6). وذكر الله عن المؤمنين قولهم: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَانَا رَبَّنَا ¬
15 - في قوله: {رب العالمين} إشارة إلي تساوي الخلق في الربوبية العامة التي بمعني الخلق والملك والتدبير
وَلَا تَحْمِلْ علينَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (¬1). وقولهم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} (¬2). {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (¬3). 15 - في قوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} إشارة إلي تساوي الخلق في الربوبية العامة التي بمعني الخلق والملك والتدبير. وهذا يدل على أن البشر تجمعهم الربوبية فربهم واحد كما أن أباهم واحد, لا فخر لجنس على جنس إلا بالتقوى (¬4). وفي هذا رد على من يفتخر بحسبه ونسبه. كما قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (¬5). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله عز وجل قد أذهب عنكم عبيَّة (¬6) الجاهلية وفخرها بالآباء, مؤمن, ¬
16 - في إثبات حمده وروبيته للعالمين وتوحيد رد على من قال بقدم العالم فإن في إثبات حمده ما يقتضي ثبوت أفعاله الاختيارية
تقي, وفاجر شقي, أنتم بنو آدم, وآدم من تراب, ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم, أو ليكون أهون على الله من الجعلان, التي تدفع بأنفها النتن» (¬1). 16 - في إثبات حمده وروبيته للعالمين وتوحيد رد على من قال بقدم العالم فإن في إثبات حمده ما يقتضي ثبوت أفعاله الاختيارية, والفعل متأخر عن فاعله وفي إثبات ربوبيته للعالمين ما يقتضي أن كل ما سواه مربوب مخلوق بالضرورة, وكل مخلوق حادث بعد أن لم يكن, وفي إثبات توحيده ما يقتضي عدم مشاركه شيء من العالم له في خصائص الربوبية, والقدرة من خصائص الربوبية, فالتوحيد ينفي ثبوته لغيره ضرورة, كما ينفي الربوبية والإلهية لغيره (¬2). 17 - في إثبات رحمته -تعالى- ورحمانيته رد على الجبرية في أن الله يعاقب العبد على ما لا قدرة له عليه, ولا هو من فعله, بل يكلفه ما لا يطيق ثم يعاقبه عليه. وهذا باطل فإن في ثبوت رحمته ورحمانيته ما يقتضي أنه تعالى- لا يكلف العبد ما لا قدرة له عليه, ولا يعاقبه بما ليس من فعله, وما لا قدرة له عليه (¬3) , بل إنه تعالى- برحمته يعفو حتى عن بعض ما فعله العبد, كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ ¬
18 - إثبات يوم القيامة
مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (¬1). 18 - إثبات يوم القيامة, والرد على من أنكر البعث والمعاد الجسماني والتأكيد على أنه محقق الوقوع, ولهذا جعله كالموجود القائم في الحال فقال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وخصه بالذكر مع أنه تعالى مالك الدنيا والآخرة معا لانقطاع أملاك الخلائق كلها في ذلك اليوم, ولعظم ذلك اليوم كما قال تعالى: {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} (¬2). 19 - يؤخذ من قوله -تعالى-: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} الدلالة على أن الملك الحقيقي لله جل وعلا يظهر في ذلك اليوم إذ تنقطع جميع الأملاك سوى ملكه جل وعلا, وأن كل ملك دون ذلك الملك فهو حقير زائل, وأن الدنيا بما فيها من أملاك لا تساوى شيئا بالنسبة للآخرة, وأنها بما فيها من أيام لا تعد شيئا بالنسبة ليوم الدين يوم القيامة, كما قال تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} (¬3). وقال تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (¬4) , وقال تعالى: {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ} (¬5). 20 - إثبات محاسبة الله للعباد ومجازاته لهم على أعمالهم بالعدل, لقوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} والدين معناه الجزاء بالعدل: ¬
21 - إثبات كتابة الأعمال وتدوينها وإحصائها
أي كما تدين تدان، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر، كما قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8} (¬1). 21 - إثبات كتابة الأعمال وتدوينها وإحصائها، لأن المجازاة عليها تقتضي ذلك، إذ كيف يدان عليها ويجازى إلا بعد إحصائها، كما قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} (¬2). وقال تعالى: {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} (¬3). 22 - الحث على الاستعداد ليوم الدين بالإيمان والعمل الصالح، والتحذير من الكفر والمعاصي. 23 - في تقديم قوله تعالى: {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} على قوله {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} إشارة إلى أن رحمته تعالى سبقت غضبه، كما جاء في الحديث «إن رحمتي سبقت غضبي» (¬4) يؤيد ذلك تكرار {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} في البسملة والفاتحة. وهذا مما يبعث في قلب المؤمن الطمأنينة، فيلهج بالحمد والثناء لربه الرحمن الرحيم. وعلى هذا فينبغي للعلماء وطلبة العلم إلى الله أن يقدموا ¬
24 - الجميع بين الترغيب والترهيب
للناس الترغيب برحمة الله والتبشير بها قبل الترهيب من عقوبته، بل ينبغى ان يعطى الكلام عن رحمه الله أكثر لأن رحمته تعالى سبقت غضبه، لكن لاينسى الترهيب من عقوبته، ولكل مقام مقال. 24 - الجميع بين الترغيب والترهيب (¬1) يؤخذ ذلك من قوله تعالى: {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} فهذا ترغيب، ثم قال تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وهذا ترهيب كما قال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ (50)} (¬2)، وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬3) وقال تعالى: {غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} (¬4). وعن أبى هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «لو يعلم الؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد» (¬5). والغرض من الترغيب والترهيب في القرآن والسنة المسلم إلى ربه بين الرغبة والرهبة، وبين الخوف والرجاء، فلا يغلب جانب أحدهما على الآخر فيهلك. ¬
25 - في قول {إياك} رد على الملاحدة والدهرية المنكرين لوجود الله
25 - في قول {إِيَّاكَ} رد على الملاحدة والدهرية المنكرين لوجود الله، لأن هذا خطاب لموجود حاضر (¬1) ... بعلمه وإحاطته مع كل مخلوقات كما قال تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (¬2). وهو مع عباده المتقين بعونه ونصره وتأييد كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّه مَعَ الَّذِينَ اِتَّقَوْا وَاَلَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (¬3). 26 - في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} بعد الآيات قبله انتقال من الغيبة إلى الخطاب لأجل تنبيه القارئ والمستمع وهذا يدل على أنه يحسن الانتقال في الكلام أحيانا والالتفاف فيه لأجل تنبيه القارئ والمستمع كما أنه أبعث على النشاط وأدعى للإصغاء. 27 - دل قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} على إثبات نوع من أنواع العبودية وهى العبودية الخاصة وهى عبودية والمحبة، وإتباع الأوامر (¬4)،كما قال تعالى: {يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} (¬5). وقال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (¬6). ¬
وقال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} (¬1). وقال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَك عَلَيْهِمْ سُلْطَان} (¬2). وقال تعالى عن إبليس: {وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (¬3). فهؤلاء أهل طاعته تعالى وولايته، وهم عبيد إلهيته الذين خضعوا له وذلوا طوعًا واختيارًا لأمره ونهيه، ولا يجئ في القرآن إضافة العباد إليه-تعالى - مطلقا إلا لهؤلاء وهم ومن عداهم من الخلق يجتمعون في العبودية العامة: عبودية الربوبية: الخلق والملك والتدبير والقهر والخضوع له قهراَ ورغماَ فهذه تشمل المؤمن والكافر. قال تعالى: ... {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} (¬4). وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} (¬5) فسماهم عباده مع ضلالهم تسمية مقيدة بالإشارة. وقال تعالى: {قُلِ اللهُمّ فَاطِرَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (¬6). وقال تعالى: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} (¬7). ¬
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} (¬1). وقد ذكر ابن القيم (¬2) رحمه الله: مراتب (إياك نعبد) علماَ وعملاَ فقال «فأما مراتبها العلمية فمرتبتان: إحداهما: العلم بالله. والثانية: العلم بدينه. فأما العلم به سبحانه فخمس مراتب: العلم بذاته، وصفاته وأفعاله وأسمائه، وتنزيهه عما لا يليق به. والعلم بدينه مرتبتان إحداهما: دينه الأمري الشرعي وهو الصراط المستقيم الموصل إليه. والثانية دينه الجزائي، المتضمن ثوابه وعقابه. وقد دخل في هذا العلم بملائكته ورسله. وأما مراتبها العملية فمرتبتان: مرتبة لأصحاب اليمين، ومرتبة للسابقين المقربين. فأما مرتبة أصحاب اليمين فأداء الواجبات، مع ارتكاب المباحات وبعض المكروهات، وترك بعض المستحبات وأما مرتبة المقربين: فالقيام بالواجبات، وترك المحرمات والمكروهات زاهدين فيما لا ينفعهم في معادهم، متورعين عما يخافون ضرره. وخاصتهم قد انقلبت المباحات في حقهم طاعات وقربات بالنية، فليس في حقهم مباح مساوي الطرفين، بل كل أعمالهم ¬
راجحة، ومن دونهم يترك المباحات مشتغلاَ عنها بالعبادات، وهؤلاء يأتونها طاعات وقربات، ولأهل هاتين المرتبتين درجات لا يحصيها إلا الله. كما ذكر أبن القيم - رحمه الله (¬1) -أن لأهل مقام (إياك نعبد) وهم أهل هذه العبودية الخاصة - في أفضل العبادة وأنفعها طرقا أربعة، فهم في ذلك أربعة أصناف: عندهم أنفع العبادات وأفضلها أعظمها مشقة على النفوس، قالوا: والأجر على قدر المشقة. والصنف الثاني قالوا: أفضل العبادات التجرد والزهد في الدنيا، وعدم الاكتراث بكل ما هو منها. والصنف الثالث: رأوا أن أنفع العبادات وأفضلها ما فيه نفع متعد كخدمة الفقراء والاشتغال بمصالح الناس. والصنف الرابع: قالوا أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته، فأفضل العبادات في وقت الجهاد: الجهاد وإن آل إلى ترك الأوراد من صلاة الليل وصيام النهار، بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض كما في حالة الأمن والأفضل في وقت حضور الضيف القيام بحقه والاشتغال به عن الورد المستحب والأفضل في وقت الوقوف بعرفة الاجتهاد في التضرع والدعاء والذكر دون الصوم المضعف عن ذلك. ¬
28 - وجوب إخلاص العبادة لله تعالى بجميع أنواعها اعتقادا وقولا وعملا
ثم ذكر رحمه الله (¬1) اختلاف الناس في حكمة العبادة وفائدتها وأنهم في ذلك أربعة أصناف أيضا الصنف الأول نفاه الحكم والتعليل الذين يردون الأمر إلى محض المشيئة وصرف الإدارة، والصنف الثاني القدرية النفاة الذين يثبتون نوعًا من الحكمة والتعليل لكنه لا يقوم بالرب ولا يرجع إليه بل يرجع إلى مجرد مصلحة المخلوق ومنفعته فعندهم أن العبادات شرعت أثمانًا لما يناله العبد من الثواب العظيم كأجرة الأجير. والصنف الثالث زعموا أن حكمة العبادة ومصلحتها رياضة النفوس من الصوفية والفلاسفة، والصنف الرابع الطائفة الإبراهيمية المحمدية العارفون بالله وحكمته في أمره وشرعه وخلقه وأهل البصائر في عبادته ومراده بها. 28 - وجوب إخلاص العبادة لله تعالى بجميع أنواعها اعتقاداً وقولًا وعملًا، والبراءة من الشرك ووسائله، ومن الحول والقوة - لقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ففي تقديم المفعول في الموضعين وفى تكراره، مع: {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ما يؤكد تخصيصه جل وعلا بالعبادة والاستعانة والدعوة إلى عبادة الله، وتخصيصه بجميع أنواع العبادة من الاستعانة وغيرها. وهى أساس دعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم. قال نوح عليه السلام: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ ... إِلَهٍ غَيْرُهُ} (¬2) وكذلك قال هود (¬3) ¬
وصالح (¬1) وشعيب (¬2) وإبراهيم (¬3) عليهم السلام. وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (¬4)،وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلك مِنْ رَسُول إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (¬5)، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (¬6). وقد قرن الله بين {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} و {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} لأن في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} تحقق الألوهية وإبطالًا للشرك فيها، وفي قوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} تحقيق الربوبية، وإبطالًا للشرك فيها، قال شيخ الإسلام ابن تميمة (¬7): «وكل واحد من العبادة والاستعانة دعاء، وإذا كان الله قد فرض علينا أن نناجيه، وندعوه بهاتين الكلمتين في كل صلاة، فمعلوم أن ذلك يقتضي أنه فرض علينا أن نعبده وأن ¬
29 - دل قوله تعالى: {وإياك نستعين} على أن العبد لا ينفك عن العبودية حتى الموت
نستعينه، إذ إيجاب القول الذي هو إقرار واعتراف ودعاء وسؤال هو إيجاب لمعناه ....» ثم ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية (¬1) أن الإنسان بين هذين الواجبين لا يخلو من أحوال أربعة هي القسمة: إما أن يأتي بهما جميعًا، وإما أن يأتي بالعبادة فقط، وإما أن يأتي بالاستعانة فقط، وإما أن يتركهما جميعًا. 29 - دل قوله تعالى: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} على أن العبد لا ينفك عن العبودية حتى الموت كما قال الله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَاتِيَكَ الْيَقِينُ} (¬2). أي حتى الموت، ولهذا قال الله تعالى عن أهل النار إنهم يقولون: {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} (¬3). أي الموت وهذا بإجماع المفسرين المعتبرين. وفي الحديث الصحيح في قصة موت عثمان بن مظعون - رضي الله عنه -:أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «أما عثمان فقد جاءه اليقين من ربه» (¬4):أي الموت وما فيه. وفي هذا الرد على الخرافيين من الصوفية الذين يزعمون أن الواحد ¬
30 - حاجة جميع الخلق إلى عون الله -تعالى-
منهم قد يصل إلى مقام يسقط عنه التعبد والتكليف. ويفسرون اليقين في قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَاتِيَكَ الْيَقِينُ} بأنه وصول المرء إلى أعلى المقامات، وهو سقوط التكليف، وكونه لا يسأل عما يفعل. قال ابن القيم (¬1).-رحمه الله-» فلا ينفعك العبد من العبودية ما دام في دار التكليف، بل عليه في البرزخ عبودية أخرى لمَّا يسأله الملكان: "من كان يعبد؟ وما يقوله في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويلتمسان من الجواب". وعليه عبودية أخرى يوم القيامة يوم يدعو الله الخلق كلهم إلى السجود، فيسجد المؤمنون، ويبقى الكفار والمنافقون، لا يستطيعون السجود فإذا دخلوا دار الثواب والعقاب أنقطع التكليف هناك، وصارت عبودية أهل الثواب تسبيحًا مقرونًا بأنفسهم، لا يجدون له تعبًا ولا نصبًا. ومن زعم أنه يصل إلى مقام يسقط عنه فيه التعبد فهو زنديق كافر بالله وبرسوله، وإنما وصل إلى مقام الكفر بالله، والانسلاخ من دينه، بل وكلما تمكن العبد في منازل العبودية كانت عبوديته أعظم والواجب عليه منها أكبر وأكبر من الواجب على من دونه، ولهذا كان الواجب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل على جميع الرسل أعظم من الواجب على أممهم, والواجب على أولي العزم أعظم من الواجب على من دونهم، والواجب على أولى العلم أعظم من الواجب على من دونهم، وكل أحد بحسب مرتبته». 30 - حاجة جميع الخلق إلى عون الله -تعالى- وإمداده وافتقار ¬
31 - تقديم حقه تعالى حق العبد
جميع الخلق إليه في جميع أمورهم الدينية والدنيوية لقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وكما جاء في الدعاء «اللهم لا تكلني إلى نفسي ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين» (¬1). فالعبد دائمًا وأبدًا في حاجة إلى عون الله - تعالى وإمداده، وكما قيل: إذا لم يكن عون من الله للفتى ... فأول ما يجني عليه اجتهاده 31 - تقديم حقه تعالى حق العبد، وتقديم العام على الخاص، والغاية على الوسيلة، والأهم على المهم لقولة تعالى، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. 32 - لما كانت عبادة الله تعالى هي أشرف مقام يصل إليه العبد أتبع قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} بقوله: {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} لئلا يتعاظم المرء في نفسه وبداخله العجب بعبادته، وليعلم أن ما حصل له من التذلل لربه والخضوع له إنما هو بعون الله وتوفيقه. 33 - دل قوله -تعالى-: {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} على إثبات القدر، وأن الله فاعل حقيقة وإبطال قول القدرية الذين يقولون: إن العبد يخلق فعل نفسه. فإن استعانتهم به إنما تكون على شيء هو بيده،.وتحت قدرته ومشيئته، فلو كان بيدهم الفعل فكيف يستعينون على إيجاده بمن ليس ذلك الفعل بيده (¬2). ¬
34 - في نسبة العبادة والاستعانة إلى العباد في قوله (نعبد) ... (ونستعين) دليل على أن ذلك من فعلهم
34 - في نسبة العبادة والاستعانة إلى العباد في قوله (نعبد) ... (ونستعين) دليل على أن ذلك من فعلهم، وأن لهم على ذلك قدرة واختيارًا ومشيئة، وأن العبد حقيقة هو العابد والمستعين، والله هو المعبود مجبور على أفعاله (¬1).قال بعض السلف من أقر بـ، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فقد برئ من الجبر والقدر (¬2). 35 - في تقديم قوله -تعالى- {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} دلالة على أن من آداب الدعاء والسؤال أن يقدم السائل بين يدي سؤاله ما يكون سببًا للإجابة من الحمد الله الثناء عليه وتمجيده، وإعلان إخلاص العبادة له، والاستعانة به، والبراءة من الشرك ومن الحول والقوة، ثم يسأل حاجته الدينية أو الدنيوية (¬3). ومثل ذلك أن يقدم بين يدي سؤاله الاعتراف بالخطأ والذنب كما قال الأبوان {رَبّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِر لَنَا وَتَرْحَمنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ ¬
الْخَاسِرِينَ} (¬1). وقال موسى عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} (¬2). وقال ذو النون: {لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (¬3) ومثل ذلك، لأن السائل شدة حاجته كما قال موسى عليه السلام {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} (¬4). ويتفرع عن هذه الفائدة أنه يقدم بين يدي سؤاله ما يكون سببًا للإجابة كالثناء عليه والدعاء له وذكر السائل شدة حاجته قال الشاعر: أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء إذا أثنى عليك المرء يومًا ... كفاه من تعرضه الثناء (¬5) قال ابن القيم (¬6) ولما كان سؤال الله الهداية إلى صراط المستقيم أجل المطالب، ونيله أشرف المواهب: علم الله عباده كيفية سؤاله، وأمرهم أن يقدموا بين يديه حمده والثناء عليه وتمجيده، ثم ذكر عبوديتهم وتوحيدهم فهاتان وسيلتان إلى مطالبهم. وتوسل إليه بأسمائه وصفاته، وتوسل إليه بعبوديته. وهاتان الوسيلتان، ولا يكاد يرد ¬
معهما الدعاء، ويؤيدهما الوسيلتان المذكورتان في حديثي الاسم الأعظم. أحدهما: حديث بريدة قال: «سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا يدعو ويقول: اللهم أسألك بأني أشهد أنك الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد. فقال «والذي نفسي بيده، لقد سأل باسمه العظم، الذي دعي به أجاب وإذا سئل أعطى» (¬1). والثاني: حديث أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلًا يدعو: ... «اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض، ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، فقال: لقد سأل الله باسمه الأعظم» (¬2). ففي هذين الحديثين توسل إلى الله بتوحيده وأسمائه وصفاته. قال ابن القيم (¬3): «وقد جمعت الفاتحة الوسيلتين، وهما: التوسل ¬
36 - وجوب دعاء الله والتضرع إليه وسؤاله الهداية
بالحمد والثناء عليه وتمجيده والتوسل إليه بعبوديته وتوحيده. ثم جاء سؤال أهم المطالب، وأنجح الرغائب - وهو الهداية بعد الوسيلتين فالداعي به حقيق بالإجابة» 36 - وجوب دعاء الله والتضرع إليه وسؤاله الهداية، التي هي أجل المطالب لقوله: {اِهْدِنَا الصِّرَاط الْمُسْتَقِيم} أي: اهدنا إليه وفيه، وذلك بالتوفيق إلى سلوك طريق الإيمان دون سواه وإلى فعل التفاصيل الدينية بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، فالعبد في كل لحظة وعند أي عمل في حاجة أن يوفقه الله وعونه وتوفيقه للعبد لانقطعت به الأسباب، وضل عن جادة الصواب فحاجة العبد إلى سؤال الله هذه الهداية ضرورية لسعادته وفلاحه في الدنيا والآخرة أشد من حاجته إلى الرزق والطعام والشراب وغير ذلك (¬1). 37 - في قوله تعالى {اِهْدِنَا الصِّرَاط الْمُسْتَقِيم} رد على القدرية المجوسية القائلين بأن العبد يخلق فعل نفسه، ولو كان يخلق فعل نفسه ما كان في حاجة إلى أن يسأل الهداية (¬2). 38 - إن الهدى الحقيقي الصحيح هو ما جاء عن الله -تعالى- لقول {اِهْدِنَا الصِّرَاط الْمُسْتَقِيم} فمن التمس من غير الله فهو ¬
39 - مشروعية دعاء المسلم لإخوانه المسلمين
على ضلال كمن يحتكم إلى القوانين الوضعية التي وضعها البشر، وصدق الله العظيم {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (¬1). 39 - مشروعية دعاء المسلم لإخوانه المسلمين حين يدعو لنفسه يؤخذ هذا التعبير بضمير الجمع في قوله: {اِهْدِنَا الصِّرَاط الْمُسْتَقِيم} (¬2). وفي هذا وفي قوله قبله {نَعْبُدُ} و {نَسْتَعِينُ} إشارة إلى فضل الجماعة (¬3) كما أن في الآيتان بضمير الجمع فيهما تعظيمًا لله تعالى وثناء عليه بسعة مجده وكثرة سائليه (¬4). 40 - ربط الأعمال ونجاحها بأسبابها، وربط الأسباب بمسبباتها يؤخذ هذا من قوله: {اِهْدِنَا الصِّرَاط الْمُسْتَقِيم}. فبهداية الله للعبد وتوفيقه له يسلك الطريق المستقيم فيعرف الحق ويعمل به. 41 - أن صراط الله والطريق الموصل إليه عدل مستقيم لا اعوجاج فيه وهو الإيمان بالله -تعالى- ومعرفة الحق والعمل به والعلم النافع والعمل الصالح، وهو المؤدي إلى السعادة في الدنيا والآخرة، بخلاف طرق الباطل فهي ملتوية معوجة وتؤول بصاحبها إلى الشقاء والهلاك في الدنيا والآخرة. 42 - يؤخذ من قوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} بعد قوله في أول السورة، {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ¬
43 - إن الصراط المستقيم الذي يسأل العبد ربه الهداية إليه هو صراط الذين أنعم عليهم بطاعته وتعالى
الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} إن من كانت هذه صفته لم يكن أحد أحق منه بالعبادة والاستعانة وطلب الهداية. 43 - إن الصراط المستقيم الذي يسأل العبد ربه الهداية إليه هو صراط الذين أنعم عليهم بطاعته وتعالى، وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فأنعِم به من طريق، وأكرم بها من نعمة. وقال تعالى في سورة النساء {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} (¬1) وقد أضاف سبحانه وتعالى الصراط إلى الاسم الموصول في قوله {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} ليعم السؤال الهداية إلى صراط جميع المنعم عليهم بجميع تفاصيله (¬2). 44 - أن الهداية للطريق المستقيم بالإيمان بالله والعمل الصالح هي أعظم نعمة على العبد ولا تنال إلا بإنعام الله وتوفيقه للعبد، وقال تعالى {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}.وقال تعالى {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ} (¬3).فمن وفق ورزق هذه النعمة، وهي نعمة الإيمان بالله فهو الموفق، وإن فاته ما دونها من النعم، ومن حرمها ولم يوفق لها فذا هو الخاسر المغبون وإن حصل له شيء مما دونها من النعم، ¬
45 - في قوله تعالى
بل إن التوفيق لهذه النعمة سبب للتوفيق لما دونها من النعم، وإن حرمانها سبب وعلامة على حرمان ما دونها من النعم. وهذه هي النعمة المطلقة التي بها سعادة المرء في الدنيا والآخرة، وهي التي تخص الله بها أولياءه أما مطلق النعمة فهو عام لهم ولغيرهم. قال ابن القيم (¬1) رحمه الله: «وفي تخصيصه لأهل الصراط المستقيم بالنعمة ما دل على أن النعمة المطلقة للفلاح الدائم، وأما مطلق النعمة فعلى المؤمن والكافر، فكل الخلق في نعمة، فهذا فصل النزاع، في مسألة هل لله على الكافر نعمة أم لا؟. فالنعمة المطلقة لأهل الإيمان، ومطلق النعمة تكون للمؤمن والكافر، كما قال تعالى {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (¬2). والنعمة من جنس الإحسان، بل هي الإحسان، والرب تعالى إحسانه على البر والفاجر والمؤمن والكافر، وأما الإحسان المطلق فللذين اتقوا والذين هم محسنون». 45 - في قوله تعالى «مبنيًا للفاعل الاستعطاف بنسبة النعم إلى الله والاعتراف بنعمه السابقة على العباد فكأنه يقول أسألك يا رب الهداية يا سابق الإنعام والفضل والإحسان، كما في الدعاء ¬
46 - التنويه بعلو شأن المنعم عليهم وفضلهم ورفعة قدرهم
«اللهم اهدني فيمن هديت» (¬1). 46 - التنويه بعلو شأن المنعم عليهم وفضلهم ورفعة قدرهم، وعلو درجاتهم يؤخذ هذا من قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}. 47 - الترغيب بسلوك الطريق المستقيم ببيان الرفقة فيه وسالكيه وأنعم بهم من رفقة. قال ابن القيم (¬2): ولما كان طالب الصراط المستقيم أمر أكثر الناس ناكبون عنه مريدًا لسلوك طريقٍ مرافقه فيها في غاية القلة والعزة والنفوس مجبولة على وحشة التفرد وعلى الأنس بالرفيق نبه الله سبحانه على الرفيق في هذه الطريق، وأنهم هم {الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّه عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (¬3). فأضاف الصراط إلى الرفيق السالكين له، وهم الذين أنعم الله عليهم ليزول عن الطالب للهداية، وسلوك الصراط وحشة تفرده عن أهل زمانه وبني جنسه وليعلم أن رفيقة في هذا الصراط هم الذين أنعم الله عليهم، فلا يكترث بمخالفة الناكبين عنه له، فإنهم هم الأقلون قدرًا، وإن كانوا الأكثرين عددًا، كما قال بعض السلف «عليك بطريق الحق ¬
ولا تستوحش لقلة السالكين، وإياك وطريق الباطل ولا تغتر بكثرة الهالكين" وكلما استوحشت في تفردك فانظر إلى الرفيق السابق واحرص على اللحاق بهم، وغض الطرف عمن سواهم، فإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئًا وصاحوا بك في طريق سيرك فلا تلفت إليهم، فإنك متى التفت إليهم أخذوك وعاقوك. وقد ضربت لذلك مثلين، فليكونا منك على بال: المثل الأول: رجل خرج من بيته إلى الصلاة، لا يريد غيرها فعرض له في طريقه شيطان من شياطين الإنس، فألقى عليه كلامًا يؤذيه، فقهره، ومنعه عن الوصول إلى المسجد، حتى فاتته الصلاة وربما كان الرجل أقوى من شيطان الإنس، ولكن اشتغل بمهاوشته عن الصف الأول، وكمال إدراك الجماعة فإن التفت إليه أطمعه في نفسه، وربما فترت عزيمته. فإن كان له معرفة وعلم زاد في السعي والجمز (¬1)، بقدر التفاته أو أكثر فإن أعرض عنه، واشتغل بما هو بصدده وخاف فوت الصلاة أو الوقت: لم يبلغ عدوه منه ما شاء. المثل الثاني: الظبي أشد سعيًا من الكلب، ولكنه إذا أحس به التفت إليه فيضعف سعيه. فيدركه الكلب، فيأخذه. والقصد أن في ذكر هذا الرفيق: ما يزيل وحشة التفرد، ويحث على السير والتشمير للحاق بهم، وهذه إحدى الفوائد في دعاء القنوت ¬
48 - أن الطريق الحق واحد
«اللهم اهدني فيمن هديت» (¬1) أي أدخلني في هذه الزمرة واجعلني رفيقا لهم ومعهم ..». 48 - أن الطريق الحق واحد ولهذا ذكر بالإفراد وعُرّف الموضوعين الأول، والثاني بالإضافة. قال تعالى {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} أي الطريق المعهود المعروف بخلاف طرق الباطل فهي كثيرة متشبعة ولهذا ذكرها بالجمع بينما أفرد طريق الحق في قوله تعالى {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (¬2) قال ابن القيم (¬3): ... «وذكر الصراط المستقيم مفردًا معرفًا تعريفين، تعريفًا باللام وتعريفًا بالإضافة، وذلك يفيد تعينه واختصاصه، وأنه صراط واحد، وأما طرق أهل الغضب والضلال فإنه سبحانه يجمعها ويفردها كقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (¬4) وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: «خط لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطًا وقال: هذه سبيل الله ثم خط خطوطًا عن يمينه وعن ¬
49 - أن الصراط تارة يضاف إلى سالكيه
يساره وقال سبل، على كل سبيل شيطان يدعو إليه، ثم قرأ قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (¬1). 49 - أن الصراط تارة يضاف إلى سالكيه، كما في قوله - تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وتارة يضاف إلى الله - تعالى - الذي نصبه وشرعه ووضعه لعباده كما في قوله- تعالى: {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} (¬2) وقوله تعالى {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا} (¬3) وقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} (¬4). 50 - وجوب الاعتراف بالنعمة لموليها ومسديها لقوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} فالنعم الحق بجميع النعم هو الله -جل وعلا - كما قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (¬5)، وقال تعالى: {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا} (¬6). 51 - في إثبات حمده بصفات الكمال وإثبات ربوبيته وملكه، وكونه مستعانًا به مسئولًا أن يهدي عباده الصراط المستقيم، وكونه ¬
52 - استدل الشنقيطي - رحمه الله - بقوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم (6) صراط الذين أنعمت عليهم} على صحة إمامة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -
منعمًا في ذلك كله دلالة على أنه تعالى فاعل مختار بقدرته ومشيئته، ورد على القائلين بالموجب بالذات دون الاختيار والمشيئة -تعالى الله عما يقول الجاهلون علوا كبيرًا (¬1). 52 - استدل الشنقيطي - رحمه الله (¬2) - بقوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} على صحة إمامة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال «لأنه داخل في الذين أمرنا الله في هذه السورة بأن نسأل أن يهدينا صراطهم. قال: فدل على أن صراطهم هو الصراط المستقيم، وقد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن أبا بكر رضي الله عنه من الصديقين فاتضح أنه داخل في الذين أنعم الله عليهم لقوله تعالى {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَائِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَائِكَ رَفِيقًا} (¬3). قال فهو - رضي الله عنه - على الصراط المستقيم، وإمامته حق». 53 - إثبات كمال الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم لقوله تعالى بعد أن ذكر هذا الصراط {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} أي غير صراط المغضوب عليهم، ولا صراط الضالين. لأن الصفات السلبية يؤتى بها لثبات كمال ضدها كقوله تعالى: ¬
54 - ينبغي للعبد بعد أن يسأل الله تعالى أن يهديه الصراط المستقيم
{لَا تَاخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} (¬1) لإثبات كمال قيوميته وكقوله {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} (¬2) ونحو ذلك. 54 - ينبغي للعبد بعد أن يسأل الله تعالى أن يهديه الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم فحققوا التوحيد وأن يسأله أيضًا أن يجنبه صراط المغضوب عليهم ممن عرفوا الحق ولم يعملوا به من اليهود وغيرهم لقوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} وهذا هو أفضل دعاء دعا به ربه وأوجبه وأنفعه (¬3). 55 - إثبات صفة الغضب - لله - كما يليق بجلاله وعظمته وهي من الصفات الفعلية المتعلقة بالمشيئة لكن لا يشتق منها اسم على الإطلاق فلا يقال: الغضبان - أو الغاضب قال تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}، وقال تعالى {لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} (¬4). ¬
56 - ينبغي للعبد أن يسلك من الطرق أحسنها وأصلحها وأقومها
56 - ينبغي للعبد أن يسلك من الطرق أحسنها وأصلحها وأقومها، وأن يختار لنفسه القدوة الحسنة، والأسوة الصالحة، بسلوك طريق النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وأن يحذر من طرق الكفر والبغي والضلال، التي هي مسالك اليهود والنصارى وغيرهم. 57 - أن من أخص صفات اليهود الغضب، لأنهم عرفوا الحق وتركوه، كما قال تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} (¬1). وأن من أخص أوصاف النصارى الضلال، لأنهم عبدوا الله على جهل وضلال كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} (¬2) ولهذا وصف الله في سورة الفاتحة كلًا من اليهود والنصارى بأخص أوصافهم فقال {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} يعني اليهود {وَلَا الضَّالِّينَ} يعني النصارى. وإلا فكل من الطائفتين مغضوب عليه وضال. 58 - أن كل من سلك مسلك أحد الطائفتين شمله وصف تلك الطائفة كما قال سفيان: «من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود. ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى». وفي الحديث «من تشبه بقوم فهو منهم» (¬3). ¬
59 - دل قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} وما بعده على أن الناس ينقسمون بحسب معرفة الحق والعمل به
فيجب الحذر من التشبه بهم، إذ ليس بين الله وبين أحد من الخلق نسب بل إن الآية توجب سؤال الله السلامة من جميع مسالك الكفر والضلال والحذر من ذلك. 59 - دل قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} وما بعده على أن الناس ينقسمون بحسب معرفة الحق والعمل به إلى ثلاثة أقسام: قسم أنعم الله عليهم بمعرفة الحق والعمل به إلى ثلاثة أقسام: قسم أنعم الله عليهم بمعرفة الحق والعمل به، وقسمان مخذولان، أحدهما: من عرفوا الحق وتركوه كفرًا وعنادًا، وهم اليهود، ومن سلك مسلكهم، ولهذا استحقوا غضب الله تعالى. والقسم الثاني: من ضلوا عن الحق وجهلوه من النصارى، ومن سلك مسلكهم، ولهذا وصفهم الله بالضلال (¬1). 60 - في إسناد النعمة إلى الله تعالى، وإضافتها إليه في قوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} إشارة إلى تفرده بالإنعام، وتكريم المنعم عليه. وفي حذف فاعل الغضب في قوله {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ} إشارة إلى أن الغضب عليهم لا يختص به تعالى- بل ملائكته وأنبياؤه ورسله يغضبون لغضبه، كما أن في ذلك إشعارًا بإهانة المغضوب عليهم وتحقيرهم. كما أن في إسناد النعمة إلى الله تعالى، وحذف فاعل الغضب وإسناد الضلال إلى من قام به في قوله {وَلَا الضَّالِّينَ} تعليم لحسن الأدب مع الله بإسناد الخير والنعم إليه، وحذف الفاعل فيما ¬
61 - بلوغ القرآن غاية الإيجاز مع الفصاحة والبيان
يقابل ذلك أو إسناده إلى من قام به كما قال - صلى الله عليه وسلم - «والخير كله بيديك والشر ليس إليك» (¬1). أي أن الشر في مفعولات الله، لا في فعله، فإن فعله كله خير وحكمة، وكما قال إبراهيم الخليل-عليه السلام- فيما حكى الله عنه: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} (¬2). 61 - بلوغ القرآن غاية الإيجاز مع الفصاحة والبيان. فإن الله وصف كلًا من الطوائف الثلاث بوصف يستلزم الجزاء وسببه بأوجز لفظ في قوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}. قال ابن القيم (¬3): «وتأمل سرًا بديعًا في ذكر السبب والجزاء للطوائف الثلاثة بأوجز لفظ وأخصره، فإن الإنعام عليهم يتضمن إنعامه بالهداية التي هي العلم النافع والعمل الصالح، وهي الهدى ودين الحق، ويتضمن كمال الإنعام بحسن الثواب والجزاء فهذا تمام النعمة، ولفظ {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} يتضمن الأمرين. وذكر غضبه على المغضوب عليهم يتضمن أيضًا أمرين الجزاء ¬
62 - الترغيب في سلوك سبيل المنعم عليهم والمؤمنين
بالغضب الذي موجبه غاية العذاب والهوان، والسبب الذي استحقوا به غضبه سبحانه فإنه أرحم وأرأف من أن يغضب بلا جناية منهم ولا ضلال. فكأن الغضب عليهم مستلزم لضلالهم، وذكر الضالين مستلزم لغضبه عليهم، وعقابه لهم، فإن من ضل استحق العقوبة التي هي موجب ضلاله وغضب الله عليه». 62 - الترغيب في سلوك سبيل المنعم عليهم والمؤمنين والترهيب من سلوك طريق المغضوب عليهم والضالين يؤخذ هذا من المقابلة بين الهداية والنعمة والغضب والضلال (¬1). 63 - دلت السورة على إثبات النبوات ووجوب الإيمان بالكتب والرسل، والرد على منكري النبوات. وذلك في مواضع كثيرة منها، ما يلي: أولًا: من قوله - تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} إذ لا سبيل إلى معرفة حمده، ووصفه بصفاته إلا عن طريق كتبه ورسله، كما أن في إثبات حمده التام ووصفه بصفات الكمال ما يقتضي كمال حكمته، وأن لا يخلق الخلق عبثًا، ولا يتركهم سدًا، لا يؤمرون، ولا ينهون، ولهذا نزه - تعالى نفسه عن هذا في مواضع من كتابه، وبين أن من أنكر الرسالة والنبوة فإنه ما قدره حق قدره قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} (¬2). وقال تعالى: ... {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ ¬
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} (¬1). قال ابن القيم (¬2) - رحمه الله- تعالى: «فمن أعطى الحمد حقه علمًا ومعرفة وبصيرة استنبط منه: «أشهد أن محمدًا رسول الله» كما يستنبط منه «أشهد أن لا إله إلا الله» وعلم قطعًا أن تعطيل النبوات في منافاته للحمد كتعطيل الصفات، وكإثبات الشركاء والأنداد». ثانيًا: من قوله - تعالى: {اللَّهُ} ومعناه: المألوه المعبود، ولا سبيل إلى معرفة كيفية عبادته، وما يعبد به إلا من طريق الرسل والنبوات. ثالثًا: من قوله - تعالى: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} إذ الرب يتعهد مربوبه بالتربية والإصلاح، ومقتضى ذلك إرسال الرسل، وإنزال الكتب، لدعوة الناس إلى الخير، وتحذيرهم من الشر في دينهم ودنياهم. وقال ابن القيم (¬3): «فلا يليق به أن يترك عباده سدًا هملًا، لا يعرفهم ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم، وما يضرهم فيهما، فهذا هضم للربوبية، ونسبة الرب - تعالى- إلى ما لا يليق به، وما قدره حق قدره، من نسبه إليه». رابعًا: من قوله - تعالى: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فإن مقتضى ¬
رحمته ألا يترك العباد بلا رسل تبلغهم وحي الله، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (¬1). قال ابن القيم (¬2): «فإن رحمته تمنع إهمال عباده، وعدم تعريفهم ما ينالون به غاية كمالهم، فمن أعطى اسم «الرحمن» حقه عرف أنه متضمن لإرسال الرسل، وإنزال الكتب، أعظم من تضمنه علم إنزال الغيث، وإنبات الكلأ، وإخراج الحب، فاقتضاء الرحمة لما تحصل به حياة القلوب والأرواح أعظم من اقتضائها لما تحصل به حياة الأبدان والأشباح، لكن المحجوبون إنما أدركوا من هذا الاسم حظ البهائم والدواب، وأدرك منه أولو الألباب أمرًا وراء ذلك». خامسًا: من قوله {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فإن من تمام ملكه أن يكون له رسل وكتب يبثها في أقطار مملكته لتبليغ أوامره ونواهيه. سادسًا: من قوله - تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} إذ كيف يحاسب ويجازي الخلق إلا بعد إقامة الحجة عليهم بإرسال الرسل، كما قال - تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (¬3). قال ابن القيم (¬4): «فإنه اليوم الذين يدين الله العباد فيه بأعمالهم فيثيبهم على الخيرات، ويعاقبهم على المعاصي والسيئات، وما كان الله ¬
ليعذب أحدًا قبل إقامة الحجة عليه. والحجة إنما قامت برسله وكتبه وبهم استحق الثواب والعقاب، وبهم قام سوق يوم الدين، وسبق الأبرار إلى النعيم، والفجار إلى الجحيم». سابعًا: من قوله -تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} لأن الله لم يتعبد خلقه بالجهل، ولا طريق لمعرفة كيفية عبادته وبماذا يعبد إلا بواسطة الرسل والكتب. ثامنًا: من قوله - تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} فإن من أقسام الهداية هداية البيان والدلالة والإرشاد، ولا يكون ذلك إلا من طريق الرسل والكتب المنزلة عليهم من عند الله -تعالى. ولا يمكن معرفة الطريق المستقيم الموصل إلى الله، والمؤدي إلى السعادة في الدارين إلا من طريق الرسل والكتب. تاسعًا: من قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وهم النبيون ومن ذكر الله معهم في قوله -تعالى في سورة النساء: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (¬1)، فإن معرفة المنعم عليهم ومعرفة طريقهم، ومعرفة النعمة التي من أجلها استحقوا أن يذكروا بها على سبيل التشريف والتعظيم. كل ذلك لا يمكن معرفته إلا من طريق الرسل والكتب. عاشرًا: من قوله - تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا ¬
64 - تضمنت السورة الدلالة على سعة علم الله - عز وجل- وخبرته وتعلق علمه بالجزئيات
الضَّالِّينَ} إذ لا يمكن معرفة طريق المغضوب عليهم، وطريق الضالين ليجتنبهما العبد إلا من طريق الرسل والكتب. الحادي عشر: من قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} لأن انقسام الناس إلى هذه الأقسام الثلاثة إنما حصل بسبب إرسال الرسل، فمن عرف الحق الذي جاؤوا به واتبعه فهو من أهل النعمة، ومن عرفه وعانده فهو من أهل الغضب، ومن جهل الحق فهو من أهل الضلال. ويتفرع عن هذا أنه إذا كانت السورة متضمنة إثبات الرسالات والنبوات اقتضى ذلك إثبات صفة التكلم والتكليم له جل وعلا. قال ابن القيم (¬1): «فإن حقيقة الرسالة تبليغ كلام المرسل، فإذا لم يكن ثم كلام فماذا يبلغ الرسول؟ بل كيف يعقل كونه رسولًا. ولهذا قال غير واحد من السلف: من أنكر أن يكون الله متكلمًا أو أن يكون القرآن كلامه، فقد أنكر رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، بل ورسالة جميع الرسل التي حقيقتها تبليغ كلام الله تبارك وتعالى». 64 - تضمنت السورة الدلالة على سعة علم الله - عز وجل- وخبرته وتعلق علمه بالجزئيات، والرد على من أنكر ذلك من وجوه لأن كونه محمودًا موصوفًا بصفات الكمال يقتضي أن يعلم أحوال العالم وتفاصيل جزئياته، وكونه إلهًا معبودًا يقتضي أن يعلم من يعبده ممن يعبد سواه، وكونه ربًا للعالمين يقتضي أن يكون عالمًا بتفاصيل ¬
65 - اشتمل قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} وما بعده إلى آخر السورة على الرد على جميع طوائف الكفر والضلال
مخلوقاته مدبرًا لها، وكونه رحمانًا رحيمًا يقتضي أن يعلم أحوال المرحومين، وكونه مالكًا ليوم الدين يقتضي أن يعرف أحوال مملكته ورعيته ليجازي كلًا بعمله، كما أن كونه مستعانًا به ومسؤولًا الهداية وهاديًا ومنعمًا على من أطاعه ويغضب على من عصاه، كل ذلك يدل على تعلق علمه بالجزئيات وشموله لها (¬1). 65 - اشتمل قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} وما بعده إلى آخر السورة على الرد على جميع طوائف الكفر والضلال، وذلك على سبيل الإجمال لأن الحق في معرفة ما جاء به المصطفى - صلى الله عليه وسلم - والسير على نهجه، وما عداه من المسالك والسبل الملتوية والمعوجة مردودة باطلة. وقد عقد ابن القيم (¬2) رحمه الله، فصلًا في اشتمال الفاتحة على الرد على جميع المبطلين من أهل الملل والنحل والرد على أهل البدع والضلال من هذه الأمة. قال: وهذا يعلم بطريقين مجمل ومفصل. وبعد أن ذكر رحمه الله ما فيها من رد على جميع المبطلين بطريق الإجمال بيّن اشتمالها على الرد على جميع المبطلين بطريق التفصيل، فذكر الرد منها على الملاحدة وإبطال قولهم وبيان ضلالهم، والرد على المجوس والقدرية وعلى الجهمية وأهل الإشراك في ربوبيته وإلهيته ¬
وعلى الجهمية معطلة الصفات، وعلى الجبرية، وعلى القائلين بالموجب بالذات دون الاختيار والمشيئة وإثبات أن الله فاعل مختار والرد على منكري تعلق علمه بالجزئيات، ومنكري النبوات وإثبات صفة التكلم لله - عز وجل -، والرد على من قال بقدم العالم، وكل هذا سبقت الإشارة إليه. وختم ابن القيم هذا الفصل في بيان تضمنها للرد على الرافضة. قال: «وذلك من قوله {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إلى آخرها. قال: ووجه تضمنه إبطال قولهم: أنه سبحانه قسم الناس إلى ثلاثة أقسام: «منعم عليهم» وهم أهل الصراط المستقيم، الذين عرفوا الحق واتبعوه. «ومغضوب عليهم» وهم الذين عرفوا الحق ورفضوه، و «ضالون» وهم الذين جهلوه فأخطأوه. فكل من كان أعرف للحق، وأتبع له كان أولى بالصراط المستقيم، ولا ريب أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنهم هم أولى بهذه الصفة من الروافض فإنه من المحال أن يكون أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنهم - جهلوا الحق وعرفه الروافض، أو رفضوه وتمسك به الروافض. ثم إنا رأينا آثار الفريقين تدل على أهل الحق منهما. فرأينا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتحوا بلاد الكفر وقبلوها بلاد إسلام، وفتحوا القلوب بالقرآن والعلم والهدى، فآثارهم تدل على أنهم أهل الصراط المستقيم ورأينا الرافضة بالعكس في كل زمان ومكان، فإنه قط ما قام للمسلمين عدو من غيرهم إلا كانوا أعوانهم على الإسلام، وكم جروا على الإسلام وأهله من بليه ... ولهذا فسر السلف الصراط المستقيم وأهله بأبي بكر وعمر وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورضي الله عنهم، وهو
66 - تضمنت السورة شفاء القلوب، كما تضمنت شفاء الأبدان
كما فسروه، فإنه صراطهم الذي كانوا عليه، وهو عين صراط نبيهم ... وأشد الأمة مخالفة له الرافضة ... فقد تبين أن الصراط المستقيم طريق أصحابه وأتباعه، وطريق أهل الغضب والضلال طريق الرافضة. وبهذه الطريقة - بعينها - يرد على الخوارج فإن معاداتهم الصحابة معروفة». 66 - تضمنت السورة شفاء القلوب، كما تضمنت شفاء الأبدان، قال ابن القيم (¬1): «فأما اشتمالها على شفاء القلوب فإنها اشتملت عليه أتم اشتمال فإن مدار اعتلال القلوب وأسقامها على أصلين: فساد العلم وفساد القصد. ويترتب عليهما داءان قاتلان وهما الضلال والغضب فالضلال نتيجة فساد العلم والغضب نتيجة فساد القصد، وهذان المرضان هما ملاك أمراض القلوب جميعها. فهداية الصراط المستقيم تتضمن الشفاء من مرض الضلال، ولذلك كان سؤال هذه الهداية أفرض دعاء على كل عبد وأوجبه عليه كل يوم وليلة في كل صلاة، لشدة ضرورته وفاقته إلى الهداية المطلوبة، ولا يقوم غير هذا السؤال مقامه. والتحقق بـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} علمًا ومعرفة وعملا وحالا يتضمن الشفاء من مرض فساد القلب والقصد ... إلي أن قال: ثم إن القلب يعرض له مرضان عظيمان إن لم يتداركهما العبد تراميا به إلى التلف ولابد، وهما الرياء والكبر، فدواء الرياء بـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ودواء الكبر بـ {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وكثيرا ما كنت أسمع شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: ¬
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} تدفع الرياء {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} تدفع الكبرياء». فإذا عوفي من مرض الرياء بـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ومن مرض الكبرياء والعجب بـ {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ومن مرض الضلال والجهل بـ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} عوفي من أمراضه وأسقامه، ورفل في أثواب العافية، وتمت عليه النعمة، وكان من المنعم عليهم، غير المغضوب عليهم، وهم أهل فساد القصد الذين عرفوا الحق وعدلوا عنه، والضالين وهم أهل فساد العلم، الذين جهلوا الحق ولم يعرفوه. وحق لسورة تشتمل على هذين الشفاءين أن يستشفى بها من كل مرض، ولهذا لما اشتملت على هذا الشفاء الذي هو أعظم الشفاءين كان حصول الشفاء الأدنى بها أولى». ثم ذكر الدليل من السنة على شفائها للأبدان، وهو حديث أبي سعيد الخدري في قصة اللديغ. وقد سبق ذكره في أسماء الفاتحة، كما استشهد بقواعد الطب وما دلت عليه التجربة. ***
الفصل الثاني الأحكام التي تتعلق بسورة الفاتحة
الفصل الثاني الأحكام التي تتعلق بسورة الفاتحة وفيه مبحثان: المبحث الأول: حكم قراءة الفاتحة في الصلاة. المبحث الثاني: وفيه مسائل: أ- من لم يستطع قراءة الفاتحة في الصلاة. ب- قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة. ج- قول: «آمين» بعد قراءة الفاتحة. هـ - قراءة ما زاد على الفاتحة في الصلاة.
المبحث الأول حكم قراءة الفاتحة في الصلاة
المبحث الأول حكم قراءة الفاتحة في الصلاة أولًا: حكم قراءة الفاتحة في حق الإمام والمنفرد: جمهور أهل العلم على وجوب قراءة الفاتحة في حق الإمام والمنفرد، وأنه لا تصح صلاتهما بدونها (¬1). منهم مالك (¬2)، والشافعي (¬3)، وأحمد في المشهور، بل الصحيح عنه (¬4)، وإسحاق (¬5)، وعبد الله بن المبارك (¬6)، والأوزاعي (¬7)، وأبو ثور (¬8)، وداود (¬9)، وغيرهم. ¬
مستدلين بقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ} (¬1)، وبحديث أبي هريرة في الصحيحين في قصة المسيء في صلاته وفيه: «ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن»، وقوله بعد ذلك «ثم افعل ذلك في صلاتك كلها» (¬2) وهذا صريح في القراءة في كل ركعة، والفاتحة أيسر القرآن. كما استدلوا بحديث عبادة في الصحيحين: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» وحديث أبي هريرة عند مسلم: «كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج»، وغيرهما من الأحاديث (¬3). كما استدلوا - أيضا - بمداومة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه على قراءتها، كما في حديث أنس وعائشة - رضي الله عنهما (¬4) - وبما ثبت من النقل عن عامة السلف من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من المداومة على قراءتها، بل ومن القول بوجوبها، وأنه لا تصح الصلاة بدونها (¬5). واختلفوا هل تجب قراءتها في كل ركعة؟ وهذا قول أكثرهم، ¬
وقيل: يكفي قراءتها في أكثر الركعات، وبهذا قال مالك، وقيل: يكفي قراءتها في ركعتين، وقيل: تكفي قراءتها في ركعة واحدة من الصلاة والصحيح الأول. وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا تتعين قراءة الفاتحة، وأن الغرض أو الواجب: هو قراءة أقل ما تيسر من القرآن. وروي هذا عن الحسن (¬1) والأوزاعي والثوري (¬2)، وقال به أبو حنيفة، وأصحابه. قال أبو حنيفة: أقل ما تيسر مقدار آية. وقال صاحباه أبو يوسف ومحمد: أقله ثلاث آيات، أو آية طويلة (¬3)، وروي عن الإمام أحمد مثل قول أبي حنيفة (¬4). واستدل من ذهب إلى هذا القول بقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ} (¬5) وقوله - صلى الله عليه وسلم - للمسيء في صلاته: «ثم أقرأ ما تيسر معك من القرآن» متف عليه (¬6). ¬
وحملوا حديث عبادة «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» وما في معناه على أن المعنى لا صلاة كاملة: أي على نفي الكمال لا على نفي الجواز (¬1). والصحيح ما ذهب إليه جمهور أهل العلم، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، بأنه تتعين قراءة الفاتحة في الصلاة، وأن الصلاة لا تصح بدونها. للأدلة الصريحة الصحيحة الدالة على ذلك. والتي فيها تفسير لقوله تعالى: {مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ} ولقوله - صلى الله عليه وسلم - «ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن» إذ لا أيسر من قراءة الفاتحة (¬2) ولهذا حمله مسلم وغيره على وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة وبوب له بهذا. كما تقدم في تخريجه - وأيضًا - قد يحمل «ما تيسر» في الآية والحديث على ما زاد على الفاتحة (¬3)، كما قال أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - «أُمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر» (¬4). ولم أر ما يدعو لذكر الأدلة كلها على وجوب قراءة الفاتحة، وأنها ركن لا تصح الصلاة بدونها وتفصيل القول فيها، خاصة في حق الإمام والمنفرد، نظرًا لضعف الخلاف في هذه المسألة، فليس مع المخالف من الأدلة ما يستلزم بسط القول في ذكر أدلة الوجوب التي لا تحصى كثرة من السنة الصريحة الصحيحة، والآثار الثابتة الصحيحة عن سلف ¬
ثانيا: حكم قراءة الفاتحة في حق المأموم
هذه الأمة من الصحابة والتابعين. ونظرًا لأن هذه الأدلة سيأتي ذكرها ضمن أدلة القول الأول والثاني في المسألة التالية وهي حكم قراءة الفاتحة في حق المأموم. لأن دلالة هذه الأدلة على وجوب قراءة الفاتحة في حق الإمام والمنفرد أولى من دلالتها على وجوب قراءة الفاتحة في حق المأموم. ثانيًا: حكم قراءة الفاتحة في حق المأموم: اختلف أهل العلم - رحمهم الله - قديمًا وحديثًا في هذه المسألة لسببين هما:- أ- السبب الأول: ظاهر النصوص الواردة في هذه المسألة، فبعضها يوجب قراءة الفاتحة في الصلاة، وبعضها يوجب الإنصات لقراءة القرآن. الأمر الذي جعل أهل العلم تختلف أقوالهم في توجيه هذه الأدلة، والتوفيق بينها. ب- السبب الثاني: كثرة المروي عن الصحابة والتابعين في هذه المسألة، واختلاف النقل عنهم فيها: فمنهم من روي عنه جواز القراءة خلف الإمام مطلقًا، ومنهم من روي عنه جواز القراءة خلف الإمام في السرية دون الجهرية، ومنهم من روي عنه المنع من القراءة خلف الإمام مطلقًا. بل منهم من روي عنه أكثر من قول في هذه المسألة. وبناء على هذا كثر الاختلاف في هذه المسألة إلى يومنا هذا. وقد ألف فيها كثير من أهل العلم، وبسطوا القول فيها، منهم من أفردها بالتأليف، كالإمام البخاري في كتابه «خير الكلام في القراءة خلف الإمام»، والبيهقي في كتابه «القراءة خلف الإمام»، واللكنوي من علماء
إجمال الخلاف في هذه المسألة
الحنفية في العصر الحاضر في كتابه «إمام الكلام فيما يتعلق بالقراءة خلف الإمام». وقد ذكر شارح سنن الترمذي المباركفوري في «تحفة الأحوذي» 1: 256: أنه ألف فيها كتابًا مبسوطًا سماه «تحقيق الكلام في وجوب القراءة خلف الإمام». وقد ذكر شارح سنن الترمذي المباركفوري في «تحفة الأحوذي» 1: 256: أنه ألف فيها كتابًا مبسوطًا سماه «تحقيق الكلام في وجوب القراءة خلف الإمام». ومنهم من بسط القول فيها ضمن مؤلف، ولم يفردها بالتأليف، كابن المنذر في «الأوسط»، والطحاوي في «شرح معاني الآثار»، وابن عبد البر في «التمهيد» و «الاستذكار» والحازمي في «الاعتبار»، من أحسن ما كتب فيها ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه «مجموع الفتاوى». وقد أفرد بعضهم جواب شيخ الإسلام عن هذه المسألة فطبعه برسالة مستقلة، وهي نفس ما في الفتاوى. وممن بحث في هذه المسألة من المعاصرين الشيخ عبد المحسن بن محمد المنيف في كتابه «أحكام الإمامة والائتمام ي الصلاة». ويمكن إجمال الخلاف في هذه المسألة وأدلتها في أقوال ثلاثة هي:- القول الأول: أن المأموم يقرأ الفاتحة خلف الإمام مطلقا في الصلاة السرية والجهرية. وهذا القول مروي عن جمع من الصحابة والتابعين، مع اختلاف في النقل عن أكثرهم. وكذا احتمال النقل عن بعضهم أن يكون مرادا به هذا القول وهو القراءة خلف الإمام مطلقًا، أو القول الذي بعده وهو القراءة في السرية فقط. فممن روي عنه هذا القول: عمر بن الخطاب
- رضي الله عنه - (¬1)، وعبادة بن ¬
الصامت (¬1) ¬
وأبو هريرة (¬1)، وعبد الله بن عباس (¬2)،وعبد الله ابن ¬
عمرو (¬1)، ومعاذ بن جبل (¬2)،وأبي ابن ¬
كعب (¬1)،وحذيفة بن اليمان (¬2)، وعبد الله بن الزبير (¬3)، وأنس بن مالك (¬4)، وهشام بن عامر (¬5) - رضي الله عنهم أجمعين -. ¬
كما روي عن جمع من التابعين منهم: مجاهد بن جبر (¬1)، وسعيد ابن جبير (¬2)، والحسن البصري (¬3)، ومكحول (¬4)، ¬
وأبو المليح (¬1)، وأبو سلمة بن عبد الرحمن (¬2)، وميمون بن مهران (¬3)، ومالك بن عون (¬4)، والشعبي (¬5)، وأبو مجلز (¬6)،وسعيد بن أبي عروبة، والحكم بن عتيبة (¬7)، وعروة ابن ¬
الزبير (¬1)،وعطاء (¬2). وقال بهذا القول الإمام الشافعي في الجديد، وأكثر أصحابه (¬3). والأوزاعي (¬4)، والليث بن سعد (¬5)، وأبو ثور (¬6)، وهو رواية عن مالك (¬7) وأحمد (¬8). ¬
واختار هذا القول بعض المحققين من أهل العلم، منهم البخاري (¬1)، وأبو بكر بن المنذر (¬2)، وأبو بكر بن خزيمة (¬3)، والخطابي (¬4)، والبيهقي (¬5)، وابن حزم (¬6)، والحازمي (¬7). وأبو البركات جد شيخ الإسلام ابن تيمية (¬8)، والقرطبي (¬9)، وأبو الطيب محمد شمس الحق آبادي (¬10)، والشوكاني (¬11)، وأحمد محمد شاكر (¬12). واتفقوا على وجوب قراءة الفاتحة على المأموم في الصلاة السرية. واختلفوا في حكم قراءتها في حال جهر الإمام بالقراءة، فقال بعضهم بوجوب ذلك منهم الشافعي والبخاري وابن حزم والشوكاني ¬
وغيرهم، وقال بعضهم باستحبابه فقط منهم الأوزاعي والليث بن سعد وأبو البركات. والأولى عندهم جميعًا أن تكون في سكتات الإمام. الأدلة التي استدل بها أصحاب هذا القول: أ- من الكتاب: قول الله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ} (¬1). ب- ومن السنة أحاديث كثيرة جدًا منها ما يأتي: 1 - ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - في قصة المسيء صلاته، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: «اقرأ ما تيسر معك من القرآن» (¬2). قالوا: ووجه الأدلة من الآية، والحديث: أن الأمر للوجوب في الآية والحديث بقراءة ما تيسر، والفاتحة هي أيسر ما تيسر من القرآن. والآية والحديث كل منهما مبين مفسر بالأحاديث التالية، التي فيها وجوب قراءة الفاتحة. 2 - ما رواه عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» متفق عليه. وفي رواية لمسلم: «لا صلاة لمن يقرأ بأم القرآن» (¬3). وفي رواية للدارقطني (¬4) والبيهقي (¬5): «لا تجزئ صلاة لا يقرأ ¬
الرجل فيها بفاتحة الكتاب» (¬1). قالوا: فقوله: «لا صلاة» صلاة نكرة في سياق النفي، فهو يعم (¬2). وهو نفي للصلاة الشرعية المجزئة بدليل رواية الدارقطني والبيهقي: «لا تجزيء صلاة لا يقرأ الرجل فيها بفاتحة الكتاب» قالوا: وهذا العموم لم يخص منه المأموم (¬3). 3 - ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج - ثلاثا، غير تمام، فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام. فقال: اقرأ بها في نفسك فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله تعالى: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين» الحديث رواه مسلم (¬4). 4 - وعن عائشة - رضي الله عنها - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كل صلاة لا يقرأ فيها بأم الكتاب، فهي خداج» رواه ابن ماجه وغيره (¬5). 5 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬
قال: «كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب، فهي خداج فهي خداج» رواه ابن ماجه وغيره (¬1). قالوا: ووجه للدلالة من حديث أبي هريرة، وما في معناه من الأحاديث أن الخداج هو الفساد والنقصان الذي لا تجزئ معه الصلاة من قولهم: أخدجت الناقة إذا ولدت نتاجاً فاسداً قبل وقتها، وقبل تمام الخلق (¬2). وقالوا: ومما يدل على أن المراد بالخداج النقصان، الذي لا تصح الصلاة معه ولا تجزئ، وأن ذلك يشمل المنفرد والإمام والمأموم قول أبي هريرة: «اقرأ بها في نفسك» (¬3). 6 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «في كل صلاة يقرأ، فما أسمعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسمعناكم، وما أخفى عنا أخفينا عنكم، وإن لم تزد على أم القرآن أجزأت، وإن زدت فهو خير» متفق عليه (¬4). قالوا: فقوله «وإن لم تزد على أم القرآن أجزأت» يدل على أنه لا تجزئ الصلاة بدون أم القرآن، وأن قراءتها في الصلاة أقل المجزئ. وأن الزيادة عليها خير: أي مستحبة وليست واجبة. ¬
7 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «أَمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أنادي أنه لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب، فما زاد» رواه أبو داود (¬1). 8 - وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: «أُمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر» رواه أبو داود (¬2). 9 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن» رواه ابن خزيمة وابن حبان (¬3). قالوا: فهذه الأحاديث الثلاثة كحديث أبي هريرة الذي قبلها تدل على وجوب قراءة الفاتحة، وأنه لا تصح الصلاة، بل ولا تجزئ بدونها، سواء كان المصلي إماما أو منفردا أو مأموما. كما استدلوا بالأحاديث التي فيها النهي عن القراءة خلف الإمام - إذا جهر - فيما عدا الفاتحة. 10 - فعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: «كنا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الفجر، فقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فثقلت عليه القراءة، فلما فرغ قال: لعلكم تقرؤون خلف إمامكم؟ قلنا: نعم يا رسول الله. قال: لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ ¬
بها» (¬1). ¬
11 - وعن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بأصحابه، فلما قضى صلاته أقبل عليهم بوجهه، فقال: «أتقرؤون في صلاتكم والإمام يقرأ؟ فسكتوا، فقالها ثلاث مرات، فقال قائل أو قائلون: إنا لنفعل. قال: فلا تفعلوا، ويقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه» (¬1). ¬
12 - وعن محمد بن أبي عائشة عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لعلكم تقرؤون والإمام يقرأ. قالوا: إن لنفعل قال: لا، إلا بأن يقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب» (¬1). 13 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أتقرؤون خلفي؟ قالوا نعم يا رسول الله، إنا لنهذه هذا قال: لا تفعلوا إلا بأم القرآن» (¬2). قالوا: فحديث عبادة «لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب ...» وما في معناه من الأحاديث التي تشهد له، كلها نص في وجوب قراءة الفاتحة على المأموم في نفسه واستثنائها من النهي عن القراءة خلف الإمام إذا جهر الإمام بالقراءة، ووجوب قراءتها إذا أسر الإمام في القراءة من باب أولى. كما استدلوا بالأحاديث والآثار التي تدل على وجوب قراءة ¬
الفاتحة خلف الإمام في الصلاة السرية. 14 - وعن جابر بن عبد الله قال: «كنا نقرأ في الظهر والعصر خلف الإمام في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة، وفي الأخريين بفاتحة الكتاب» رواه ابن ماجه (¬1). قالوا: فهذا الحديث وما في معناه من الأحاديث والآثار (¬2)، تدل على ملازمة الصحابة - رضي الله عنهم - على قراءة الفاتحة في الصلاة السرية خلف الإمام. وقول الصحابي كنا نفعل كذا في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قبيل المرفوع. 15 - وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئًا فعلمني ما يجزئني منه، قال: قل سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ...» (¬3). قالوا: ووجه الدلالة من هذا الحديث: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - علم من لا يحسن القرآن ما يقوم مقامه، ولم يأمره بالائتمام حتى تسقط عنه ¬
القراءة (¬1). إلى غير ذلك من الأحاديث (¬2). 16 - كما استدلوا بالآثار المتواترة عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم، في القراءة خلف الإمام مطلقًا في السرية والجهرية (¬3). 17 - وقالو: إن الإمام لا يتحمل عن المأموم شيئًا من الركوع والسجود، بل لا يتحمل عنه شيئًا من السنن والمستحبات، فكيف يتحمل قراءة الفاتحة التي هي من الواجبات (¬4). 18 - وقالوا أيضًا: إن قراءة الفاتحة خلف الإمام لا تبطل الصلاة بالإجماع، حتى ولا في الصلاة الجهرية، وإنما يفوته الاستماع فقط، وإنما تبطل الصلاة بترك قراءتها عند كثير من أهل العلم وخاصة في الصلاة السرية (¬5). قالوا: فهذه الأدلة تدل على وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة مطلقًا سواء كانت الصلاة سرية أو جهرية وسواء كان المصلى إماما أو مأمومًا أو منفردًا فهي مخصصة لعموم قول الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ ¬
فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (¬1) والسنة تخصص القرآن بلا خلاف (¬2). ومخصصة لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي موسى وحديث أبي هريرة: «وإذا قرأ فأنصتوا» (¬3). بل ومخصصة لعموم حديث جابر «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة» (¬4) على فرض صحته: أي فقراءته له قراءة فيما عدا الفاتحة التي خصها الدليل بوجوب قراءتها على كل مصل إمامًا كان أو مأمومًا أو منفردا. ويدل على التخصيص حديث عبادة: «فلا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها» (¬5). والأولى أن يقرأ المأموم الفاتحة في سكتات الإمام إذا كان له سكتات، فإن لم يكن له سكتات قرأ معه (¬6). والأولى إذا لم يكن للإمام سكتات أن يقرأ معه حال قراءة الإمام للسورة. أما حال قراءة الإمام الفاتحة فإن الأولى بالمأموم أن يستمع، لأن قراءة الفاتحة واجبة بخلاف قراءة ما بعدها، والاستماع لقراءة ¬
القول الثاني
الواجب أولى من الاستماع لغير الواجب (¬1). وإذا نسي المأموم قراءة الفاتحة، أو سها عن ذلك، أو جهل وجوبها، سقط عنه وكفته قراءة الإمام على الصحيح. وكذا إذا أدرك الإمام راكعا لفوات محلها، لحديث أبي بكرة - رضي الله عنه -: «أنه انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو راكع فركع قبل أن يصل إلى الصف، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: زادك الله حرصاً، ولا تعد» (¬2). وقد أجمع العلماء على هذا. قال القرطبي (¬3): «وأما المأموم فإن أدرك الإمام راكعًا فالإمام يحمل عنه القراءة، ولإجماعهم على أنه إذا أدركه راكعًا أنه يكبر ويركع، ولا يقرأ شيئًا». القول الثاني: أن المأموم يقرأ خلف الإمام في الصلاة السرية، ولا يقرأ في الصلاة الجهرية، بل ينصت لقراءة الإمام. وهذا هو الثابت - والله أعلم - عن علي بن أبي طالب - رضي الله ¬
عنه - (¬1). ¬
وهو مروي أيضًا عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - (¬1) - وعن ابنه عبد الله بن عمر بن الخطاب (¬2)، وعبد الله بن ¬
مغفل (¬1)، وعبد الله بن مسعود (¬2) ¬
وعائشة (¬1). وأبي سعيد الخدري، مع اختلاف عنه في ذلك (¬2)، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة (¬3) والزهري (¬4)، ¬
وقتادة (¬1)، وسعيد بن المسيب (¬2)، والحكم بن عتيبة (¬3)، والقاسم ابن محمد (¬4)، وعروة بن الزبير (¬5)، ونافع بن جبير بن مطعم (¬6)، وسالم ابن عبد الله بن عمر (¬7). وبه قال الإمام مالك وأصحابه (¬8) وأحمد بن حنبل، إلا أنه قال: إن سمع في صلاة الجهر لم يقرأ، وإن لم يسمع قرأ (¬9)، وذكر ابن ¬
تيمية (¬1) أنه لم يصح عنه غيرها. وقال به أيضًا عبد الله بن المبارك (¬2)، وإسحاق بن راهويه (¬3) وهو قول الشافعي في القديم (¬4)، وبه قال الأوزاعي وأبو ثور (¬5) وداود (¬6). وهو اختيار جمع من المحققين أيضًا منهم: الطبري (¬7)، وأبو بكر بن العربي (¬8)، وشيخ الإسلام ابن تيمية قال: «وهو قول جمهور أهل العلم، وأعدل الأقوال» (¬9). واختاره - أيضًا - الحافظ ابن كثير (¬10)، وشيخ الإسلام محمد ابن ¬
عبد الوهاب (¬1)، واللكنوي من محققي الأحناف في هذا العصر (¬2). واختاره من علمائنا المعاصرين فضيلة الشيخ شيخنا محمد بن ناصر الدين الألباني (¬3)، وفضيلة الشيخ شيخنا صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان. واختلفوا في حكم القراءة في الصلاة السرية خلف الإمام، أهي واجبة أم سنة. فذهب مالك (¬4)، وأحمد في رواية (¬5) له عدها بعض أصحابه هي المشهورة عنه (¬6). واختارها بعض أصحابه كشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب (¬7) إلى أن قراءة الفاتحة في الصلاة السرية خلف الإمام سنة. وذهب الأوزاعي (¬8) ¬
والشافعي (¬1) وأبو ثور وإسحاق، وداود (¬2)، وأحمد في رواية (¬3) عنه إلى أن القراءة في الصلاة السرية خلف الإمام واجبة ولا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب. واختار هذا ابن العربي (¬4). واتفقوا على أنه لا يشرع قراءة الفاتحة، ولا غيرها حال سماع المأموم لقراءة إمامه .. واختلفوا في حكم من قرأ وهو يسمع قراءة الإمام: فذهب بعضهم إلى كراهية ذلك (¬5)، وذهب بعضهم إلى تحريمه (¬6)، بل شذ بعضهم فقال ببطلان صلاته (¬7). أما إذا لم يسمع المأموم قراءة الإمام، أو كان للإمام سكتات. فقال بعضهم الأفضل للمأموم أن يقرأ الفاتحة في هذه الأحوال (¬8) - وهو الأولى - لكن لو لم يفعل فصلاته صحيحة عندهم (¬9). الأدلة التي استدل بها أصحاب هذا القول: ¬
أ- استدلوا على وجوب القراءة في الصلاة السرية، أو استحبابها بالأدلة التي استدل بها أصحاب القول الأول على وجوبها أو استحبابها في الحالين وعلى أنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها كحديث عبادة بن الصامت «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» متفق عليه (¬1). وحديث أبي هريرة «كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج - ثلاثا، غير تمام» رواه مسلم. وغير ذلك من الأحاديث بهذا المعنى وقالوا: المراد بها الإمام والمنفرد، وكذا المأموم في الصلاة السرية، وكذا في الجهرية إذا لم يسمع قراءة الإمام. ب- أما أدلتهم على أن المأموم لا يقرأ في الصلاة الجهرية، بل ينصت لقراءة الإمام فمنها ما يأتي: 1 - قوله - تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)} (¬2). قالوا: فهذه الآية نزلت في الأمر بالإنصات عند القراءة في الصلاة. فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة فنزلت: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ ¬
تُرْحَمُونَ} (¬1) وقد روي نحوه عن ابن مسعود (¬2)، وابن عباس (¬3)، وقتادة (¬4)، والزهري (¬5)، ومعاوية بن قرة (¬6). والقول بأنها في الصلاة دون ذكر سبب نزولها مروي أيضًا عن أبي هريرة (¬7) وابن عباس (¬8)، وابن مسعود (¬9)، وعبد الله بن مغفل (¬10)، والزهري، ومجاهد، وسعيد بن المسيب، والشعبي، وإبراهيم النخعي، والحسن (¬11)، وعبيد بن عمير، وعطاء بن أبي رباح، ¬
والضحاك، والسدي، وعبد الرحمن بن زيد (¬1)، ومحمد بن كعب القرظي (¬2)، واختاره الطبري (¬3). بل ذكر الإمام أحمد الإجماع على أنها نزلت في الصلاة (¬4). 2 - وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبنا فبين لنا سنتنا، وعلمنا صلاتنا، فقال: «أقيموا صفوفكم، ثم ليؤمكم أحدكم، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا» (¬5). ¬
3 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا» (¬1). ¬
قالوا: فهذه الأدلة الثلاثة - الآية، وحديث أبي موسى، وحديث أبي هريرة فيها وجوب الإنصات والاستماع لقراءة الإمام إذا جهر الإمام بالقراءة، ولم يخص هذا الأمر بقراءة الفاتحة ولا غيرها (¬1)، بل إن هذه الأدلة هي المخصصة للأحاديث التي فيها إيجاب قراءة الفاتحة في الصلاة مطلقًا، كحديث عبادة بن الصامت في الصحيحين: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» وغيره (¬2). واستدل شيخ الإسلام ابن تيمية (¬3) على تخصيص عموم أحاديث وجوب قراءة الفاتحة بالآية والحديثين المذكورين بأنه قد خص من عموم تلك الأحاديث أمور، منها: أن من أدرك الإمام راكعا فكبر ودخل معه قلب رفعه من الركوع فقد أدرك الركعة بإجماع أهل العلم (¬4)، كما جاء في حديث أبي بكرة (¬5). ¬
وخص منه الصلاة بإمامين، فإن الإمام الثاني يقرأ من حيث انتهى الإمام الأول، ولا يستأنف قراءة الفاتحة، كما في فعله - صلى الله عليه وسلم - لما صلى بالناس وقد سبقه أبو بكر ببعض الصلاة قرأ من حيث انتهى أبو بكر، ولم يستأنف قراءة الفاتحة، لأنه بنى على صلاة أبي بكر، فإذا سقطت عنه الفاتحة في هذا الموضع فعن المأموم أولى. وخص منه أيضًا حال العذر كالجهل والسهو، فإذا ترك المأموم قراءة الفاتحة خلف إمامه في السرية جهلًا أو سهوًا سقطت عنه، وتحلمها الإمام. فإذا خص من ذلك حال المسبوق، والصلاة بإمامين، وحال العذر بالجهل، أو السهو فكذلك خص منه حال استماع المأموم لقراءة إمامه، لأن هذا عذر. فلا يقرأ في حال جهر إمامه بل يستمع، أما أمر المأموم بالإنصات فلم يخص منه شيء، ولا بنص خاص ولا إجماع، وإذا تعارض عمومان أحدهما محفوظ والآخر مخصوص وجب تقديم المحفوظ. قال ابن تيمية (¬1): «ولو كانت قراءة الفاتحة فرضًا على المأموم مطلقا لم تسقط بسبق ولا جهل، كما أن الأعرابي المسيء في صلاته قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ارجع فصل فإنك لم تصل» وأمر الذي صلى خلف الصف وحده أن يعيد الصلاة». ¬
كما استدلوا - أيضًا -. 4 - بما رواه ابن شهاب الزهري عن ابن أكيمة الليثي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة، فقال: «هل قرأ معي أحد منكم آنفا؟ فقال رجل: نعم يا رسول الله. قال: إني أقول مالي أنازع القرآن». فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما جهر فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقراءة من الصلوات حين سمعوا ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» (¬1). ¬
قالوا: فقوله - صلى الله عليه وسلم -: «مالي أنازع القرآن» إنكار على من يقرأ حال جهر الإمام، سواء بأم القرآن أو غيرها (¬1). وقالوا - أيضًا - قوله في الحديث: «فانتهى الناس عن القراءة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها جهر فيه ... إلى آخره. هذا من كلام الزهري كما ذكر أهل العلم. والزهري من أعلم أهل زمانه وقد قطع بأن الصحابة لم يكونوا يقرؤون خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - في حال الجهر. وهذا من الأحكام العامة، التي لا تخفى ويعرفها عامة الصحابة والتابعين لهم بإحسان» (¬2). 5 - وعن عبد الله بن شداد - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة» وروي مسنداً عن جابر بن عبد الله (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
قالوا: فهذا الحديث يدل على أن المأموم لا يقرأ خلف إمامه، لا الفاتحة ولا غيرها، إذا جهر إمامه في القراءة، لأن قراءة الإمام في هذه الحال قراءة لمن خلفه. ولهذا أمر المأموم بالإنصات لقراءة الإمام (¬1) - كما في الآية والأحاديث السابقة. 6 - وعن عمران بن حصين - رضي الله عنه - «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر، فجعل رجل يقرأ خلفه بسبح اسم ربك الأعلى، فلما انصرف قال: أيكم قرأ، أو أيكم القارئ؟ فقال رجل: أنا، فقال: قد ظننت أن بعضكم خالجنيها» (¬2). قال أبو داود: قال الوليد في حديثه: ¬
قال شعبة قلت لقتادة: كأنه كره فقال: لو كرهه لنهى عنه. قالوا: فهذا الرجل قرأ خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينهه ولا غيره فدل على أن المأموم يقرأ خلف الإمام في الصلاة السرية (¬1). وإن احتمل الحديث معنى النهي فإنما هو نهي للمأموم عن الجهر بالقراءة خلف إمامه كما بوب له مسلم - رحمه الله. 7 - وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: «كانوا يقرؤون خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: خلطتم علي القرآن» (¬2). قالوا: فهذا يدل على أنهم كانوا يقرؤون خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - جهرًا فيخلطون عليه القرآن، إذ لو قرؤوا سرًا ما خلطوا عليه قراءته، وما كره ذلك منهم» (¬3). وقال ابن عبد البر في «التمهيد» (¬4) بعد إخراجه للحديث: «أي في حال الجهر». أي أنهم يقرؤون حال جهر الإمام فيخلطون عليه قراءته. 8 - ما رواه أبو هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره أن ينادي: «لا ¬
صلاة إلا بفاتحة الكتاب فما زاد» (¬1) 9 - ما رواه أبو سعيد قال: «أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر» (¬2). قالوا: فقوله في الحديث «فما زاد»، «وما تيسر» يدل على عدم وجوب قراءة الفاتحة حال جهر الإمام لأن العلماء أجمعوا على أنه لا يجوز أن يقرأ بغيرها حال جهر الإمام بل ينصت» (¬3). 10 - كما استدلوا بالآثار الكثيرة عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم في النهي عن القراءة خلف الإمام في الصلاة الجهرية والأمر بالقراءة خلفه في الصلاة السرية (¬4). 11 - وقالوا: أجمع أهل العلم على أنه لم يقل أحد إن المأموم إذا لم يقرأ خلف إمامه فصلاته باطلة، وبخاصة إذا جهر الإمام بالقراءة (¬5). 12 - وقالوا: إن الاستماع لقراءة الإمام من المتابعة للإمام المأمور بها، ومن لم ينصت لقراءة الإمام لم يكن قد ائتم به (¬6) والمستمع لقراءة الإمام كالقارئ (¬7). ¬
13 - وقالوا - أيضًا -: إذا لم ينصت المأموم لقراءة إمامه فما الفائدة من جهر الإمام بالقراءة إذا كان المأموم مشغولًا بالقراءة لنفسه (¬1). وقال ابن تيمية (¬2): «لو كانت القراءة في الجهر واجبة على المأموم للزم أحد أمرين إما أن يقرأ مع الإمام، وإما أن يجب على الإمام أن يسكت له حتى يقرأ، ولم نعلم نزاعًا بين العلماء أنه لا يجب على الإمام أن يسكت لقراءة المأموم الفاتحة ولا غيرها، وقراءته معه منهي عنها بالكتاب والسنة فثبت أنه لا تجب عليه القراءة معه في حال الجهر ...». ثم ذكر أنها لو كانت قراءة المأموم حال جهر الإمام مستحبة لاستحب للإمام أن يسكت لقراءة المأموم، وجماهير العلماء على أنه لا يستحب للإمام أن يسكت ليقرأ المأموم. وقال أيضًا (¬3): «وقد ثبت بالكتاب والسنة وبالإجماع أن إنصات المأموم لقراءة إمامه يتضمن معنى القراءة معه وزيادة». ولأنه قد ثبت الأمر بالإنصات لقراءة القرآن، ولا يمكن الجمع بين الإنصات والقراءة، ولولا أن الإنصات يحصل به مقصود القراءة وزيادة لم يأمر الله بترك الأفضل لأجل المفضول». ¬
القول الثالث
القول الثالث: أن المأموم لا يقرأ الفاتحة ولا غيرها. لا في الصلاة السرية، ولا في الصلاة الجهرية. وممن قال بهذا القول زيد بن ثابت (¬1). وجابر بن عبد الله (¬2). ¬
ويروى عن عمران بن حصين (¬1)، الأسود بن يزيد (¬2)، وسعد بن ¬
أبي وقاص (¬1)، وروي عن أبي الدرداء على اختلاف عنه (¬2)، وعلقمة ابن قيس (¬3)، وابن أبي ليلى (¬4)، وإبراهيم النخعي (¬5)، وسويد بن غفلة، وعمرو بن ميمون، والضحاك وأبي وائل (¬6) وسفيان الثوري وسفيان ابن ¬
عيينة (¬1)، والحسن بن حي (¬2)، وابن شبرمة (¬3). وبه قال أبو حنيفة وأصحابه (¬4) وبعض المالكية (¬5). الأدلة التي استدل بها أصحاب هذا القول: 1 - قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (¬6). وحديث أبي موسى وأبي هريرة «وإذا قرأ فأنصتوا» (¬7). قالوا: فالأمر للمأموم بالإنصات يدل على أنه لا قراءة على المأموم، وأن قراءة الإمام له قراءة. 2 - حديث أبي هريرة الذي فيه قوله - صلى الله عليه وسلم - «مالي أنازع القرآن» (¬8). قالوا: ففي هذا الحديث إنكار على من يقرأ خلف الإمام. ¬
3 - ما روي عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة» (¬1). قالوا: فهذا الحديث يدل على أن الإمام يتحمل القراءة عن المأموم مطلقًا سواء كانت الصلاة سرية أو جهرية. وما روي من الأحاديث في قراءة الفاتحة في الصلاة كحديث عبادة «لا صلاة لمن يقرأ بفاتحة الكتاب» ونحوه فمحمول على المنفرد والإمام، أما المأموم فإن قراءة الإمام له قراءة (¬2). 4 - حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: كنا نقرأ خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «خلطتم عليَّ القرآن» (¬3). 5 - حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «صلى صلاة الظهر، فلما قضى صلاته، قال أيكم قرأ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)}؟ فقال بعضهم: أنا. فقال: قد عرفت أن بعضكم خالجنيها» (¬4). قالوا: فيفهم من هذين الحديثين ضرورة النهي عن القراءة خلف الإمام مطلقًا (¬5). ¬
6 - واحتجوا بما روي عن زيد بن ثابت وجابر بن عبد الله وأبي الدرداء (¬1) وعبد الله بن عمر (¬2)، وغيرهم من الآثار التي فيها أنهم لا يقرؤون خلف الإمام أو ينهون عن ذلك. كما سبق (¬3). كما استدلوا بأحاديث وآثار واهية ضعيفة لم أر ما يدعو إلى ذكرها، كحديث أنس. قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من قرأ خلف الإمام ملئ فوه ناراً»، وكحديث زيد بن ثابت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قرأ خلف الإمام فلا صلاة له» (¬4). كما استدلوا بتعليلات عقلية كلها ضعيفة مردودة (¬5). ¬
أ- الاعتراضات الواردة على أدلة القول الأول بأن المأموم يقرأ الفاتحة في الصلاة السرية والجهرية
ذكر الاعتراضات الواردة على أدلة كل قول، وإجابة أصحابه عنها: أ- الاعتراضات الواردة على أدلة القول الأول بأن المأموم يقرأ الفاتحة في الصلاة السرية والجهرية. والإجابة عنها: أولًا: اعترض على استدلالهم بقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ} (¬1). وبقوله - صلى الله عليه وسلم - للمسيء في صلاته «ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن» بأن «ما» في الآية والحديث تفيد العموم فما الدليل على تخصيص الفاتحة في القراءة دون غيرها. وهذا الاعتراض له وجه. لكن أصحاب هذا القول أجابوا عنه بأن الأحاديث الموجبة لقراءة الفاتحة، ومداومة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه على قراءتها كل ذلك مبين ومفسر لقوله: «ما تيسر» في الآية والحديث. ثانيًا: اعترض على استدلالهم بحديث عبادة بن الصامت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» وما في معناه من الأحاديث. قالوا (¬2) هذا الحديث مطلق عام، قيد، وخص منه حال جهر الإمام ¬
بالقراءة، فيجب الإنصات في هذه الحال لأمره تعالى بالإنصات بالآية، ولأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بذلك، كما في حديث أبي موسى وأبي هريرة. فهذا الأمر بالإنصات هو المخصص للأحاديث التي فيها وجوب قراءة الفاتحة كحديث عبادة هذا، وحديث أبي هريرة «من صلى صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج» عند مسلم وغيره. وغيرها من الأحاديث وردوا القول بأن هذه الأدلة التي فيها الأمر بالإنصات مخصوصة في غير حالة قراءة الفاتحة، لما ذكره الإمام أحمد من الإجماع على أن الآية: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} نزلت في الصلاة. وقد أجاب عن هذا الاعتراض أصحاب القول الأول بأننا نسلم بأن الآية المذكورة نزلت في الصلاة، لكنها هي وحديث أبي موسى وأبي هريرة مخصصة والمخصص لها أحاديث الأمر بقراءة الفاتحة، كما سبق ذكرها والدليل لنا على هذا التخصيص حديث عبادة «لا تفعلوا إلا بأم القرآن». ثالثًا: اعترض على استدلالهم بحديث أبي هريرة عند مسلم وغيره، والذي فيه «اقرأ بها في نفسك» بأن هذا لفظ مجمل، قد يحمل على ما ذهبوا إليه من الاستدلال به على القراءة مطلقًا، حتى في حال الجهر بالقراءة. وقد يحمل على القراءة حال المخافتة، أو سكوت الإمام كما روى ابن المنذر (¬1) عن أبي هريرة: «اقرأ خلف الإمام فيما ¬
يخافت به». قال ابن تيمية (¬1): «ويؤيد هذا أن أبا هريرة ممن روى قوله: «وإذا قرأ فأنصتوا» وروى قوله «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب فما زاد»، وقال «تجزئ فاتحة الكتاب، وإذا زاد فهو خير». ومعلوم أن هذا لم يتناول المأموم المستمع لقراءة الإمام، فإن هذا لا تكون الزيادة على الفاتحة خيرا له. فلا يجزم حينئذ بأنه أمره أن يقرأ حال استماعه لقراءة الإمام بلفظ مجمل». وقد أجاب أصحاب القول الأول عن هذا الاعتراض بقولهم: يتبادر من قول السائل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام أنه يسأل عن قراءة الفاتحة حال جهر الإمام لأن قراءة المأموم في هذه الحال قد تستشكل، وقد أجابه أبو هريرة بقوله: «اقرأ بها في نفسك» وهذا مشتهر عن أبي هريرة أنه يرى القراءة خلف الإمام في الحالين، وأيضًا على احتمال أن أبا هريرة أراد قراءة الفاتحة في صلاة السر فقط فالحديث دليل لنا على القراءة في هذه الحال، خلافًا لمن زعم أنه لا قراءة خلف الإمام مطلقًا. رابعًا: اعترض على استدلالهم بحديث عبادة بن الصامت، الذي فيه: «أتقرؤون خلف إمامكم؟ قالوا: نعم. قال: لا تفعلوا إلا بأم الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها» وما في معناه من الأحاديث من وجهين (¬2): ¬
الوجه الأول: أن بعض أهل العلم قد طعن في إسناد هذا الحديث منهم الإمام أحمد وغيره. الوجه الثاني: على القول بصحة هذا الحديث قالوا: إنه محمول على الإمام الذي له سكتات، كما كان - صلى الله عليه وسلم - له سكتتان. قالوا: فليس في الحديث دليل على أنه يقرأ الفاتحة خلف إمامه حال الجهر، وإنما فيه أن له أن يقرأها حال سكتات إمامه، لأنه نهاهم عن القراءة خلفه إذا جهر، واستثنى من النهي قراءة فاتحة الكتاب إذ يمكن أن يقرأها في سكتات الإمام. قالوا: وقوله: «أتقرؤون خلف إمامكم؟» بصيغة الاستفهام يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يعلم أنهم يقرؤون، ولو كانت القراءة واجبة حال الجهر لكان أمرهم بذلك، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، ولو بين ذلك لهم وأمرهم به لعلمه عامتهم وفعلوه. وقد أجاب أصحاب القول الأول عن الوجه الأول وهو طعن بعض أهل العلم في إسناد حديث عبادة المذكور بأن الحديث صحيح وقد صححه أكثر أهل العلم، كما سبق بيانه. وأجابوا عن الوجه الثاني بأنه لا دليل على أن الحديث محمول على الإمام الذي له سكتات، فيقرأ المأموم في سكتاته بل الحديث عام. وقوله لهم: «أتقرؤون خلف إمامكم؟ أو لعلكم تقرؤون خلف إمامكم» يمكن حمله على أنه - صلى الله عليه وسلم - أراد به تنبيههم، أو أن المراد به السؤال عن قراءة ما زاد على الفاتحة.
ب- الاعتراضات الواردة على أدلة القول الثاني أن المأموم يقرأ في الصلاة السرية دون الجهرية
خامسًا: اعترض على استدلالهم بما نقل من الآثار عن الصحابة من القراءة خلف الإمام بأن ذلك في الصلاة السرية، أو حال سكتات الإمام، أو إذا لم يسمع المأموم قراءة إمامه لبعده أو صممه، ونحو ذلك (¬1). وقد أجاب أصحاب القول الأول عن هذا الاعتراض بأن ما نقل عن الصحابة منه ما يمكن حمله على الصلاة السرية، لأنه محتمل، لكن منه آثار صريحة في القراءة في الصلاة الجهرية، وهذه الآثار لم تقيد قراءة الفاتحة فيها في سكتات الإمام أو إذا لم يسمع المأموم. ونحن نقول الأولى أن يقرأ في سكتات الإمام إذا كان له سكتات، وإن لم يكن له سكتات قرأ حال قراءته. ب- الاعتراضات الواردة على أدلة القول الثاني أن المأموم يقرأ في الصلاة السرية دون الجهرية. أولًا: اعترض على استدلالهم بقوله - تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (¬2). وبحديث أبي موسى وأبي هريرة اللذين فيهما: «وإذا قرأ فأنصتوا» بأن هذه الأدلة الثلاثة ليست مخصصة لعموم الأحاديث في وجوب قراءة الفاتحة كحديث عبادة بن الصامت «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» وغيره. كما تقولون، وإنما الحق أن نصوص الأمر بالإنصات ¬
هذه عامة، خص منها قراءة الفاتحة بالنسبة للمأموم، فيقرأها ولو كان إمامه يقرأ، إذا لم يكن له سكتات والمخصص لذلك هو حديث عبادة المذكور، وحديث أبي هريرة «كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج» ونحوهما من الأحاديث. والدليل على هذا التخصيص حديث عبادة الآخر الذي فيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لعلكم تقرؤون خلف إمامكم؟، قالوا: نعم. قال لا تفعلوا إلا بأم القرآن». وأجاب أصحاب القول الثاني بقولهم: بأن الآية وحديث أبي موسى وأبي هريرة هي المخصصة لعموم أحاديث الأمر بقراءة الفاتحة، وليس العكس كما تقولون. وحديث «لا تفعلوا إلا بأم القرآن» طعن فيه بعض أهل العلم، وعلى القول بصحته يمكن حمله على الإمام الذي له سكتات. ثانيًا: اعترض على استدلالهم بحديث أبي هريرة، الذي فيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «مالي أنازع القرآن» من ثلاثة وجوه: الوجه الأول: أن هذا الحديث خارج من محل النزاع، لأن الكلام في قراءة المؤتم خلف إمامه سرًا والمنازعة إنما تكون مع جهر المؤتم، لا مع إسراره. الوجه الثاني: لو سلم أن المراد بالمنازعة القراءة خلف الإمام سرًا لكان الإنكار الذي في الحديث عاما في جميع القرآن أو مطلقًا في
جميعه خصص في حديث عبادة ونحوه، أو قيد به» (¬1). الوجه الثالث: ما ذكر الترمذي (¬2) بعد أن أخرج حديث أبي هريرة «مالي أنازع القرآن» قال: «وليس في هذا الحديث ما يدخل على من رأى القراءة خلف الإمام، لأن أبا هريرة هو الذي روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الحديث. وروى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج، فهي خداج، غير تمام» فقال له حامل الحديث إني أكون وراء الإمام. قال: أقرأ بها في نفسك. وروي أبو عثمان النهدي عن أبي هريرة قال: «أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أنادي أن لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب». وقد أجاب أصحاب القول الثاني عن الوجه الأول بأنه لا يلزم أن تكون المنازعة مع جهر المؤتم حال قراءة الإمام، بل حتى مع إسرار المؤتم بالقراءة لكن جهره أشد منازعة حتى في حال إسرار الإمام. وأجابوا عن الوجه الثاني بأننا لا نسلم بدعوى التخصيص بحديث عبادة، فقد طعن فيه بعض أهل العلم، وذكرنا توجيهه فيما سبق على القول بصحته (¬3). وأجابوا عن الوجه الثالث بأن قول أبي هريرة «اقرأ بها في نفسك» محمول على القراءة خلف الإمام في الصلاة السرية. وقد سبق ذكر ¬
جواب أصحاب القول الأول عن هذين الوجهين (¬1). ثالثًا: اعترض على استدلالهم بحديث: «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة» من وجوه عدة: الوجه الأول: أن هذا الحديث ضعيف لا يحتج به، فالأصح أنه مرسل من حديث عبد الله بن شداد، والعمل بالمرسل مختلف فيه بين أهل العلم، وكثير منهم لا يرى العمل به. وقد أجاب أصحاب القول الثاني بأن الحديث مسند ضعيف لكنه ثبت وصح مرسلا من حديث عبد الله بن شداد وهو من أكبر التابعين، ومثل هذا المرسل يحتج به الأئمة الأربعة وغيرهم (¬2). الوجه الثاني: أن أبا هريرة وابن عمر - ممن روي عنهم حديث «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة» وقد ثبت عن أبي هريرة جواز القراءة خلف الإمام مطلقًا، أو في السرية فقط، كما ثبت عن ابن عمر القراءة خلف الإمام في الصلاة السرية. وهذا يدل على ضعف هذا الحديث «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة» لأن ظاهره لو صح يدل على أن قراءة الإمام له قراءة في حال السر والجهر. وقد أجاب أصحاب القول الثاني بأن الحديث معناه فقراءة الإمام له قراءة: أي في الجهرية، وهذا يوافق ما ثبت عن أبي هريرة وابن عمر ¬
من القراءة في الصلاة السرية ولا يخالفه. من القراءة في الصلاة السرية ولا يخالفه. الوجه الثالث: على القول بالعمل بمثل هذا المرسل، أو أن هذا الحديث قد يرتفع برواياته وطرقه وشواهده إلى درجة الحسن فإنه مخالف للأدلة الصريحة الصحيحة الموجبة لقراءة الفاتحة مطلقًا كقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ} (¬1) وحديث عبادة في الصحيحين: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»، ونحوه كحديث أبي هريرة عند مسلم «كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج». وكذا حديث عبادة، الذي فيه: «هل تقرؤون خلف إمامكم؟ قالوا: نعم. قال: لا تفعلوا إلا بأم القرآن». وقد أجاب أصحاب القول الثاني عن هذا الوجه بأن الأدلة التي ذكرتموها خاصة بالمنفرد والإمام، وكذلك تشمل المأموم أيضًا في حال عدم جهر الإمام. أما حديث عبادة: «لا تفعلوا إلا بأم القرآن» فقد ذكرنا أنه طعن فيه، وذكرنا توجيهه - على القول بصحته - فيما سبق (¬2). الوجه الرابع: على القول بصحة الاحتجاج بهذا الحديث فإنه دليل لمن منع من القراءة خلف الإمام مطلقًا في السرية والجهرية فما المخصص له في أنه في المنع من القراءة في الجهرية فقط. أجاب أصحاب القول الثاني عن هذا الوجه بأن معنى الحديث «فقراءة الإمام له قراءة": أي القراءة التي يسمعها تكفيه عن القراءة، ¬
ج- الاعتراضات الواردة على أدلة أصحاب القول الثالث: أن المأموم لا يقرأ لا في السرية، ولا في الجهرية
يؤيد هذا أنه مأمور بالإنصات حال قراءة الإمام. أما القراءة التي لا يسمعها فكيف تكون له قراءة وهو لا يسمعها. الوجه الخامس: على القول بصحة الاحتجاج بهذا الحديث - أيضًا - فإنه عام خص بحديث عبادة «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» وما في معناه، كما خص بهذا قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (¬1)، وحديث أبي موسى وأبي هريرة «وإذا قرأ فأنصتوا». يدل على هذا التخصيص حديث عبادة «لا تفعلوا إلا بأم القرآن». فيكون معنى الحديث «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة فيما عدا الفاتحة». وأجاب أصحاب القول الثاني بأن حديث «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة» ليس مخصصًا بحديث عبادة وما في معناه كما ذكرتم، بل هو من ضمن المخصصات لحديث عبادة وعليه يكون المعنى: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب إلا إن كان مأمومًا فتكيفه قراءة الإمام وخاصة في الصلاة الجهرية. وأما حديث «لا تفعلوا إلا بأم القرآن» فقد ذكرنا الطعن، وتوجيهه على القول بصحته. ج- الاعتراضات الواردة على أدلة أصحاب القول الثالث: أن المأموم لا يقرأ لا في السرية، ولا في الجهرية. أولًا: اعترض على استدلالهم بالأدلة التي فيها الأمر بالإنصات ¬
لقراءة الإمام كآية الأعراف، وحديث أبي موسى وأبي هريرة من وجهين: الوجه الأول: أن هذه الأدلة إن دلت على عدم القراءة حال جهر الإمام فليس فيها دلالة على عدم القراءة في حال إسرار الإمام، أو سكوته، لأن السكوت حال عدم جهر الإمام لا يسمى إنصاتًا، ولم يؤمر بترك قراءة الفاتحة ولا غيرها في هذه الحال (¬1). الوجه الثاني: أن هذه الأدلة التي فيها الأمر بالإنصات مخصصة بالأحاديث التي فيها الأمر بقراءة الفاتحة في الصلاة. كما سبق. وقد أجاب أصحاب القول الثالث عن الوجه الثاني بأن أدلة الأمر بالإنصات ليست مخصصة بأحاديث الأمر بقراءة الفاتحة في الصلاة، لأن هذه الأحاديث خاصة بالمنفرد والإمام دون المأموم. ثانيًا: اعترض على استدلالهم بحديث أبي هريرة الذي فيه قوله - صلى الله عليه وسلم - «مالي أنازع القرآن». بأن هذا محمود على الجهر خلف الإمام، وهذا لا يجوز بالاتفاق أو على القراءة سرًا حال جهر الإمام، وهذا لا يجوز عند كثير من أهل العلم، ولا يدل الحديث على النهي عن القراءة خلف الإمام مطلقًا، حتى ولو كانت سرًا في حال إسرار الإمام، كما تقولون. ثالثًا: اعترض على استدلالهم بالحديث: «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة» من وجوه عدة: ¬
منها: الوجه الأول والثالث والخامس من الوجوه المذكورة في الاعتراض على استدلال أصحاب القول الثاني بهذا الحديث. ومنها: أن المراد بقوله «فقراءة الإمام له قراءة» أي: في الصلاة الجهرية. إذا لم يسكت الإمام، كما يقوله أصحاب القول الثاني - فيما تقدم (¬1) - وله وجه. ومنها: أنهم يستدلون بالحديث على عدم جواز القراءة خلف الإمام مطلقًا والحديث ظاهرة أن قراءة الإمام تجزئ عن المأموم، لا أن القراءة لا تجوز من المأموم أو لا تستحب منه. قال ابن تيمية (¬2): «ليس في حديث «فقراءة الإمام له قراءة» دليل للكوفيين على أنه لا تستحب للمأموم القراءة، وإنما فيه الدلالة على أن له أن يجتزئ بذلك، وأن الواجب يسقط عنه بذلك، لا أنه ليس له أن يقرأ». ومنها: أن جميع الأذكار التي يشرع للإمام أن يقولها مستحبة كانت أو واجبة يشرع للمأموم أن يقولها فكيف يتحمل الإمام عن المأموم القراءة، ولا يتحمل ما دونها من المستحبات. رابعًا: اعترض على استدلالهم بحديث عمران بن حصين، الذي فيه: «ظننت أن بعضكم خالجنيها» وحديث ابن مسعود، الذي فيه «خلطتم عليَّ القرآن». بأن هذين الحديثين محمولان على الجهر بالقراءة خلف الإمام. ¬
والجهر بالقراءة خلف الإمام سوار أسر الإمام أو جهر أمر لا يجوز بالاتفاق. وليس فيهما الإنكار على من قرأ سرًا خلف الإمام. ويمكن حمل ما جاء في حديث عمران «ظننت أن بعضكم خالجنيها» على أنه ليس فيه نهي لهم أو إنكار عليهم، لأن القارئ خلفه قرأ سرًا في صلاة سرية ويؤيد هذا قول شعبة لقتادة - وهما من رواة الحديث: «كأنه كرهه فقال: لو كرهه لنهى عنه» (¬1). خامسًا: اعترض على استدلالهم ببعض الآثار عن الصحابة في ترك القراءة خلف الإمام أو النهي عنها بأن أكثر المنقول عنهم في هذا مطلقا يحتمل ترك القراءة خلف الإمام أو النهي عنها في الصلاة الجهرية فقط، ويحتمل تركها والنهي عنها في الحالين، مع وجود الاحتمال لا يصح الجزم، وأيضًا جمهور الصحابة وعامتهم يرون القراءة خلف الإمام، لكن منهم من يرى القراءة في الصلاة السرية والجهرية معًا، ومنهم من يرى القراءة في حال الإسرار فقط. وقليل منهم من يرى ترك القراءة مطلقًا، وأيضًا الذين روي عنهم هذا القول من الصحابة روي عنهم أكثرهم خلافه، حتى قال ابن عبد البر في «الاستذكار» (¬2) «ولا أعلم في هذا الباب صاحبًا صح عنه بلا اختلاف أنه قال مثل قول الكوفيين إلا جابر بن عبد الله». ¬
الترجيح بين الأقوال
الترجيح بين الأقوال: بعد النظر في أدلة كل فريق من أصحاب الأقوال الثلاثة، وبعد النظر في الاعتراضات الواردة على تلك الأدلة، وفي إجابات كل فريق على ما ورد على أدلتهم من اعتراضات يظهر جليا أن أصحاب القول الثالث القائلين بعدم القراءة خلف الإمام مطلقًا، لا في السرية، ولا في الجهرية لم يسلم لهم دليل واحد كما رأيت، لا من أدلة الكتاب ولا من السنة، ولا من الأثر. قال اللكنوي وهو من محققي الأحناف في كتابه «إمام الكلام في القراءة خلف الإمام» (¬1): «الذي يظهر بالنظر الدقيق، ويقبله أصحاب التحقيق هو أن الأحاديث التي استدل بها أصحابنا ليس فيها حديث يدل على النهي عن قراءة الفاتحة خلف الإمام، فيدفع ذلك بالجميع، أو الترجيح، أو التساقط، أو النسخ، بل هي متنوعة إلى أنواع ثلاثة:- فمنها ما يدل على وجوب الإنصات عند القراءة كالحديث الأول - يعني حديث أبي موسى وأبي هريرة: «وإذا قرأ فأنصتوا» - قال: وهو وإن كان ظاهر لفظه وعمومه يدل على الإنصات مطلقا لكن النظر الدقيق يحكم بأنه يمنع من القراءة مع قراءة الإمام في الجهرية بحيث يخل بالاستماع والتدبر، ولا يدل على وجوبه في الجهر أثناء السكتات ولا على وجوبه في السر، وكذا الآية القرآنية، يعني: {وَإِذَا ¬
قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} (¬1) قال: وكذا الحديث الثالث والرابع - يعني حديث عمران، الذي فيه: «قد عرفت أن بعضكم خالجينها» وحديث ابن مسعود، الذي فيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «خلطتم عليَّ القرآن» قال: وإثبات وجوب السكوت مطلقًا من هذه الأحاديث، وكذا من الآية، وإن قال به جمع من أصحابنا عند التنازع لكنه لا يخلو عن تكلف وتعسف. ومنها: ما يدل بظاهره على النهي عن مطلق القراءة لكنها مما خدش في ثبوتها، بل ببطلان بعضها فلا يصح الاحتجاج بها، مع إمكان حملها على ما عدا الفاتحة ... ومنها: ما يدل على كفاية قراءة الإمام للمقتدي، وأنه لو لم يقرأ المقتدي صحت صلاته بقراءة إمامه , فيمكن أن يعارض ما صح منه بإطلاقه الأحاديث الواردة في إيجاب قراءة الفاتحة خلف الإمام بعمومها أو خصوصها، ويختار طريق الجمع بينهما، ولا دلالة لها على وجوب السكوت مطلقًا، بل ولا مقيدا، ولا على كراهة القراءة، أو الحرمة، وإن قال به جمع من الحنفية». وحيث تبين ضعف هذا القول وهو أن المأموم لا يقرأ خلف الإمام مطلقًا، وأن قراءة الإمام له قراءة في الصلاة السرية والجهرية فأي القولين الباقيين أولى بالترجيح. أهو قول من قال بوجوب قراءة الفاتحة مطلقًا في السرية ¬
والجهرية، أم قول من قال بقراءتها في بالسرية دون الجهرية إذا كان يسمع الإمام، ولم يكن للإمام سكتات. فأصحاب القول الأول كما تقدم استدلوا بالأحاديث الموجبة لقراءة الفاتحة في الصلاة، وجعلوها مخصصة لعموم أدلة الأمر بالإنصات في الآية والأحاديث. وأصحاب القول الثاني استدلوا بالأدلة معًا لكنهم جعلوا أدلة الأمر بالإنصات هي المخصصة لأدلة الأمر بقراءة الفاتحة، فتقرأ الفاتحة حيث لا يجب الإنصات: أي حيث لا جهر في القراءة من قبل الإمام. وأصحاب القول الأول احترزوا من الوقوع في ترك قراءة الفاتحة، وهي في حق المأموم واجب تركه يخل بالصلاة، أو ركن تركه يبطل الصلاة. ولم يروا وجوب الإنصات على المأموم حال قراءته للفاتحة وإن كان يسمع قراءة الإمام إذا لم يكن للإمام سكتات. وأصحاب القول الثاني احترزوا من الوقوع في المنهي، وهو القراءة حال قراءة الإمام، وترك الإنصات، والاستماع المأمور بهما، ولم يروا أن قراءة الفاتحة واجبة بل ولا مستحبة، بل ولا جائزة حال قراءة الإمام. وبالمقارنة بين المحترزين فإن ترك قراءة الفاتحة حال الجهر يعد إخلالا بالصلاة عند بعض أهل العلم، بل يعد مبطلًا لصحتها عند بعضهم.
أما القراءة حال جهر الإمام فهو - عند بعض أهل العلم - ارتكاب لمحذور، وهو ترك الإنصات المأمور به عند القراءة، لكن ذلك بكل حال لا يبطل الصلاة باتفاق أهل العلم. وعلى هذا فإن من ترك قراءة الفاتحة حال جهر الإمام متعرض للقول بعدم صحة الصلاة. أما القارئ حال قراءة الإمام فهو متعرض فقط للقول بأنه ارتكب محظوراً. وبناء على هذا فإن أظهر الأقوال، وأقربها لصحة الصلاة وسلامتها من الخلل والنقص، ولبراءة الذمة، والذي تطمئن إليه النفس - بعد المقارنة بين هذه الأقوال وأدلتها هو القول بوجوب قراءة الفاتحة على المأموم مطلقًا في الصلاة السرية والجهرية للأدلة الصحيحة الصريحة في وجوب قراءة الفاتحة على كل مصل، إمام كان أو مأموما أو منفردا وعدم المخصص لها على الصحيح، ولحديث عبادة بن الصامت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لعلكم تقرؤون خلف إمامكم قالوا: نعم. قال: لا تفعلوا إلا بأم الكتاب»، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها: فهذا نص صريح صحيح في وجوب قراءة الفاتحة على المأموم في الصلاة الجهرية التي هي موضع الخلاف. والأولى أن يقرأ المأموم الفاتحة في سكتات الإمام أن أمكن ذلك، فإن لم يتمكن من قراءتها في السكتات قرأها حال قراءة الإمام لكن في قراءة الإمام ما بعد الفاتحة، فينصت لقراءة الفاتحة ثم يقرأها أثناء قراءة الإمام السورة.
وقد اختار هذا القول أكثر محققي علمائنا في العصر الحاضر منهم: سماحة الشيخ شيخنا عبد العزيز بن عبد العزيز بن باز (¬1) - غفر الله له ورحمه، وفضيلة الشيخ شيخنا عبد الله بن محمد بن حميد (¬2) - غفر الله له ورحمه، وفضيلة الشيخ شيخنا محمد بن صالح العثيمين (¬3) - غفر الله له ورحمه، وفضيلة الشيخ شيخنا صالح بن محمد اللحيدان (¬4) - غفر الله له ورحمه. وقد صدرت بترجيح هذا القول وهو وجوب قراءة الفاتحة مطلقًا الفتوى رقم 1752 بتاريخ 28/ 12/1397 هـ من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء والتي يرأسها سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز. وهذا نصها: "تجب قراءة الفاتحة على المصلي، سواء كان إمامًا أو منفردًا أو مأمومًا، وسواء كانت الصلاة سرية أم جهرية، سمع المأموم فيها قراءة إمامه أم لم يسمعها في أرجح الأقوال للعلماء، لعموم حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا صلاة لمن لم ¬
يقرأ بأم القرآن» فنفى الصلاة الشرعية لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب عمومًا ولم يخص منها حالا من أحوال المصلي دون حال. والنفي إذا ورد في نصوص التشريع اتجه إلى الحقيقة الشرعية لا إلى كما لها إلا بدليل ولا دليل يصرف عنها على الصحيح من أقوال العلماء. وما استدل به الحنفية على أن المأموم لا يقرأ بفاتحة الكتاب من حديث جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من صلى خلف الإمام فقراءة الإمام له قراءة» فضعيف. قال ابن حجر في التلخيص: إنه مشهور في حديث جابر، وله طرق عن جماعة من الصحابة كلها معلولة، ولو صح لكان مخصصًا لما رواه أبو داود عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أنه صلى خلف أبي نعيم، وأبو نعيم يجهر بالقراءة، فجعل عبادة يقرأ بأم القرآن، فلما انصرفوا من الصلاة قال لعبادة بعض من سمعه يقرأ: سمعتك تقرأ بأم القرآن، وأبو نعيم يجهر، قال: أجل، صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعض الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة، قال: فالتبست عليه القراءة، فلما فرغ أقبل علينا بوجهه فقال: «هل تقرؤون إذا جهرت بالقراءة؟ فقال بعضنا: نعم إنا نصنع ذلك. قال: فلا، وأنا أقول مالي أنازع القرآن، فلا تقرؤوا بشيء إذا جهرت إلا بأم القرآن». فهذا عبادة راوي الحديث قرأ بها جهرا خلف الإمام، لأنه فهم من كلامه - صلى الله عليه وسلم - أنه يقرأ بها خلف الإمام جهر والإمام يجهر بالقراءة. وكذلك العموم في قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ
بيان المشروع من السكتات في الصلاة
وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} وما ثبت من قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح «وإذا قرأ فأنصتوا» يخصص بما رواه أبو داود عن عبادة بن الصامت المتقدم فإنه نص في قراءة المأموم للفاتحة في الصلاة الجهرية. والقاعدة أن الخاص إذا عارضه العام حمل العام على الخاص وخصص به جمعا بين الدليلين وإعمالا لهما بدلًا من إلغاء أحدهما. وروى مسلم وأبو داود - أيضًا - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من صلى صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج فهي خداج، غير تمام». قال له السائب مولى هشام بن زهرة: يا أبا هريرة إني أكون أحيانًا وراء الإمام فغمز ذراعه وقال: اقرأ بها يافارسي في نفسك. فدل جواب أبي هريرة للسائب راوي الحديث عنه على أنه فهم من الحديث قراءة المأموم لها في الصلاة لكنه رأى أن يكون ذلك سرًا». فائدة: في بيان المشروع من السكتات في الصلاة، وما يشرع قوله فيها: وحيث شرع للمأموم قراءة الفاتحة في سكتات الإمام، فإن من المناسب ذكر المشروع من السكتات، وما يشرع قوله في هذه السكتات. أولًا: بيان المشروع من السكتات في الصلاة. اختلف أهل العلم في المشروع من السكتات في الصلاة على أقوال
عدة: أ- جمهور أهل العلم على أن المشروع من السكتات في الصلاة سكتتان، منهم الشافعي (¬1)، وأحمد (¬2)، وإسحاق (¬3)، والحسن وقتادة (¬4) والأوزاعي (¬5)، وأبو ثور (¬6). واستدلوا على هاتين السكتتين بما يلي: 1 - ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كبر في الصلاة سكت هنية قبل أن يقرأ، فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال أقول: «اللهم باعد بيني وبين خطاياي، كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي، كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد» متفق عليه (¬7). ¬
2 - ما رواه سعيد عن قتادة عن الحسن عن سمرة بن جندب قال: «سكتتان حفظتهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنكر ذلك عمران بن حصين، وقال حفظنا سكتة. فكتبنا إلى أبي بن كعب بالمدينة فكتب أبي أن حفظ سمرة». قال سعيد: فقلنا لقتادة: «ما هاتان السكتتان؟ قال: إذا دخل في صلاته، وإذا فرغ من القراءة، ثم قال بعد ذلك: وإذا قرأ {وَلَا الضَّالِّينَ} قال: وكان يعجبه إذا فرغ من القراءة أن يسكت حتى يتراد إليه نفسه (¬1). وفي رواية (¬2) عن الحسن عن سمرة بن جندب «أنه تذاكر وعمران بن حصين، فحدث سمرة بن جندب أنه حفظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سكتتين، سكتة إذا كبر، وسكتة إذا فرغ من قراءة {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فحفظ ذلك سمرة، وأنكر عليه عمران بن حصين، فكتبنا في ذلك إلى أبي بن كعب، فكان في كتابه إليهما أو في رده عليهما أن سمرة قد حفظ». وفي رواية (¬3) عن الحسن عن سمرة بن جندب: «أن رسول الله ¬
- صلى الله عليه وسلم - كانت له سكتتان، سكتة حين يفتتح الصلاة، وسكتة إذا فرغ من السورة الثانية قبل أن يركع ...». واتفقوا على أن السكتة الأولى بعد تكبيرة الإحرام وقبل القراءة للتنصيص على مكانها في الحديثين. واختلفوا في محل السكتة الثانية بناء على اختلاف روايات حديث سمرة، فقال بعضهم: هي بعد انتهاء القراءة، وقبل التكبير للركوع، ورجح هذا الإمام أحمد (¬1) وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمهما الله تعالى (¬2) -. وقيل: إنها بعد قراءة الفاتحة. وإلى هذا القول يميل ابن القيم - رحمه الله تعالى - فيما يظهر من كلامه في «زاد المعاد» (¬3). حيث قال بعد أن ذكر تصحيح أبي حاتم لحديث السكتتين من رواية سمرة، وأبي بن كعب، وعمران بن حصين قال: «وقد تبين بذلك أن أحد من روى حديث السكتتين سمرة بن جندب، وقال: حفظت من ¬
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سكتتين، سكتة إذا كبر، وسكتة إذا فرغ من قراة {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} وفي بعض طرق الحديث فإذا فرغ من القراءة سكت، وهذا كالمجمل واللفظ الأول مفسر مبين، ولهذا قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: للإمام سكتتان فاغتنموا فيهما القراءة بفاتحة الكتاب، إذا افتتح الصلاة، وإذا قال: {وَلَا الضَّالِّينَ} على أن تعيين محل السكتتين إنما هو من تفسير قتادة». وهل هذه السكتات واجبة على الإمام، أو مستحبة؟ ذهب بعض أهل العلم إلى أنها واجبة على الإمام، منهم الأوزاعي وأبو ثور وذهب أكثر أهل العلم إلى أن ذلك مستحب فقط. ب- وذهب بعض العلماء إلى أن المشروع للإمام سكتة واحدة للاستفتاح منهم: عمران بن حصين (¬1)، وبه قال الإمام أبو حنيفة (¬2)، مستدلين بحديث أبي هريرة المتقدم كان النبي - صلى الله عليه وسلم - «إذا كبر سكت هنية»، أما حديث السكتتين فلم يصح عندهم. ج- وذهب بعض أهل العلم إلى أن المشروع للإمام ثلاث سكتات منهم طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد قالوا: يستحب للإمام ثلاث سكتات، والثانية: منها بعد قراءة الإمام الفاتحة ليقرأ المأموم الفاتحة، والثالثة: بعد الانتهاء من القراءة وقبل الركوع. (¬3) ¬
مستدلين بحديث أبي هريرة وحديث سمرة برواياته. د- وذهب الإمام مالك إلى أنه لا سكوت في الصلاة بحال من الأحوال (¬1). والذي عليه جمهور أهل العلم، وصححه بعض المحققين من أهل العلم أن السكتات الثابتة اثنتان فقط. قال شيخ الإسلام ابن تيمية (¬2): «والصحيح أنه لا يستحب إلا سكتتان فليس في الحديث إلا ذلك، وإحدى الروايتين غلط، وإلا كانت ثلاثا وهذا هو المنصوص عن أحمد، وأنه لا يستحب إلا سكتتان، والثانية عند الفراغ من القراءة، للاستراحة والفصل بينها وبين الركوع، وأما السكوت عقيب الفاتحة فلا يستحبه أحمد» (¬3). وقال أيضًا (¬4): «ولم يقل أحد إنه كان له ثلاث سكتات، ولا أربع سكتات فمن نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث سكتات أو أربع فقد قال قولا لم ينقله عن أحد من المسلمين». وقال ابن القيم (¬5): «وكان له سكتتان، سكتة بين التكبير والقراءة، وعنها سأله أبو هريرة. واختلف في الثانية، فروي أنها بعد الفاتحة، وقيل: إنها بعد القراءة وقبل الركوع، وقيل: هي سكتتان غير الأولى ¬
ما الذي يشرع قوله في سكتات الإمام
فتكون ثلاثا، والظاهر إنما هي اثنتان فقط». لكن ابن القيم - رحمه الله - يقول توفيقا بين روايتي حديث سمرة. «وأما الثالثة فللراحة والنفس فقط، وهي سكتة لطيفة، فمن لم يذكرها فلقصرها، ومن اعتبرها جعلها سكتة ثالثة، فلا اختلاف بين الروايتين، وهذا أظهر ما يقال في هذا الحديث .. " قلت: وهذا مسلك جيد في التوفيق بين الروايتين إن صحت كل منهما. ثانيًا: ما الذي يشرع قوله في سكتات الإمام، وهل يشرع أن يسكت لأجل قراءة المأموم. جمهور أهل العلم على أنه يستحب للمأموم، بل وللإمام في السكتة الأولى التي بعد التكبير، وقبل الشروع بقراءة الفاتحة قراءة دعاء الاستفتاح لما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما يقول في هذه السكتة، فقال - صلى الله عليه وسلم - أقول: «اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب ... الحديث» (¬1). ولما ثبت في الصحيح عن عمر - رضي الله عنه - أنه كان يكبر ويجهر بدعاء الاستفتاح يعلمه الناس (¬2). ¬
وأما السكتة التي بعد نهاية القراءة، وقبل التكبير للركوع، فإنها على ما ذكر أهل العلم ليست محلا للقراءة، وإنما هي سكتة لطيفة جدا، لأجل تراد النفس والفصل بين القراءة والتكبير للركوع، كما قال قتادة: «وكان يعجبه إذا فرغ من القراءة أن يسكت حتى يتراد إليه نفسه» (¬1). وقال ابن القيم (¬2) - رحمه الله -: «وأما الثالثة فللراحة والنفس فقط وهي سكتة لطيفة ...». وأما السكتة بعد قراءة الفاتحة، فكما اختلف في ثبوتها، فقد اختلف المثبتون لها فيما يقال فيها. فبعض أهل العلم يرى أنها سكتة يسيرة كالسكتة بين السور، وعند رؤوس الآيات لا تتسع لقراءة الفاتحة (¬3). وقيل: إنها لأجل قراءة الفاتحة , وهذا يروى عن سعيد بن جبير (¬4) وعمر بن عبد العزيز (¬5) ¬
والأوزاعي (¬1) والشافعي (¬2) وأبي ثور (¬3)، وإسحاق بن راهويه (¬4)، واختاره ابن المنذر (¬5)، وبعض أصحاب الشافعي وأحمد (¬6). بل يرى بعضهم أن هذه السكتة مما يجب على الإمام، منهم الأوزاعي وأبو ثور. وأكثر أهل العلم على أنه لا يشرع أن يسكت لأجل أن يقرأ المأموم الفاتحة، منهم أبو حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم (¬7). لكن كثيرًا من أهل العلم يستحبون للمأموم أن يقرأ الفاتحة في سكتات الإمام، في السكتة الأولى أن اتسعت بعد الاستفتاح لشيء من القراءة وفي غيرها من السكتات - كما تقدم - وهو الأولى (¬8). وهو مروي عن عبد الرحمن بن أبي سملة (¬9)، ¬
والحسن (¬1)، وقتادة (¬2)، وعروة بن الزبير (¬3)، وأحمد بن حنبل وعامة أصحابه (¬4)، وإسحاق بن راهويه (¬5) بل من أهل العلم من يوجب ذلك كالأوزاعي (¬6) والشافعي (¬7) وأبي ثور (¬8)، كما سبقت الإشارة إلى هذا (¬9). ¬
المبحث الثاني وفيه مسائل
المبحث الثاني وفيه مسائل: أ- حكم من لم يستطيع قراءة الفاتحة في الصلاة. ب- حكم قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة. ج- حكم قراءة الفاتحة على المريض. د- حكم قول «آمين» بعد قراءة الفاتحة. هـ - قراءة ما زاد على الفاتحة في الصلاة.
أ- حكم من لم يستطيع قراءة الفاتحة في الصلاة
المبحث الثاني وفيه مسائل أ- حكم من لم يستطيع قراءة الفاتحة في الصلاة: يجب على المسلم أن يتعلم ما يقيم به الواجب من أمر دينه، من أذكار الصلاة وغيرها. وبما أن قراءة الفاتحة في الصلاة واجبة، بل ركن من أركانها على الصحيح من أقوال أهل العلم، فيجب على المسلم بذل طاقته في تعلمها، فإن لم يستطع تعلمها ولا تعلم شيء من القرآن أجزأ عنه أن يسبح الله، ويحمده، ويهلله، ويكبره. لما رواه عبد الله بن أبي أوفى قال: «جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئًا فعلمني ما يجزيني منه. قال: «قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. قال: يا رسول الله هذه لله - عز وجل -، فما لي؟ قال: قل اللهم ارحمني، وارزقني، وأهدني، فلما قام قال: هكذا بيده. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أما هذا فقد ملأ يده من الخير» رواه أبو داود والنسائي (¬1). ¬
ب- حكم قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة
قال القرطبي (¬1): «فإن عجز عن إصابة شيء من هذا اللفظ فلا يدع الصلاة مع الإمام جهده فالإمام يحمل ذلك عنه إن شاء الله، وعليه أبدا أن يجهد نفسه، في تعلم فاتحة الكتاب فما زاد إلى أن يحول الموت دون ذلك وهو بحال الاجتهاد فيعذره الله». ومن لم يتمكن من قراءتها بالعربية ترجم له الدعاء بلسانه الذي يفقه لإقامة صلاته، ولا تجزئ صلاة من قرأ بالفارسية، أو غيرها وهو يجيد العربية على الصحيح من أقوال أهل العلم (¬2). ب- حكم قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة: ثبت في أكثر من حديث مشروعية قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة. فعن طلحة بن عبد الله الأنصاري - رضي الله عنه - قال: «صليت خلف ابن عباس - رضي الله عنهما - على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب، وقال: لتعلموا أنها سنة». رواه البخاري (¬3). وعن أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي - رضي الله عنه - أنه قال: «السنة في الصلاة على الجنازة أن يقرأ في التكبيرة الأولى بأم القرآن مخافتة، ثم يكبر ثلاثا، والتسليم عند الآخرة» (¬4). ¬
ولهذا ذهب جمهور أهل العلم إلى مشروعية قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة، وهذا هو الصحيح للأدلة السابقة لكنهم اختلفوا في حكم قراءتها فمنهم من استدل بهذه الأحاديث على الوجوب وهو قول كثير من أهل العلم، منهم الشافعي (¬1) وأحمد (¬2) وإسحاق (¬3) ذهبوا إلى أن قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة واجبة، بل قال بعضهم: بأنها ركن. وذهب بعض أهل العلم إلى أنها مستحبة فقط وقالوا: الأدلة السابقة تدل على الاستحباب فقط. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (¬4): «وهذا الصواب». وقد ذهب بعض العلماء إلى أن قراءة الفاتحة لا تشرع في صلاة الجنازة منهم أبو حنيفة (¬5) ومالك (¬6) والثوري والأوزاعي (¬7). وقد روي هذا عن ابن عمر وأبي هريرة (¬8). ¬
ج- حكم قراءة الفاتحة على المريض
ج- حكم قراءة الفاتحة على المريض: القرآن الكريم كله شفاء لأمراض القلوب والأديان، كما أنه شفاء لعلل الأجسام والأبدان. قال الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} (¬1) وقال تعالى: {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} (¬2) وقال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (¬3). فقراءة القرآن، كما أنها شفاء لأمراض القلوب المعنوية، فهي شفاء أيضًا لأمراض الأجسام الحسية والنفسية. وكما يشرع أن يقرأ لعلاج أمراض القلوب المعنوية من أمراض الشبهات والشكوك والشهوات. فكذلك يشرع أن يقرأ المسلم القرآن على نفسه وعلى غيره، لعلاج الأمراض البدنية والجسمانية حسية كانت أو نفسية، لأن القرآن كما ذكر الله في أكثر من آية شفاء لذلك كله بإذنه تعالى. وقد ثبت في حديث أبي سعيد الخدري أثر قراءة الفاتحة على اللديغ. كما أخرجه الشيخان وغيرهما عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: «كنا في مسير لنا فنزلنا، فجاءت جارية، فقالت: إن سيد القوم سليم، وإن نفرنا غيب فهل منكم راق؟ فقام معها رجل ما كنا ¬
د- حكم قول «آمين» بعد قراءة الفاتحة
نأبنه (¬1) برقية، فرقاه، فبرأ، فأمر لنا بثلاثين شاة، وسقانا لبنا فلما رجع قلنا له: أكنت تحسن رقية، أو كنت ترقي؟ قال: لا، ما رقيت إلا بأم الكتاب فقلنا: لا تحدثوا شيئًا حتى نأتي، أو نسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما قدمنا المدينة ذكرناه للنبي - صلى الله عليه وسلم -: فقال: «وما يدريه أنها رقيه، اقسموا واضربوا لي بسهم» متفق عليه (¬2). د- حكم قول «آمين» بعد قراءة الفاتحة: يستحب أن يسكت القارئ سكتة لطيفة بعد قراءة {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} ثم يقول «آمين»، سواء كان في الصلاة أو خارجها، إماما كان أو مأمومًا أو منفردًا في صلاة جهرية أو سرية، عند جمهور أهل العلم (¬3). لما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا قال الإمام {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فقولوا آمين، فإنه من وافق قوله قول الملائكة (¬4) غفر له ما تقدم من ذنبه» متفق ¬
عليه (¬1). وفي لفظ للبخاري (¬2): «إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الإمام غفر له ما تقدم من ذنبه». وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبنا، فقال: «إذا صليتم فأقيموا صفوفكم، ثم ليؤمكم أحدكم، فإذا كبر فكبروا، وإذا قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين يجبكم الله، فإذا كبر وركع فكبروا واركعوا فإن الإمام يركع قبلكم، ويرفع قبلكم» رواه مسلم (¬3). وعن وائل بن حجر - رضي الله عنه - قال: «صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما كبر رفع يديه أسفل أذنيه، فلما قرأ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قال: آمين، فسمعته وأنا خلفه»، وفي رواية: «ومد بها صوته» (¬4). ¬
وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: «سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قال: {وَلَا الضَّالِّينَ} قال: آمين» (¬1). وعن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين» (¬2). و «آمين» ليست من الفاتحة إجماعًا، ولهذا لم تثبت في المصاحف. كما شرع أن يسكت قليلًا بعد الفاتحة، ثم يقول: «آمين». وهي اسم فعل بمعنى اللهم استجب. وفيها لغتان: «آمين» بمد الألف على وزن «فاعيل»، و «أمين» بالقصر على وزن «فعيل». والقصر هو الأصل (¬3). وأنشدوا: ¬
هـ- حكم قراءة ما زاد على الفاتحة في الصلاة
تباعد مني فطحل إذ دعوته ... أمين فزاد الله ما بيننا بعدا (¬1) وقال الآخر (¬2): يا رب لا تسلبني حبها أبدًا ... ويرحم الله عبدًا قال: آمينا وقال أبو وجزة مولى من موالي أهل المدينة يخاطب عبد الله بن الزبير (¬3): ولا نقول إذا يوما نعيت لنا ... إلا بآمين رب الناس أمينا هـ - حكم قراءة ما زاد على الفاتحة في الصلاة: يستحب عند جمهور أهل العلم أن يقرأ الإمام والمنفرد، وكذا المأموم في الصلاة السرية مع الفاتحة سورة، أو بعض الآيات في الركعتين الأوليين، ويكتفي بقراءة سورة الفاتحة في الركعتين الأخيرتين (¬4). وهو قول أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود، وابن عمر، ¬
وأبي الدرداء وعبد الله بن مغفل وعائشة ومجاهد وسعيد بن جبير والضحاك ومغيرة بن عبد الرحمن وعطاء والشعبي والحسن وابن سيرين (¬1) وغيرهم. ولما رواه أبو قتادة - رضي الله عنه - قال: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر بفاتحة الكتاب وسورتين يطول في الأولى، ويقصر في الثانية، ويسمع الآية أحيانا، وكان يقرأ في العصر بفاتحة الكتاب وسورتين، وكان يطول في الركعة الأولى في صلاة الصبح، ويقصر في الثانية». وفي رواية «ويقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب» متفق عليه (¬2). وما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: «في كل صلاة يقرأ، فما أسمعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسمعناكم، وما أخفى عنا أخفينا عنكم، وإن لم تزد على أم القرآن أجزأت، وإن زدت فهو خير» متفق عليه (¬3). وإن قرأ مع الفاتحة في الركعتين الأخيرتين من الرباعية، أو الركعة الثالثة من المغرب أحيانا جاز (¬4)، بل استحب بعض أهل العلم هذا ¬
كالشافعي (¬1). لحديث أبي سعيد الخدري: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية، وفي الأخريين قدر خمس عشرة آية، أو قال: نصف ذلك، وفي العصر مثل ذلك (¬2). وذهب بعض العلماء إلى وجوب قراءة سورة مع الفاتحة، أو شيء من القرآن، وهو مروي عن عمران بن حصين وعبد الله بن عمر وأبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله وابن عباس وأبي وائل (¬3) وغيرهم (¬4). قال أبو حنيفة تجب القراءة بعد الفاتحة في الركعتين الأوليين من الرباعية والثلاثية وفي جميع الثنائية (¬5). ... ¬
الخاتمة
الخاتمة الحمد لله الذي بفضله وكرمه تتم الصالحات، أحمده - سبحانه وتعالى - أن وفقني أولًا للشروع في هذا البحث، ووفقني ثانيًا لإنهائه واستكماله. فكل ذلك بتوفيقه وتيسيره، فله الحمد في البداية والنهاية، وعند الشروع والتمام، وله الحمد لله على الدوام - كما قال تعالى: {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ} (¬1).والصلاة والسلام على خاتم رسله سيدنا ونبينا محمد خير الأنام وعلى آله وصحبه نجوم الهدى ومصابيح الظلام، ومن سار على نهجهم واستقام إلى يوم الدين وبعد: فقد ظهر من خلال هذا البحث في تفسير الاستعاذة والبسملة وفاتحة الكتاب، وبيان ما اشتمل عليه كل منها من المعاني والفوائد والأحكام ما يلي: أولًا: بيان الصيغ الصحيحة للاستعاذة، لأن على المسلم أن يتعبد لله بما شرع الله. ثانيًا: معنى الاستعاذة والبسملة وأن معنى الاستعاذة هو الالتجاء إلى الله والاعتصام به من الشيطان ونزغاته ووساوسه، وجميع شروه. وأن معنى البسملة هي الاستعانة بسم الله والتبرك والتيمن بالبداءة به. ¬
ثالثًا: أن الاستعاذة ليست من القرآن الكريم، وإنما جاء الأمر بها في القرآن الكريم. وأن البسملة بعض آية من سورة النمل بالإجماع. وآية مستقلة في القرآن الكريم - على الصحيح - تفتتح بها جميع السور سوى براءة. وأن السبب في عدم ذكرها مع هذه السورة أنها لم تنزل من عند الله مع هذه السورة. رابعًا: أن كلًا من الاستعاذة والبسملة تستحب - على الصحيح - في أول القراءة أولا الاستعاذة، ثم البسملة، سواء في الصلاة أو خارجها. خامسًا: جواز الإسرار بهما والجهر في غير الصلاة، واستحباب الإسرار بهما في الصلاة. سادسًا: المواضع التي تشرع فيها كل من الاستعاذة والبسملة. سابعًا: كما ظهر من خلال هذا البحث فضل سورة الفاتحة، وما اشتملت عليه من المعاني، التي جمعها القرآن، وتضمنتها هذه السورة على إيجازها وما اشتملت عليه من الفوائد والأحكام. كما ظهر أيضًا من خلال هذا البحث الأحكام التي تتعلق بهذه السورة العظمية من وجوب قراءتها في الصلاة على كل مصل إماما أو مأمومًا أو منفردًا، على الراجح من أقوال أهل العلم. كما ظهر أيضًا حكم من لم يستطع قراءتها في الصلاة، وحكم قراءتها في صلاة الجنازة وحكم قراءتها على المريض، وحكم التأمين بعدها. وحكم قراءة ما زاد عليها في الصلاة.
وقد اجتهدت وسعي لإخراج هذا البحث في أحسن صورة واصح عبارة فإن كنت قد وفقت فمن الله، وإن كانت الثانية فمني ومن الشيطان واسأل الله العفو والمغفرة. وختامًا أسأل الله بمنه وكرمه أن يوفقني وجميع إخواني المسلمين للعلم النافع والعمل الصالح وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل فهو حسبنا ونعم الوكيل. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الباحث