اللباب «شرح فصول الآداب»

عبد الله بن مانع الروقي

المقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة الحمد لله رب العالمين، قيوم السماوات والأرضين .. مدبر الخلائق أجمعين، باعث الرسل إلى المكلفين؛ لهدايتهم وبيان شرائع الدين، بالدلائل القطعية وواضحات البراهين، أحمده على جزيل نعمه، وأسأله المزيد من فضله وكرمه، وأصلي وأسلم على البشير النذير والسراج المنير وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. أما بعد؛؛؛ فإن المولى - عز وجل - شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة كما قال -جلّ وعلا -: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا (3)} (¬1) أرسل إلينا الرحمة المهداة - صلى الله عليه وسلم - فما من خير إلا دل الأمة عليه، وما من شر إلا حذر الأمة منه، ومن جملة ذلك ما جاء به من تكميل الآداب والحث عليها، ¬

(¬1) المائدة: 3.

قال عليه الصلاة والسلام: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق» (¬1) وقد اعتنى علماء الملة بتأليف الكتب التي تُعنى في هذا الباب وأفردوا لها المؤلفات المطولة والمتوسطة والمختصرة، ومن هذه المؤلفات سِفرٌ مبارك، قليل العبارة، جزيل المعاني، جمع كثيراً من مسائل الآداب، وقرن بعضها بالدلائل، ألا وهو كتاب " فصول الآداب " للإمام أبي الوفاء ابن عقيل الحنبلي المتوفى سنة 513هـ، إلا أن هذا الكتاب لم يخدم الخدمة التي تليق بمكانته، مما دعا شيخنا صاحب الفضيلة الشيخ/ عبدالله بن مانع الروقي إلى القيام بشرحه. وقد تم ذلك في عدة مجالس جلّى فيها فضيلة الشيخ غامضه، وتبحر في دقائق مسائله، يذكر كل مسألة مبيناً فيها أقوال من سبق، فيستدل ويناقش، ويورد ويردُّ، فعرض بعض الطلبة - لما رأوا من جمال هذا الشرح وقوّته العلمية - على الشيخ تفريغ الأشرطة وإخراج هذا الشرح؛ ليستفيد منه طلاب العلم، فوافق الشيخ على ذلك. ¬

(¬1) أخرجه أحمد 2/ 381 (8939)، و"البُخاري" في "الأدب المفرد" 273.

فقام بعض الإخوة بتفريغ الأشرطة المسموعة، وتخريج الأحاديث المذكورة ثم عُرض الكتاب بعد ذلك على فضيلة الشيخ فراجعه مشكوراً مأجوراً، فصحح ما كان فيه من خطأ، وزاد ما كان يحتاج إلى زيادة، حتى خرج لك الكتاب بهذه الحُلّةِ المباركة سائلين المولى - عز وجل- أن يبارك في جهود الشيخ، وأن ينفع به الإسلام والمسلمين ... وكتب فهد بن الحميدي البراق

مقدمة المؤلف - رحمه الله -

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمِّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّيْنَ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ، وَسَلَّمَ تَسْلِيْمًا كَثِيْرًا إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ. هَذِهِ نُبْذَةٌ مِنْ فُصُوْلِ الآدَابِ، وَمَكَارِمِ الأَخْلَاقِ المَشْرُوْعَةِ، قوله: (هذه نبذة من فصول الآداب ومكارم الأخلاق المشروعة) النبذة: هي القطعة اليسيرة, والشيء اليسير. ثم قال: (من فصول الآداب): والفصول جمع فصل, والآداب جمع أدب, وهو في اللغة: الضرب وحسن التناول. والأدب: اسم جامع لكل ما يحسن من الأقوال والأفعال, ومن اتصف به سُمي أديباً. ثم قال: (ومكارم الأخلاق): المكارم: جمع مكرمة، وهي فعل الخير، يقول ابن فارس: ومن هذا المعنى (أي تقدير الشيء) الخلق، وهو السّجية لأن صاحبه قد قدر عليه، يقال: فلان خليق بكذا

(أي: قادر عليه وجدير به)، وأخلق بكذا أي ما أخلقه، والمعنى هو ممن يقدّر فيه ذلك، والخلاق: النصيب لأنه قد قدّر لكل أحد نصيبه. (¬1) والأخلاق: جمع خلق وهي - بضم اللام وسُكونها -: أي الدِّين، والطَّبْع، والسَّجِيَّة، وحقيقتُه أنه لِصُورة الإنسانِ الباطنة، وهي نفْسُه وأوْصافُها ومَعانِيها المُخْتصَّة بها، بمنزلة الخَلْق لِصُورته الظاهرة وأوْصافِها ومَعانيها، ولهما أوصاف حَسَنة وقَبيحة، والثَّواب والعِقاب ممَّا يَتَعَلَّقان بأوصاف الصُّورة الباطنة، أكثر مما يَتَعَلَّقان بأوصاف الصورة الظاهرة، فالمؤلف يشير إلى أنه ينبه في كتابه على هذه الآداب الكريمة. وقد روى الإمام أحمد من طريق عبد العزيز الدراوردي، عن ابن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق» (¬2) وابن عجلان حسن الحديث وأخرج له مسلم مقروناً وأحاديثه مشتهاةٌ وله أوهام في أخبار، وودت لو جمعت أحاديثه أو أوهامه رحمه الله في جزء مفرد، ومن أوهامه: ¬

(¬1) مقاييس اللغة لابن فارس 2/ 214. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 31773) وأحمد (رقم: 8939) وابن سعد (1/ 192) وأخرجه الحاكم (رقم: 4221) وقال: صحيح على شرط مسلم. والبيهقي (رقم: 20572). وأخرجه أيضًا: الديلمي (رقم: 2098) بلفظ: «بعثت لأتمم صالح الأخلاق».

حديث استعينوا بالركب فقد رواه ابن عجلان عن سُمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبي صالح عن أبي هريرة كذا أخرجه أحمد (2/ 340) وأبو داود (902) وغيرهم، ورواه ابن عيينة وغيره عن سُمي عن النعمان بن أبي عياش عن النبي مرسلاً، فينبغي الكتابة في هذا الباب. وفي لفظ لهذا الخبر الذي معنا: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (¬1) وفي لفظ: «محاسن» (¬2) ورواه أيضاً الحاكم في المستدرك, والبيهقي في السنن وغيرهم, وإسناده صحيح. ونبينا - صلى الله عليه وسلم - بعث لتكميل هذه الأخلاق, التي كانت موجودة قبل الإسلام، وكان الناس يفخرون قبل الإسلام بالشجاعة والكرم والعفة والنجدة, ثم جاء الإسلام وهذب منها ما يحتاج إلى تهذيب, وزاد عليها الشيء الكثير, فالحمد لله على أن بعث إلينا نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم -. ¬

(¬1) أخرجه البزار (رقم: 8949) والبيهقى (رقم: 20571). (¬2) أخرجه مالك (رقم: 1609) وقال ابن عبد البر في التمهيد (24/ 333): هذا الحديث يتصل بطرق صحاح عن أبي هريرة وغيره عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

مِنْ تَأْلِيْفِ الشَّيْخِ الإِمَامِ القُدْوَةِ أَبِي الوَفَاءِ ابْنِ عَقِيْلٍ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-. ترجمة الإمام ابن عقيل هو الإمام الفقيه الحنبلي: أبو الوفاء علي بن عقيل بن محمد بن عقيل بن عبد الله البغدادي الظفري المقرئ. ولد سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة في جمادى الثانية. (¬1) يعد ابن عقيل من أشهر المجتهدين في المذهب الحنبلي، ولما سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن معرفة المذهب في مسائل الخلاف ذكر كتاب عمدة الأدلة لابن عقيل ضمن الكتب التي يرجع إليها طالب العلم لمعرفة المذهب. (¬2) وقال البعلي: انتهت إليه الرئاسة في الأصول والفروع. (¬3) ¬

(¬1) ذيل طبقات الحنابلة (1/ 142) وسير أعلام النبلاء (19/ 443). (¬2) الإنصاف للمرداوي المقدمة (1/ 18، 23). (¬3) المطلع على أبواب المقنع (444).

وقال ابن بدران عنه: الإمام الأصولي المقرئ الواعظ أحد المجتهدين صاحب المؤلفات. (¬1) وقال ابن رجب: وكان ابن عقيل كثير التعظيم للإمام أحمد وأصحابه والرد على مخالفيهم، ومن كلامه في ذلك: ومن عجيب ما نسمع من هؤلاء الأحداث الجهال أنهم يقولون أحمد ليس بفقيه لكنه محدث، وهذا غاية الجهل؛ لأنه قد خرج عنه اختيارات بناها على الأحاديث بناءً لا يعرفه أكثرهم، وخرج عنه من دقيق الفقه ما لا تراه لأحد منهم. وقال أيضاً: وما يقصد هذا إلا مبتدع قد تمزق فؤاده من خمود كلمته وانتشار علم أحمد، حتى إن أكثر العلماء يقولون: أصلي أصلُ أحمد، وفرعي فرع فلان، فحسبك بمن يرضى به في الأصول قدوة .... (¬2) وكتب بعضُهم إليه يقول له: صِف لي أصحابَ الإمام أحمد على ما عرفت من الإنصاف. فكتب إليه يقول: هُم قوْم خُشُنٌ، تقَلّصتْ أخلاقهم عن المخالطة، وغلظت طباعهم عن المداخلة، وغلب عليهم الجدّ، وقلَّ عندهم الهزل، ¬

(¬1) المدخل لابن بدران (416). (¬2) ذيل الطبقات (1/ 157).

وغربتْ نفوسهم عن ذل المراءاة، وفزعوا عن الآراء إلى الروايات، وتمسكوا بالظاهر تحرّجًا عن التأويل، وغلبت عليهم الأعمال الصالحة، فلم يدققوا في العلوم الغامضة، بل دققوا في الورع، وأخذوا ما ظهر من العلوم، وما وراء ذلك قالوا: الله أعلم بما فيها، من خشية باريها، لم أحفظ على أحد منهم تشبيهًا، إنما غلبت عليهم الشناعة لإيمانهم بظواهر الآي والأخبار، من غير تأويل ولا إنكار، والله يعلم أنني لا أعتقد في الإسلام طائفة محقة، خالية من البدع، سوى من سلك هذا الطريق. والسلام. (¬1) وقال ابن رجب: وكان مع ذلك يتكلم كثيراً بلسان الاجتهاد والترجيح واتباع الدليل الذي يظهر له، ويقول الواجب اتباع الدليل لا اتباع أحمد. (¬2) شيوخه: نقل عنه ابن رجب الحنبلي أنه كان يقول: شيخي في القراءة: ابن شيطا. وفي النحو والأدب: أبو القاسم بن برهان. وفي الزهد: أبو بكر الدينوري، وأبو بكر بن زيدان، وأبو الحسن القرزويني، وجماعة ... ¬

(¬1) ذيل طبقات الحنابلة (1/ 157). (¬2) المصدر السابق.

وفي الحديث: ابن النوري، وأبو بكر بن بران، والعشاري، والجوهري، وغيرهم. وفي الشعر والترسل: ابن شبل، وابن الفضل. وفي الفرائض: أبو الفضل الهمداني. وفي الوعظ: أبو طاهر بن العلاف. وفي الأصول: أبو الوليد، وأبو القاسم بن تيان. وفي الفقه: القاضي أبو يعلى، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وأبو نصر بن الصباغ. إلى أن قال: ومن مشايخي أبو محمد التميمي، وأبو بكر الخطيب. وغيرهم كثير من أئمة عصره - رحمه الله. ومن تلاميذه: - عمر بن ظفر بن حفص المغازلي. - المبارك بن كامل البغدادي، المعروف بابن الخفاف. - محمد بن نصر بن محمد السلامي، المحدث أبو الفضل. - صدقة بن الحسن بن الحداد الفقيه المؤرخ الحنبلي. - سعد الله بن نصر بن سعد المعروف بابن الدجاجي. (¬1) ¬

(¬1) ذيل طبقات الحنابلة (1/ 142،143) والذيل لابن رجب الحنبلي (1/ 155، 339).

ومن مصنفاته: لابن عقيل مصنفات كثيرة في أصول الدين والفقه والفروع والزهد وغير ذلك، فمنها: - أحاديث سئل عنها فأجاب. - الإرشاد في أصول الدين. - الإشارة، وهو اختصار لكتاب الروايتين والوجهين له. - الانتصار لأهل الحديث. - التذكرة في أصول الفقه. - تفضيل العبادات على نعيم الجنات. - تهذيب النفس. - الجدل في الفقه - جزء في الأصول. - المناظرات. - المنثور. - نفي التشبيه. - الواضح في أصول الفقه. (¬1) وغيرهم كثير. ¬

(¬1) انظر: الذيل على الطبقات لابن رجب (1/ 156) والمطلع على المقنع للبعلي (445) ومقدمة د/سليمان العمير في كتاب الأصول لابن عقيل (23).

وكان رحمه الله من أفاضل العلماء في أوانه، ومن أذكياء بني آدم في زمانه، مفرط الذكاء، زاهداً ورعاً متعبداً، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، متسع الدائرة في العلوم، وكان خبيرًا بالكلام، مطلعًا على مذاهب المتكلمين، وله بعد ذلك في ذم الكلام وأهله الشيء الكثير، بارعًا في الفقه وأصوله، وله في ذلك استنباطات عظيمة حسنة، وتحريرات كثيرة مستحسنة، ودرَّسَ وناظر الفحول، وكان دائم التشاغل بالعلم والعمل به، فرحمه الله رحمة الأبرار، العلماء العاملين الأخيار، وعفا عنه بمنه وكرمه. وتوفي ابن عقيل - رحمه الله - في بغداد سنة 513هـ، في الثاني عشر من جمادى الأولى. (¬1) - ¬

(¬1) الذيل لابن رجب (1/ 162).

فصل: السلام المبتدأ يكون من الماشي على القاعد

فَصْلٌ السَّلَامُ المُبْتَدَأُ يَكُوْنُ مِنَ المَاشِي عَلَى القَاعِدِ، وَمِنَ الرَّاكِبِ عَلَى المَاشِي وَالجَالِسِ، وَالابْتِدَاءُ بِهِ سُنَّةٌ، وَإِذَا سَلَّمَ الوَاحِدُ مِنَ الجَمَاعَةِ المُشَاةِ أَوِ الرُّكَّابِ أَجْزَأَ عَنِ الجَمَاعَةِ، وَإِذَا رَدَّ وَاحِدٌ مِنَ الجُلُوسِ أَجْزَأَ عَنِ الجَمَاعَةِ. وَصِفَةُ السَّلَامِ: سَلَامٌ عَلَيْكُم، وَصِفَةُ الرَّدِّ: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ. وَالزِّيَادَةُ المَأْمُوْرُ بِهَا المُسْتَحَبَّةُ: وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، وَلَا يُسْتَحَبُّ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ. وَيُسْتَحَبُّ (وَرَحْمَةُ اللهِ)؛ لِيَتْرُكَ لِلْمُجِيْبِ الزِّيَادَةَ المَأْمُوْرَ بِهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَبَرَكَاتُهُ، بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رَدِّهَا. وَإِذَا سَلَّمَ ثُمَّ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ شَجَرَةٌ أَوْ جِدَارٌ ثُمَّ اِلْتَقَوْا عَادَتْ سُنَّةُ السَّلَامِ، كَذَلِكَ كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَرَضِيَ عَنْهُم. وَيُكْرَهُ السَّلَامُ عَلَى شَوَابِّ النِّسَاءِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَجْلُبُ جَوَابَهُنَّ، وَسمَاعَ أَصْوَاتِهِنَّ، وَعَسَاهُ يَجْلُبُ الفِتْنَةَ، وَكَمْ مِنْ صَوْتٍ جَرَّ هَوَىً وَعِشْقًا.

وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَامِ عَلَى العَجَائِزِ وَالبَارِزَاتِ؛ لِعَدَمِ الفِتْنَةِ بَأَصْوَاتِهِنَّ، وَلِأَنَّ البَرْزَةَ تَحْتَاجُ إِلَى السَّلَامِ عَلَيْهَا، وَرَدِّ سَلَامِهَا، وَلِلْحَاجَةِ تَأْثِيْرٌ بِذَلِكَ؛ لِجَوَازِ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِ المَرْأَةِ لِلشَّاهِدِ لِيَحْفَظَ الحِلْيَةَ فَيُقِيْمَ الشَّهَادَةَ، وَكَذَلِكَ الصَّائِغُ وَالمَغَازِلِيُّ، وَكُلُّ مَنْ تُعَامِلُهُ النِّسَاءُ مِنْ أَرْبَابِ التَّجَائِرِ وَالصَّنَائِعِ. وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَامِ عَلَى الصِّبْيَانِ، تَعْلِيْمًا لَهُمْ لَلْأَدَبِ، وَتَحْبِيْبًا لِحُسْنِ الخُلُقِ، وَتَدْرِيْبًا عَلَى حُسْنِ المُعَاشَرِةِ. وَيَسْتَحَبُّ السَّلَامُ عِنْدَ الإِنْصِرَافِ، كَمَا يُسْتَحَبُّ عِنْدَ الدُّخُوْلِ، وَالدُّخُوْلُ أَشَدُّ اِسْتِحْبَاْبًا. المؤلف - رحمه الله - تعرض في هذا الفصل لمسائل السلام، ومسائل السلام عديدة وقد ألفت فيها مجلدات, وسأذكر منها ما يحتاج إليه مما ذكره المؤلف, وسأزيد عليه شيئاً يسيرًا إن شاء الله. فنأتي إلى حكم السلام في البداية وفضله, فقد جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «لا تدخلون الجنة حتى

تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم» (¬1) وجاء في الباب أخبار عدة. واختلف أهل العلم في حكم الابتداء بالسلام: فقال بعضهم: إنه واجب, واحتج بحديث البراء بن عازب - رضي الله عنه -، أنه قال: أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبع - ومنها «إفشاء السلام» (¬2) وأيضًا بما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «خمس تجب للمسلم على أخيه» ... وفيه: «إذا لقيته فسلم عليه» (¬3) وهذا أمر وقال قبله: تجب. ¬

(¬1) أخرجه مسلم (رقم: 54) وأخرجه أحمد (رقم: 9073) وأبو داود (رقم: 5193) والترمذي (رقم: 2688) وابن ماجه (رقم: 68) وابن حبان (رقم: 236). (¬2) أخرجه أحمد (رقم: 18699) والبخاري (رقم: 4880 و 5312) ومسلم (رقم: 2066) ولفظه لمسلم: عن معاوية بن سويد بن مقرن، قال: دخلت على البراء بن عازب فسمعته، يقول: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبع ونهانا، عن سبع، أمرنا بعيادة المريض واتباع الجنازة، وتشميت العاطس، وإبرار القسم أو المقسم، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام، ونهانا عن خواتيم، أو عن تختم بالذهب، وعن شرب بالفضة، وعن المياثر، وعن القسي، وعن لبس الحرير، والإستبرق، والديباج. (¬3) أخرجه أحمد (رقم: 10979) والبخاري (رقم: 1240) ومسلم (رقم: 2162) وأبو داود (رقم: 5030) وغيرهم، ولفظه عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: «حق المسلم على المسلم خمس: يسلم عليه إذا لقيه، ويشمته إذا عطس، ويعوده إذا مرض، ويشهد جنازته إذا مات، ويجيبه إذا دعاه» وفي رواية: «حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس» وفي رواية: == == «خمس تجب للمسلم على أخيه: رد السلام، وتشميت العاطس، وإجابة الدعوة، وعيادة المريض، واتباع الجنائز».

وذهب أكثر أهل العلم إلى أن الابتداء إنما هو سنة مؤكدة, واتفقوا جميعهم على أن الرد فرض, والمؤلف هنا مشى على أن الابتداء بالسلام سنة, والقول بالوجوب قول قوي, ولكن عامة أهل العلم على أنه سنة مؤكدة. ثم قال المؤلف: (السلام المبتدأ ............ والابتداء به سنة) وهذا لفظ حديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يسلم الصغير على الكبير، والمار على القاعد، والقليل على الكثير» (¬1) فالسنة جاءت بأن الصغير يسلم على الكبير, وأن الماشي على الجالس, وأن القليل على الكثير, وأن الراكب يسلم على الماشي, ومعناه أنه مؤكد في حق الصغير, ومؤكد في حق الماشي, وفي حق القليل, وحق الراكب, والتمس العلماء حكماً في سبب أمر هؤلاء بالابتداء, وهي ظاهرة, فنحن نغلب جانب الوارد على القارّ, لأنه قد تتعارض هذه المسائل, فيكون ماشٍ كبير على قاعد صغير, أو ماشٍ قليل على قاعدٍ ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق (رقم: 19445) أحمد (رقم: 8147) والبخاري (رقم: 6231) وأبو داود (رقم: 5198) والترمذي (رقم: 2704).

كثير, أو ماشٍ كثير على راكب قليل, فنغلب في هذه الأشياء جانب الوارد, سواءً كان الوارد كبيرًا أو قليلاً أو ماشيًا, فإنه يسلم على القاعد الصغير والقاعد الكثير والراكب القليل. وقوله عليه الصلاة والسلام: «يسلم الصغير على الكبير» هذا محمول على حالة التلاق، ولكن إذا كان الصغير قاعداً، والكبير ماشياً، فإن الكبير هو المأمور بالسلام؛ لأنه وارد على الصغير كما تقدم تقريره، وإذا ترك فيسلم الصغير، وأما حين التلاق والحركة من الطرفين فالصغير يسلم على الكبير والقليل على الكثير والراكب على الماشي. ثم قال المؤلف: (وإذا سلم الواحد ......... أجزأ عن الجماعة) عامة أهل العلم على أن الجماعة يجزئ عنهم أن يسلم الواحد منهم, ويجزئ عن القاعدين أن يرد أحدهم, وجاء هذا في حديث رواه أبو داود وأبو يعلى والبيهقي من طريق سعيد بن خالد الخزاعي قال حدثني عبد الله بن الفضل حدثنا عبيد الله بن أبي رافع عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يجزئ عن الجماعة أن يسلم أحدهم، ويجزئ عن

القاعدين أن يرد أحدهم» (¬1) والحديث جاء مرسلاً كما عند مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم (¬2) ومتصلاً كما عند أبي دواد وغيره (¬3) كما تقدم لكن إسناد المتصل ضعيف، وحسنه ابن عبد البر في التمهيد (¬4) وابن حجر في الفتوحات الربانية (¬5) وأعله الدارقطني في العلل (¬6)، وهذا الحديث ذكره الحافظ في بلوغ المرام ووهم حينما عزاه إلى أحمد إذ ليس هذا الحديث في المسند. (¬7) وقد قال لي شيخنا ابن باز -رحمه الله- التمسه في المسند. فقرأت مسند علي كله من المسند فلم أجده، فلما أصبحت أخبرته بذلك، وقلت ¬

(¬1) أخرجه البزار (رقم: 534) والبيهقي (رقم: 17725) وفي شعب الإيمان (رقم: 8922). وقال عقبه: فيه سعيد بن خالد الخزاعي ضعفه أبو زرعة وأبو حاتم وقال الدارقطني: والحديث غير ثابت تفرد به سعيد بن خالد وليس بالقوي. (¬2) الموطأ (رقم: 3524) وأخرجه عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم (رقم: 19443) وأخرجه البيهقي شعب الإيمان من طريق عبد الرزاق (رقم: 8923). (¬3) أخرجه أبو داود (رقم:5212) وأبويعلى (رقم:441) والبيهقي (رقم:17725). (¬4) التمهيد (5/ 290). (¬5) الفتوحات الربانية (3/ 39). (¬6) علل الدارقطني (4 / رقم 413). (¬7) انظر بلوغ المرام حديث (رقم: 1444).

له: الحافظ نفسه في شرح البخاري لم يعزه لأحمد (¬1). فقال الشيخ: هذا وهم وقع له في البلوغ رحمه الله، وأيضاً ليس في أطراف المسند الحنبلي للحافظ نفسه. وعليه فالجماعة إذا مروا يكون ابتداؤهم بالسلام سنةً كفائية. ثم قال المؤلف: (وإذا رد واحد ...... الجماعة) نقول إن سلم الجميع فهو أولى، والمراد بالجماعة: اثنان فصاعدًا, وحينئذ يكون الرد على القاعدين فرض كفاية, فيكفي عن الجماعة القاعدين أن يرد واحد منهم, ويسقط الرد عن البقية, ولكن بشرط: إذا سلم الواردون كلهم أو واحداً منهم بلفظ: "السلام عليكم", جمعاً, فإما أن يرد الجميع أو واحد منهم بلفظ: "وعليكم السلام", ولا يقول: "وعليك السلام", لأن الظاهر أن الأول سلم نيابة عن القادمين, فيجب أن يرد هذا نيابة عن القاعدين. فإذا سلم أحد الواردين على أحد القاعدين لم تحتسب السنة للبقية, وكان هذا السلام من أجل المعرفة الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - , فقد روى الطبراني في المعجم الكبير من طريق إبراهيم عن علقمة، قال: لقي عبد الله ¬

(¬1) فتح الباري (7/ 11).

بن مسعود أعرابياً ونحن معه، فقال: السلام عليك يا أبا عبد الرحمن فضحك، فقال: صدق الله ورسوله سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: «لا تقوم الساعة حتى يكون السلام على المعرفة وإن هذا عرفني من بينكم فسلم علي» (¬1) أي: يسلم على من يعرف, ويترك البقية, وهذا موجود سواءً كان في السلام أو المصافحة, فتجد بعض الناس يلتقي بعضهم مع بعض فيسلم الواحد على صاحبه الذي يعرفه ويترك البقية. ثم قال المؤلف: (وصفة السلام: ....... ورحمة الله وبركاته) أما الابتداء فيجوز: "سلام عليكم", والأفضل أن يكون معرفاً: "السلام عليكم", وكذلك يكون: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته", وفي الرد إن شاء قال: "وعليكم السلام", بالواو, وإن شاء قال: "عليكم السلام", وترك الواو ما ينبغي, وإن شاء قال: "السلام عليكم", حتى في ¬

(¬1) المعجم الكبير (9/ 297) وأخرجه وابن أبي شيبة (رقم: 210) وأحمد (رقم: 3664) ومشكل الآثار للطحاوي (رقم: 1373)، وللحديث شاهد من حديث ابن مسعود: «أن بين يدي الساعة تسليم الخاصة ...) الحديث رواه أحمد (رقم: 3870 و 3982) والبخاري في الأدب المفرد (رقم: 1049) والطحاوي في مشكل الآثار (رقم: 1371) والحاكم (رقم: 7043) وقال: صحيح الإسناد. قال الهيثمي (7/ 329):رواه أحمد والبزار والطبراني ورجال أحمد والبزار رجال الصحيح.

الرد, لما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خلق الله آدم وطوله ستون ذراعاً، ثم قال: اذهب فسلم على أولئك من الملائكة فاستمع ما يحيونك، تحيتك وتحية ذريتك، فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه: ورحمة الله» (¬1)، فيجوز في الرد أيضًا أن يقول الإنسان: "السلام عليك", والأفضل أن يقول: "وعليكم السلام", وسبق لنا أن هذا الرد فرض. وقد قال الله عز وجل: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (¬2) فالأمر بالرد بالأحسن عند أهل العلم للاستحباب وأما قوله تعالى: {أَوْ رُدُّوهَا} فهذا الفرض, فيقول لمن سلم عليه: "السلام عليك", أو "عليكم", "وعليكم السلام", ويستحب أن يقول: "ورحمة الله", وإن زاد فهو أفضل, وإذا سلم عليك: "السلام عليكم", أو قال "السلام عليكم ورحمة الله" وجب أن يرد عليه بقوله: "وعليكم السلام ورحمة الله", وسن أن يزيد: "وبركاته", وإذا سلم عليك: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته", وجب أن يقول: "وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته". ¬

(¬1) أخرجه البخاري (رقم: 3148 و 5873) ومسلم (رقم: 2641). (¬2) سورة النساء آية (86).

وهل بعد هذه الصورة الأخيرة رتبة فضل في رد السلام؟

وهل بعد هذه الصورة الأخيرة رتبة فضل في رد السلام؟ قال بعض أهل العلم: أن الإنسان إذا سُلم عليه: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته", فله أن يرد بما جاء من زيادة فضل في رد السلام, وهو أن يقول: "وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته", وذلك لما رواه البيهقي في الشعب, وابن عدي في الكامل والبخاري في التاريخ الكبير, من طريق إبراهيم المختار عن شعبة عن عون بن سعد عن أمامة بن عقبة عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه -، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سلم علينا فرددنا عليه السلام، قلنا: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته. (¬1) ولكن هذا الحديث فيه أكثر من علة: العلة الأولى: هي تفرد إبراهيم المختار وقد نبه على هذه العلة البيهقي في شعب الإيمان, فقال: رواه عن شعبة من ليس بالمعروف أو ليس بالمشهور, وأيضًا يرويه عن إبراهيم بن المختار محمد بن حميد الرازي, وهو ضعيف, فالصحيح أنه لا يثبت بعد البركة خبر، وأن زيادة ومغفرته ليس ¬

(¬1) التاريخ الكبير (رقم: 1037)، الكامل لابن عدي (7/ 127) شعب الإيمان (رقم: 8491). وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (11/ 6) أخرجه البيهقي في الشعب بسند ضعيف من حديث زيد بن أرقم. ا. هـ.

لها أصل في الأحاديث النبوية, وقد أنكرها جماعة من الصحابة, فقد صح عن ابن عباس - رضي الله عنه - كما أخرج ذلك مالك في الموطأ: "عن وهب بن كيسان عن محمد بن عمرو بن عطاء أنه قال: كنت جالسا عند عبد الله بن عباس فدخل عليه رجل من أهل اليمن فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ثم زاد شيئا مع ذلك أيضاً، قال ابن عباس: إن السلام انتهى إلى البركة. (¬1) وجاء ذلك أيضا عن ابن عمر رضي الله عنهما، بسند صحيح كما عند عبد الرزاق في مصنفه: أن رجلاً كان يلقى ابن عمر فيقول السلام عليك ورحمة الله وبركاته ومغفرته ومعافاته، قال: يكثر من هذا. فقال له ابن عمر: وعليك مئة مرة لئن عدت إلى هذا لأسوءنك. (¬2) فابن عمر قالها لمن سلم عليه: السلام عليكم ورحمة الله ومغفرة. وإن كانت في الابتداء ولكنه أنكرها. ¬

(¬1) الموطأ (رقم: 3525). (¬2) مصنف عبد الرزاق (رقم: 19453).

وجاء أيضا عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كما عند البيهقي في (الشعب) قال: انتهى السلام إلى وبركاته. ورجاله ثقات. (¬1) وقد استدل ابن عباس - رضي الله عنه - أن السلام قد انتهى إلى البركة بآية هود: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)} (¬2) كما أخرج ذلك ابن أبي حاتم في تفسيره: أن عطاء بن أبي رباح، قال: إن ابن عباس أتاهم يوما في مجلس، فسلم عليهم فقال: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته فقلت: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته فقال: من هذا؟ فقلت: عطاء فقال: انته إلى بركاته قال: ثم ذكر هذه الآية. (¬3) فالصحيح أن زيادة مغفرته وغيرها من الألفاظ (ومرضاته ومعافاته) لا يثبت فيها شيء, وحينئذٍ يكون الرد بهذه الصفة غير مشروع, وعليه فنقول إذا سُلِّم عليك: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته", فليس لك إلا هذا الخيار, وهو الرد عليه إلى البركة فقط؛ كما جاء ذلك عن عروة بن ¬

(¬1) فتح الباري (11/ 6). (¬2) هود: 73. (¬3) تفسير ابن أبي حاتم (رقم 11031) وأخرجه الحاكم (2/ 344).

الزبير عند البيهقي في الشعب بسند صحيح: أن رجلا سلم عليه، فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال عروة: ما ترك لنا فضلاً، إن السلام انتهى إلى: وبركاته. (¬1) وجاء في فضل درجات هذا الرد ما أخرجه أبو داود والنسائي وغيرهما من حديث عمران بن حصين: أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: السلام عليك، ثم قال: «وعليكم السلام» ثم قعد, فقال: «عشر» , ثم سلم عليه مرة أخرى رجل آخر, فقال: «السلام عليك ورحمة الله» ثم قعد فرد عليه, وقال: «عشرون» ثم سلم عليه آخر، فقال: السلام عليك ورحمة الله وبركاته, ثم قعد, فرد عليه، ثم قال: «ثلاثون» (¬2) وهذا هو القدر المحفوظ من حديث عمران. ¬

(¬1) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (رقم: 9096). (¬2) أخرجه أحمد (4/ 439) وأبو داود (رقم: 5197)، النسائي في الكبرى (رقم: 10169) والترمذي (رقم: 2689) الدارمي (رقم: 2669) من حديث عمران بن الحصين وقال البزار في مسنده (رقم: 3588): وهذا الحديث قد روي نحو كلامه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه، وأحسن إسناد يروى في ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الإسناد، وإن كان قد رواه من هو أجل من عمران فإسناد عمران أحسن) أ. هـ. وقال البيهقي في الشعب (رقم: 8480) إسناده حسن. وقال الحافظ في الفتح (11/ 6): سنده قوي، وأخرجه البخاري في الأدب المفرد (رقم: 986) وابن حبان في صحيحه (رقم: 493) من حديث أبي هريرة.

وأخرج أبو داود في سننه من حديث سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعناه -أي بمعنى حديث عمران - زاد: ثم أتى آخر، فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته، فقال: «أربعون» قال: «هكذا تكون الفضائل» (¬1) ولا يصح. قوله: (ولا يستحب الزيادة على ذلك) وهذا هو الصواب كما قررنا فيما تقدم. ثم قال المؤلف: (ويستحب ورحمة الله ........ أو ردوها). الصواب أنه ليس بمستحب, فما المانع إن أُسلمَ سلامًا كاملاً, ويردُ علي السلام كاملاً، ففي كلام المؤلف هنا نظر. ثم قال المؤلف: (وإذا سلم ثم حال ...... ورضي عنهم.) ما ذكره المؤلف هنا هو نص حديث عند أبي داود من حديث معاوية بن صالح عن أبي موسى عن أبي مريم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه فإن حالت بينهما شجرة أو جدار أو حجر ثم لقيه فليسلم عليه أيضا. وقال معاوية وحدثني عبد الوهاب بن بخت عن أبي ¬

(¬1) أخرجه أبو دواد (5198) والطبراني في الكبير (رقم: 390) قال الحافظ في الفتح (11/ 8) سنده ضعيف.

الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مثله سواء. (¬1) وهذا الإسناد حسن في الشواهد، وقد جاء ما يشدهُ كما أخرج الطبراني من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -، قال: كنا إذا كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتفرق بيننا شجرة، فإذا التقينا سلم بعضنا على بعض. رواه الطبراني بإسناد حسن. (¬2) ومن المعلوم أن السلام مشروع عند التلاقي, والتلاقي أعم من أن يكون له صورة واحدة، وأعم من أن يكون غياب عن النظر, وقد تلتقي به بعد أن فارقته ولم يغب عن ناظريك, وقد كان هذا هو هدي الصحابة - رضي الله عنهم - كما تقدم عن أنس، أنهم إذا كانوا يمشون وكان بينهم جدار أو شجرة أو ما شابه ذلك والتقوا بعد ذلك, يسلم بعضهم على بعض, تحقيقاً لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا لقيته فسلم عليه» (¬3) ¬

(¬1) سنن أبي داود (رقم: 5200) والبخاري في الأدب المفرد (رقم: 1010) وأبو يعلى (رقم: 6350) والبيهقي في الشعب (رقم: 8468). (¬2) الطبراني في الأوسط (رقم: 7987) وأخرجه الطحاوي في مشكل الآثار (رقم: 4494) والبخاري في الأدب المفرد (رقم: 1011) والبيهقي في الشعب (رقم: 8861) وابن السني في عمل اليوم والليلة (رقم: 245) قال الحافظ في التلخيص (4/ 93): رواه الطبراني بسند حسن. (¬3) سبق تخريجه ص.

وفي هذا من الفوائد أنه يشرع السلام وإن لم تتحقق صورة الانفصال والغياب عن النظر, ومن الأدلة على هذا حديث المسيء صلاته (¬1) , فإنه أتى وصلى صلاة ليست بشرعية, ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسلم عليه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: وعليكم السلام، ارجع فصل فإنك لم تصل» فذهب الرجل يصلي والنبي - صلى الله عليه وسلم - ينظر إليه, بدليل أنه لما رجع، قال: «ارجع فصل فإنك لم تصل» وسلم مرة ثانية وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على السلام, وفي هذا دلالة على شرعية السلام عند المفارقة العرفية, وإن لم تتحقق صورة الانفصال والبعد عن النظر, ومعلوم أن الإنسان إذا التقى بشخص في مكان واسع, ثم ذهب أحدهم ثم رجع فإننا نقول: فارقه، وفي البيوع تقرر ذلك حين المفارقة العرفية. وعليه فإذا تمت المفارقة العرفية وتحققت صورة الانفصال عن مسمع أو مرأى فيشرع السلام حينئذ عند التلاق. ثم قال المؤلف: (ويكره السلام ..... التجائر والصنائع) سبق أن ذكرنا أن السلام مشروع بعامة, وهو من حق المسلم على أخيه، فهل هذا يشمل السلام بين الرجال والنساء؟ ¬

(¬1) أخرجه البخاري (رقم: 724 و 760) ومسلم (رقم: 397) وغيرهما.

السلام على النساء على أقسام

نقول: الأصل العموم, فإن الإنسان يسلم على كل أحد؛ لكن في مسألة السلام على النساء تفصيل، فالنساء ينقسمن بالنسبة إلى المُسلِّم إلى أقسام: القسم الأول: أن يكن محارماً. القسم الثاني: أن يكن أجانب عن الرجل لكنهن من معارفه. القسم الثالث: أجانب غير معارف. فأما القسم الأول: وهن المحارم فلا إشكال في ذلك ,وهن: من تحرم على الرجل على التأبيد, بنسب, أو سبب مباح, ويلحق بذلك الزوجة، فالإنسان يسلم على زوجه ومحارمه, كأمه, وأخته, وابنته, وعمته, وخالته, وابنة أخيه, وابنة أخته, وحديث السلام ينطبق على هذا الوصف بلا إشكال. القسم الثاني: أجانب معارف. والأجنبية: هي من سوى المحارم , فالصحيح أنه يجوز السلام عليها, كابنة العم, فإنها أجنبية, ويحل أن يتزوج منها, ويلقي السلام عليها إن لم يكن هناك فتنة, وهذا للقرابة وكذلك ابنة الخال للمعرفة, إن لم يكن هناك فتنة, ويلحق بهؤلاء زوجة الأخ, وأخت الزوجة, فإنهن أجانب معارف؛ لأن الصلة في مثل هذه الأمور قد تعارف الناس على أنها مستحبة, فيكره

ترك السلام عند اللقاء, لكثرة التلاقي بين هؤلاء الأجناس ولأن ترك السلام عند اللقاء هنا قد يدل على وحشة وجفاء, ما لم يكن هناك فتنة ظاهرة. القسم الثالث: أجانب غير معارف وهن من سوى ذلك, من نساء العالمين، وهؤلاء لا يشرع السلام عليهن إن كن شوابّ, وعلى هذا جمهور السلف, وعلله المؤلف بقوله: (فإن ذلك يجلب جوابهن وسماع أصواتهن وعساه يجلب الفتنة وكم من صوت جر هوى وعشقا) ولا شك أن الأجنبية من غير المعارف لا يشرع استنطاقها إلا لحاجة وحينئذ لا يشرع السلام عليها، ولهذا هي لا تؤذن ولا تقيم ولا تنبه في الصلاة؛ إلا بالتصفيق خشية الفتنة, ثم إن ترك السلام عليها لا ينافي الإفشاء. ومحادثة المرأة الأجنبية لا يجوز إلا للحاجة، وتكون هذه المحادثة بقدر تلك الحاجة، وإلا هو باب فتنة وبلاء، والتلذذ بذلك من المحرمات ومما يفسد قلب العبد، ويجلب له المصائب.

والله عز وجل نهى النساء عند محادثة الرجال عن الخضوع بالقول، وهو تليينه وترقيقه، فنهى الله نساء نبيه عن ذلك وهن سيدات نساء الأمة رضي الله عنهن، فقال تعالى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32)} (¬1) والنهي عن الخضوع بالقول فيه إباحة للقول دون ذلك، لأن النهي عن الأخص مستلزم لجواز الأعم، وشواهد ذلك من السنة لا تحصر، وأمَّا ما أخرجه أحمد في المسند من حديث أم عطية رضي الله عنها، قالت: ... «كنت فيمن بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان فيما أخذ علينا أن لا ننوح ولا نُحَدِّث من الرجال إلا محرماً (¬2)» فلا يصح. وروي النهي عن محادثة النساء ولا يصح أيضاً. (¬3) ولكن يستثنى من الأجانب غير المعارف صنفاً واحداً وهنَّ العجائز, فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يسلمون على العجائز, ومن ذلك ما وقع في حديث سهل بن سعد في صحيح البخاري، أنه قال: إنا كنا نفرح ¬

(¬1) سورة الأحزاب آية (32). (¬2) مسند أحمد (رقم: 20817). (¬3) ذكره السيوطي في الجامع الصغير (فيض القدير: 3/ 166) وعزاه إلى الحكيم الترمذي في كتاب الحج من حديث سعد بن مسعود ثم رمز له السيوطي بالضعف.

بيوم الجمعة، كانت لنا عجوز تأخذ من أصول سلق لنا، كنا نغرسه في أربعائنا، فتجعله في قدر لها فتجعل فيه حبات من شعير - لا أعلم إلا أنه قال - ليس فيه شحم ولا ودك، فإذا صلينا الجمعة زرناها فقربته إلينا، فكنا نفرح بيوم الجمعة من أجل ذلك. (¬1) مع العلم أنه ليس كل الذين مع سعد من المحارم, أو قد لا يكون سعد من محارمها، فالعجوز القاعدة عن النكاح لا بأس بالسلام عليها إذ لا فتنة. قول المؤلف (والبارزات لعدم الفتنة بأصواتهن) المراد بالمرأة البرزة: هي المرأة التي تحتاج إلى الخروج لتجارة, أو عمل, وعادة تكون كبيرة؛ لأن الأبكار والعواتق وذوات الخدور والعذارى, يكن في أماكنهن لا يخرجن, فقد كان نبينا - صلى الله عليه وسلم -: «أشد حياءً من العذراء في خدرها». (¬2) ¬

(¬1) صحيح البخاري (2/ 827). (¬2) أخرجه أحمد (رقم: 11701) والبخاري (رقم: 3369) ومسلم (رقم: 2320).

وفي حديث أم عطية: كنا نخرج العواتق والحيض وذوات الخدور في صلاة العيد. (¬1) ففي ذلك الوقت كان لا يخرج في الغالب إلا الكبار، فقد كانت المرأة البرزة وهي الكبيرة تخرج وتتعاطى أموراً، وتحتاج أن تكلم الرجال وقد نص أهل العلم على أن البرزة يجوز السلام عليها. وبناء على ما تقدم فتنقسم الأجنبيات إلى ثلاثة أقسام: 1: الشابة فيترك السلام عليها بالاتفاق. 2: العجوز الكبيرة فيسلم عليها. 3: الكبيرة غير العجوز فيشرع السلام إذا احتيج إلى ذلك؛ كأن يكون لها حرفة، وإن لم يكن لها شيء من ذلك، ولم تكن هناك حاجة، فقد يقال: لا يشرع السلام. ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 20818) والبخاري (رقم: 344) ومسلم (رقم: 890).

ثم قال المؤلف: (ولا بأس بالسلام ... على حسن المعاشرة.) الصبي هو: من لم يبلغ، فكل من لم يبلغ فهو صبي، وقد جاء في الصحيحين من حديث أنس - رضي الله عنه -: أنه مر على صبيان فسلم عليهم، وقال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله. (¬1) وبوب عليه البخاري باب التسليم على الصبيان. (¬2) وتأمل كيف بدأهم بالسلام عليه الصلاة والسلام , مع قوله ليسلم الصغير على الكبير. . كل هذا من كمال خصاله وجميل فعاله بأبي هو وأمي , وحتى يتربى الصغار على مثل هذا فإن الصبية يحتاجون للتكرار في التعليم والتربية. فيسلم على الصبيان حتى لو كانوا منفردين, وهذه هي سنته عليه الصلاة والسلام. والتسليم على الصبيان من إفشاء السلام, ومن حسن الأدب معهم, سواء غلب على ظنه أنهم سيردون أم لا، ويشمل هذا الصبيات أيضاً ما لم يكن هناك ريبة، وفي سلامه - صلى الله عليه وسلم - عليهم دلالة لما تقدم ذكره من أن المارّ هو الذي يسلم على القارّ كما تقدم تقريره في جميع الأحوال وهذا ظاهر بحمد الله. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (رقم: 5893) وصحيح مسلم (رقم: 2168). (¬2) صحيح البخاري (5/ 2305).

ثم قال المؤلف: (ويستحب السلام ........ أشد استحباباً) جاء هذا في السنن من طريق محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «إذا انتهى أحدُكم إلى المجلس فَلْيُسَلِّمْ فإن بدا له أن يجلسَ فليجلسْ ثم إذا قام فَلْيُسَلِّمْ فليست الأُولَى بِأَحَقَّ من الآخرة» (¬1) يعني ليس السلام الأول بأحق من السلام الآخر، فإذا قدمت على أناس جلوس فسلم، فإذا قمت فسلم إذا كانوا جلوساً, فإن انصرفوا جميعاً فإنه يسلم إذا فارقهم, ويُنَزَّل الفراق منزلة الانصراف من المجلس. ثم قال المؤلف: (والدخول أشد استحباباً) وهذا لا شك فيه كما تقدم. ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 9662) وأبو داود (رقم: 5210) والنسائي (رقم: 10201) والترمذي (رقم: 2706) وقال: حسن. وابن حبان (رقم: 494). وقال النووي في الأذكار: أسانيده جيدة، وقال الحافظ في تخريج الأذكار: هذا حديث حسن. انظر الفتوحات الربانية (3/ 87).

فصل: والمصافحة مستحبة بين الرجلين

فَصْلٌ وَالمُصَافَحَةُ مُسْتَحَبَّةٌ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ، وَلَا تَجُوْزُ مُصَافَحَةُ النِّسَاءِ الشَوَابِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُثِيْرُ الشَّهْوَةَ. وَلَا بَأْسَ بِالْمُعَانَقَةِ، وَتَقْبِيْلِ الرَّأْسِ وَاليَدِ، لِمَنْ يَكُوْنُ مِنْ أَهْلِ الدِّيْنِ أَوِ العِلْمِ أَوِ كِبَرِ السِّنِّ فِيْ الإِسْلَامِ. وَيُسْتَحَبُّ القِيَامُ لِلإِمَامِ العَادِلِ، وَالوَالِدَيْنِ، وَأَهْلِ الدِّيْنِ وَالوَرَعِ وَالعِلْمِ وَالكَرَمِ وَالنَّسَبِ، وَلَا يُسْتَحَبُّ لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ. قال المؤلف: (والمصافحة مستحبة .... ذلك يثير الشهوة) في هذا الفصل تكلم المؤلف عن أحكام المصافحة، والمصافحة لا شك أنها من السنن بين الرجال بعضهم بعضاً, وبين النساء بعضهن بعضاً. والمصافحة حكمها: أنها سنة مؤكدة، وقد جاءت الأخبار في مشروعية المصافحة منها ما جاء في صحيح البخاري عن قتادة، قال: قلت لأنس - رضي الله عنه -: أكانت المصافحة في أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم. (¬1) ¬

(¬1) أخرجه البخاري (رقم: 5908).

فائدة: في المصافحة والأخذ باليدين

وما جاء في صحيحي البخاري ومسلم في حديث كعب بن مالك - رضي الله عنه - في قصة توبته، قال: فقام إلي طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه - يهرول، حتى صافحني وهنأني. (¬1) وما جاء بسند صحيح في سنن أبي داود عن أنس - رضي الله عنه -، قال: لما جاء أهل اليمن، قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قد جاءكم أهل اليمن» وهم أول من جاء بالمصافحة. (¬2) فائدة: المصافحة تكون بين المتصافحين باليد اليمنى .. وهذا معلوم .. وقد سألت شيخنا ابن باز - رحمه الله - عمن شُلّت يده اليمنى، أو بها علة هل يصافح باليسرى فأجاب: نعم. فائدة أخرى: المصافحة بكلتا اليدين عند الاحتفاء مباحة لا سنة ولا بدعة .. قال البخاري -رحمه الله- باب: الأخذ باليد، وصافح حماد بن زيد ابن المبارك بيديه .. وقال شراح الحديث إن الأخذ باليد هو مبالغة في المصافحة .. قلت: هو نوع احتفاء بالمصافَح. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (رقم: 4156) ومسلم (رقم: 2769). (¬2) أخرجه أبو داود (رقم: 5215) وأخرجه أحمد (رقم: 13649) ولفظه: «قد جاءكم أهل اليمن هم أرق منكم قلوبا» قال أنس: وهم أول من جاء بالمصافحة. والبخاري في الأدب المفرد (رقم: 967) قال النووي في رياض الصالحين (456): سنده صحيح.

وفُهم من قول المؤلف: (ولا تجوز مصافحة النساء الشواب) أنه يجوز مصافحة النساء غير الشواب, وفي هذا نظر, والصواب أنه لا يصافح الإنسان إلا زوجه أو محارمه من النساء, ولا يصافح المرأة الأجنبية البتة, وهناك من أهل العلم من أجاز مصافحة الأجنبية إذا كانت عجوزاً, وهذا ظاهر كلام المؤلف, لكن جمهور أهل العلم على تحريم مصافحة الأجنبية مطلقاً, والراجح عندهم أيضاً أنها ولو كانت عجوزاً, والدليل على هذا ما جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: ما مست يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يد امرأة قط. (¬1) وكان يبايع عليه الصلاة والسلام البيعة بالكلام مع الحاجة إلى ذلك؛ كما هو حديث أميمة بنت رقيقة في الموطأ وغيره، قالت: يا رسول الله بايعنا، قال: «إني لا أصافح النساء، إنما قَولي لامرأة قولي لمائة امرأة» (¬2) وقال بعضهم: لا بأس أن يصافح المرأة الأجنبية من وراء حائل, وتمسكوا ببعض الأخبار التي ليس لهم فيها متمسك, وفي بعضها أنه كان على يده قطعة قماش, ولكن لا يصح في هذا الباب شيء. وننبه على حديث رواه الطبراني في الكبير: من طريق شداد بن سعيد الراسبي، قال: سمعتُ يزيد بن عبد الله بن الشخير، يقول: سمعتُ معقل ¬

(¬1) أخرجه البخاري (رقم: 4609) وصحيح مسلم (رقم: 1866). (¬2) أخرجه وأحمد (رقم: 27051) والترمذي (رقم: 1597) والنسائي (رقم: 7756).

بن يسار، أنه قال: سمعت الرسول - صلى الله عليه وسلم -، قال: «لأن يُطعن في رأس أحدكم مخيط من حديد خير له من أن يمس يد امرأةً لا تحل له» (¬1) وصححه بعض المتأخرين, (¬2) , ووهم في ذلك, والصواب أنه من قول معقل بن يسار، كما أخرج ذلك ابن أبي شيبة في المصنف من طريق بشير بن عقبة، قال: حدثني يزيد بن عبد الله الشخّير، عن معقل بن يسار، قال: لأن يعمد أحدكم .... , الحديث موقوف على معقل. (¬3) ولكن هذا قول صحابي لا يخالفه أحد, فالصحيح أن المرأة الأجنبية لا يُمَسُّ بدنها ولو من وراء حائل، لأن العورات متى كانت عورة فإنه لا يجوز النظر إليها, ولا مسها مباشرة, ولا مسها من وراء حائل, ولهذا جاء في الحديث النهي عن النظر إلى العورات، كما في حديث جرير عند مسلم، قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نظر الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري. (¬4) ¬

(¬1) أخرجه الطبرانى (رقم: 487). (¬2) السلسلة الصحيحة (رقم: 226). (¬3) مصنف ابن أبي شيبة (رقم: 17310). (¬4) أخرجه مسلم (رقم: 2159) وأخرجه أبو داود الطيالسي (رقم: 672) وأحمد (رقم: 19220) وأبو داود (رقم: 2148) والترمذي (رقم: 2776) والنسائي (رقم: 9233).

وأيضا من حديث بريدة عند أبي داود، والترمذي، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي - رضي الله عنه -: «يا علي، لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى، وليست لك الآخرة» (¬1) ومعلوم أن النهي في نظر الفجأة هنا إنما هو عن النظر إلى المحرم من العورات، ونحوها، أما لو وقع نظره على شيء مباح لم يؤمر بصرفه، والله أعلم. وجاءت الأحاديث أيضا في النهي عن مس المرأة الأجنبية كما تقدم, وجاءت الأخبار أيضاً بما ثبت في الصحيح: أن رجلاً من الأنصار كسع رجلاً من المهاجرين - أي ضربه على دبره- فغضب المهاجري، فقال: يا للمهاجرين, فغضب الأنصاري بعد ما خاصمه المهاجري، وقال: يا للأنصار. (¬2) والمقصود أنه لما ضربه على دبره أغضبه, وقال أهل العلم إن ضرب الرجل الرجلَ الآخر على العورة المغلظة لا يجوز, ولو من وراء الثياب, ولو كان بين النساء، بينما يجوز مس الفخذ من الغير إذا كان مستوراً ولم تكن هناك فتنة, فقد ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - على فخذ أبي ذر كما في صحيح ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (رقم: 2149) والترمذي (رقم: 2777) وقال: حسن غريب. (¬2) أخرجه البخاري (رقم: 4622) ومسلم (رقم: 2584) وأخرجه عبد الرزاق (رقم: 18041) وأحمد (رقم: 15260) والترمذي (رقم: 3315) والنسائي (رقم: 8863).

مسلم (¬1) , وهذا يدل على أن الفخذ عورة مخففة, ليست عورة مغلظة, فهي عورة في باب النظر, فلا يجوز النظر إليها, ويجب سترها في الصلاة, لكن يجوز مسها من وراء الثياب ما لم تكن فتنة, أما العورة المغلظة, كالسوأتين والإلية, فلا يجوز مسها من وراء الثياب من الغير. مسألة: إذا كان الإنسان يصلي ومر بينه وبين سترته امرأة, وقد عُلم أن المرأة والرجل وغيره ممن يمر بينك وبين سترتك أنك تدافعه فهل له أن يدفعها؟ الجواب: نعم يجوز أن يدفع المرأة لأن هذا المس غير مقصود للمرأة, ولأنها قد تنزجر قبل وصول اليد إليها, ولأن مسها باليد مس عارض يسير لدفع إبطال الصلاة, ثم إنه إن لم يمنعها ستبطل صلاته, لأن المرأة إذا مرت بين الرجل وبين محل سترته بطلت صلاته, لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يقطع صلاة الرجل إذا لم يكن بين يديه كمؤخرة الرحل، المرأة، والحمار، والكلب الأسود» (¬2) ¬

(¬1) أخرجه مسلم (رقم: 648) ولفظه: عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضرب فخذي كيف أنت إذا بقيت في قوم يؤخرون الصلاة عن وقتها؟ قال قال ما تأمر؟ قال صل الصلاة لوقتها ثم اذهب لحاجتك فإن أقيمت الصلاة وأنت في المسجد فصل. (¬2) أخرجه أبو داود الطيالسي (رقم: 453) وأحمد (رقم: 21361 و 21415) وأبو داود (رقم: 702) والترمذي (رقم: 336) وقال: حسن صحيح. والنسائي (رقم: 750) = = وابن ماجه (رقم: 952) وأخرجه مسلم (رقم: 510) ولفظه عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر - رضي الله عنه -: «إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل، فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل؛ فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود» قلت: يا أبا ذر ما بال الكلب الأسود، من الكلب الأحمر، من الكلب الأصفر؟ قال: يا ابن أخي، سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما سألتني، فقال: «الكلب الأسود شيطان».

مسألة: من أحكام المصافحة

ومالا يتم الواجب إلا به فهو واجب, ولا يتم حفظ الصلاة إلا بدرء المرأة, فحينئذ يشرع, وقد نص على هذا شيخنا ابن عثيمين - رحمه الله - أنه لا بأس برد المار ولو كان امرأة, ولو لزم من ذلك مسها, لأنه إذا مست هذه المرأة في هذه المرة فإنها تتأدب في المرات الأخرى. مسألة: من أحكام المصافحة: مصافحة الكفار, فهل يجوز مصافحة الكفار؟ الجواب: نقول: مصافحة الكفار تابعه للسلام عليهم, ونرجع حينئذٍ إلى السلام عليهم, فأما ابتداء الكافر بالسلام فلا يجوز, وقد جاء عند مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه» (¬1) فإذا كان لا يجوز ابتدائهم بالسلام فلا يجوز ابتدائهم بالمصافحة, وعلى هذا إذا دعا الأمر أن تتعامل مع شخص كافر, ثم أراد أن يسلم ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 8542) ومسلم (رقم: 2167) وأبو داود (رقم: 5205).

عليك فلا تبتدئه, فإذا قال هو: السلام عليكم ورحمة الله, فقل: وعليكم السلام, وهل يقول: ورحمة الله؟ نعم, يقول: ورحمة الله, وأما قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)} (¬1) فمعنى تبين لهم: أي بالموت, فعلى هذا فلا بأس بالرد عليه: وعليكم السلام ورحمة الله, وإسلام الكافر ممكن, وهذا إذا أوضح لفظ السلام, وقد كان اليهود يسلمون على النبي - صلى الله عليه وسلم - , فيقولون: السام عليك يا محمد- أي الموت- فيقول عليه الصلاة السلام: «وعليكم» (¬2) واختلف أهل العلم في الرد على أهل الكتاب, هل يقول وعليكم مطلقاً سواء أفصحوا اللام أم لم يفصحوا؟ ¬

(¬1) التوبة: 113. (¬2) أخرجه البخاري (رقم: 2777) ولفظه عن عائشة رضي الله عنها: أن اليهود دخلوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: السام عليك. فلعنتهم. فقال: «ما لك» قلت: أو لم تسمع ما قالوا؟ قال: «فلم تسمعي ما قلت وعليكم» وفي (رقم:5902): عن ابن عمر - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم السام عليك، فقل: وعليك».

الجواب: قال بعضهم: لا يسلم عليه إلا بقوله: وعليكم, سواء كان السلام ظاهراً أو غير ظاهر, وقال بعضهم: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فإنما يقولوا السام عليكم» (¬1) فنص على أن هذا الرد في هذه الصفة, فأما إذا أوضح لفظ السلام فحينئذٍ نرد السلام, وهذا هو الصحيح وهو اختيار ابن القيم في كتابه أحكام أهل الذمة (¬2) , وإذا مد يده فمد يدك, أما إذا لم يمد يده فلا تبتدئه. وحينئذٍ نقول: لا يجوز البُداءة بمصافحة الكافر، أما إذا كان المصافح امرأة, فهذا أعم من أن يكون في مسألتنا, وقد تكون امرأة أجنبية, فإذا دنا الإنسان من امرأة من غير محارمه لسبب أو لآخر, فمدت يدها تريد السلام, فحينئذٍ امتنع ولا تمد يدك, فإن قال قائل: في هذا إحراج للمرأة, وقد تكون كافرة فتزداد بلاءاً, أو تكره الإسلام بسببك, وقد تكون ¬

(¬1) ونصه عن أنس - رضي الله عنه -: جاء رجل من أهل الكتاب، فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: السام عليكم، فقال عمر - رضي الله عنه -: يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟ قال: «لا، إذا سلموا عليكم، فقولوا: وعليكم» وفي رواية: مر يهودي برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: السام عليك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وعليك» فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أتدرون ما يقول؟ قال: السام عليك» قالوا: يا رسول الله ألا نقتله؟ قال: «لا إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم» أخرجه أحمد (رقم: 13225 و 13317) والبخاري (رقم: 6927). (¬2) أحكام أهل الذمة (1/ 426).

مسلمة فتحقد عليك, فنقول: فليكن ذلك, لأن مس يد الأجنبية محرم, سواء كانت مسلمة أو كافرة. لكن نقول أولاً: حتى لا تقع في هذا الموقف المحرج لا تَدْن من المرأة الأجنبية، اجعل بينك وبينها مسافة لا تسمح لها أن تمد يدها إليك، وأيضاً ضم يديك حتى تشعرها بأنك لن تصافح حتى تتخلص من هذا الموقف وتخلصها معك. وقد ذكرنا فيما تقدم السلام على المعارف غير المحارم من النساء, وأنك لا تصافحها لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك, وقد يكون الإنسان في البداية يواجه هذا الإحراج, ثم بعد ذلك سيعلمون أن هذا الرجل لا يصافح النساء, فيكون السلام بعد ذلك كلاماً, فتنتهي المشكلة. وقد وقع لبعض الصحابة شيء نظير هذا الشيء - ليس المصافحة إنما نوع آخر من أنواع عدم قبول الشيء لأجل أنه لا يحل - فقد أخرج البخاري ومسلم عن الصعب بن جثامة الليثي: أنه أهدى لرسول الله صلى - صلى الله عليه وسلم - حمارا وحشيا وهو بالأبواء أو بودان فرده عليه فلما رأى- أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ما في وجهه - وكان مضيافاً - رضي الله عنه - قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم» (¬1) ¬

(¬1) أخرجه البخاري (رقم: 1729 و 2434) ومسلم (رقم: 1193).

يعني لم أرده عليك كراهية لهديتك, أو طعناً فيها, أو بشخصك, ولكن لأننا محرمون, ففرح بذلك، وذهب ما في نفس الصعب - رضي الله عنه - , فالإنسان يعتذر في مثل هذه الأشياء ويذكر كلاما مناسبا, والصدق مع الله نجاة , وعواقبه لذيذة. وأما قوله: (ولا بأس بالمعانقة .... في الإسلام). فهذا من باب الإكرام وليس له علاقة بالتحية لأن التحية الشرعية في الإسلام هي: (السلام والمصافحة) فالسلام بالكلام , والمصافحة باليد. أما تقبيل الرأس أو اليد فهذا من باب الإكرام, وبعض الناس يغلط, فيقابل كبير السن أو العالم, ويأخذ برأسه ويقبله, ويظن أن هذا سلام, فلا يصافحه ولا يسلم عليه, فإن قال: السلام عليكم, وأخذ برأسه وقبله, فهذا لم يصافحه, فنقول: السنة أن تصافح, وتقول: السلام عليكم, فإن كان بعد ذلك إكرام من تقبيل الرأس أو اليد، فهذا لا بأس به, وهذا من باب الإكرام, وليس له علاقة بالسلام, ولهذا المؤلف قال: (ولا بأس بالمعانقة) , لأنها من باب التبع وليست من التحية. وقد جاء في المعانقة في سنن الترمذي من حديث حنظلة السدوسي عن أنس - رضي الله عنه - قال:

يا رسول الله, الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال: «لا» قال: أفيلتزمه ويقبله. قال: «لا» قال: أفيأخذ بيده؟ قال: «نعم» (¬1) وهذا الحديث من منكرات حنظلة السدوسي, وهو على قلة روايته منكر الحديث, ونقول: السنة عند الملاقاة المصافحة فقط إذا كان في الحضر, وكثرة اللقاء, فالمصافحة كافية مع السلام, أما إذا كان من سفر أو غيبة طويلة فتشرع المعانقة, فقد روى الطبراني في الأوسط بإسناد لا بأس به عن أنس - رضي الله عنه -، قال: كان أصحاب النبي إذا تلاقوا تصافحوا، وإذا قدموا من سفر تعانقوا. فالمعانقة إنما تكون عند القدوم من الأسفار, هذا ما فعله الصحابة. ومعنى المعانقة: أن يلي العنق العنق ويحاذيه, والغيبة الطويلة تنزل منزلة القدوم من سفر، وهذا من باب القياس، لا سيما مع اتساع البلاد, وقد كانوا من قبل في حي واحد صغير, حتى كان الجامع الواحد يكفي البلد, ولم يحدث جامعان في مصر واحد؛ إلا في بغداد سنة 282هـ, كما قال بعض علماء المالكية في خلافة المعتضد: كان في كل مصر جامع واحد ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (رقم: 2728) أخرجه أحمد (رقم: 13075) وعبد بن حميد (رقم: 1217) وابن ماجه (رقم: 3702) واستنكره الأمام أحمد كما في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (3/ 240).

يكفي أهل البلد، حتى جاءت خلافة المعتضد سنة 282هـ فأحدث جامع آخر لكثرة الناس. وتقبيل الرأس شائع في عصرنا, مع أنه في النصوص قليل بل نادر, وأما تقبيل اليد فاختلف فيه أهل العلم: فمنهم من كرهه وشدَّدَ فيه, حتى قال مالك: هو السجدة الصغرى, ومنهم من رخص فيه وجاءت أخبار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَبَّلَ يده بعض الصحابة. (¬1) وبعض أسانيدها لا بأس بها, وجاء عن بعض التابعين أنه فعل ذلك مع أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) فتقبيل اليد موجود عند السلف على قلّته, وتقبيل اليد يباح لثلاثة: للعالم الورع, وللوالدين, والإمام العادل, أما فعل هذا لأهل المال والجاه والمناصب فمكروه وأما فعله للولاة الظلمة ومن لا يقيم للدين قدرا فمحرم كما قال النووي (¬3) - رحمه الله - وأما فعل هذا لأئمة الضلالة ¬

(¬1) انظر: ابن أبي شيبة (رقم:34374) وأبو داود (رقم: 2649) والبخاري في التاريخ الكبير (رقم:2048) وفي الأدب المفرد (رقم:972) والبيهقي (رقم:13968). (¬2) انظر: جزء الرخصة في تقبيل اليد لأبي بكر بن المقرئ فقد جمع الأحاديث الواردة فيه. (¬3) قال الإمام النووي في روضة الطالبين: (10/ 236): وأما تقبيل اليد فإن كان لزهد صاحب اليد وصلاحه أو علمه أو شرفه وصيانته ونحوه من الأمور الدينية فمستحب، وإن كان لدنياه وثروته وشوكته ووجاهته ونحو ذلك فمكروه شديد الكراهة.

المبتدعة, وشيوخ الخرافات, فلا شك أن فعل هذا من الكبائر لما فيه من تعظيم أهل الضلالة وفتن الناس بذلك؛ والغالب أن هذا يفعله بهم مريدوهم وأصحابهم ومن هلكوا بسببهم, وقد أدركنا بعض هؤلاء الهلكى, وكان يقبله مريدوه كما يقبلون الحجر الأسود. قول المؤلف: (ويستحب .... ولا يستحب لغير هؤلاء) القيام على أربع صور: الصورة الأولى: القيام على رأس من يراد حراسته، وهذا مباح. كقيام الصحابة على رأس النبي - صلى الله عليه وسلم - لحراسته عام صلح الحديبية أثناء عقد الصلح، وغيره. الصورة الثانية: القيام للقادم ونحوه تعظيماً، وهذا محرم. وفيه حديث معاوية «مَنْ أَحبَّ أن يَمْثُلَ لهُ الناسُ قياما، فَليَتَبَوَّأ مَقْعَدَهُ من النار». أخرجه أبو داود وغيره وهو حديث لا بأس به ويشهد له ما رواه مسلم من حديث جابر من نهيه عن الصلاة خلفه قياماً وهو قاعد وقال: إن كدتم لتفعلون فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا» وأعظم من هذا القيام تعظيماً للعَلَم مع ما فيه من مشابهة الكفرة الآن، ومما يمنع القيام للمعلم عند دخوله فصل الدراسة وقد أفتى شيخنا بمنعه.

الصورة الثالثة: القيام للتكريم عند قدوم والد أو ولد أو غيرهما، وهذا مباح. وقد أخرج أبو داود والنسائي بسند صحيح من طريق عائشة بنت طلحة عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى فاطمة بنته قد أقبلت رحب بها، ثم قام فقبلها ثم أخذ بيدها حتى يجلسها في مكانه ...» وأصله في الصحيح دون ذكر القيام، ومن جنسه القيام للتهنئة كقيام طلحة لكعب لتهنئته بتوبة الله عليه. الصورة الرابعة: القيام لأجل حاجة من يقام له، وهذا مباح أيضاً. ومن أدلته حديث أبي سعيد عند البخاري وفيه «أن أهل قريظة نزلوا على حكم سعد، فأرسل إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاء، فقال: قوموا إلى سيدكم ...» ووقع عند أحمد من حديث عائشة «قوموا إلى سيدكم فأنزلوه» .. والكلام في مسألة القيام للغير طويل وإنما ذكرت الخلاصة النافعة ..

ومن المسائل الملحقة بهذا الفصل المهم

ومن المسائل الملحقة بهذا الفصل المهم: التحايا التي تبذل للناس ويكرمون بها (عند البشر بعامّة) فمن أشهرها. 1 - الركوع. 2 - السجود. 3 - الركوع الناقص. 4 - خلع القبعة التي على الرأس، أو وضع اليد على الجبهة. 5 - مصافحة الداخل للجالسين في المجلس فأما الأول والثاني فمحرم بالنص والإجماع، والثالث محرم أيضاً وقد نصّ على هذا شيخ الإسلام -رحمه الله-وهو من صنيع العجم، والرابع فيه تشبه بالكفرة، والخامس وهو مصافحة الداخل للجالسين فلا أصل له من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والسلف، والمشروع إلقاء السلام ثم الجلوس حيث ينتهي به المجلس، ومن قال إن هذا مشروع فعليه الدليل ولن يجد إلى ذلك سبيلاً وممن نصّ على هذه المسألة شيخنا ابن عثيمين (¬1) .. وقس ما لم أذكر من التحيات على ما ذكرت. ¬

(¬1) وانظر لقاء الباب المفتوح س 675.

فصل: وينبغي للإنسان أن لا يدخل في سر قوم

فَصْلٌ وَيَنْبَغِيْ لِلإِنْسَانِ أَنْ لَا يَدْخُلَ فِيْ سِرِّ قَوْمٍ، وَلَا حَدِيْثٍ لَمْ يُدْخِلُوْهُ فِيْهِ. وَلَا يَجُوْزُ الاسْتِمَاعُ إِلَى كَلَامِ قَوْمٍ يَتَشَاوَرُوْنَ. وَمَنْ تَلَفَّتَ فِيْ حَدِيثِهِ فَهُوَ كَالمُسْتَوْدِعِ لِحَدِيْثِهِ، يَجِبُ حِفْظُهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ تَلَفُّتَهُ يُعْطِيْ التَّفَلُّتَ وَالتَّفَزُّعَ. قوله: (فصل: وينبغي ..... ولا حديث لم يُدخلوه فيه). السر إنما يعرف كونه سراً إما بالقول أو بالفعل أو بالقرينة. فأما بالقول كأن يصرح ويقول لجلسائه: "سأستودعكم سراً" أو "أقول لكم قولاً لا تفشوه" ونحو ذلك, أو بالفعل كأن يجمع أناساً حوله ويغلق الباب, أو يتلفت في أثناء الكلام, أو بالقرينة كأن تدل القرينه على أن الإنسان إذا أخذ زيداً معه إلى غرفة خاصة أنه يريد أن يستودعه سراً, وما أشبه ذلك.

وفي هذا الباب مسائل: أولاً: روى البخاري في صحيحه في باب حفظ السر في كتاب الأدب عن المعتمر بن سليمان بن طرخان عن أبيه عن أنس - رضي الله عنه -، قال: أَسَرَّ إلي النبي - صلى الله عليه وسلم - سراً فما أخبرت به أحداً بعده, ولقد سألتني أم سليم فما أخبرتها به, وهذا كله من شدة حفظ أنس - رضي الله عنه - لسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وفي رواية لثابت البناني وكان من تلاميذ أنس - رضي الله عنه - وكان أنس - رضي الله عنه - يحبه واسمه ثابت بن أسلم البناني, وكان رجلاً صالحاً, قال: لو حدثت به أحداً لحدثتك به يا ثابت. وقوله (ولا يجوز الاستماع إلى كلام قومٍ يتشاورون) هذا كذلك من الآداب المتعلقة بحفظ السر, وإنما تشاوروا وانحازوا رغبةً في عدم اطلاع غيرهم على هذا الكلام, وحينئذٍ يكون الاستماع إلى هذا الحديث من المحرمات، والاستماع المراد به طلب السمع, فلا يجوز للإنسان أن يطلب سماع كلام قوم انحازوا عنه, وفي حديث أيوب السختياني عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنه الآنك يوم

القيامة» رواه البخاري (¬1) في كتاب التعبير, فهذه عقوبة من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون, ويعرف كونهم كارهين بالقرائن أيضاً, أو بالقول, أو بالفعل، فإذا انحاز أناس يتشاورون وتركوا غيرهم, فإنه لا يجوز أن يستمع لهم الإنسان, وأن يطلب هذا السر الذي بينهم, وإذا فعل فإنه متوعد بهذه العقوبة التي تختص بهذه الآلة والجارحة, لأن هذه الآلة وهي الأذن هي التي عصت, والآنك هو الرصاص المذاب, ويختص الرصاص من بين المعادن بأنه ثقيل, ومؤذي, وهذا يدل على أن الاستماع إلى حديث الآخرين من الكبائر إذا كانوا يكرهون ذلك. وحد الكبيرة: هي كل ذنب ختم بلعنة, أو غضب, أو نار, أو كان فيه حد في الدنيا, أو وعيد في الآخرة. وتعريف آخر للكبيرة: وهي ما كان فيها عقوبة خاصة. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (رقم: 6635) وأخرجه أحمد (رقم: 1866 و 3383) وأبو داود (رقم: 5024) وابن ماجه: (رقم: 3916).

والعبد قد يعذب على المعصية, وقد يختص العضو الذي عصى بالعذاب, كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «ما جاوز الكعبين من الإزار ففي النار» (¬1) فهذه البقعة التي عصت تعذب يوم القيامة. قال المؤلف: (ومن تلفت في حديثه فهو كالمستودع لحديثه) يعني استودع غيره حديثه هذا بألا يفشيه, وقد انتزع المؤلف هذا من حديث رواه أبو داود والترمذي وغيره من حديث ابن أبي ذئب محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة عن عبد الرحمن بن عطاء عن عبد الملك بن جابر بن عتيك عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «إذا حدث الرجل بحديث ثم التفت فهي أمانة» (¬2) وفي عبد الرحمن بن عطاء كلام يسير، والأقرب أنه حسن الحديث، وجاء له شاهد عند أبي يعلى الموصلي من حديث أنس (¬3) - رضي الله عنه - , ولكن في ¬

(¬1) أخرجه البخاري (رقم: 5450) والنسائي (رقم: 5330) من حديث أبي هريرة، وأخرجه أحمد (رقم: 20180) والطبراني (رقم: 6971) من حديث سمرة. وأخرجه الطبراني (رقم: 12064) من حديث ابن عباس. (¬2) أخرجه أبو داود (رقم: 4870) والترمذي (رقم: 1959) وقال: حسن. وأخرجه الطيالسى (رقم: 1761) وابن أبي شيبة (رقم: 26111) وأحمد (رقم: 15104) وأبو يعلى (رقم: 2212) والبيهقي (رقم: 20950). والطبراني في الأوسط (رقم: 2458). (¬3) أخرجه أبو يعلى (رقم: 4158) وابن عساكر (56/ 394).

إسناده جبارة بن مغلس, وهو واهي الحديث, فالعمدة على اللفظ الأول مع المعنى, حتى لو لم يجيء في الباب حديث فيكفي أنه يريد استيداع هذا السر عند هذا الشخص, فإذا التفت يميناً وشمالاً كأنه يقول: أنا سأتكلم ولا أريد أحداً أن يسمع هذا الحديث, فحينئذٍ لا يجوز للسامع أن يفشيه, وهذا المتن مستقيم, وقد رواه عنه محمد بن عبد الرحمن المغيرة - وهو ابن أبي ذئب - وهو قرين مالك في العلم, وكان يفوق مالك في الإنكار, ووقف عليه بعض الخلفاء ومعه حرسي في مسجد في المدينة, فقال الحرسي لابن أبي ذئب: قم للخليفة, فالتفت إلى الحرسي والخليفة فقال: إنما يقوم الناس لرب العالمين, فقال الخليفة: دعه فو الله لقد وقفت كل شعرة في رأسي, وكان ولاتهم في ذلك الوقت فيهم بقية خير , وأيضا عندهم شيء من صبابة علم وفهم. وقوله (يجب حفظه عليه؛ لأن تلفته يعطي التلفت والتفزع) ومن المسائل المهمة في السر: أولاً: يجب حفظ السر ويحرم البوح به. واتفق أهل العلم على أنه إن كان في إفشائه مضرة على صاحب السر أنه لا يجوز إفشاؤه، واختلفوا متى ينقطع النهي عن البوح به:

فقال بعضهم: ينقطع بموت صاحب السر، والصحيح في هذا التفصيل: فإذا كان السر متعلقاً بكرامة للميت, أو تزكية له، فالأشبه أنه يجوز إفشاؤه؛ لأنه لا مضرة فيه, وسواءً كره صاحب السر هذا الإفشاء أو لم يكره؛ لأنه كان يخشى أن يتحدث به في حياته فيفتتن به صاحب السر, فلما مات أمن هذا الشيء، ومن هذا عامة ما ينقل من الثناء على الصالحين من قصصهم وأخبارهم، فقد تحدث بها بعد موتهم، وكان أصحابها يكرهون نشرها في حياتهم. وأما ما يكره مطلقاً وقد يحرم, وهو الذي عليه فيه ضرر أو غضاضة. وهناك قسم ثالث من الأسرار: فهو الذي يجب إفشاؤه بعد الموت؛ كما لو أباح بحق عليه كان يعذر بترك القيام به في حياته, فزالت المفسدة بموته, حتى يقوم بهذا الحق غيره. وقد تمسك بعضهم بالإخبار بالسر بعد الموت بأن عمر - رضي الله عنه - استفهم حذيفة عن أسماء المنافقين, ثم قال لحذيفة: أسألك بالله هل عدني النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم؟ فلما ألح عمر على حذيفة, قال حذيفة - رضي الله عنه -: لا, ولا أزكي

أحداً بعدك. أخرجه وكيع في الزهد عن إسماعيل بن أبي خالد، عن زيد بن وهب عن حذيفة وهذا إسناد صحيح. (¬1) وهذا ليس فيه إفشاء لسر النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه لم يعدد المنافقين بأسمائهم, إنما قال: أنت لست منهم, فالسر لازال محفوظاً, وغاية ما فيه أنه أخبر أن عمر ليس منهم. والسر عند كثير من الناس الآن لا قيمة له, لأنك قد تذكر هذا الكلام وتصرح به بأنه سر, ثم تفاجأ بالغد أن هذا على ألسنة الناس!! ولهذا ينبغي أن ينظر الإنسان إذا أراد أن يستودع سراً أن يستودعه إلى شخص ذي دين ومروءة وعقل, والحاجة داعية إلى الاستسرار، وقد ذكروا في ضابط السُّكْر الذي يُحَدُّ صاحبه, كما قال الشافعي وغيره: (¬2) إذا أباح بسره المكتوم واختل كلامه المنظوم, فهذا يدل على أن إفشاء السر مما يذم عليه غاية الذم ... حتى صار صفة للسكارى به يشنئون. ¬

(¬1) وأخرجه الطبراني في الكبير (رقم: 719). (¬2) انظر: المجموع لمحي الدين النووي - (3/ 7) والتحبير شرح التحرير للمرداوي (3/ 1189) والقواعد والفوائد الأصولية لابن اللحام (1/ 62).

وقد يتحدث أحد الناس في مجلس, عن بعض المسائل المهمة, أو عن رأيه في مجلس خاص في بعض القضايا, ثم يقول: "اكتموا علينا" أو "المجالس بالأمانة", ثم يفاجأ بعد ذلك أن هذا الحديث منتشر فاش وهذا كله من الخيانة.

فصل: ويكره الخيلاء والزهو في المشي

فَصْلٌ وَيُكْرَهُ الخُيَلَاءُ وَالزَّهْوُ فِيْ المَشْيِ، وَإِنَّمَا يَمْشِيْ قَصْدًا؛ فَإِنَّ الخُيَلَاءَ مِشْيَةٌ يُبْغِضُهَا اللهُ تَعَالَى؛ إِلَّا بَيْنَ الصَّفَّيْنِ. قوله: (فصل ويكره الخيلاء ..... الصفين). الصواب أنه تحرم الخيلاء ويحرم الزُّهُو، لأنه من مظاهر الكبر, والكبر محرم بالنص والإجماع, وقد تُوعّد عليه بالنار والحرمان من الجنة, نسأل الله العافية وفي صحيح مسلم من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنةً. قال: «إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس» (¬1) وبطر الحق: أي: دفعه ورفضه وعدم قبوله. وغمط الناس: هو ازدراؤهم واحتقارهم. والأصل أن الكبر في القلب, وهو من الفواحش الباطنة، وفُسِّر به قوله تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} (¬2) وفُسر به ¬

(¬1) أخرجه مسلم (رقم: 179) وأخرجه أحمد (رقم: 3913 و 3947) وأبو داود (رقم: 4091) وابن ماجه (رقم: 59 و 4173) والترمذي (رقم: 1998). (¬2) الأنعام: 120.

أيضاً قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} (¬1) ومن الفواحش الباطنة: الكبر. وهذا الكبر له علامات خارجية, وهو محرم وإن لم يظهر على صاحبه أي علامة, ولكن قد يظهر له علامات خارجية, فمنها ما نص عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، من قوله: «بطر الحق، وغمط الناس» فمن صور الكبر دفع الحق, ورفضه, وعدم قبوله, والالتفاف عليه, وتأويله, وازدراء الناس, واحتقارهم. ومن صور الكبر المشي بخيلاء وزهو. ومن صوره الإسبال, كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «وإياك وإسبالَ الإزار فإن إسبالَ الإزار من المَخِيلَة» (¬2) ¬

(¬1) الأنعام: 151. (¬2) أخرجه الطيالسي (رقم: 1208) وأحمد (رقم 20651) وأبو داود (رقم: 4084) والنسائي (رقم: 9691) والطبراني (رقم: 6384) وابن حبان (رقم: 522) وغيرهم، ولفظه: عن جابر بن سليم الهجيمي - رضي الله عنه -: انتهيت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محتب في بردة له؛ كأني انظر إلى هدابها على قدميه، فقلت: يا رسول الله أوصني، قال: «اتق الله ولا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، وأن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط، وإياك وإسبال الإزار، فان إسبال الإزار من المخيلة، ولا يحبها الله، وإن امرؤ شتمك وعيرك بأمر هو فيك، فلا تعيره بأمر هو فيه، ودعه يكون وباله عليه، وأجره لك، ولا تسبن شيئاً» = = قال: فما سببت بعد قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دابة ولا إنساناً. وهذا لفظ أبو داود الطيالسي.

وأصل الخيلاء في الإسبال, لكنه قد يكون مقصوداً من المسبل فيكون حينئذٍ من الكبائر المغلظات, وإن كان مطلق الإسبال محرماً فهو كبيرة, لحديث أبي سعيد, وصح عنه، أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ينظر الله يوم القيامة إلى من يجر ثوبه خيلاء» (¬1) ومن صور الخيلاء تصعير الخد, وقد أوصى لقمان - الرجل الصالح وهو ليس بنبي- ابنه قائلاً: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} (¬2) وتصعير الخد أن الإنسان يميل بوجهه عن الناس, فيحدث الناس إن احتاجوا إلى حديثه وهو مائل عنهم, أو حين استماعه لهم، أو يمشي بين الناس وقد انحرف وجهه عنهم, وقد نبه النبي - صلى الله عليه وسلم - على أدب الحديث، فقال: «لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق» (¬3) ¬

(¬1) أخرجه مالك (رقم: 1629) والطيالسي (رقم: 2487) وأحمد (رقم: 9294) والبخاري (رقم: 5451) ومسلم (رقم: 2087) والترمذي (رقم: 1730) والنسائي (رقم: 9723) وفي لفظ: «لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرا». (¬2) لقمان: 18. (¬3) أخرجه أحمد (رقم: 21559) ومسلم (رقم: 2626) والترمذي (رقم: 1833) وقال: حسن صحيح. من حديث أبي ذر - رضي الله عنه -. واللفظ لمسلم.

فيكون الوجه قبالة الوجه, فإذا انحرف الوجه عن هذا دل ذلك على تصعير الخد المحرم, وقد يُحتاج للتصعير إذا اقترن بهجر, وهذا جائز وهذا نوع من الجفوة, والجفوة قد يحتاج إليها في التأديب, ولكننا هنا نتحدث عن تصعير الخد على الوجه المحرم, والأصل أنه مذموم, فإن اقترن بالكبر صار من الكبائر. قوله: (وإنما يمشي قصداً) هذا الكلام يعالج طريقة المشي, أما مشي النبي - صلى الله عليه وسلم - , فإنه كان يمشي قصداً, وكان إذا مشى كأنما يتقلع, وكأنما ينحط من صبب, ولا يمشي الهوينى, ولا يتبختر, ولا يعجل عجلة تنبئ عن خفة وطيش, وإنما يمشي مشية معتدلة, كأنما يقصد إلى حاجة, وهذا أعدل المشي وهي مشية النبي - صلى الله عليه وسلم -. فائدة: بالنسبة لمشية الصحابة إلى المسجد, ففي الباب أثر زيد بن ثابت الذي رواه الطبراني بإسناد صحيح: أنه كان يمشي مع بعض أصحابه,

فكان يقصّر الخطى, فقيل له في ذلك، فقال: من أجل أن تكثر عدد خطاي في طلب الصلاة. (¬1) وجاء هذا مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يصح, إنما هو موقوف على زيد بن ثابت, وجاء نحوه عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، أنه قال: كنا إذا قصدنا إلى المسجد قصّرنا الخطى. (¬2) ولكن في إسناده إبراهيم بن مهدي الهجري, وعلى كل حال فهذا لا أعلمه من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - , ولكن إن قصرها أحياناً في الذهاب للمسجد, فهذا لا بأس به, وهذا لا ينافي كونه يمشي قصداً. ¬

(¬1) أخرجه الطبراني (رقم: 4798) وأخرجه الطيالسي (رقم: 606) والبخاري في الأدب المفرد (رقم: 458). (¬2) أخرجه الطبراني (رقم: 8596) ولفظه: قال: عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: ...... فما من رجل يتطهر فيحسن الطهور، فيخطو خطوة يعمد إلى المسجد من المساجد، إلا كتب الله له بها حسنة، ورفعه بها درجة، وحط عنه بها خطيئة حتى إن كنا لنقارب في الخطى.

قال المؤلف: (فإن الخيلاء مشية يبغضها الله تعالى إلا بين الصفين) في هذا حديث محمد بن إبراهيم التيمي, عن ابن جابر عن أبيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «من الخيلاء ما يحبه الله، ومنه ما يبغضه الله, -فذكر ما يحب الله-: اختيال الرجل بنفسه عند القتال, وعند الصدقة» (¬1) يعني أن الأصل في مشي الرجل خيلاء أنه محرم, ومن الكبائر, ويستثنى من ذلك القتال, وقال أهل العلم في صفته عند القتال: أن يمشي بين الصفين, ويتبختر, ويتقدم بنشاط, وهذا فيه إظهار عدم المبالاة بالعدو, فيقع الخوف والرهبة في قلوب الأعداء, قالوا: وعند الصدقة أن يعطي هذه الصدقة بطيب نفس وسخاء وكأنها لا تهمه. وروي أيضاً أن أبا دجانة "سماك بن خرشة" - رضي الله عنه - كان يمشي بين الصفوف يتبختر, فنظر إليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «إن هذه مشية يبغضها الله تعالى, إلا في هذا الموطن» (¬2) ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 23803) وأبو داود (رقم: 2659) والنسائي (رقم: 2339) وابن حبان (رقم: 295) والطبراني (رقم: 1774). (¬2) أخرجه الطبراني (رقم: 6508).

فصل: ومن مكارم الأخلاق

فَصْلٌ وَمِنْ مَكَارِمِ الأَخْلَاقِ التَّغَافُلُ عَنْ ظُهُوْرِ مَسَاوِئ النَّاسِ، وَمَا يَبْدُو فِيْ غَفَلَاتِهِمْ، مِنْ كَشْفِ عَوْرَةٍ، أَوْ خُرُوْجِ رِيْحٍ لَهَا صَوْتٌ، أَوْ رِيْحٍ. وَمَن سَمِعَ ذَلِكَ فَأَظْهَرَ الطَّرَشَ أَوِ النَّوْمَ أَوِ الغَفْلَةَ لِيُزِيْلَ خَجَلَ الفَاعِلِ، كَانَ ذَلِكَ مِنْ مَكَارِمِ الأَخْلَاقِ. وهذا الفصل يعالج الأخطاء التي تقع في المجلس من غير قصد, فمعلوم أن اجتماع الناس في المجالس على اختلاف أنواع الاجتماعات, في علم أو في حديث أو سمر أو مؤانسة أو ما أشبه ذلك, قد يقع فيه من العوارض التي قد يستحيا منها, فمن ذلك ما قال المؤلف: (من مكارم الأخلاق التغافل عن ظهور مساوئ الناس وما يبدو في غفلاتهم من كشف عورةٍ أو خروج ريحٍ لها صوت). قال: (من سمع ذلك فأظهر الطرش) والطرش: هو ثقل السمع لا انعدامه, ولما فاضل ابن القيم بين البصر والسمع, قال: والسمع أفضل من البصر، ولهذا كان في الصحابة من هو أعمى, ولم يكن فيهم من هو أطرش, قاله في مفتاح دار السعادة. (¬1) ¬

(¬1) مفتاح دار السعادة (1/ 265).

وقالوا: وإن كان إدراك البصر أتم, لكن إدراك السمع أكمل وأشرف, فبه يعرف كلام الله عز وجل, وكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , ومكارم الأخلاق, وقال ابن القيم أيضاً: وترى الشخص الذي لا يسمع وهو يبصر في وادٍ, والناس في وادٍ آخر. والأصل فيما ذكر المؤلف: ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن زمعة - وعبد الله بن زمعة صحابي مقل له أحاديث قليلة جداً -: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعظ الصحابة بعدما اجتمع معهم في يوم من الأيام, وقال: «علام يجلد أحدكم امرأته جلد العبد، ثم لعله يضاجعها آخر اليوم» ثم وعظهم في ضحكهم من الضرطة، وقال: «لم يضحك أحدكم مما يفعل» (¬1)؟ وقيل أنهم كانوا في الجاهلية إذا أحدث أحدهم بصوت في المجلس, يضحك بعضهم على بعض, فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك, فصار في الضحك من الضرطة مشابهةً لكفرة الجاهلية الأولى, وأما الكفرة المعاصرون فأظنهم لا يبالون بهذا. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (رقم: 4658) ومسلم (رقم: 2855).

فإذا حصل للإنسان في المجلس مثل هذا, أو انكشاف عورة, أو شرق في مشروب, أو غصّ بمطعوم, أو خرج من أنفه شيء, أو سكب طعاماً, أو عثر فسقط, أو سقط منه شيء, أو ظهر منه ما يكره, فإنه ينبغي التغافل عن ذلك, وعدم الضحك, والاشتغال بأمر آخر حتى يكون فيه إذهاب الخجل واللوم عن هذا الشخص, وهذا من مكارم الأخلاق, ومن صفات كبار النفوس, وقد سمعت شيخنا ابن باز - رحمه الله - يقول: إذا حصل هذا في المجلس (الضرطة) , فينبغي عدم المبالاة بهذا الشيء, وإظهار التغافل, حتى لا يحرج صاحب الشأن. ا. هـ واللجاجة والتنقيب في هذا من العسر والنكد في الأخلاق. ومن اللطائف في هذا ما وقع في ترجمة هشام بن عمّار كما في سير أعلام النبلاء (11/ 427) قال خيثمة: سمعت محمد بن عوف يقول: أتينا هشام بن عمّار في مزرعة له، وهو قاعد على مورج له، وقد انكشفت سوأته، فقلنا يا شيخ غَطِّ عليك، فقال: رأيتموه؟! لن ترمد أعينكم أبداً، يعني: يمزح.

فصل: وعشرة من الفطرة

فَصْلٌ وَعَشَرَةٌ مِنَ الفِطْرَةِ، خَمْسٌ فِي الرَّأْسِ وَخَمْسٌ فِي الجَسَدِ. فَالَّتِيْ فِيْ الرَّأْسِ: الْمَضْمَضَةُ، وَالاسْتِنْشَاقُ، وَالسِّوَاكُ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ. وَالَّتِيْ فِيْ الجَسَدِ: حَلْقُ العَاْنَةِ، وَنَتْفُ الإِبِطَيْنِ، وَتَقْلِيْمُ الأَظْفَاْرِ، وَالاسْتِنْجَاءُ وَالخِتَانُ. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فصل: وعشر من الفطرة .......... والختان.) لقد ذكر المؤلف - رحمه الله تعالى - هذا الباب هنا, ومحله في كتاب الطهارة, وهو يتعلق بآداب الجسد, ولاشك أن الآداب الجسدية, ومظهر الشخص, وريحه, ونظافة ثيابه, من الآداب العظيمة جداً. قوله: (وعشر من الفطرة) المؤلف هنا يريد الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه, من حديث مصعب بن شيبة عن طلق بن حبيب العنزي عن عبد الله بن الزبير عن عائشة - رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «عشر من الفطرة ....» (¬1) ¬

(¬1) أخرجه مسلم (رقم: 291) وأخرجه وأحمد (رقم: 25104) وأبو داود (رقم:53) والترمذي (رقم:2757) والنسائي (رقم:5040) وابن ماجه (رقم:293).

ثم سردها النبي - صلى الله عليه وسلم - , على أن هذا الحديث تُكُلِّم فيه من أجل مصعب بن شيبة, لأن مصعب بن شيبة ضعيف عند الجمهور, لكن مسلماً انتقى من حديثه ما علم أنه قد حفظه كعادته في الانتقاء, وأما البخاري - رحمه الله - فقد أعرض عن هذا الحديث رأساً, واتفق هو ومسلم على حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الفطرة خمس: الاختتان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط» (¬1) قول المؤلف: (فالتي في الرأس: المضمضة, والاستنشاق, والسواك, وقص الشارب, وإعفاء اللحية) فالمضمضة والاستنشاق من أفعال الوضوء, ومحلها عند غسل الوجه, وقد بينتها السنة, وهي واجبة في الوضوء والغسل من الجنابة، على الصحيح. والمراد بالمضمضة وضع الماء في الفم وتحريكه, والصحيح أن مجَّ الماء من الفم غير واجب, فيجوز له أن يبتلعه. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (رقم: 5550) ومسلم (رقم: 257) وأخرجه أحمد (رقم: 9310) وأبو داود (رقم: 4198) والترمذي (رقم: 2756) والنسائي (رقم: 9) وابن ماجه (رقم: 292).

والاستنشاق هو جذب الماء بالمنخرين, والاستنثار واجب؛ لأنه قد جاء فيه أمر, في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «استنثروا مرتين بالغتين أو ثلاثاً» (¬1) ولأن فائدة الاستنشاق هي نثر الماء من الأنف, فإذا وجب الاستنثار علم وجوب الاستنشاق ضرورة , والاستنثار يجب عند القيام من النوم, لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا استيقظ أحدكم من منامه فليستنثر ثلاثاً فإن الشيطان يبيت على خيشومه» (¬2) وهذا الاستنثار واجب سواءً كان الإنسان مريداً للوضوء أم لا, فإن توضأ وجب تثليث الاستنشاق والاستنثار, ولم يجئ مثل هذا في المضمضة عند القيام من النوم. قوله: (والسواك) السواك يطلق على عود الأراك, وكل ما يحصل به المقصود, وفيه مسائل كثيرة جداً, حتى أنه أُلِّفت فيه مؤلفات في أحكامه, وهو في الأصل سنة مؤكدة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - , وقد روى البخاري في صحيحه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «أكثرت عليكم في السواك» (¬3) وهو متأكد في عدّة مواضع, ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 2011) وابن أبى شيبة (رقم: 277) وأبو داود (رقم: 141) والنسائي (رقم: 97) وابن ماجه (رقم: 408). (¬2) أخرجه البخاري (رقم: 3121) ومسلم (رقم: 238) والنسائي (رقم: 90). (¬3) أخرجه البخاري (رقم: 848) أخرجه ابن أبى شيبة (رقم: 1811) وأحمد (رقم: 12481) والنسائي (رقم: 6) وابن حبان (رقم: 1066).

عند الوضوء, والصلاة, ودخول المنزل؛ كما روى ذلك مسلم في صحيحه من حديث الْمِقْدَامِ بْنِ شُرَيْحٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَأَلْتُ عَائِشَةَ قُلْتُ بِأَىِّ شَىْءٍ كَانَ يَبْدَأُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ قَالَتْ بِالسِّوَاكِ. (¬1) وفيه من الفوائد أن التسوك عند دخول المنزل مع كونه امتثالا لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ففيه أيضاً تطهير فم الإنسان لعشرة أهله. واختلف فيه هل يكون باليمين أو بالشمال, ففي حديث عائشة - رضي الله عنها - في الصحيحين، قالت: «كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وفي طهوره وفي شأنه كله» (¬2) وزاد أبو داود: «وسواكه» (¬3) لكن هذه الزيادة انفرد بها مسلم بن إبراهيم الفراهيدي, ومسلم لا بأس به, فهو ثقة من رجال الستة, لكنه خالف هنا شعبة بن الحجاج, فالزيادة هذه شاذة, وعلى القول بالتيمن عند التسوك اختُلف في صفة ذلك , فمنهم من قال: التيمن بالسواك أن يستاك باليد اليمنى, وهذا قال به قلة من أهل العلم, حتى قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - بالفتاوى بالمجلد الحادي والعشرين: اتفقوا على أنه بالشمال، ولم يخالف فيه ¬

(¬1) أخرجه مسلم (رقم: 253). (¬2) أخرجه البخاري (رقم: 166 و 5582) ومسلم (رقم: 268). (¬3) أخرجه أبو داود (رقم: 4142).

أحد من الأئمة, مع أن جدّه أبا البركات يرى أنه باليمين, فلا أدري أنسي أم أنه لم يعدّ جدّه من الأئمة؟!! (¬1) ومنهم من قال: يستاك بالشمال, وهو مذهب الأكثر وهو اختيار شيخنا ابن باز - رحمه الله تعالى - ويقولون: التيمن فيه أن يبدأ بشق الفم الأيمن, ومنهم من فصَّل، فقال: إن كان يستاك لمجرد فعل السنة فباليمين, وإن كان لإزالة الأذى فبالشمال, وهذا التفصيل ليس ببعيد. وجمع السواك: سُوُك, وليس مساويك, مثل كتاب يجمع على كُتُب, ويجوز سُوك, على التخفيف وهذا عند الضرورة, ويقال للعود: سواك ومسواك. قوله: (وقص الشارب) علمنا من كلام المؤلف هنا أن المشروع القص لا الحلق, وقد اختلف أهل العلم في السنة في الشارب هل يحلق أم يُقص؟ فذهب بعض أهل العلم إلى أن الحلق أفضل, واحتجوا ببعض ألفاظ الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بإحفاء الشارب, والإحفاء هو المبالغة في الأخذ, ومنه قوله: "حتى أحفوه بالمسألة" , أي بالغوا فيه وآذوه, واحتجوا ¬

(¬1) انظر مجموع الفتاوى (21/ 108).

أيضاً بفعل جماعة من الصحابة؛ كابن عمر وأبي رافع وغيرهم, أنهم كانوا يحفون شواربهم إحفاءً شديداً, وهذا مشهور مذهب الأحناف. وقال بعضهم: بل السنة القص, وهذا مذهب الأكثر, بل ذهب مالك -رحمه الله - إلى أن حلق الشارب بدعة, وقال: أرى أن يُضرب فيها الفاعل. وقال: إنها بدعة ظهرت في الناس. والصحيح أن السنة القص, وأما الحلق فمباح, لكنه خلاف الأولى, وله وجهة وسلف, ومن الأدلة على سنية القص حديث زيد بن أرقم - رضي الله عنه - الذي رواه النسائي وغيره بإسناد صحيح: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «من لم يأخذ من شاربه فليس منا» (¬1) و «من» هنا للتبعيض. ومن الأدلة أيضاً أن المغيرة - رضي الله عنه -، قال: "أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان شاربي قد وفى فقصّه لي على سواك. (¬2) وإسناده لا بأس به. ¬

(¬1) أخرجه النسائي (رقم: 13) وأخرجه ابن أبى شيبة (رقم: 25493) وأحمد (رقم: 19283) وعبد بن حميد (رقم: 264) والترمذي (رقم: 2761) وقال: حسن صحيح. وغيرهم. (¬2) أخرجه أحمد (رقم: 18237) وأبو داود (رقم: 188) والنسائي (رقم: 6621) والطبراني في الكبير (رقم: 1059).

مسائل: في إعفاء اللحية

وفيه دلالة على أن الشارب يقص من أسفل, فتكون الشفة العليا مكشوفة, أما إعفاء الشارب حتى يكثر ويتوفر فالظاهر أنه من الكبائر؛ لأن فيه تشبه بالكفرة الذين يعفون شواربهم ويحلقون لحاهم. واختلف في السنة في طرفي الشارب, هل توصل باللحية أم لا؟ فمنهم من قال: مباح, من شاء وصل ومن شاء فصل, ومنهم من قال: الفصل أولى, واحتجوا بأن البخاري - رحمه الله - علق عن ابن عمر: أنه كان يأخذ طرفي شاربه, ولم يتحرر لي في هذا شيء, فهو مباح, إن شاء أخذ الطرفين, وإن شاء وصلهما باللحية. قوله: (وإعفاء اللحية) (¬1) هذه فيها مسائل: الأولى: أن العلماء عليهم رحمة الله اتفقوا على تحريم حلق الحية، وهي الشعر النابت على الخدين والذقن, فيشمل عظم اللحي إلى ملتقى العظمين في الذقن، ويشمل ما على الخدين, وخرج بهذا الشعر الذي على ¬

(¬1) لا أعلم عصراً من العصور استمرأ الناس حلق اللحى وأمعنوا فيه بل عوديت فيه اللحى بالحلق التام أو الجز الشديد شبيه الحلق من أهل الإسلام كمثل هذا العصر مع ما في ذلك من مشابهة أهل الشرك والمجوس ومع ما في ذلك من المثلة ومخالفة الفطرة وسنن الأنبياء مع ما في ذلك من التشبه بالنساء، حتى أضحى الموفر لها غريباً ينظر إليه شزراً وكأنه مجرم - فسبحان الله العظيم - فليحمد الله على نعمة الاستقامة من رزقها وليسأله المزيد.

الحلق, فليس من اللحية, أما الشعر الذي على الفك السفلي فهو من اللحية. فالشعر على الخدين والفكين فهو من اللحية، والعنفقة - وهي الشعر النابت على الشفة السفلى- من اللحية أيضاً؛ كما قال أنس - رضي الله عنه -: ولم يختضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما كان البياض في عنفقته وفي الصدغين وفي الرأس نبذ. وهذا استثناء متصل. ومن المسائل أيضاً مسألة حد الإعفاء, فالأصل في الإعفاء الترك, والإعفاء المراد به التكثير, ومنه قوله تعالى: {حَتَّى عَفَوْا} (¬1) أي كثُروا, وقد وردت ألفاظ تدل بمجملها على تركها مطلقاً؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «أعفوا اللحى» (¬2) «أوفوا» (¬3) «أرخوا» (¬4) «وفروا» (¬5) فهذه أربعة ألفاظ تدل على ترك اللحية وعدم التعرض لها, وهذا المذهب الأول في صفة اللحية, واحتجوا أيضاً بأنه صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لحيته كانت كثة, واللحية الكثة تدل على كثرة الشعر وطوله, والأخذ ينافي الكثرة والطول, واحتجوا أيضاً بأنه - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) الأعراف: 95. (¬2) أخرجه أحمد (رقم: 5135) والبخاري (رقم: 5554) ومسلم (رقم: 259) والنسائي (رقم: 15 و 9246) والترمذي (رقم: 2763) عن ابن عمر. (¬3) أخرجه مسلم (رقم: 259). (¬4) أخرجه مسلم (رقم: 260). (¬5) أخرجه البخاري (رقم: 5553).

كانت لحيته ترى من خلفه, كما روى البخاري في صحيحه من حديث أبي معمر وهو عبد الله بن سخبرة قال: سألنا خباباً بأي شيء كنتم تعرفون قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الظهر؟ فقال: باضطراب لحيته. (¬1) قالوا: واللحية القصيرة لا تضطرب. واحتجوا أيضا بما صح عن علي - رضي الله عنه - أن لحيته قد ملأت مابين منكبيه؛ كما قاله الشعبي وحكاه عن علي - رضي الله عنه - وقد أدركه، أخرجه ابن المنذر في الأوسط عنه. وأما المذهب الثاني في هذه المسألة: أن اللحية الشرعية تكون قبضة, فما فضل يؤخذ شرعاً, واحتجوا بأن ابن عمر - رضي الله عنه -: كان إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه. روى ذلك عنه مالك في الموطأ, ورواه البخاري من طريقه. (¬2) وقد روي عنه غير مقيد في الحج والعمرة. (¬3) وقد قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في الفتح: والذي يظهر لي ¬

(¬1) أخرجه البخاري (رقم: 76). (¬2) أخرجه مالك في الموطأ (رقم: 2725) والبخاري (رقم: 5553). (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 25997) وفي الباب عن جابر وفي متنه أبو هلال فيه كلام سئل عنه يحيى بن معين أيهم أحب إليك حماد بن سلمة في قتادة أو أبو هلال، = = فقال: حماد أحب إلي وأبو هلال صدوق. الجرح والتعديل لعبد الرحمن الرازي - ... (7/ 273) وأورده ابن حبان في الثقات. وفي الباب عن أبي هريرة.

أن ابن عمر - رضي الله عنه - كان يفعل ذلك دون التقيد بالنسك. (¬1) ولكن نقول أن المحفوظ عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه كان يفعله في الحج والعمرة فقط, وروي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - نحوه. ولكن نقول: هذا لا حجة لهم فيه لأمور: أولاً لأن ابن عمر - رضي الله عنه - هو أحد رواة حديث: «وفروا اللحى». وابن عمر - رضي الله عنه - له اجتهادات يخالف فيها مرويّه, ويخالف فيها السنة, فهو الذي روى: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأتموا عدة شعبان ثلاثين» (¬2) ومع ذلك صح عنه كما في الموطأ وغيره, أنه كان يبعث نافعاً فينظر مع الناس, فإن رأوا الهلال أصبح صائماً, وإن كانت الدنيا صحواً ولم يروا الهلال أصبح مفطراً, وإن كان هناك قتر ولم يُرَ الهلال أصبح صائماً. (¬3) وهذا خلاف ما روى - رضي الله عنه - , وقد كان - رضي الله عنه - يضع الماء في عينيه عند ¬

(¬1) فتح الباري - ابن حجر - (10/ 350). (¬2) أخرجه مالك (رقم: 1001 و 1002) والشافعي (رقم: 475) وأحمد (رقم: 4488 و 5294) والبخاري (رقم: 1801 و 1807 و 1808) ومسلم (رقم: 1080) وأبو داود (رقم: 2322) والنسائي (رقم: 2119) وابن ماجه (رقم: 1654). (¬3) أخرجه أبو داود (رقم: 2322) والبيهقي (رقم: 8177).

الغُسل حتى عمي - رضي الله عنه -. (¬1) وقد كان - رضي الله عنه - في الحج يدّهن بدهن غير مطيب. (¬2) مع أنه - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيح كان يدّهن بالمسك ويتضمخ به, (¬3) وقد كان ابن عمر - رضي الله عنه - شاهداً , ولكنه كان يشدد على نفسه - رضي الله عنه - , فنقول في مسألة اللحية: أن ابن عمر - رضي الله عنه - خالف المعلوم من السنة في هذا, ولا يجوز لنا أن نختزل السنة كلها في فعل ابن عمر - رضي الله عنه - , ونقول أيضاً للذين يرون القبضة: ما استدللتم به هو في الحقيقة دليل عليكم, فإن ابن عمر - رضي الله عنه - حينما كان يحج ويعتمر ويأخذ الزيادة على القبضة فهذا يدل على أنها تطول وتتسع ثم بعد ذلك يأخذ منها, وهذا يدل على طولها وتجاوزها القبضة, وإلا فلو كان يتعاهدها لما كانت تتعدى القبضة, والأمر الثاني أن ابن عمر - رضي الله عنه - لم يكن داعية إلى هذا الشيء كما هو فعل الكثير الآن، والدعوة لأخذ ما زاد على القبضة بدعة، وقد روي عن ابن عباس أنه كان يأخذ من لحيته في الحج، وتأول قوله تعالى {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا} والإجابة عنه مثل الإجابة عن أثر ابن عمر, والمقبضون في عصرنا في الحقيقة يشرقون بصريح ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق (رقم: 991) وابن أبي شيبة (رقم: 1075) والبيهقي (رقم: 870). (¬2) أخرجه أحمد (رقم: 4783 و 5242) وابن ماجه (رقم: 3083) والترمذي (رقم: 692) وابن خزيمة (رقم: 2652) وقد روي مرفوعاً وموقوفاً، فهو مرفوعاً ضعيف فيه فرقد السبخي قال ابن خزيمة: وهم في رفعه، وهو صحيح موقوف. (¬3) أخرجه مسلم (رقم: 1192).

دلالة الأثرين، فلا يقولون بمقتضاهما من كل وجه، ففرق بين التعاهد (لزوم التقبيض)، وبين الأخذ في الحين بعد الآخر، أو في الحج أو العمرة، فمن لم يفهم هذا فليسكت، وأعظم من هذا الدعوة إلى التقبيض وأعظم منه الإنكار على من تركه وهذه من طوام الخلف ومتفقهة هذا الزمان، فواعجباً المذهب الثالث في هذه المسألة: أنه يجوز أخذ ما شذ ونفر وآذى من اللحية, وهذا لا ينافي الإعفاء في الحد والحقيقة فهو راجع إلى القول الأول، وهذا الذي بيّنه فعل السلف والأئمة كالإمام أحمد وغيره, فالمنقول عن السلف قولان التقبيض أحياناً، وهذا القيد لابد منه أعني أحياناً، وهذا القول الذي حكيته أخيراً، فصار خلاصة مذهب السلف في المسألة قولان سائغان وإن كان أحدهما أرجح من الآخر، أما القول بأن أخذ شعرة واحدة محرم فهذا فيه نظر, بل لا يصح، فيجوز للإنسان أن يأخذ من شعر لحيته ما علم أنه زائد وشاذ, أو كانت لحيته طويلة تدخل في طعامه وشرابه, دون التقصيص الكثير الذي ينافي الإعفاء, فمتى كان القص منافياً للإعفاء حرُم، ومما يجلي ذلك، وتقدم ذكره حديث المغيرة السابق وأن شاربه قد وفى: أي طال فتأمل هذه اللفظة مع قوله - صلى الله عليه وسلم -: أوفوا: أي طوِّلوا، فدلّ على أن القص ينافي التوفية وكذا ما ثبت في الصحيحين «جزوا الشوارب» و «قصوا الشوارب» و «أعفوا اللحى» يدل على أن

الإعفاء ينافيه القص أو الجزّ ومثله في سنن الفطرة «قص الشارب، وإعفاء اللحية ....» فمن قال: إن الإعفاء والتقصيص يجتمعان فهذا وسواس فليستعذ بالله منه فإنه يذهب عنه إن شاء الله، ومما يؤيد ذلك زيادة على ما تقدم ما أخرجه أحمد بسند لا بأس به (5/ 264) ورقم (22283) من طريق عبد الله بن العلاء بن زبرحدثني القاسم قال: سمعت أبا أمامة يقول: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مشيخة من الأنصار .... الحديث وفيه: فقلنا يارسول، إن أهل الكتاب يقصون عثانينهم، ويوفَّرون سبالهم! قال: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «قصوا سبالكم ووفروا عثانينكم، وخالفوا أهل الكتاب» والعثانين: جمع عُثنون وهي اللحية، والسَّبال: الشوارب. وهذا فيه فوائد: المنع من تقصيص اللحى لأنه من التشبه باليهود والنصارى وهذه آفة غير مخالفة أمر الشارع كما تقدم. وفيه من الفوائد: أن القصّ ينافي التوفير لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل هذا بإزاء هذا. قوله: (والتي في الجسد: حلق العانة, ونتف الإبطين, وتقليم الأظفار, والاستنجاء, والختان) وهذه الأشياء كلها تؤخذ. وقوله: (حلق العانة، ونتف الإبطين)

والشعور في البدن تنقسم ثلاثة أقسام

أي حلق شعر العانة, وهو شعر القبل من الذكر والأنثى, ونتف الإبطين. والشعور في البدن تنقسم ثلاثة أقسام: الأول: شعرٌ يؤمر بأخذه كالعانة والإبطين. والثاني: شعرٌ يُنهى عن أخذه كاللحية والحواجب. والثالث: شعرٌ مسكوت عنه. وقد اختُلف في هذا الثالث, فقال بعضهم: يُبقى, وهذا اختيار الشيخ محمد ابن عثيمين رحمه الله تعالى. وقال بعضهم: بل هو مما عفى الله عنه, وما سكت الله عنه فهو عفو, وهذا هو الصحيح, لكن على وجه يكون فيه الإنسان غير عامد لمشابهة النساء, وعلامة ذلك المواظبة عليه. واختلف في شعر الدبر, فقال بعضهم: هو ملحق بشعر العانة فيؤخذ. وقال بعضهم: لا يلحق, ولكن إن كثر حتى آذى ومنع من تكميل الطهارة فيؤخذ, وهذا هو الصواب. وهذه الأشياء التي ذكرها المؤلف منها ما يحتاج إلى أخذه على رأس الأسبوع كالأظفار وبعضها مؤقتة بأربعين يوماً؛ كما روى مسلم في

صحيحة من حديث أنس - رضي الله عنه -، قال: وُقِّت لنا في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة أن لا نترك أكثر من أربعين ليلة. (¬1) والمراد بهذا التوقيت أي النهاية التي يكون بعدها الإنسان داخلاً في الإثم, وجاء في مسند الإمام أحمد أن الموقت هو الرسول عليه الصلاة والسلام, ولكن في سند هذه الرواية صدقة بن موسى الدقيقي, وهو ضعيف, (¬2) ولكن لا شك أن الموقت هو الرسول - صلى الله عليه وسلم - , لكن الصيغة الموجودة في مسند أحمد ضعيفة. والأفضل في شعر العانة الحلق لا النتف, والأفضل في شعر الإبطين النتف لا الحلق, والفرق بين المكانين ظاهر, فالحلق في شعر العانة أولى في شد المحل, ونتفه يضعف المحل ويرخيه, مع ما فيه من ألم, أما الإبط فحلقه مما يجعل الشعر يغزر, ونتفه مما يجعل الشعر يضعف, وأما تقليم ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 12257) ومسلم (رقم:258) وأبو داود (رقم: 4200) والترمذي (رقم: 2759) والنسائي (رقم: 15) وابن ماجه (رقم: 295). (¬2) قد رواه أيضاً جعفر بن سليمان الضبعي عند الترمذي (رقم:2759) والبزار (رقم: 7387) وقال: وقت لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... قال أبو عيسى: هذا أصح من الحديث الأول يريد بالأول حديث صدقة بن موسى.

الأظفار فبالمقلمة, وكانت المقلمة من قبل آلة حادة, تُبرى بها الأقلام, فصاروا يسمون أخذ الأظفار تقليماً. وقوله: (والاستنجاء): هو استعمال الماء لإزالة النجو من الدبر والقبل. وأما الختان: فهو قطع القلفة من الذكر, وهو في الذكور واجب؛ لأنه متعلق بالطهارة, فلا تكمل طهارة الذكر إلا بإزالته, وقد اختلف في حكمه بالنسبة للنساء, والصحيح أنه مستحب في حقهن, وقد اختتن إبراهيم عليه السلام بالقدّوم بعدما مر عليه ثمانون سنة, واختلف في القدوم هل هو آلة أو اسم مكان, وعادة الناس في هذه الأزمنة أن يختنون الذكور وهم صغار, وهذا فيه مصالح كثيرة.

فصل: في كلام بعض أهل العلم في الختان

فصل في كلام بعض أهل العلم في المسألة قال النووي في المجموع (1/ 349) الختان واجب على الرجال والنساء عندنا وبه قال كثيرون من السلف كذا حكاه الخطابي وممن أوجبه أحمد وقال مالك وأبو حنيفة سنة في حق الجميع. ا. هـ. وقال ابن عابدين في حاشيته تعليلاً لإباحة النظر إلى محل الختان لأن الختان سنة للرجال من جملة الفطرة لا يمكن تركها، وهو مكرمة في حق النساء. وقال الباجي في شرح الموطأ (7/ 232): وقال مالك ومن ابتاع أمةً فليخفضها إن أراد حبسها ... وقال النساء يخفضن الجواري. وقال أبو محمد في المغني (1/ 115) فأما الختان فواجب على الرجال ومكرمة في حق النساء، وليس واجباً عليهن هذا قول كثير من أهل العلم، وقال أحمد الرجل أشد. وسئل شيخ الإسلام رحمه الله (21/ 114) عن المرأة هل تختن أم لا؟ فأجاب: الحمد لله، نعم تختتن، وختانها أن تقطع أعلى الجلدة التى كعرف الديك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، للخافظة، وهي الخاتنة: «أشمِّي ولا تنهكي،

فإنه أبهى للوجه، وأحظى لها عند الزوج» يعني لا تبالغي في القطع وذلك أن المقصود بختان الرجال تهيره من النجاسة المحتقنة في القلفة، والمقصود من ختان المرأة تعديل شهوتها، فإنها إذا كانت قلفاء كانت مغتلمة شديدة الشهوة، ولهذا يُقال في المشاتمة يابن القلفاء! فإن القلفاء تتطلع إلى الرجال أكثر، ولهذا يوجد في نساء التتر ونساء الافرنج ما لا يوجد في نساء المسلمين، وإذا حصلت المبالغة في الختان ضعفت الشهوة، فلا يكمل مقصود الرجل، فإذا قطع من غير مبالغة حصل المقصود بالاعتدال. أ. هـ. وقال ابن القيم في تحفة المودود «الفصل التاسع» في أن حكمه يعني الختان يعم الذكر والأنثى. قال صالح ابن أحمد: إذا جامع الرجل امرأته ولم ينزل؟ قال إذا التقى الختانان وجب الغسل. قال أحمد وفي هذا أن النساء كن يختتن، وسئل عن الرجل تدخل عليه امرأته فلم يجدها مختونة أيجب عليها الختان؟ قال الختان سنة. قال الخلال: وأخبرني أبو بكر المروذي وعبد الكريم بن الهيثم ويوسف بن موسى؛ دخل كلام بعضهم في بعض أن أبا عبد الله سئل عن المرأة تدخل على زوجها ولم تختتن أيجب عليها الختان؟ فسكت والتفت إلى أبي

حفص قال: تعرف في هذا شيئاً؟ قال: لا فقيل، إنه أتى عليها ثلاثون أو أربعون سنة فسكت قيل له فإن قدرت على أن تختتن؟ قال: حسن، قال وأخبرني محمد بن يحيى الكحال قال سألت أبا عبدالله عن المرأة تختتن؟ فقال خرجت فيه أشياء ونظرت فإذا خبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، حين يلتقي الختانان ولا يكون واحداً إنما هو اثنان قلت لأبي عبد الله: فلا بد منه قال الرجل أشد وذلك أن الرجل يختتن فتلك الجلدة مدلاة على الكمرة فلا يبقى ما ثمَّ، والنساء أهون قلت لا خلاف في استحبابه، واختلف في وجوبه وعن أحمد في ذلك روايتان أحدهما يجب على الرجل والنساء، والثانية يختص وجوبه بالذكور. ا. هـ. وقال القاري في المرقاة (8/ 289) وأما النساء فمكرمة ففي خزانة الفتاوى ختان الرجال سنة واختلفوا في المرأة، فقال في أدب القاضي مكروه وفي موضع آخر سنة وقال بعض العلماء واجب وقال بعضهم فرض قلت والصحيح أنه سنة. أ. هـ. ولمزيد النظر في الخلاف انظر: شرح السنة (12/ 110) شرح الشنقيطي على النسائي (1/ 145)، غاية المرام شرح مغني ذوي الأفهام (1/ 362)، مجموع رسائل الشيخ ابن عثيمين (4/ 117)، أحكام الطفل

للعيسوي ص 206، مجموع مؤلفات ابن سعدي، الفقه (2/ 96)، فتاوى اللجنة جمع الدويش (5/ 119). وقد حصل من أقوال العلماء في المسألة أقوال كما تقدم تبتدى من الكراهة حتى الوجوب، ولا شك أن إطلاق القول بأن حكم هذا الشيء محرم أو واجب لا بد له من دليل وإلا كان قولاً على الله بغير علم، وهو من أشد المحرمات، نسأل الله السلامة قال تعالى {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) (¬1)} وقال تعالى {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)} (¬2) وقد روى عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي وأبو داود من طريق سعيد بن أبي أيوب عن بكر بن عمرو عن أبي عثمان مسلم بن يسار عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «من أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه» ولفظ الدارمي: «من أفتى من غير ثبت» إسناده صحيح. ¬

(¬1) النحل: 116. (¬2) الأعراف: 33.

وروى الدارمي من طريق ابن المبارك عن سعيد بن أبي أيوب عن عبيد الله بن أبي جعفر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار» مرسل جيد، واعلم أن أحاديث الأمر بالختان أو أنه سنة في حق المرأة كلها معلولة وقد ضعفها أبو داود، والبيهقي وابن عبد البر كما في التمهيد (21/ 59)، وابن المنذر نقله عن المناوي في الفيض (1/ 216)، والعراقي كذلك ضعفها كما في تخريج الإحياء (1/ 312) والحافظ في الفتح (10/ 341)، والتلخيص (4/ 82 - 83)، والشوكاني في النيل (1/ 113) وغيرهم.

فصل: في تخريج الأحاديث والآثار الواردة في الباب

فصل في تخريج الأحاديث والآثار الواردة في الباب الحديث الأول: قوله «أشمي ولا تنهكي فإن ذلك أحظى للمرأة وأحب إلى البعل» رواه أبو داود عون (14/ 183) ومن طريق البيهقي (8/ 324) حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي وعبد الوهاب الأشجعي عن مروان عن محمد بن حسان عن عبد الوهاب الكوفي عن عبد الملك بن عمير عن أم عطية أن امرأة كانت تختتن بالمدينة فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكره .. وقد وقع في إسناده اضطراب واختلاف كثير، فرواه البيهقي في السنن والمعرفة (13/ 62) من وجه آخر عن عبيد الله بن عمرو الرقي حدثني رجل من أهل الكوفة عن عبد الملك بن عمير عن الضحاك بن قيس قال كان بالمدينة امرأة يقال لها أم عطية تخفض الجواري فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا أم عطية الحديث. ومن طريق محمد بن حسان رواه ابن عدي في الكامل (6/ 2223) عن عبد الملك بن عمير عن أم عطية ... دون ذكر عبد الوهاب ورواه الحاكم في المستدرك (3/ 525) من طريق عبيد الله به وسمى الرجل المبهم زيد ابن أبي أنيسة، ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب العيال (2/ 780) من

طريق عبيد الله بن عمرو عن عطية القرظي قال كان بالمدينة خافضة يقال لها أم عطية وهذا اختلاف شديد واضطراب. قال الحافظ في التلخيص (4/ 83) واختلف فيه على عبد الملك بن عمير فقيل عنه عن الضحاك بن قيس كان بالمدينة امرأة ... وقيل عنه عن عطية القرظي رواه أبو نعيم في المعرفة، وقيل عنه عن أم عطية رواه أبو داود في السنن وأعله بمحمد بن حسان فقال مجهول ضعيف .. أ. هـ وطريق الحاكم المذكورة لا تصلح للمتابعة فإنها من طريق هلال بن العلاء عن أبيه عن عمرو به، والعلاء ضعفه أبو حاتم بقوله منكر الحديث ضعيف، وكذلك حصل في إسناده اختلاف آخر هل سمعه عبد الملك بن عمير من أم عطية أم بينهما واسطة فقد قال الحافظ في الإصابة في ترجمة الضحاك وذكر بعض طرق هذا الحديث قال: وظهر من هذا أن عبد الملك دلسه على أم عطية والواسطة بينهما الضحاك بن قيس، والضحاك هذا قال يحيى لما سأله المفضل الغلابي عنه قال: الضحاك بن قيس هذا ليس بالفهري وعبد الملك بن عمير قال عنه أحمد كما في بحر الدم (279) مضطرب الحديث جداً، ما أرى له خمسمائة حديث، وقد غلط في كثير منها وهو مع ذلك مدلس قال الحافظ: مشهور بالتدليس

وصفه بذلك الدارقطني وابن حبان، وذكر ذلك عنه الذهبي والعلائي والمقدسي والحلبي. قلت: وتغير حفظه فإنه كبر وشاخ فالحديث ضعيف مضطرب. حديث آخر: روى الخطيب في تاريخه (12/ 291) من طريق عوف بن محمد أبو غسان حدثنا أبو تغلب عبدالله بن أحمد بن عبد الرحمن الأنصاري حدثنا مسعر بن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن علي قال: كانت خافضة بالمدينة فأرسل إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا خفضت فأشمي ولا تنهكي، فإنه أحسن للوجه وأرضى للزوج ....» رواه في ترجمة عوف هذا وقال عنه حدث عن يوسف بن عبده، وعنه عمرو بن علي وبندار قاله ابن منده. ا. هـ. وأبو البختري لم يسمع من علي شيئاً قال ابن سعد في الطبقات (6/ 293) كان أبو البختري كثير الحديث يرسل حديثه ويروي عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يسمع من كبير أحد فما كان من حديثه سماعاً فهو حسن وما كان عن فهو ضعيف. ا. هـ. وأبو تغلب لا يُدرى ما حاله فالحديث لا يصح.

حديث آخر: روى البيهقي (8/ 324) وابن أبي الدنيا (2/ 779) والطبراني في الصغير (1/ 92)، والأوسط (7/ 195)،وابن عدي في الكامل (3/ 1083) والخطيب في تاريخه (5/ 327)، كلهم من طريق زائدة بن أبي الرقاد عن ثابت عن أنس قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا خفضت فأشمي ولا تنهكي فإنه أسرى للوجه وأحظى عند الزوج». وزائدة منكر الحديث كما قال البخاري والنسائي، قال ابن عدي له أحاديث أفرادات وفي بعض حديثه ما ينكر. حديث آخر: روى أبو نعيم في تاريخ أصبهان (1/ 245)، حدثنا أبو محمد بن حيان حدثنا جعفر بن أحمد بن فارس حدثنا إسماعيل بن أبي أمية حدثنا أبو هلال الراسبي سمعت الحسن حدثنا أنس قال: كانت خاتنة بالمدينة يقال لها أم أيمن فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا خفضت فأضجعي يدك، ولا تنهكيه، فإنه أسنى للوجه وأحظى للزوج». وإسماعيل بن أبي أمية غالب ظني أنه الذي ذكره الدارقطني في سننه (3/ 32،34) و (4/ 20) فإنه من هذه الطبقة قال الدارقطني ضعيف

متروك الحديث، وقال مرّة: يضع الحديث فإن يكنه فالحديث باطل، وأبو هلال لين الحديث. حديث آخر: روى أحمد في مسنده (5/ 75) وابن أبي الدنيا (2/ 77) في كتاب العيال)، وابن أبي شيبة في المصنف (5/ 317)، والبيهقي (8/ 325)، والطبراني في الكبير (7/ 329)، من طريق حجاج بن أرطاة عن أبي المليح بن أسامة عن أبيه عن شداد بن أوس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الختان سنة للرجال، ومكرمة للنساء». عند أحمد والبيهقي دون ذكر شداد. وروي من وجه آخر فرواه البيهقي (8/ 325)، وابن عساكر في تبيين الامتنان بالأمر بالختان (ح26) من طريق حجاج عن مكحول عن أبي أيوب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فذكره بمثل الذي قبله. قال أبو حاتم في علله (2/ 247) سألت أبي عن حديث رواه حفص بن غياث عن حجاج بن أرطاة عن أبي المليح عن أبيه عن شداد بن أوس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الختان سنة للرجال ومكرمة للرجال»، ورواه عبد

الواحد بن زياد عن حجاج عن مكحول عن أبي أيوب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أبي: الذي عن حجاج عن مكحول خطأ وإنما أراد حجاج ما قد رواه مكحول عن أبي الشمال عن أبي أيوب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «خمس من سنن المرسلين ....» الحديث فترك أبا الشمال فلا أدري هذا من الحجاج أم من عبد الواحد وقد رواه النعمان بن المنذر عن مكحول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكره. ا. هـ. يعني مرسلاً. قال ابن عبد البر في التمهيد (21/ 59) بعد ذكر حديث شداد واحتج من جعل الختان سنة بحديث أبي المليح هذا وهو يدور على حجاج بن أرطأة وليس ممن يحتج بما انفرد به، والذي أجمع عليه المسلمون الختان في الرجال على ما وصفناه. ا. هـ. وقال البيهقي عقب حديث شداد: «الحجاج بن أرطأة لا يحتج به وقيل عنه عن مكحول عن أبي أيوب، وهذا منقطع ثم أسنده عن حجاج به» قلت لأن مكحولاً لم يسمع من أبي أيوب. وقال الحافظ في التلخيص (4/ 82) والحجاج مدلس وقد اضطرب فيه فتارة يروي كذا (يعني عن أبي المليح عن أبيه) وتارة بزيادة شداد بن أوس بعد والد أبي المليح ثم ذكر ما تقدم من كلام الأئمة، فالحديث ضعيف مضطرب.

حديث آخر. روى البيهقي (8/ 325) والطبراني (11/ 233) من طريق الوليد حدثنا ابن ثوبان عن محمد بن عجلان عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الختان سنة للرجال مكرمة للنساء» وضعفه البيهقي بقله هذا إسناد ضعيف والمحفوظ موقوف وقال في المعرفة لا يصح رفعه، ورواته موثقون إلا أن فيه تدليس (كذا في التلخيص). قلت: الوليد بن الوليد قال أبو حاتم صدوق وقال الدارقطني متروك. ا. هـ. من الميزان ووقع في تعيينه اختلاف كما في اللسان وقال ابن حبان في المجروحين (3/ 81): «الوليد بن الوليد يروي عن ابن ثوبان وثابت بن يزيد العجائب» وشيخه عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان متكلم فيه. ثم رواه البيهقي في سننه من طريق ابراهيم بن مجشر ثنا وكيع عن سعيد بن بشير عن قتادة عن جابر بن زيد عن ابن عباس - رضي الله عنه - من قوله، ورواه ابن عدي في الكامل (1/ 272) من طريق ابراهيم به، ثم قال: وابراهيم له أحاديث منكرة من جهة الإسناد غير محفوظة وترجمه في اللسان، وذكر في حديث الترجمة من منكراته، وذكر جرحه عن طريق

جماعة وسعيد ضعيف، ورواة الطبراني في الكبير (12/ 182) من طريق سعيد به. رواه الطبراني في الكبير من وجه آخر (11/ 359). حدثنا الحسن بن علي الفسوي ثنا خلف بن عبد الحميد ثنا عبد الغفور عن أبي هاشم عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: فذكره موقوفاً وعبد الغفور متروك ترجمه في المجروحين والميزان وضعفاء العقيلي وغيرها حديث آخر. روى البزار في مسنده (1/ 669) مختصر الزوائد لابن حجر من طريق مندل بن علي عن ابن جريج عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه -. قال: «دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - نسوة من الأنصار فقال: يا نساء الأنصار اختضبن غمساً، واخفضن ولا تنهكن، فإنه أحظى عند أزواجكن، وإياكن وكفر المنعمين. قال مندل يعني الزوج، ومندل ضعيف، ورواه ابن عدي (3/ 901) من طريق خالد بن عمرو القرشي عن الليث عن يزيد عن أبي حبيب عن سالم عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه وخالد بن عمرو متروك الحديث بل كذبه يحى بن معين ونسبه إلى الوضع جماعة كصالح جزرة وابن عدي وغيرهم.

فصل: في الآثار في الختان

فصل في الآثار: روى البخاري في الأدب المفرد (1245):حدثنا موسى ابن إسماعيل حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثتنا عجوز من أهل الكوفة ـ جدة علي بن غراب ـ حدثتني أم المهاجر قالت: سبيت في جوار من الروم فعرض علينا عثمان الإسلام فلم يسلم منا غيري وغير أخرى، فقال عثمان: ... «اذهبوا فاخفضوهما وطهروهما». والعجوز هذه اسمها طلحة تكنى بأم غراب لا يعرف حالها وأم المهاجر الرومية مقبولة. أثر آخر: روى البخاري في الأدب المفرد: حدثنا أصبغ أخبرني ابن وهب أخبرني عمرو أن بكيراً حدثه أن أم علقمة أخبرته أن بنات أخي عائشة - رضي الله عنه -، ختنا فقيل لعائشة ألا ندعو لهن من يلهيهن ...». أصبغ بن الفرج وراق عبد الله بن وهب، وعمرو بن الحارث وبكير بن الأشج لا يُسأل عنهم، وأما علقمة هذه خرج لها البخاري في الآداب كما

هنا وعلق لها في الحيض من صحيحه (¬1)، قال العجلي، مدينة تابعية، ثقة وذكرها ابن حبان في الثقات وفي التقريب مقبولة (¬2) واسمها مرجانة. آثر آخر: قال إبراهيم ابن إسحاق الحربي في غريب الحديث (2/ 553). حدثنا موسى حدثنا حماد عن عبيد الله ابن أبي المليح عن أبي المليح «أن ختانة خفضت جارية فماتت فرفعت إلى عمر فقال: كيف خفضتيها؟ قالت: كما كنت أخفض قال: وما أبقيتي، فضمّنها». قلت: موسى هو ابن إسماعيل المنقري، وحماد هو ابن سلمة وعبيد الله ابن أبي حميد هكذا صوابه لا ابن أبي المليح فهذا تحريف وليس لأبي المليح ابن أسمه عبيد الله، ثم لو كان كذا لقيل عن أبيه، كما هو الجادة، وعبيد الله هذا هو أبو الخطاب ضعيف منكر الحديث يروي عن أبي المليح عجائب كما قال الأئمة. وأبو المليح لا أظن أنه ادرك عمر. ¬

(¬1) كذا قال الحافظ في اللسان والذي رأيت في الصحيح في الصيام في باب الحجامة والقيئ للصائم وانظر: تحفة الأشراف (12/ 433) وأظن أنه لم يصرح بها في الحيض بل أبهت. (¬2) والأقرب أنها فوق ذلك، وأنها لا بأس بها.

هذا ما وقفت عليه من الأخبار في ختان المرأة وهي كما ترى معلولة سوى أثر عائشة مع بنات أخيها، وظاهر ما نقله الخلال عن أحمد رحمه الله حينما احتج بحديث «إذا التقى الختانان» الذي رواه مسلم وغيره، أقول ظاهره أنه لم يعول على هذه الأخبار ولم تصح عنده وإلا لذكر ذلك، وأما استدلال بعضهم بحديث «خمس من الفطرة» أخرجاه، أقول الفرق ظاهر بين الجنسين شرعاً وحساً. فالختان في حق الرجل تعود مصلحته إلى شرط من شروط الصلاة وهو الطهارة لاجتماع بقايا البول في القلفة وهو أيضاً ميزة للمسلمين يتميزون بها عن الكفار، حيث كان المسلمون يعرفون قتلاهم في المعارك بهذا وغايته في المرأة أن يعدل شهوتها ويقلل من غلمتها (¬1) ثم إن قوله ... «أشمي ولا تنهكي .....» لو صح يفيد أن المرأة لها ثلاثة أحوال (¬2). الحالة الأولى: أن لا تختتن، وبها الوجه والحظوة عند الزوج حاصلة لها مع وفور الشهوة، فإن قوله «فإنه أحظى عند الزوج وأبهى للوجه» راجع إلى قوله: «ولا تنهكي» لا إلى قوله «اشمي». ¬

(¬1) فتاوى ورسائل ابن عثيمين (4/ 117). (¬2) وانظر كلام شيخ الإسلام أو البحث.

الحالة الثانية: أن تختتن من غير مبالغة، وهذا تعتدل شهوتها، والحظوة عند الزوج، وبهاء الوجه حاصل لبقاء شيء من موضع الختان، وهذه الحال الفضلى. الحالة الثالثة: أن تختتن فتبالغ جداً ولا تبقي شيئاً فهذا تذهب شهوتها أو تكاد، فتذهب حظوتها عند زوجها. وخلاصة الكلام أن ختان المرأة لم يصح بالأمر به شيء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو دائر بين الإباحة والاستحباب (¬1) فإن مجموع ما ذكر يفيد هذا أن شاء الله - أما الوجوب فلا والله. فواعجباً للشافعية كيف يقولون به. (¬2) ¬

(¬1) وتقدم كلام ابن القيم وقوله خلاف في استحبابه، فإن أراد الإجماع فتسقط مرتبة الإباحة إن صح وقوع الإجماع، وإلا فالمسألة بحالها وكلامه ليس صريحاً في الإجماع، وتقدم قولٌ بالكراهة. (¬2) وبعد كتابة هذا الجزء بأزيد من سنة تأملت ما رواه وقال البخاري في كتاب المغازي: باب قتل حمزة بن عبد المطلب - رضي الله عنه -، وأسند عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري قال خرجت مع عبيد الله بن عدي بن الخيار، فلما قدمنا حمص قال لي عبيد الله بن عدي: هل لك في وحشي ... فذكر قصة قتله لحمزة وفيه فلما اصطفوا للقتال خرج سِباع فقال: هل من مبارز؟ فخرج إليه حمزة فقال: ياسباع يا ابن أم أنما مقطعة البظور ...» قال الحافظ قال ابن إسحاق: كانت أمه ختانة بمكة تختن النساء. ا. هـ.= = المقصود، إنما يستقيم الاستدلال به على مشروعية الختان إذا جرى العمل به في الإسلام، وحمزة وإن عير سباعاً به لكنه لا يكذب فالصحابة كلهم عدول ثقات، وقد جرى العمل بذلك وأثر عائشة يدل عليه، والله أعلم.

فصل: ويكره نتف الشيب

فَصْلٌ وَيُكْرَهُ نَتْفُ الشَّيْبِ، فَقَدْ وَرَدَ فِيْ الْحَدِيْثِ أَنَّهُ نُوْرُ اللهِ. وَهُوَ أَيْضًا نَذِيْرُ الْمَوْتِ، وَيُقَصِّرُ الأَمَلَ، وَحَاثٌ عَلَى حُسْنِ العَمَلِ، وَوَقَارٌ. وَيُكْرَهُ حَلْقُ القَفَا؛ إِلَّا لِمَنْ أَرَادَ الحِجَامَةَ، كَذَلِكَ رُوِيَ فِيْ السُّنَنِ. قال المؤلف: (فصل ويكره نتف ..... كذلك روي في السنن) الأصل فيما ذكره المؤلف ما رواه أهل السنن وأحمد والسياق عند أحمد مطولاً من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وطريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده حسن إذا صح السند إليها. وهو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص. وعمرو بن شعيب يروي عن أبيه شعيب, وشعيب يروي عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص, وليس الضمير راجعاً إلى عمرو نفسه, فإن محمداً ليس صحابياً, وإنما عمرو بن شعيب يروي عن أبيه شعيب,

وشعيب يروي عن جده عبد الله, وقد روى أهل السنن وأحمد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن نتف الشيب. (¬1) وفي لفظ: «لا تنتفوا الشيب فإنه نور المسلم، ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام إلا كتب الله له بها حسنة، ورفع بها درجة، أو حط عنه خطيئة» (¬2) هذا سياق أحمد - رحمه الله - وروى مسلم عن أنس موقوفاً - رضي الله عنه -، أنه قال: يكره أن ينتف الرجل الشعرة البيضاء من رأسه ولحيته. (¬3) فهذا الحكم ثابت في نتف الشيب لهذا الخبر أولاً, وحمل النهي جماهير أهل العلم على الكراهة. والأمر الثاني: أنه علله بالنور, فالذي ينتف يذهب نوره على الصراط. ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 6672 و 6675) وأبو داود (رقم: 4202) والترمذي (رقم: 282) والنسائي (رقم: 9285) وابن ماجه (رقم: 372). (¬2) أخرجه أحمد (رقم: 6672) وابن ماجه (رقم: 372 والترمذي (رقم: 282) والنسائي (رقم: 9285) والبيهقي (رقم: 14605). (¬3) أخرجه مسلم (رقم: 2341).

مسألة: أما الصبغ بغير السواد

وتشتد الكراهة إذا كان الأخذ من اللحية؛ لأنه حينئذٍ يكون فيه أخذ من اللحية من غير حاجة, فهو في اللحية أشد, والحكم العام عند جماهير أهل العلم أنه مكروه. مسألة: أما الصبغ بغير السواد للشيب إذا كثر, فهذا سنة, فإن قال قائل: قد ورد في الحديث التعليل بأنه نور المسلم, نقول: كونه نوراً لا يمنع من صبغه, فإنه يسمى شيباً مصبوغاً, وليس بلازم اشتراك البياض بالنور، فمادام أن هذه الشعرة تسمى شيبة, فإنها تكون نوراً يوم القيامة, فإذا صبغها فقد صبغ الصحابة ومن بعدهم, فلا منافاة بين صبغ الشيب وكونه نوراً. واختُلِف هل صبغ النبي - صلى الله عليه وسلم - ,أم لا؟ والتحقيق أنه لم يصبغ وفيه بحث متفرق للحافظ أبي الفضل ابن حجر في شرح البخاري فليراجعه من أحب. قوله: (وفي الحديث أنه نور الله) كأن المؤلف وهم في سياق الحديث, فإنه نور المسلم. ولعل لفظة: (نور الله) هنا بمعنى إضافة مخلوق إلى خالقه, أي: النور الذي جعله الله للمسلم, كناقة الله وبيت الله, ولكن هذه إضافة

تشريف, وهنا لم يجيء أن نور الله إضافة تشريف, فيكون من إضافة الشيء إلى خالقه وموجده, يعني أن الله جعله نوراً, فيستحيل الشيب على الصراط نوراً, وهذا جزء من النور الذي يكون على الصراط, الذي يُعطاه أهل الإيمان. قوله: (وهو أيضاً نذير الموت ..... وهو وقار). كل هؤلاء الأربع لا أحفظ أنه صح فيها خبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - , وإنما هي بالنظر إلى الحال, وقد فُسِّر قوله تعالى: {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} (¬1) بأنه الشيب, وأيضاً في هذا التفسير نظر, بل النذير هو الرسول, وقد يشيب الإنسان في سن مبكرة فيكون قوي الآلات والأعضاء فلا يكون على إطلاقه نذير موت, وقد يتأخر الشيب في شخص مع وهن الأعضاء وضعف البنية، وتعبير المؤلف بالغالب. قوله: (ويكره حلق القفا ....... كذلك روي في السنن) ¬

(¬1) فاطر: 37.

مراد المؤلف في السنن يعني الأخبار الواردة عن النبي عليه الصلاة والسلام, وهناك خبر في النهي عن القزع في الصحيحين (¬1) , وأما النهي عن حلق القفا فلا يصح فيه خبر. وأما شعر الرأس وأحكامه, فالأصل جواز توفير شعر الرأس, وقد اختلف في توفيره وتوفيته وإكثاره, فقال بعض أهل العلم أنه سنة, بشرط الإكرام والتعاهد, وقالوا أيضاً بشرط أن يكون الإكرام والتعاهد غبّاً؛ (¬2) لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صح عنه أنه نهى عن الترجل إلا غبّاً, والمراد بالترجل أن يزين ¬

(¬1) أخرجه البخاري (رقم: 5576 و 5577) ومسلم (رقم: 2120) ولفظ البخاري: عن عبيد الله بن حفص: أن عمر بن نافع أخبره، عن نافع مولى عبد الله، أنه سمع ابن عمر - رضي الله عنهما - يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن القزع. قال عبيد الله: قلت وما القزع؟ فأشار لنا عبيد الله، قال: إذا حلق الصبي وترك ها هنا شعرة، وها هنا، وها هنا، فأشار لنا عبيد الله إلى ناصيته، وجانبي، رأسه. قيل لعبيد الله: فالجارية والغلام؟ قال: لا أدري هكذا قال: الصبي. قال عبيد الله: وعاودته، فقال: أما القصة، والقفا للغلام، فلا بأس بهما، ولكن القزع أن يترك بناصيته شعر، وليس في رأسه غيره، وكذلك شق رأسه هذا وهذا. (¬2) الغِبّ: بكسر المعجمة وتشديد الباء، وهو أن يفعل يوماً ويترك يوماً، والمراد به النهي عن المواظبة عليه، والاهتمام به لأنه مبالغة في التزيين وتهالك في التحسين. حاشية السندي على النسائي - (8/ 132).

الإنسان شعره باستخدام الدهن وما يصلح الشعر, أما مجرد التسريح فيجوز في كل وقت للّحية والرأس. والمراد بالترجل في ألفاظ الحديث النبوي وألفاظ الفقهاء هو: استعمال مادة لإصلاح الشعر من دهن أو نحوه, وأما مجرد استعمال المشط فلا يسمى ترجلاً. وهذا أحد الأقوال المنقولة عن الإمام أحمد, وقال: إنه سنة ولكن له مؤنة وكلفة, وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوفر شعره، وهذه حجة من قال أن توفير الشعر سنة. وكان - صلى الله عليه وسلم - يفرقه من الوسط, وكان يتعاهده بنفسه أو بأهله, كما في خبر عائشة في قصة اعتكافه عليه الصلاة والسلام, حينما كانت ترجل شعره وهو في المسجد (¬1) , وقالوا: أنه لم يعهد عنه حلقه إلا في حج أو عمرة, وهذه حجة من اشترط الإكرام، وقالوا أيضاً: أنه قد كان لبعض أصحابه لمّة كأبي قتادة وغيره. ¬

(¬1) أخرجه مالك في الموطأ (رقم: 1108) أحمد (رقم: 24284) البخاري (رقم: 1924 و 1925) ومسلم (رقم: 297) وأبو داود (رقم: 2469 و 2471) والترمذي (رقم: 804) والنسائي (رقم: 3370).

وقال بعضهم: ليس بسنة, والنبي - صلى الله عليه وسلم - مشى على عادة العرب في اتخاذ الشعر, فهو يحكمه العادات. لكن السنة جاءت بضوابط في إكرامه ودهنه وتنظيفه وألا يكون ثائراً, ولم تجيء قط بالأمر بتوفيته وإصلاحه وما أشبه ذلك, إنما جاءت بأنه إذا اُتخذ فإنه يفعل به كذا وكذا, وفي الحديث: «من كان له شعر فليكرمه» (¬1) وهو حديث لا بأس به، وقد بسطت الكلام عليه وتخريجه في شرح منتقى الأخبار يسر الله إتمامه. ونهي الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الترجل إلا غبّاً (¬2) , يدل على هذا الشيء, وكان لأبي قتادة لمّة كبيرة فاستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتعاهدها يوميّاً، فأذن له، لأنه كان إذا تعاهدها غبّاً أسرع إليها الشعث, فقيل أنه أذن له لذلك, وقد رواه النسائي من طريق محمد بن المنكدر عن أبي قتادة، وقيل لم يسمع منه مع أن في متنه اختلافاً .. وقد روي عن أحمد رحمه الله أن توفير الشعر عن ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (رقم: 4163) قال الحافظ في الفتح (10/ 368) سنده حسن. والبيهقى في شعب الإيمان (رقم: 6455) والطبراني في الأوسط (رقم:8485). (¬2) أخرجه أحمد (رقم: 16839) أبو داود (رقم: 4161) والترمذي (رقم: 1756) والنسائي (رقم: 5055 و5056) والطبراني في الأوسط (رقم: 2436) وهذا هو حديث عبد الله بن مغفل وقد اختلف في وصله وإرساله وفيه اضطراب أيضاً، لكن له شاهد من حديث حميد الحميري عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضاً، فبه يثبت الخبر.

أقسام الحلق

بضعة عشر رجلاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن نقول أن من وفّره بنية اتباع النبي وأصحابه فإنه لا يلام على ذلك, ولكن إن كان شعاراً لأهل الفسق فينبغي مخالفته؛ لأنها لم تثبت بها سنة صريحة، وتغلب جانب المفسدة إذا تحققت. فحينئذٍ يكره ترك الشعر وقد نص على مثل هذا ابن عبد البر - رحمه الله - في التمهيد وغيره من أهل العلم, قال ابن عبد البر: وإنما توفية الشعر وإكثاره في عصرنا, إنما هو لأهل الفسق والمجون. (¬1) وأما بالنسبة لحكم حلق الشعر، فقد اختلف فيه أهل العلم - رحمهم الله تعالى - وقد قسّم أهل العلم ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - الحلق إلى أقسام: القسم الأول: هو حلق الرأس على وجه التدين والتعبد والزهد من غير حج ولا عمرة أو عند التوبه فهذا ونحوه من البدع. القسم الثاني: حلقه في نسك الحج أو العمرة, فيكون مخيراً فيها بين الحلق وبين التقصير, وهذا واجب، وقربة. ¬

(¬1) التمهيد (6/ 80).

القسم الثالث: ما تدعو إليه الحاجة؛ كحجامة, أو تداو بالحلق, أو ما أشبه ذلك, فهذا مباح. القسم الرابع: حلقه لغير حاجة فمن أهل العلم من كره حلق الرأس والمواظبة عليه, وهذا مشهور مذهب مالك, واستدل بأن الخوارج سيماهم التسبيد, أي التحليق, وكانوا يواظبون عليه, ولما جاء ذو الخويصرة التميمي, وكان كث اللحية, محلوق الرأس, وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يخرج من ضئضئ هذا الرجل» أي من أصله أناس يتشبهون به, وقد خرج الخوارج بهذا الشيء, ولما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمقاتلتهم، قال: «تمرق مارقة على حين فرقة من الدين (¬1) سيماهم التحليق، أي يلزمونه, وقيل يوجبونه ويتعاهدون رؤوسهم دائماً بالحلق, ومن هنا كرهه الإمام مالك. وجمهور أهل العلم على جواز الحلق بلا حاجة، واحتجوا بما سيأتي من كونه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن القزع, كما في حديث ابن عمر في الصحيحين (¬2) , وفسره نافع أن يحلق بعض شعر رأس الصبي ويترك البعض, فدل على أن القزع المحرم أن يحلق بعض الشعر ويترك بعضه, وأما إذا حلقه كله أو تركه ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 11021 و 11293) والبخاري (رقم: 4094) ومسلم (رقم: 1064) وأبو داود (رقم: 4667) والنسائي (رقم: 8511). (¬2) سبق تخريجه.

كله فمباح, فدل على أن الحلق كلياً مباح, وهذا هو الصحيح, لكن المواظبة على الحلق من غير حاجة ولا تداو ولا مصلحة تعود إلى الشخص ينبغي تركها, إنما يفعله للحاجة. وأما حكم حلق بعض الرأس وترك البعض, فقد ثبت في الصحيحين من غير وجه من حديث ابن عمر، من طريق نافع مولى ابن عمر، عنه، ومن طريق مالك، عن عبد الله بن دينار، عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن القزع. (¬1) والقزع مأخوذ من القزعة, وهي السحابة المنفردة في السماء, ومنه قول أنس في حديث الاستسقاء: والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة، فخرجت سحابة من خلف سلع، ثم توسطت السماء ثم رعدت. (¬2) الحديث. فالقزع مثل ما فسره نافع، هو: أن يحلق بعض شعر الصبي ويترك البعض. وأجمع العلماء على كراهيته ولا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة, واختلف في علة الكراهة: ¬

(¬1) سبق تخريجه ص62. (¬2) أخرجه البخاري (رقم: 967 و 968) ومسلم (رقم: 897).

فقيل: أنه يشوه الخلقة, وقيل: أنه زي الشيطان وصفته, وقيل: أنه من زي اليهود, وعلى هذه العلة الأخيرة يكون القزع من التشبه بالكفرة. وصورة القزع: هو: أن يحلق بعض الرأس ويترك البعض, ففي أي بقعة وقع الحلق مع ترك الباقي فهذا قزع, سواءً كان هذا المحلوق هو وسط الرأس وترك الجانبين, أو كان المحلوق الجانبين وترك الوسط, أو كان المحلوق من الأمام وترك الخلف, أو كان المحلوق من الخلف وترك الأمام, أو غير ذلك مما يكون فيه حلق البعض وترك البعض, فهذا كله من القزع المنهي عنه. والمراد بالقزع المنهي عنه: أن يكون هناك استئصال للشعر, أو قريب منه. ومما يكون من ذلك ما ذكر المؤلف، بقوله: (ويكره حلق القفا). والصحيح أنه يحرم إلا لحاجة كالتخلص من أذى الشعر وحركته على الملابس، وأما لغير حاجة فكما أنه ارتكاب للنهي, ففيه أيضاً مشابهة للمجوس، على ما قيل وقد قيل أن المجوس يحلقون القفا, فهذا لا يجوز؛ إلا إذا كان الإنسان يداوي بعض رأسه بالحجامة أو نحوها. وعلم بهذا أن كثيراً من قصات الشعر الموجودة التي يفعلها كثير من الشباب, داخلة في القزع المحرم, ومنها القصة المشهورة التي تسمى

(الكابوريا) وهي التي يحلق أطراف الشعر من الصدغين والقفا, ويترك الوسط؛ كما أن القزع المحرم فيه تشبه بالكفرة, فهي جاءت من النصارى, فحينئذٍ تكون فيها مفسدتان. أما ما يتعلق بأحكام شعر الرأس بالنسبة للمرأة، فإنه لا يتأتى فيها مسألة الحلق, وقد اختلف العلماء في حلق المرأة رأسها, ونقول: من أهل العلم من رأى جواز حلق شعر رأس المرأة عند الحاجة التي لا تصل إلى الضرورة, والصحيح أن المرأة لا يجوز لها أن تحلق رأسها. وقد جاء في حديث خلاس بن عمرو، عن علي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تحلق المرأة رأسها. (¬1) ولكن إسناده منقطع. ولهذا فالمرأة في الحج والعمرة تقصر من شعرها تقصيرا يسيرا أيضاً, ومن ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الحيض: أن نساء النبي عليه الصلاة والسلام لما مات قصصن رؤوسهن كالوفرة. (¬2) والوفرة هي الشعر الذي يضرب الأذنين, والجمة الشعر الذي يضرب إلى المنكبين, ومن هنا اختلف أهل العلم في قص المرأة شعر رأسها. ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (رقم: 914). (¬2) أخرجه مسلم (رقم: 320).

فقال بعضهم: لا يجوز مطلقاً, وهذا اختيار صاحب كتاب المستوعب من الحنابلة. وقال بعضهم: يجوز مع الكراهة, واستدلوا بفعل أزواج النبي عليه الصلاة والسلام، حينما قصصن شعورهن كالوفرة. وهن فعلنه للحاجة, ولأنهن أيِسنَ من الأزواج بعد النبي عليه الصلاة والسلام, فهن أزواجه في الآخرة, ولا سبيل لهن إلى الزواج في الدنيا بعد موته , والشعر له كلفة ومؤونة، ولكن لا يتجاوز حد الوفرة، ولا يصل إلى حد شعر الرجال, وعليه فهو جائز إلى هذا الحد, لا سيما إذا دعت الحاجة إلى ذلك, ومن الحاجة كثرة الشعر, وتشعثه, وخروج رائحة منه, وقشرة، وما أشبه ذلك, وإلا فالأولى ألا تفعل, وأما فعل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فالظاهر أنه كان يشق عليهن توفير الشعر, وليس حال الناس فيما مضى كالحال الآن, فالآن يمكن القضاء على هذه الآفات بالمستحضرات والغسل المتكرر, هذا إذا تجرد القص عن العلة المحرمة, فأما إذا كان القص مشابهةً لكافرة معينة, أو للكوافر بعامة, أو للفواسق, فهذا لا يجوز, لما فيه من التشبه. ومن أهل العلم من قال: إن الوفرة هي ما وصل إلى المنكبين, وقال: إن شعر المرأة لا يجوز أن يكون أنقص من المنكبين.

ولكن جمهور أهل اللغة على أن الوفرة هي إلى شحمة الأذن, وهذا مذهب جمهور أهل اللغة. وأجاز بعض الحنابلة أن تقص المرأة شعرها من الأمام فقط، وتتركه من الخلف، لدعاء الحاجة لذلك, حتى لا ينزل على جبهتها ووجهها, والصحيح في مسألة قص الشعر من الأمام إذا دعت الحاجة إليه بالنسبة للمرأة، أنه لا بأس به؛ لأنه قد يؤذيها بكثرة سقوطه على وجهها, فتحتاج إلى كفّه.

فصل: ولا ينبغي لأحد أن يهجم على

فَصْلٌ وَلَا يَنْبَغِيْ لِأَحَدٍ أَنْ يَهْجُمَ عَلَى أَقَارِبٍ أَوْ أَجَانِبٍ؛ لِئَلَّا يُصَادِفَ بَذْلَةً مِنْ كَشْفِ عَوْرَةٍ. وَيَسْتَأْذِنُ ثَلَاثَاً، فَإِنْ أُذِنَ لَهُ وَإِلَّا رَجَعَ. (فصل: ولا ينبغي لأحد أن يهجم ....... وإلا رجع). هذا الفصل يتعلق بمسألة الاستئذان. والاستئذان طلب الإذن من أجل الدخول في البيوت، والمحالّ التي يستتر فيها الناس كالحُجر, والأبنية, والمجالس المستورة, ومثله في عصرنا الاستراحات وما أشبه ذلك, فالأصل أن الإنسان لا يتقحم بيت غيره, ولا مكاناً يستتر به الناس عادة، سواء كان هذا المستتر واحداً أو جماعة إلا بإذن, وهذا الإذن إما أن يكون إذناً صريحاً, أو إذناً جرت به العادة. فالإذن الصريح: بأن يسمح صاحب الدار بكلام, أو إرسال من يأذن له، ثم الإتيان فوراً. والعرفي: كأن يكون الباب مفتوحاً وقد سبق له سماح بالقدوم.

وأما فتح الباب من دون سبق إذن بالدخول فلا يبيح الدخول, فإن بعض الناس قد يفتح بابه, فهذا لا يعني جواز الدخول, ولا يعني جواز النظر أيضاً. وقال بعض الناس: أن الإنسان إذا فتح باب داره, فيجوز للمار أن ينظر؛ لأنه لا ينظر من ثقب الباب, بل ينظر والباب مفتوح، وليس هذا بصحيح فلا يجوز النظر للعورة، ولو كانت مكشوفة في الشارع, فكيف وهي في البيت، وأما الدخول فمتفقون على أنه لا يدخل إلا باستئذان, سواءً كان الباب مفتوحاً أو مغلقاً. وقد ثبت في السنة: أن الإنسان إذا أتى دار غيره أن يستأذن ثلاث مرات من أجل أن يسمع أهل الدار, وينظروا في الأمر ويتأملوا, فإن شاؤوا بعد الثالثة سمحوا بالدخول, وإن شاؤوا سكتوا, وعلى الذي في الخارج أن يرجع, كما قال تعالى: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} (¬1) وصفة الاستئذان: إن كان الإنسان قريباً يسمع الكلام أن يقول: السلام عليكم يا فلان أأدخل؟ ثلاث مرات, ويفرق بينها, فإن لم يجد جواباً فليرجع, وإن لم يكن أهل الدار قريبين والباب مقفل أو به جرس فبالدق بحيث يغلب على الظن أن أهل الدار يسمعون, وقد روى أبو ¬

(¬1) النور: 28.

داود في باب الاستئذان بالدق (¬1) في سننه, فهذا يجري مجرى الاستئذان, وجرت به العادة في هذه الأعصار وقبلها بأزمنة, بل وجد في عهد الصحابة أن طرق الباب يؤذن بأن شخصاً عند الباب, فيضربه ثلاث مرات متفرقة, فالمرة الثالثة إن لم يؤذن له فينصرف, وحينئذٍ يجب الانصراف ويحرم أن يزيد رابعة ,ويجب على الإنسان إذا سئل عن اسمه وهو يستأذن على أهل البيت، أن يصرح باسمه, ولا يقول: أنا, وقد استأذن جابر مرةً على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «من»؟ , فقال: أنا, فقال: "أنا أنا", فكأنه كرهها. (¬2)؛ لأنه لا يحصل بها التعريف, فإن (أنا) تصدُق على جميع الناس، فلا يقول الإنسان: أنا, بل يقول: أنا فلان, وإن كان معروفاً بصوته، لأجل أنه قد تختلط الأصوات على صاحب المكان، وصح عن أبي موسى - رضي الله عنه -: أنه أتى عمر، فاستأذن ثلاثاً، فقال: يستأذن أبو موسى، يستأذن الأشعري، يستأذن عبد الله بن قيس. فلم يؤذن له، فرجع، فبعث إليه عمر ما ردك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يستأذن أحدكم ثلاثاً فإن أذن له وإلا فليرجع» (¬3) ¬

(¬1) سنن أبي داود (4/ 512). (¬2) أخرجه البخاري (رقم: 8965) ومسلم (رقم: 2155). (¬3) أخرجه ومالك (رقم: 3540) والطيالسي (رقم: 2164) والبخاري (رقم: 1956) ومسلم (رقم: 2153) وأبو داود (رقم: 5183) وابن ماجه (رقم: 3706).

يعني أتى بالاسم والكنية واللقب, هذا ما يتعلق بالاستئذان من خارج البيوت. أما بالنسبة للاستئذان من داخل البيوت: فهو أشد على أهل الدار, وقد يقال أيضاً: الاستئذان من الخارج أشد؛ لأجل أنه أجنبي. واستئذان أهل الدار بعضهم على بعض, هذا جاء في قوله تعالى في سورة النور: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)} (¬1) ثم قال تعالى في الآية التي بعدها: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)} (¬2) هذه الآية دلت على وجوب الاستئذان داخل الدور إذا كان للشخص مكان خاص ليس مفتوحاً؛ كالصالة أو نحوها, يجب أن يعلم الولد أدب الاستئذان, فالذي لم يبلغ يستأذن في هذه الأوقات الثلاثة, ¬

(¬1) النور: 58. (¬2) النور: 59.

وكذلك الخدم الذين يخدمون أهل الدار يستأذنون في هذه الأوقات الثلاثة, فلهم أن يدخلوا على أهل الدار في كل وقت؛ إلا في هذه الأوقات الثلاثة, فيجب عليهم أن يستأذنوا قبل صلاة الفجر, وحين وضع الثياب من الظهيرة وعند القيلولة, وبعد صلاة العشاء, فإن الناس في هذه الأوقات قد يدخلون أماكنهم الخاصة, ويستريحون فيها, ويضعون ثيابهم, وقد يكون المرء على أهله فيجب حينئذٍ الاستئذان؛ حتى على الصبية الذين لم يبلغوا, حتى ينشأ هذا الولد على الطهر والعفاف, ولا يألف المناظر السيئة بذاكرته, أما إذا بلغ الأطفال الحلم, فيجب أن يستأذنوا في كل وقت, إنما الذي يستأذن في الأوقات الثلاثة هم الخدم (¬1) لدعاء الحاجة والتردد للخدمة, والصبية الصغار الذين لم يبلغوا، وأما إذا بلغوا فيستأذنون في كل وقت. فمن الآداب أن الإنسان إذا دخل على أمه في غرفة النوم، ولو كان الوقت ظهراً أو عصراً أو مغرباً أو عشاءً، أن يستأذن عند الباب, فيدخل إذا سمح له بالدخول, وإلا انصرف, وقد روى مالك عن صفوان بن سليم وكان أحد كبار العُبَّاد, عَبَدَ اللهَ - عز وجل - حتى انحنت جبهته، عن عطاء بن يسار: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتاه رجل، فقال: أستأذن على أمي؟ قال: ¬

(¬1) المراد بالخدم هم المملوكين.

«نعم» قال: إني معها في البيت! قال: «استأذن عليها» فقال: إني أخدمها!! قال: «أتحب أن تراها عريانة»؟ قال: لا, قال: «فاستأذن عليها» (¬1) ويستأذن الإنسان على أمه؛ لأنه قد تكون الأم في غرفتها الخاصة على هيئة لا تحب أن يرى منها هذا الشيء, وكذلك الأخ على أخيه, والبنت على أخيها, ومن باب أولى الذكر على الأنثى, وهذا الأثر عند مالك وقال عنه ابن عبد البر: (¬2) هو مرسل صحيح لا يصح وصله من طريق. ا. هـ لكن معناه لا شك فيه, وسواءً كان باب الغرفة التي يستأذن عليها مفتوحاً أو مغلقاً, أما الصبية الذين لا يميزون، فينبغي أن يكون معهم من يربيهم على هذه الآداب, ومما ذكر عن ابن عمر - رضي الله عنه -: أنه إذا أراد جماع أهله يُخرج من في البيت, حتى الصبي الذي في المهد يأمر به فيخرج, فيأتي أهله. ولأن بعض الصبية الصغار تقع هذه الرؤية في مخيلته وذاكرته فلا ينساها، فإذا كبر صارت هذه الصورة في مخيلته، وقد تقوده إلى ما لا ¬

(¬1) أخرجه مالك (رقم:3538) عن عطاء، وابن أبي شيبة (رقم:17890) عن زيد بن أسلم. (¬2) التمهيد (16/ 229) طبعة: مؤسسة قرطبة.

ينبغي, وهذا من محاسن الشريعة, ولهذا قال ابن كثير (¬1) عند هذه الآية: هذا كله لما يُخشى من هجوم الأولاد على أبيهم، أو على أمهم، وهي مع زوجها، وقد علاها فيكون هناك مالا تحمد عقباه. ا. هـ قوله: (لئلا يصادف بِذلة من كشف عورة) البذلة: هي التبذل وهي اللباس الغير ساتر. وقوله: (ويستأذن ثلاثاً، فإن أُذن له وإلا رجع) فينبغي للمرء تعليم أولاده هذا الأدب. ¬

(¬1) تفسير ابن كثير - (6/ 81) دار طيبة للنشر والتوزيع (ط2).

فصل: ويحرم أن يتناجى اثنان دون ثالث

فَصْلٌ وَيَحْرُمُ أَنْ يَتَنَاجَى اِثْنَانِ دُوْنَ ثَالِثٍ، لِأَنَّهُ يُوْجِبُ إِيْحَاشًا، وَكَسْرَ القَلْبِ. قوله: (فصل: ويحرم أن يتناجى .... القلب) هذا من أدب التناجي والتخاطب بين الناس, وأصل هذه المسألة ما أخرجه صاحبا الصحيح، من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا كانوا ثلاثةً، فلا يَتَنَاجَى اثنانِ دونَ الثالثِ» (¬1) وفي حديث منصور عن أبي وائل عن ابن مسعود - رضي الله عنه - عند مسلم، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا كنتم ثلاثة، فلا يتناجى رجلان دون الآخر، حتى تختلطوا من أجل أن ذلك يحزنه» (¬2) وفي سنن أبي داود، من حديث أبي صالح، عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: فإن كانوا أربعة؟ قال: «لا يضره» (¬3) ¬

(¬1) أخرجه مالك (رقم: 1790) والبخاري (رقم: 5930) ومسلم (رقم: 2183). (¬2) أخرجه أحمد (رقم: 4039) والبخاري (رقم: 5932) وأخرجه مسلم (رقم: 2184)، والترمذي (رقم: 2825) وقال: حسن صحيح. وابن ماجه (رقم: 3775). (¬3) أخرجه أحمد (رقم: 5023) وأبو داود (رقم: 4852).

في هذه الأحاديث من الفوائد والأحكام تعليل الحكم فإن الحكم لا يتناجى اثنان دون الثالث من أجل أن ذلك يحزنه. وتعليل الأحكام بالشريعة فيه من الفوائد: 1 - اطمئنان القلب. ... 2 - وبيان سمو الشريعة. 3 - وإمكان القياس. ومن هذا نقول: كل شيء يُدخل الحزن على المرء المسلم فإنه لا يجوز؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن تناجي اثنان دون الثالث، وقال: «من أجل أن ذلك يحزنه» فعُلِم أن كل شيء يجلب الحزن للمسلم أنه محرم, وعلم بالمفهوم أن كل شيء يدخل السرور على المسلم أنه مشروع ومستحب. وخلاصة الكلام على هذا الحديث، وفوائده، أنه يحرم أن يتناجى اثنان دون الثالث, وهذا صريح لفظ الحديث, ومفهوم الموافقة: لا يتناجى ثلاثة دون الرابع, ولا يتناجى الأربعة دون الخامس, بل قد يقال أنه كلما زاد العدد مع انفراد واحد زاد النهي؛ لأنه يشتد عليه الأمر, فاثنان أهون عليه من ثلاثة. وفيه من الفوائد: أنه إذا كان المنفرد أكثر من واحد فهو جائز؛ كما لو تناجى اثنان دون اثنين, أو تناجى ثلاثة دون اثنين, أو تناجى خمسة

دون ثلاثة, والمقصود أنه إذا كان المنفرد أكثر من واحد فهو جائز, وقد سارّ النبي - صلى الله عليه وسلم - فاطمة فضحكت, ثم سارّها مرة أخرى فبكت, وكانت عائشة حاضرة, والظاهر أنه كان في البيت غيرها, ففي الحديث عند البخاري إنّا كنا أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عنده جميعاً فأقبلت فاطمة ... وفيه قصة المسارة فلا تعارض حينئذٍ لوجود جمع من النساء (¬1) فاستدل أهل العلم بمفهوم هذا الحديث وغيره من القصص؛ أنه يجوز المسارّة بين أشخاص إذا كان المنفرد أكثر من واحد. وخص بعضهم هذا التناجي الممنوع في السفر فقط, أما في الحضر والعمارة والبيوت فهو مباح, لزوال العلة ولكن الصحيح أنه يشتد في السفر، كأن يكون ثلاثة في سفر فيتناجى اثنان دون الثالث, لكن هذا لا يمنع أن يكون أيضا محرماً ولو في الحضر, بل لو كانوا في مجلس واحد والناس حولهم لكن لا يشاركونهم في المجلس فلا يجوز أن يتناجى اثنان دون الثالث. وهناك صور يجوز فيها أن يتناجى اثنان دون الثالث, منها أنهم إذا استأذنوه فأذن لهم, لأن الحق له, فإن قال قائل: إذا تناجوا سيحزن, فنقول: يستطيع أن يمنعهم, وهو الذي سلط الحزن عليه، وكان ابن عمر ¬

(¬1) أخرجه البخاري رقم (5928).

- رضي الله عنه -، إذا أراد أن يناجي رجلاً، وكانوا ثلاثة دعا شخصاً رابعاً، ثم قال: ابتعدا, ثم تناجى مع هذا الرجل, حتى لا يكون واقعاً في النهي, والمقصود أنه إذا أذن المنفرد جاز لأن الحق له, وهذا مراعاةً لخاطره, ومن ذلك نهى أن يخطب الرجل على خِطبة أخيه لأن الحق له؛ إلا إذا أذن، وحينئذ تزول المشاحة والحزن. ومن صور جواز أن يتناجى اثنان دون الثالث: أن يتناجى اثنان ثم يَرِد عليهما ثالث وقد شرعا في التناجي, فنقول: هم لم يتناجوا دون الثالث, بل الثالث ورد عليهما وقد شرعا في التناجي, فلا يكون هذا داخلاً في النهي فلهما الاستمرار ولهما الانقطاع، بل يُنهى هو عن الدخول والاستفسار عن حديثهم, (¬1) ومن صور الجواز أن يتناجى ثلاثة ثم ينفرد واحد باختياره فلهما أن يستمرا. ومن صور جواز تناجي الاثنين دون الثالث أخذاً من مفهوم حديث: «فإن ذلك يحزنه» إذا تناجى الوالدان دون أحد الأولاد، فإن هذا لا بأس به؛ لأنهما أشفق أهل الأرض على هذا المنفرد, غير أنه قد يقال: أنه إذا ¬

(¬1) جاء عند ابن أبي شيبة (رقم: 26078) وأحمد (رقم: 6225) عن سعيد المقبري، قال: رأيت ابن عمر - رضي الله عنه - يناجي رجلاً، فدخل رجل بينهما، فضرب صدره، وقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا تناجى اثنان فلا يدخل بينهما الثالث إلا بإذنهما.

قامت قرائن على أنهما يتناجيان في شيء يتعلق بتأديبه أو تقويمه أو ما أشبه ذلك فإن العلة موجودة وهي التحزين، فحينئذٍ يترك التناجي حتى يكون في غيبته أو بحضرة غيره من الأولاد. ولهذا قال المصنف: (لأنه يوجب إيحاشاً وكسر القلب) ومما يدخل في التناجي المنهي عنه، التخاطب بين اثنين بلسان لا يحسنه الثالث مع إمكانهما الحديث بلسان يفهمه، فالمعنى موجود وعدولهما عن اللغة التي يفهمها إلى لغة لا يفهمها هو في معنى التناجي المنهي عنه، فلا يجوز.

فصل: ويستحب افتتاح الأكل ببسم الله

فَصْلٌ وَيُسْتَحَبُّ اِفْتِتَاحُ الأَكْلِ بِبِسْمِ اللهِ، وَخَتْمُهُ بِالحَمْدُ للهِ. وَأَنْ يَأْكُلَ بِيَمِيْنِهِ مِمَّا يَلِيْهِ، إِذَا كَانَ الطَّعَامُ نَوْعًا وَاحِدًا. وَلَا يَأْكُلُ مِنْ ذِرْوَةِ الطَّعَامِ لَكِنْ مِنْ جَوَانِبِهِ. وَكَذَلِكَ الكَيْلُ فَإِنَّهُ أَدْعَى لِلْبَرَكَةِ، كَذَلِكَ رُوِيَ فِي السُّنَنِ. وَلَا يَنْفَخُ الطَّعَامَ الحَارَّ وَلَا البَارِدَ. وَلَا يُكْرَهُ الأَكْلُ والشُّرْبُ قَائِمًا، وَيُكْرَهُ مُتَّكِئًا. وَإِذَا دَفَعَ إِنَاءَ الشَّارِبِ، أَوِ اللُّقْمَةَ، دَفَعَ إِلَى مَنْ عَنْ يَمِيْنِهِ، كَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ النَّبِيُ - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: (ويستحب افتتاح ... السنن) يستحب افتتاح الأكل: "ببسم الله". وختمه: "بالحمد لله". ثم ذكر آداب الطعام, وآداب الأكل كثيرة, والمؤلف ذكر طرفاً منها, فيفهم من كلام المؤلف هنا أنه يستحب افتتاح الأكل ببسم الله, ولو تركها لم يأثم, وهناك من قال: أن التسمية عند الأكل واجبة, وهذا هو الصحيح لأمور:

الأمر الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بها، وقال لعمر بن أبي سلمة: «يا غلام سم الله» (¬1) فأمره بالتسمية, والأصل في الأوامر الوجوب. الأمر الثاني: أخبر أن الطعام إذا لم يسمَّ عليه يستحله الشيطان ويشاركه, ومشاركة الشيطان تدل على أن دفع مشاركته واجبة, ولا تدفع إلا بالتسمية. الأمر الثالث: أن البركة تحل بالتسمية؛ كما في الحديث الذي فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأكل مع أصحابه, فجاء أعرابي فأكله بلقمة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أما إنه لو سمّى لكفاكم ....» (¬2) الحديث, واحتُج به على أن من لم يسم يؤثر على من سمى, والحديث فيه اضطراب, وعلى كل حال فالصحيح في التسمية أنها واجبة عند الأكل وعند الشرب, قلّ أو كثُر. وصفة التسمية عند الطعام- على الصحيح-أن يقول:"بسم الله"؛لأنه لم يجئ عن النبي عليه الصلاة والسلام ما يدل على التكميل, بخلاف البسملة عند القراءة, ومما يُطلق عنده التسمية ولا تُكمَّل أيضاً عند الذبح, فتقول: "بسم الله", وتضيف: "والله أكبر". وأما الختم بـ "الحمد لله" فهو مستحب ومؤكد. ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 16375) والبخاري (رقم: 5061) ومسلم (رقم: 2022). (¬2) أخرجه الترمذي (عقب رقم:1858) وقال: حسن صحيح. والشمائل (رقم:192).

قال المؤلف: (وأن يأكل بيمينه مما يليه) ذكر هنا أدبين: الأول: أن يأكل بيمينه, وهو من الواجبات فقد أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - عمر بن أبي سلمة وكان ربيبه, قال: وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا غلام سم الله وكل بيمينك» (¬1) وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الإنسان إذا أكل بشماله يشابه الشيطان فقال: «إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، ويشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله» (¬2) ومشابهة الشيطان محرمة, ودعا النبي - صلى الله عليه وسلم - على الرجل الصحابي كما ذكر الحافظ في الإصابة, واسمه بسر بن راعي العير الأشجعي, ولكنه تكبر فدعا عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فشُلَّت يده, وهذا كله لا يناسب الاستحباب, بل يناسب الوجوب. قال المؤلف: (مما يليه إذا كان الطعام نوعاً واحداً) وهذا الأدب الثاني: وقد أدَبَّ به النبي - صلى الله عليه وسلم - ربيبه عمر, فقال: ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 16375) والبخاري (رقم: 5061) ومسلم (رقم: 2022) وابن ماجه (رقم: 3267) والنسائي (رقم: 6759). (¬2) حديث ابن عمر: أخرجه أحمد (رقم: 4537) ومسلم (رقم: 2020) وأبو داود (رقم: 3776) والنسائي (رقم: 6748) وابن حبان (رقم: 5226) وحديث أبى هريرة: أخرجه أحمد (رقم: 8289) والنسائي (رقم: 6745) وأبو يعلى (رقم: 5899).

«وكل مما يليك» قال عمر: فما زالت تلك طِعمتي بعد. أي: صفة طعامي, فعُلم من هذا أن الأكل مما يلي الإنسان، إذا كان الطعام واحداً واجب, ولأن الأكل مِمَّا يلي الآخرين فيه أذية وشره ونهم, ويكفي أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر به, أما إذا كان الطعام متنوعاً, فلا بأس من تخطي الطعام الأول إلى الثاني, ونقول أيضاً: إن كان الطعام الثاني في صحن فكل مما يليك أيضاً, ولا تذهب إلى ما يلي الشخص الآخر, ونقول أيضاً: أنه إذا كان الإناء يسيراً فلا بأس أن تأكل من أي جهة إذا كان متنوعاً، والأواني في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت القصعة وهي تكفي لقليل من الناس وأكبر منها الصحفة وأكبر من ذلك الجفنة وهي عظيمة. قال المؤلف: (ولا يأكل من ذروة الطعام ولكن من جوانبه) وهذا أيضا من الآداب, والمعلوم عند أهل العلم أن هذا الأدب مستحب, وأصله ما رواه أهل السنن, وأصح إسنادٍ لهذا ما جاء عند أبي داود من حديث شعبة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أكل أحدكم طعاماً فلا يأكل من أعلى الصحفة, ولكن ليأكل من أسفلها فإن البركة تنزل من أعلاها» (¬1) ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (رقم: 3774).

وله لفظ آخر: «إذا وُضع الطعام فكلوا من حافته وذروا وسطه فإن البركة تنزل في وسطه» (¬1) والله - عز وجل - حينما خلق هذه الأعيان علويها وسفليها جعل في بعضها البركة, ومن ذلك ما أخبرنا عن الحجر الأسود أن فيه بركة فمسحه يحط الخطايا وهو قربة فمسحه حسنات, والعسل فيه شفاء, وكذا الحبة السوداء, وأشياء كثيرة, ومن ذلك أن من رحمة الله - عز وجل - أن الناس إذا اجتمعوا على الطعام, فإن الله - عز وجل - يجعل البركة تنزل في الوسط ثم تنتشر, ولو كانت البركة لا تنتشر لكان النهي عن الأكل من الوسط فيه منع للبركة, لكنها تنزل في الوسط ثم تنتشر, فإذا أُكلت من الوسط ضاعت على الجميع, وقد تكون هذه البركة حسية, يمكن أن تكون معنوية، ويمكن حصولها جميعاً. وقد وجدت في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - حسية, فكان الطعام يؤكل منه وهو بحاله, كما في قصة جابر وغيره, وقصة الماء الذي يصب حينما أخذ من مزادة (¬2) المرأة المشركة ثم وزع على أهل العسكر ولم ينقص من الماء شيء. ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 24947) وأحمد (رقم: 3438) والترمذي (رقم: 1805) والنسائي (رقم: 6729) وابن ماجه (رقم: 3277). (¬2) أخرجه البخاري (رقم: 337) ومسلم (رقم: 682).

وقصة الإناء اليسير الذي أخذه أبو هريرة - رضي الله عنه - ودار به على أهل الصفة, وأقل ما قيل أنهم سبعين رجلاً, فدار على هؤلاء كلهم ويبقى فضله, ويشربه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو هريرة - رضي الله عنه -. (¬1) ¬

(¬1) أخرجه البخاري (رقم: 6087) ولفظه: عن مجاهد: أن أبا هريرة - رضي الله عنه - كان يقول: آلله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم - فتبسم حين رآني، وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال: «يا أبا هر». قلت لبيك يا رسول الله، قال: «الحق». ومضى، فاتبعته، فدخل فأستأذن، فأذن لي، فدخل، فوجد لبناً في قدح، فقال: «من أين هذا اللبن». قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة، قال: «أبا هر». قلت: لبيك يا رسول الله، قال: «الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي». قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم، ولم يتناول منها شيئاً، وإذا أتته هدية أرسل إليهم، وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة، كنت أحق أنا أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، فإذا جاء أمرني فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن، ولم يكن من طاعة الله، وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بد، فأتيتهم فدعوتهم، فأقبلوا، فاستأذنوا، فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت، قال: «يا أبا هر». قلت: لبيك يا رسول الله، قال: «خذ فأعطهم» .. قال: فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح، حتى انتهيت = = إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد روي القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه على يده، فنظر إلي فتبسم، فقال: «أبا هر». قلت: لبيك يا رسول الله، قال: «بقيت أنا وأنت». قلت: صدقت يا رسول الله، قال: «اقعد فاشرب». فقعدت فشربت، فقال: «اشرب». فشربت، فما زال يقول: «اشرب». حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكاً، قال: «فأرني». فأعطيته القدح فحمد الله، وسمى، وشرب الفضلة.

فمن السنة أن الإنسان ولو كان وحده فإنه يأكل مما يليه ويترك وسط الطعام, ويدع ذروته، حتى لو كان وحده وليس معه أحد؛ لأن هذا معنى لا يتعلق بالجماعة, بل يتعلق بالبركة. وبعض أهل العلم أجاز تتبع الطعام , والأخذ من جوانبه، إذا لم يشق هذا على الآخرين، أو أحبوا ذلك، واحتجوا بأن أنساً - صلى الله عليه وسلم - أكل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - , قال أنس: فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتتبع الدباء. (¬1) والدُّباء هو القرع, فكان يتتبعها ولو كانت عند شق أنس, قال أنس: فما زلت أحب الدباء بعد ذلك. فهذا محمول على أن الصحابة كانوا يحبون هذا, ويؤثرون النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك. ¬

(¬1) أخرجه مالك في الموطأ (رقم: 1574) وأحمد (رقم: 12541) والبخاري (رقم: 2092 و 5437) ومسلم (رقم: 5375) وأبو داود (رقم: 3782) والترمذي (رقم: 1850) والنسائي (رقم: 6628).

ومن ذلك الأكل مع الزوجة مثلاً, أو مع المحبوب, فإن الإنسان يفرح أن يأكل من جهته أو ما أشبه ذلك, فحينئذٍ لا مشاحة, وعليه إذا حصل التسامح وأحب أن يؤخذ من جهته فلا بأس، بل قال - صلى الله عليه وسلم -: «وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله؛ إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في في امرأتك» (¬1) وأمر بأن تُلعق اليد, (¬2) وقد قال أهل العلم: تلعقها الزوجة، أو الابن، أو حيوان طاهر، وما أشبه ذلك «وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يضع فاه على موضع في عائشة - رضي الله عنه - في تعرق العظم». مسألة: يكثر عندنا الآن مسألة دفع اللحم، أو دفع الطعام للغير, ويفعلها الناس ابتغاء الكرم, كأن يقطع بعض الناس اللحم ويناولها غيره. ¬

(¬1) أخرجه مالك (رقم: 1456) وأحمد (رقم: 1524) والبخاري (رقم: 2593) ومسلم (رقم: 1628) وأبو داود (رقم: 2864) والترمذي (رقم: 2116) والنسائي (رقم: 3626) وابن ماجه (رقم: 2708). (¬2) أخرجه أحمد (رقم: 3234) والبخاري (رقم: 5140) ومسلم (رقم: 2031) وأبو داود (رقم: 3847) والنسائي (رقم 6776) وابن ماجه (رقم: 3269) ولفظه: عن ابن عباس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «إذا أكل أحدكم فلا يمسح يده حتى يلعقها أو يلعقها».

فمن أهل العلم من كره هذا؛ لأن هذه اللقمة أو الطعام قد مس اليد التي مست فم الشخص وقد يُتقزز من هذا؛ لأنه قد يعلق فيها شيء من اللعاب, وهذه من إحدى الحكم التي فيها أن الإنسان يأكل من طعامه الذي يليه، ولا يأكل من أماكن الآخرين؛ لأنه قد يكره أن يمس يدك التي مست فاك, فهذا وجه كراهة هذا الشيء, بل ذهب الحنابلة إلى أنه يحرم إذا كان الإناء مختلفاً؛ لأنه لا يجوز أن تنقل الطعام إلا بإذن أهل الإناء, ولكن الصحيح جوازه. وقد روى البخاري في كتاب الأطعمة: باب من ناول صاحبه القطع من الطعام إذا علم طيب نفوس أصحابه. (¬1) فعلى كل حال يتنبه لمثل هذه الآداب؛ لأن بعض الناس يريد الخير لصاحبه, ولكن صاحبه لا يريد هذا الشيء, فنقول: رفقاً لأنه ليس كل أحد يحب هذا الشيء. قوله: (ولا ينفخ الطعام الحار ولا البارد) هذا أيضاً من آداب الأكل والشرب, أن الإنسان لا ينفخ في الطعام الحار لتبريده, والأصل في ذلك ما رواه الشيخان من حديث عبد الله ¬

(¬1) صحيح البخاري (5/ 2072).

ابن أبي قتادة عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء» (¬1) والمراد بالتنفس هنا، أي: داخل الإناء, فلا يشرب وهو مواصل النفس, وزاد ابن أبي شيبة من وجه آخر عن عبد الله بن قتادة النهي عن النفخ في الإناء وأن يتنفس فيه. (¬2) وله شاهد أيضاً أخرجه أبو داود والترمذي من حديث ابن عباس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: نهى عن التنفس في الإناء وأن ينفخ فيه. (¬3) فهذه الأحاديث تدل على أن الإنسان لا يخرج منه هواء لا من فمه ولا من أنفه, فالتنفس في الإناء يكون فيه الهواء من الأنف, والنفخ يكون فيه الهواء من الفم, وهذا غير الحديث الذي فيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتنفس في الإناء ثلاثاً. (¬4) ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 19438) والبخاري (رقم: 152) ومسلم (رقم: 267) وأبو داود (رقم: 31) والنسائي (رقم: 48) والترمذي (رقم: 1889). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 24665). (¬3) أخرجه أبو داود (رقم: 3730) والترمذي (رقم: 1888) وأخرجه أحمد (رقم: 1907) وابن ماجه (رقم: 3428) والحاكم (رقم: 7206). (¬4) أخرجه أحمد (رقم: 12207) ومسلم (رقم: 2028) وأبو داود (رقم: 3727) والنسائي (رقم: 6860) والترمذي (رقم: 1884).

فإن المراد بالتنفس بالإناء عند الشرب يعني خارج الإناء. فالأحاديث تنقسم إلى قسمين: قسم فيه النهي عن التنفس في الإناء، وقسم فيه التنفس خارج الإناء, بأن يشرب الإنسان مرتين أو ثلاثاً, وأن الإنسان إذا شرب فأحفزه النفس فلا يتنفس, بل يُبين القدح عن فيه, ثم يتنفس خارج الإناء, ثم يعود فيشرب, ثم إذا احتاج إلى النفس أبعد الإناء ثم تنفس في الخارج, ثم يشرب, ففرق بين التنفس في الإناء والتنفس خارج الإناء. والحديث الذي جاء فيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتنفس إذا شرب ثلاثاً. أي خارج الإناء, حتى لا يحتاج الإنسان إلى أن يشرب ويتنفس في الإناء، وسواءً كان هذا المشروب حاراً أو بارداً، فالسنة أن الإنسان يتنفس ثلاثاً، هذا فيما إذا كان يشرب دفعة واحدة، وتحتمل حرارته أو برودته فالسنة أن يقطعه ثلاثاً. أما الأشربة الساخنة، فقد جرت عادة الإنسان أنه لا يستطيع أنه يشربه دفعةً واحدةً, كالشاي مثلاً، فمنهيٌ عن تبريدها بالنفخ يها. واختلف في علة النهي عن النفخ في الشراب فقيل: لأنه قد يقذِّر الطعام والشراب, فقد يخرج منه شيء فيقع على الطعام أو الشراب فيقذره.

وقد يقول قائل: هل تزول المفسدة ويتسامح فيه إذا كان الطعام للإنسان خاص به ككأس ماء؛ لأن العلة هي تقذيره لغيره، وهو لا يتقذر من نفخ نفسه؟ فنقول: الوقوف على ظاهر الخبر أحسن, فلعل العلة أوسع من ذلك, فقد قال بعضهم: أن هذا الهواء يخرج من الرئتين وفيه من الأشياء ما لا يراه الإنسان, فقد يدخل في الطعام وهو لا يراه، وعليه فلا يتنفس فيه لتبريده، ولا لغرض آخر. مسألة: أكل الطعام الحار يُكره من حيث الصحة , فشرب الشراب الساخن مضر لا يجوز, وأكل الطعام الحار الذي يؤذي لا يجوز أيضاً, لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ضرر ولا ضرار، (¬1) والضرر بلا قصد, والضرار بقصد، ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 2867) وابن ماجه (رقم: 2341) من حديث ابن عباس. وأخرجه ابن ماجه (رقم: 2340) من حديث عبادة بن الصامت. وأخرجه الطبراني (رقم: 1387) من حديث ثعلبة بن أبى مالك. وأخرجه مالك (رقم 1429) والشافعي (رقم: 1114) من حديث عمرو بن يحيى المازني عن أبيه مرسلاً. وأخرجه الدارقطني (رقم: 288) والحاكم (رقم: 2345) وقال: صحيح الإسناد على شرط مسلم. والبيهقى (رقم: 11166) من حديث أبي سعيد. وأخرجه الدارقطني (رقم: 83) والطبراني في الكبير (رقم: 1037) وفي الأوسط (رقم: 1033) من حديث عائشة.

فلا يتسبب الإنسان في ضرر نفسه، فيدع الطعام حتى يبرد, أو يبرِّده بطريقة صحيحة ليس فيها ركوب للنهي. وجاءت أخبار في أكل الطعام الحار, منها: «اللهم لا تطعمنا ناراً» (¬1) ولكن لا يصح. وفي لفظ أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: نهى عن أكل الطعام الحار, وقال: «اصبروا حتى يذهب فوره» وهذا أيضاً لا يصح, لكن على القاعدة أنه إذا كان يؤدي إلى ضرر فإنه لا يجوز, والغالب أن شرب الشراب الساخن أو أكل الطعام الحار يؤذي في الفم وما بعده. قوله: (ولا يكره الأكل والشرب قائماً) وهذا أيضاً من المسائل المهمة. فقد ثبت في الصحيحين من طريق الشعبي عن عبد الله بن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: شرب من ماء زمزم قائماً. (¬2) وصح عن علي أيضاً في البخاري ومسلم وأحمد من غير وجه عنه: أنه أتي بماء فشربه قائماً, وقال: إن أناساً يكره أحدهم أن يشرب ¬

(¬1) قال الهيثمي في المجمع (5/ 20): رواه الطبراني في الصغير (رقم: 934) و (الأوسط)، وفيه عبد الله بن يزيد البكري، ضعفه أبو حاتم، وبقية رجاله ثقات. (¬2) أخرجه البخاري (رقم: 1556) ومسلم (رقم: 2027).

وهو قائم، وإني رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل كما رأيتموني فعلت. (¬1) وأحاديث الفعل في الصحيحين, وأحاديث النهي عن الشرب قائماً أعرض عنها البخاري ومالك في الموطأ فلم يوردوها, وأخرج مسلم منها ما رواه من حديث أنس وأبي هريرة وأبي سعيد, وكل هذه الأحاديث الثلاثة قُد تكلم فيها. أما حديث أنس فيروى من طريق قتادة عنه أن: النبي - صلى الله عليه وسلم - زجر عن الشرب قائماً، قيل لأنس: فالأكل؟ قال: ذاك أشر وأخبث. (¬2) وأما الحديث الآخر فهو ما رواه عمر بن حمزة عن أبي غطفان المرِّي عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يشربن أحد منكم قائماً فمن نسى فليستقيء» (¬3) والحديث الثالث حديث أبي سعيد الذي رواه أيضاً مسلم من طريق أبي عيسى الأسواري عن أبي سعيد. (¬4) ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 583) والبخاري (رقم: 5292) وأبو داود (رقم: 3718) والنسائي (رقم: 132). (¬2) أخرجه أحمد (رقم: 13084 و 13643) مسلم (رقم: 2024) وأبو داود (رقم: 3717) وابن ماجه (رقم: 3424) والترمذي (رقم: 1879). (¬3) أخرجه مسلم (رقم: 2026) والبزار (رقم: 8812). (¬4) أخرجه مسلم (رقم: 2025) وابن أبي شيبة (رقم: 24121) والترمذي (رقم:1881).

أما حديث أنس فاختلف على قتادة فيه, فمنهم من طعن فيه، وقال: لا يصح, ومنهم من قال: لا بأس به, وأصح حديث في النهي هو حديث أنس, وانفرد بإخراجه مسلم. وأما حديث: «لا يشربن أحدكم قائماً فمن نسى فليستقيء» ففي إسناده عمر بن حمزة, وهو حفيد عبد الله بن عمر, وعمر بن حمزة هذا له مناكير, وهو الذي روى عنه هذا الحديث: عن عمر بن حمزة عن عمه سالم، عن ابن عمر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يطوي الله عز وجل السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟» (¬1) فعمر بن حمزة هو الذي انفرد بلفظة الشمال عند مسلم, وهذه اللفظة شاذة, ومن هنا اختلف أهل العلم هل تسمى اليد الأخرى لله عز وجل بالشمال؟ بعد اتفاقهم على تسمية إحداها باليمين, فقيل: هي يمين مباركة, كما في الحديث: «وكلتا يديه يمين» (¬2) ¬

(¬1) أخرجه مسلم (رقم: 2788). (¬2) صحيح مسلم (رقم: 4825).

وقيل: بل تسمى شمال, ولكن ليس فيها نقص كما هو المتبادر في النقص عند المخلوقين, والأقرب في هذا أنه لا يصح حديث في تسمية اليد الأخرى لله عز وجل بالشمال. وأما حديث أبي سعيد ففيه أبو عيسى الأسواري, وهو غير مشهور. فعلى كل حال أحاديث النهي عن الشرب قائماً لا تقاوم أحاديث الإباحة, ومن أحاديث النهي أيضاً ما رواه الإمام أحمد وغيره: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يشرب قائماً، فقال له: «قه» قال: لمه، قال: «أيسرك أن يشرب معك الهر» قال: لا، قال: «فإنه قد شرب معك من هو شر منه الشيطان» وهذا الحديث رواه شعبة عن أبي زياد الطحان مولى الحسن عن أبي هريرة, وأبو زياد هذا لا يعرف اسمه, وقد وثقه ابن معين, لكن قد أُعِل هذا الحديث بالوقف, ومن المنكرات في حديث عمر ابن حمزة، أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بالاستقاءة, والاستقاءة فيها ضرر، ومن هنا نأتي بفائدة أخرى، وهي أنه إذا شرب الإنسان طعاماً محرماً وعلم بعد شُربه بتحريمه - لاسيما إذا كان محرماً لكسبه لا لوصفه - كأن يكون من مال غصب أو ربا. فقد روى البخاري قصة أبي بكر - رضي الله عنه -، أن أبا بكر كان له غلام، فأتاه يوماً بطعام فأكل منه أبو بكر - رضي الله عنه - , وكان عادة أبي بكر - رضي الله عنه - أن يسأل: من أين هذا؟ فلم يسأله ذلك اليوم, فقال له الغلام: إنك لم

تسألني عن هذا الطعام! فسأله، فقال: إني كنت تكهنت في الجاهلية لأناس, ولا أحسن الكهانة, فأعطوني فاشتريت هذا الطعام, فلما علم أبو بكر - رضي الله عنه - وضع أصبعه في فمه فأخرج ما في جوفه. (¬1) فسألت شيخنا ابن باز - رحمه الله - عن هذه الاستقاءة هل تجب؟ قال: لا تجب. ا. هـ. قلت: لأن عين الطعام مباحة, لكن أبو بكر - رضي الله عنه - أخذ بشيء من الورع, وقد يكون فيه ضرر على المستقيء, وهذا يمكن أن يعل به حديث عمر بن حمزة عن أبي غطفان المري عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «لا يشربن أحدكم منكم قائماً فمن نسي فليستقيء» وقد شرب النبي - صلى الله عليه وسلم - قائماً. وقد نقل بعضهم الاتفاق على أن من شرب قائماً لا يلزمه أن يستقيء. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (رقم: 3629) والبيهقي (رقم: 11307) ولفظه: عن عائشة قالت: كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يوماً بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال الغلام: أتدرى ما هذا، فقال أبو بكر: ما هو، قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية، وما أحسن الكهانة؛ إلا أني خدعته، فلقيني فأعطاني بذلك هذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه.

واختلف أهل العلم في الجمع بين أحاديث النهي وأحاديث الإباحة, فمن أهل العلم من غلّب أحاديث الجواز وطعن في أحاديث النهي كما تقدم, ومنهم من قال: إن النهي كان متقدماً والإباحة جاءت بعد فهي منسوخة. والقول الثالث، وهو: أصحها طريقة الجمع. ويقال: إن أحاديث النهي جاءت على خلاف الأولى، وليست الكراهة فقط، وأحاديث الإباحة دلت على الجواز، وهذا أصح ما جاء في المسألة. أما قول أنس - رضي الله عنه - كما أخرجه مسلم، لما قيل له: فالأكل؟ فقال: أشر وأخبث, فلا أعلم أحداً وافق أنساً - رضي الله عنه - على هذا, ولا أعلم أحداً من أهل العلم كره الأكل قائماً, والخلاف المعروف في الشرب, وهذا مذهب لأنس, وإلا فالأكل ليس أشر وأخبث, فهو أخف من الشرب بكثير, وليست المفسدة في الشرب موجودة في الأكل, للفرق بينهما. وقوله: أشر وأخبث. هذا سائغ في اللغة, بمعنى شر وخبيث, والأصل في شر أشر, وفي خير أخير, وهذه اللغة موجودة وقليلة في الأخبار, ولكن

الناس تساهلوا في الأشر، فقالوا: شر، فصارت مخففة, وجرى فيها لفظ الكتاب والسنة. والراجح ما ذكره المؤلف من عدم الكراهة. قوله: (ويكره متكئاً) الأصل في هذا ما رواه البخاري من حديث علي بن الأقمر عن أبي جحيفة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا آكل متكئاً» (¬1) وهذا الحديث فيه إخبار النبي عليه الصلاة والسلام أنه لا يأكل متكئاً، وليس فيه صيغة نهي, وقد اختلف في معنى الإتكاء, فقال بعضهم: الاتكاء هو لكل متمكن من جلسة يريد التكثر من الأكل على أي صفة كانت, وهذا تفسير الخطابي, يقول: أي لا أقعد متكئاً على وطاء عند الأكل فعلَ من يستكثر من الطعام, وهذا أحد الأقوال, وعلى هذا لو تربع فهو متكئ على هذا التعريف, ولو جلس جلسة غير هذه وفيها التمكن والتكثر من الطعام فهو متكئ, فضلاً عن أنه يميل على أحد الشقين, فهذا اتكاء بلا إشكال. وقيل: إن الاتكاء هو الميل على أحد الشقين؛ لأن هذا هو التعريف اللغوي, ويؤيده حديث أبي بكرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه سئل عن أكبر ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم:18776) والبخاري (رقم:5084) أبو داود (رقم:3769) والترمذي (رقم: 1830) والنسائي (رقم: 6709) وابن ماجه (رقم: 3262).

الكبائر، فقال: «الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئاً فجلس ..» (¬1) الحديث، ففرق بين مطلق الجلوس والاتكاء, فعُلم بهذا أن الاتكاء ضرب من ضروب الجلوس, وفيه الميل, وهذا هو الصحيح وهو اختيار شيخنا ابن باز- رحمه الله. ولكن لشخص أن يسأل: هل يدخل في هذا أنه إذا اتكأ على إحدى يديه بحيث لو أزال هذه اليد التي قد اتكأ عليها واستند عليها بعض الشيء لا يسقط؟ نقول: لا, الاتكاء هو الميل على أحد الشقين بحيث لو زال الوطاء الذي تحته -كالمركاة مثلاً- أو يده لسقط, هذا هو ضابط الاتكاء الذي جاء فيه الخبر, أما كون الإنسان الذي يستند بيده ويرتفق بها شيئاً يسيراً فهذا لا يخرج عن كونه جالسا غير متكئ كما هو معلوم. وقد بوب البخاري - رحمه الله - بقوله: باب الأكل متكئاً, (¬2) فقال الحافظ ابن حجر: وإنما لم يجزم به لأنه لم يأت فيه نهي صريح. (¬3) ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 20401) والبخاري (رقم: 5631) ومسلم (رقم: 87). (¬2) صحيح البخاري - (5/ 2062). (¬3) فتح الباري - ابن حجر - (9/ 541).

وهذا ذهول من الحافظ - رحمه الله - فقد صحح الحافظ نفسه حديثاً رواه الطبراني في معجمه, وذكره الزمخشري في تفسيره وهو حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - وقال عنه الحافظ: "وإسناده جيد", وفيه التصريح بالنهي عن الأكل متكئاً, وقد كتبت فيه جزءاً وقرئ على شيخنا ابن باز - رحمه الله - ولكنه ليس بالمطبوع في نفح العبير, وسيكون بإذن الله من نصيب الجزء القادم, وتكلمت عن ألفاظه وطرقه, فهذا الحديث يرويه الطبراني من طريق أبي إسحاق السبيعي، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن صومين، وعن صلاتين، وعن لباسين، وعن مطعمين، وعن نكاحين، وعن بيعتين- ثم ذكر صوم اليومين والصلاتين واللبستين، ثم قال: - وأما المطعمان: فأن يأكل بشماله ويمينه صحيحة، ويأكل متكئاً. (¬1) وإسناده صحيح. ¬

(¬1) أخرجه الطبراني (رقم: 10087) ولفظه: عن عبد الله - رضي الله عنه -، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صومين، وعن صلاتين، وعن لباسين، وعن مطعمين، وعن نكاحين، وعن بيعتين، فأما اليومان: فيوم الفطر ويوم الأضحى، وأما الصلاتان: فصلاة بعد الغداة حتى تطلع الشمس، وصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وأما اللباسان: فأن يحتبي في ثوب واحد ولا يكون بين عورته وبين السماء شيء، فتدعى تلك الصماء، وأما المطعمان: فأن يأكل بشماله ويمينه صحيحة، ويأكل متكئا، وأما البيعتان: فيقول الرجل: تبيع لي، وأبيع لك، وأما النكاحان: فنكاح البغي، ونكاح على الخالة والعمة.

وهذا الحديث رواه النسائي من وجه آخر من طريق أبي إسحاق نفسه مختصراً، فنحا بعضهم أنه يعل سياق الطبراني بهذا، وهذا ليس بصحيح, فالذي عند النسائي إنما هو اختصار له, وإلا فالحديث محفوظ لا إشكال في إسناده, وقد أخرجه الطبراني في المعجم في الجزء العاشر, غير أن هذا النهي على القول الراجح للكراهة, كما قال شيخنا بعدما قرئ عليه البحث؛ لأن صيغة النهي إما على التحريم أو الكراهة ورجح جانب الكراهة إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يأكل متكئاً. وقد اختُلف في علة النهي عن الاتكاء. فقيل: أنه مخافة أن تعظم البطن؛ كما روى ذلك ابن أبي شيبة في مصنفه، عن إبراهيم النخعي أنه، قال: كانوا يكرهون أن يأكلوا تكاة، مخافة أن تعظم بطونهم. (¬1) وظاهر إسناده لا بأس به. وهناك قول آخر: بأن الاتكاء خلاف الأولى, لأن الحديث الذي في صحيح البخاري هو أصح شيء في الباب, وانفراد الطبراني بهذا الخبر يشعر بشيء من الضعف, فنقول: لا, فقد انفرد الطبراني بأحاديث صحاح, ورواية أبي إسحاق عن أبي الأحوص من أصح ما يكون من أحاديث ابن مسعود, وقد قال أبو إسحاق، عن أبي الأحوص: كنا ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 25007).

نجتمع معه في المسجد فيسكب علينا حديث ابن مسعود, وكان أبو الأحوص من أحفظ الناس لحديث ابن مسعود. فلا إشكال في إسناده إن شاء الله, لكنه لا يدل إلا على الكراهة. قوله: (وإذا دفع إناء الشُّرب أو اللقمة دفع إلى من على يمنيه، كذلك كان يفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -) السنة إذا أتي بطعام يدور على مجموعة من الناس أنه يبدأ برئيس أو عالم أو والٍ أو أكبر من في المجلس أو صاحب الدار, ثم بعد ذلك من على يمين الشارب, ويستوي في هذا أن يكون هذا الإناء به الطعام كاملاً؛ كإناء الشرب, أو يكون يسقيهم شيئاً فشيئاً؛ كما هي حال القهوة والشاي الآن, ودل على هذا خبر أنس - رضي الله عنه - في الصحيحين، أنه قال: أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بلبن قدِ شيب بماء فشرب، وعن يمينه أعرابي، وعن شماله أبو بكر - رضي الله عنه - , ثم أعطى الأعرابي وقال: «الأيمن فالأيمن» (¬1) أي: أعطوا الأيمن فالأيمن, ونحوه أيضاً عند البخاري من حديث سهل بن سعد، وفيه: وعن يمينه غلام. (¬2) ¬

(¬1) أخرجه البخاري (رقم: 5289) ومسلم (رقم: 2029). (¬2) أخرجه البخاري (رقم: 2319) ومسلم (رقم: 2030).

وفي بعض الأخبار أنه ابن عباس, فقال: أتأذن لي أن أعطي الأشياخ؟ وكانوا عن يساره فقال: لا أوثر بنصيبي منك أحداً، فتلّه في يده. وفي هذا الحديث من الفوائد كما ذكرنا أنه يعطى رئيس المجلس ثم من على رئيس المجلس والأفضل أن يُرَدّ الإناء للساقي، وأن يكون هناك من يطوف ويخدم, وقد دل على هذا حديث أبي هريرة في قصة سقاية أهل الصفة, قال: فكنت أسقي الواحد منهم, ثم آخذه ثم أعطيه الآخر. (¬1) هذا هو الأفضل أن يلي خدمة القوم في الشرب من يفعل هكذا تأسياً في الصحابة في ذلك. وفيه من الفوائد أن التفضيل هنا بالجهة لا بالأشخاص, فيفضل من على اليمين مطلقاً, ولو كان الذي على الشمال أفضل. وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أتأذن لي أن أعطي الأشياخ» أنه لا بأس من استئذان صاحب الحق لإعطائه الجانب الآخر. وفيه من الفوائد أن الاستئذان إنما يلزم الرجل الأول فقط لا جميع الرجال؛ لأنه صاحب الجهة وصاحب الاستحقاق الأول وإن تم الإذن فيعود للأول. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (رقم: 6087) وسبق الحديث بطوله.

وقد جاء حديث رواه أبو يعلى بإسناده من حديث ابن عباس - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا سقى، قال: «ابدؤوا بالكبير - أو قال -: بالأكابر» (¬1) وهذا يؤيد ما نحن فيه, والمراد بالأكابر هنا الجنس, لا سيما إذا ترتب القوم, أما إذا لم يترتبوا فنأخذ الحديث على ظاهره وهو: الأكبر فالأكبر, أما إذا ترتبوا فتعطي الأكبر ثم بعد ذلك تعطي من على يمين الأكبر, كما فصلت ذلك الأحاديث الأخرى، وهذا كله إن كان هذا الخبر محفوظاً فإنه يرويه أبو يعلى (2425) من طريق محمد بن عبد الرحمن بن سهم الأنطاكي ثنا عبد الله بن المبارك عن خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس هكذا، وخالفه عبدان (عبد الله بن عثمان المروزي) فرواه عن ابن المبارك عن خالد الحذاء عن عكرمة مرسلاً (أخرجه البيهقي في الشعب (10495) .. وقال والصحيح رواية عبدان عن ابن المبارك يعني الإرسال ... ، قلت وهو المحفوظ ومن أهل العلم من، قال: أنه إذا كان الساقي - في مثل عصرنا الآن- الشاي والقهوة (المشروب) - يسقي رئيس المجلس, فإنه يسقي ¬

(¬1) أخرجه أبو يعلى (رقم: 2425) قال الحافظ في الفتح (10/ 87): سنده قوى. والطبراني في الأوسط (رقم: 3786) قال الهيثمي (5/ 81): رواه أبو يعلى والطبراني في الأوسط، ورجال أبى يعلى رجال الصحيح.

بعده على يمين الساقي، لا من على يمين المسقي, وقال: هذا هو الفهم الصحيح للحديث, وقال: لأنه - صلى الله عليه وسلم - يقول: «الأيمن فالأيمن» (¬1) وفي قصة اللبن كان الساقي هو النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن أعطي النبي - صلى الله عليه وسلم - اللبن, بينما إذا كان الأمر شاي أو قهوة، وما أشبه ذلك، فإنك تعطي رئيس المجلس، ثم على يمينك أنت ليس على يمين المسقي, وهذا ما قال به شيخنا ابن عثيمين - رحمه الله - وفيه نظر؛ لأنه لا فرق، وذلك لأمرين: الأمر الأول: فإن جهة اليمين عادةً عند الناس أفضل من جهة الشمال, والذي يجلس على يمين الرئيس أفضل في الجملة, وهو في محل الإكرام وهم الأشرف. والأمر الثاني: أن السنة -كما قررنا- أن الإنسان يدفع الإناء إلى الساقي, ثم بعد ذلك يدور, مع العلم أن الساقي حينئذٍ يمر على يساره, فتبين بهذا أن المراد عن اليمين يمين أول مسقي, وعلى هذا فلا فرق بين صب الشاي والقهوة وبين الإناء الذي يطوف, وهذا اختيار شيخنا ابن باز - رحمه الله. ¬

(¬1) سبق تخريجه.

ويقال ثالثاً: لو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الساقي لكان آخر الناس شرباً، بل كان هو المسقي - صلى الله عليه وسلم - لما زار من زار من أصحابه بينما لما جاءه أهل الصفة شرب آخرهم بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم - لأنه هو الساقي وقد قال: ساقي القوم آخرهم شرباً فالساقي في الحقيقة المُضِيف وبهذا يحل الاشكال بالكلية. ومن آداب الشرب التي لم يذكرها المؤلف - رحمه الله -: النهي عن الشرب من ثُلمة القدح, وقد جاء فيه الخبر من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -: أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الشرب من ثلمة القدح. (¬1) وعامة أهل العلم على أن النهي للكراهة، ومنهم من قال: يحرم. والثلمة: هي الكسر والخدش الذي يكون بيّناً, أما الصغير جداً الذي قد لا يكاد يرى, فهذا لا يتعلق به حكم. واختُلف في علة النهي, فقال بعضهم: أن العلة في هذا أن الأوساخ عادةً تجتمع في هذه الثلمة, فنُهي عن مباشرتها بالشفة, وقال بعضهم: بل العلة خشية الأذى, لأن الثلمة عادةً تكون كسراً غير منضبط, فقد يشق شفة الشارب أو يجرحه. ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم:11777) وأبو داود (رقم:3724) وابن حبان (رقم:5315).

والصحيح أنه يجمع هذا وهذا وفيه علة ثالثة وهي أنه قد ينسكب الشراب على الشارب, فحينئذٍ لا ينبغي للإنسان أن يشرب من ثلمة القدح, وظاهر النهي التحريم. ومن آداب الشرب أيضاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن اختناث الأسقية. (¬1) وكانت أسقية القوم أُدُم تدبغ, ثم يوضع فيها الماء, ويستبردون الماء, لا سيما كل ما طال العهد بالقربة وكانت شنّاً بالية, كلما كان الماء أبرد؛ لأنه يكون جلدها رقيقاً, ويتبخر الماء بسرعة, فيسرع إليها الإبراد, وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى لرجل، فقال: «هل عندك ماء بات في شن وإلا كرعنا» (¬2) والشن هي القربة البالية. واختناث الاسقية أن يأتي الإنسان إلى هذه القربة, ويجمع فمها ويكسره ويثنيه ثم يشرب منه, مأخوذ من الخَنَث وهو التثنّي, وهو الميل والثني، ومنه سمى المُخنَّث وهو الذي يتشبه بالنساء, لتكسره وتخنثه ويقال: ¬

(¬1) أخرجه البخاري (رقم: 5302) ومسلم (رقم: 2023). (¬2) أخرجه أحمد (رقم: 14741) والبخاري (رقم: 5290) وأبو داود (رقم: 3726) وابن ماجه (رقم: 3432).

اخنِث فم القربة, أي اثنه، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عنه, وثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - شرب من فم قربة وهو قائم. (¬1) واختلف أهل العلم في علة النهي. فقيل: لعدم رؤية ما فيها, فإنه قد يختنث ويشرب، وقد يكون فيها قذىً أو قذراً, وروي أن رجلاً شرب من قربه فانساب جانٌّ في بطنه, والجان هي الحية الصغيرة. وقيل: لانصباب الماء عليه بكثرة, لأن هذا الفم واسع, وإن ثناه وضغط عليه أصبح المخرج ضيقاً, فربما تدفق عليه الماء فشرق به وتأذى. وقيل: العلة أنه ينتن فم القربة, وقد روى الحاكم في المستدرك من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يشرب من في السقاء لأن ذلك ينتنه. لكن هذه زيادة مدرجة من كلام عروة بن الزبير, فالصحيح أنها موقوفة, لكنها مستنبطة، وعليه فالنهي يتضمن الكراهة جمعاً بين فعله - صلى الله عليه وسلم - ونهيه. ¬

(¬1) أخرجه ابن حبان (رقم: 5318).

وعلى هذا فهل يجوز للإنسان أن يشرب الآن من القوارير التي أفواهها ملساء, ويُرى ما فيها لشفافية الزجاج أو البلاستيك؟ نقول: لا بأس حينئذٍ من الشرب من فم هذه القوارير؛ لأنه: أولاً: يرى ما فيها. وثانياً: أنه يأمن من تناثر الماء عليه. وثالثاً: أنه لا يحصل نتن في الغالب في أفواههم. وقد يقال: التتابع على الشرب من فم هذه القارورة يحصل هناك إنتان, أو قد يكون هناك نقل للأمراض, على أن في هذا عندي نظر, لأن أهل الصفة شربوا من إناء واحد وهم أعدادٌ كثيرة, وسيقع فم الواحد منهم على فم الآخر, النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتعرق العظم ويضع فمه على مكان ما تضع عائشة فمها, وكذلك يشرب من الإناء فيضع فمه أو فاه على موضع فيها.

فصل: ومن أراد النوم يغلق بابه

فَصْلٌ وَمَنْ أَرَادَ النَّوْمَ يُغْلِقُ بَابَهُ، وَيُوْكِيْ سِقَاءَهُ، وَيُغَطِّيْ إِنَاءَهُ، وَيُطْفِئُ سِرَاجَهُ، كَذَلِكَ رُوِيَ فِيْ السُّنَنِ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وَكَرِهَ أَحْمَدُ - رضي الله عنه - غَسْلَ اليَدِ لِلطَّعَامِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الخَبَرِ غَسْلُ اليَدِ لَهُ، وَلَعَلَّهُ مَا صَحَّ عِنْدَ أَحْمَدَ - رضي الله عنه -. قوله: (فصل: ومن أراد النوم ... في السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم -) الأصل في هذه المسألة ما أخرجه صاحبا الصحيح من حديث جابر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا كان جُنح الليل فكفوا صبيانكم، فإن الشياطين تنتشر حينئذٍ, فإذا ذهب ساعة العشاء، فخلوا» قال: «وأغلق بابك واذكر اسم الله، وأطفئ مصباحك واذكر اسم الله, وخمر إناءك واذكر اسم الله، ولو تعرض عليه عوداً» (¬1) وفي لفظ مسلم: «غطوا الإناء وأوكوا السقاء» (¬2) ¬

(¬1) أخرجه البخاري (رقم: 3106 و 3128 و 5300) ومسلم (رقم: 2012). (¬2) أخرجه مسلم (رقم: 2012 و 2014) وأخرجه أحمد (رقم: 14871) وابن ماجه (رقم: 3410) وأبو يعلى (رقم: 2258) وأبو عوانة (رقم: 8165).

وفي لفظ: «خَمِّروا الآنية, وأوكوا الأسقية وأجيفوا الأبواب -أي أغلقوها- واكفتوا صبيانكم عند المساء فإن للجن انتشاراً وخطفة, وأطفئوا المصابيح عند الرقاد فإن الفويسقة ربما اجترت الفتيلة فأحرقت أهل البيت» (¬1) وفي حديث ابن عمر عند البخاري ومسلم: «لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون» (¬2) أما إغلاق الأبواب فالمصلحة فيه ظاهرة, وقد نقل الحافظ عن ابن دقيق العيد أنه قال: في الأمر بإغلاق الأبواب من المصالح الدينية والدنيوية، حراسة الأنفس والأموال من أهل العبث والفساد, ولاسيما الشياطين. (¬3) فالمصلحة ظاهرة في إغلاق الأبواب, ومن السنة أن الإنسان إذا أراد أن ينام أن يغلق من الأبواب ما يحتاج إلى غلقه. ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 15206) والبخاري (رقم: 3138) والترمذي (رقم: 2857) وأبويعلى (رقم:2130) والبيهقي في شعب الإيمان (رقم: 6062) والديلمي (رقم: 2845). (¬2) أخرجه أحمد (رقم: 4515) والبخاري (رقم: 5935) ومسلم (رقم: 2015) وأبو داود (رقم: 5246) والترمذي (رقم: 1813) وابن ماجه (رقم: 3769). (¬3) فتح الباري (5/ 144) طبعة دار المعرفة.

وهذا من حسن التدبير, وهو واجب من الواجبات, لأن مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب, فلا يتم حفظ النفوس, والعورات, والأموال, والأعراض, إلا بهذا, فحينئذٍ يكون من الواجبات. قوله: (ويوكي السقاء) السقاء، هو: القربة وما أشبه ذلك, يوكيها ويربط عليها, وهذا فيه مصالح عديدة, حتى لا تأتيها الدواب, ولا تدخلها المؤذيات, فيتأذى هو بعد ذلك, ويغطي الإناء كذلك. وهذه الأفعال مقرونة باسم الله, فتغلق الباب، وتقول: "بسم الله", ويشمل إغلاق الأبواب إغلاق باب السيارة, فإن السيارة تُنزَّل على أنها بيت صغير, ولا تنزل على أنها دابة, فأحكام البيت الصغير فيها أكثر, ولها أبواب, فهي مشابهة للبيت الصغير, فتغلق الباب وتذكر اسم الله, سواءً أكنت تريد الركوب أو كنت تريد الخروج, كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فإن الشيطان لا يفتح باباً ذكر اسم الله عليه» (¬1) وقد يكون من بركة هذا حفظ هذه السيارة من السرقة. ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 14266) والبخاري (رقم: 5300) ومسلم (رقم: 2012) وأبو داود (رقم: 3731) والنسائي (رقم: 10581) وابن خزيمة (رقم: 132) وابن حبان (رقم: 1274).

وأصناف أواني الطعام قسمان: القسم الأول: ما يحتاج إلى غطاء خاص, فغطاؤه وكاؤه, فأغلقه واذكر اسم الله. والقسم الآخر من الأواني: إذا كان فيه طعام وليس له عادةً غطاء، كالطِّيس وبعض الصحون فأنت مخير, إما أن تغطيه غطاءً كاملاً وهذا أحسن, ويوجد الآن البلاستيك المحكم ويقول: "بسم الله", فإن تعذر أو تعسر فضع عوداً، وقل: "بسم الله", وهذا يكفي إن شاء الله, ولهذا قال: «ولو أن تعرض عليه عوداً وتذكر اسم الله» وهذا إن لم يجد الغطاء. والحكمة في ذلك حفظها من الأذى, وقد جاء في سنن الترمذي: أن الشيطان حساس لحّاس, (¬1) والخبر فيه مقال. ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (رقم: 1859) وقال: غريب. والحاكم (رقم: 7127) وقال: صحيح على شرط الشيخين. وتعقبه الذهبي في التلخيص، قائلاً: بل موضوع. فإن يعقوب بن الوليد كذبه أحمد وغيره. والحديث صحيح بلفظة: «من بات وفي يده غمر فأصابه شيء فلا يلومن إلا نفسه» أخرجه النسائي (رقم: 6906) والبيهقي (رقم: 15001) عن عفان بن مسلم حدثنا وهيب عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبى هريرة - رضي الله عنه -. وقال النسائي: أخبرنا محمد بن يحيى بن عبد الله. أخرج له البخاري في الصوم والطب والجنائز وغير موضع. وقد جاء الحديث من طرق أخرى.

وإذا بات هذا الطعام مكشوفاً ففي جواز الأكل منه من الغد نظر, لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر -كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة- بتغطية الآنية, وقال: «غطّوا الآنية, وأوكوا الأسقية, فإن في السنة ليلة ينزل فيها داء لا يمر بإناء ليس عليه غطاء ولا سقاء ليس عليه وكاء إلا حل فيه من ذلك البلاء» (¬1) فقد يكون في تلك الليلة حل ذلك البلاء. وعليه فالطعام البائت إذا كان مكشوفاً يكون فيه مضرة. ويقوم مقام تغطية الآنية التي ليس لها غطاء, وضعها في الثلاجة, وتُغلق الثلاجة -وهي الآلة الكبيرة وهي كالإناء الكبير - ويقول: "بسم الله", وهذا يكفي. قوله: (ويطفي سراجه) وفي لفظ جابر: «وأطفئ مصباحك واذكر اسم الله» (¬2) وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإطفاء النيران, وحُدِّث - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أبي موسى عن قوم احترق عليهم بيتهم في المدينة, فقال: «إن هذه النار إنَّما هي عدو لكم فإذا نمتم فأطفئوها» (¬3) ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 14871) ومسلم (رقم: 2014). (¬2) أخرجه البخاري (رقم: 3106). (¬3) أخرجه أحمد (رقم: 19588) والبخاري (رقم: 5936) ومسلم (رقم: 2016) وابن ماجه (رقم: 3770) وابن حبان (رقم: 5520).

وقال بعضهم: هذا خاص بالمصابيح الحرارية التي قد يوجد منها معرّة - إيقاد نار وما أشبه ذلك - وهذا لا شك فيه, فالمصابيح الحرارية - أو المدفأة- يجب إطفاؤها عند النوم, أما المصابيح الأخرى فسمعت شيخنا ابن باز - رحمه الله - قال: تُطفأ إلا ماله حاجة. قلت: لأن في إبقاء بعض المصابيح إسراف, لاسيما بعض المصابيح المتوهجة التي قد يخشى من إحراقها. وجاء في الخبر أيضاً أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإكفاء الآنية. وهذا أيضاً أدب للآنية الفارغة, فالسنة أنها تنكس إذا كانت فارغة, لا تكون مكشوفة, والحكمة في هذا حتى لا تأتي دواب فتقع فيها أو تمر عليها أو تلامسها فقد يقع الضرر حينئذٍ، ولا يلزم الغسل إذا كانت منكوسة. وقوله: (وكره أحمد - رضي الله عنه - غسل اليد .... ما صح عند أحمد - رضي الله عنه -) الصواب أنه لم يصح في غسل اليد للطعام خبر وقد تتبعت هذا كثيراً, فلم أجد حديثاً صحيحاً صريحاً سالماً من المعارضة, ومن أصح ما ورد في هذا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الجنب إذا أراد أن يأكل ويشرب وينام أن يتوضأ وضوءه للصلاة. (¬1) ¬

(¬1) أخرجه مالك (رقم: 151) وعبد الرزاق (رقم: 1074) والبخاري (رقم: 285) ومسلم (رقم: 306) والترمذي (رقم: 120) والنسائي (رقم: 259).

وهذا أيضاً ليس صريحاً؛ لأنه في حق الجنب, وهذا لمعنى آخر, فهو لتخفيف الجنابة لا لغسل اليدين, ولما سئل شيخنا ابن باز - رحمه الله: هل يؤخذ من هذا الحديث غسل اليدين للطعام؟ قال: لا, هذا لأجل الجنابة. وأما حديث سلمان - رضي الله عنه - الذي قال فيه: قرأت في التوراة أن بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده. (¬1) فهذا فيه علل, فيه قيس بن ربيع, له مناكير، وهناك من حسّن حديثه, ولكن بعد التتبع, فحديثه ضعيف, وأيضاً فالوضوء المعروف هو الوضوء الشرعي, والوضوء لأجل الطعام ليس بسنة, دل على هذا ما رواه مسلم في صحيحه أن: النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى الخلاء ثم خرج منه فأتي بطعام فقيل له: ألا تتوضأ؟ فقال: «أريد أن أصلي فأتوضأ»؟ فأكل ولم يغسل يده. (¬2) ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (رقم: 3763) والترمذي (رقم: 1846) وغيرهم، من طريق قيس بن الربيع عن أبي هاشم عن زاذان عن سلمان - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه مسلم (رقم: 374) وفي رواية: «إنما أمرتُ بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة» وأخرجه أبو داود (رقم: 3760) والترمذي (رقم: 1847) والنسائي (رقم: 132) وأحمد (رقم: 2549).

وروى البيهقي أيضاً: عن عمر - رضي الله عنه - بإسنادٍ صحيح: أنه قضى حاجته ثم أتي بطعام، فقيل له: ألا تغسل يدك؟ فقال: إنما استجمرت باليسرى وأنا آكل باليمنى. ولهذا اختلف أهل العلم في غسل اليد عند الطعام, وهما قولان في مذهب أحمد - رحمه الله تعالى - وأكثر السلف على عدم مشروعية ذلك, بل قال بعضهم: أنه من زي العجم، وصح عن أحمد: أنه غسل يديه عند الطعام، فلعله لحاجة. وساق ابن القيم - رحمه الله تعالى - الخلاف في المسألة، وقال: والصحيح أنه لا يستحب. (¬1) وشيخنا ابن باز - رحمه الله - يميل إلى هذا, وقد رأيته مراراً في بعض المناسبات يدعى إلى الطعام فيذهب إلى الطعام مباشرة ولا يغسل يديه. ونقل البيهقي في الشعب عن الشافعي، قوله: وأولى الآداب أن يؤخذ ما فعل رسول الله، فيأكل المرء قبل أن يغسل يديه أحب إلي ما لم يكن مس يده قذراً. (¬2) فهذا هو المعروف عند السلف. ¬

(¬1) حاشية ابن القيم على سنن أبي داود (10/ 166) (دار الكتب العلمية ط2). (¬2) أخرجه البيهقي في الشعب (رقم: 5806).

ولكن هذه المسألة ليست من جانب التعبد في شيء، فمن غسل فلا شيء عليه, ومن ترك فلا شيء عليه, لكن من أراد مذهب السلف في هذه المسألة فالمشهور عنهم ترك غسل اليدين، وأما إذا خشي أن يكون عليها أذى فالغسل يتأكد. أما غسل اليد بعد الطعام فهو مشروع, وقد روى البخاري من حديث جابر - رضي الله عنه -، قال: كنا إذا طعمنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن لنا مناديل إلا أكفنا وسواعدنا. (¬1) وهذا محمول على قلة الماء أو له أسباب اقتضت ذلك. وأيضاً قوله: لم يكن لنا مناديل ... يدل على عدم وجود المناديل، وإلا لو وجدت لاستعملوها والتمندل نوع تنظيف فهو شبيه بالغسل، وأيضاً يبقى في اليد زهومة، لو لم يغسل يديه وسيأتي في الفصل القادم تكميل - إن شاء الله -. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (رقم: 5141).

فصل: ويستحب تحويل غسل اليد من الزهام

فَصْلٌ ويُسْتَحَبُّ تَحْوِيْلُ غَسْلِ اليَدِ مِنَ الزُّهَامِ، وَعِنْدَ النَّوْمِ أَشَدُّ اِسْتِحْبَابًا، فَقَدْ وَرَدَ التَّحْذِيْرُ مِنْهُ مِنْ أَجْلِ الهَوَامِّ. وَيُكْرَهُ لِمَنْ أَرَادَ الْمَسَاجِدَ لِلصَّلَاةِ، وَالاعتِكَافِ، أَنْ يَتَعَرَّضَ لِأَكْلِ الخَبَائِثِ مِنَ البُقُوْلِ، كَالبَصَلِ، وَالثُّوْمِ، وَالكُرَّاثِ، فَقَدْ نَهَى النَبَيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ قُرْبَانِ الْمَسْجِدِ مَعَهُ. وَيُسْتَحَبُّ الإِجَابَةُ إِلَى وَلِيْمَةِ العُرْسِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَجِيْبَ إِلَى وَلِيْمَةِ الخِتَانِ؛ فَإِنَّهَا مُحْدَثَةٌ. وَإِذَا حَضَرَ وَلَيْمَةَ العُرْسِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الأَكْلُ، بَلْ إِنْ أَكَلَ وَإِلَّا دَعَا وَانْصَرَفَ، وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ الإِجَابَةُ إِلَيْهَا؛ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيْهَا لَعِبٌ وَلَا مُنْكَرٌ وَلَا لَهْوٌ، فَإِنْ كَانَ فِيْهَا مُحَرَّمٌ حَرُمَتِ الإِجَابَةُ، وَإِنْ كَانَ فِيْهَا مَكْرُوْهٌ كُرِهَتِ الإِجَابَةُ. وَيُكْرَهُ لِأَهْلِ المُرُوْءَاتِ وَالفَضَائِلِ التَسَرُّعُ إِلَى إِجَابَةِ الطَّعَامِ، وَالتَسَامُحُ، وَحُضُوْرُ الوَلَائِمِ غَيْرِ الشَّرْعِيَّةِ؛ فَإِنَّهُ يُوْرِثُ دَنَاءَةً وَإِسْقَاطَ الهَيْبَةِ مِنْ صُدُوْرِ النَّاسِ.

وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُسْلِمِ عِيَادَةُ أَخِيْهِ المُسْلِمِ، وَحُضُوْرُ جَنَازَتِهِ إِذَا مَاتَ، وَتَعْزِيَةُ أَهْلِهِ. وَلَا بَأْسَ بِعِيَادَةِ الذِّمِّيِّ، فَقَدْ عَادَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَهُوْدِيًّا، وَقَالَ: ((كَيْفَ تَجِدُكَ يَا يَهُوْدِي)). قوله: (فصل ويستحب غسل اليد ..... من أجل الهوام) فغسل اليد بعد الطعام لا شك في مشروعيته؛ كأن يكون في هذا الطعام زهومة سواء نام أو لم ينم، وعند النوم أشد، لحديث رواه الإمام أحمد والترمذي وابن حبان من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من بات وفي يده غَمَر فأصابه شيء فلا يلومن إلا نفسه» (¬1) ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 7559 و 10953) والترمذي (رقم: 1860) والحاكم (رقم: 7197) وأخرجه: ابن أبي شيبة (رقم: 26742) وأبو داود (رقم: 3854) والبخاري في الأدب المفرد (رقم: 1220) وابن ماجه (رقم: 3297) والدارمي (رقم: 2115) وابن حبان (رقم: 5521) والبيهقي (رقم: 15002) من طريق: سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة: «من نام وفي يده غمر لم يغسله فأصابه شيء فلا يلومن إلا نفسه» وأخرجه: أحمد (رقم: 8512) والنسائي (رقم: 6905) والبيهقي (رقم: 15001) من طريق: وهيب عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. == == والحديث له طريق ثانٍ ضعيف عن ابن أبي ذئب، عن المقبري عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. وقد جاء الحديث عن الزهري عن عروة عن عائشة مرفوعاً به، عند النسائي (رقم: 6907) والطبراني في الأوسط (رقم: 5441) وفي الصغير (رقم: 816) والخطيب (4/ 339).

وهذا الحديث في إسناده اختلاف كثير واضطراب، وقد ذكره ابن أبي حاتم في العلل (¬1) , والدارقطني في علله (¬2) , وأعرض عنه صاحبا الصحيح, وقد أومأ أبو حاتم إلى أنه موقوف، وجاء أيضاً في معنى هذا الحديث أخبار, وهو يدل على التحذير من كون الإنسان ينام وفي يده دسومة طعام. الغمر -ضُبط بالتسكين وبالفتح- هي زهومة اللحم. (¬3) والإنسان قد ينام ويكون في يده من بقايا الأكل, فربما أتت دابة وحسبت أن هذا طعاماً أو لحماً فنهشته, فأصابه إما مرض, أو سمّته فمات, أو ما أشبه ذلك, وفي بعض ألفاظ الحديث: «فأصابه وَضَح» (¬4) ¬

(¬1) قال ابن أبي حاتم: قال أبي هذا خطأ، في أصل جرير عن أبي صالح، عن أبي هريرة، موقوف، الشيء الذي أوقفه ابن حميد فما بقي مع أن يحيى بن المغيرة أيضا أوقفه. علل الحديث لابن أبي حاتم (رقم: 2202). (¬2) علل الدارقطني - (10/ 202) دار طيبة الرياض ط1. (¬3) فيض القدير للمناوي (1/ 214) (المكتبة التجارية الكبرى - مصر، ط1). (¬4) أخرجه الطبراني (رقم: 5435) عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. قال الهيثمي (5/ 30): إسناده حسن.== == وفيه: مطلب بن شعيب الأزدي أورده ابن عدي الجرجاني في الضعفاء (رقم: 1945 - دار الفكر) وقال: له حديث منكر عن كاتب الليث فيه شئ، وسائر أحاديثه عن أبي صالح مستقيمة. وقال الحافظ في اللسان (9/ 51): وقد أكثر الطبراني عن مطلب هذا وهو صدوق. وعبد الله بن صالح: أورده العجلي في الثقات (رقم: 908 - مكتبة الدار - المدينة المنورة)، وابن حبان في الثقات (رقم: 13834 - دار الفكر) وقال فيه ابن أبي حاتم: روى عنه أبي وأبو زرعة قال أبي هو صدوق. التعديل والتجريح للباجي (رقم: 830 - دار اللواء، الرياض) وذكره العقيلي في الضعفاء (4/ 296)، وقال فيه كلاماً عن الإمام أحمد وليس في كلامه جرحاً معتبراً. وأورده النسائي في الضعفاء والمتروكين (رقم: 334) وقال: ليس بثقة كذلك لم يذكر فيه جرحاً جرح به، وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل في العلل ومعرفة الرجال (رقم: 4919): سألت عن عبد الله بن صالح كاتب الليث، فقال: كان أول أمره متماسك ثم فسد بأخرة وليس هو بشيء. قال أبو عبد الله الذهبي في الكاشف (رقم: 2780): عبد الله بن صالح أبو صالح الجهني مولاهم المصري كاتب الليث عن معاوية بن صالح وموسى بن علي وعنه البخاري وابن معين وبكر بن سهل: وكان صاحب حديث فيه لين. قال أبو زرعة: حسن الحديث لم يكن ممن يكذب. وقال الفضل الشعراني: ما رأيته إلا يحدث أو يسبح. وقال ابن عدي: هو عندي مستقيم الحديث له أغاليط. وكذبه جزرة. وخلاصة الكلام فيه ما قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (10/ 405): وبكل حال، فكان صدوقا في نفسه، من أوعية العلم، أصابه داء شيخه ابن لهيعة، وتهاون بنفسه حتى ضعف حديثه، ولم يترك بحمد الله، والأحاديث التي نقموها عليه معدودة في سعة ما روى.

أي برص, وهذا الحديث يدل على أنه ينبغي للإنسان أن يغسل يده من الطعام إذا كان له زهومة وأثر في اليد. وهذا عام في وجود جزء من الزهومة على الجسم, سواء في اليد أو في الرجل, أو رائحة البدن فإنه يتأكد عند النوم تنظيف البدن. قوله: (ويكره لمن أراد المساجد للصلاة أو الاعتكاف أن يتعرض لأكل الخبائث من البقول؛ كالبصل والثوم والكراث، فقد نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قربان المسجد معه) هذا يتعلق بآداب الحضور إلى المساجد, وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير وجه من حديث جابر وحديث أنس وحديث ابن عمر، أنه قال: «من أكل ثوماً فلا يقربن المساجد» (¬1) ¬

(¬1) حديث جابر - رضي الله عنه -: أخرجه أحمد (رقم: 15334) والبخاري (رقم: 817) ومسلم (رقم: 564) وأبوداود (رقم:3822) والنسائي (رقم:6679) وابن خزيمة (رقم:1664) حديث أنس: أخرجه البخاري (رقم: 818) ومسلم (رقم: 562) وحديث ابن عمر: أخرجه أحمد (رقم: 4715) والبخاري (رقم: 815) ومسلم (رقم: 561) وأبو داود (رقم: 3825) وابن ماجه (رقم: 1016) وابن حبان (رقم: 2088) وابن خزيمة (رقم: 1661) وجاء أيضاً عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، أخرجه عبد الرزاق (رقم: 173) وأحمد (رقم: 11099) ومسلم (رقم: 565) وأبو يعلى (رقم: 1195) وابن خزيمة (رقم: 1667) وأبو عوانة (رقم: 1229) وجاء أيضاً عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أخرجه مسلم (رقم: 563) وابن ماجه (رقم: 1015) == == وجاء أيضاً عن عبد الله بن زيد - رضي الله عنه -: أخرجه الطبراني في الأوسط (رقم: 8550) قال الهيثمي (2/ 17): رواه الطبراني في الأوسط والكبير ورجال الكبير رجال الصحيح. وجاء هذا الحديث أيضاً عن غيرهم.

وفي سياق حديث جابر عند مسلم: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل البصل والكراث، فغلبتنا الحاجة فأكلنا منها، فقال: «من أكل من هذه الشجرة المنتنة فلا يقربن مسجدنا» (¬1) وسميت هذه خبائث؛ لأنها طعام دنيء, وأيضاً لرائحتها, وقد يسمى الشيء الحلال خبيثاً باعتبار دناءته أو رائحته, وفي التنزيل قوله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} (¬2) يعني لا تيمموا الدنيء من المطعومات والمشروبات فتصدقون به, بل اعمدوا إلى الأطيب, فـ «إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً» (¬3) وليس هذا الخبث مما يتعلق به التحريم كما في قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (¬4) ويؤيد هذا قوله تعالى في بني إسرائيل حينما ¬

(¬1) أخرجه مسلم (رقم: 563). (¬2) البقرة: 267. (¬3) أخرجه أحمد (رقم: 8330) ومسلم (رقم: 1015) والترمذي (رقم: 2989) والدارمي (رقم: 2717). (¬4) الأعراف: 157.

تمنوا البصل والثوم والعدس: {قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} (¬1) فقوله تعالى: {الَّذِي هُوَ أَدْنَى} أي: من المطاعم التي اخترتموها. والحكمة واضحة في النهي عن دخول المساجد لمن أكل بصلاً أو ثوماً أو كراثاً, والمراد مع بقاء الرائحة, لأن هذا النهي معلل بعلتين: أذية المؤمنين, وأذية الملائكة. وهل يلحق بهذه الثلاثة ما سواها من المأكولات ذوات الرائحة الخبيثة؟ نعم, قد جاء في حديث جابر نفسه عند الطبراني في الصغير التنصيص على الفجل، ولكن في إسناده يحيى بن راشد (¬2). وألحق أهل العلم كل ماله رائحة تؤذي المصلين, سواءً كان هذه المطعوم أو المشروب حلالاً أو حراماً, وإن كان حراماً فهو أشد وأخبث, ¬

(¬1) البقرة: 61. (¬2) أخرجه الطبراني في الصغير (رقم: 37) قال: حدثنا أحمد بن حماد بن زغبة، قال: حدثنا سعيد بن عفير، قال: حدثنا يحيى بن راشد البراء، قال: حدثنا هشام بن حسان الفردوسي، عن أبي الزبير عن جابر - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: «من أكل من هذه الخضروات فلا يقربن مسجدنا الثوم والكراث والبصل والفجل فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم» قال الهيثمي (2/ 17): فيه يحيى بن راشد البراء البصري وهو ضعيف ووثقه ابن حبان وقال يخطئ ويخالف وبقية رجاله ثقات.

فألحقوا السمّاك الذي يبيع السمك أو يصطاده, فإن رائحة السمك شديدة, وقد لا تخرج من الإنسان بسهولة, وفي الأعصار المتأخرة صاحب الدخان, وهو شارب التبغ, من أجل الرائحة الخبيثة التي تفوح من فيه, مع أن الدخان محرم, وتحريمه ظاهر, ومفاسده كثيرة، وعلى هذا يحرم دخول المسجد لمن فيه رائحة منتنة من بصل, أو ثوم, أو كراث, أو دخان, أو عرق, أو بخر شديد يظهر أثناء الكلام, أو اتساخ ملابس برائحة مطعوم أو مشروب أو غير ذلك لحصول الأذية للمسلمين والملائكة. ونستفيد من هذا الحديث وما جاء في معناه, أنه يحرم لمن أراد المساجد للصلاة أو الاعتكاف أن يتعرض لهذا الشيء. وتعبير المؤلف بقوله: (أن يتعرض) فيه نظر، فإن أكل الإنسان الثوم أو الكراث أو البصل أوكل ذي رائحة نتنة لا يخلو من أقسام: القسم الأول: أن يكون لحيلة إسقاط صلاة الجماعة, فهذا لا يحضر ويأثم, أما عدم حضوره فللأحاديث الواردة في الباب, وأما كونه يأثم فلأنه احتال لإسقاط واجب. القسم الثاني: أن يأكلها لشهوة ولم يتخذها عادة هذا جائز ولا يأثم, ولكن لا يحضر صلاة الجماعة.

ولكن هل يكتب له أجر الجماعة؟ قال بعض أهل العلم: إن كان عادته حضور الجماعة فإنه يكتب له أجر صلاة الجماعة؛ لأنه تأخر عن حضور صلاة الجماعة بسبب إعذار ومسامحة من الشارع, بل الشارع هو الذي نهاه, وقال بعضهم: الذين يأكلون الثوم والكراث ينقسمون إلى قسمين: فمنهم من يأكله لحاجة كتطبب ودواء وحاجة كأن لا يكون عنده طعام سواه فهذا يعذر, وله أجر الجماعة, لأنه مريد لها. أما إذا أكلها شهوةً, فهو الذي أسقط الجماعة باختياره وهذا هو الصحيح، وحسبه عفو الشارع عن الجماعة أما ثبوت أجرها فلا، هذا ما ظهر لي. وأما حد إباحة حضور المسجد لمن أكل الثوم أو البصل أو الكراث: فهو زوال الرائحة, فإذا زالت الرائحة جاز له دخول المسجد بعد ذلك, وعليه أن يتعاطى الأشياء التي تزيل الرائحة إذا قرب وقت الصلاة, وقد بوب ابن خزيمة باباً يوهم أن حد إزالة الرائحة ثلاثة أيام, فجاء عنده: «من أكل من هذه البقلة الخبيثة فلا يقربن مساجدنا ثلاثاً» (¬1) وبوب عليه: (باب توقيت النهي عن إتيان الجماعة لآكل الثوم) (¬2) وفي هذا نظر لأن ¬

(¬1) أخرجه ابن خزيمة (رقم: 1663) وأخرجه أبو داود (رقم: 3824) وابن حبان (رقم: 1639) والبيهقي (رقم: 4834) عن أبي سعيد. (¬2) صحيح ابن خزيمة (3/ 82).

قوله: (ثلاثاً) راجع إلى تكرار النبي - صلى الله عليه وسلم - القول, لا أن وجود الرائحة لا يزول إلا بعد هذه الأيام الثلاث, فالرائحة تزول قبل ذلك بكثير, ولكنه فهم - رحمه الله - أنه يسمح للإنسان ثلاثة أيام في ترك الجماعة، وقد وهم في هذا. فإذا قلنا أن العلة مركبة من أذية الملائكة, وأذية المؤمنين, فالتقسيم حينئذٍ كالتالي: 1 - أن يأكل بعض جماعة المسجد ولا يأكل البعض فحينئذ يحرم على الذين أكلوا أن يحضروا المسجد؛ لأن فيه أذيتين الأذية الأولى أذية الملائكة, وأذية الذين لم يأكلوا. 2 - أن يأكلوا جميعاً بإمامهم فبعض أهل العلم رخص لهؤلاء أن يحضروا, فقالوا: لا أذية, فالجميع قد أكل ورضي بالرائحة لنفسه ولغيره, والصحيح أنه يحرم للعلة الأولى وهي أذية الملائكة. 3 - أن يأكل الرجل الثوم أو الكراث ثم يدخل المسجد, سواءً كان للصلاة أو بدون صلاة, وليس في المسجد أحد, فهذا أيضاً يمنع لما فيه من أذية للملائكة. ولو أن الناس يصلون في الخارج, وليسوا في المسجد فلا يخلو من حالين:

الحالة الأولى: إذا أكلوا جميعاً فلا بأس أن يصلوا جماعة, إذا لم يؤذِ بعضهم بعضاً لزوال العلتين. الحالة الثانية: إذا أكل البعض وترك البعض ويحصل الأذى فحينئذ لا يصلي من أكل مع غير الآكلين لوجود إحدى العلتين وهي أذية المؤمنين. وقد أخرج مسلم من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - لما فتحت خيبر -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر على زَرّاعة بصل هو وأصحابه، فنزل ناس منهم فأكلوا منه، ولم يأكل آخرون، فرحنا إليه فدعا الذين لم يأكلوا البصل، وأخر الآخرين حتى ذهب ريحها. (¬1) والمقصود أنه عزل من أكل ولم يثرّب عليهم, لأنهم إنما أكلوا لحاجة, فقد كانوا جميعاً جياعاً, وهؤلاء الذين أكلوا لم يتعرض لهم في الحديث, هل صلوا جميعاً أم لا, ولكن نقول كما تقدم: إن صلوا جميعاً فلا بأس, وإن تأذى بعضهم بأكل غيره فصلى لوحده فلا بأس. وعلم بهذا أن داخل المسجد ولو لم يكن في وقت صلاة ينبغي أن تكون رائحته طيبة. ¬

(¬1) أخرجه مسلم (رقم: 566).

فمن أراد أن يأكل هذه الأشياء فكما قال عمر - رضي الله عنه -: إنكم تأكلون شجرتين ما أراهما إلا خبيثتين, فمن أراد أن يأكلهما فليمتهما طبخاً. (¬1) فقد يشتهي بعض الناس هذا الأشياء, فنقول: بالغ في طبخها حتى تزول منها الرائحة الخبيثة, وإن كان الثوم في الغالب لو بالغ في طبخه فإنه لا تزول رائحته. لكن ذكر ابن القيم (¬2) وغيره أن مصّ ورق السَذَاب يذهب رائحة البصل والثوم, وعلى من ابتلي بهذا أن يستعمل السواك ويستخدم المنظفات والمعطرات حتى تزول هذه الرائحة. وإذا وجدت رائحتها من رجل فإنه يشرع للإمام أو غيره أن يخرجه, وقد وقع عند مسلم من حديث عمر - رضي الله عنه -: أنه خطب الناس فقال: أيها الناس إنكم تأكلون شجرتين ما أراهما إلا خبيثتين -أي أظنهما- ولقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا وجد ريحها من رجل أمر به فأُخرج إلى البقيع. (¬3) ¬

(¬1) أخرجه الطيالسي (رقم: 53) وأحمد (رقم: 89) ومسلم (رقم: 567) وأبو عوانة (رقم: 1218) والنسائي (رقم: 708) وابن ماجه (رقم: 1014) وأبو يعلى (رقم: 256) وابن حبان (رقم: 2091) وابن خزيمة (رقم: 1666). (¬2) زاد المعاد لابن القيم (4/ 290 - مؤسسة الرسالة، ط3). (¬3) صحيح مسلم (رقم: 567).

وفي هذا الحديث من الدلائل أنه يخرج بعيداً، ليس في رحبة المسجد؛ لأن العلة فيها أذية الملائكة أيضاً, فهو إذا أخرج من المكان الذي به المصلون زالت علة وهي أذية المصلين, ولكن بقيت أذية الملائكة، وهم في الرحبة وفيما يسمى مسجداً، فإن الملائكة تكون في المساجد. فائدة: روى الإمام أحمد في مسنده (16972): حدثنا أبو المغيرة حدثنا حريز بن عثمان الرّحبي قال: سمعت عبد الله بن غابر الألهاني قال: دخل المسجد حابس بني سعد الطائي في السحر وقد أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - فرأى الناس يصلون في مقدم المسجد، فقال: مُراءون وربُّ الكعبة، أرعبُوهم، فمن أرعبهم، فقد أطاع الله ورسوله، فأتاهم الناس، فأخرجوهم، قال: فقال: إن الملائكة تصلي من السحر في مقدم المسجد» وهذا إسناد لا بأس به وقد رواه الطبراني في الكبير من طريق حريز ... ورواه غيره. وهذا - أعني صلاة الملائكة في مقدم المساجد في السحر - لا أحفظه مرفوعاً في الأخبار .. ، ونهي الناس عن الصلاة في مُقدمِ المسجد في وقت السحر فيه نظر، بل لا يجوز حتى يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك خبرٌ صحيح صريح، وهذا اجتهاد صحابي.

وسألت شيخنا ابن باز - رحمه الله - عن ملائكة البيوت وأن الإنسان قد يأكل ويصلي في البيت؟ فقال: ملائكة البيوت لا حيلة في ذلك, والمراد في الحديث ملائكة المسجد. مسألة: ذكر جماعة من أهل العلم أن أصحاب العاهات أيضاً يمنعون من دخول المسجد, إذا كانت هذه العاهة مما قد يعدي, أو مما يتقزز الناظر منها, ويحصل له أذية لأن الأذية قد تكون في هذه الصورة أشد من الرائحة، فقد تكون أذية صوت أو منظر أو ريح أو ما أشبه ذلك, فللإمام أن يمنع أصحاب العاهات المعدية من دخول المسجد, والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال لذاك الرجل الذي أصيب بالجذام: «ارجع فقد بايعناك» (¬1) فترك مبايعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبايعه النبي - صلى الله عليه وسلم - دون أن تمس يده يده، ولهذا المريض بالعنقز (جدري الماء) وما أشبهه يرخص له في ترك صلاة الجماعة. قوله: (ويستحب الإجابة إلى وليمة العرس، وليس له أن يستجيب إلى وليمة الختان؛ فإنها محدثة) قرر المؤلف أن إجابة وليمة العرس مستحبة, وفي هذا نظر, فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير وجه من حديث ابن عمر وحديث جابر وغيرهما: ¬

(¬1) أخرجه مسلم (رقم: 2231) والنسائي (رقم: 4182) وابن ماجه (رقم: 3544).

أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا دعي أحدكم إلى وليمة فليجب، ومن لم يجب فقد عصى الله ورسوله» (¬1) وهذا صريح في الوجوب. فقول المؤلف: (يستحب الإجابة) ليس بسديد, بل الصواب وجوب الإجابة إلى وليمة العرس. وقد اختلف العلماء في دعوة الوليمة, هل هي عامة لكل فرح أم هي خاصة بطعام العرس؟ فجمهور اللغويين على أن الوليمة إنما يراد بها دعوة العرس (النكاح) وقال بعض الفقهاء: هي عامة لكل فرح, من عرس وبناء بيت, وشفاء مريض, وعقيقة, وما أشبه ذلك. ¬

(¬1) أخرجه مالك (رقم: 1137) وأحمد (رقم: 4712 و 4730) والبخاري (رقم: 4878) ومسلم (رقم: 1429) وأبو داود (رقم: 3736) والنسائي (رقم: 6608) وابن ماجه (رقم: 1914) من حديث ابن عمر. وأخرجه أحمد (رقم: 15256)؛ ومسلم (رقم: 1430) وأبو داود (رقم: 3740) والنسائي (رقم: 6610) وابن حبان (رقم: 5303) من حديث جابر. وأخرجه أحمد (رقم: 7302) ومسلم (رقم:1150) وأبوداود (رقم:2461) والترمذي (رقم: 781) والنسائي (رقم: 3269) وابن ماجه (رقم: 1750) من حديث أبي هريرة.

والصحيح أن الوليمة المراد بها دعوة النكاح والعرس, ولاشك أن الفرح بها والدعوة إليها لا يشاكل غيرها, وقد تكلم الناس في أسماء الأفراح والولائم فسموا الوليمة عند تمام البناء بالوكيرة, والنقيعة عند القدوم من السفر؛ وفي حديث جابر - رضي الله عنه - عند البخاري: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قدم المدينة نحر جزوراً أو بقرةً. (¬1) والعقيقة ذبيحة الولادة, والخَرْس هي ذبيحة الختان على خلاف في مشروعية بعضها. وأما في إجابة الدعوة لوليمة العرس فالصحيح أنها واجبة وأما ما سواها فاختلف أهل العلم في ذلك، فمنهم من قال: إذا كانت الوليمة يسمى بها كل ما يصنع لكل فرح حادث، فيجب على الإنسان أن يستجيب إلى كل دعوة, سواءً كانت الدعوة إلى وليمة عرس، أو غيرها؛ لأن هذا مما يؤلف القلوب, والصحيح كما أسلفنا أن الوجوب معلق بوليمة النكاح للفرق بينها وبين غيرها, فإن قيل قد روى مسلم من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من دعي إلى وليمة فليجب, ¬

(¬1) أخرجه (رقم: 2923).

مسقطات وجوب إجابة الدعوة

عرساً كان أو نحوه» (¬1) وهذا صريح في العموم, لكن نقول: هذا السياق غير محفوظ, والمحفوظ في الحديث: «من دعي إلى وليمة فليجب» (¬2) كما هي ألفاظ حديث ابن عمر الصحيحة, وما جاء في معناها, من حديث جابر وحديث أبي هريرة, والحديث صريح في الوليمة فقط, وأخشى أن يكون هذا إدراجاً من الراوي. والحضور إلى وليمة العرس واجب إلا أنه يسقط بأسباب, كمشقة حضور, أو عجز, أو ما أشبه ذلك من الموانع المعتبرة, وأيضاً يسقط عنه إذا أذن صاحب الدعوة؛ لأن الحق له. فمن مسقطات وجوب إجابة الدعوة: 1 - المرض الذي يبيح التخلف عن صلاة الجماعة. 2 - إذن صاحب الدعوة بالتخلف. 3 - المشقة التي مثلها يسقط الحضور كالبعد ونحوه. ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق (رقم: 19666) وأحمد (رقم: 6337) ومسلم (رقم: 1429) وأبو داود (رقم: 3740) وأبو عوانة (رقم: 3399) والبيهقي (رقم: 14302). (¬2) أخرجه أحمد (رقم: 4712 و 4730) والبخاري (رقم: 4878) ومسلم (رقم: 1429) وابن ماجه (رقم: 1914) وأبو عوانة (رقم: 3387) والبيهقي (رقم: 14295) بلفظ: «إذا دعي أحدكم إلى وليمة عرس فليجب» إلا البخاري فقال: «إذا دعي أحدكم إلى وليمة فليأتها».

4 - وجود دعوة سابقة. 5 - وجود دعوة في الوقت نفسه, وبيت صاحبها أقرب, وفي هذه والتي قبلها حديث عائشة الذي رواه أبو داود بإسناده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: {إذا اجتمع داعيان فأجب أقربهما بابا فإن أقربهما بابا أقربهما جوارا فإن سبق أحدهما فأجب الذي سبق} وروى البخاري بإسناده {عن عائشة قالت قلت يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي قال: أقربهما منك بابا} ولأن هذا من أبواب البر فقدم بهذه المعاني. 6 - أن يكون الداعي ممن يشرع هجره. 7 - أن يوجد في الوليمة منكر لا يستطيع تغييره أو إزالته. مسألة: بم تحصل الدعوة؟ تحصل الدعوة بالتنصيص عليه بقوله: "يا فلان احضر", أو بطاقة دعوة فيها اسمه كما هو حاصل الآن, أو بالاتصال الهاتفي, أو بتوكيل رجل يدعوه, في كل هذه الحالات يحصل تعيين المدعو, ويجب عليه أن يحضر, ومما لا يجب عليه الحضور: لو قال: "ادع لي كل من لقيت", وهذه يسميها العلماء دعوة الجفلى, وقد قال طرفة:

نحن في المشتاة ندعو الجفلى ... لا ترى الآدب منا ينتقر الآدب: هو صاحب المأدبة والانتقار: هي دعوة البعض وترك البعض, فيقول: نحن في المشّتات, وفي شدة البرد, ووفرة الجوع, ندعو كل من لقينا كرماً منا, كذلك بطاقات الدعوة أحياناً يكون الذي يلي كتابة الأسماء ليس صاحب الدعوة, بل صاحب الدعوة لا يدري عن كثير من الأشخاص الذين دُعوا, فإذا عُلم أن صاحب هذه الدعوة ليس هو الداعي ولا وكيله فلا يلزم الناس الحضور, وهي تشبه حينئذ دعوة الجفلى وقد صرح الفقهاء بأن دعوة الجفلى ليست ملزمة. ويجب الحضور ولو كان الإنسان صائماً, فقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا دعي أحدكم فليجب فإن كان صائما فليصل وإن كان مفطرا فليطعم» (¬1) والمراد بالصلاة هنا الدعاء, وفي قوله تعالى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} (¬2) ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 10593) ومسلم (رقم: 1431) وأبو داود (رقم: 2462) والترمذي (رقم: 780) والنسائي (رقم: 3270). (¬2) التوبة: 103.

أي: ادع لهم, وكان ابن عمر - رضي الله عنه - يجيب الدعوة فإن كان صائماً برّك ودعا ثم انصرف, وإن كان مفطراً طعِم. مسألة: حكم الأكل عند حضور الدعوة. قال بعضهم: يلزمك إذا دعيت أن تأكل, وقال في حديث ابن عمر: «وإن كان مفطراً فليطعم» وهذا أمر. وقال بعضهم: الواجب الإجابة وليس الأكل, بدليل وتعليل, أما الدليل فهو حديث جابر - رضي الله عنه -: «إذا دعي أحدكم فليجب فإن شاء طعم وإن شاء ترك» (¬1) وهذا أخرجه مسلم في الصحيح. وهذا صريح, فإن شاء طعم وإن شاء ترك, وأيضاً لو كان الأكل واجباً لما شُرِع دعوة الصائم, ومع ذلك فالصائم يجيب, ثم إذا حضر دعا وانصرف, وهذا القول هو الصحيح, وأُورد على حديث جابر إيرادٌ وهو: «فإن شاء طعم وإن شاء ترك» حمل هذا على الصائم «إذا دعي أحدكم وهو صائم فإن شاء طعم وإن شاء ترك» كأنه يخير الصائم بين الطعام والترك، وهذا فيما إذا كان الصوم نفلاً, أما إذا كان فريضة فلا يجوز أن ¬

(¬1) أخرجه مسلم (رقم: 1430) وأخرجه أحمد (رقم: 15256) وأبو داود (رقم: 3742) (والنسائي (رقم: 6610) وابن ماجه (رقم: 1751).

يقطع الصوم, ونقول: أن الإشكال لم يزل إلى الآن فإنه إذا خير الصائم نفلاً بين كونه يفطر أو لا يفطر, علم أن الأكل أصلاً ليس بواجب؛ لأنه لو كان واجباً لتحتم على صائم النفل أن يأكل, فتعين ما ذكرنا أن الأكل ليس بواجب في دعوة الوليمة, ويستحب الأكل لأن فيه إتمام الدعوة, وبه جبر قلب صاحب الدعوة. ومن مسقطات الدعوة: وجود منكر فيها لا يستطيع إنكاره, فإذا كان المدعو يستطيع إنكاره فيجب الحضور والإنكار؛ لأن في حضوره حينئذٍ مصلحتين: المصلحة الأولى: إجابة الدعوة. والمصلحة الثانية: إزالة المنكر. بل يتأكد على من علم أن في الوليمة الفلانية منكراً وهو أحد المدعويين فعليه أن يحضر وينكر, فإن لم يستطع الإنكار أو علم مسبقاً أنه لا يستطيع فإنه لا يجوز له الحضور. فإن حدث المنكر وهو حاضر, فإنه يجب عليه أن ينكر, وكذا كل واحد في الوليمة, فإن زال فالحمد لله, وإن لم يزل نُظِر, فإن كان المنكر

عاماً يعم أهل الوليمة, كأن يكون في الوليمة صوت منكر, فحينئذ إما أن ينكر أو يذهب, وإن كان المنكر خاصاً, كأن يتعلق ببعض الحاضرين, فهذا يجب فيه الإنكار, ولا يلزم المغادرة؛ كأن يدخن إنسان في زاوية المجلس, فهذا رأى منكراً يجب عليه إنكاره, وإنكاره فرض كفاية, فإن زال فالحمد لله, وإن لم يزل فلا يجب مغادرة المكان؛ لأن هناك فرقاً عند أهل العلم بين مجلس المنكر ومجلس فيه منكر. وأيضاً المنكرات تختلف فالمجلس الذي فيه هتك حرمة وركوب الكبائر ليس مثل مجلس يخلو من ذلك وفيه مخالفة دون ذلك بكثير، ومراعاة المصالح في الجلوس أو المفاسد يجب أن تؤخذ في الاعتبار، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث جابر وله شاهد من حديث عمر: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعد على مائدة يدار عليها الخمر» (¬1) قال: (وليس له أن يستجيب إلى وليمة الختان فإنها محدثة) ¬

(¬1) أخرجه النسائي (رقم: 6741) والترمذي (رقم: 2801) وقال: حسن غريب. والحاكم (رقم: 7779) وقال: صحيح على شرط مسلم، والطبراني في الأوسط (رقم: 688) من حديث جابر - رضي الله عنه -، وحديث عمر - رضي الله عنه - أخرجه أحمد (رقم: 125) قال الهيثمي (1/ 277): فيه رجل لم يسم، والبيهقي (رقم: 14326).

وليمة الختان لم تكن في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، ولا في عهد الصحابة, وقال شيخ الإسلام: وأما دعوة الختان فلم تكن الصحابة تفعلها وهي مباحة. (¬1) ثم من العلماء من أصحاب أحمد وغيره من كرهها, ومنهم من رخص فيها, والصحيح أن الوليمة لها مباحة, لحصول القيام بواجب الختان ولسلامة الولد وهي ليست بسنة ولا بدعة, كوليمة نهاية البناء, على أن في المسألة تفصيلاً ليس هذا مكانه. ومما ينبغي التنبه له الحرص على تآلف القلوب، والحذر الشديد من زوال ذلك كأن يحصل منه حين الدعوة لهذه الوليمة، أن يقول: إنها بدعة وليست بسنة، وكان الأولى حين الامتناع أن يرد بلطف. وأيضاً على الطرف الآخر قبول العذر؛ لأن مثل هذه الولائم مباحة فكيف يكون التثريب عليه بعدم الحضور مع العلم أنها ليست واجبة. مسألة: اختُلف في رقص النساء للزواج, فمنهم من منعه, وكان شيخنا ابن عثيمين - رحمه الله تعالى - يشدد فيه، ويقول: يبلغني عنه ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (32/ 206).

مفاسد, منها أن بعض النساء يسقط في أثناء الرقص, ومنها أن بعضهن يفتن بعضاً, بحركاتها ولعبها, ومنها أن فيه إظهاراً لبعض المفاتن - كأن يكون اللباس غير كاسٍ. وسئل شيخنا ابن باز - رحمه الله تعالى - فقال: جائز, إن لم يكن فيه مضرة وهذا هو الصحيح.

مسألة ضرب الدف

مسألة ضرب الدف: يضرب الدف في ثلاثة أحوال: في العرس والعيد وعند قدوم الغائب. وحكم ضرب الدف مستحب وما تقدم من الأحوال الثلاثة فأدلتها ما يلي: الحالة الأولى: أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - به في إعلان النكاح. الحالة الثانية: في العيد وفيه خبر أبي بكر - رضي الله عنه - لما دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - ووجد عنده جاريتين تدففان فزجرهما، وقال: بمزمور الشيطان في بيت الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «دعهما فإن لكل قوم عيدا» (¬1) ويستفاد من هذا الحديث: - بيان التعليل بقوله: «إن لكل ..» بعد الحكم بقوله «دعهما» أي لجواز اللعب وإباحته. ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 24095 و 24996) والبخاري (رقم: 909 و 3716) ومسلم (رقم: 892) والنسائي (رقم: 1593) وابن ماجه (رقم: 1898) وأبو عوانة (رقم: 2138) وأبو يعلى (رقم: 50).

- الأصل في الدف المنع إذ لو كان غير ذلك لما ذكر العلة. - أن الدف يليه النساء وسئل مالك أيضربه الرجال، فقال: إنما يفعله الفساق عندنا. (¬1) وأما الحالة الثالثة: عند قدوم الغائب، ودليله عودة النبي - صلى الله عليه وسلم - من تبوك حينما ضربت الجارية السوداء الدف عند رأسه - صلى الله عليه وسلم -، وقيامها بذلك بنذر نذرته إن عاد النبي - صلى الله عليه وسلم - سالماً، فقال لها: «إن كنت نذرت فاضربي وإلا فلا» (¬2) رواه أحمد وغيره من طريق حسين بن واقد عن عبدالله بن بريدة عن أبيه وهذا سند لا بأس به. ومنهم من خصها للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الفرح به ليس كغيره، وقال بعضهم: للسلاطين، والصحيح العموم لكل غائب بقدر الحاجة. ¬

(¬1) العلل ومعرفة الرجال للإمام أحمد (رقم: 1581) (طبعة: المكتب الإسلامي, دار الخاني - بيروت, الرياض ط1) قال عبد الله بن أحمد: حدثني أبي، قال: حدثنا إسحاق الطباع، قال: سألت مالك بن أنس عما يترخص فيه بعض أهل المدينة من الغناء، فقال: إنما يفعله عندنا الفساق. (¬2) أخرجه أحمد (رقم: 23377) والترمذي (رقم: 3690) قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث بريدة.

وأما مدة ضرب الدف في النكاح فإن كان اليوم التالي وما بعده من مكملات اليوم الأول وتمام الإعلان فلا بأس، وأما الضرب في العيد فيفوت بفوات أيامه. وأما ما يكون عند الرجال من العرضة للرجال، فكان الشيخ ابن باز في فتاويه القديمة يُسهل في ذلك وأنها لا بأس بها إذا لم يكن فيها دف. وقد يكون في بعض ذلك تصفيق، والتصفيق فيه الخلاف عند مشايخنا، والصحيح أنه إذا كان عند الحاجة ويسيراً فلا بأس به، ودليله الحديث الذي أخرجه مسلم حينما قال - صلى الله عليه وسلم -: «الشهر هكذا ومد عشرة أصابع ثم صفق ..» (¬1) الحديث. وأما ما يحصل به الاتفاق فالأولى تركه ويرى شيخنا ابن باز: أن أقل أحواله الكراهة. وابن عثيمين يرى إباحته وجوابه عن آية الأنفال في قوله تعالى {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} الأنفال: 35 أنها سيقت في صلب العبادة، وأما التصفيق للنساء فهو للتنبيه للإمام في الصلاة. ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 5017) والبخاري (رقم: 1814) ومسلم (رقم: 1080) وأبو داود (رقم: 2319) والنسائي (رقم: 2140).

ومما يصلح دليلاً للكراهية على أقل تقدير ما أخرجه أحمد من حديث ابن عباس لما أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - المشركين بعد رجوعه من بيت المقدس ليلة الاسراء وفيه «.... فاستغربوا ذلك فمنهم الواضع يده على رأسه ومنهم المصفق ....» فهذا يدل على أن من صفات المشركين التصفيق في غير العبادة، وإسناده لا بأس به. فائدة: الفرق بين الطبل والدف: أن الأول مغلق من جهتين ولهذا يكون الإزعاج شديداً بخلاف الدف فيكون من جهة واحدة وهو أقل صوتاً ويحصل به الإسماع. قوله: (إذا لم يكن فيها لعب ..... الإجابة) هذا عام فالمنكر بكل صوره حرام، وأما اللهو: فقد يكون منه ما هو مباح، فينبغي مراعاة المصلحة، وأما الولائم غير الشرعية فتحرم، ومن القدوة أشد؛ لأنه قد يكون فيها شيء من التغرير. ومن هنا كره بعض أهل العلم, الإتيان إلى الوليمة من غير دعوة؛ لأنه أكل طعاماً وحصل منه إتلافه من غير دعوة فهذا نوع من الغصب, وقد

ذكر أهل العلم - رحمهم الله تعالى - أن الطفيلي في حكم السارق, وجاء فيه أخبار منها: «من جاء من غير دعوة دخل سارقاً وخرج مغيراً» (¬1) والحضور من غير دعوة قد ينبئ عن دناءة النفس وصغرها. قوله: (وَيُكْرَهُ لِأَهْلِ المُرُوْءَاتِ ...... الناس) نعم هو كذلك، وليس هذا تكبراً وجفاءً، بل هو لحفظ المروءة وترك ما يسقطها، وأهل المروءات والفضائل إنما يسارعون إلى الفضائل من السخاء والجود وبذل العلم والإعانة في النوائب وهم لهم شأن ومن سواهم له شأن فأفهم. قوله: (ويستحب للمسلم عيادة ....... يا يهودي) لاشك في استحباب هذه الأمور, واختلف أهل العلم في عيادة المسلم, ولعل خلافهم في المسلم المعين, واحتج من قال بوجوب عيادة المسلم بأدلة منها ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «حق المسلم ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (رقم: 3741) والبيهقي (رقم: 13190).

على المسلم ست ..... ومنها: إذا مرض فعده» (¬1) وفي لفظ: «خمس تجب للمسلم على أخيه ....» (¬2) الحديث. ويرى البخاري - رحمه الله تعالى - وجوب عيادة المريض, وقد قال في صحيحه: "باب وجوب عيادة المريض", (¬3) وذكر حديث أبي موسى: «أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني» (¬4) والأشبه أنها واجبة ولكن بشروط, أولها ألا يكون هناك مشقة, وأن يكون هذا المسلم معيّناً؛ لأن مرضى المسلمين لا حصر لهم، والمشقة تجلب التيسير، وواجبات الشريعة تسقط بالعجز، فقد تكون من الواجبات الكفائية، وعلى ذلك يبدأ بالأقرب فالأقرب. وهذا الأرجح لما فيها من الخبر العائد على المريض من حسن الظن بالله والتنفيس له بالأجل. وقول المؤلف: (وتعزية أهله ....) ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 8832) ومسلم (رقم: 2162) والبخاري في الأدب المفرد (رقم: 925) وأبو يعلى (رقم: 6504) وابن حبان (رقم: 242). (¬2) أخرجه أحمد (رقم: 10979) والبخاري (رقم: 1183) ومسلم (رقم: 2162) وأبو داود (رقم: 5030) والنسائي (رقم: 10049) وابن حبان (رقم: 241). (¬3) صحيح البخاري - (5/ 2139). (¬4) أخرجه البخاري (رقم: 5325).

والتعزية هي التصبير, فتقول: عزّى فلان فلاناً, أي صبره, وعلى هذا المعنى تكون التعزية للمسلم والكافر, وهي مستحبة على الأرجح. قوله: (ولا بأس بعيادة الذمي؛ فقد عاد النبي - صلى الله عليه وسلم - ذمّياً، وقال: «كيف تجدك يا يهودي» (¬1)؟ واحتج أهل العلم بهذا وغيره على جواز عيادة المشرك, سواءً كان ذمّياً أو غيره, وقد عاد - صلى الله عليه وسلم - عمّه أبا طالب, وهو في السياق - يعني سياق الموت فقال له: «يا عمّاه, قل لا إله إلا الله, كلمة أحاج لك بها عند الله» فأبى، وقال له صناديد الكفر: أترغب عن ملّة عبد المطلب؟ فذهبت روحه وهو يقول: على ملّة عبد المطلب. (¬2) والعياذ بالله ـ ويشترط في عيادة الكافر ألا يكون هذا الكافر المريض حربياً. والسنة في عيادة المسلم أن يقال له: لا بأس, طهور إن شاء الله. وقد أخرج البخاري في صحيحه في كتاب الطب: " باب عيادة الأعراب"، (¬3) ثم ساق حديث ابن عباس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عاد أعرابياً، ¬

(¬1) ليس موجودا بهذا اللفظ ولكن معناه ثابت من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وقوله. (¬2) أخرجه البخاري (رقم: 3671) ومسلم (رقم: 24). (¬3) صحيح البخاري - (5/ 2141).

فقال: «لا بأس, طهور إن شاء الله» فقال هذا الأعرابي: بل حمّى تفور, على شيخ كبير, تزيره القبور. (¬1) وفي رواية أخرى عند الطبراني: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فنعم إذن» فمات. (¬2) والبلاء موكل بالمنطق فعلى الإنسان إذا زار مريضاً أن يقول له كلاماً طيباً, وقد جاء في حديث أبي سعيد، وإن كان إسناده واهياً: «إذا دخلتم على المريضِ فَنَفِّسُوا له في الأجلِ، فإن ذلك لاَ يَرُدُّ شيئًا وهو يُطَيِّبُ نفْسَ المريضِ» (¬3)، فهذا كلام حسن ولو لم يصح حديثاً. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (رقم: 5332) وتمامه: عن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على أعرابي يعوده، قال: وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل على مريض يعوده، قال له: «لا بأس طهور إن شاء الله» قال: قلت طهور؟ كلا بل هي حمى تفور أو تثور على شيخ كبير تزيره القبور. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فنعم إذا». (¬2) أخرجه الطبراني (رقم: 7213) قال الهيثمي (3/ 39): رواه الطبراني في الكبير وفيه من لم أعرفه. والحديث ضعيف لجهالة مَخْلَدِ بن عُقْبَةَ بن شُرَحْبِيلَ هو وأبوه عقبة قال العلائي في الوشي: لا أعرف حال عقبة ولا مخلد. (ذكره الحافظ في اللسان 6/ 9) وذكره ابن أبي حاتم (8/ 348) ولم يذكر فيه جرحاً أو تعديلاً. (¬3) أخرجه ابن أبى شيبة (رقم: 109561) والترمذي (رقم: 2087) وقال: غريب. وقال في العلل (1/ 318): سألت محمدًا - يقصد البخاري - عن هذا الحديث، فقال: موسى بن محمد ابن إبراهيم التيمي منكر الحديث وأبوه صحيح الحديث. وأخرجه ابن ماجه (رقم: 1438) والبيهقي في شعب الإيمان (رقم: 9213) وقال: موسى بن محمد بن إبراهيم يأتي من المنكرات بما لا يتابع عليه، والله أعلم، وروي من وجه آخر أضعف. وقال ابن أبي حاتم - بعدما أورد أحاديث موسى بن محمد بن إبراهيم -: قال أبي هذه أحاديث منكرة كأنها موضوعة، وموسى ضعيف الحديث جدا وأبوه محمد بن إبراهيم التيمي لم يسمع من جابر ولا من أبي سعيد، وروى عن أنس حديثا واحدا. علل الحديث لابن أبي حاتم - ... (1/ 2267).

فصل: والغيبة حرام في حق من لم ينكشف

فَصْلٌ وَالغِيْبَةُ حَرَامٌ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَنْكَشِفْ بِالمَعَاصِي وَالقَبَائِحِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} (¬1) وَمَنْ ذَكَرَ فِيْ فَاسِقٍ مَا فِيْهِ لِيُحْذَرَ مِنْهُ، أَوْ سَأَلَ عَنْهُ مَنْ يُرِيْدُ تَزْوِيْجَهُ أَوْ شَرِكَتُهُ أَوْ مُعَامِلَتُهُ، لَمْ يَكُنْ مُغْتَابًا لَهُ، وَلَا عَلَيْهِ إِثْمُ الغِيْبَةِ، وَلَهُ ثَوَابُ النَّصِيْحَةِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((قُوْلُوْا فِيْ الفَاسِقِ مَا فِيْهِ يَحْذَرْهُ النَّاسُ)). وَلَا يُظَنُّ بِعُمَرَ - رضي الله عنه - أَنَّهُ أَقْدَمَ عَلَى مَا هُوَ غِيْبَةٌ؛ عِنْدَ نَصِّهِ عَلَى السِّتَّةِ، وَجَعْلِ الشُّوْرَى فِيْهِم، وَذِكْرِ عَيْبِ كُلِّ وَاحِدٍ، بَلْ قَصَدَ بِذَلَكَ النُّصْحَ للهِ وَلِرَسُوْلِهِ وَلِأَهْلِ الإِسْلِامِ. ¬

(¬1) الحجرات: 12.

قوله: (والغيبة حرام): أجمع العلماء على تحريم الغيبة، ودل على تحريمها النص والإجماع، فأما النص فما نقل المؤلف من آية الحجرات صدر الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)} ونقل بعض العلماء الإجماع على تحريمها، فقال بعضهم: إنها من الصغائر، ونقل القرطبي وغيره: أنها من الكبائر، والصحيح أنها من الكبائر. (¬1) وأما حد الغيبة فأحسن من حدَّها هو النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه، وهو من مفاريده من طريق العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي، عن أبيه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أتدرون ما الغيبة»؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «ذكرك أخاك بما يكره» قيل: ¬

(¬1) انظر: الجامع لأحكام القرآن (5/ 6157). والإحياء (4/ 42) والنووي في روضة الطالبين (11/ 224) وفتح الباري (10/ 470).

أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته» (¬1) فقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ذكرك» يشمل الذكر القولي، والذكر الفعلي، ويشمل أقوال الإنسان، فلان كذا وكذا، ويشمل الإشارة أن يشير إشارة تفهم عنه فلان كذا وكذا؛ إما يعيبه في بدنه، أو فعله أو كلامه .. بإشارة مفهومة. ولا غيبة لمجهول؛ لأن «ذكرك» تفيد التعيين. اختلف أهل العلم في شمول هذا الذكر إذا تكلم الإنسان، أو قذف بغير حضرة أحد؛ كما لو كان وحده، فقال بعضهم: من خلا وحده خالياً، وقال: فلان زانٍ فإنه يكون قاذفاً له، وعليه ما يترتب على القذف، وقال بعضهم: بل ليس هذا من القذف؛ لأنه لم يحصل للمقذوف ما يشينه ويقبحه، فلم يك قذفاً ولا غيبة ولا شيء، وهذا هو الصحيح؛ أنه لا يكون قذفاً كالقذف المعروف الذي يقام على صاحبه الحد، وليس عليه إثم القذف ولا يكون غيبةً وليس عليه إثم الغيبة. ¬

(¬1) أخرجه مسلم (رقم: 2589) وأخرجه أحمد (رقم: 8973) وأبو داود (رقم: 4874) والترمذي (رقم: 1934) والنسائي (رقم: 11518) وابن حبان (رقم: 5759) وأبو يعلى (رقم: 6493).

وهل يكون وجوده كعدمه سواء، فالجواب: لا يصل إلى درجة القذف أو الغيبة المحرمة؛ لأنه لم يحصل، وفي نفس الوقت لا يكون كمن لم يقل شيئا بل يكون بينهما. فمن قذف شخصاً خالياً لا يكون قاذفاً، ولا يكون عادماً، ولا مرتكباً لشيء يسير، بل يكون بينهما فهو إثم بين إثمين، وقد قرر هذا العز بن عبد السلام في كتابه قواعد الأحكام. قوله: «ذكرك»: يشمل القول والفعل وهذا الذكر يشمل إذا كان هذا في نفس المغتاب. وهل المغتاب يطلق على الفاعل أو على المفعول؟ الجواب: يطلق على الاثنين والسياق هو الذي يحدد، فتقول فلان مغتاب للناس، كثير الشر، فهذا يراد به الفاعل، وفلان مغتاب عند الناس مسكين، يراد به المفعول، والسياق يحدد مثل مختار، ومن اغتاب أحداً؛ فإنه يشمل نفسه وأهله وولده وعلمه وماله ومشيته وأكلته، وكل شيء يشنؤه الجرح فيه، وهو عرضه، والعرض هو جانب الإنسان الذي يسعى لصيانته وحفظه. ومن الدلالة على الغيبة القولية: ما أخرجه أبو داود بإسناد قوي عن عائشة قالت: قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - حسبك من صفية كذا وكذا، قال غير

مسدد يعني قصيرة، فقال: «لقد قلتي كلمة لو مزجت بها البحر لمزجته» قالت: وحكيت له إنساناً، فقال: «ما أحب أني حكيت إنساناً، وأن لي كذا وكذا» (¬1) يعني لو كان لهذه الكلمة لون ثم خلطت بالبحر لغيرت لون هذا البحر، مما يدل على عظم هذا الأمر. قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ذكرك» هذا من باب الإضافة إلى المفعول، أي ذكرت أنت المغتاب. وقوله: «أخاك» هذا قيد، والأصل أن الكافر لا غيبة له، بناء على هذا التعريف؛ لأن الكافر ليس أخا للمسلم، لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (¬2) ولقوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (¬3) والكافر ليس أخا للمسلم، غير أنه ليس معنى هذا أن الإنسان يغتاب ويتكلم فيه، فيقيد بالحاجة والمصلحة؛ وإلا هو غير داخل في تعريف الغيبة. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (رقم: 4877) والترمذي (رقم: 2503) قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح. (¬2) الحجرات: 10. (¬3) التوبة: 11.

«أخاك» يشمل الرجل والمرأة، والصغير والكبير، ولو في المهد؛ لأنه أخاً لنا، فمن اغتاب صبياً ولو في مهده، بقوله كثير الصياح مؤذي، وما أشبه ذلك، فالأصل أنه داخل في الغيبة، لكن قد يقال إن قوله - صلى الله عليه وسلم -: «بما يكره» والصغير لا تتأتى منه كراهية، وقد يقال ينزل منزلة العاقل لحرمته. وأيضاً الأصل أن الغيبة تشمل جميع أهل الإسلام صغاراً وكباراً، وتقبح حينما تكون في العلماء والولاة الصالحين. ولا شك أن غيبة العالم الورع ليست مثل غيبة آحاد الناس. وقوله: «بما يكره» ما هنا موصولة، أي: بالذي يكره وحذف المفعول ولم يقل بـ "الذي"، بل كل ما يكره في نفسه، أو في ماله، أو في مشيته، فكل شيء يكرهه الآدمي لا يحل أن يتكلم فيه في حال غيبته. ويظهر في هذا التعريف، أنه يشمل إذا كان يكره تزكيته؛ كما لو عُلم أنه إذا مُدح في وجهه، أو زكي يكره هذا، ويتألم غاية الألم، فهل إذا قيل هذا في غيبته يكون من الغيبة. وعامة كلام العلماء أنه غير داخل في الغيبة، نظراً إلى المعنى المقصود؛ ولأنه قد لا يحتاج إلى إذن هذا الشخص في تزكيته، قد يتعلق هذا بمصلحة أخرى؛ لكن إن خشي عليه العجب، فلا يجوز؛ لأنه قد يبلغه هذا الكلام

فيفتتن، وقد يكون يتحدث عند أناس في مجلس فيسمع أنه مدح في مجلس فيه فلان وفلان، فيقع فيه العجب، فيهلك وقد بوب البخاري: باب في الغيبة (¬1)، وقال بعد باب ذكر الغيبة باب آخر باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - خير دور الأنصار (¬2) دار كذا وكذا وأدخله في الغيبة. قال الحافظ: واستشكل إيراد البخاري لهذا الكتاب، ولعله أراد الرد على من قال: أن ذكر الإنسان بالخير إذا كان يكره غيبة، والصحيح أنه لا يشمل الغيبة؛ لكن ليس معناه أنه يتمادى فيه. (¬3) وكما سبق البيان عنه، بأن الغيبة من الكبائر جاء في الغيبة ما ذكره الحافظ في الفتح، عدة أحاديث من أحسنها ما رواه أبو داود من طريق ابن المصفى، حدثنا بقية، وأبو المغيرة، قالا: حدثنا صفوان، قال: حدثني ¬

(¬1) صحيح البخاري - (5/ 2249). (¬2) صحيح البخاري - (5/ 2249 (. (¬3) ونصه: قال الحافظ: وفي إيراد هذه الترجمة هنا إشكال لأن هذا ليس من الغيبة أصلاً إلا إن أخذ من أن المفضل عليهم يكرهون ذلك، فيستثني ذلك من عموم قوله: «ذكرك أخاك بما يكره» ويكون محل الزجر إذا لم يترتب عليه حكم شرعي، فأما ما يترتب عليه حكم شرعي فلا يدخل في الغيبة، ولو كرهه المحدث عنه، ويدخل في ذلك ما يذكر لقصد النصيحة من بيان غلط من يخشى أن يقلد أو يغتر به في أمر ما، فلا يدخل «ذكره بما يكره» من ذلك في الغيبة المحرمة. فتح الباري - ابن حجر (10/ 471).

راشد بن سعد، وعبد الرحمن بن جبير، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل، قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم» (¬1) وهذا الإسناد لا بأس به وبقية صرح فيه بالتحديث، وأيضاً مقروناً بغيره، وذكر الحافظ (¬2) عدة أحاديث مجموعة، لا تقصر عن درجة الاحتجاج، فلا شك أن الغيبة من كبائر الذنوب. قوله: (ومن ذكر في فاسق ما فيه ليحذر منه أوسأل عنه من يريد تزويجه أو شريكته أو معاملته لم يكن مغتاب له ولا عليه آثم الغيبة، وله ثواب النصيحة، لقوله النبي - صلى الله عليه وسلم -: «قولوا في الفاسق ما فيه يحذره الناس» والغيبة كبيرة، غير أنها قد تباح، ومن أهل العلم من حد هذه الأسباب، ومنهم من وضع قيداً لحِل الغيبة، فمن وضع قيداً لحِل الغيبة، ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (رقم: 4880). (¬2) فتح الباري لابن حجر - دار المعرفة - (10/ 470).

قال: تباح الغيبة لكل غرض صحيح شرعاً حيث يتعين طريقاً للوصول إليه بها. (¬1) وما سيأتي من صور هي من أفراد هذه الإباحة المقيدة بالقيد العام، بل قال بعضهم: إن الغيبة تحِل ولها أربع مائة صورة؛ كما ذكر المناوي نقلاً عن بعضهم في فيض القدير. ذكر المؤلف صوراً مما تحل فيه الغيبة وقد نظمها بعضهم وذكر فيها: الذّمُّ ليس بغيبة في ستة ... متظلم ومعرف ومحذر ولمظهر فسقاً ومستفتٍ ومن ... طلب الإعانة في إزالة منكر وقوله: الذم يعني الغيبة. قول الناظم: ليس بغيبة قد تكون الغيبة أحياناً واجبة، وقد كان شعبة يقول لبعض من عنده: تعالوا بنا نغتاب في الله يعني يتكلمون في الرواة. (¬2) والأصل فيها التحريم؛ لكن قد تباح أحياناً بل قد تجب. ¬

(¬1) فتح الباري لابن حجر (10/ 472). (¬2) الكامل لابن عدي (1/ 69 (والضعفاء الكبير للعقيلي (1/ 11).

ومما تباح فيه الغيبة، عند التظلم: كما قال تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} (¬1) فكون الإنسان يتظلم عند من يرفع مظلمته عند حاكم أو أمير أو من يقدر على إزالة مظلمته فإنه جائز. قوله: ومُعَرِّف كأن يُعرَّف الشخص بصفة فيه، للتعريف لا للعيب به؛ كقولهم، الأعمش، والأخفش، وفلان الأعور، وقد وجد رواة كثيرون لا يكاد يذكر اسمه في الإسناد بل يذكرون بنحو هذه الأوصاف للتعريف. ومُحذِّر: كمن يُحذِّر الناس من مبتدع، ويدخل في ذلك من يجرح الشهود، ومن ذلك جرح رواة الحديث، فإن هذا ضرورة وتجب؛ لأنه صيانة للدين، وصيانة لكلام الله، وكلام الرسول - صلى الله عليه وسلم -. قوله: ولِمُظْهِرٍ فسقاً، أي: المجاهر، وعُلم من هذا أن غير المجاهر لا تحل غيبته فيما لم يجاهر به، أو يكون فاسقاً غير معلن، فهذا لا يجوز بل ينكر عليه، ولكن لا يجوز أن يفشى سره؛ لأن هذا كما أنه يضره، يهون المعصية على الناس، ودليل هذا ما أخرجه صاحبا الصحيح: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استأذن له رجل، فقال: ائذنوا له بئس أخوُ العشيرة» يعني ذماً له لما بلغه عنه - صلى الله عليه وسلم -، قالت: عائشة فلما دخل ألان له القول - وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ¬

(¬1) النساء: 148.

يواجه أحدًا بما يكره - فلما خرج، قالت عائشة: يا رسول الله، قلت ما قلت فلما دخل ألنت له القول، فقال: «إن من شر الناس من تركه الناس اتقاء فحشه» (¬1) وينقل عن الحسن البصري، أنه قال: ليس لفاسق غيبة. (¬2) وهذا لا يصح مرفوعاً، وأيضا في ثبوته عن الحسن مقال، ولو صح لكان محمولاً على المجاهر. فمثلاً قول فلان مغني فهذا ليس من الغيبة، وأما إذا كان يستتر في معصيته كمن يشرب الدخان ولا يظهره عند الملأ، بل يأنف من ذلك ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 24152) والبخاري (رقم: 5685) ومسلم (رقم: 2591) وأبو داود (رقم: 4795) والترمذي (رقم: 1996) وفي لفظ البخاري: عن عائشة: «أنَّ رجلا استأذنَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما رآه، قال: «بئس أخو العشيرة- وبئس ابن العشيرة -» فلما جلس تَطَلَّق النبي - صلى الله عليه وسلم - في وجهه، وانبسط إِليه، فلما انطلق، قلت: يا رسول الله! حين رأيتَ الرجل قلت له كذا وكذا، ثم تطلّقت في وجهه وانبسطتَ إِليه؟ فقال: «يا عائشة، متى عَهِدْتيني فَحَّاشا؟ إِنَّ مِنْ شَرِّ الناس عند الله منزلة يوم القيامة: من تركه الناس اتِّقاء شره» وعند أبي داود: «إِنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاس الذين يُكْرَمُونَ اتقاء ألسنتهم». (¬2) أخرجه الطبراني (رقم: 1011) والبيهقي في الشعب (رقم: 9665) من طريق بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس للفاسق غيبة» قال الهيثمى (1/ 149): فيه العلاء بن بشر، ضعفه الأزدي، وأورده ابن حبان في الثقات (رقم: 14687) وقال: يروى عن ابن عيينة روى عنه جعدية بن يحيى المناكير. وقال الحافظ: والعلاء بن بشر هذا لا يعرف وله تمام خمسة أحاديث لا يتابع عليها. اللسان (رقم:480).

ويظهر كراهته، فلا يجوز لمن رآه وهو يشرب الدخان مختفياً، أن يقول فلان يشرب الدخان وهذا من الغيبة المحرمة، بل عليه النصيحة والستر. قوله: (ومستفتٍ) كذلك كون الإنسان يستفتي عند المفتي، ودليله ما ثبت في الصحيحين في قصة هند امرأة أبي سفيان - رضي الله عنه -: أنها أتت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: إن أبا سفيان رجل مسيك لا يعطيني من ماله، فقال: «خذي ما يكفيك وما يكفي بنيك» (¬1) وأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم ينهرها، فأقرها على قولها أنه مسيك أو بخيل وهذا يجوز عند الاستفتاء، ومثل المستفتي المستشير وسيأتي. قوله: (ومن طلب الإعانة في إزالة منكر) كذا من طلب الإعانة في إزالة منكر فدعا غيره لزوال منكر واستعان بهم ولا يستطيع إزالته بنفسه؛ كأن يكون الواقعون على المنكر جماعة فحينئذ لا بأس بذكر المنكر ومن يقوم به ولا غيبة لهم. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (رقم: 2328 و 3613) ومسلم (رقم: 1714).

ومن الصور التي لم يذكرها الناظم وقد تكون ضمن ما ذكر (المستشار)، كما جاء في سنن الترمذي: عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «المستشار مؤتمن» (¬1) بإسناد لا بأس به. وثبت في الصحيح: أن فاطمة بنت قيس القرشية أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن معاوية وأبا جهل خطباني فكيف تقول، فقال: «أما معاوية فصعلوك - أي فقير معدم - وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه» (¬2) وجاءت في رواية أخرى عند مسلم أن أبا جهم ضَرَّاب للنساء «ولكن انكحي أسامة بن زيد» (¬3) وفي رواية عند مسلم، قالت: فنكحته فجعل الله فيه خيرا واغتبطت. (¬4) فالشاهد جواز ذلك في الاستشارة. وكذلك في الولاية لتولية أحد ولا يدرى هل يصلح لها أم لا، فيؤتى بشخص يعرف أحواله، وباطن أمره، حتى لا يولى على المسلمين من ليس ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (رقم: 2822 و 2823) وأخرجه البخاري في الأدب المفرد (رقم: 256) والحاكم (رقم: 7178) وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. والبيهقي (رقم: 20819) والحديث روي عن أبي هريرة وابن عباس وجابر بن سمرة وعمر وأم سلمة وسفينة مولى النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) أخرجه مالك (رقم: 1210) وأحمد (رقم: رقم 27368)) ومسلم (رقم: 1480) وأبو داود (رقم: 2284) والنسائي (رقم: 3245). (¬3) أخرجه مسلم (رقم: 1480). (¬4) من روايات الحديث السابق.

بكفء سواء كانت الولاية ولاية عامة، أو خاصة فيجب على من كان على علم بحاله أن يخبر به، حتى تتم النصيحة لأهل الإسلام في ذلك. وفيما تقدم من صورة الاستشارة يجب عليه أن يخبر ويكون مأجوراً، وله ثواب النصيحة، فإن أراد التشفي فإنه يأثم من هذه الجهة، وأما من حيث الإشارة فهو مثاب. قول المؤلف قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «قولوا في الفاسق ما فيه ليحذره الناس» (¬1) لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بل هو خبر باطل. ولكن دلت الأحاديث على مقتضاه كما في صحيح مسلم (¬2) وذكره البخاري في ترجمة باب (¬3) حديث أبي رقية ولمسلم من حديث أبي رقية تميم ¬

(¬1) ليس موجودا بهذا اللفظ، وجاء بلفظ مقارب له عند الطبراني (رقم: 1010) والبيهقي في السنن (رقم: 21442) وفي الشعب الإيمان (رقم: 9667) وغيرهم: عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أترعون عن ذكر الفاجر اذكروه بما فيه يعرفه الناس» قال البيهقي: فهذا حديث يعرف بالجارود بن يزيد النيسابوري وأنكره عليه أهل العلم بالحديث سمعت أبا عبد الله الحافظ يقول سمعت أبا عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ غير مرة يقول كان أبو بكر الجارودي إذا مر بقبر جده فى مقبرة الحسين بن معاذ يقول يا أبة لو لم تحدث بحديث بهز بن حكيم لزرتك. قال الشيخ وقد سرقه عنه جماعة من الضعفاء فرووه عن بهز بن حكيم ولم يصح فيه شيء. (¬2) وهو: باب بيان أن الدين النصيحة. صحيح مسلم (1/ 74). (¬3) وهو: باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) صحيح البخاري (1/ 30).

بن أوس الداري عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الدين النصيحة، قلن لمن يارسول الله .. قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» (¬1) قوله: (ولا يظن بعمر - رضي الله عنه - أنه أقدم على ما هو غيبة عند نصه على الستة الشورى فيهم، من ذكر عيب كل واحد، بل قصد بذلك النصح لله ولرسوله ولأهل الإسلام) لا أدري ما هو مراد المؤلف هل ذكر عمر كل واحد فيهم ولا اعلم أن عمر - رضي الله عنه -، نص على هؤلاء الستة وذكر عيب كل واحد منهم، وفي خبر الصحيح بل هو خير لهم، وتزكية لهم، حينما نص عليهم ولعله أراد هذا الخبر: أن ابن عباس قال: خدمت عمر خدمة لم يخدمها أحد من أهل بيته، ولطفت به لطفا لم يلطفه أحد من أهله، فخلوت به ذات يوم في بيته وكان يجلسني ويكرمني، فشهق شهقة ظننت أن نفسه سوف تخرج منها، فقلت: أمن جزع يا أمير المؤمنين، فقال: من جزع، قلت: وماذا، ¬

(¬1) أخرجه مسلم (رقم: 55).

فقال: اقترب فاقتربت، فقال: لا أجد لهذا الأمر أحدا، فقلت: وأين أنت عن فلان وفلان وفلان وفلان وفلان وفلان، فسمى - ابن عباس - له الستة أهل الشورى، فأجابه في كل واحد منهم يقول، ثم قال: إنه لا يصلح لهذا الأمر إلا قوي في غير عنف، لين في غير ضعف، جواد من غير سرف، ممسك في غير بخل. عزاه صاحب الكنز (رقم: 14255) إلى ابن سعد , وفيه نظر من حيث الصحة أما من حيث المعنى فتقدم ما يدل على جواز مثل هذا، بل في هذا الحالة يجب نصحاً للمسلمين والله المستعان.

فصل: فصارت الغيبة

فَصْلٌ فَصَارَتِ الغِيْبَةُ: مَا يُذْكَرُ مِنَ النَّقْصِ وَالعَيْبِ؛ لَا يُقْصَدُ بِهِ إِلَّا الإِزْرَاءَ عَلَى المَذْكُوْرِ، وَالطَّعْنَ فِيْهِ. وَيُسْتَحَبُّ ضَبْطُ الأَلْسِنَةِ وَحِفْظُهَا، وَالإِقْلَالُ مِنَ الكَلَامِ إِلَّا فِيْمَا يَعْنِي، وَلَا بُدَّ مِنْهُ. وَأَفْضَلُ مِنَ الصَّمْتِ إِجْرَاءُ الأَلْسِنَةِ بِمَا فِيْهِ النَّفْعُ لِغَيْرِهِ، وَالانْتَفَاعُ لِنَفْسِهِ مِثْلُ قِرَاءَةِ القُرْآنَ، وَتَدْرِيْسِ العِلْمِ، وَذِكْرِ اللهِ تَعَالَى، وَالأَمْرِ بِالمَعْرُوْفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ، وَالإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ. قوله (فصل: فصارت الغيبة ....... والطعن فيه). فإذا قصد الإزراء والطعن لا شك أنه آثم، وإذا لم يقصد الإزراء ولا الطعن وإنما ذكر مطلق القول فإنه آثم إذا لم تكن من الصور التي مرت معنا، ولهذا التعريف الذي سبق بيانه في ضابط إباحة الغيبة جامع مانع، وهو: إباحته في كل غرض صحيح شرعاً لا يمكن الوصول إليه إلا بها.

فلو جلس مجموعة من طلاب العلم وأخذوا يتندرون ببعض الرواة الضعفاء دون الحاجة إلى جرحهم في دراسة إسناد أو غيره .. فلان كذا .. وأنت مثل فلان فهذا لا يحل ... فتباح الغيبة بقدر الحاجة؛ لأن أعراض المسلمين حرام، ولهذا يقول ابن دقيق العيد في الاقتراح: أعراض المسلمين حفرة من حفر النار، وقف على شفيرها المحدثون والحكام. (¬1) فليس معناه أن أعراضهم مباحة مطلقاً، فتجد بعضهم يتندر براوٍ كابن لهيعة فتجده يتندر بهذا الرجل الصالح، الذي هو من أولياء الله من أجل ضعفه، وما وُصم به من سوء الحفظ والاختلاط - وهو سيء الحفظ مطلقاً - فإذا لم يكن يتضمن مصلحة لدرس أو نحوه, كان من الغيبة الحرام، ويكون يوم القيامة يقف لك عبد الله بن لهيعة في العرصات وأنت لم تره ولم يسمع بك. فليحذر طالب العلم من هذه الزلات؛ إلا إذا تضمن مصلحة؛ كأن يختبر طلاب العلم بالسؤال عن عشرة ضعفاء؟ ويعرف منهم الطلب والاستفادة أو ائتوني بعشرين ضعيفاً في كتاب التهذيب، حتى يصقل ¬

(¬1) الاقتراح 344.

مواهبهم ويعلمهم؛ لأن هؤلاء طلبة للحديث وطلبة علم، فهذا لا بأس به، وأما التندر بأعراض المسلمين فلا يحل فافهم أيها اللبيب. قوله (ويستحب ضبط الألسنة ........ والإصلاح بين الناس) يجمع هذا الذي ذكره المؤلف قوله تعالى في سورة النساء: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)} (¬1) في هذه الآية من الفوائد: أن الأعمال المتعدية بمجرد فعلها يؤجر عليها الإنسان، حتى لو لم ينو، لقوله تعالى {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ (114)} أي أن هذه الخصال فيها خير ثم قال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)} فالأجر حاصل والخيرية حاصلة بمطلق القول، حتى لو ضعفت النية فإذا تضمن ابتغاء وجه الله كان الأجر أعظم، وهذه قاعدة في كل عمل متعد فافهم هذا فإنه عزيز. ¬

(¬1) النساء: 114.

كما في حديث عبد الله بن يزيد الأنصاري عن أبي مسعود الأنصاري البدري في الصحيحين: «إذا أنفق المسلم نفقة على أهله وهو يحتسبها كانت له صدقة» (¬1) مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال كما في حديث سعد بن أبي وقاص في الصحيح: «وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله؛ إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في في امرأتك» (¬2) ومعلوم أن للشهوة مدخلاً ظاهراً في كون الإنسان يضع اللقمة في فم زوجته، ومع ذلك ثبت له الأجر. وحديث جابر - رضي الله عنه - عند مسلم: «ما من مسلم يغرس غرساً، إلا كان ما أكل منه له صدقة، وما سرق منه له صدقة، وما أكل السبع منه فهو ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 17123) والبخاري (رقم: 5036) ومسلم (رقم: 1002) والنسائي (رقم: 2325). (¬2) أخرجه مالك (رقم: 2824) وأحمد (رقم: 1524) والبخاري (رقم: 56 و 1233) ومسلم (رقم: 1628) وأبو داود (رقم: 2866) والترمذي (رقم: 2116) والنسائي (رقم: 1480 و 9186) وابن ماجه (رقم: 2708).

له صدقة، وما أكلت الطير فهو له صدقة، ولا يرزؤه أحد؛ إلا كان له صدقة» (¬1) ومعلوم أنه لا يريد من اللص أن يأخذ منه شيئاً ولا العصافير أن تنقب هذا التمر. فالكلام على مراتب ثلاث: المرتبة الأولى: كلام في واجب أو مستحب. المرتبة الثانية: الصمت. المرتبة الثالثة: كلام في محرم أو مكروه. وأفضلها الكلام في واجب ومستحب من تعليم العلم وقراءة القران والإقراء والتدريس والإفتاء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما أشبه ¬

(¬1) أخرجه مسلم (رقم: 1552) وأخرجه: الطيالسي (رقم: 1775) ومسلم (رقم: 1552) وابن حبان (رقم: 3369) الحميدي (رقم: 1274) حديث أنس: أخرجه الطيالسي (رقم: 1998) وأحمد (رقم: 12517) والبخاري (رقم: 2195) ومسلم (رقم: 1553) والترمذي (رقم: 1382) حديث أم مبشر: أخرجه أحمد (رقم: 27401) ومسلم (رقم: 1552) والدارمي (رقم: 2610) والطبراني (رقم: 261).

ذلك، وهذا هو صنيع الموفقين من عباد الله من العلماء والأخيار ممن أراد الله رحمتهم. القسم الثاني: هو الصامت الذي يمسك عن الكلام، فهذا الصمت في حقه خير من الكلام في محرم، ولا شك أن الصمت خير من قول السوء, وأما صمته عن قول الحق إذا تعين عليه فمحرم. القسم الثالث: الكلام في محرم أو مكروه. فالكلام قد يكون واجباً أو مستحباً أو مباحاً أو مكروهاً أو محرماً. وفي حالة كون الكلام مكروهاً أو محرماً حينئذ يكون الصمت مستحباً أو واجباً، فإذا كان مكروهاً فالصمت مستحب، وإذا كان الكلام محرماً فالصمت واجب. وكان بعض السلف يلزم الصمت خوفاً من الوقوع في الزلل، وقد قيل إن شريحاً إذا أحرم في الحج كأنه حية صماء حتى يحل من إحرامه. وبعض الناس يتحفظ في كلامه إذا دخل مكة، وإذا دخل في إحرام تحفظ، وإذا جاء رمضان مثلاً، أو العشر الأواخر تحفظ، أو في الأشهر

الحرم , وكذا إذا جاء في بقعة فاضلة؛ لأنه يخشى أن يؤخذ بفلتات لسانه، وكم من أسير ومحبوس في النار بسبب هذا فرحماك ربي رحماك. وقد قيل (إن الساكت عن الحق شيطان أخرس) وهذا ليس بحديث، وإنما هو من كلام أبي علي الدقاق. وتقسيم الكلام إلى واجب ومستحب أو مكروه أو محرم، من علم الخواص، فبعض العوام مثلاً يدعى إلى شهادة فيقول، أنا لا أريد، ويتورع من ذلك؛ وتورعه ليس في محله؛ لأنه قد يكون الكلام واجباً. وقد قال عزوجل {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} (¬1) وقال عن الشهادة {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} (¬2) فبعض الناس لا يضبط هذا الشيء، فطالب العلم ينبغي أن يعرف متى يتكلم وجوباً أو استحبابا أو كراهية أو تحريماً. ¬

(¬1) البقرة: 282. (¬2) البقرة: 283.

فائدة: من كلام شيخ الإسلام عن الغيبة

تتمة: جاء في ترجمة عبد الله بن وهب القرشي: أنه قال: عالجت نفسي في الغيبة فكنت كلما اغتبت أحد صليت ركعتين فكثرت صلاتي، فقلت لنفسي إن اغتبتي أحداً لأصومن يوماً فكثر صيامي فقلت لنفسي إن اغتبتي أحداً لأتصدقن بدرهم فأمسكت عن الغيبة (¬1). فائدة: وقفت على كلام لشيخ الإسلام - رحمه الله - ونصه: " فمن الناس من يغتاب موافقة لجلسائه وأصحابه وعشائره مع علمه أن المغتاب بريء مما يقولون أو فيه بعض ما يقولون لكن يرى أنه لو أنكر عليهم قطع المجلس واستثقله أهل المجلس ونفروا عنه فيرى موافقتهم من حسن المعاشرة وطيب المصاحبة وقد يغضبون فيغضب لغضبهم فيخوض معهم ومنهم من يخرج الغيبة في قوالب شتى تارة في قالب ديانة وصلاح فيقول ليس لي عادة أن أذكر أحدا إلا بخير ولا أحب الغيبة ولا الكذب وإنما أخبركم بأحواله ويقول والله إنه مسكين أو رجل جيد ولكن فيه كيت وكيت وربما يقول دعونا منه الله يغفر لنا وله وإنما قصده استنقاصه وهضما لجنابه ¬

(¬1) (9/ 227) سير أعلام النبلاء، وعلق الذهبي: هكذا والله كان العلماء وهذا هو ثمرة العلم النافع.

ويخرجون الغيبة في قوالب صلاح وديانة يخادعون الله بذلك كما يخادعون مخلوقا وقد رأينا منهم ألوانا كثيرة من هذا وأشباهه ومنهم من يرفع غيره رياء فيرفع نفسه فيقول لو دعوت البارحة في صلاتي لفلان لما بلغني عنه كيت وكيت ليرفع نفسه ويضعه عند من يعتقده أو يقول فلان بليد الذهن قليل الفهم وقصده مدح نفسه وإثبات معرفته وأنه أفضل منه ومنهم من يحمله الحسد على الغيبة فيجمع بين أمرين قبيحين الغيبة والحسد وإذا أثنى على شخص أزال ذلك عنه بما استطاع من تنقصه في قالب دين وصلاح أو في قالب حسد وفجور وقدح ليسقط ذلك عنه ومنهم من يخرج الغيبة في قالب تمسخر ولعب ليضحك غيره باستهزائه ومحاكاته واستصغار المستهزأ به ومنهم من يخرج الغيبة في قالب التعجب فيقول تعجبت من فلان كيف لا يفعل كيت وكيت ومن فلان كيف وقع منه كيت وكيت وكيف فعل كيت وكيت فيخرج اسمه في معرض تعجبه ومنهم من يخرج الاغتمام فيقول مسكين فلان غمني ما جرى له وما تم له فيظن من يسمعه أنه يغتم له ويتأسف وقلبه منطو على التشفي به ولو

قدر لزاد على ما به وربما يذكره عند أعدائه ليشتفوا به وهذا وغيره من أعظم أمراض القلوب والمخادعات لله ولخلقه ومنهم من يظهر الغيبة في قالب غضب وإنكار منكر فيظهر في هذا الباب أشياء من زخارف القول وقصده غير ما أظهر والله المستعان ". (¬1) وننبه إلى حديث أخرجه الضياء المقدسي في المختارة (رقم:1697) من طريق حبان بن هلال نا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك قال: كانت العرب تخدم بعضها بعضا في الأسفار وكان مع أبي بكر وعمر رجل يخدمهما فناما فاستيقظا ولم يهيء لهما طعاما فقال أحدهما لصاحبه إن هذا ليوائم نوم نبيكم صلى الله عليه وسلم فأيقظاه فقالا إئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل له إن أبا بكر وعمر يقرئانك السلام وهما يستأدمانك فقال أقرأهما للسلام وأخبرهما أنهما قد إئتدما ففزعا فجاءا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالا يا رسول الله بعثنا إليك نستأدمك فقلت قد آئتدما فبأي شيء ائتدمنا قال بلحم أخيكما والذي نفسي بيده إني لأرى لحمه بين أنيابكما قالا فاستغفر لنا قال هو فليستغفر لكما لفظ ابن صاعد وفي رواية السامري (يخدم بعضهم بعضا) وعنده ... (يخدمهما فنام) وعنده (فقالا إن هذا ليوائم نوم بيتكم) وعنده بعد ¬

(¬1) فتاوى ابن تيمية - (28/ 238).

يستأدمانك (فأتاه فقال - صلى الله عليه وسلم - أخبرهما) وعنده (قال بأكل لحم أخيكما إني لأرى لحمه بين ثناياكما) وقد رواه عفان بن مسلم عن حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن العرب كانت تخدم بعضهم بعضا في الأسفار فذكره قيل الموائمة الموافقة ومعناه إن هذا النوم يشبه نوم البيت لا نوم السفر عابوه بكثرة النوم ا. هـ. قلت: ورواية عفان أصح فإن عفان من أثبت أصحاب حماد وهو أثبت من حبان فالصحيح أن الحديث من مراسيل عبد الرحمن بن أبي ليلى لا يصح رفعه، وقد أخرجه الخرائطي أيضاً في مساويء الأخلاق، وقد اغتر بعض المتأخرين فصححه ووهم في ذلك.

فصل: ولبس الحرير محرم على الرجال

فَصْلٌ وَلُبْسُ الحَرِيْرِ مُحَرَّمٌ عَلَى الرِّجَالِ، مُبَاحٌ لِلنِّسَاءِ، وَكَذَلِكَ التَحَلِّيْ بِالذَّهَبِ حَتَى الخَاتَمِ، وَلَو بِقَدْرِ عَيْنِ الجَرَادَةِ. وَلَا يُكْرَهُ لُبْسُ الخَزِّ الَّذِي يَشُوْبُهُ الوَبَرُ؛ وَكَذَلِكَ القَبَاطِيُّ الَّذِيْ يَكُوْنُ القُطْنُ فِيْهِ أَكْثَرَ مِنَ القَزِّ. وَلَا يَجُوْزُ جَعْلُ الصُّوَرِ فِي الثِيَابِ، وَلَا المَفَارِشِ وَالسُّتُوْرِ، وَهُوَ مَا كَانَ عَلَى صُوْرَةِ حَيَوَانٍ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ((لَا تَدْخُلُ المَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيْهِ صُوْرَة)). وَالاخْتِيَارُ: التَخَتُّمُ فِي اليَسَارِ، وَإِنْ تَخَتَّمَ فِي اليَمِيْنِ فَلَا بَأْس. وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَجُرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءً وَبَطَرًا. وَدُخُوْلُ الحَمَّامِ جَائِزٌ لِلرِّجَالِ بِالمَيَازِرِ السَّاتِرَةِ، وَيُكْرَهُ لِلنِّسَاءِ؛ إِلَّا مِنْ عِلَّةٍ وَحَاجَةٍ. وَلَا بَأْسَ بِالخِضَابِ بِالحِنَّاءِ، وَهُوَ يُسْتَحَبُّ، وَكَذَلِكَ الكَتَمُ، وَيُكْرَهُ بِالسَّوَادِ. وَلَا يَجُوْزُ أَنْ يَخْلُوَ الرَّجُلُ بِامْرَأَةٍ لَيْسَتْ لَهُ بِمَحْرَمٍ.

وَلَا يَجْتَمِعُ رَجُلَانِ وَلَا امْرَأَتَانِ عَرْيَانَيْنِ، فِي فِرَاشٍ وَاحِدٍ، وَلَا إِزَارٍ وَاحِدٍ. وَلَا يَجُوْزُ تَعَمُّدُ حُضُوْرِ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ، وَلَا شَيءٌ مِنَ المَلَاهِي المُطْرِبَةِ، كَالطَّبْلِ وَالزَّمْرِ، وَخُصَّ مِنْ ذَلِكَ الدُّفُ لِلنِّكَاحِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((أَعْلِنُوا النِّكَاحَ، وَاضْرِبُوْا عَلَيْهِ بِالدُّفِّ)). وَلَا بَأْسَ بِالرُّقْيَةِ بِأَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ التَعْوِيْذُ بِهِ. قوله: (ولبس الحرير محرم على الرجال مباح للنساء ...) اتفق العلماء - رحمهم الله - على تحريم أن يلبس الرجل الحرير, وأن يجلس عليه, وأن يلتحف به، أو أن يقعد عليه في حال الاختيار والسعة, والأدلة في ذلك كثيرة: منها حديث البراء - رضي الله عنه - المتفق عليه، قال: أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبع، ونهانا عن سبع: ومنها-: خاتم الذهب ولبس الحرير. (¬1) وكذلك ما أخرجه ¬

(¬1) أخرجه البخاري (رقم: 1182 و 4880 و 5326) ومسلم (رقم: 2066).

البخاري عن حذيفة - رضي الله عنه -، قال: نهانا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نشرب في آنية الذهب والفضة وأن نأكل فيها وعن لبس الحرير والديباج وأن نجلس عليه» (¬1) والديباج، هو: ضرب من الثياب الجميلة، ولحمته من الحرير فهو فارسي معرب. وكذلك في حديث عمر المتفق عليه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «لا تلبسوا الحرير فإن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة» (¬2) وكذلك حديث أنس (¬3) المتفق عليه, وكذلك حديث عمر: ¬

(¬1) أخرجه البخاري (رقم: 5110 و 5312 و 5499) وفي لفظ: قال: عبد الرحمن بن أبي ليلى: أنهم كانوا عند حذيفة فاستسقى فسقاه مجوسي، فلما وضع القدح في يده رماه به، وقال: لولا أني نهيته غير مرة ولا مرتين؛ كأنه يقول: لم أفعل هذا ولكني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم -، يقول: «لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة» وفي لفظ: كان حذيفة بالمداين فاستسقى، فأتاه دهقان بقدح فضة فرماه به، فقال: إني لم أرمه؛ إلا أني نهيته فلم ينته، وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهانا عن الحرير والديباج، والشرب في آنية الذهب والفضة، وقال: «هن لهم في الدنيا، وهي لكم في الآخرة». (¬2) أخرجه البخاري (رقم: 5496) ومسلم (رقم: 2069). (¬3) أخرجه البخاري (رقم: 5494) ومسلم (رقم: 2073).

«إنما يلبس هذه في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة» (¬1) والأحاديث في ذلك كثيرة. وأما التحلي بالذهب: ففي الباب حديث علي: أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذهباً بيمينه وحريراً بشماله، فقال: «إن هذين حرام على ذكور أمتي حِل لإناثهم» رواه الأربعة. (¬2) ¬

(¬1) أخرجه البخاري (رقم: 2470 و 2476) ومسلم (رقم: 2068) ولفظه: عن ابن عمر - رضي الله عنه -، قال: رأى عمر عطارداً التميمي يقيم بالسوق حلة سيراء، وكان رجلاً يغشى الملوك ويصيب منهم، فقال عمر: يا رسول الله إني رأيت عطارداً يقيم في السوق حلة سيراء، فلو اشتريتها فلبستها لوفود العرب إذا قدموا عليك، وأظنه، قال: ولبستها يوم الجمعة، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة» فلما كان بعد ذلك أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحلل سيراء، فبعث إلى عمر بحلة، وبعث إلى أسامة بن زيد بحلة، وأعطى علي بن أبي طالب حلة، وقال: «شققها خمرا بين نسائك» قال: فجاء عمر بحلته يحملها، فقال: يا رسول الله بعثت إلي بهذه، وقد قلت بالأمس في حلة عطارد ما قلت، فقال: «إني لم أبعث بها إليك لتلبسها، ولكني بعثت بها إليك لتصيب بها» وأما أسامة فراح في حلته، فنظر إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظراً عرف أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أنكر ما صنع، فقال: يا رسول الله ما تنظر إلي؟ فأنت بعثت إلي بها، فقال: «إني لم أبعث إليك لتلبسها، ولكني بعثت بها إليك لتشققها خمرا بين نسائك». (¬2) أخرجه أحمد (رقم: 750 و 935) وأبو داود (رقم: 4059) والنسائي (رقم: 5144) وابن ماجه (رقم: 3595) وأخرجه أيضًا: ابن أبى شيبة (رقم: 24659) والبزار (رقم: 886) وأبو يعلى (رقم: 272) وابن حبان (رقم: 5434) والبيهقي (رقم: 4019).

وله شاهد من حديث أبي موسى (¬1) , وفي أسانيدها نظر, فحديث أبي موسى فيه اضطراب, والأشبه أن فيه انقطاعاً. والعلماء متفقون على تحريم الحرير على الرجال, وأن هذه الحرمة لبساً وافتراشاً وتلحفاً في حال السعة والاختيار. أما في حال الحرج؛ كأن لا يجد ما يستر عورته إلا ثوب حرير فيجب أن يستر عورته به, وكذلك إذا كان به حكة ومشقة في لبس غيره, فلا بأس، وقد رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - للزبير وعبد الرحمن بن عوف في لبس الحرير، لحكة كانت بهما. وأما لباس الذهب؛ كخاتم الذهب على الرجال, ففيه خلاف قديم، وجمهور أهل العلم على تحريم لبس الخاتم من الذهب على الرجال, وقد ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 24645) وأحمد (رقم: 19533) والنسائي (رقم: 5148) وابن حبان (رقم: 5434) وقال: قال أبو حاتم: خبر سعيد بن أبي هند عن أبي موسى في هذا الباب معلول لا يصح. والبيهقي (رقم: 4020) قال الدارقطني في " العلل (رقم: 1320) ": وقد رواه أسامة بن زيد، عن سعيد بن أبي هند، عن أبي مرة مولى عقيل، عن أبي موسى، ورواه عبيد الله بن عمر العمري، عن نافع، عن سعيد بن أبي هند، عن رجل، عن أبي موسى، قال: وهذا أشبه بالصواب؛ لأن سعيد بن أبي هند لم يسمع من أبي موسى شيئاً ورواه سويد بن عبد العزيز، عن عبيد الله، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي موسى، ووهم في موضعين، في قوله: سعيد المقبري، وإنما هو سعيد بن أبي هند، وفي تركه نافعاً من الإسناد.

نُقلت الإباحة عن بعض الصحابة؛ ولكن الصحيح أنه محرم, وفي الباب حديث ابن عباس الذي أخرجه مسلم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى في يد رجل خاتماً من ذهب، قال: «يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيضعها في يده» ثم أخذه ورمى به. فقيل للرجل خذه، قال: والله لا أرفعه وقد طرحه النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) والحكمة في تحريم الذهب والحرير على الرجال ظاهرة, ففيه سرف وتشبه بالنساء, وفيه كذلك التخنث والنعومة والليونة المنافية لشهامة الرجل وخشونته, وقد تكلم ابن القيم كلاماً حسناً في مسألة تحريم الحرير على الرجال في الزاد. (¬2) ¬

(¬1) أخرجه مسلم (رقم: 2090). (¬2) قال ابن القيم: في "الصحيحين" من حديث قَتادةَ، عن أنس بن مالك قال: رخَّص رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لعبد الرَّحمن بن عَوْفٍ، والزُّبَيْر بن العوَّام - رضي الله تعالى عنهما - في لُبْسِ الحريرِ لِحكَّةٍ كانت بهما. وفى رواية: أنَّ عبدَ الرَّحمن بن عَوْف، والزُّبَير بن العوَّام - رضى الله تعالى عنهما - شكَوْا القَمْلَ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، في غَزاةٍ لهما، فَرَخَّص لهما في قُمُصِ الحرير، ورأيتُه عليهما. هذا الحديثُ يتعلق به أمران؛ أحدُهما: فِقْهي، والآخر: طِبي. فأما الفقهي: فالذي استقرت عليه سُنَّته - صلى الله عليه وسلم - إباحةُ الحرير للنساء مطلقاً، وتحريمه على الرجال إلا لحاجةٍ ومصلحةٍ راجحةٍ، فالحاجة إمَّا من شِدَّة البرد، ولا يَجِدُ غيرَه، أو لا يجدُ سُترةً سواه. ومنها: لباسه للجرب، والمرض، والحِكةِ، وكثرة القَمْل كما دلّ عليه حديث أنس هذا الصحيح. والجواز: أصح الروايتين عن الإمام أحمدَ، وأصحُ قولي الشافعي، إذ الأصلُ عدمُ التخصيص، والرخصةُ إذا ثبتت في حقِّ بعض الأُمة لمعنى تعدَّتْ إلى كُلِّ مَن وُجِدَ فيه ذلك المعنى، إذ الحكمُ يَعُم بعُمُوم سببه. ومَن منع منه، قال: أحاديثُ التَّحريم عامةٌ، وأحاديثُ الرُّخصةِ يُحتمل اختصاصُها بعبد الرَّحمن بن عَوف والزُّبَيْر، ويُحتمل تَعديها إلى غيرهما. وإذا احتُمِلَ الأمران، كان الأخذ بالعموم أولى، ولهذا قال بعض الرواة في هذا الحديث: فلا أدرى أبَلغتِ الرُّخصةُ مَنْ بعدهما، أم لا؟ والصحيح: عمومُ الرُّخصة، فإنه عُرْف خطاب الشرع في ذلك ما لم يُصرِّحْ بالتخصيص، وعدم إلحاق غير مَن رخَّص له أوَّلا به، كقوله لأبى بُرْدة في تضحيته بالجذعة من المَعْز: «تجزيكَ ولن تَجْزىَ عن أحدٍ بَعْدَك» وكقوله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في نكاح مَن وهبتْ نفسَها له: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} الأحزاب: 50 وتحريمُ الحرير: إنما كان سداً للذرِيعة، ولهذا أُبيح للنساء، وللحاجة، والمصلحةِ الراجحة، وهذه قاعدةُ ما حُرِّم لسد الذرائع، فإنه يُباح عند الحاجة والمصلحة الراجحة، كما حَرُمَ النظر سداً لذريعة الفعل، وأُبيح منه ما تدعو إليه الحاجةُ والمصلحةُ الراجحة، وكما حَرُمَ التنفلُ بالصلاة في أوقات النهى سداً لذريعة المشابهة الصوريةِ بعُبَّاد الشمس، وأبيحت للمصلحة الراجحة، وكما حَرُمَ رِبا الفضلِ سداً لذريعةِ رِبا النَّسيئة، وأُبيح منه ما تدعو إليه الحاجة من العَرَايا، وقد أشبَعْنا الكلام فيما يَحِلُّ ويَحْرُمُ من لباس الحرير في كتاب: "التَّحْبِير لِمَا يَحلُّ وَيَحْرُمُ من لِباس الحَريرِ".

وقد قال الله - عز وجل: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18)} (¬1) حيث عاب الله على المشركين أن جعلوا له البنات اللاتي هذه صفتهن قال مجاهد: رخص للنساء في الذهب والحرير وقرأ هذه الآية. قوله: (حتى الخاتم ولو بقدر عين الجرادة) وهذا إشارة إلى رواية جاءت في الباب, والخلاصة أن الخاتم من الذهب لا يحل للرجال, ويجوز من لباس الحرير على الرجال ما كان فيه أربعة أصابع في أربعة أصابع فما دون فقد رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكون في ثوب الحرير الأصبع والأصبعين والثلاثة والأربعة, يعني مجموع ما يكون في الثوب من الحرير أربعة أصابع في أربعة, يعني لو جمع لكان مجموعها أربعة في أربعة فهذا يجوز. والمراد بالحرير هنا: الحرير الطبيعي الذي تنتجه الدودة المعروفة, دودة القز. وأما الحرير الصناعي: ما يسمى بالسلك, فهذه مباحة لا كراهة فيها, على القول الراجح. ¬

(¬1) الزخرف: 18.

قوله: (ولا يكره لبس الخز الذي يشوبه الوبر وكذلك العتّابي الذي يكون القطن فيه أكثر من القز). السلف بينهم خلاف في لبس الخز, وأبو داود بعدما أخرج حديث: «يأتي زمان على أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف» قال: وقد لبس الخز أكثر من عشرين نفساً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) والظاهر أن الخز حرير يشوبه شيء من الوبر, ففيه حرير مخلوط, والمعروف في النهي: «يأتي زمان على أمتي يستحلون الحر والحرير» وجاءت في لفظ عند أبي داود: «الخز والحرير» وفي هذا اللفظ نكارة, والصحيح المحفوظ: «الحر» أي: الفرج, ومما يدل على نكارته أيضاً أنه أردفه على الحرير, فيكون عطف شيء على شيء من جنسه, بل دونه, فإذا نهي عن الخز لأجل بعض الحرير فالنهي عما هو أكثر من باب اولى! , فالمحفوظ في رواية البخاري: «الحر والحرير والخمر والمعازف» فتكون أربعة أجناس. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (رقم: 4041) وأخرجه البخاري معلقاً عن هشام بن عمام بصيغة الجزم (رقم: 5268) وابن حبان (رقم: 6754) والطبراني (رقم: 3417) وابن حبان (رقم: 6754) والبيهقي (رقم: 5895).

قوله: (ولا يجوز جعل الصور في الثياب ولا في المفارش والستور وهو ما كان على صورة الحيوان لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة» (¬1) المراد بالصورة هنا صورة الوجوه, والصورة إذا أطلقت في اللفظ فالمراد بها صورة الوجه. وفي صحيح مسلم: «إن الله لا ينظر إلى صوركم» أي: وجوهكم, وفي قصة الرجل الذي لطم جاريه، قال: أما علمت أن الصورة محترمة. (¬2) أي: ضرب الوجه. ومنه قول العلماء الذين يتكلمون في الأخلاق والسلوك ويذكرون ما يسمى بعشق الصور, والمراد به عشق صور الوجوه, وفي الجنة أن الإنسان ما يشتهي صورة إلا دخل فيها, أي: وجهاً, فالصورة هي الوجه, وصح عن ابن عباس عند البيهقي، أنه قال: الصورة الرأس. (¬3) ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 16389) والبخاري (رقم: 3054 و 5613) ومسلم (رقم: 2106) وأبو داود (رقم: 227 و 4154) والنسائي (رقم: 5350) وابن حبان (رقم: 5850) والبيهقي (رقم: 14360). (¬2) أخرجه البخاري (رقم: 1658). (¬3) أخرجه البيهقي (رقم: 14974) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: الصورة الرأس فإذا قطع الرأس فليس بصورة.

والمراد به الوجه والرأس جميعاً، ومما يدل على أن الصورة هي الوجه ما أخرجه النسائي بسند قوي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في قصة جبرائيل حينما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتمثال بأن يقطع ويجعل كهيئة الشجرة. (¬1) فإذا زال الوجه والرأس زال الحكم. وقوله: (لا يجوز جعل الصور في الثياب) أي: الملبوسة, ولا المفارش الموطوءة, ولا الستور المعلقة, وهو ما كان على صورة حيوان. واحتج بما ثبت في الصحيحين من غير وجه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة» وهذا يشمل الصورة المنحوتة, والصورة المعلقة. ¬

(¬1) الحديث أخرجه أخرجه أحمد (رقم: 8032)، وأبو داود (رقم: 4160) والترمذي (رقم: 2806) وقال: حسن صحيح، والنسائي (رقم: 5365) والبيهقي (رقم: 14353) ولفظه: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أتاني جبريل عليه السلام، فقال: لي أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت إلا أنه كان على الباب تماثيل، وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل وكان فى البيت كلب فمر برأس التمثال الذي في البيت يقطع فيصير كهيئة الشجرة، ومر بالستر فليقطع فليجعل منه وسادتين منبوذتين توطآن ومر بالكلب فليخرج». ففعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإذا الكلب لحسن أو حسين كان تحت نضد لهم فأمر به فأخرج. قال أبو داود والنضد شيء توضع عليه الثياب شبه السرير.

واتفق العلماء على تحريم الصور المنحوتة, وهو أصل شرك العالم, وشرك قوم نوح, وأجمعوا أيضاً على تحريم الصورة المرقومة, وهي المرسومة باليد؛ إلا ما روي عن القاسم بن محمد. واختلف المعاصرون في صور الآلات الحديثة. فالصور إما أن تكون معظمة: -سواءً كانت منحوتة أو مرقومة أو غيرهما - فهي محرمة. ومن صور التعظيم: التعليق أو وضع المنحوت في الرفوف والدواليب, فهذا لا شك في تحريمه. وأما غير المعظمة التي لا تكون معلقة, لا في ثياب ولا على ستور ولا على جدر, ولا تكون ممتهنة تداس بالأقدام, ففيها خلاف بين أهل العلم, حتى بين المعاصرين, والصحيح أنها محرمة لعموم الحديث: «لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة» أو ممتهنة: الصور الممتهنة التي تداس, وهذه من أهل العلم من حرمها, وقال: هذه داخلة في عموم الصور. والصحيح أن هذا مما جاء استثناؤه, وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة بشق الوساد الذي فيه التصاوير, قالت: فجعلنا منه وسادتين توطآن. (¬1) ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 8032).

فيدل على أنه إذا امتهنت زال حكمها؛ لأنه يخشى من أن تكون وسيلة للغلو فيها وتعظيمها لا سيما صور المعظمين من الملوك والعلماء وهذا ما حصل في قوم نوح حتى أفضى إلى عبادتهم من دون الله ولا تقل هذا بعيد فشواهد العصر كالشمس من عبادة الأبقار والأصنام .. وهذا الخليل الكليم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم يقول: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35)} (¬1) فمن يأمن على نفسه بعده؟!. وعليه فتكون الصور الآن الموجودة في الألبومات وما يحتفظ به لأجل الذكرى محرمة على القول الراجح. أما الصور التي للضرورة, كصور بطاقة الأحوال, وجواز السفر, فهذه للضرورة, وتكون بقدر الحاجة أيضاً, والصحيح أنه يدخل فيها الصور التي للحاجة, كالصور التي تفرض على العاملين في بعض المنشآت, فإن هذه قد تكون حاجة وليست ضرورة, لكن الصحيح جوازها أيضاً. ولكن ينبغي عدم إظهارها في الصلاة, وعدم وضعها على النحر مكشوفة, إلا عند الرؤية والمعاينة للتأكد من الشخصية. ¬

(¬1) إبراهيم: 35.

قوله: (والاختيار التختم باليسار، وإن تختم باليمين فلا بأس) يظهر من خطابه مسألة تختم الرجال بالفضة, والسياق ليس بظاهر. ولكن لمّا ذكر أنه يحرم تختم الرجال بالذهب؛ كأن فيه إلماحاً إلى هذا. وقد اتخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - خاتماً من فضة, واختلف العلماء - رحمهم الله - في التختم بالفضة، فأصل المسألة: أنه يجوز للرجال التختم بالفضة بالاتفاق, وإن كان فيه نزاع يسير لبعض أهل الشام يأتي تحريره ... واختلفوا هل هو سنة أم لا, على أقوال: القول الأول: أنه مباح للرجال, وهذا مذهب كثير من أهل العلم, وهو مشهور قول الأحناف، وبعض أصحاب أحمد ومالك. القول الثاني: أنه مستحب, وهذا مذهب بعض السلف, وهو منصوص مالك, ووجه عند الحنابلة. القول الثالث: أنه مكروه إلا لذي السلطان, وهذا ما ذهب إليه بعض الحنفية, وبعض الشافعية, ووجه عند الحنابلة. القول الرابع: أن التختم للرجل مكروه مطلقاً, وحكاه ابن عبد البر عن طائفة من العلماء.

من أدلة القول الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ خاتماً من ذهب, ثم رمى به وألقاه, ثم اتخذ خاتماً من وَرِق, وحديث ابن عمر في الصحيحين, وكذلك لبس أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم وقع من عثمان في بئر أريس. (¬1) ولبس جماعة من الصحابة كطلحة وسعد وابن عمرو والبراء والمغيرة - رضي الله عنهم - وحكي الإجماع على جوازه. ومن قال بالاستحباب قال أن لبس النبي - صلى الله عليه وسلم - يدل على استحبابه, وكذلك لبس الخلفاء له من بعده, وكذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يلبسه مطلقاً, ولم يكن يلبسه عند الختم فقط، وتأسى به عامة الصحابة فلبسوه .. ودليل من قال أنه مكروه؛ إلا لذي سلطان حديث أبي ريحانة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لبس الخاتم إلا لذي سلطان. رواه أبو داود والنسائي (¬2) , ولكن إسناده ضعيف. وقد سئل عنه مالك فضعفه, وقال أحمد: إن الكراهة لغير ذي سلطان إنما تروى عن أهل الشام, وإن كثيراً من السلف تختّموا, ولم ينكروا لبس الخاتم, وبعض أهل العلم كرهه لغير السلطان, وقال: لذي السلطان سنة أما لغير السلطان فهو مكروه. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (رقم: 5540). (¬2) أخرجه أبو داود (رقم: 4051) والنسائي (رقم: 9313).

ويرد على هؤلاء بأحاديث الإباحة المتقدمة, ويأتي أيضا أحاديث أخرى, واحتج هؤلاء أيضاً بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما جاء في حديث أنس - رضي الله عنه - حينما أراد أن يكتب إلى كسرى وقيصر وقيل له أنهم لا يقبلون كتاباً إلا مختوماً, فاتخذ خاتماً وصاغه من فضة, ونقش عليه: "محمد رسول الله, ثم قال: «لا ينقش أحد كنقشنا» (¬1) والحديث أصله متفق عليه, وقالوا أن هذا سبب اتخاذ الخاتم, وإلا فكانت العرب لا تلبسه ولم يلبسه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا لهذا, فقالوا لغير ذي السلطان مكروه, وقالوا: لأنه زينة والنساء أحق بالزينة من الرجال, وقالوا أيضاً: أنه مقيد بالحاجة, والحاجة يقتصر عليها. فالأجوبة على ما تقدم: من قال: مكروه مطلقاً فهذا لا وجه له. وأما من قال: أنه مباح لذي السلطان، مكروه لغيره، أنه لو كان مقيد بالحاجة لما استدام لبسه, ولبسه أصحابه, فإنهم استداموا لبسه أيضاً مطلقاً, ولم يكونوا بأهل ولايات, فحينما لبس الخاتم اتخذ الناس خواتم, ولبسوا الفضة, واشتروه بالأموال, وأنفقوها فيه, وهذا يدل على إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابة على ذلك, وهذا الدليل الذي أوردناه فيه رد على من قال ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 14123) والبخاري (رقم: 5539) ومسلم (رقم: 2092).

بالكراهة, وعلى من قال بالإباحة, ولا شك أن كون أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين يتخذون خاتماً من فضة, والنبي - صلى الله عليه وسلم - يراهم, يدل على أن أقل أحواله أنه مشروع, والصحابة كانوا يتأسون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - التأسي المطلق. فإن قيل: قد روى النسائي من حديث ابن عمر وفيه: «اتخذ خاتم من فضة فكان يختم به ولا يلبسه» (¬1) وهذا احتج به من قال أنه مكروه إلا للسلطان, وقالوا: النبي - صلى الله عليه وسلم - يلبسه عند الختم, فنقول أن لفظة «ولا يلبسه» في هذا الحديث شاذة. قوله: (والاختيار التختم باليسار ,وإن تختم في اليمين فلا بأس) ¬

(¬1) أخرجه النسائي (رقم: 5218) أخرجه أحمد (رقم: 5366) وابن حبان (رقم: 5500) قال السندي: قوله: «ولا يلبسه» قد جاء أيضا أنه كان يلبسه فلعل النفي محمول على الغالب أو على القصد أي كان لا يقصد اللبس وإنما كان يقصد الختم وإن كان أحيانا يلبسه أيضاً. والله أعلم. وقال ابن كثير في البداية والنهاية (6/ 5): فإنه حديث غريب جداً، وفي السنن من حديث ابن جريج عن الزهري عن أنس، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء نزع خاتمه، قلت: وهو معلول أيضاً.

والمشهور عن الإمام أحمد - رحمه الله - وهذا على أحد الأقوال فإنه قال: وأحاديث التختم باليسار أحب لي وهي أقوى وأثبت، وفي المسألة أقوال: القول الأول: أنه مباح في اليمين والشمال, قالوا: والذي ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - التختم, وفي الخنصر. وأما في اليمين أو الشمال فلا يصح شيء، والأحاديث في ذلك متدافعة ومضطربة. والقول الثاني: أنه باليمين أفضل وهذا مذهب البخاري, وقد أخرج فيه حديث أنس المتفق عليه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ خاتماً وكان في يمينه. (¬1) ¬

(¬1) أخرجه البخاري (رقم: 5530) ومسلم (رقم: 2094) وأخرجه وأبو داود (رقم: 4216) وابن ماجه (رقم: 3641) والترمذي (1739) والنسائي (رقم: 9447) عن ابن شهاب، عن أنس. وأخرجه البخاري (رقم: 5531 و 5532) عن حميد عن أنس. أخرجه أحمد (رقم:13215) ومسلم (رقم:5537) وأبو داود (رقم:4216) وابن ماجه (رقم: 3641) والترمذي (رقم: 1739) والنسائي (رقم: 9448) عن الزهري، عن أنس. وأخرجه البخاري (رقم: 5534 و 5537) والنسائي (رقم: 9453) وأبو يعلى (رقم: 3119) عن قتادة، عن أنس.

وفيه كذلك حديث ابن عباس الذي رواه أبو داود والترمذي وصححه البخاري (¬1) - رحمه الله. وأيضاً فإنه زينة واليمين أحق بالزينة, وأيضاً فإنه قد ينقش فيه ذكراً فيصان ويكون باليمنى حتى لا يمتهن, واتفقوا على أن مكانه الخنصر, وهو أصغر الأصابع, فإن قيل قد روى مسلم عن أنس: كان خاتم النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه وأشار إلى الخنصر من يده اليسرى. (¬2) فنقول الأحاديث في يمينه أصح, وعلى كل حال فالترجيح في كونه في يمينه ليس بذلك الوضوح, فإن الأحاديث كما قال غير واحد من الحفاظ: القدر الصحيح فيها التختم, ومنهم من صحح الأيسر، ومنهم من صحح الأيمن, فالذي يظهر لي أنه يكون في اليمين أكثر, وإن تختم باليسار أحياناً فلا بأس، فيكون فيه جمع بين القولين, وظاهر كلام المؤلف خلاف ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (رقم: 4231) والترمذي (رقم: 1742) قال أبو عيسى: قال: محمد بن إسماعيل حديث محمد بن إسحاق عن الصلت بن عبد الله بن نوفل حديث حسن صحيح. (¬2) أخرجه مسلم (رقم: 2095) قال ابن أبي حاتم في العلل (رقم: 1451): قال أبي: أما قوله اتخذ خاتما من فضة، ونقش عليه، فهو صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأما قوله فكان يلبسه في شماله، فلا أعلم أحداً رواه إلا ما رواه عباد بن العوام، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وروى بعضهم عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والحفاظ ترويه عن سعيد، عن قتادة، عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لا يقولون إنه لبس في يساره.

ما اخترنا بقوله: (والاختيار التختم باليسار ومن تختم باليمين فلا بأس). قوله: (ولا يحل لأحد أن يجر ثوبه خيلاءً وبطراً) هذا الحكم مما يختص به الرجال. والإسبال هو إرخاء الرجل لباسه تحت الكعب, فقولنا: "لباسه" يشمل السراويل والأزر والثياب والعمائم والمشالح وغيرها، ودونكم مما يتعلق في الباب من مسائل: أولاً: اتفق العلماء على تحريم الإسبال, إذا كان للخيلاء وللعجب وللكبر, بل عدّوه من كبائر الذنوب, فهذه المسألة لا خلاف فيها, وحججهم ظاهرة: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة» أخرجه البخاري من حديث ابن عمر. (¬1) ¬

(¬1) أخرجه مالك (رقم: 1630) وأحمد (رقم: 4884) والبخاري (رقم: 3465 و 5446) ومسلم (رقم: 2085) وأبو داود (4/ 56، رقم 4085) والترمذي (رقم: 1730) والنسائي (رقم: 5328) وابن ماجه (رقم: 3569).

وفي لفظ: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه» فقال أبو بكر: يا رسول الله إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده, قال: إنك لست ممن يصنع ذلك خيلاء. (¬1) ثانياً: من أقسام الإسبال: إذا أرخى إزاره بغير خيلاء تحت الكعب, فهنا انقسم العلماء رحمهم الله في هذه المسألة على قسمين: القسم الأول: أنه محرم, ولهم أدلة: الدليل الأول: أن مجرد جر الثوب معدود من الخيلاء, لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إياك والإسبال فإنه من المخيلة» (¬2) رواه أبو داود والترمذي من حديث جابر بن سليم, وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو. (¬3) ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 5351) النسائي (رقم: 5335) وابن حبان (رقم: 5444). (¬2) أخرجه الطيالسي (رقم: 1208) وأحمد (رقم: 20651) وأبو داود (رقم: 4084) والنسائي (رقم: 9691) وابن حبان (رقم: 522) والبخاري في الأدب المفرد (رقم: 1182). (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 25374) وأحمد (رقم:6695) والنسائي (رقم:2559).

واحتجوا كذلك بما رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار» (¬1) وليس فيه تعرض للخيلاء. واحتجوا بحديث أبي سعيد: «إزرة المؤمن إلى نصف الساق, لا جناح فيما بينه وبين الكعبين، وما أسفل الكعبين فهو في النار» (¬2) أخرجه أهل السنن وأحمد وإسناده صحيح, واحتج بعضهم بحديث أبي ذر - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ....» (¬3) وذكر المسبل, ولكن الصحيح أن هذا الحديث المطلق, محمول على حديث ابن عمر في معناه؛ لأنه له عقوبة خاصة, فوجب ¬

(¬1) أخرجه البخاري (رقم: 5450). (¬2) أخرجه مالك (رقم: 1631) والطيالسي (رقم: 2228) وأحمد (رقم: 11944) وأبو داود (رقم: 4093) والنسائي (رقم: 9714) وابن ماجه (رقم: 3573) وابن حبان (رقم: 5446). (¬3) أخرجه مسلم (رقم: 106) أبو داود (رقم: 4089) والنسائي (رقم: 2563) وابن ماجه (رقم: 2208) ولفظه: عن أبي ذر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم» قال: فقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات، قال أبو ذر: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب.

حمل المطلق على المقيد؛ لأنه إذا اتحد الحكم والسبب وجب حمل المطلق على المقيد. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي ذر: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ....» فالحكم: لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم, والسبب: الإسبال. فوجب حمله على حديث ابن عمر: «من جر إزاره خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة» (¬1) فيكون هذا من حجج الأولين. ومن أدلة القائلين أنه محرم مطلقاً قول عمر - رضي الله عنه -: ارفع إزارك فإنه أتقى لربك. (¬2) ولم يستفصل, وكان في كرب الموت, فدل على أن إسبال الإزار ليس من التقوى في شيء, وإذا لم يكن من التقوى كان من الإثم. وعلى هذا يكون جر الإزار ينقسم إلى قسمين: الأول: إن كان خيلاء فهو من الكبائر المغلظة, المستحق عليه بالوعيد الخاص مع النار. الثاني: وإن كان بغير خيلاء فإنه كبيرة؛ لأنه متوعد عليه بالنار. ¬

(¬1) سبق تخريجه. (¬2) صحيح البخاري (رقم: 3497) وابن أبي شيبة (رقم: 25312).

وقد مر معنا أن التوعد على الذنب بالنار يكون من الكبائر, ففيه الدلالة على أن الكبائر تتفاوت. والقول الثاني: أنه مكروه وليس بمحرم, وحملوا الأدلة المطلقة التي فيها التحريم على أحاديث الخيلاء, وهذا لا يتأتّى؛ لأنه إنما يصح حمل المطلق على المقيد في صورتين: الصورة الأولى: أن يتحد الحكم والسبب. والصورة الثانية: أن يتحد الحكم ويختلف السبب. وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - الحكم: دخول النار, والسبب: الإسبال, فلا يمكن حمله على حديث ابن عمر وغيره؛ لأن الحكم هنا دخول النار, والحكم هناك لا ينظر الله إليه يوم القيامة ولا يزكيه وله عذاب أليم. وإذا اختلف الحكم فإنه لا يحمل المطلق على المقيد عند جمهور الأصوليين. واحتجوا أيضاً بحديث ابن عمر: «إنك لست ممن يفعله خيلاء» (¬1) ¬

(¬1) سبق تخريجه.

أقسام الإسبال

والجواب عن هذا: أن أبا بكر - رضي الله عنه - كان يلبس إزاره, وكان إزاره ينحل فيرفعه, ثم ينزل ثم يرفعه, ولا شك أن هذه ليست صورة الإسبال الموجودة أصلاً, فإنه منذ أن يتجاوز الكعب فإنه يرفعه. وأيضاً فإن أبا بكر قد زكاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فخرج من عهدة المحظور. واحتجوا بحديث ابن عمر: «من جر إزاره خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة» (¬1) وقالوا: مفهومه إن من لم يجره خيلاء لا يدخل في هذا الوعيد, وعليه فيكون مباحاً. ونقول: هذا المفهوم عارضه المنطوق في أحاديث أُخر بإثبات الوعيد بالنار لمن جر إزاره تحت الكعبين. وخلاصة ما تقدم أن الإسبال على قسمين: القسم الأول: الإسبال بخيلاء فيستحق الوعيد بعدم نظر الله إليه، وهو كبيرة مغلظة. القسم الثاني: الإسبال بغير خيلاء فهذا متوعد عليه بالنار، وهو كبيرة. ¬

(¬1) سبق تخريجه.

مسألة: وضع اللباس ينقسم إلى أربعة أقسام: القسم الأول: أن يكون إلى نصف الساق, وهذا سنة. القسم الثاني: أن يكون إلى الكعبين وهذا مباح. القسم الثالث: أن يكون على الكعب, وهذا منهم من قال بالكراهة, ومنهم من قال: بالتحريم. والصحيح أنه محرم, لرواية في حديث أبي سعيد: ليس للكعبين حق في الإزار. (¬1) وإسناده صحيح. القسم الرابع: ما نزل من الكعبين وقد تقدم الكلام عليه. مسألة: نصف الساق هل هو سنة وما تحته مباح إلى الكعبين أم كله سنة؟ ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 23632 و 23748) وابن ماجه (رقم: 3572) والترمذي (رقم: 1783) والنسائي (رقم: 9608) ولفظه: عن حذيفة - رضي الله عنه -، قال: أخذ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بعضَلَةِ ساقي فقال: هذا موْضِعُ الإزار، فإن أبيْتَ فأسفلُ، فإن أَبيت، فلا حقَّ للإزار في الكعبين» أخرجه الترمذي. وفي رواية النسائي، قال: «الإزار إلى أنصَافِ السَّاقين: العَضَلَةِ، فإن أَبَيْتَ فأسفلَ، فإن أبيْتَ فمن وراءِ السَّاق، لا حقَّ للكعبين في الإزار».

فمنهم من قال: إن السنة إلى نصف الساق, فإن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «إزرة المؤمن إلى نصف الساق» (¬1) واختلفوا في التقدير هنا, فمن قال: إزرة المؤمن محلها إلى نصف الساق، قال: إن نصف الساق سنة. ومن قال: أن إزرة المؤمن منتهية إلى نصف الساق والخبر محذوف تقديره "منتهية" قال: من نصف الساق إلى الكعب كله سنة, وهذا اختيار شيخنا الشيخ عبدالله بن قعود، واحتج بكلام الطيبي أنه قال: أن التقدير في هذا الحديث إزرة المؤمن منتهية. ومعنى هذا أنه من فوق الكعب إلى النصف كله مضاف إلى المؤمن, والإضافة هنا إضافة تشريف، أي: إزرة المؤمن الكامل الإيمان, المتمسك المهتدي بالهدي النبوي. والذي يظهر لي: أنه إذا ارتفع إلى نصف الساق فهو أفضل قد جاءت أحاديث؛ كحديث أبي جحيفة قال: دفعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالأبطح في قبة وكان بالهاجرة خرج بلال فنادى بالصلاة ثم دخل فأخرج فضل وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقع الناس عليه يأخذون منه ثم دخل فأخرج ¬

(¬1) سبق تخريجه (إضافة حكم لبس السراويل المتصلة بالشراب).

العنزة وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم كأني أنظر إلى وبيص ساقيه فركز العنزة ثم صلى الظهر ركعتين والعصر ركعتين يمر بين يديه الحمار والمرأة فدلَّ على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع حتى يخرج كثير من ساقه, وهذا المعروف عنه وهو التشمير وكان يحبه عليه الصلاة والسلام في لباسه. وجاء في حديث عمرو بن زرارة عند أحمد وغيره: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضرب على ركبته مقدار أربعة أصابع, فقال: «هذا موضع الإزار» ثم ضرب أخرى فقال: «هذا موضع الإزار» (¬1) ولهذا ذهب بعضهم إلى أن الإزار يكون تحت الركبة بأربعة أصابع، والحديث رواه أحمد بإسناد لا بأس به, فعلى هذا يكون نهايته إلى نصف الساق, وهو الأشهر في الأحاديث, أو قبل الركبة بأربعة أصابع, ورواية أربعة أصابع، ثم أربعة أصابع، توافق نصف الساق, فإن الأربعة ثم الأربعة تكون إلى العضلة, وفي رواية أخرى: أخذ بعضلة ساقي، وقال: «هذا معقد الإزار» (¬2) ونصف الساق يكون من ثمانية أصابع تحت الركبة. ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 7909) والطبراني (رقم: 7909) قال الهيثمي (5/ 216): رواه أحمد ورجاله ثقات. (¬2) أخرجه الترمذي (رقم: 1783) والنسائي (رقم: 9685).

ومن أهل العلم من فرق بين الإزار والثياب أو السراويل, فقال: السراويل أربعة أصابع أو نصف الساق, وأما الثياب فلا تكون أربعة أصابع؛ لأن الإزار بانحناء الإنسان وركوعه وسجوده وجلوسه يكون ساتراً. أما الثياب وهي القمص إذا لم يكن عليه سراويل فإنه لا يجوز أن يجعله تحت الركبة بأربعة أصابع؛ لأنه ينشمر ويرتفع عند ركوعه وسجوده, فيتثنى على جسده فيصل الثوب إلى الركبة، ويخرج جزء من العورة وهذا محرم، وأيضاً لو صلى به لم تصح صلاته لانكشاف عورته. وقال: وإنما هذا في حق من عليه سراويل, وهذا رأي الشيخ بكر أبو زيد، وهو بذلك نظر إلى المعنى. ولا شك أن الإنسان إذا كان عليه ثوب وليس عليه سراويل ولا إزار, ثم لبس قميصاً تحت الركبة بأربعة أصابع, ثم ركع, فلا شك أنه يخرج من الخلف أطراف فخذيه. وأما إذا سجد فينشمر إلى ثلث الفخذ, وقد قال شيخ الإسلام - رحمه الله -:واتفق العلماء على وجوب ستر العورة ما بين السرة والركبة، حتى على القول بأن الفخذ فيه خلاف, ففي الصلاة يجب ستره ونص كلامه: وَنَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ}.

فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُؤْمَرُ فِي الصَّلَاةِ بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ: الْفَخْذِ وَغَيْرِهِ وَإِنْ جَوَّزْنَا لِلرَّجُلِ النَّظَرَ إلَى ذَلِكَ. فَإِذَا قُلْنَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد: أَنَّ الْعَوْرَةَ السَّوْأَتَانِ وَأَنَّ الْفَخْذَ لَيْسَتْ بِعَوْرَةِ فَهَذَا فِي جَوَازِ نَظَرِ الرَّجُلِ إلَيْهَا؛ لَيْسَ هُوَ فِي الصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ مَكْشُوفَ الْفَخْذَيْنِ سَوَاءٌ قِيلَ هُمَا عَوْرَةٌ أَوْ لَا. وَلَا يَطُوفَ عُرْيَانَا. بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَلَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ إنْ كَانَ ضَيِّقًا اتَّزَرَ بِهِ وَإِنْ كَانَ وَاسِعًا الْتَحَفَ بِهِ؛ كَمَا أَنَّهُ لَوْ صَلَّى وَحْدَهُ فِي بَيْتٍ كَانَ عَلَيْهِ تَغْطِيَةُ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَأَمَّا صَلَاةُ الرَّجُلِ بَادِيَ الْفَخْذَيْنِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِزَارِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَمَنْ بَنَى ذَلِكَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْعَوْرَةِ كَمَا فَعَلَهُ طَائِفَةٌ فَقَدْ غَلِطُوا؛ وَلَمْ يَقُلْ أَحْمَد وَلَا غَيْرُهُ: أَنَّ الْمُصَلِّيَ يُصَلِّي عَلَى هَذِهِ الْحَالِ. كَيْفَ وَأَحْمَد يَأْمُرُهُ بِسَتْرِ الْمَنْكِبَيْنِ فَكَيْفَ يُبِيحُ لَهُ كَشْفَ الْفَخْذِ فَهَذَا هَذَا. وقد شغب بعض الناس على الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله بسبب هذا, والشيخ لم يرد إلا خيراً, وقد لحظ معنىً صحيحاً, بل إن من جعل ثوبه إلى نصف الساق وليس عليه سراويل لا يأمن انكشافه في حال السجود. مسألة: هل كان إزار أبي بكر - رضي الله عنه - إلى نصف الساق أو لا؟

الظاهر من الأدلة أن إزار أبي بكر لم يكن إلى نصف الساق؛ لأن أبا بكر - رضي الله عنه -، قال: إن إزاري يسترخي, يعني ينزل إلى تحت الكعب إلا أن أتعاهده, فلو كان إزار أبي بكر - رضي الله عنه - إلى نصف الساق فيحتاج من النزول من نصف الساق إلى تحت الكعب أن تظهر العورة بالكلية, وهذه من حجج شيخنا الشيخ عبد الله بن قعود - رحمه الله - على أن إزار أبي بكر لم يكن إلى نصف الساق, إذ لو كان إلى نصف الساق فنزل حتى تحت الكعب لانكشف القبل بل وبعض الفخذين والاستدلال بهذا ظاهر لا يمكن دفعه. واحتج أيضاً بحديث رواه أحمد في مسنده: أن عكرمة، قال: رأيت ابن عباس وإزاره على ظهر قدمه. (¬1) وهذا لا يكون إلا مع طول الإزار. وهذا صحيح عن ابن عباس .. وهنا تنبيه أن هذا من أدلة المجيزين للإسبال من غير خيلاء تحت الكعب ولكن لم تتم فرحتهم به فلفظه عند كل من خرجه" أن ابن عباس كان إذا اتزر أرخى مقدم إزاره، حتى تقع حاشيته على ظهر قدمه، ويرفع الإزار مما وراءه، فقلت لم تتزر هكذا؟ قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتزر هذه الأزرة" فانظر كيف يستدلون ببعض ويكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك؟! ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (رقم: أبو داود (4096) والنسائي (رقم: 9681).

مسألة: يجوز الإسبال في صور: الصورة الأولى: لستر جرح يتأذى بالذباب ونحوه, كما لو كان هذا الجرح على كعبه أو تحته, فيكون هذا من باب دفع الضرر وهل يلتحق بذلك ما إذا كان هناك عيب كحموشة (دقة في الساقين ونحو ذلك) فقد أخرج ابن أبي شيبة بسند جيد عن ابن مسعود - رضي الله عنه - «أنه كان يُسبل إزاره, فقيل له في ذلك, فقال: إني حمش الساقين» لكن يعارض هذا حديث أبي أمامة قال: «بينما نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ لحقنا عمرو بن زرارة الأنصاري في حلة إزار ورداء قد أسبل , فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأخذ بناحية ثوبه لله ويقول: عبدك وابن عبدك وابن أمتك, حتى سمعها فقال يا رسول الله: إني حمش الساقين ,فقال: ياعمرو إن الله قد أحسن كل شيء خلقه، ياعمرو إن الله لا يحب المسبل ..» الحديث وأخرجه أحمد عن عمرو نفسه بلفظ عمرو بن فلان, وله سياق آخر عند الطبراني، ... وحينئذ يكون المنقول عن ابن مسعود مؤولا بأنه أسبله زيادة على المستحب - وهو أن يكون إلى نصف الساق - ولا يظن أنه جاوز به

الكعبين , والتعليل يرشد إليه فإن الإسبال إلى ما فوق الكعب تندفع به المفسدة المذكورة، ولا يقع في المحذور (¬1) ,. الصورة الثانية: يجوز أن يكون مسبلاً إذا انحنى الإنسان ونزل الثوب تحت الكعب - حال نزوله - فلا بأس؛ لأن هذا إسبال عارض, ومن أهل العلم من رخص في الإسبال عند الحرب, ولم أقف على دليل لهؤلاء. وعُلم من قول المؤلف: (ولا يحل لأحد أن يجر ثوبه خيلاء وبطرا) أنه يجوز أن يكون لغير خيلاء, وهذا قول مشهور, وينسب هذا للشافعي ولا يصح, وهو رواية عن أحمد, بل قيل أنه المشهور من المذهب، وتقدم دحضه بالأدلة. بقي أن نقول أن هناك إسبال واجب وهو في حق النساء لأنهن عورة ويجب ستر أرجلهن ولهذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإرخاء ذيل المرأة ذراعاً حتى لا تنكشف أقدامهن كما في حديث أم سلمة - رضي الله عنه - وفيه «يرخين شبراً فقالت: إذن تنكشف أقدامهن قال: يرخين ذراعاً لا يزدن ...»، وعلم من هذا (وهو حديث ثابت) أن الإرخاء الزائد كما يفعله ضعيفات العقل في حفلات النكاح أنه من السرف الممنوع ومن المفاخرة من الناقصات .. ¬

(¬1) وانظر فتح الباري (10\ 264).

فائدة: الكلام في ذيل المرأة في الحديث السابق إنما هو في حال الخروج , وأما في البيوت فإلى الكعب قال شيخ الإسلام رحمه الله في المجموع (¬1): وأما الثوب التي كانت المرأة ترخيه وسألت عن ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: " شبرًا " فقلن: إذن تبدو سوقهن، فقال: " ذراع لا يزدن عليه ". وقول عمر بن أبي ربيعة:. . كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جر الذيول فهذا كان إذا خرجن من البيوت؛ ولهذا سئل عن المرأة تجر ذيلها على المكان القذر، فقال: " يطهره ما بعده ". وأما في نفس البيت، فلم تكن تلبس ذلك. كما أن الخفاف اتخذها النساء بعد ذلك لستر السوق إذا خرجن، وهن لا يلبسنها في البيوت؛ ولهذا قلن: إذن تبدو سوقهن. فكان المقصود تغطية الساق؛ لأن الثوب إذا كان فوق الكعبين بدا الساق عند المشي ا. هـ. ¬

(¬1) مجموع الفتاوي (ط: دار الوفاء - تحقيق أنور الباز) - (22/ 118).

قول المؤلف: (ودخول الحمام جائز للرجال في الميازر الساترة ويكره للنساء إلا من علة وحاجة). الحمام هو الموضع الذي يغتسل فيه بالحميم, والحميم هو الماء الحار, ومن ثم قيل للاغتسال بالماء الاستحمام, سواءً كان ماءً حاراً، أو بارداً مع أنه في الأصل كان الاغتسال بالماء الساخن, ثم أُطلق على كل غسل من ماء بارد وحار. والأحاديث الواردة في الحمام فيها كلام, وقد ألفت مؤلفات في الحمام وأحكامه، ومن أحسنها كتاب آداب الحمام, أو أحكام الحمام, للحافظ ابن كثير - رحمه الله تعالى - وهو مطبوع. والمراد به ما يغتسل به لواجب أو مستحب أو نظافة، ويكون الماء ساخناً، وقد كان هذا موجوداً في البلاد الباردة في الشام وفلسطين, ولم يكن موجوداً في الحجاز, لشدة الحر واستغناء الناس عن ذلك, ويشبه في عصرنا هذا ما يسمى بحمام " السونا " الذي يدخلها الرجال, وقد يكون هناك حمامات يدخلها النساء من أجل إزالة الوسخ وما على الجسم من قذر, ولا يخرج إلا بالحرارة العالية, وقد يكون في هذا شفاء من بعض الأمراض.

واختلف العلماء في دخول الحمام على أقوال: القول الأول: المنع المطلق للرجال والنساء. القول الثاني: الإباحة للرجال والنساء, ولكن بشروط. القول الثالث: الإباحة للرجال دون النساء. القول الرابع: الإباحة للرجال دون النساء إلا مريضة أو نفساء, وهذا الذي أخذ به المؤلف وأنه يكره للنساء إلا من علة وحاجة. القول الخامس: كراهة دخول الحمام تورعاً, وهذا منقول عن الإمام أحمد, وأصح الأقوال في هذه المسألة القول بالإباحة مطلقاً, ولكن بشروط, وهذا الذي صححه ابن كثير في كتابه الآنف الذكر. ونقل بعضهم الإجماع على ذلك, وقد دخله جماعة من الصحابة, فصح عن ابن عباس - رضي الله عنه -: أنه دخله في الجحفة, (¬1) وروي أن خالد بن الوليد - رضي الله عنه - دخله بحمص. (¬2) وشروط جوازه: ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 1175). (¬2) أخرجه ابن عساكر (16/ 264).

1 - أن يكون دخوله لحاجة, كإزالة وسخ أو غسل حيض أو جنابة أو غسل مستحب, كجمعة وعيد. 2 - أن يكون مستور العورة. 3 - أن يكن النساء في الخروج إليه متسترات, غير متبرجات. 4 - أن لا يعهد في الحمام كشف العورات ولا وجود منكرات. 5 - أن يحفظ بصره عن عورات الناس. 6 - أن تكون حمامات الرجال مفصولة عن حمامات النساء. قوله: (ولا بأس بالخضاب بالحناء، وهو يستحب وكذلك الكتم، ويكره بالسواد). الخضاب: تغيير الشعر بشيء، إما بحناء, أو حناء وكتم, أو بصفرة, أو بسواد، واختلف العلماء - رحمهم الله - في الخضاب بغير السواد للشيب على أقوال: الأول: أنه مسنون, وهذا المشهور من مذهب الجمهور عند الحنفية والشافعية والحنابلة. الثاني: أنه مباح, وهذا ظاهر مذهب المالكية. الثالث: أنه لا يسن تغيير الشيب. الرابع: أن خضاب الشيب واجب.

وأدلة من قال أنه مسنون قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم» (¬1) قالوا: فأقل المخالفة الاستحباب. وقالوا: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضاً قد خضب, وقالوا: وقد خضب الصحابة؛ كأبي بكر - رضي الله عنه - , وقد صح أنه خضب بالحناء والكتم. وأيضاً قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين» (¬2) ومن أدلة من قال إن الخضاب مباح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصبغ, مع أنه كان فيه شعرات بيض في لحيته وصدغيه, وقالوا أيضاً: مع أنه - صلى الله عليه وسلم -، قال: «إن اليهود والنصارى يصبغون فخالفوهم» فهو - صلى الله عليه وسلم - قد ترك, وقد ترك أيضاً الخضاب جماعة من الصحابة, قال الحافظ (¬3) - رحمه الله -: وترك ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 7272) والبخاري (رقم: 3275) ومسلم (رقم: 2103) وأبو داود (رقم: 4203) والنسائي (رقم: 5241) وابن ماجه (رقم: 3621). (¬2) أخرجه أحمد (رقم: 17184) وأبو داود (رقم: 4607) والترمذي (رقم: 2676) وقال: حسن صحيح. وابن ماجه (رقم: 42) والحاكم (رقم: 329) وقال: صحيح ليس له علة. والبيهقى (رقم: 20125) وابن حبان (رقم: 5) والدارمي (رقم: 95). (¬3) فتح الباري (10/ 355).

الخضاب جماعة من الصحابة كعلي، وأبي بن كعب، وسلمة بن الأكوع، وأنس، وجماعة - رضي الله عنهم -، وصح عن هؤلاء. ومن أدلتهم, ما رواه مسلم عن أنس: أنه يكره أن ينتف الرجل الشعرة البيضاء. (¬1) وحديث أبي نجيح السلمي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من شاب شيبة كانت له نوراً» (¬2) رواه الطيالسي بسند صحيح. وأيضاً ما رواه بعض أهل السنن من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «لا تنتفوا الشيب فإنه نور المسلم» (¬3) والصبغ يذهب الشيب. ويجاب عن هذا القول الأخير بأن الصبغ لا يغير الخلقة, فإن الشيب موجود, ولكن حصل به صبغ, فهو لا يمنع الفضل في الآخرة, بخلاف ¬

(¬1) أخرجه مسلم (رقم: 2341). (¬2) أخرجه أبو داود الطيالسي (رقم: 1154) وأخرجه ابن أبي شيبة (قم: 19732) وعبد الله المبارك في الجهاد (177) وابن حبان (رقم: 2984) والحاكم (رقم: 4371) وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. والبيهقي (رقم: 18979). (¬3) أخرجه أحمد (رقم: 6672) والترمذي (رقم: 2821) وأبو داود (رقم: 4202) وابن ماجه (رقم: 372) والنسائي (رقم: 9285) والبيهقى (رقم: 14605).

النتف فإنه يزيل الخلقة بالكلية ففرق بين إزالة الأصل وبين تغيير الوصف مع بقاء الأصل. وأدلة من قال أن الصبغ واجب, أنهم احتجوا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالمخالفة، وقال: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم» وهذا أمر يقتضي الوجوب, واحتجوا بأن الصحابة قد صبغوا, وقال أحمد: الخضاب عندي هو كالفرض. واحتج بالأمر بالمخالفة. والقائلون بأن هذا الأمر للاستحباب أجابوا عن هذه الأدلة, فقالوا: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصبغ, وتقدم الكلام على هذا, وكذلك بعض أصحابه فيكون الأمر في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - للاستحباب, وهذا هو أصح الأقوال, أن صبغ الشيب مستحب متأكد الاستحباب ولا يصل إلى الوجوب, وأصحابه - رضي الله عنهم - هم خير من يفهم هذا عنه, والخلفاء الراشدون منهم من فعل ومنهم من ترك, فأبو بكر - رضي الله عنه - خضب وعلي - رضي الله عنه - ترك, واشتهر هذا عند التابعين, حتى أنكر بعضهم الصبغ, وقال سعيد بن جبير: يعمد أحدكم إلى نور قد جعله الله في وجهه فيطفئه. وقد أدركنا جماعة من شيوخنا فمنهم من يصبغ ومنهم من يترك، وسئل شيخنا ابن عثيمين - رحمه الله - عن تركه الصبغ, فقال: له كلفة ويشق علي.

وكذلك شيخه ابن سعدي - رحمه الله - لا يصبغ, وأما شيخنا ابن باز - رحمه الله - فهو وإن كان خفيف شعر اللحية فإنه كان يصبغ وقد يبطيء رحمه الله في صبغه فتبيض لحيته .. وسمعته يقول إن من أدلة عدم وجوب الصبغ أن الصحابة قد يتأخرون في الصبغ. وأفضل ما يصبغ به الحناء والكتم, والحناء معروف, وهو يصبغ بالحمرة الشديدة. والكتم هو خضاب بالسواد, وإذا خُلط الحناء بالكتم صار لونه جميلاً؛ لأن الكتم أسود فاحم جداً, وإذا خُلط الحناء بالكتم كما كان يفعل أبو بكر - رضي الله عنه - فإنه يكون شديد الشقرة يضرب إلى اللون الداكن, ويقرب إلى السواد وليس بسواد. قوله: (ويكره بالسواد). ومن المسائل المهمة الخلاف في الخضاب بالسواد وله أحوال: الحالة الأولى: أن يكون الخضاب بالسواد في الحرب, فنقل جماعة من أهل العلم الإجماع على جوازه, قال الحافظ: وقال مالك: الحناء والكتم واسع والصبغ بغير السواد أحب إلي ويستثني من ذلك المجاهد اتفاقاً. (¬1) وعلله بعضهم بإيقاع الرهبة في قلوب العدو. ¬

(¬1) فتح الباري لابن حجر (6/ 499).

الحالة الثانية: الخضاب بالسواد في غير الحرب على أقوال: القول الأول: أنه يحرم, وهو قول في مذهب الشافعية, واختاره جماعة منهم ورجحه النووي. القول الثاني: أنه يكره وهو قول في مذهب الحنفية, وهو مذهب مالك, وهو قول في مذهب الشافعية, وهو المشهور من مذهب الحنابلة وأخذ به المؤلف. القول الثالث: أنه جائز بلا كراهة, وهو قول في مذهب الحنفية, واختيار صاحبي أبي حنيفة، أبي يوسف ومحمد بن الحسن, وهو مذهب بعض الصحابة, وجماعة من التابعين. القول الرابع: أنه يجوز للمرأة دون الرجل وهو قول إسحاق بن راهويه واختاره الحليمي. واحتج القائلون بتحريم الصبغ بالسواد بما أخرجه مسلم عن أبي الطاهر، قال: أخبرنا عبد الله بن وهب، عن ابن جريج، عن أبي الزبير،

عن جابر - رضي الله عنه -، قال: أُتي بأبي قحافة يوم فتح مكة ورأسه ولحيته كالثَّغَامة بياضاً, فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد» (¬1) والثغامة هي نبت أبيض اللون, واحتجوا بما رواه أحمد وأبو داود وغيرهم، من طريق عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم، عن ابن جبير، عن ابن عباس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يكون قوم يصبغون بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة» (¬2) وحديث جابر السابق اختلف فيه, فأُعِلَّ بعدة علل: العلة الأولى: أن أبا الزبير نفى أن لفظة: «واجتنبوا السواد» من الحديث, فهذا الحديث يرويه عن أبي الزبير جماعة فيرويه زهير بن معاوية, وعزرة بن ثابت, وعبد الملك بن جريج, وليث بن أبي سليم, والأجلح, وأيوب السختياني, ومطر الوراق, وفي رواية زهير بن معاوية وعزرة بن ثابت: «غيروا هذا بشيء» وليس فيه «وجنبوه السواد» ¬

(¬1) أخرجه مسلم (رقم: 2102) وأبو داود (رقم: 4204) والنسائي (رقم: 5076) وابن ماجه (رقم: 3624) وأبو يعلى (رقم: 2831) وابن حبان (رقم: 5471). (¬2) أخرجه أبو داود (رقم: 4214) والنسائي (رقم: 9346) وأبو يعلى (رقم: 2603) وابن سعد (1/ 441) والبيهقي (رقم: 14601).

وفي رواية ابن جريج ومن طريقه أخرجه مسلم جاءت: «واجتنبوا السواد» وجاءت من طريق ليث بن أبي سليم, وليث ضعيف, ورواه عبد الرزاق من طريق أحمد. ورواية الأجلح عن أبي الزبير عن جابر فيها «وجنبوه السواد» رواه أبو يعلى, ولكن في الطريق إلى الأجلح شريك بن عبد الله القاضي, وشريك في حفظه شيء, ورواه أيضاً أيوب السختياني عن أبي الزبير عن جابر, ورواه أبو عوانة وإسناده صحيح, وكذلك رويت من طريق مطر الوراق وهي ضعيفة جداً, وفي إسنادها ابن الزبرقان وهو متروك ومطر الوراق ضعيف. وفي لفظ أحمد أن زهير بن معاوية قال لأبي الزبير: أقال أجنبوه السواد؟ قال: لا, ونفى أن تكون هذه الرواية من الحديث أصلاً. ويجاب عن هذه العلة بأن أبا الزبير مثله مثل أي راوٍ, فقد يكون يحدث بالشيء ثم ينساه، والمصحح عند أهل العلم أن التلاميذ إذا حفظوا عن شيخهم ما كان حدث به ثم نسي الشيخ ما حدث به أنهم يقبلون ما حدث به, بل إن بعض الشيوخ قد يجحد هذه الرواية, والعبرة بحفظ من حفظ من تلاميذه, وفيه مؤلف اسمه: "تذكرة المؤتسي فيمن حدث ونسي".

وحِفظُ من حَفِظَ عنه مقدم على هذا الإنكار, ولعل أبا الزبير كان يتردد, فمرة يذكرها ومرة ينفيها، وأجابوا أيضاً بإجابة أخرى فقالوا: إن ابن جريج كان يصبغ بالسواد, وهو الذي روى عن أبي الزبير, ولو كان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما صبغ. والجواب: أن ابن جريج ليس صحابياً ولا تابعياً، وإذا كنا نقول الصحابي إذا خالف ما روى يؤخذ بروايته لا برأيه, فكيف بمن دونه؟ وابن جريج تابع تابعي وروايته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - معضلة. وليس الأمر كما يقول بعضهم: إنها مدرجة, فالإدراج عادةً يكون من راوٍ في طريق واحدة, وهذه قد جاءت من عدة طرق، فالصواب أن يقال أن أبا الزبير يذكرها مرة وينفيها أخرى هكذا يقول المجيبون. ومن أدلة من قال إن هذه الزيادة محفوظة ما ذكره الخلال في كتاب الوقوف والترجل، قال: أخبرنا عصمة بن عصام، قال: حدثنا حنبل، قال: سمعت أبا عبد الله يقول وأكره السواد؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «وجنبوه السواد» وأيضاً فقد ثبت عن أحمد كراهة السواد, وأجيب عن قول أحمد بأجوبة: فيقال أن كراهية السواد عن أحمد صحيحة؛ لكن الكلام في ثبوت هذه اللفظة عنه؛ لأنها من طريق حنبل وكتاب "الوقوف والترجل"

مطبوع صغير للخلال, فإن حنبل يروي عن أحمد روايات لا يتابعه فيها أصحاب الإمام أحمد, بل يغلِّطه أيضاً بعض أصحاب أحمد, وقد غلطوه في عدة مسائل معروفة مشهورة، يعرفها من له نظر في مذهب أحمد - رحمه الله - وأيضاً فأحمد قد يذكرها تسمّحاً في المذاكرة، كما أن الإمام أحمد يقول بمقتضى أحاديث التسمية في الوضوء, والمشهور عنه أنه قال: لا يصح في هذا الباب شيء. ونوقش هذا بأننا لسنا بحاجة إلى هذا النقل عن أحمد فيكفينا ما تقدم. ومن الطعون على هذه الرواية أن البخاري قد عدل عن رواية جابر هذه أصلاً، ولم يخرجها في الصحيح, وأجيب بأنه يكفي أن الإمام مسلم أخرجها, وكم من حديث أخرجه مسلم وعدل عنه البخاري, وهو صحيح لا مطعن في صحته عند الحفاظ. وأما قولهم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أطلق الصبغ وقال: «وخالفوهم» وترك البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وقد صح عن جماعة من الصحابة الصبغ بالسواد؛ كالمغيرة بن شعبة، والحسن، والحسين، وجرير ابن عبد الله، وسعيد بن أبي وقاص، وعمر، وعثمان، وعقبة بن عامر، فأجيب

عنه بأن الإطلاق مقيد بحديث جابر - رضي الله عنه - والنقول عن الصحابة فيها كلام ولم يثبت؛ إلا عن عقبة بن عامر والحسن، ويبقى أن من صبغ من الصحابة لم يبلغه الخبر. واستدل المانعون أيضاً بحديث ابن عباس - رضي الله عنه - الذي ذكرناه قريباً: «يكون قوم يصبغون بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة» ومن الطعون في هذا الخبر: أن عبد الكريم الذي في هذا الإسناد هو عبد الكريم بن أبي المخارق, أبو أمية البصري الضعيف, وهذا الطعن سمْج فإن عبد الكريم الذي في الإسناد هو ابن مالك الجزري الثقة, المخرج له في الصحيح, والطعن الآخر أن هذا الخبر يُروى عن مجاهد من قوله, وأيضاً فهذا الطعن ليس بصحيح, فإن طريق مجاهد من قوله غير طريق عبد الكريم, فهذه الطريق محفوظة, وهناك طريقة أخرى وهي الطعن في متن هذا الحديث, فكيف يكون هذا الوعيد الشديد على الصبغ بالسواد؟ فالصبغ بالسواد شيء يسير, فكيف يستقيم أن يكون هذا الوعيد الشديد عليه؟ وهذا دلالة على نكارة الحديث, إذ كيف تكون المعصية يسيرة, والإثم عظيم؟ ومثله أن يكون العمل يسيراً والأجر عظيم جداً؟

وأجيب عنه بأن هذا له نظائر, فقد جاء في الإسبال ما جاء فيه بالتوعد عليه بالنار, وإذا كان خيلاء بعدم النظر إليه, وعدم الكلام من الله عز وجل, وعدم التزكية, وهو نظير مسألة الصبغ, بل هذا يكفي أنه مثله إن لم يكن أولى منه, وطعن في دلالة حديث ابن عباس أيضاً بأن الوعيد منصب على شيء آخر لقوم هذه صفتهم, وأن الوعيد منصب على أفعال لهؤلاء, إما لكفرهم وإما لفسقهم بكبائر, وصفتهم أنهم يصبغون بالسواد, فهذا الوعيد على شيء آخر, والصفة العارضة: كونهم يصبغون بالسواد كالتعريف والوصف لهم , مثل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تقاتلون قوماً نعالهم الشعر» (¬1) فلا يدل على تحريم الانتعال بنعال الشعر. وأجيب بأن ذكر الحكم بعد الوصف يدل على أنه علة له, فلم يكن يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الوصف؛ إلا لأنه هو المؤثر في الحكم, فيكون قوم يصبغون بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة, أي: بسبب الصبغ بالسواد, وطُعن في هذا الحديث أيضاً بأن يقال: كيف يكون هذا الوعيد العظيم للصحابة - رضي الله عنهم -؟ وقد فعلوه وفعله جماعة من التابعين؟ والإجابة أن نقول: لعله لم يبلغهم الخبر, فإن بلغهم الخبر فقد يكونوا تأولوا, بخلاف من بعدهم الذين يكثر فيهم الفساد, فمن خالف متأولاً ¬

(¬1) البخاري (رقم: 2770) ومسلم (رقم: 2912) وأبو داود (رقم: 4304) والترمذي (رقم: 2215) وقال: حسن صحيح. وابن ماجه (رقم: 4096).

غير من خالف راكباً للمعصية, فهذه خلاصة الكلام في مسألة الصبغ بالسواد وبعد هذه المناقشة. أقول الذي يتحرر لي أن ما وقع في مسلم من لفظه «وجنبوه السواد» غير محفوظ وأن أبا الزبير اضطرب فيها وأحسن المذاهب عندي في هذه المسألة ما ذهب إليه الزهري، ولم اذكره ضمن الأقوال الماضية وهو إباحته للشباب ومن في وجوههم ماء الشباب وكراهته للشيوخ الذين ظهر عليهم الِكبرُ .. وهذا مذهبٌ لا يضيق به صدر من نظر في الأدلة أو تفقه على طريقة الراسخين فلا يسأل: كيف يكون مكروهاً وما الدليل؟! وتأمل (على طريقة مسلم في تصحيحه) كيف جاء الخبر بالنهي عن الصبغ بالسواد لأبي قحافة وهو شيخ كبير جداً ففيها بيان أن مثل هذا لا يصلح له، فبقي من شاب وهو دون ذلك بكثير ولم ينقبض وجهه على الفسحة وهذه طريقة الزهري رحمه الله وما اخترنا والحمد لله رب العالمين. فائدة: خطر لي في تفسير حديث ابن عباس - رضي الله عنه - وماجاء فيه من الصبغ بالسواد. .كحواصل الحمام. . ما يفعله كثير من الناس الآن من حلق العارضين والإبقاء على الذقن مع تخفيفه وصبغه بالسواد الفاحم حتى إنك ترى عند سطوع الشمس عليه ألوانا عدة من الأحمر والأصفر

والأزرق والأخضر وغيرها, تماما كما تراه على حوصلة حمامة سوداء في ضوء الشمس, وإذا تأملت أصحاب هذه الهيئة حولك لاسيما أهل الترف والنفوذ, وتأملت أفعالهم وأحوالهم فستحمد الله كثيرا على نجاتك منهم ومن مجالسهم وبراءتك من أفعالهم فالحمد لله على ذلك. قوله: (ولا يجوز أن يخلو الرجل بامرأة ليست له بمحرم) لحديث ابن عباس - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: «لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم» (¬1) والحديث متفق عليه, وفي حديث عمر في سنن الترمذي وغيره وقال عنه: حديث حسن صحيح: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما» (¬2) وهذا من باب تحريم الوسائل؛ لأن الخلوة بالمرأة وسيلة إلى وقوع الفجور بها, وهذا أيضاً يكون من الذرائع. فإن الذرائع أحياناً تكون وسائل إلى وسائل أخرى محرمة, فإن الخلوة بالأجنبية وسيلة إلى تقبيلها ومباشرتها, وتقبيلها ومباشرتها سبيل ووسيلة ¬

(¬1) أخرجه البخاري (رقم: 4935) ومسلم (رقم: 1341). (¬2) أخرجه عبدالرزاق (رقم: 20710) وأبو داود الطيالسي (رقم: 31) والشافعي (رقم: 665) وأحمد (رقم: 177) وابن حبان (رقم: 5586) والنسائي (رقم: 9219) والترمذي (رقم: 2165) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، والحاكم (رقم: 387) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين.

إلى وقوع الفاحشة بها, فقد تحرم الوسيلة ووسيلة الوسيلة, فتكون ذريعةً قريبةً، وذريعةً بعيدةً, وكلمات عظمت الحرم وغلطت جاء النهي عن انتهاكها من وسائل وذرائع كثيرة قريبة وبعيدة وقد ذكر هذا الفقهاء عند كلامهم على الضرورات الخمس: النفس، الدين، العقل، العرض، المال ومن تأمل ذلك علمه، وهذا كله من محاسن الشريعة؛ أنه حمى المرأة عن الرجل الأجنبي, والرجل عن المرأة التي هي أجنبية عنه, فنهى عن الخلوة بها, والنظر إليها, ونهيت أن تضرب برجلها ليعلم ما تخفي من زينتها, ونهيت عن التطيب إذا خرجت, وغير ذلك, كله من أجل حمايتها، وأما دعاة الرذيلة والفساد، وهم منافقوا الوقت، فقد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر .. قاتلهم الله. قوله: (ولا يجتمع رجلان ولا امرأتان عريانين في فراش واحد، ولا إزار واحد. ولا يجوز تعمد حضور اللهو واللعب، ولا شيء من الملاهي المطربة؛ كالطبل، والزمر، وخص بذلك الدف للنكاح؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف» (¬1) ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 16175) قال الهيثمي (4/ 289): رجال أحمد ثقات. الترمذي (3/ 398، رقم 1089) وقال: غريب حسن. وابن ماجه (رقم: 1895) وابن حبان (رقم: 4066) والحاكم (رقم: 2748) وقال: صحيح الإسناد. والبيهقي (رقم: 14463) والضياء (رقم: 263) والبزار (رقم: 2214).

لما نهى عن اجتماع الرجل بالمرأة الأجنبية أتى بما هو أخص من ذلك من اجتماع الرجلين في فراش واحد, ولا إزار بينهما, أو امرأتان في فراش واحد, أو امرأة ورجل, وهذا الأخير ينقسم إلى قسمين: الأول: امرأة ورجل أجنبي وهذا أظهر من أن يُسأل عنه. الثاني: رجل وامرأة من المحارم. وقد أمر الشارع بالتفريق بين الصبية في المضاجع كما في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع» (¬1) وهذا الأمر يتضمن النهي عن الاجتماع في المضجع, بل يكون الفراش مختلفاً, وظاهره ولو مع وجود الملابس من الطرفين, سواءً كانا صبيين أو بنتين أو صبي وصبية, والبالغين من باب أولى؛ لأن هذا من وسائل الشر والفجور. ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 6689 و 6756) وأبو داود (رقم: 495).

فلا يجتمع رجل ورجل في فراش واحد عريانين، ولا يلبسان إزاراً واحداً، فتلتقي بشرتهما, وكذلك لا يجتمع امرأتان عريانتان في فراش واحد, ولا تلبسا إزاراً واحداً فتلتقي بشرتهما, وأفحش منه التقاء رجل بامرأة, سواءً كانت هذه من المحارم, كأخته أو عمته, أو كانت أجنبية, وهذا الأمر فيه أشد؛ إلا أنه يستثنى من هذا صورة واحدة كما هو معلوم, وهي اجتماع الرجل وأهله في فراش واحد، أو في لحاف واحد, أو في إزار واحد, وهذا كله من سد الوسائل المفضية إلى ما لا تحمد عقباه, وقد جاء في هذا الباب حديث رواه أحمد وأبو داود والنسائي والدارمي من حديث أبي ريحانة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن مكامعة الرجل الرجل بغير شعار، ومكامعة المرأة المرأة بغير شعار» (¬1) والمراد بالمكامعة: المضاجعة، يقال: لزوج المرأة كميعها، أي: ضجيعها, وقد جاء في النهاية: كمع فيه أنه نهى عن المكامعة, وهي أن ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 17248) أبو داود (رقم: 4051) والنسائي (رقم: 5091) وابن ماجه (رقم: 3655) والدارمي (رقم: 2648).

يضاجع الرجل صاحبه في ثوب واحد لا حاجز بينهما, والكميع الضجيع وزوج المرأة كميعها. (¬1) وحديث أبي ريحانة فيه اضطراب وفيه جهالة, فهو لا يثبت؛ لكن لاشك أنه يُنهى عنه لما تقدم. ويعلم مما تقدم أنه يجوز اجتماع الرجل مع الرجل إذا كان ليسا عريانيين, لاسيما إذا دعت الحاجة إلى ذلك, حتى لو كانا يلتصقان, وهذا عليه إزار أو قميص, وهذا عليه إزار أو قميص, وكذلك المرأتان تلتصقان للحاجة؛ كالزحام ونحوه وكذا الرجل مع بعض محارمه على وجه لا يكون فيه هتك حرمة أو وسيلة إليها، ولهذا يباح حمل الرجل لأخته مثلاً إذا أعيت ونحو ذلك من الحاجات وهذا ظاهر. أما بالنسبة لاضطجاع الرجل مع محارمه في فراش واحد فلا يجوز, ولو كان عليهما لباس, وأيضاً فلا يجوز للرجل أن ينام بجانب الرجل, في فراش واحد, وفي لحاف واحد؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى الصبية عن هذا فقال: «فرقوا بينهم في المضاجع» (¬2) ¬

(¬1) النهاية في غريب الحديث والأثر للجزري (4/ 361). (¬2) سبق تخريجه.

فإذاً, الصبي ابن عشر يعتبر مراهقاً, وقد يوجد منه إنزال, وقد يميل إلى صاحبه, وهذا بالنسبة للصبي والصبية, فكيف بالبالغين؟! فلا يجوز جمعهم في لحاف واحد, ولا في فراش واحد؛ إلا أن يقال أنه جائز للضرورة, فالضرورة تقدر بقدرها, لكن ينبغي أن ينفرد أحدهما عن الآخر ولا يكون التصاق. وأكمل الصفات أن ينفصل هذا بفراش وهذا بفراش, وهذا بلحاف وهذا بلحاف, وأكمل منه أن يُجعل للنساء والبنات مكان مستقل, وللصبية غرفة مستقلة ينامون فيها, بل هذا متحتم سداً لباب الفساد. قوله: (ولا يجوز تعمد حضور اللهو واللعب). اللهو واللعب جاءا في كتاب الله عز وجل, يُعطف هذا على هذا, وأحياناً يقدم اللعب, وأحياناً يقدم اللهو، ففي موضعين قد اللهو كما في الأعراف (51) والعنكبوت (64) وقدم اللعب في الباقي الأنعام (32) و (70) وفي محمد (36) والحديد (20) والملاهي تنقسم إلى قسمين: الأول: ملاهٍ جائزة. ... والثاني: ملاهٍ ممنوعة.

كما في حديث عقبة بن عامر الذي يُروى من غير وجه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «..... ليس من اللهو إلا ثلاث: تأديب الرجل فرسه وملاعبته أهله ورميه بقوسه ونبله، ومن ترك الرمي بعد ما علمه رغبة عنه فإنها نعمة تركها» أو قال: «كفرها» (¬1) والمراد باللهو هنا: هو كل شيء باطل ذاهب, إلا هذه الثلاثة, ومما جاء فيه اللهو المباح, اللهو بالدف في النكاح, وفي الأعياد كذلك. قوله - رحمه الله: (ولاشيء من الملاهي المطربة؛ كالطبل، والزمر) يعني هذا ممنوعٌ منه مطلقاً, وخص من ذلك الدف, فدل كلام المؤلف على أن الدف من الملاهي, فالأصل أنه من الملاهي, وهو كذلك, ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق (رقم: 21010) وابن أبي شيبة (رقم: 19779) وأحمد (رقم: 17375) وأبو داود (رقم: 2515) والترمذي (رقم: 1637) والنسائي (رقم: 3578) وابن ماجه (رقم: 2811) وسعيد بن منصور (رقم: 2450) والدارمي (رقم: 2460) والحاكم (رقم: 2467) وقال: صحيح الإسناد. والبيهقي (رقم: 19515) وفي رواية: «كل شيء يلهو به الرجل باطل؛ إلا رمي الرجل بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته أهله فإنهن من الحق» وقال: «من ترك الرمي بعد ما علمه فقد كفر الذي علمه».

فإن الدف آلة لهو لا شك، هو آلة لهو بالنصوص, لكن جاء استثناؤه في مواضع. استدل المؤلف بهذا الحديث فقد جاء بلفظ: «أعلنوا النكاح» (¬1) فقد رواه أحمد، والبزار، والطبراني، من طريق عبد الله بن وهب، قال: حدثني عبد الله بن الأسود القرشي، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وعبد الله بن الأسود، قال عنه أبو حاتم: (شيخ) , وذكره ابن حبان في الثقات, فالحديث فيه لين بهذا الإسناد, لكن له شاهد من حديث محمد بن حاطب الجمحي القرشي وهو صحابي صغير, وهو الذي وضع يده في القدر وهو صغير في المرق فاحترقت يده، وقرأ عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فشفي، فحديثه هذا أخرجه، أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، ولفظه: «فصلُ بين الحلال والحرام الدف والصوت في النكاح» (¬2) وجاء بلفظ (فُصل) بالضم. فهذا يدل على مشروعية الدف في النكاح, ومشروعية الإعلان, وكان هذا يُفعل في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - , وبحضرة ¬

(¬1) سبق تخريجه. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 16663) أحمد (رقم: 15489) والترمذي (رقم: 1088) وقال: حسن. والنسائي (رقم: 3369) وابن ماجه (رقم: 1896) والطبراني (رقم: 542) والحاكم (رقم: 2750) وقال: صحيح الإسناد. والبيهقي (رقم: 15090).

نسائه - صلى الله عليه وسلم - , والدف له وجه واحد, ويسمونه: (الطار) , وهذا يجوز عند جماهير أهل العلم, بخلاف الطبل؛ لأن الطبل له وجهان. مسألة: متى يجوز الدف؟ وما حكم الطبل؟ ذكرنا أن الدف من الملاهي, والأصل في الملاهي المنع؛ إلا أنه جاء في غير موضع في العهد النبوي, وأقر النبي - صلى الله عليه وسلم - ضربه في غير مكان. اختلف أهل العلم في ضرب الدف, على أقوال: القول الأول: يستخدم في كل فرح حادث؛ كالعيد, والختان, والعرس, وقدوم الغائب, وانتهاء البناء, والولادة, إلى غير ذلك, فكل فرح يحدث للناس فإنه يستخدم فيه الدف, وهذا أوسع الأقوال. القول الثاني: يستخدم في العيد والعرس والختان وقدوم الغائب. القول الثالث: يستخدم في العرس والعيد وقدوم الغائب. وهو مشهور مذهب الحنابلة, واختيار الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -. القول الرابع: أنه يستخدم في العيد والعرس فحسب, وهو اختيار شيخنا ابن باز - رحمه الله -.

وأما استخدامه بإطلاق فالصحيح أنه من آلات اللهو التي لا يجوز استخدامها بإطلاق, وإنما تجوز في مواضع. واختلفوا في هذه المواضع, ومن المواضع التي ثبت في السنة استخدامه فيها: الأول: العيد من ذلك حديث عائشة في الصحيحين، قالت: دخل علي أبو بكر، وعند النبي - صلى الله عليه وسلم - جاريتان تغنيان، أو تدففان في أيام العيد، فقال أبو بكر: - رضي الله عنه - أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «دعهما فإن لكل قوم عيداً» (¬1) وجه المنع في هذا الحديث ما سيأتي من الفوائد: الأولى: أن أبا بكر سمى الدف بمزمور الشيطان, فدل على أن الدف الأصل فيه المنع؛ لأنه سماه مزمور الشيطان وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذه التسمية، ولم ينكر عليه. الثانية: الدلالة على المنع من الدف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علل الحِل وإجازة الضرب في قوله: «فإن لكل قوم عيداً» و «إن» هنا من الحروف التي تفيد التعليل, يعني علّة الإباحة وجود العيد, فلو كان ضرب الدف جائزاً في كل ¬

(¬1) أخرجه البخاري (رقم: 909 و 3716) ومسلم (رقم: 892).

وقت, لما كان للتعليل به فائدة, وهذا الموضع شبه اتفاق بين أهل العلم في جواز ضرب الدف فيه. الثالثة من الفوائد: استحباب ضرب الدف به في العيد لما فيه من تمام الفرح للنساء خاصته. الثاني مما يباح فيه ضرب الدف: النكاح وقد جاء جواز الدف فيه وتقدم حديث محمد بن حاطب وما جاء له من شواهد ومن ذلك ما أخرجه البيهقي من طريق أبي عامر العقدي واسمه عبد الملك بن عمرو عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن عامر بن سعد البجلي قال: دخلت على قرظة بن كعب وأبي مسعود وذكر ثالثا قال عبد الملك: ذهب عليٌ، وجواري يضربن بالدف ويغنين فقلت تقرون على هذا وأنتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا إنه قد رخص لنا في العرسات. الثالث: الضرب في الختان وهذا لم أقف على خبر صحيح فيه, غاية ما في الأمر أنه روى البيهقي والطبراني وغيرهما من طريق ابن سيرين عن

عمر - رضي الله عنه -: كان إذا سمع صوتاً أو دفاً، قال: ما هذا فإن قالوا: عرس أو ختان صمت. (¬1) ولكن هذا لا يصح فإنه منقطع فإن ابن سيرين لم يدرك عمر فالصحيح أنه لا يضرب في الختان؛ لأن الأصل المنع حتى يثبت سبب الحل، فافهم. الرابع: في قدوم الغائب: فيه ما رواه أحمد والترمذي وغيرهما من طريق: حسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه: أنه حينما أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - من تبوك أتته امرأة، فقالت: إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف إن ردك الله سالماً، فقال: «إن كنت نذرت فاضربي؛ وإلا فلا تضربي» ¬

(¬1) أخرجه البيهقي (رقم: 15093) وأخرجه معمر بن راشد في جامعه (رقم: 338) سعيد بن منصور (رقم: 632) وابن أبي شيبة (رقم: 16659) وعبد الرزاق (رقم: 19738) وأورده البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة (رقم: 3152) وابن حجر في المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية (رقم: 1678) قالا: قَالَ مُسَدَّدٌ: حدَّثنا حماد، عن أيوب، عن ابن عمر، قال: إن عمر - رضي الله عنه - كان إذا سمع صوتًا فزع، فإذا قيل ختان أو عرس سكت. وأيوب السختياني لم يسمع من ابن عمر.

فأخذت تضرب فدخل أبو بكر وهي تضرب، ودخل عمر فوضعته، فرقا منه ووضعته تحت إستها (¬1)، وفي لفظ لأحمد، أن أمة سوداء .....» وهذا فيه الفرح بقدوم الغائب, ومنهم من خصه بقدومه - عليه الصلاة والسلام -؛ لأن قدومه ليس كقدوم غيره, وسلامته -بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم - ليست كسلامة غيره, ومنهم من قال: أنه في قدوم الولاة خاصة, ومنهم من قال: في قدوم كل غائب وهو الصحيح, في قدوم كل غائب يفرح به؛ كالإمام والعالم والزوج والزوجة والولد ونحوهم. ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 23011،23989) والترمذي (رقم: 3690) وابن حبان (رقم: 4386) وأخرجه أبو داود (رقم: 3314) والبيهقي (رقم: 20596) قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا الحارث بن عبيد أبو قدامة عن عبيد الله بن الأخنس عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن امرأة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف. قال: «أوفى بنذرك». قالت: إني نذرت أن أذبح بمكان كذا وكذا مكان كان يذبح فيه أهل الجاهلية. قال: «لصنم». قالت: لا. قال: «لوثن». قالت: لا. قال: «أوفي بنذرك». عبيد الله بن الأخنس وثقه أحمد وابن معين وروى له البخاري في كتاب الحج وكتاب الطب. والحارث بن عبيد أبو قدامة أخرج له مسلم وضعفه ابن معين مرة ووثقه (تاريخ أسماء الثقات لعمر الواعظ (رقم: 280) ووثقه عبد الرحمن بن مهدي بقوله: عندما سئل عنه، فقال: كان من شيوخنا وما رأيت إلا خيراً. وقال النسائي الحارث بن عبيد أبو قدامة ليس بذاك القوي، وقال ابن حجر في التقريب: صدوق يخطئ من الثامنة) والخلاصة: أنه يحتج به فيما يتابعه عليه الثقات. فهذا الحديث متابع من طريق حسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه. فهو إن شاء الله حديث حسن.

مباحث في ضرب الدف

مباحث في ضرب الدف المبحث الأول: شروط ضرب الدف. الشرط الأول: أن لا يكون مصلصلاً، وليس فيه حِلق ولا صنج, وهو مذهب جمهور القائلين بإباحة ضربه في هذه المواضع وقد صرحوا به, وهو اختيار شيخنا ابن باز - رحمه الله -. الشرط الثاني: أن الذي يلي ضربه هم النساء وليس الرجال, فإن الذي كان يضربه في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - الجواري والبنات الصغيرات والإماء, ولم يجيء في حديث قط أن الرجال كانوا يضربونه, بل كانت تضربه النساء في الأعراس والأعياد, وجمهور الأئمة الأربعة على كراهية ضربه للرجال, بل صرحوا بالمنع , قال مالك: إنما يفعله عندنا الفساق. وحكى جماعة من الأئمة: أنه إنما يفعله المخانيث وهم المتشبهون بالنساء فحينئذٍ يُقال: إن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أعلنوا النكاح» وزيادة قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فصل ما بين الحلال والحرام الدف والصوت في النكاح» (¬1) ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 15489) والترمذي (رقم: 1088) والنسائي (رقم: 3369) وابن ماجه (رقم: 1896).

وإن كان الخطاب عاماً لكن يُخصُّ به النساء, فمن قال: يضربه الرجال فعليه الدليل, ولا أعلم أحداً من السلف قال: أن الرجال كانت تضربه, لا في عهد الصحابة ولا من بعدهم, بل صرحوا بأنه من فعل الفسقة وأهل التخنث, فضربه من الرجال حتى في الصورة التي أبيح فيها يعد من التشبه بالنساء, ويتجه جواز ضربه للرجال في صورة واحدة وهي عند قدوم الغائب حسب ,وقد نص على ذلك شيخنا ابن عثيمين رحمه الله. وعُلِم بتصريح المؤلف: أن الطبل والزمر محرم, وهو كذلك, فالصحيح في الطبل أنه محرم, وهو مذهب أكثر أهل العلم, بل حكي الإجماع على ذلك وفيه أخبار عِدّة, فقد جاء في المسند من طريق: عمرو بن الوليد، عن عبد الله بن عمرو: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «إن الله عز وجل حرم الخمر والميسر والكوبة. . .» (¬1) وعمرو بن الوليد فيه جهالة, والحديث فيه اختلاف, ولكن له شاهد أيضاً عند أحمد من طريق علي بن بذيمة عن قيس بن حبتر قال: سألت ابن عباس عن الجرّ الأبيض .... الحديث إلى ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 6478) وأخرجه الطبراني (رقم: 127) والبيهقي (رقم: 20782) وأخرجه أبو داود.

قوله قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله حرم الخمر والميسر والكوبة، وكل مسكر حرام» (¬1) والكوبة: الطبل. وله شواهد أخرى, وهذا الإسناد الأخير قوي, فالصحيح أن الطبل محرم, وهو قول أكثر أهل العلم، وهناك من استثنى من الطبول, طبول الحرب, وطبول قدوم الغزاة, وطبول الحجيج عند قدومهم, والصحيح أنه لا استثناء في الطبل البتة, إنما جاء الاستثناء في الدفوف, والدفوف يتلاشى صوتها بسرعة لعدم التجويف والطول الذي يوجد في الطبول , وليس في صوتها نعومة وإطراب كما في الطبل. وأما بالنسبة للمزامير والمعازف ذوات الأوتار, فقد حكي الاتفاق على تحريمها, وممن حكاه جماعة من أهل العلم؛ كالقرطبي, وشيخ الإسلام, وابن حجر, والموفق, وجماعة كثيرون من أهل العلم. ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 2476) وأبو يعلى (رقم: 2729) ولفظه: عن قيس بن حبتر قال: سألت بن عباس - رضي الله عنه - عن الجر الأبيض، والجر الأخضر، والجر الأحمر، فقال: إن أول من سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - وفد عبد القيس، فقالوا: إنا نصيب من الثُّفْلِ فأي الأسقية، فقال: «لا تشربوا في الدباء، والمزفت، والنقير، والحنتم، واشربوا في الأسقية» ثم قال: «إن الله حرم علي، أو حرم الخمر والميسر والكوبة وكل مسكر حرام» قال سفيان: قلت لعلي بن بذيمة ما الكوبة. قال: الطبل.

وفيها أخبار عِدّة, منها حديث أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «يأتي زمان على أمتي يستحل فيه الحر والحرير والخمر والمعازف» وقد أخرجه البخاري (¬1) , وهو صحيح. ومن ذلك حديث قصة عبد الرحمن بن عوف, وحديث أنس يشد أحدهما الآخر: نهى عن صوتين أحمقين فاجرين صوت عند نعمة ولعب ومزامير الشيطان. (¬2) وقد صح ستة أو سبعة أحاديث في تحريم المعازف، وفي المزامير أيضاً حديث ابن عمر - رضي الله عنه - ¬

(¬1) وأبوداود وغيره وقد سبق تخريجه. ولفظه: «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير، والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم، يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم - يعني الفقير - لحاجة، فيقولوا: ارجع إلينا غداً، فيبيتهم الله، ويضع العلم، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة». (¬2) رواه أبو داود الطيالسي في مسنده (1/ 159منحة)، والبزار في مسنده (1/ 380 كشف)، وابن أبي شيبة في مصنفه (3/ 62)، وعبد بن حميد كما في المنتخب (1004)، وابن سعد في الطبقات (1/ 138)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 293)، والحاكم في المستدرك (4/ 40)، والبيهقي في السنن (4/ 69)، والحكيم الترمذي في المنهيات ص (42)، والآجري في ذم الملاهي ص (119)، والبغوي في شرح السنة (5/ 431)، كلهم من طرق عن ابن أبي ليلى به، وزاد نسبته في نصب الراية إلى مسند إسحاق وأبي يعلى.

الذي رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه: (¬1) يرويه نافع عن ابن عمر في قصة مزمارة الراعي وسد ابن عمر أذنيه وفعله كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - , فهذا الحديث ثابت عن نافع من غير وجه, ففيه تحريم المزامير, وكل ما يطرب, سوى ما استُثني. وهناك من أباح الموسيقى والغناء واستخدام آلاته, كابن حزم - رحمه الله - وقد طعن في حديث أبي مالك الأشعري, وقد غلط في هذا - رحمه الله - وخفي عليه حال الحديث, وضعّف ما جاء في معناه, وبعض الباحثين من المتأخرين ألف كتاباً في ذلك, وكان قد ألف قبل ذلك كتاب "أحاديث الغناء في الميزان", وصحح عدة أحاديث, منها حديث أبي مالك, فألف كتاباً آخر, فشرق بما ألف أولاً، والتزم صحة حديث أبي مالك, غير أنه قال: ليس فيه دلالة, غير أن فيه صفة قومٍ يُخسفُ بهم, وأن من صفاتهم أنهم كانوا على هذه الأشياء التي جاءت, ولكن ليس هذا وعيداً منصباً على ما كانوا يفعلون, إنما هم إما مشركون أو ما أشبه ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 4535) وأبو داود (رقم: 4926) وابن ماجه (رقم: 1901) والبيهقي (رقم: 21526) والطبراني (رقم: 11) ولفظه: عن نافع مولى ابن عمر: أن ابن عمر سمع صوت زمارة راع، فوضع إصبعيه في أذنيه، وعدل راحلته عن الطريق وهو يقول: يا نافع أتسمع، فأقول: نعم، فيمضي، حتى قلت: لا، فوضع يديه، وأعاد راحلته إلى الطريق، وقال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسمع صوت زمارة راع فصنع مثل هذا.

ذلك!! وهذا كله من التمحل والإفلاس في رد الأحاديث الصحيحة, وقد ردَّ عليه من رد, والمسألة معروفة, والأحاديث فيها صحيحة, والإجماع فيها متناقل, أو شبه إجماع. والحكمة في تحريمها ظاهرة, لما فيها من إفساد القلب, والتطلع إلى المحرمات, وفتح باب الشهوات, والإعراض عن قراءة القرآن والذكر, ومن ألِف قلبه الغناء والمزامير والطبول, ابتعد عن القرآن وسماع الذكر, وهذا واضح لا يشك فيه أحد. وقد قال أحد السلف: الغناء رقية الزنا. (¬1) وقال ابن القيم في نونيته: حُبُّ الكتاب وحُبُّ ألحان الغناء ... في قلب عبدٍ ليس يجتمعان. (¬2) ولا يوجد في قلب أحد حُبُّ الغناء وسماعه؛ إلا وينصرف عن سماع القرآن. ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (رقم: 55) عن الفضيل بن عياض. وعزاه السيوطي في الدر المنثور (6/ 506) لابن أبي الدنيا والبيهقي. (¬2) القصيدة النونية (1/ 80).

مسألة: حكم الضرب بالقضيب على غير الدف

وعُلم مما سبق أن حضور هذه المجالس محرم, وإن اشتملت عليها دعوة فلا يجوز إجابتها؛ إلا أن يكون يجيب وينكر, فإن لم يزل المنكر فلا يترخص بالقعود, فإن زال جاز له القعود. مسألة: الضرب بالقضيب أو بالأصابع على غير الدف, هناك من كرهه من أهل العلم, وهناك من منع منه, وهناك من أجازه, والصحيح: الجواز, فالضرب على الحديد والأخشاب, وما أشبه ذلك, سواء بالقضيب أو بالأصابع مباح؛ لأنه الأصل، ومن منع فعليه الدليل. مسألة: أما بالنسبة للعرضة فهي غير جائزة مادام أن فيها دفاً, ومنهم من أجازها إذا كانت عند قدوم ولي الأمر إذا كان فرحاً بقدومه. ومنهم من قال: أن الضرب بالدف مكروه؛ ولكن إن كان بنذر جاز فإنه - صلى الله عليه وسلم -، قال: «إن كنت نذرت فاضربي» فإذا نذر أن يضرب بالدف, فقد نذر مباحاً, فيلزمه, وإن لم ينذر فلا وفي التعليل, بكونه نذر أو لا! فيه نظر, والصحيح أنه مباح في هذا الموضع تأكد بالنذر , كالضرب عند قدوم الغائب، بل في الحديث إخبارٌ، عن أنه غير مرغوب فيه تلك الرغبة لقوله إن كنت نذرتي فاضربي وإلا فلا تضربي إذ لو كان مباحاً ومحبوباً لحل عند قدوم الغائب بدون نذر ويكون من حجج من قصر الضرب

على موضعين العيد والعرس: وتقدم الكلام فيه لكن يجاب على هذا المفهوم إما بالكراهة أوعدم رغبة المصطفى في سماعه - صلى الله عليه وسلم - ويستفاد ذلك من توجيهه لها (- صلى الله عليه وسلم - وحينئذ يقال إن ضرب الدف سُنَّة في موضعين ,ومباح في موضع , وهذا أحسن ما قيل. والمسألة السابقة وهي الضرب من غير آلة ضرب، كما لو ضرب على قدر، أو نحوه، قد جاء ما يدل عليها، فقد أخرج أحمد عن مَكِّي بن إبراهيم، حدثنا الجعيد، عن يزيد بن خصيفة، عن السائب بن يزيد: أن امرأة جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال يا عائشة: «أتعرفين هذه»؟ قالت: لا يا نبي الله، فقال: هذه قينة بني فلان, أتحبين أن تغنيك؟ قالت: نعم، قال: فأعطاها طبقاً، فغنتها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «قد نفخ الشيطان في منخريها» (¬1) وأخرجه النسائي في الكبرى (8960) من طريق مكي به مختصراً وهذا الإسناد بعينه وقع للبخاري في حديث أخرجه في كتاب الحدود فهذا إسناد صحيح وفيه الدلالة على جواز الضرب بقدر ونحوه مطلقاً، فالأصل الإباحة. ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 15758) قال الهيثمي (8/ 130): رجاله رجال الصحيح. والطبراني (رقم: 6686).

فصل: والتداوي بالحجامة والفصد والكي

فَصْلٌ وَالتَّدَاوِيْ بِالحِجَامَةِ وَالفَصْدِ وَالكَيِّ وَشُرْبِ الأَدْوِيَةِ جَائِزٌ. وَلَا يَجُوزُ التَدَاوِيْ بِمُحَرَّمٍ وَلَا نَجِسٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ كَرَاهَةُ الكَيِّ وَقَطْعِ العُرُوْقِ. وَالرِّوَايَةُ الأُوْلَى أَصَحُّ. اتفق العلماء على مشروعية التداوي، فمنهم من قال بالاستحباب وهو قول الجمهور ودليلهم حديث المرأة التي كانت تصرع وهو صارف عن الوجوب، وقد جاء عن بعض الصحابة ترك التداوي كما ثبت عن أبي بكر وأُبي بن كعب، وغيرهما. (¬1) وقد يجب في بعض الأحوال كما في قطع الآكلة التي تسري في الجسد فتقتله أو في مثل حسم الجروح النازفة والعروق المفتوحة حتى يبقى الدم في الجسد قال المؤلف: (والتداوي بالحجامة والفصد والكي وشرب الأدوية جائز) ¬

(¬1) انظر: الفتاوى لابن تيمية (21/ 564).

الحجامة في اللغة: حَجَمَهُ الحَاجِمُ حَجْمًا من باب قتل شرطه وهو: حَجَّامٌ أيضاً مبالغة واسم الصناعة، وحِجَامَةٌ: بالكسر القارورة. ومِحْجَمَةٌ: بكسر الأول، والهاء تثبت وتحذف، والمَحْجَمُ: مثل جعفر موضع. والحِجَامَةِ: ومنه يندب غسل المحَاجِمِ. (¬1) وقد جاء في الحجامة عدة أحاديث منها ما ثبت في الصحيحين من حديث جابر - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنْ كان في شيء من أدْوِيتكم خير، ففي شَرْطَةِ محجم، أو شَربةِ عسل، أو لَذْعَة بنار توَافِقُ الدَّاء، وما أُحِبُّ أن أكْتَويَ» وفي رواية: «إن كان في شيء من أدويتكم شفاء، ففي شرطة محجم أو لذعة بنار، وما أحِبُّ أن أكتويَ» (¬2) وفي الصحيحين من حديث أنس - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أفضل ما تداويتم به الحجامة والقسط البحرى فلا تعذبوا صبيانكم بالغمز» (¬3) فائدة: لم يثبت في توقيت الحجامة حديث، وأحسن ما جاء في ذلك في الربع الثالث من الشهر السابع عشر والتاسع عشر والحادي والعشرين. ¬

(¬1) المصباح المنير (1/ 123). (¬2) أخرجه البخاري (رقم: 5359) ومسلم (رقم: 2205). (¬3) أخرجه البخاري (رقم: 5371) ومسلم (رقم: 1577).

مسألة: كسب الحجام: عامة أهل العلم على أن الحجام إذا حجم استحق أجرة حجمه، هذا بالنسبة لإعطائه، واختلفوا بالنسبة لأخذه الأجرة، فمنهم من قال يحرم لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ثمن الكلب خبيث ومهر البغي خبيث وكسب الحجام خبيث» (¬1) فتسميته خبيثاً تقتضي تحريمه كتحريم مهر البغي. ومنهم من قال: لا يحرم وهو الراجح؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم كما في الصحيحين من حديث ابن عباس: احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأعطى الحجام أجره ولو كان محرماً لم يعطه. (¬2) ولو كان سحتاً لم يعطه إياه. وفي الصحيحين: عن حميد الطويل عن أنس - رضي الله عنه -: أنه سئل عن أجر الحجام، فقال: احتجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجمه أبو طيبة وأعطاه صاعين من طعام. (¬3) وقالوا ليس معنى خبيث أن يكون محرماً، فقد سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - الثوم والبصل خبيثتين مع إباحة أكلهما؛ لكنه يكره للحر كراهية تنزيه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن للحجام أن يطعمه الرقيق والبهائم، وقد روى أحمد في مسنده عن سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِى الزُّبَيْرِا عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنْ كَسْبِ الْحَجَّامِ فَقَالَ «اعْلِفْهُ نَاضِحَكَ، فدل على ¬

(¬1) أخرجه مسلم (رقم: 1568). (¬2) أخرجه البخاري (رقم: 2159) ومسلم (رقم: 1202). (¬3) أخرجه البخاري (رقم: 5371) ومسلم (رقم: 1577).

كراهية هذا الكسب، إلا أنه مع ذلك خير من سؤال الناس كما قال بعض السلف: كسب فيه دناءة خير من مسألة الناس. (¬1) والفَصْد: فَصْد العِرْق؛ فَصَدَ يفصِد فَصْداً وفِصاداً، وكذلك فَصْدُ الناقةِ، إذا قُطِع عِرق منها فاستُخرج دمه ليُشرب، وذلك الدم يسمّى المجدوح. والفصيد المفصود واحد. والمِفْصَد: الحديدة التي يُفصد بها، وربما سُمّي الدم فَصيداً. (¬2) والفصد: هو شق العرق بالطول، ويشبه التبرع، وهو: استفراغ كلي يستفرغ الكثرة، والكثرة هي تزايد الأخلاط على تساويها في العروق. والحجامة تنقي سطح البدن أكثر من الفصد، والفصد لأعماق البدن أفضل، والحجامة تستخرج الدم من نواحي الجلد. قال ابن القيم: والتحقيق في أمرها وأمر الفصد، أنهما يختلفان باختلاف الزمان، والمكان، والأسنان، والأمزجة، فالبلاد الحارة، والأزمنة الحارة، والأمزجة الحارة التي دم أصحابها في غاية النضج الحجامة فيها أنفع من الفصد بكثير، فإن الدم ينضج ويرق ويخرج إلى سطح الجسد الداخل، فتخرج الحجامة ما لا يخرجه الفصد، ولذلك كانت أنفع للصبيان من ¬

(¬1) انظر: الفتاوي (30/ 192) وزاد المعاد (5/ 700). (¬2) جمهرة اللغة لابن دريد (2/ 127).

الفصد، ولمن لا يقوى على الفصد، وقد نص الأطباء على أن البلاد الحارة الحجامة فيها أنفع وأفضل من الفصد، وتستحب في وسط الشهر، وبعد وسطه. وبالجملة، في الربع الثالث من أرباع الشهر؛ لأن الدم في أول الشهر لم يكن بعد قد هاج وتبيغ (من البغي) (¬1)، وفي آخره يكون قد سكن. وأما في وسطه وبعيده، فيكون في نهاية التزيد. (¬2) والكي: هو إحراق جزء من الجسد بشيء حمّي على النار. والكي أيضا نوعان: النوع الأول: إذا كان الشفاء من المرض بالكي محتملاً وليس محققاً. أو كان الجرح الذي يتركه الكي أكبر من المرض، أو وجد دواء يصار إليه قبل الكي، فيكره لأنه من باب التعذيب بالنار، وكذلك كي الصحيح لئلا يعتل، فهذا الكي ينهي عنه. (¬3) أما إذا كان الكي سبباً في حصول الشفاء، ككي الجرح إذا فسد ونزف وككي العضو إذا قطع، فالكي هنا واجب؛ خاصة إذا لم توجد طريقة للاستشفاء غير الكي؛ والنبي - صلى الله عليه وسلم - اكتوى للجرح الذي أصابه في ¬

(¬1) زيادة من عندي للتوضيح. (¬2) زاد المعاد (4/ 49). (¬3) قال الحافظ ابن حجر: والنهي فيه محمول على الكراهية أو على خلاف الأولى لما يقتضيه مجموع الأحاديث -فتح الباري (10/ 155) ش ح (5704).

أُحُد، فقد أحرقت فاطمة - رضي الله عنها - حصيراً فحشت به جرحه. (¬1) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن كان في شيء من أدويتكم خير ففي شرطة محجم أو شربة عسل أو لذعة بنار توافق وما أحب أن أكتوي» (¬2) وجاءت نصوص الكي على أوجه متعددة: الوجه الأول: فعله - صلى الله عليه وسلم - فقد كوى النبي - صلى الله عليه وسلم - سعد بن معاذ - رضي الله عنه -، (¬3) وروي أنه كوى أسعد بن زرارة، (¬4) وبعث إلى أبي بن كعب طبيباً فقطع له عرقاً، ثم كواه عليه. (¬5) ¬

(¬1) أخرجه البخاري (رقم: 5722) ومسلم (1790) والترمذي (2092). (¬2) أخرجه أحمد (رقم: 14742) والبخاري (رقم: 5359) ومسلم (رقم: 2205) من حديث جابر - رضي الله عنه -. (¬3) أخرجه مسلم (رقم: 2208) وأبو داود (رقم: 3868) والترمذي (رقم: 1582). (¬4) أخرجه الترمذي (رقم: 2050) وقال: حسن غريب، وقال ابن أبي حاتم في العلل (رقم: 227): قال أبي هذا خطأ، أخطأ فيه معمر، إنما هو الزهري، عن أبي أمامة بن سهل أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كوى أسعد، مرسل. وأخرجه أحمد (رقم: 23255) بإسناد حسن عن أبي الزبير عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬5) أخرجه أحمد (رقم: 14302) ومسلم (رقم: 5796) وأبو داود (رقم: 3864) وابن ماجه (رقم: 3493).

الوجه الثاني: كراهته - صلى الله عليه وسلم - للكي ففي الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «وما أحب أن أكتوي» وعند أحمد وغيره من حديث عقبة بن عامر: «وأنا أكره الكى ولا أحبه» (¬1) الوجه الثالث: الثناء على تاركه، ففي حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب، قال - صلى الله عليه وسلم -: «فإذا سواد عظيم فقيل لى هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب قيل من هم يا رسول الله قال الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون» (¬2) الوجه الرابع: النهي عنه، ففي الصحيح: «الشفاء في ثلاثة في شرطة محجم أو شربة عسل أو كية بنار وأنا أنهى أمتي عن الكي» (¬3) قال ابن القيم في الهدي: ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 17353) وأبو يعلى (رقم: 1765) والطبراني في الكبير (رقم: 796) وفى الأوسط (رقم: 9339). (¬2) أخرجه أحمد (رقم: 2448) والبخاري (رقم: 5420) ومسلم (رقم: 220) والترمذي (رقم:2446) والنسائي (رقم:7604) من حديث ابن عباس. (¬3) أخرجه البخاري (رقم: 5373).

ولا تَعَارُض بينها بحمدِ الله تعالى، فإنَّ فِعلَه يدلُّ على جوازه، وعدمَ محبتِه له لا يدلُّ على المنع منه. وأما الثناءُ على تاركِه، فيدلُّ على أنَّ تَرْكَه أولى وأفضلُ. وأما النهيُ عنه، فعلى سبيل الاختيار والكراهة، أو عن النوع الذي لا يُحتاجُ إليه، بل يفعل خوفاً من حدوث الداء .. والله أعلم (¬1). قال المؤلف: (ولا يجوز التداوي بمحرم .....) والتداوي بالمحرم إما أن يكون بالخمر أو بغيره من المحرمات، فأما الخمر فجمهور أهل العلم على تحريم التداوي به، وفي صحيح مسلم: «إنها ليست بدواء ولكنها داء» (¬2) وأما غير الخمر فاختلف العلماء في التداوي به على قولين: القول الأول: الجواز، وهو مذهب الأحناف والشافعية وابن حزم. القول الثاني: المنع، وهو مذهب أحمد ومالك. ¬

(¬1) زاد المعاد في هدي خير العباد - (4/ 66). (¬2) أخرجه أحمد (رقم: 18882) ومسلم (رقم: 1984) وأبو داود (رقم: 3873) والترمذي (2046) وابن ماجه (رقم: 3500).

واستظهر بعضهم جواز التداوي بغير الخمر من المحرمات عند الضرورة، لكن بشروط: 1 - أن يكون به حاجة ملحة. 2 - أن لا يوجد غيرها يقوم مقامها. 3 - أن يحصل به غلبة الظنّ بالشفاء.

فصل: ومن رأى من الحيات شيئا في منزله

فَصْلٌ وَمَنْ رَأَى مِنَ الحَيَّاتِ شَيْئًا فِي مَنْزِلِهِ فَلْيُؤْذِنْهُ ثَلَاثًا، إِنْ بَدَا لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ قَتَلَهُ. وَقَدْ قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ - رضي الله عنه - إِنْ كَانَ ذُو الطُفْيَتَيْنِ وَالأَبْتَرُ قَتَلَهُ، وَلَمْ يُؤْذِنْهُ. وَذُوْ الطُّفَّتَيْنِ: الَّذِيْ بِظَهْرِهِ خَطٌّ أَسْوَدٌ. وَالأَبْتَرُ: الغَلِيْظُ القَصِيْرُ الذَّنَبِ. وَصِفَةُ القَوْلِ الَّذِيْ يُؤذِنُهُ: اِمْضِ بِسَلَامٍ، أَوِ اِذْهَبْ بِسَلَامٍ. وقول المؤلف: (ومن رأى من الحيات ..... أو اذهب بسلام) قال ابن عبد القوي في منظومته. وقتلك حيات البيوت ولم تقل ... ثلاثاً له اذهب سالماً غير معتد وذا الطفيتين اقتل وأبتر حيةٍ ... وما بعد إيذانٍ يُرى أو بفدفدِ. (¬1) فمما ينهى عن قتله حيات البيوت، إذا لم تنذرها ثلاثاً ولم تقل: اذهب سالماً غير معتد. ¬

(¬1) منظومة الآداب لابن عبد القوي بشرح الحجاوي (صـ 303_304).

بعض العلماء يرى أنه لا يجوز قتل حيات البيوت؛ إلا بعد إنذارها في أي مكان. وبعضهم يقول: إن هذا خاص بالمدينة، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن جناً بالمدينة قد أسلموا» والجن منهم من يكون على هيئة حيات، ومنهم من يكون على هيئة السحالي، ومنهم من يطيرون، ومنهم من يحلون ويظعنون مثل أهل البادية. فما دامت الجن تتمثل بالحيات والكلاب، فلابد من إنذار الحية قبل قتلها، علماً بأن الكلب الأسود شيطان فيقتل مباشرة ومعنى شيطان أي شيطان جنسه لكثرة خبثه لا أنه شيطان حقيقة، نعم، قد يتشكل الجن بصورته لكن الحديث المراد به الأول، لكن الحية قد تكون جناً مسلماً، وقد تكون جناً كافراً، وقد تكون حية أفعى حقيقية. فقالوا: إن حيات البيوت تنذر إذا وجدت في بيوت المدينة للحديث، وبعضهم قال: لا تقتل الحيات العوامر التي تسكن البيوت في أي بيتٍ وفي أي مدينةٍ، إذا وجدها لا يقتلها مباشرة، وإنما يُنذرها. وصفة الإنذار أن يقول: أُحرّج عليك بالله أن تخرجي، ثلاثاً واختلف العلماء في معنى ثلاثاً التي جاءت في الحديث، هل هي ثلاثة أيام، أو هي

ثلاث مرات، هل ينذرها ثلاثة أيام كل يوم يقول: أحرج عليك بالله أن تخرجي، أي: أقسم عليك بالله أن تخرجي وتتركي بيتنا مثلاً؟ إن كان جناً مسلماً فسيغادر، وإن لم يغادر فهو شيطان فاقتله، هكذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -. لكن اختلفوا هل هي ثلاثة أيام أو ثلاث مرات؟ والصحيح الثلاث المراد عدد مرات التحريج. ولو قال قائل: هل أنتظرها حتى تذهب وتدخل في متاع البيت ولا أدري أين تذهب، وقد تكون أفعى عادية وليس لها علاقة بالجن، فهل أتركها؟ نقول له: أنتَ لست ملزماً بإبقائها في البيت، لكن منهي عن قتلها فقط، حتى تحرج عليها، إذا وجدتها بعد ذلك فاقتلها ولا حرج. وجاء أن رجلاً من شباب الأنصار كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، في غزوة الخندق وأراد أن يذهب إلى أهله - وكان حديث عهد بعرس - فأذن له النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمره أن يأخذ معه سلاحه، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «خذ عليك سلاحك فإني أخشى عليك قريظة» فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع، فإذا امرأته بين البابين قائمة، فأهوى إليها الرمح ليطعنها به، وأصابته غيرة، فقالت له: اكفف عليك رمحك، وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني، فدخل فإذا بحية

عظيمة منطوية على الفراش، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به، ثم خرج فركزه في الدار، فاضطربت عليه، فما يدري أيهما كان أسرع موتا الحية أم الفتى؟ قال أبو سعيد راوي الحديث: فجئنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرنا له وقلنا ادع الله يحييه لنا، فقال: «استغفروا لصاحبكم» ثم قال: إن بالمدينة جناً قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئاً، فآذنوه ثلاثة أيام، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه، فإنما هو شيطان» (¬1) .. هذا الحديث صريح بأنه ينذر ثلاثة أيام وقد أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد لكن يظهر لي أنه من فهم الراوي وإلا المراد ثلاث مرات, والأصول تعضد ذلك, فإن الغاصب والصائل والمعتدي يجب أن ينزع عن مظلمته فورا, وإلا وجبت عقوبته. وهناك حيات تقتل مباشرةً سواء أكانت في البيت أو خارج البيت، وهي: ذو الطفيتين: وهو نوع معين من الحيات له خطان على ظهره، خطان متوازيان، قيل خطان أبيضان، وقيل خطان أسودان، هذا يسمى ذا الطفيتين، يُقتل مباشرة لا يُنذر ولا يُمهل. ¬

(¬1) أخرجه مسلم (رقم: 2236).

والأبتر: عظيم النهاية، والحيات تكون في العادة غليظة من فوق والمنتصف، وفي نهايتها تدق حتى يكون لها ذنبٌ أو ذيلٌ دقيق، أما الأبتر فكأنه مقطوع الذنب، فهو من جهة الذنب في النهاية غليظ؛ كأنه مقطوع الذيل، فهذا يقتل مباشرة؛ وذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام قال في حديث في الصحيحين: «اقتلوا الحيات واقتلوا ذا الطفيتين والأبتر فإنهما يطمسان البصر ويستسقطان الحبل» (¬1) أي: أن المرأة تسقط الولد الذي في بطنها بمجرد رؤيته، وكذلك يلتمسان البصر، قيل: إنه بمجرد النظر إليه يُعمي، وقيل: إنه يستهدف بصر الإنسان عند اللسع، ففيه قوةٌ سمية تسبب العمى، وقيل إنه ينفث سماً من غُدده السمية التي في نابيه على وجه الشخص وعينه فإذا أصاب السم العين أصابها بالعمى، ونظراً لضرره، ولأن الجني المسلم لا يتمثل بهذا النوع فإنه يقتل مباشرةً. والفدفد: هي الفلاة، فالحيات في الفلاة تقتل مباشرة، لا يلزم تحريج ولا قسم ولا شيء، فالحكم إذاً بالتحريج خاصٌ بحيات البيوت، ويستثنى من حيات البيوت ذو الطفيتين والأبتر. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (رقم: 3123) ومسلم (رقم: 233).

وقد ورد في صفة التخريج ما أخرجه أبو داود في سننه من طريق ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنْ حَيَّاتِ الْبُيُوتِ فَقَالَ «إِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُنَّ شَيْئًا فِي مَسَاكِنِكُمْ فَقُولُوا أَنْشُدُكُنَّ الْعَهْدَ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْكُنَّ نُوحٌ أَنْشُدُكُنَّ الْعَهْدَ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْكُنَّ سُلَيْمَانُ أَنْ لاَ تُؤْذُونَا فَإِنْ عُدْنَ فَاقْتُلُوهُنَّ». وفي هذا الإسناد ضعف من أجل محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى فإنه سيء الحفظ.

فصل: ويجوز قتل الأوزاغ

فَصْلٌ وَيَجُوْزُ قَتْلُ الأَوْزَاغِ. وَلَا يَجُوْزُ قَتْلُ النَّمْلِ، وَلَا تَخْرِيْبُ أَجْحُرَتِهِنَّ. وَيُكْرَهُ قَتْلُ القَمْلِ بِالنَّارِ. وَلَا يَحِلُّ قَتْلُ الضَفَادِعِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ قَتْلِ الضِّفْدَعِ. الأوزاغ: جمع وزغ، وفي الصحيحين ورد تسميته بالفويسقة. وحكم قتل الدواب ينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما أُمر بقتله، مثل: الحية والعقرب والوزغ ... وكل ما آذى يقتل. فائدة: يكره قتل الوزغ باليد. القسم الثاني: ما نُهي عن قتله، مثل: النحل والنمل والهدهد والصرد، وفي الصحيحين قصة النبي الذي أحرق وادي النمل، قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «قَرَصَت نملةٌ نبيّاً من الأنبياء، فأمرَ بقَريةِ النَّملِ فَأُحْرِقَت، فأوحى اللهُ إِليهِ: أَنْ قرَصَتْكَ نَملةٌ أَحرَقْتَ أُمَّة مِن الأُممِ تُسبِّح؟».

وفي رواية، قال: نزل نبيّ من الأنبياء تحت شجرة، فلدَغَته نملة فأمر بجَهَازهِ فأُخرج من تحتها، ثم أَمرَ ببيتها فأُحرقَ بالنار، فَأوحَى اللهُ عز وجل إليه: «فهَلا نملة واحدة؟». وزاد النسائي: «فإِنهنَّ يُسبِّحن» (¬1) وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، من حديث ابن عباس: أنه نهى عن قتل أربع من الدواب النملة والنحلة والهدهد والصرد. (¬2) وفي إسناده اختلاف، والاقرب أنه حسن. إلا أنه يستثنى منه النمل الذي عرف عنه الأذى؛ فإنه يقتل ابتداءً القسم الثالث: ما سكت عنه، وهذا القسم يترك، فلله حكمة في خلقه، وقد أمر الله النبي نوحاً بأن يحمل من كُلٍّ زوجين اثنين، وهذا فيه استبقاء لحياته، ولو أراد الله إعدامه بعد خلقه أولاً لأمر نبيه نوحاً بأمر خاص بحمل كذا وترك كذا .. وإن ربك حكيم عليم. وقول المؤلف: (ويكره قتل القمل بالنار ...) ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 9218) البخاري (رقم: 2856) ومسلم (رقم: 2241) وأبو داود (رقم: 5268) والنسائي (رقم: 4358) وابن ماجه (رقم: 3225). (¬2) أخرجه عبد الرزاق (رقم: 8415) والدارمي: 1999) وأحمد (رقم: 3067) وأبو داود (رقم: 5267) وابن ماجه (رقم: 3224).

يُفهم منه جواز قتل غير القمل بالنار، وهذا ليس بصحيح، بل يحرم قتل القمل وغيره بالنار لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، قال - صلى الله عليه وسلم -: «فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار» (¬1) قال المؤلف: (ولا يحل قتل الضفادع؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن قتل الضفدع) نعم، يحرم قتل الضفدع بجميع أنواعه حتى السام منها، والتعليل: ما جاء عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: كانت الضفدع تطفىء النار عن إبراهيم وكان الوزغ ينفخ فيه فنهي عن قتل هذا وأمر بقتل هذا. (¬2) إسناده صحيح. وجاء أيضاً عند عبد الرزاق في المصنف من قول ابن عمرو - رضي الله عنه -، قال: لا تقتلوا الضفدع فإن صوتها الذي تسمعون تسبيح وتقديس. (¬3) وإسناده ثابت. ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 3476)، وأخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 33816) والبزار (رقم: 2009) (عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تعذبوا بالنار فإنه لا يعذب بالنار إلا ربها». (¬2) أخرجه عبد الرزاق (رقم: 8392). (¬3) أخرجه عبد الرزاق (رقم: 8418) وابن أبي شيبة (رقم: 24178).

وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمنوا الضفدع، فإن صوته الذي تسمعون تسبيح وتقديس وتكبير، إن البهائم استأذنت ربها في أن تطفىء النار عن إبراهيم، فأذن للضفادع، فتراكبت عليه، فأبدلها الله بَحرّ النار الماء» (¬1) وإسناده واه وفي قتل الأوزاغ أخبار ثابتة، فعن أم شريك - رضي الله عنه - قالت: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الوزغ وسماه فويسقاً وقال: كان ينفخ النار على إبراهيم (¬2). وعند مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعاً، «من قتل وزغاً في أول ضربة فله مئة حسنة .....) الحديث (¬3) ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق (رقم: 8393). (¬2) أخرجه البخاري (رقم: 3180) ومسلم (رقم: 5981). (¬3) أخرجه مسلم (رقم: 5984).

فصل: ولا يجوز إخصاء البهائم

فَصْلٌ وَلَا يَجُوْزُ إِخْصَاءُ البَهَائِمِ، وَلَا كَيُّهَا بِالنَّارِ لِلْوَسْمِ. وَتَجُوْزُ المُدَاوَاةُ حَسْبَ مَا أَجَزْنَا فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ قوله: (فصل: ولا يجوز إخصاء البهائم .... في الروايتين) أما الإخصاء فهو (سَلُّ الخصية) من الذكور, فهذا فيه خلاف بين أهل العلم فمنعه جماعة, واحتجوا بما رواه أحمد في مسنده وابن أبي شيبة في مصنفه عن وكيع، عن عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر رضي - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن إخصاء الخيل والبهائم» (¬1) وهذا الخبر لا يصح. والصحيح في هذا الخبر أنه موقوف على ابن عمر - رضي الله عنه -؛ كما أخرجه مالك (¬2) عن نافع عن ابن عمر موقوفاً عليه, وكذلك روي النهي عن إخصاء البهائم من حديث ابن عباس عند البزار والبيهقي (¬3) ولا يصح. ¬

(¬1) أخرجه ابن أبى شيبة (رقم 32526) أخرجه أحمد (رقم: 4769). (¬2) أخرجه مالك (رقم: 2729). (¬3) أخرجه البيهقي (رقم: 20287 و 20291).

وقد روي عن عمر - رضي الله عنه - النهي موقوفاً عليه عند عبد الرزاق, ولفظه أنه كتب إلى سعد - رضي الله عنه -: أن لا يخصى فرس. (¬1) قال البيهقي: ومتابعة قول ابن عمر وابن عباس مع ما فيه من السنة النبوية أولى ... إلى أن قال: ويحتمل جواز ذلك - أي جواز إخصاء البهائم - إذا اتصل به غرض صحيح؛ كما حكينا عن التابعين، وروينا في كتاب الضحايا، في تضحية النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشين موجوءين لما فيه من تطييب اللحم. (¬2) وممن ذكر الخلاف القرطبي في تفسيره، (¬3) وقال ابن مفلح في الآداب: ويباح خصي الغنم لما فيه من إصلاح لحمها وقيل يكره. (¬4) ونقل عن أحمد كراهة ذلك, وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري بعد ما ذكر الحديث الذي رواه أبو داود من حديث جابر، قال: ذبح ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق (رقم: 8442) وابن أبي شيبة (رقم: 33246). (¬2) السنن الكبرى للبيهقي (رقم: 20293). (¬3) تفسير القرطبي (5/ 390). (¬4) الآداب (3/ 268).

رسول الله كبشين أقرنين أملحين موجوئين. قال الخطابي: الموجوء يعني: منزوع الخصيتين, ويفيد اللحم طيباً, وينفي عنه الزهومة وسوء الرائحة. (¬1) وفي هذا بحثٌ قرأته على شيخنا ابن باز - رحمه الله - ثم قال بعد نهاية البحث: الصحيح أنه جائز إذا كان للمصلحة (¬2). والمصلحة في إخصاء البهائم تتضمن شيئين، وهما: 1 - منع الذكور فيما بينهما من المقاتلة والعضاض. 2 - تطييب اللحم وإبعاد الزهومة عنه، وقطع الرائحة عنه. وعند هذا ينبغي أن يكون بأقل ما يمكن من الإيلام؛ لأن من منع الخصاء، قال: لما فيه من الإيلام للحيوان. ولكن نقول: ليس كل إيلام للحيوان ممنوع, فإن الحيوان قد يُضرب للمشي, وقد يُركب عليه, ويحصل له المشقة بذلك, وقد يكوى بالنار للوسم كما سيأتي, وما أشبه ذلك. فالإيلام اليسير الذي فيه مصلحة للإنسان لا بأس به, ومن ذلك شق السنام والإشعار في الهدي, ومن يلي الخصاء ينبغي أن يكون حاذقاً فيقوم به على وجه لا يحصل به ضرر عظيم، وهنا مسألة مشهورة عند أهل ¬

(¬1) فتح الباري (10/ 10). (¬2) انظر نفح العبير (2/ 29).

الإبل وهي مسألة (التضيير) وصورتها فيما بلغني أن بعض الإبل تموت بعد ولادتها , ويعيش ولدها فيحتاج إلى لبن ناقة أخرى فيعمد إلى ناقة فيكتم نفسها , وتحشى أرحامها بشيء , ثم يخرج منها , ويلقى بين يديها الحوار الذي ماتت أمه , ويفك عن مناخرها فتظن أنها ولدته فتشمه وتدر عليه وينتفع ملاكها بلبنها , والذي يظهر لي جوازه بشرط ألا تربو مفسدته أو يكون ألمه أعظم من ألم الكي أو الإشعار كما هو في الهدي , أو خصاء البهائم كما تقدم , فإذا جاز الإشعار وهو شق سنام الإبل , وجاز الكي والخصاء ,جاز نظيره إن كان لمصلحة , وإلا فلا. قوله: (ولا كيها بالنار للوسم) الوسم: هو الكي بالنار, وأن تُجعل لها سمة, والوسم منقلبة عن واو, والصحيح جواز وسم الدواب, وقد قال البخاري في صحيحه: "باب وسم الإمام إبل الصدقة"، (¬1) ثم أسند عن أنس - رضي الله عنه - وفيه: فوافيته وفي يده الميسم يسم إبل الصدقة. (¬2) ¬

(¬1) صحيح البخاري (2/ 546). (¬2) أخرجه البخاري (رقم: 1431و1502).

وفي لفظ للبخاري: فرأيته يسم شاة حسبته في أذنها. (¬1) وقد ذكره أيضاً في: "باب الوسم والعلم في الصورة", (¬2) والمراد بالصورة الوجه, وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كره أن تعلم الصورة؛ كما في حديث ابن عمر - رضي الله عنه - , (¬3) ثم كان الأمر على جواز الوسم في غير الصورة, وفي حديث جابر عند مسلم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الضرب في الوجه وعن الوسم في الوجه. (¬4) وعنده من حديث ابن عباس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى حماراً قد وسم في وجهه فأنكر ذلك", وفي لفظ له قال: «لعن الله الذي وسمه» (¬5) والخلاصة في مسألة وسم الدواب بالنار، أنه يجوز بشروط: 1 - أن يكون هناك حاجة, مثل أن يعرف الحيوان, ويميز مثلاً إبل الصدقة عن إبل الجهاد، أو إبل الناس. 2 - أن يكون الوسم في غير الوجه؛ لأن الوسم في الوجه حرام, ولذلك لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وسم الحمار في وجهه ونهى عن ذلك. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (رقم: 5222). (¬2) صحيح البخاري (5/ 2105). (¬3) أخرجه البخاري (رقم: 5221). (¬4) أخرجه مسلم (رقم: 2116). (¬5) أخرجه مسلم (رقم: 2117 و 2118).

3 - أن يكون الوسم بمقدار الحاجة, بقدر ما يحرق الشعر, ويفضي إلى الجلد ولا يتجاوزه إلى العظم, ويسمه وسماً واضحاً لا يذهب، وقد كان يلي الوسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكذلك أصحابه رضوان الله عليهم من بعده, وعلى هذا يكون ما ذكره صاحب المتن ليس بسديد.

فصل: ويكره إزالة الأوساخ في المساجد

فَصْلٌ وَيُكْرَهُ إِزَالَةُ الأَوْسَاخِ فِي الْمَسَاجِدِ كَتَقْلِيْمِ الأَظْفَارِ، وَقَصِّ الشَارِبِ، وَنَتْفِ الإِبِطِ، وَالعَمَلِ وَالصَنَائِعِ؛ كَالخِيَاطَةِ، وَالخَرَزِ، وَالحَلَجِ، وَالتِّجَارَةِ، وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ؛ إِذَا كَثُرَ. وَلَا يُكْرَهُ ذَلِكَ إِذَا قَلَّ مِثْلُ رَقْعِ ثَوْبٍ، أَوْ خَصْفِ نَعْلٍ، أَوْ تَشْرِيْكِهَا إِذَا انْقَطَعَ شِسْعُهَا. قوله: (ويكره إزالة الأوساخ في المساجد ..... إذا انقطع شسعها). استقرت العناية بالمساجد في الشريعة الإسلامية ,وتظاهرت بذلك الأخبار , فقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتطييبها, وأثنى على من كان يلي تنظيفها, بل في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فقد امرأة كانت تقم المسجد, فقالوا: ماتت, فقال: «دلوني على قبرها» (¬1) ثم أتى وصلى عليها تكرمة لها. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (رقم: 458) ومسلم (رقم: 956).

ونهى عن البصاق فيها, واستفاضت الأخبار في النهي عن ذلك, بل قد باشر عليه الصلاة والسلام إزالة البصاق وحكه بيده الشريفة , وكان قد أمر بتخليقها بزعفران, وكان السلف يجمِّرون المساجد ويطيبونها, ونُدِب إلى ذلك, حتى قال شيخ الإسلام في الفتاوى في المجلد الثاني والعشرين قال: والمسجد يصان حتى عن القذاة التي في العين. (¬1) واشتهر عند الناس خبر لا يثبت, أن قمامة المسجد مهور الحور العين, وهذا لا يصح، (¬2) ولمّا بال رجل في المسجد قال - صلى الله عليه وسلم -: «أهريقوا على بوله ذنوبا من ماء» ثم قال: «إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من قذر الناس» وكما قال - صلى الله عليه وسلم -: «إنما هي لذكر الله، والصلاة، وقراءة القرآن» (¬3) وأنكر أصحابه على من بال في المسجد. ¬

(¬1) مجموع الفتاوى لابن تيمية (22/ 202). (¬2) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (2/ 113): رواه الطبراني في الكبير وفي إسناده مجاهيل. (¬3) أخرجه أحمد (رقم: 7786) والبخاري (رقم: 5777) ومسلم (رقم: 284 و 285) وأبو داود (رقم: 380) والترمذي (رقم: 147).

وفي حديث عائشة - رضي الله عنها - الذي في السنن (وفي إسناده مقال): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أن تُبنى المساجد في الدور وأن تطيب. (¬1) والدور المراد بها الأحياء، فلا يكون فيها شيء من قلامة الأظفار, ولا تقص فيها الشعور, ولا تعمل فيها الصنائع، بل تصان عما هو أولى من ذلك, كالبيع والشراء, وقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا رأيتم الرجل يبتاع في المسجد فقولوا لا أربح الله تجارتك» (¬2) غير أنه لا يكره إذا قل شيء من ذلك, كرقع الثوب, أو خصف النعل, أو تشريكها إذا انقطعت, فهذا لا بأس به؛ لأنها أعمال يسيرة لا تنافي حرمة المسجد. ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 26429) وأبو داود (رقم: 455) والترمذي (رقم: 594) وابن ماجه (رقم: 759). (¬2) أخرجه عبد الرزاق (رقم: 1725) والنسائي (رقم: 10004) الترمذي (رقم: 1321) وقال: حسن غريب. والدارمي (رقم: 1401) وابن خزيمة (رقم: 1305) وابن حبان (رقم: 1650) والحاكم (رقم: 2339) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.

فصل: وبر الوالدين واجب

فَصْلٌ وَبِرُّ الوَالِدَيْنِ وَاجِبٌ، سُئِلَ الإِمَامُ أَحْمَدُ - رضي الله عنه - عَنْ بِرِّ الوَالِدَيْنِ، أَفَرْضٌ هُوَ؟ فَقَالَ: لَا أَقُوْلٌ فَرْضٌ، وَلَكِنَّهُ وَاجِبٌ. وَلَا يَجُوْزُ طَاعَتُهُمَا فِي مَعْصِيَةِ اللهِ تَعَالَى، كَذَلِكَ نَصَّ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوْقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ تَعَالَى)). قوله: (وبر الوالدين ...... «لا طاعة لمخلوق في معصية الله تعالى») وبر الوالدين لا شك أنه فرض , ولعل الإمام أحمد - رحمه الله - توقف لعارض, وإلا فقد قرن الله جل وعلا برهما بطاعته وعدم الإشراك به, حيث قال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (¬1) وفي الآية الأخرى قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (¬2) وأما الأخبار في بر الوالدين في السنة النبوية فهي مستفيضة. ¬

(¬1) الإسراء: 23. (¬2) النساء: 36.

ويمكن أن نقسم طاعة الوالدين إلى أقسام: 1 - أن يأمره الوالدان بما يجب لله؛ كأن يأمره الوالدان بصلاة الفريضة فهذا واجب لا إشكال فيه. 2 - طاعته في ترك ما حرم الله؛ كأن يأمره والداه بترك محرم, فلا إشكال في وجوب الطاعة هنا أيضاً. 3 - طاعته في المستحب؛ كأن يأمره أبوه بفعل المستحب, كما لو أمره بفعل الصلاة النافلة فهذا الأصل فيها الوجوب. 4 - إذا أمره بترك مكروه وعدم فعله فهذا الأصل فيها وجوب الامتثال. 5 - إذا أمره بأمر مباح, فاختلف أهل العلم في ذلك هل يجب على الولد الطاعة أم لا؟ فقيل الوالد يطاع في كل شيء ليس معصية، وقال ابن مفلح: (¬1) ولا يجوز لوالد منع ولده من حج واجب, ولا تحليله منه, ولا يجوز للولد طاعته فيه, وله منعه من التطوع كالجهاد. فدل على أنه لا يجوز له سفر مستحب بلا إذن وهو ظاهر ما ذكره الشيخ في بحث مسألة الجهاد, قال: ويتوجه, ويستحب استئذانه, فإن ظن أنه ينضرُّ به وجب، وأنه - أي الاستئذان - واجب للجهاد، لأنه يُراد ¬

(¬1) الفروع في (5/ 228).

للشهادة بخلاف غيره, ففرق الأصحاب بين السفر له ولغيره في مسألة المدِين. قال: ولا يجوز تحليله منه لوجوبه بشروعه. وقال أحمد في الفرض: إن لم تأذن لك أمك وكان عندك زاد وراحلة فحج ولا تلتفت إلى إذنها واخضع لها ودَارِها. قال: ويلزمه طاعة والديه في غير معصية ويحرم فيها, ولو أمره بتأخير الصلاة ليصلي به أخّرها, نص على ذلك كله, قال في المستوعب وغيره: ولو كانا فاسقين. وهو إطلاق كلام أحمد, وقال شيخنا - يعني ابن تيمية-: هذا فيما فيه نفع لهما, ولا ضرر عليه, فإن شق عليه ولم يضره وجب, وإلاّ فلا. ثم قال: وإنما لم يقيده أبو عبد الله لسقوط فرائض الله بالضرر, وعلى هذا بنينا تملكّه من ماله, فنفعه كماله, فليس الولد بأكثر من العبد. إلى أن قال: ونقل أبو الحارث فيمن تسأله أمه شراء ملحفة للخروج, إن كان خروجها في بر وإلا فلا يعنيها على الخروج, ونقل جعفر: إن أمرني أبي بإتيان السلطان، له عليّ طاعة؟ قال: لا, فيحتمل في هذا، والذي قبله أنه وسيلة ومظنة في المحرم فلا مخالفة لما سبق وظاهرهما المخالفة وأنه لا طاعة إلاّ في البر.

إلى أن قال: ونقل المرُّوذي: ما أحب أن يقيم معهما على الشبهة لأنه - صلى الله عليه وسلم -، قال: «من ترك الشبهة فقد استبرأ لدينه وعرضه» (¬1) ولكن يداري, فظاهره لا طاعة في مكروه, ونقل غيره فيمن تعرِضُ عليه أمه شبهة يأكل؟ فقال: إن علم أنه حرام بعينه فلا يأكل, وقال أحمد: إن منعاه الصلاة نفلاً يداريهما ويصلي, فظاهره لا طاعة في ترك مستحب, وقال: إن نهاه أبوه عن الصوم لا يعجبني صومه، ولا أحب لأبيه أن ينهاه, فظاهره: لا تجب طاعته في تركه, وذكر صاحب المحرر وتبعه ابن تميم: لا يجوز منع ولده من سنة راتبة, وأن مثله المكتري والزوج والسيد. إلى أن قال: وقوله ندب إلى طاعة أبيه، وقال أحمد فيمن يتأخر عن الصف الأول لأجل أبيه: لا يعجبني هو يقدر أن يبر أباه بغير هذا. وقال في الغنية: يجوز ترك النوافل لطاعتهما بل الأفضل طاعتهما, والمسألة مذكورة في الآداب الشرعية نحو ثلث الكتاب. والله أعلم. والذي يتحرر لي في هذه المسألة أن طاعة الوالد في المباح فيه تفصيل, أن الوالد يطاع فيما كان للوالد فيه نفع وغرض صحيح ولا ضرر على الولد. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (رقم: 52) ومسلم (رقم: 1599).

وعُلم من هذا أنه إذا كان الوالد ينهى عن شيء ليس له فيه نفع ولا غرض صحيح, وللولد فيه مصلحة أو نفع - دنيوي أو ديني-, كما لو نهاه عن السنن الرواتب, أو عن الصيام النافلة, وليس للوالد نفع في ترك الولد ذلك, وليس على الولد ضرر في فعل ذلك فحينئذٍ الأقرب هو الرواية الثانية عن أحمد أن له أن يصوم, ولكن يداري الوالد, ويقول لهما قولاً ميسوراً. مثال: لو أمره أبوه بطلاق زوجته وليس للوالد غرض صحيح في ذلك, والغرض الصحيح كأن تكون المرأة سليطة اللسان, أو أنها متهمة في دينها, وما أشبه ذلك فحينئذٍ لا ينفذ أمر الوالد, ويحمل على الغرض الصحيح ما رواه أبو داود بإسناد صحيح، عن ابن عمر - رضي الله عنه -، قال: كان تحتي امرأة أحبها, وكان عمر يكرهها, فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: إن تحتي امرأة أحبها وإن أبي يأمرني بطلاقها, فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أطع أباك» (¬1) ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 19397) وأحمد (رقم: 4711) وأبو داود (رقم: 5140) والترمذي (رقم: 1189) وابن ماجه (رقم: 2088) وابن حبان (رقم: 426) والحاكم (رقم: 2798) وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.

وقد أتى الإمام أحمد رجل، فقال: إن تحتي امرأة وأبي يأمرني بطلاقها, فقال له الإمام أحمد: لا تطع أباك. فقال الرجل: أليس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر ابن عمر أن يطيع عمر في تطليقه زوجته؟ قال الإمام أحمد: إن كان أبوك مثل عمر فطلقها. (¬1) فعُلم أنه لا يطاع الأب ولا الأم في طلاق الزوجة متى كانت الحال مستقيمة, وليس للوالد في ذلك غرض صحيح, وللابن في زوجته نفع, وعلى هذا يتحقق ما ذكره شيخ الإسلام كما نقله عنه ابن مفلح، والله أعلم. ¬

(¬1) طبقات الحنابلة للحنبلي (1/ 169) دار المعرفة.

فصل: ويكره الاتكاء على يسرى يديه

فَصْلٌ وَيُكْرَهُ الاتِّكَاءُ عَلَى يُسْرَى يَدَيْهِ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ. وَيُكْرَهُ الجُلُوْسُ بَيْنَ الشَّمْسِ وَالظِّلِّ. قوله: (ويكره الاتكاء على يسرى ....... الشمس والظل) ذكر المؤلف كراهية الاتكاء على اليسرى من وراء ظهره, والأصل في هذه المسألة ما أخرجه أبو داود, ومن طريقه البيهقي في السنن وفي الآداب, وأحمد، وابن حبان، والطبراني في المعجم الكبير، والحاكم, كلهم من طريق عيسى بن يونس، قال: حدثنا جريج عن إبراهيم بن ميسرة، عن عمرو بن الشريد بن سويد، عن أبيه، قال: مر بي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا جالس هكذا وقد وضعت يدي اليسرى, واتكأت على إلية يدي فقال: «أتقعد قِعدة المغضوب عليهم» (¬1) ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 19472) وأبو داود (رقم: 4850) وابن حبان (رقم: 5674) والطبراني (رقم: 7242) والحاكم (رقم: 7703) وقال: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي. والبيهقي (رقم: 6131).

وهذا الإسناد إسناد لا بأس به, وبوب عليه أبو داود في آخر سننه في كتاب الآداب: "باب في الجلسة المكروهة" (¬1) وأخرجه عبد الرزاق, ومن طريقه ابن حزم في المحلى من طريق ابن جريج عن إبراهيم بن ميسرة: أنه سمع عمرو بن الشريد يخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يقول في وضع الرَّجُلِ شماله إذا جلس في الصلاة: «هي قعدة المغضوب عليهم» (¬2) وهذه الرواية فيها إرسال، فإن عمرو بن الشريد يخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - , وفي الخبر الأول يخبر عن أبيه الشريد بن سويد, وعمرو تابعي, وهناك إشكال آخر في هذه الرواية أنها في الصلاة،. وقد اختلف العلماء في هذه الِجلسة - وهي وضع اليد اليسرى خلف الظهر والاعتماد عليها. إلية اليد: هي اللحمة التي في أصل الإبهام وأصل الكف. ¬

(¬1) سنن أبي داود (4/ 413). (¬2) أخرجه عبد الرزاق (رقم: 3057).

فالذي يظهر لي أن هذه الجلسة إنما نهي عنها في الصلاة فقط, لوجوه: الوجه الأول: ما أخرجه أبو داود وأحمد وتمّام في فوائده والبيهقي في سننه وابن حزم في المحلى وعبد الرزاق عن معمر عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر قال: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمد على يديه. (¬1) وأخرجه الحاكم ومن طريقه البيهقي من طريق هشام بن يوسف عن معمر عن إسماعيل بن أمية به، ولفظه: نهى رجلاً وهو جالس معتمد على يده اليسرى في الصلاة فقال: «إنها صلاة يهود» (¬2) فهذه الطريق فيها ذكر الاعتماد على اليد اليسرى, وفيها تفسير المغضوب عليهم بأنهم اليهود، فالصحيح في تفسير المغضوب عليهم كما سيأتي أن المراد بهم اليهود, وأيضاً فقد أخرجه أبو داود واللفظ له ومن طريقه البيهقي من طريق هشام بن سعد عن نافع: أن ابن عمر - رضي الله عنه - رأى ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 6347) وأبو داود (رقم: 994) وابن خزيمة (رقم: 692) وتمام في فوائده (رقم: 1674). (¬2) أخرجه الحاكم (رقم: 1007) وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. والبيهقي (رقم: 2921).

رجلاً يتكئ على رجله اليسرى وهو قاعد في الصلاة ساقطاً على شقه الأيسر، فقال: لا تجلس هكذا فإن هكذا يجلس الذين يعذبون. (¬1) ورواه أيضاً عن هشام زيد بن أبي الزرقاء وابن وهب وجعفر ابن عون وإسناده لا بأس به. وهشام بن سعد فيه كلام يسير, وفيه لين, وأصح رواياته ما كان عن زيد بن أسلم, فإنه مولاه وتربى في حجره, ورواه عن هشام أيضاً محمد بن عبد الله بن الزبير, كما عند أحمد فرفعه، والموقوف أصح؛ فإنه رواه عن هشام زيد بن أبي الزرقاء وابن وهب وجعفر بن عون فوقفوه. وأخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني نافع عن ابن عمر رأى رجلاً جالساً معتمداً على يديه، فقال: «ما يجلسك في صلاتك جلوس المغضوب عليهم؟» (¬2) كالمستفهم. وأخرجه أيضاً عبد الرزاق: عن ابن عيينة، عن محمد بن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنه -: أنه رأى رجلاً جالساً معتمداً بيده على الأرض، فقال: إنك جلست جلسة قوم عذبوا. (¬3) ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (رقم: 993). (¬2) أخرجه عبد الرزاق (رقم: 3055). (¬3) أخرجه عبد الرزاق (رقم: 3056).

فهذه الروايات تفيد أن النهي في الصلاة, فيحمل المطلق على المقيد, لا سيما مع اتحاد الحكم والسبب, فالحكم أنها جلسة المغضوب عليهم, والسبب أنه يضع يده اليسرى خلف ظهره. فهنا يجب حمل المطلق على المقيد. ومما يدل على هذا ويوضحه أنه وصف من يفعلها بأنه من المغضوب عليهم, وهذا يطابق اللفظ في حديث الشريد بن سويد, فإنه وصف المغضوب عليهم, والمراد بهم اليهود, كما في قوله بالفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} (¬1) وقد جاءت الآثار في تفسيرها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - , وعن التابعين ومن بعدهم, بأن اليهود مغضوب عليهم, والنصارى ضالون. وأيضاً مما يدل على ذلك التصريح من ابن عمر بأن المغضوب عليهم هم اليهود, وهذه جاءت في لفظ صحيح كما تقدم, من حديث هشام ¬

(¬1) الفاتحة: 1 - 7.

بن يوسف عن معمر, وأيضاً أن هذا معدود من التشبه باليهود في صلاتهم, فنهي عنه لذاته, ومما يؤيد الخصوصية بالصلاة أن الأصل إباحة الجلوس في خارج الصلاة, وقد قال البخاري في صحيحه في كتاب الاستئذان "باب الجلوس كيفما تيسر". (¬1) ومن قال بالعموم، قال: إن هذه الجلسة ممنوعة مطلقاً, واحتج بأن النبي - صلى الله عليه وسلم -، خاطب الشريد, فكيف يخاطب رجلاً يصلي, ونقول: قد جاءت عدة أحاديث فيها خطاب المصلي والإنكار عليه, في قصة الرجل الذي صلى وكان يصلي النافلة والصلاة تقام, فقال: «يوشك أحدكم أن يصلي الصبح أربعاً» (¬2) وقال: «أصلاتان معاً» (¬3) فخطاب المصلي والإنكار عليه ليس فيه إشكال, وقالوا أيضاً أن الروايات الصحيحة للحديث ليس فيها ذكر الصلاة, فلم يجيء التقييد إلا في رواية مرسلة, وتقدم الجواب عليه, وقالوا ¬

(¬1) صحيح البخاري (8/ 63). (¬2) أخرجه البخاري (رقم: 632) ومسلم (رقم: 711). (¬3) أخرجه الحميدي (رقم: 868) وأحمد (رقم: 24161) وأبو داود (رقم: 1267) وابن ماجه (رقم: 1154) والترمذي (رقم: 422) وابن خزيمة (رقم: 1116) من حديث قيس بن عمرو الأنصاري. وأخرجه ابن خزيمة (رقم: 1126) والضياء (رقم: 2182) من حديث أنس، وأخرجه أبو يعلى (رقم: 5985) من حديث أبي هريرة، وأخرجه الطحاوي (رقم: 3475).

أيضاً إن أبا داود قد ترجم له: "الجلسة المكروهة", (¬1) في كتاب الأدب, ولم يذكرها في كتاب الصلاة ... وممن اختار العموم أيضاً شيخنا ابن باز - رحمه الله - واللجنة الدائمة والشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - فهم يرون أن المنع في هذه الجلسة منع مطلق, والذي يظهر لي ما تقدم, وهذا اختيار الشيخ ناصر الدين الألباني - رحمه الله - في السلسة الضعيفة, وأن المنع فيها إنما هو في الصلاة فقط. والحكمة ظاهرة لأجل التشبه، فإن قال قائل: إذا نهي عن هذا في الصلاة ألا يكون من التشبه بهم في خارج الصلاة؟ نقول: لا, ليس بلازم, فإنه قد يُنهى عن الشيء في الصلاة فقط, ولا يُنهى عنه خارج الصلاة, فقد نُهي عن الاختصار في الصلاة, ولم ينه عنه خارج الصلاة, وقد قالت عائشة - رضي الله عنها: «إنها صلاة اليهود» (¬2) يعني يختصرون يضعون أيديهم على خواصرهم, فقد ينُهى عن الشيء في الصلاة ولا ¬

(¬1) سنن أبي داود (4/ 413). (¬2) أخرجه البخاري (رقم: 3271): ولفظه: عن مسروق عن عائشة- رضي الله عنها: كانت تكره أن يجعل يده في خاصرته، وتقول: إن اليهود تفعله. وعبد الرزاق (رقم: 3338) ولفظه: عن مسروق قال: نهت عائشة أن يجعل الرجل أصابعه في خاصرته في الصلاة كما تصنع اليهود. وابن أبي شيبة (رقم: 4634) عن مسروق، عن عائشة: أنها كرهت الاختصار في الصلاة، وقالت: لا تشبهوا باليهود.

فائدة فقهية في الاتكاء عند القيام في الصلاة

ينهى عنه خارج الصلاة, وقد يُخبَر عن الشيء بأنه يفعله الكفرة في عباداتهم أو صلاتهم, فلا يكون منهياً عنه خارج الصلاة, وهذا هو الأقرب. وهذه الصفة الخاصة فيها محذوران: الاعتماد على اليد وهذه الهيئة الخاصة فجاء النهي عنهما، وإذا اعتمد على يده اليمنى في الصلاة, فإنه منهي عنه أيضاً, فالواجب أنه يجلس, ولأن المعتمد في الجلوس في الصلاة حكمه حكم المضطجع عند أهل العلم, فلو أن إنسان كان يصلي وفي التشهد اعتمد على إحدى يديه أو استند إلى شيء خلفه فحكمه حكم المضطجع. مثال: لو كان إنسان يصلي وهو قائم واعتمد خلفه على سارية, بحيث لو أزيلت السارية لسقط, فهذا عند أهل العلم مخل بالقيام, تارك لركن القيام, فلابد أن يصلُب للقيام ويعتمد, حتى يكون هناك تكليف, فمثله من يعتمد على يديه, إلا إذا كان مريضاً أو محتاجا لها, فهذا شيء آخر. وإذا كان خارج الصلاة فتزول الكراهية إذا اعتمد على كلتا يديه خلف ظهره، أو أعتمد على يمينه خلف ظهره، أو على يمينه جهة يمينه،

قوله: (ويكره الجلوس بين الشمس والظل)

أو على يساره جهة يساره، ولا يشمل النهي خارج الصلاة؛ إلا صفة واحدة وهي الاعتماد على اليسرى خلف الظهر (على القول الآخر). وظاهر الحديث أيضاً أن هذه الجلسة محرمة, ليست مكروهة؛ لأن التشبه الأصل فيه التحريم, وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من تشبه بقوم فهو منهم» (¬1) قوله: (ويكره الجلوس بين الشمس والظل). جاء في ذلك عدة أخبار, فمنها حديث بريدة الذي أخرجه ابن أبي شيبة، ومن طريقه ابن ماجه، عن زيد بن حباب، عن أبي المنيب العتكي, عن ابن بريدة -وهو عبدالله بن بريدة- عن أبيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يقعد بين الظل والشمس» (¬2) وأبو المنيب هو عبيد الله بن عبد الله العتكي, (¬3) والصحيح أنه حسن الحديث, ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 114 و 5667) وعبد بن حميد (رقم: 848) وأبو داود (رقم: 4031). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 25728) وابن ماجه (رقم: 3722). (¬3) وقال أبو حاتم: هو صالح الحديث وأنكر على البخاري إدخاله في كتاب الضعفاء وقال يحول. وسئل يحيى بن معين عن عبيد الله بن عبد الله أبى المنيب، فقال: ثقة. الجرح والتعديل لعبد الرحمن ابن أبي حاتم (رقم: 1529) وأيضاً وثقه عباس بن مصعب، والنسائي، وقال الحاكم أبو عبد الله: ثقة يجمع حديثه. وقال أبو داود: ليس به بأس، وقال ابن عدي: هو عندي لا بأس به، انظر: التهذيب: (7/ 27) وقال البخاري: عنده مناكير. وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه. وقال النسائي أيضاً: ضعيف. الضعفاء: (رقم: 66) وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالقوي عندهم. التهذيب، وقال ابن حبان: ينفرد عن الثقات بالأشياء المقلوبات. انظر: المجروحين: (2/ 64) وقال البيهقي: لا يحتج به. التهذيب (رقم: 54). والخلاصة: أن الحاصل أنه صدوق يخطئ لا بأس به.

قال في الزوائد: إسناده حسن. (¬1) ومنها أيضاً ما أخرجه أحمد في المسند عن بهز، وعفان، قالا: حدثنا قتادة، عن كثير بن أبي كثير، عن أبي عياض، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يجلس بين الضَّحِّ والظل، وقال: «مجلس شيطان» (¬2) ¬

(¬1) وقال البوصيري في مصباح الزجاجة لشهاب (2/ 42): هذا إسناد حسن أبو المنيب اسمه عبيد الله بن عبد الرحمن - وهذا خطأ فهو ابن عبد الله كما قال شيخنا أبو محمد عبد الله - العتكي المروزي مختلف فيه، ورواه - أي الحديث - الحاكم في المستدرك من طريق أبي المنيب به ورواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك من طريق عيسى بن أبي حازم عن أبيه. (¬2) أخرجه أحمد (رقم: 15459) قال الهيثمي (8/ 60): رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح، غير كثير بن أبي كثير، وهو ثقة.

وأخرجه الحاكم (¬1) أيضاً من طريق عبد الله بن رجاء الغداني دون قوله: «مجلس شيطان» وسمى الصحابي المبهم -الذي هو رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - سماه أبا هريرة, لكن التسمية هنا غير محفوظة؛ لأن بهز بن أسد العمي وعثمان بن الصفار خالفا عبد الله بن رجاء, فالصحيح أن الصحابي مبهم, وفي إسناده مقال. ويشهد لهذا الخبر ما أخرجه أحمد أيضاً عن عفان قال: حدثنا عبد الوارث، حدثنا محمد بن المنكدر، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «إذا كان أحدكم جالساً في الشمس فقلصت عنه فليتحول من مجلسه» (¬2) وهذا فيه انقطاع بين ابن المنكدر وأبي هريرة, وأخرجه كذلك أبو داود (¬3) والحميدي (¬4) والبيهقي (¬5) , واختُلف في رفع هذا الحديث ووقفه. ¬

(¬1) أخرجه الحاكم (رقم: 7710) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي: صحيح. (¬2) أخرجه أحمد (رقم: 8964) والبزار (رقم: 8809). (¬3) أبو داود (4821). (¬4) الحميدي (1138). (¬5) البيهقي (رقم: 6134) من طريق عبد الرزاق (19799).

مسألة: في النهي عن الجلوس بين الشمس والظل

وقد أخرج ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن عبدالله بن عمرو -رضي الله عنهما- أنه قال: القعود بين الظل والشمس مقعد الشيطان. (¬1) وأخرج أيضاً ابن أبي شيبة عن وكيع، عن شعبة، عن قتادة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى عن الجلوس بين الظل والشمس. (¬2) وهذا مرسل صحيح, يعني: مرسل إلى قتادة, وهو صحيح إلى قتادة, وقتادة تابعي, وجاء أيضاً هذا الحديث موقوفاً على أبي هريرة, وأيضاً فقد صححه الإمام أحمد وإسحاق بن راهوايه, كما في مسائل المروزي, وقال الإمام أحمد عن حديث الصحابي المبهم: "إسناده جيد", نقله عنه المنذري. مسألة: هل النهي عن الجلوس بين الشمس والظل للكراهة أو التحريم؟ بمجموع هذه الطرق الخبر لا بأس به, والذي يظهر لي أنه يكره كراهية شديدة, أو يحرم لأمور: ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 26478). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 26479) ولكن رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقتادة تابعي صغير فيحتمل أن يكون أسقط غير الصحابي وكما قالوا: أن أوهى المراسيل قتادة والحسن والزهري لأنهم من صغار التابعين فيحتمل أن تكون روايتهم معضلة. وقتادة أيضاً من المدلسين من الطبقة الثالثة، كما قال الحافظ. تعريف أهل التقديس بمن رمي بالتدليس (ص63و146 (.

أولاً: نسبته إلى الشيطان, وهذا جاء في كلام عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - الصحيح عنه, وفي رواية الحاكم من طريق عبد الله بن رجاء الغداني, وفيه ذكر مجلس الشيطان, ولها شواهد في المعنى يأتي إن شاء الله ذكرها, وقد قال الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} (¬1) ثانياً: أنه يضر بالجسم, خصوصاً إذا اعتاده الإنسان, قال ابن القيم: (¬2) والنوم في الشمس يثير الداء الدفين، ونوم الإنسان بعضه في الشمس وبعضه في الظل رديء. ثالثاً: وأيضاً فهو منافي للعدل بين الجوارح, فإما أن يكون جميع البدن في الشمس, أو في الظل, وهذا من كمال الشريعة, ولهذا نُهي عن المشي في نعل واحدة, كما في الصحيحين (¬3) من حديث مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة, وجاءت تسمية مشية الذي ينتعل بنعل واحدة أنها مشية الشيطان, كما أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار من طريق الليث بن سعد عن جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة "أن ¬

(¬1) النور: 21. (¬2) زاد المعاد (4/ 243). (¬3) أخرجه البخاري (رقم: 5518) ومسلم (رقم: 2097).

النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المشي في النعل الواحدة وقال: «إن الشيطان يمشي بالنعل الواحدة» (¬1) وهذا إسناده صحيح, وجعفر بن ربيعة ثقة من رجال الجماعة, ولا يقال إنه خالف أبا الزناد فلم يذكر أن الشيطان يمشي بالنعل الواحدة, فإن هذا مما يحتمل فيه, وجعفر مشهور بالعدالة, ومن رجال الستة. ووقفت على تقرير طبي نصه: أمر البدن لا يستقيم إلا إذا سار العضو على وتيرة واحدة في جميع أعضاءه, ففي وضع الشمس هناك الأشعة الحمراء التي تسخن الأعضاء, والأشعة دون البنفسجية التي تصبغ الجلد وتحمره, فإذا حصل ذلك في جزء من البدن دون الجزء الآخر ودونما حاجة إلى ذلك, تشوش الدوران, واضطربت وظائف الأعضاء, وهذا ما يحصل عند الجلوس أو النوم بين الظل والشمس. فالحكمة من هذا أنه مشابه للشيطان, وأنه خروج عن الاعتدال, وقال الذهبي في المهذب في اختصار السنن الكبير على حديث بريدة: أراد بذلك العدل في الجسد كما نهي عن المشي في نعل واحدة عدلاً بين الرجلين. ¬

(¬1) أخرجه الطحاوي (رقم: 1157).

ويشمل النوم والجلوس وكيفما كان، فلا يكون بين الشمس والظل، ومن أهل العلم من قال: أنك إذا جلست أنه إنما نهي عنه إذا قلص الظل عنه وبدأ يزحف، أما إذا جلست مباشرة بين الشمس والظل فلا بأس, وهذا ليس بصحيح, فإن هذا مصادم للنص. مسألة: هل هذا يشمل الجالس في مجلس يجب عليه الجلوس فيه كالجالس لخطبة الجمعة؟ نعم, هذا يشمل كل جلوس, سواءً كان هذا الجلوس جلوساً واجباً, أو جلوساً مستحباً, أو جلوساً مباحاً, فإنه يتحول ويكون هذا من الأمر الشرعي, فيتحول إذا قلص عنه الظل في مسجد مكشوف, أو في خارج المسجد, فيتحول قدر الاستطاعة

فصل: ويستحب أن يقول عند النهوض من المجلس

فَصْلٌ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُوْلَ عِنْدَ النُّهُوْضِ مِنَ المَجْلِسِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوْبُ إِلَيْكَ، فَهِيَ كَفَّارَةُ المَجْلِسِ. وَيُكْرَهُ الجُلُوسُ فِي ظِلِّ المَنَارَةِ، وَكَنْسُ البَيْتِ بِالخِرْقَةِ، وَالشُّرْبُ مِنْ ثُلَمَةِ الإِنَاءِ. فَهَذِهِ جُمْلَةٌ مِنَ الآدَابِ، وَاللهُ تَعَالَى المُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ. قوله: (ويستحب أن يقول .... فهي كفارة المجلس) أما كفارة المجلس, فجاءت فيها أخبار كثيرة, واشتهر عن البخاري - رحمه الله - أنه ضعف هذا الخبر, وهذا من عدم فهم ما نقل عن البخاري, فإنه نقل عنه أنه أعل حديث أبي هريرة, فإن الحاكم أخرجه في المستدرك, وهو عند الترمذي أيضاً, والنسائي في عمل اليوم والليلة, كلهم من رواية حجاج بن محمد - وهو المصيصي - عن ابن جريج، عن موسى بن عقبة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من جلس في مجلس وكثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك

وأتوب إليك، إلا غفر الله ما كان في مجلسه ذلك» (¬1) هذا لفظ الترمذي, وقال: حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث سهيل من هذا الوجه, قال الحافظ: وفي الباب عن أبي برزة - إلى قوله: قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم, والبخاري أعله برواية وهيب عن موسى بن عقبة عن سهيل عن أبيه عن كعب الأحبار، كذا قال في المستدرك, قال الحافظ: ووهم في ذلك, فليس في هذا السند ذكر لوالد صهيب ولا كعب والصواب عن سهيل عن عون, وكذا ذكره أهل الصواب في علوم الحديث، فإنه ساق فيه من طريق البخاري عن محمد بن سلام عن مخلد بن يزيد عن ابن جريج بسنده ثم قال: قال البخاري: هذا حديث مليح لا أعلم في الدنيا في هذا الباب غير هذا الحديث إلا أنه معلول, حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا وهيب، حدثنا موسى بن عقبة، عن عون بن عبد الله، قوله - يعني أن هذا الخبر إنما هو من قول عون بن عبد الله - هذا أولى فإنا لا نذكر لموسى بن عقبة سماعاً من صهيب. وأخرج البيهقي في المدخل عن الحاكم بسنده المذكور في علوم الحديث عن البخاري، فقال عن أحمد ويحيى بن معين، كلاهما عن حجاج ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (رقم: 3433) وأخرجه أحمد (رقم: 10420) النسائي (رقم: 10230) وابن حبان (رقم: 594) والبيهقي في شعب الإيمان (رقم: 628).

بن محمد، وساق كلام البخاري؛ لكن قال: لا أعلم بهذا الإسناد في الدنيا غير هذا الحديث, إلا أنه معلول, وقوله لا أعلم بهذا الإسناد في الدنيا, هو المنقول عن البخاري, وقوله: (لا أعلم في هذا الباب غير هذا الحديث) , فإن في الباب عدة أحاديث لا تخفى على البخاري. وقد ساق الخليلي في الإرشاد هذه القصة عن غير الحاكم وذكر فيها أن مسلماً قال للبخاري: أتعرف بهذا الإسناد في الدنيا حديث غير هذا؟ فقال: لا, إلا أنه معلول. ثم ذكره عن موسى بن إسماعيل، عن وهيب، عن موسى بن عقبة، عن عون بن عبد الله، من قوله, والبخاري أنكر هذا الإسناد وأعله, وإلا فهذا المتن جاء من أسانيد جماعة من الصحابة. قال الحافظ: وقد تتبعت طرقه فوجدته قد ورد من رواية جماعة من الصحابة عدتهم سبعة زائدة على من ذكر الترمذي, وأحال بيان ذلك على تخريجه لأحاديث الإحياء. وقد تتبعت طرقه ووجدته من رواية خمسة آخرين, فكانوا خمسة عشر نفساً, ومعهم صحابي لم يسم فلم أضفه إلى العدد لاحتمال أن يكون أحدهم, وقد خرجت طرقه فيما كتبت عن علوم الحديث, وأذكره هنا ملخصاً, وهم:

1 - عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - عند الطبراني في المعجم الكبير, أخرجه موقوفاً وعند أبي داود أخرجه موقوفاً, -كما تقدم التنبيه عليه-. 2 - وأبو برزة الأسلمي وحديثه عند أبي داود والنسائي والدارمي, وسنده قوي. 3 - وجبير بن مطعم وحديثه عند النسائي وابن أبي عاصم, ورجاله ثقات. 4 - والزبير ابن العوام وحديثه عند الطبراني في المعجم الصغير, وسنده ضعيف. 5 - وعبدالله ابن مسعود وحديثه عند ابن عدي في الكامل وسنده ضعيف. 6 - والسائب بن يزيد وحديثه عند الطحاوي في مشكل الآثار والطبراني في الكبير, وسنده صحيح. 7 - وأنس بن مالك وحديثه عند الطبراني والطحاوي وسنده ضعيف. 8 - وعائشة وحديثها عند النسائي وسنده قوي. 9 - وأبو سعيد الخدري وحديثه في كتاب الذكر لجعفر في الرياء بسند صحيح إلا أنه لم يصرح برفعه. 10 - وأبو أمامة حديثه عند أبي يعلى وابن السني, وسنده ضعيف.

11 - ورافع بن خديج وحديثه عند الحاكم والطبراني في الصغير, ورجاله موثّقون إلا أنه اختلف على راويه في سنده. ثم ذكر جملة بقية الصحابة الذين رووه, ثم ختم هو كتابه شرح البخاري، بقوله: ورأيت أن أختم الفتح بطريق من طرق هذا الحديث ثم ساق إسناد حديث عائشة، الذي رواه النسائي في سننه من طريق خالد ابن أبي عمران، عن عروة، عن عائشة، قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا جلس مجلساً أو صلى تكلم بكلمات, فسألته عن ذلك فقال: «إن تكلم بكلام خير كان طابعاً عليه -يعني خاتماً عليه- إلى يوم القيامة, وإن تكلم بغير ذلك كانت كفارة له, سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك» (¬1). (¬2) وهذا من آخر كلام الحافظ في شرح البخاري, فيكون هذا الحديث ثابت من حديث أبي برزة وحديث عائشة, وجماعة من الصحابة. ويقال عند نهاية المجلس, وهذا الدعاء يكفر الصغائر, وإن كان بتوبة كفّر الكبائر التي ليست متعلقة بالمخلوقين, فإن فيه: «أستغفرك وأتوب إليك» ¬

(¬1) أخرجه النسائي (رقم: 1267). (¬2) فتح الباري لابن حجر - (10/ 410).

فإن كان هذا يتعلق بكلام يختص بمخلوق, فإنه لا بد من رد حقوق المخلوقين, ولكن إذا كان هذا كلاماً سيئاً وفحشاً من القول فإنه يُكَفَّر إذا كان صادقاً فيما يقول، دون أن يكون فيه غيبة أو نميمة أو سب أو قدح. فإن كان صاحبه يقول هذا الذكر وليس مستحضراً لمعنى التوبة فهل يقال إنه ما يكفر إلا الكبائر التي ذكرناها قبل قليل، التي تتعلق بحقوق المخلوقين؟ نقول: فيه وجهان عند أهل العلم, فإن الإنسان إذا قال: أستغفر الله, فلا يخلو استغفاره أن يكون عن ندم وتوبة, أو يكون مجرد دعاء, فإن كان مجرد دعاء, فالدعاء قد يستجاب وقد لا يستجاب, وإن كان مقروناً بندم أو توبة فإنه يتضمن التكفير, وهذا يقال في مطلق المجالس, وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقوله في بعض مجالسه, فإنه ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من فعله, وأمر به ورغّب فيه, فيقال في مجلس الخير وفي غيره من المجالس، ويقال في آخر المجلس. وهذا الذكر بعينه جاء مما يقال أيضاً عند الوضوء, كما أخرجه النسائي في الكبرى (¬1) بسند صحيح، عن أبي سعيد موقوفاً عليه, أن هذا مما يقال عند نهاية الوضوء, فيكون أحد النوعين الذين يقالان بعد الضوء ¬

(¬1) النسائي (رقم: 9911) وابن أبي شيبة (رقم: 19).

منها: «أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله» ومنها «سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك» والموقوف عن أبي سعيد له حكم الرفع؛ لأن هذا لا يقال بالرأي. قوله: (ويكره الجلوس في ظل المنارة وكنس البيت بالخرقة). أما الجلوس في ظل المنارة فيحتمل لما تقدم من أن المنارة قد لا تستره إلا قليلاً، فيكون من الجلوس بين الشمس والظل, وتقدم الكلام عليه, وأما كنس البيت بخرقة فلا يتبين لي العلة, وليس في النصوص ما يدل على هذا الشيء, وقد يقال أنه يخشى من هذا جرح في اليد, وأذيتها, أو ربما يصادف دابة أو ما أشبه ذلك, ولا أعلم في هذا خبراً. قوله: (والشرب من ثلمة الإناء). جاء في ذلك أخبار, منها ما رواه أبو داود من طريق عبد الله بن وهب، قال: أخبرني قرة بن عبد الرحمن - وهو ابن حيوه - عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبي سعيد - رضي الله عنه -، وفيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الشرب من ثلمة القدح وعن النفخ في الشراب. (¬1) ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (رقم: 3724) وأخرجه أحمد (رقم: 11777).

وقرة بن عبد الرحمن: الصحيح أنه لين الحديث, وكيف ينفرد عن الزهري وتلاميذ الزهري كُثر، وله شواهد منها حديث سهل بن سعد عند الطبراني (¬1)؛ لكن في إسناده عبد المهيمن بن العباس بن سهل بن سعد, حفيد الصحابي سهل بن سعد, وعبد المهيمن هذا ضعيف, وله شاهد أيضاً موقوف على ابن عباس وابن عمر, وأخرجه الطبراني في الكبير من طريق إبراهيم بن طهمان عن إبراهيم عن معاذ عن أبيه عن مجاهد عن ابن عباس وابن عمر. (¬2) وهذا فيه أكثر من علة, فإبراهيم بن المهاجر فيه لين, وكذا نعيم بن حماد, ووالد إبراهيم المهاجر غير معروف, وأخرجه الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة, وإسناده من طريق موسى ابن إسماعيل عن ابن المبارك عن معمر عن جعفر بن برقان عن يزيد بن الأصم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: نهى الإنسان أن يشرب من كسر القدح. (¬3) ¬

(¬1) أخرجه الطبراني (رقم: 5722) والروياني (رقم: 1075). (¬2) أخرجه الطبراني (رقم: 11055) قال في مجمع الزوائد (5/ 96) رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. (¬3) أخرجه الطبراني في الأوسط (رقم: 6833) وأخرجه عبد الرزاق (رقم: 19592 و 19593) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 96): رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات رجال الصحيح.

والظاهر أن هذا الإسناد إن سلم من العلة الخفية فإنه لا بأس به, ويكون شاهداً لحديث أبي سعيد, والنهي لا يتعدى الكراهة. والحكمة التشويش على الشارب بحيث لا يتمكن من الشرب ومجمع للأوساخ والزهومات، وقد تجرح الثلمة فم الشارب، وأيضاً قد ينسكب على الشارب مما في الإناء. وفي الختام نسأل الله أن ينفع به كاتبه وقارئه والحمد لله رب العالمين. وكتب أبو محمد- عفا الله عنه-

§1/1