اللامع العزيزي شرح ديوان المتنبي

أَبُو العَلاء المَعَرِّي

[مقدمة المصنف]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعترته المنتجبين قال أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي من أهل معرة النعمان: سألني بعض الناس أن أنشئ مختصرًا في تفسير شعر أبي الطيب, فكرهت ذلك, وسألته الإعفاء, فأجاب, ثم تكرر السؤال؛ فأصبحت معه في القياد, وأنا كما قيل: مكره أخوك لا بطل, وكم حلي, فضله العطل وأمليت شيئًا به, ثم علمت أني في ذلك من الأخسرين أعمالًا, لا أكتسب في العاجلة ولا الآجلة جمالًا؛ لأن القريض له أزمان, ومن بلغ سنّي فماله من الحتف أمان. وذكر لي المجتهد في خدمة الأمير عزيز الدولة وغرسها أبي الدوام ثابت بن تاج الأمراء فخر الملك, عمدة الإمامة, وعدة الدولة ومعزها ومجدها ذي الفخرين, أطال الله بقاه, وأدام

ذكر ما هو على القافية المهموزة من التي أولها

أيامه أبو القاسم علي بن أحمد المقرئ أن الأمير أبا الدوام أمره أن يلتمس لدي شيئًا من هذا الفن؛ فنهضت نهضة كسير لا يقدر على المسير, وأنشأت معه شيئًا على مقداري لا مقدار الآمر, ولست في المناصحة بالخامر, وتقاضاني بالمراد مخلص فيما كلف مبر, على أني بالمعجزة مقر, فكان كما قال القائل: [الطويل] إذا ما تقاضى المرء يوم وليلة ... تقاضاه شيء لا يمل التقاضيا وأتممت ما كنت بدأت فيه, والله المستعان, وبه التوفيق. ذكر ما هو على القافية المهموزة من التي أولها أمن ازديارك في الدجى الرقباء ... إذ حيث كنت من الظلام ضياء هي من الكامل الثاني في قول الخليل. وعند غيره من السحل الثالث.

الازديار: الافتعال من الزيارة. وتاء الافتعال إذا وقعت قبلها زاي قلبت دالا, لا يجوز غير ذلك, فقال: الازدياد والازديار والازديان, وهذه الدالات تاءات في الأصل. والدجى: جمع دجية, وهو ما ستر من الليل, وربما ذكره المحدثون كأنه واحد, وذلك جائز, ولكن ك لام العرب أن تجريه مجرى الجمع, كما قال الراعي: [طويل] فجاءت إلينا والدجى مزجحنة ... رغوث شتاءٍ قد تذوب عودها والوجه الآخر جارٍ مجرى قول الحطيئة: [طويل] لزغبٍ كأولاد القطار راث خلفها ... على عاجزات النهض حمرٍ حواصله

أراد حواصلها فذكر على معنى الجنس. والرقباء: جمع رقيب, وفعيل يكون في معنى مفاعلٍ كثيرًا, فيقال: فلان جليس فلان؛ أي: مجالسه, وقرينه؛ أي: مقارنه, ورقيبه؛ أي: مراقبه. وقوله: قلق المليحة وهي مسك هتكها .. ز ومسيرها في الليل وهي ذكاء ذكاء: من أسماء الشمس, وهي لا تنصرف إلا في الضرورة, ويقال للصبح: ابن ذكاء, وقال الراجز: [الرجز] فصبحت قبل انبلاج الفجر وابن ذكاء كائن في كفر وقوله: أسفي على أسفي الذي دلهتني ... عن علمه فبه علي خفاء التدليه: التحيير, والدله: الحيرة. وقوله: مثلت عينك في حشاي جراحةً ... فتشابها كلتاهما نجلاء النجلاء: الواسعة من الطعن والعيون. وكان ينبغي أن يقول: فتشابهتا, فذكّر - على معنى الجرح فغلب المذكر على المؤنث. وقوله: نفذت علي السابري وربما ... تندق فيه الصعدة السمراء

السابري: درع رقيقة النسج, وذكرها هنا؛ لأنه ذهب مذهب الحديد, وقد حكي تذكير الدرع, وأنشدوا قول الراجز: [الرجز] كأنه في الدرع ذي التغضن والصعدة: القناة التي تنبت مستويةً, ولا تحتاج إلى تثقيف. والصعدة: القناة التي تنبت مستويةً, ولا تحتاج إلى تثقيف. وقوله: [الكامل] (2/ب) أنا صخرة الوادي إذا ما زوحمت ... فإذا نطقت فإنني الجوزاء يعني التي تسمى أتان الضحل, وهي صخرة تكون في الوادي, فإذا مر بها السيل بقيت منه بقية قليلة هي الضحل, فيقال: إنها تكون من أشد الصخر صلابةً, ومنه قول علقمة بن عبدة: [البسيط] هل تلحقني دواب الحي إذ شحطوا ... جلذية كأتان الضحل علكوم جلذية: صخرة صلبة شبه الناقة بها. والجوزاء: نجم يزعم المنجمون أنه نجم منطيق. وقوله: شيم الليالي أن تشكك ناقتي ... صدري بها أفضى أم البيداء يقول: ناقتي هذه تشككها الليالي, فلا تدري أصدري أفضى أم البيداء التي هي سائر فيها, وأراد ألف الاستفهام فحذفها, وذلك كثير موجود, وقد حملوا على ذلك قول الأخطل: [الكامل]

كذبتك عينك أم رأيت بواسطٍ ... غلس الظلام من الرباب خيالا كأنه قال: أكذبتك عينك, وقوله: أفضى: يحتمل أن يكون اسمًا وفعلًا: وإذا كان اسمًا فهو على معنى التفضيل, كأنه قال: أصدري أشد سعةً أم البيداء؟ وإذا كان فعلًا فهو من أفضى إلى الشيء يفضي, كأنه قال: أصدري يفضي بهذه الناقة أي يصيرها في الفضاء أم البيداء؟ وقوله: [الكامل] فتبيت تسئد مسئدًا في نيهّا ... إسآدها في المهمه الإنضاء تسئد: أي: تسير في الليل, ونصب مسئدًا على الحال, والنيء: الشحم. وإسآدها منصوب على المصدر. والمعنى مسئدًا في نيها إسآدًا يشابه إسآدها, والإنضاء فاعل مسئد, وهو من قولهم: أنضيت الناقة إذا هز لتها, فأزلت عنها اللحم. والمعنى: فتبيت تسئد مسئدًا في نيها الإنضاء مثل إسآدها في المهمه, يريد أنها تفني المهمه بإسآدها, والإنضاء يفني نيها بإسآده. وقوله: [الكامل] أنساعها ممغوطة وخفافها ... منكوحة وطريقها عذراء الأنساع: جمع نسع, وهو سير مضفور, وممغوطة: أي: متغيرة بالسير. وجعل خفافها منكوحة؛ لأنها دامية, فكأنها العذراء التي قد نكحت. وجعل الطريق عذراء؛ لأنها لم تسلك قبله. وحسن المعنى أنه جعل الطريق عذراء, والعذراء هي التي جرت العادة بأن تنكح, وهي هاهنا ناكحة؛ لأنها التي أدمت الخفاف. وقوله: [الكامل] يتلون الخريت من خوف التوى ... فيها كما يتلون الحرباء الخريت: الدليل, كأنه يدخل في خرت الإبرة من هدايته. والحرباء يوصف بالتلون. قال ذو الرمة يصف الحرباء: [الطويل]

غدا أكهب الأعلى وراح كأنه ... من الضح واستقباله الشمس أخضر والتوى: الهلاك. وقوله: [الكامل] لبس الثلوج بها علي مسالكي ... فكأنها ببياضها سوداء يعني أن الطريق قد التبس عليه, فكأن بياض الثلج سواد؛ لأنه لا يهتدي بذلك البياض. وقوله: [الكامل] وكذا الكريم إذا أقام ببلدةٍ ... سال النضار بها وقام الماء معناه: أنه يهب النضار فيسيل, والماء الذي جرت عادته بالسيلان يستحيي من نداه فيقف. وقوله: [الكامل] جمد القطار ولو رأته كما رأى ... بهتت فلم تتبجس الأنواء الأجود أن تكون الأنواء فاعلة رأته. والتبجس مثل التفجر, والأنواء هنا: جمع نوء فكأنه أراد النجم التي تنسب العرب إليها المطر, وهي منازل القمر. وأصل النوء النهوض, وهو من الأضداد؛ يكون فى معنى النهوض والسقوط, والعرب تستعمله في معنى السقوط, ويجوز أن يكون العامل في الأنواء الفعل المتأخر, فيحتمل أن يعمل فيها بهتت, فيكون اسم ما لم يسم فاعله, ويمكن أن تعمل فيها تتبجس, وإعمال الفعل الأول في هذا النحو رأي الكوفيين, وإعمال الفعل الذي هو أقرب إلى الفاعل رأي أهل البصرة. وإذا استعمل هاهنا مذهب البصريين كان في الكلام إضمار قبل الذكر إلا أنه جائز بلا اختلاف لأنه معلوم عند السامع. وقوله: [الكامل] من يهتدي في الفعل مالا يهتدي ... في القول حتى يفعل الشعراء

فاعل الشعراء: هو قوله يهتدي, والمعنى: أن هذا الممدوح يهتدي في الفعل مالا يهتدي إليه (3/أ) الشعراء, وهم موصوفون بالفنطنة, وادعاء الأشياء المتعذرة, فهذا الممدوح يفعل الأشياء التي لا تهتدي الشعراء إليها حتى يفعلها فتعرفها حينئذٍ. وقوله: [الكامل] في كل يوم للقوافي جولة ... في قلبه ولأذنه إصغاء إذا جاءت القوافي في الشعر فالمراد بها الأبيات والقصائد, وأصل القافية عند بعضهم الكلمة التي في آخر البيت مثل: منزل - وحومل, وهذا مذهب سعيد بن مسعدة, ومذهب الخليل أن القافية من آخر ساكنٍ في البيت إلى أول ساكنٍ يليه مع المتحرك قبل الساكن. فهذا في بعض المواضع يوافق قول سعيد بن مسعدة, وفي بعضها يخالفه؛ فمما يتفق فيه القولان مثل قول امرئ القيس: حومل, فالقافية عند الأخفش هي حومل, وكذلك يجب أن تكون على مذهب الخليل؛ لأن آخر حرف في البيت هو ياء الترنم, وأول ساكنٍ يليه واو حومل, والمتحرك الذي قبل الواو هو الحاء؛ فقد تساوي المذهبان. والاختلاف الذي يقع بين القولين في مثل قوله: [الوافر] أقلي اللوم عاذل والعتابا فالقافية عند أبي الحسن العتابا, والقافية على مذهب الخليل قوله: تابا من العتابا. وإنما سمي البيت قافية؛ لأن القافية تكون فيه. وقال قوم: القافية ما لزم الشاعر إعادته من الحروف. ومذهب قطرب أن القافية حرف الروي, مثل لازم منزل, ودال ثهمد, وتسمى

القصيدة قافيةً, والأبيات قوافي, وقيل: القافية نصف البيت الآخر. وقوله: [الكامل] وأغاره فيما احتواه كأنما ... في كل بيتٍ فيلق شهباء الفيلق في البيت: الكتيبة, وهي مؤنثة, قال الأعشى: [السريع] في فيلقٍ جأواء ملمومةٍ ... تعصف بالدارع والحاسر وقالوا: كتيبة شهباء إذ اعلاها بياض الحديد. وقوله: [الكامل] يعطي فتعطى من لهى يده اللهى ... وترى برؤية رأيه الآراء اللهى: جمع لهوة وهي العطية, وأصلها القبضة التي تصب في فم الرحى, ثم كثر ذلك حتى جعلت العطية العظيمة لهوة. والآراء: القياس أن يكون فيها بعد الراء همزة, والنقل جائز. فيقال: الأرآء, كما يقال: آبار في جمع بئر, والأصل: أبآر, وأسآر في جميع سؤر, وأنشد أبو عبيد: [الكامل]

إنا لنضرب جعفرًا بسيوفنا ... ضرب الغريبة تركب الآسارا يريد الأسآر. وقوله: [الكامل] لا تكثر الأموات كثرة قلةٍ ... إلا إذا اشقيت بك الأحياء يقول: إن الأحياء إذا شقيت بك, وكثرت الأموات, وتلك الكثرة تؤدي إلى القلة؛ إما لأن الأحياء يقلون بمن يموت, وإما لأن الميت في نفسه يقل .. وقوله: [الكامل] لم تسم يا هارون إلا بعدما اقـ ... ترعت ونازعت اسمك الأسماء أجود ما يتأول في هذا أن يكون الاسم هاهنا في معنى الصيت, كم يقال: فلان قد ظهر اسمه؛ أي: قد ذهب صيته في الناس؛ أي: فذكره لا يشاركه فيه أحد, وماله يشترك فيه الناس فإما أن يكون عنى باسمه الذي هو هارون فهذا يحتمله ادعاء الشعراء, وهو مستحيل في الحقيقة؛ لأن العالم لا يخلو أن يكون فيه جماعة يعرفون بها رون ... وقوله: [الكامل] لعممت حتى المدن منك ملاء ... ولفت حتى ذا الثناء لفاء اللفاء في البيت الشيء الناقص. وقوله: [الكامل] وإذا مطرت فلا لأنك مجدب ... يسقى الخصيب ويمطر الدأماء الدأماء البحر, والأجود أن يقال: وتمطر الدأماء؛ لأن فعلاء بناء لا يكون إلا للمؤنث.

وقال الأفوه: [السريع] والليل كالدأماء مستشعر ... من دونه لونًا كلون السدوس وقوله: [الكامل] لم تحك نانلك السحاب وإنما ... حمت به فصبيبها الرحضاء كأنه جعل السحاب قد حمت إما من حسدها إياه, وإما لفرقها أن تفتضح بجوده, والرحضاء: عرق الحمى. وقوله: فبأيما قدمٍ سعيت إلى العلا ... أدم الهلال لأخمصيك حذاء أدم: جمع أديم: وهو جمع شاذ, وأصل أديم ظاهر الجلد. وقد قالوا: أديم السماء وجلدها على معنى الاستعارة. قال هميان: [الرجز] فصبحت جابيةً صهار جا تخاله جلد السماء خارجًا (3/ب) وقال قوم: الأديم: باطن الجلد. فأما قوله: أدم الهلال وما جرى مجراه فيحتمل أن يكون الظاهر والباطن, وقال النابغة: [الطويل]

ولم تلفظ الأرض القبور ولم تزل ... نجوم السماء والأديم صحيح يريد أديمها. وقوله: [الكامل] لو لم تكن من ذا الورى اللذ منك هو ... عقمت بمولد نسلها حواء يقال: اللذ بكسر الذال واللذ بسكونها قال الراجز: [الرجز] فكنت في الأمر الذي قد كيدا كاللذ تزبى زبيةً فاصطيدا والقافية من المتواتر.

ومن التي أولها

ومن التي أولها لقد نسبوا الخيام إلى علاء ... أبيت قبوله كل الإباء وهي على مذهب الخليل من أول الوافر, وعلى مذهب غيره من السحل الرابع. الخيام في قول الأصمعي لا تكون إلا من الشجر, وهذا شيء أخذه عن الأعراب, وزعم أنها إذا كانت من غير الشجر فهي بيت, وهذا ضد ما عليه الناس اليوم, ولا ريب أنهم قد سموا هذه الأشياء المعروفة في العساكر خيامًا في الكلام القديم. والاشتقاق يدل على أن ذلك صحيح. والتخييم: الإقامة, فلما كانت هذه تستعمل عند النزول سميت خيمة, ويقال: خيام وخيم وخيم, قال المرقش: [السريع] هل تعرف الدار عفا رسمها ... غير الأثافي ومبنى الخيم وقال حسنان: [السريع] ما هاج حسان رسوم المقام ... ومظعن الحي ومبنى الخيام

وقال النابغة الجعدي: [الطويل] فلم يبق إلا آل خيمٍ منضدٍ ... وآس لدى سفعٍ ونؤي معثلب والهمزة في العلاء منقلبة عن واو, كان أصله العلاو, فقلبت الواو همزة, وقبلها ألف زائدة. وكذلك تجري حالها في كل المواطن. وهمزة الإباء التي في آخرها منقلبة عن ياء, وأصله إباي, فقلب الياء للعلة التي قلبت لها الواو. والقبول يختارون فيه الفتح, ويزعمون أنه جاء شاذًا, فأما ضم القاف فهو القياس. وقوله: وما سلمت فوقك للثريا ... وما سلمت فوقك للسماء فوقك هاهنا: يحتمل أن يكون على قوله: وما سلمت المكان الذي فوقك؛ فيكون, على هذا, كالصفة الموضوعة مكان الموصوف, كأنه قال: وما سلمت مكانًا فوقك, وأكثر ما يستعمل فوق ظرفًا, وقد أخرجوه إلى الأسماء, وأنشدوا بيتًا قد دخلت فيه الباء الخافضة على فوق. والشعر ينسب إلى عبد بني الحسحاس, وليس هو في ديوانه: [الطويل]

لقيت النساء الحارثيات غدوةً ... بوجه يراه الله غير جميل فشبهنني كلبًا ولست بفوقه ... ولا دونه إن كان غير بخيل وقوله: وقد أوحشت أرض الشام حتى ... سلبت ربوعها ثوب البهاء الشام: أصله الهمز, وتخفيفه جائز تجعل الهمزة ألفًا خالصة, فيكون مرة على وزن رأس ومرة على وزن مال, إلا أن ألفه غير منقلبة عن واو ولا ياء, ويدل على همزة في الأصل قولهم: أشأم الخليط إذا أخذ نحو الشام, وإذا نسبوا إليه قالوا: شامي بتشديد الياء, فهذا هو القياس. وشذ نسبه في قولهم: شامٍ, وهي ثلاثة أحرف جاءت بتخفيف الياء: شامٍ ويمانٍ وتهامٍ. وأما قولهم: شآم, فتجيء في شعر المحدثين, وهي كلمة مرغوب عنها, وربما جاءت شاذة. قال الشاعر: [الطويل] أتتنا قريش قضها بقضيضها ... وأهل الشآم والحجاز تقصف نصب سيبويه قضها جعله موضوعًا موضع المصدر.

ومن التي أولها

ومن التي أولها القلب أعلم يا عذول بدائه ... وأحق منك بجفنه وبمائه [الكامل] وهي من أول الكامل في قول الخليل, ومن السحل الثالث في قول غيره, والقافية من المتدارك قوله: [الكامل] ما الخل إلا من أود بقلبه ... وأرى بطرفٍ لا يرى بسوائه مد سواء, وإذا فتح أولها مدت, وإذا كسر أو ضم فهي مقصورة. وقوله: [الكامل] إن المعين على الصبابة بالأسى ... أولى برحمة ربها وإخائه يقول: إن الذي يعين على الصبابة بالأسى؛ أي: الحزن, أولى برحمة ربها؛ أي: كان ينبغي ألا يفعل ذلك, كأنه جعل عذله إياه زيادة في حزنه. ويجوز أن يعني أنك يا عذول كان ينبغي أن تحزن بحزني. (4/أ) كما يقال للرجل إذا منع صديقه شيئًا: إن الذي يعين خليله بالمال, وقضاء الحاجة هو الذي يستحق أن يسمى خليلًا ومؤاخيًا. وقد رويت الأسى, بضم الهمزة, من: أسيت الحزين إذا عزيته. والمعنى أن الذي يقول: لك أسوة بفلان, وفلان أولى بأن يكون خليلًا ناصحًا. وقوله: [الكامل] مهلًا فإن العذل من أسقامه ... وترفقًا فالسمع من أعضائه

هذا مجاز واتساع؛ لأن السمع ليس من الأعضاء؛ ولكنه يحمل على أنه أراد موضع السمع من أعضائه؛ أي: الأذن. وهب الملامة في اللذاذة كالكرى ... مطرودةً بسهاده وبكائه ... [الكامل] قوله: هب: كلمة في معنى قولهم: احسب ذلك, واعدده, واجعله. قال أبو دهبل: [الطويل] هبوني امرأً منكم أضل بعيره ... له ذمة إن الذمام كبير أي: عدوني أمرأً منكم. وقوله: [الكامل] والعشق كالمعشوق يعذب قربه ... للمبتلى وينال من حوبائه الحوباء النفس, ويقال: هي دم القلب. [وكان ابن جني يذهب إلى أن قوله: والسيف من أسمائه يعني اللفظة التي هي السيف لا الحديد المضروب, ومبالغة الشعراء لا تمنع أن يكون جوهر السيف من صفة الممدوح].

ومن التي أولها

ومن التي أولها عذل العواذل حول قلبي التائه ... وهوى الأحبة منه في سودائه وهي في الوزن كالتي قبلها, وقافيتها من المتدارك. يقال: عذل وعذل, والتحريك في هذا الموضوع أحسن؛ لأنه أقوى في السمع والغريزة, فيقال: عذلت فلانًا فاعتذل؛ أي: لام نفسه ورجع. ومعتذلات سهيلٍ: أيام شديدات الحر تأتي قبل طلوعه أو بعده, وبعض الناس يرويها: معتدلات, بالدال؛ أي: أنهن قد استوين من شدة الحر, والذي يروي بالذال يريد أنهن يتعاذلن ويأمر بعضهن بعضًا إما بشدة الحر, وإما بالكف عنه. وقوله: التائه جاء بالهاء الأصلية مع هاء الإضمار في القوافي, وربما فعلت الشعراء ذلك, وهو قليل, ومنه قول الأنصاري: [الكامل] أبلغ أبا عمروٍ أحيـ ... حة والخطوب لها تشابه أني أنا الليث الذي ... تخشى مخالبه ونابه وسوداء القلب وسويداؤه وأسوده وسواده واحد, وهي علقة من دمٍ أسود تكون فيه. وقوله: [الكامل] يشكو الملام إلى اللوائم حره ... ويصد حين يلمن عن برحائه

ومن التي أولها

البرحاء: شدة الشوق والحزن, والمعنى أن الملام يشكو إلى اللوائم اللواتي يلمن هذا المحب؛ لأنه إذا وقع في سمعه صار إلى قلبه, فوجد حرارةً شديدةً, وهذا من دعوى الشعراء المستحيلة. وقوله: [الكامل] الشمس من حساده والنصر من ... قرنائه والسيف من أسمائه السيف من أسمائه: يعني اللفظة دون جوهر السيف؛ لأن الحديدة لا تكون من الأسماء, وإنما يكون اسمها؛ لأن الاسم عرض, والحديد جوهر, ولا يكون أحد الجنسين من الآخر, وعلى ذلك فسره أبو الفتح بن جني. ومن التي أولها أتنكر يابن إسحاقٍ إخائي ... وتحسب ماء غيري من إنائي وهي من الوافر الأول على رأي الخليل, ومن السحل الرابع في قول غيره, وقافيتها من المتواتر. قوله: [الوافر] أأنطق فيك هجرًا بعد علمي ... بأنك خير من تحت السماء الهجر: ما لا ينبغي من القول, يقال: أهجر الرجل إذا جاء بالهجر, قال الشماخ: [الطويل] كما جدة الأعراق قال ابن ضرةٍ ... عليها كلامًا عاب فيه وأهجرا

فإذا قالوا: هجر الرجل فهو بمعنى هذى من الهذيان إذا أريد به الكلام, ومنه قوله تعالى: {مستكبرين به سامرًا تهجرون}؛ أي: تهذون. وقد قيل: إن «تهجرون» من الهجر الذي هو القطيعة؛ أي: تهجرون سامرًا لا تحضرونه. وقوله: [الوافر] وما أرمت على العشرين سني ... فكيف مللت من طول البقاء وما أرمت: أي: ما زادت, ويقال: رمت وأرمت بمعنى, وقال الشاعر, ويقال: إنه لحاتم الطائي: [الطويل] ومطردًا لدنًا كأن كعوبه ... نوى القسب قد أرمى ذراعًا على العشر (4/ب) وقوله: [الوافر] تطيع الحاسدين وأنت مرء ... جعلت فداءه وهم فدائي وأنت مرء, والأجود أن يقال: وأنت امرؤ, ولا تحذف الهمزة من أوله إلا مع الألف واللام إذا قالوا: المرء, وربما استعمل ذلك في الشعر, قال الشاعر: [الطويل] ولست أرى مرءًا تطول حياته ... فتبقى له الأيام حالًا ولا عما وقوله: وهاجي نفسه من لم يميز ... كلامي من كلامهم الهراء الهراء من القول: مالا نظام له, قال ذو الرمة: [الطويل] لها بشر مثل الحرير ومنطق ... رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر

وقوله: [الوافر] وإن من العجائب أن تراني ... فتعدل بي أقل من الهباء البهاء: التراب الدقيق, ويسمي هباءً, ويقال: أهبت الخيل إذا ارتفع الغبار عن ركضها. وقوله: [الوافر] وتنكر موتهم وأنا سهيل ... طلعت بموت أبناء الزناء إثباته الألف في أنا هو عند بعض الناس ضرورة؛ لأن هذه الألف لا تثبت إلا في الوقف, وكان محمد بن يزيد يتشدد في ذلك, ولا يجيزه. وقد جاء في مواضع كثيرة, ومن ذلك قول الأعشى: [المتقارب] فكيف أنا وانتحالي القافـ ... ـي بعد المشيب كفى ذاك عارا

ومن التي أولها

وقول حميد بن بحدل: [الوافر] أن زين العشيرة فاعرفوني ... حميد قد تذريت السناما والزناء يمد ويقصر, وجاء في كتاب الله عز وجل مقصورًا. وكأنه إذا مد مصدر زانى يزاني زناء, قال الشاعر: [الطويل] أبا حاضرٍ من يزن يعرف زناؤه ... ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكرا ومن التي أولها إنما التهنئات للأكفاء ... ولمن يدني من البعداء [الخفيف] وهي من الخفيف الأول على رأي الخليل, وعلى رأي غيره من الطلق, وقافيتها من المتواتر. وقوله: [الخفيف] مستقل لك الديار وإن كا ... ن نجومًا آجر هذا البناء

الآجر: معرب, وفيه لغات: آجر بالتشديد, وآجر بالتخفيف, وأجرون, وينشد لأبي دؤاد الإيادي: ولقد كان ذا كتائب خضرٍ ... وبلاطٍ يلاط بالأجرون ويروى بالأجرون. قال أبو كدراء العجلي: [البسيط] بنى السعاة لنا مجدًا ومكرمةً ... لا كالبناء من الآجر والطين وقال ثعلبة بن صعيرٍ المازني: [الكامل] ..................... ... فدن ابن حية شاده بالآجر وقوله: [الخفيف] وبساتينك الجياد وما تحـ ... ـمل من سمهرية سمراء بساتين: كلمة معربة, وليس لها في كلام العرب أصل, والسمهرية زعم أناس أنها منسوبة

إلى رجل يقال له: سمهر, وهو زوج ردينة فيما يزعمون, والذي يوجبه الاشتقاق أن السمهري الشديد الصلب, يقال: اسمهر الرجال إذا كان شديدًا في أمره. قال رؤبة: [الرجز] فازجر بني النجاخة الفشوش عن مسمهر ليس بالفيوش وقوله: [الخفيف] وبمسكٍ يكنى به ليس بالمسـ ... ـك ولكنه أريج الثناء الأريج: الطيب الرائحة, يقال: أرج وآرج وأريج. وقوله: [الخفيف] وبأيامه التي انسخلت عنـ ... ـه وما داره سوى الهيجاء الهيجاء: تمد وتقصر, وهي اسم للحرب, واشتقاقها من الهيج, قال لبيد في القصر: [الرجز]

يا رب هيجا هي خير من دعه وقال آخر في المد: [الطويل] إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا ... فحسبك والضحاك عضب مهند وقوله: [الخفيف] لا بما تبتني الحواضر في الريـ ... ـف وما يطبي قلوب النساء يطبي: أي: يجتذب, يقال: اطباه يطبيه وطباه يطبيه ويطبوه. وقوله: [الخفيف] نزلت إذ نزلتها الدار في أحـ ... سن منها من السناء والسناء السنا من النور: مقصور, والسناء من الشرف: ممدود, والسنا من النبت مقصور. وقوله: [الخفيف] تفضح الشمس كلما ذرت الشمـ ... ـس بشمسٍ منيرةٍ سوداء (5/أ) يقال: ذرت الشمس؛ وذلك في أول طلوعها. وقوله: [الخفيف] من لبيض الملوك أن تبدل اللو ... ن بلون الأستاذ والسحناء السحناء: ما بظهر من هيئة الرجل, والأستاذ كلمة ليست بالعربية, وإنما جرت عادتهم أن يقولوا للحاذق في الصنعة: (أستاذ) , ولا يوجد ذلك في الشعر الجاهلي. واصطلحت العامة إذا أجلّوا الخصيَّ أن يخاطبوه بالأستاذ, وإنما أخذ من الأستاذ الذي هو الصانع؛ لأنه: ربما كان تحت يده غلمان يؤدبهم, فكأنه أستاذ في حسن الأدب, ولو كان عربيًا لوجب أن يكون اشتقاقه من الستذ, وليس ذلك بمعروف.

وقوله: [الخفيف] ولقد أفنت المفاوز خيلي ... قبل أن نلتقي وزادي ومائي المفازة: الأرض المقفرة, سميت بذلك على سبيل الفأل؛ لأنها مهلكة, وهو من نحو قولهم للديغ: سليم يتيمنون له بهذا الاسم, ويقال: فوز الرجل إذا هلك, ومنه قول كعب بن زهير: [الطويل] فمن للقوافي بعد كعبٍ يحوكها ... إذا ما ثوى كعب وفوز جرول ويقال: إن عليّا - رضي الله عنه - لما ضربه ابن ملجم - لعنه الله - قال: فزت ورب الكعبة, ففسر ذلك على وجهين: أحدهما أنه أراد مت ورب الكعبة, والآخر أنه أراد فزت من الفوز في الآخرة؛ لأنه رأى أنه شهيد. وسكن الياء في أن نلتقي للضرورة.

ومن التي أولها

ومن التي أولها أسامري ضحكة كل راءٍ ... فطنت وأنت أغبى الأغبياء وزنها من الوافر الأول, وقافيتها من المتواتر. سامراء, اسم محدث يسمى بشيء فغيرته العامة؛ لأن الذي سماها جعلها سر من رأى, فثقل ذلك على ألسن العوام فغيروه إلى ما هو عكسه, وأنشدوا لعبد الله بن سعيد الأموي وكان من أهل العلم: [الوافر] لعمرك ما سررت بسر من را ... ولكني عدمت بها السرورا فهنا قال: را فحذف الهمزة. وقد حكى ذلك عن العرب, وينشد: [الوافر] ومن را مثل معدان بن ليلى ... إذا ما النسع جال على المطية وقال بعض المحدثين: [مخلع البسيط] ما سر من را بسر من را ... بل هي سوء لمن رآها ومن العجيب أن البحتري سماها سامراء على مذهب العامة ولم يتهيب الخليفة, قال: [الكامل] أخليت منه البذ وهو قراره ... ونصبته علمًا بسامراء

ومن التي أولها

وهذه كلمة جرت على غير ما يجب لأنها مسماة بجملة. وإذا سمي بالجمل وجب ألا يغير, فكان ينبغي أن يقول في غير الشعر بساء من رأى, أو: من راه, أما الكسر فلا يتسلط على آخر الاسم كما لا يدخل على قولك: تأبط شرًا؛ لأنه يسمى بجملة, وكان ينبغي ألا ينسب إليها على هذا الوجه, كما لا ينسب إلى من اسمه: برق نحره ونحو ذلك. وأبو الطيب أجرى هذه الكلمة على ما يستعمله الناس؛ لأنها غير صحيحة في الأصل. ومن التي أولها ألا كل ماشية الخيزلى ... فدى كل ماشية الهيذبا وهي من المتقارب الثالث وقافيتها من المتدارك. الخيزلى: مشية فيها تفكك من مشي النساء, يقال: مشيت الخوزلى والخيزلى والخيزرى والخوزري بمعنى واحد. قال الشاعر: [الطويل] من اللا تمشي بالضحى مرجحنةً ... وتمشي العشايا الحوزلى رخوة اليد

والهيذبى: ضرب من مشي الخيل, ويقال: الهيذبى والهيدبى, بالذال والدال. وبيت امرئ القيس ينشد على ثلاثة أوجه: [الطويل] إذا راعه من جانبيه كليهما ... مشى الهيذيا في دفه ثم فرفرا فرفر اللجام في فيه إذا حركته. يروى: الهيذبا والهيدبا بالذال والدال, وبعضهم يروي الهربذا, وفسروا الهربذا بأنه مشية الهرابذة, وهم الذين يصلون بالمجوس, ومعنى البيت الذى لأبي الطيب: ألا كل امرأة فداء لكل فرسٍ, كأنه ذم النساء, ومدح الخيل. وقوله: [المتقارب] وكل نجاةٍ بجاوية ... خنوف وما بي حسن المشى يقال: ناقة نجاة في معنى ناجية, وهي السريعة التي تنجي صاحبها, وهذا اسم وضع للإناث دون الذكور؛ لأنهم قالوا للناقة: نجاة, ولم يقولوا للبعير نجًا. وبجاوية منسوبة إلى البجاة, ويقال: إنه اسم جيل من الناس, وقيل: بل البجاة البلد, ولهم نجب موصوفة, ويجب أن يكون قوله بجاوية منسوبًا على غير قياس (5/ب)؛ لأنه لو حمل على لفظ البجاة لقيل: بجوي. والخنوف: التي تقلب خفها إلى جانبها الوحشي. والاسم: الخناف. والمشى: جمع مشيةٍ, كما يقال: الفرى: جمع فرية. وقوله: [المتقارب] ولكنهن حبال الحياة ... وكيد العداة وميط الأذى جعل النوق حبالًا للحياة؛ لأنه يتوصل إليها بهن, وميط الأذى: إزالته, يقال: مطت

الشيء, وأمطته: إذا أزلته. وقوله: [المتقارب] ضربت بها التيه ضرب القما ... ر إما لهذا وإما لذا جعل ضربه التيه بهذه النجائب كضرب المقامر, إما له وإما عليه, وهو نحو من قوله: [الوافر] وأيا شئت يا طرقي فكوني ... أذاةً أو نجاةً أو هلاكا وقوله: [المتقارب] إذا فزعت قدمتها الجياد ... وبيض السيوف وسمر القنا جعل النجب تفزع, وإنما يفزع ركبانها, وقدمتها؛ أي: كانت قدامها, والخيل تكون مجنوبة إلى الإبل, فإذا أرادوا الغارة أو لقيهم عدو ركبوا الخيل, فكانت هي المتقدّمة, ومن ذلك قول الحطيئة: [البسيط] مستحقبات رواياها جحافلها ... يسمو بها أشعري طرفه سام يريد أنهم إذا فزعوا ركبوا الخيل, وسلوا السيوف, وأشرعوا الرماح. وقوله: [المتقارب] فمرت بنخلٍ وفي ركبها ... عن العالمين وعنه غنى نخل: اسم موضع.

وقوله: [المتقارب] وأمست تخبرنا بالنقا ... ب وادي المياه ووادى القرى قوله: بالنقاب: هو من قولهم: ورد الماء نقابًا إذا لم يشعر به حتى يهجم عليه. وقد بالغ في صفة النجائب, فأخبر أنها تعلم الركبان بمكان المياه؛ فهي أعلم بها منهم. وقوله: وادي المياه ووادي القرى هو بدل تبيين من قوله: النقاب كما يقال: حدثني فلان عن الشام: حلب وجلق, والأردن. وقوله: [المتقارب] وقلنا لها أين أرض العراق ... فقالت ونحن بتربان هنا تربان: موضع, وذكره يتردد كثيرًا في الشعر. قال النابغة الذبياني: أو ذو وشومٍ بحوضى ظل منصلتًا ... يقرو الدكادك من تربان والأكما وقوله: ها: حكاية عن الإبل؛ أي: هو قريب. وفي الكلام حذف؛ كأن المراد هذا هو, كأنها تومئ لهم إليه, وليس للألف في تربان حكم في هذا البيت؛ لأنه منفصل من ها. والشعر مقيد.

وقوله: وهبت بحسمى هبوب الدبو ... ر مستقبلاتٍ مهب الصبا حسمى: موضع, ويقال: إن بها ماءً من بقية الطوفان. وحدث محدث عن أبي الطيب أنه كان يصف حسمى بالطيب, وقال يومًا لبعض الناس: لو رأيت حسمى لرأيت أطيب بلاد الله. وفي حسمى جبال, وهي التي ذكرها النابغة في قوله: وأمسى عاقلًا بجبال حسمى ... دقاق الترب محتزم القتام والصبا تجيء من مطلع الشمس. والدبور تقابلها. فدلّ هذا الكلام على أنها سائرة من المغرب إلى المشرق, واستعار الهبوب للعيس؛ لأنه شبهها بالريح. وقوله: [المتقارب] روامي الكفاف وكبد الوهاد ... وجار البويرة وادي الغضا هذه كلها أسماء مواضع. وقوله: روامي الكفاف يعني العيس؛ أي: أنها قد رمت بأنفسها هذه المواضع. وقوله: [المتقارب] وجابت بسيطة جوب الردا ... ء بين النعام وبين المها

بسيطة: موضع, ربما سلكه حجاج بيت الله الحرام, وهي معرفة لا تدخلها الألف واللام. والبسيطة في غير هذا الموضع بين مكة والكوفة, وقول الراجز: إنك يا بسيط التي التي ... أنذرنيك في الطريق إخوتي يحتمل أن يريد بسيطة هذه, ويجوز أن يعني البسيطة التي تقدم ذكرها. وجابت؛ أي: قطعت. والمها: بقر الوحش سمين بذلك لبياض ظهورهن, ويصفون الأشياء البيض بمهًى؛ فالمها البلور, ويقولون للأسنان مهًا. قال المسيب بن علس: [الكامل] ومهًا يرف كأنه إذ ذفته ... عانية شجت بماء يراع (6/أ) ويجعلون الشمس مهاة؛ لأنهم يصفونها بالبياض, وقال الشاعر, وهو يريد الشمس: [الطويل]

وبيضاء لم تطبع ولم تدر ما الخنا ... ترى أعين الفتيان من دونها خزرا وقال أبو الصلت الثقفي: [الخفيف] ثم يجلو الظلام رب قدير ... بمهاة لها ضياء ونور وقوله: إلى عقدة الجوف حتى شفت ... بماء الجراوي بعض الصدى عقدة الجوف: موضع, والجراوي: ماء معروف. أنشد ابن الأعرابي: [الطويل] ألا لا أرى ماء الجراوي شافيًا ... صداي وإن روى غليل الركائب

وقوله: ولاح لها صور والصباح ... ولاح الشغور لها والضحى ذكر عن أبي الفتح ابن جني - رحمه الله - أنه قال كلامًا معناه: صور: لا يعرف في المواضع وإنما المعروف صورى, وإنما أخذه أبو الفتح من الكتب الموضوعة في المقصور والممدود. وإنما أراد أبو الطيب صوأر فألقى حركة الهمزة على الواو وحذفها, وقد ذكر الفرزدق هذا الموضع في شعره فقال: [الطويل] فما جبرت إلا على عنتٍ بها ... قوائمها إذ عقرت يوم صوأر وفى هذا الموضع كانت المعاقرة بين غالب أبي الفرزدق, وسحيم بن وثيلٍ الرياحي,

والمعنى أن هذا الموضع لاح للابل مع الصباح, ولاح الشغور لها مع الضحى, ويجوز في الصباح الرفع على العطف, والنصب على أنه مفعول معه, وكذلك يجوز في الضحى والشغور, ويجوز أن يكون اشتقاقه من قولهم: بلاد شاغرة, إذا لم يكن لها من يحميها. وقوله: ومسى الجميعي دئداؤها ... وعادى الأضارع ثم الدنا الدئداء: شدة العدو, ويقال: دأدأ ديداءً. قال الشاعر: [البسيط] واعرورت العلط العرضي تركضه ... أم الفوارس بالدئداء والربعه يريد أنها جاءت هذه المواضع, وهي تعدو. والجميعي والأضارع والدنا: مواضع, ويقال: إن الدنا اسم ماء. وقوله: فيالك ليلًا على أعكشٍ ... أحم البلاد خفي الصوى أعكش: موضع, وليس في أصول الأسماء على راي سيبويه شيء على أفعل, وإنما هي جموع يسمى بها أو أفعال مضارعة, مثل أعكش وأذرح وأثمد. فأثمد جمع ثمدٍ وهو الماء القليل, أو يكون سمي فيما قيل بالفعل المضارع من قولهم: ثمدته أثمده إذا أخذته

شيئًا فشيئًا, وأذرح يجوز أن يكون جمع ذرحٍ, وهو خشب تعمل منه الرحال, وأعكش من قولهم: عكشت الشيء إذا جمعته, وتعكش الشيء إذا تقبض. وبيت دريد بن الصمة ينشد على وجهين: [الطويل] وأنت امرؤ جعد القفا متعكش ... من الأقط الحولي شبعان كانب يروى المتعكش بالشين, أي: المتقبض, ومتعكس, أي: يشرب العكس, وهو لبن يصب على مرق. وأحم البلاد؛ أي: أسودها, والصوى جمع صوةٍ, وهي حجارة تنصب ليهتدى بها, وقيل: بل الصوة أرض غليظة. وفي حديث أبي هريرة: «إن للإسلام صوى ومنارًا كمنار الطريق» , وهذا البيت يروى لامرئ القيس وغيره: [الطويل]

وهبت لنا ريح بمختلف الصوى ... صبا وشمال في منازل قفال وقوله: وردنا الرهيمة في جوزه ... وباقيه أكثر مما مضى الجوز: الوسط, وبعض من لا علم له بالعربية يسأل عن هذا البيت, يظن أنه مستحيل؛ لأنه يحسب أنه لما ذكر الجوز وجب أن تكون القسمة عادلة في النصفين, فيذهب إلى أن قوله وباقيه أكثر مما مضى نقيض الكلام المتقدم, وليس الأمر كذلك, ولكنه جعل ثلث الليل الثاني كالوسط, وهو الجوز, ثم قال: وباقيه أكثر مما مضى, كأنه ورد والثلث الثاني قد مضى منه ربعه, وبقي ثلاثة أرباعه أو أكثر, وهذا بين واضح, والهاء في باقيه يجوز أن ترجع إلى الجوز, وإلى الليل. وقوله: فلما أنخنا ركزنا الرما ... ح فوق مكارمنا والعلى أي أسندناها إلى شيء, كما جرت العادة؛ كأنه ذهب في هذا القول إلى أنهم لم يكن معهم شيء تركز إليه الرماح؛ لأنها يعتمد بها المكان العالي, فركزوها فوق مكارمهم؛ لأنها رفيعة عالية. وقوله: ونام الخويدم عن ليلنا ... وقد نام قبل عمىً لا كرى جرت عادة الناس بأن يسموا الخصي خادمًا؛ وذلك شيء مصطلح عليه, وكل من خدم فهو مستحق لهذا الاسم من فحل, وخصي, ولكنهم لما رأوا الخصي ناقصًا عن رتبة الفحل قصروه على هذا الاسم, كأنه لا يصلح لغير الخدمة. والعمى هاهنا عمى القلب. وقوله: بها نبطي من أهل السواد ... يدرس أنساب أهل الفلا (6/ب) يعني بالسواد سواد العراق, وقد خص بهذا الاسم, ويرون أنهم يسمّونه بذلك لكثرة الخضرة فيه, لأنهم إذا وصفوا الليل بالسواد وصفوه بالخضرة.

قال القطامي: [الرجز] يا ناق سيري عنقًا زورا ... وبادري الليل إذا ما اخضرا وفي الكتاب العزيز: {مدهامتان} أي قد اخضرّتا جدا فكأنهما سوداوان, ومدهامتان مفعالّتان من الدهمة. وقوله: من أهل السواد: ألقى حركة الهمزة على النون, وذهب مذهب ورشٍ في القراءة, وهو كثير في الشعر الفصيح؛ ومنه قول سعد بن أبي وقاص: [الوافر]

ألا هل اتى رسول الله أني ... حميت صحابتي بصدور نبلي يعرض بالوزير أبي الفضل جعفر بن الفرات ابن حنزابة رحمه الله؛ لأنه لم يحظ عنده بطائل. ويقال: إن القصيدة الرائية التي في ابن العميد كانت فيه, وبناها على قوله جعفر ليكون ذلك في القافية, وكان قد نظمها على قوله: يابن الفرات وأي عبدٍ كبرا, فلما لم يرضه صرفها إلى ابن العميد, ولم ينشده إياها.

وقوله: وأسود مشفره نصفه ... يقال له أنت بدر الدجى المشفر: إنما هو لذوات الخف, وإذا أرادوا وصف الرجل بالغلظ والجفاء جعلوا له مشافر؛ أي: كأنه من جملة الإبل: أي: كأنه من جملة الإبل: [ولو كنت ضبيًا عرفت قرابتي ... ولكن زنجيًا عظيم المشافر] وشعرٍ مدحت به الكركد ... ن بين القريض وبين الرقى الكركدن: لفظه ليست بالعربية, وليس لها مثال في كلامهم, وقد كثرت الأحاديث عن الكركدن. والذي ذكر ابن الأعرابي أنه دابة أصغر من الفيل له قرن واحد, وزعم أنه يسمى الهرميس وأنشد: [الرجز] بالموت ما عيرت يا لميس ... قد يهلك الأرقم والفاعوس والأسد المذرع الحوؤس ... والفيل لا يبقى ولا الهرميس والقريض: اسم للشعر, وهو مأخوذ من قرضت الشيء إذا قطعته, شبه بقريض البعير, وهي الجرة التي يخرجها إلى فيه؛ لأن الشاعر يخرجه من صدره إلى فمه, وقالوا في المثل: «حال الجريض دون القريض» , والجريض: الغصص, فقيل: أرادوا حال الغصص دون إخراج

الجرة, وقيل: بل القريض في المثل الشعر بعينه, وزعموا أن أصل ذلك أن عمرو بن هند كان له يوم بؤس ويوم أنعم, فكان إذا لقيه رجل في يوم بؤساه قتله, وإذا لقيه بعض الناس في يوم نعماه أحسن إليه, فلقيه عبيد بن الأبرص في يوم بؤساه, فقال له عمرو: أنشدني قولك: [مخلع البسيط] أقفر من أهله ملحوب فقال عبيد: «حال الجريض دون القريض» , وهم يفرقون بين القريض والرجز؛ قال الأغلب العجلي, وقد سئل عن الشعر: [الرجز] أرجزًا تريد أم قريضا أم هكذا بينهما تعريضا كلاهما أجد مستفيضا

ومن بيتين أولهما

ويروى: كليهما. فقد فرق الأغلب بين النوعين. وقول أبي الطيب: بين القريض وبين الرقى كأنه ممزوج منهما؛ أي: «أردت خديعته به». ومن بيتين أولهما ماذا يقول الذي يغني ... يا خير من تحت ذي السماء شغلت قلبي بلحظ عيني ... إليك عن حسن ذا الغناء وزنهما من البسيط السادس, وقافيتهما من المتواتر. * * *

حرف الباء

حرف الباء من التي أولها لا يحزن الله الأمير فإنني ... لآخذ من حالاته بنصيب هي من ثالث الطويل في قول الخليل, وعلى رأي غيره من السحل الأول وقافيتها من المتواتر. يقال: حزنه الأمر وأحزنه, وأكثر القراء على فتح الياء {ليحزنني أن تذهبوا به} , وقرأ بعضهم: {ليحزنني} , قال يزيد بن الطثرية: [الطويل] ألا طرقت ليلى فأحزن طيفها ... وقدما عدانا طيف ليلى فأحزنا وفي هذا البيت خرم, ولم يخرم أبو الطيب إلا في موضعين: أحدهما هذا, والآخر: إن تك طيئ كانت لئامًا

وقوله: سبقنا إلى الدنيا فلو عاش أهلها ... منعنا بها من جيئةٍ وذهوب يريد أن أهل الأرض المتقدمين لو كانوا باقين لم يكن المتأخرون خلقوا, وهذا مأخوذ من قول بعض الحكماء لبعض الملوك لَّما قال: ما أطيب الملك لودام؛ فقال: لودام لم يصل إليك. وقوله: ولا فضل فيها للشجاعة والندى ... وصبر الفتى لولا لقاء شعوب شعوب: اسم للمنية معرفة لا تدخله الألف واللام, ولا ينصرف إلا في الضرورة, وقد صرفه أبو الطيب في هذا البيت, وأنشد ابن السكيت بعد ذكره أن شعوب لا تنصرف قول أبي الأسود الدؤلي: [المتقارب] فقام إليها بها ذابح ... ومن تدع يومًا شعوب يجبها الرواية الصحيحة: يجئها من جاء يجيء, وخففت الهمزة فدل كلامه على أن شعوب غير

مصروفة في هذا البيت, وترك صرفها يؤدي إلى زحاف تنكره الغريزة, وإن صرفت ذهب الزحاف وهو م ثل قول عبد قيس بن خفاف البرجمي: ووقع اللسان كحد السنان ... ورمحًا طويل القناة عسولا وبعضهم ينشد طويل قناةٍ فيذهب الزحاف. وسميت المنية شعوب؛ لأنها تشعب؛ أي: تفرّق, والشعب يكون في معنى التفرق, وفي معنى الجمع والالتئام, ومن التفرقة قول الغنوي: [الكامل] وإذا رأيت المرء يشعب أمره ... شعب العصا ويلج في العصيان فاعمد لما تعلو فما لك بالذي ... لا تستطيع من الأمور يدان ومن الالتئام والجمع قولهم: شعبت القدح؛ أي: جمعت ما افترق منه. وادعاء أبي الطيب أن الدنيا لا فضل فيها للشجاعة والندى وبذل اللهى, لولا الموت, غير صحيح؛ لأن الناس لو كانوا مخلدين لم تنقص فضيلة الجود وغيره من الأشياء المحمودة.

وقوله: وأوفى حياة الغابرين لصاحبٍ ... حياة امرئٍ خانته بعد مشيب أي: الباقين. وزعم بعضهم أن غبر يكون في معنى مضى. وقوله: لأبقى يماك في حشاي صبابةً ... إلى كل تركي النجار جليب قوله: لأبقى: فيه لام القسم, كأنه قدم يمينًا قبل ذلك, كأنه قال: فالله لأبقى, وأحلف لأبقى, والمعنى معنى قد, وهو مثل قول امرئ القيس: [الطويل] حلفت لها بالله حلفة فاجرٍ ... لناموا فما إن من حديثٍ ولا صال أي: لقد ناموا. ويماك: اسم أعجمي, والأعجمية على ضربين: منها ما يوافق كلام العرب, وإن لم يكن مستقى منه, ومنها ما لا يوافق, فمما وافق قولهم: أسبار, وهو أعجمي لا محالة وهو موافق لأسبار إذا كان جمع سبر, وهو الهيئة والحال من قولهم: هو حسن السبر. وأما الذي لا يوافق فمثل يماك, لم يذكر اليمك في شيء من كلام العرب, والنجار: الأصل, يقال: نجار ونجار ونجر. وقوله: لئن ظهرت فينا عليه كآبة ... لقد ظهرت في حد كل قضيبٍ يقال: لكل سيف دق عرضه قضيب, فإذا عرض فهو الصفيحة. قال الشاعر: [الطويل] ولم أر مغلوبين يفري فرينا ... ولا وقع ذاك السيف وقع قضيب فإذا قيل: قاضب, فالمراد قاطع, والجمع قواضب, ويجوز أن يدعى لقولهم: قضيب, أنه في معنى قاضب, وقد نقل إلى فعيل للمبالغة, كما يقال: عالم وعليم, والأول أشبه.

وقوله: وفي كل قوسٍ كل يوم تناضلٍ ... وفي كل طرفٍ كل يوم ركوب القوس: مؤنثة, وقالوا في تصغيرها: قويس, فلم يدخلوا الهاء, والحكم في الثلاثي المؤنث إذا صغر أن تثبت فيه هاء التأنيث, كما قالوا: نار ونويرة, وشمس وشميسة, ولم يحكوا قويسة, وقالوا للرجل إذا حسنت حاله: صار خير قويسٍ سهمًا, وجمع قوس في أدنى العدد أقؤس بهمز الواو لأجل الضمة؛ وذلك اختيار المازني, وذهب غيره إلى أن إظهار الواو أحسن, وقالوا في الكثيرة: قياس كما قالوا: ثوب وثياب, وقلبوا فقالوا: قسي, فلزموا الكسرة في القاف ولم تضم, كما قالوا: دلي ودلي؛ لأنهم أرادوا أن يدلوا على كسرة قياس. وأن قسيا مقلوبة منها. والتناضل يستعمل على وجهين: أحدهما أن يرمي القوم سهامهم لينظروا أيهم أحسن رميًا. والآخر أن يتناضلوا, وهم يريدون الحرب والشر, ثم نقلوا هذه اللفظة, فقالوا: ناضل فلان فلانًا إذا نازعه في أمر أو فاخره. ومن أبيات المعاني: [البسيط] قد ناضلوك فأبدوا من كنائنهم ... مجدًا تليدًا ونبلًا غير أنكاس ناضلوك هاهنا في معنى فاخروك, وكان الرجل منهم إذا جز ناصية أسيره جعلها في

كنانته, فإذا فاخر يومًا نكب كنانته وقال: هذه ناصية فلان؛ فذلك عني القائل بقوله: مجدًا تليدًا. وقوله: كأن الردى عادٍ على كل ماجدٍ ... إذا لم يعوذ مجده بعيوب يقول: كأن الردى يعدو على الماجدين إذا لم يكن لهم عيب, وكانت العرب في الجاهلية تعلق على أولادها ومن تشفق عليه عظام الميتة, ورؤوس الأرانب, والأنجاس, قال الشاعر: [الطويل] لو كنت في نيقٍ على رأس هصبة ... وعلق أنجاسًا علي المنجس إذًا لأتاني الموت يحدوه سائق ... إليَّ وهادٍ دون ذاك منقرس وقال امرؤ القيس: [المتقارب] يا هند لا تنكحي بوهةً ... عليه عقيقته أحسبا مرسغةً بين أرساغه ... به عسم يبتغي أرنبا قيل: إنه أدخل الهاء للمبالغة, وإنما هو مرسغ. (7/ب) [المتقارب] يعلق في ساقه رأسها ... حذار المنية أن يعطبا والماجد: الكريم بن الكرماء, وقال قوم: بل يكون الماجد بنفسه دون آبائه, ويزعمون

أنه أخذ من قولهم: مجدت الإبل, إذا امتلأت بطونها من الرعي, ويقال: استمجد من الشيء إذا استكثر منه, والمثل السائر: «في كل شجر نار, واستمجد المرخ والعفار»؛ أي: استكثر من النار. والعيوب يجوز فيها كسر العين وضمها, وكذلك ما جمع على فعول من ذوات الياء, مثل: شيخ وشيوخ, وبيت وبيوت, وجيب وجيوب. وقوله: ولولا أيادي الدهر والجمع بيننا ... غفلنا فلم نشعر له بذنوب د أيادي الدهر: أي: نعمه وإحسانه, وأصل ذلك في بني آدم, ولكنهم لما أخبروا عن الدهر كما يخبرون عمن يعقل, ونسبوا إليه الإساءة والإحسان جاز أن يجعلوا له أيادي. وتروى حكاية عن أبي عمرو بن العلاء, وأبي الخطاب الأخفش معناها أن أبا الخطاب وأبا عمرو كانا في مجلس ومعهما جماعة, فذكر أبو عمرو أن الأيادي لا تستعمل إلا في النعم, وأنه لا يقال أيادي القوم في جمع يد, فسكت أبو الخطاب فلم انصرف قال لمن صحبه: والله إنها لفي علمه, ولكنه نسي, وهو أنشدنا هذا البيت: [الخفيف] ساءها ما تأملت في أياديـ ... ـنا وإشناقها إلى الأعناق

ومعنى البيت: أن الدهر لو لم يحسن إلينا بالجمع بيننا لكنا غافلين في العدم لم نشعر له بذنوب. وقوله: وللترك للإحسان خير لمحسنٍ ... إذا جعل الإحسان غير ربيب هذا البيت شرح للبيت الأول, وأقامه حجةً على الدهر, كأنه قال: أحسن إلينا الدهر في بيننا, وأساء فيما صنعه من التفرقة, وترك من أحسن إحسانه أجمل به من أن يحسن ثم يجيء بإساءة. يقال: رب الإحسان إذا زاده, ودام عليه, وهو من قولهم: رببت الصبي. وقوله: فتى الخيل قد بل النجيع نحورها ... تطاعن في ضنك المقام عصيب قوله: فتى الخيل: كلام فيه حذف, وإنما يريد فتى الخيل الذي يفضل الفتيان؛ كما تقول: فلان ردل بني فلان, أي: هو أفضل رجلً فيهم, وقد يجوز أن يكون فيهم جماعة يقع عليهم هذا الاسم, ومنه قول الهذلي: [الطويل] لعمرو أبي الطير المربة بالضحى ... على خالدٍ أن قد وقعن على لحم أي لحم رجلً عظيم الشأن. ومنه حديثٌ يروى عن رجل من اليهود أنه رأى عليًا - رضي الله عنه - يشتري جهازًا لامرأة, فقال له: بمن تزوجت؟ فقال: بفاطمة ابنة محمد صلى الله عليهما, فقال اليهودي: لقد تزوجت با مرأةٍ! أي: ذات شرفٍ عظيمٍ, وقد علم أن هذا

الاسم يقع على جميع النساء. والخيل يراد بها هاهنا فرسان الخيل, ولكنهم يحذفون المضاف كثيرًا, والتطاعن إنما يكون من الفرسان لا من الخيل. ومن حذف المضاف قول الراجز: [الراجز] كأن بزا تحته وقزّا ... أو فرشًا محشورةً إوزّا أي: ريش إوز. وضنك المقام أي: ضيقه, والمعنى في مكان ضنكٍ مقامه, وعصيب: أي: شديد, كأنه يعصب القوم كما تعصب السلمة ليخبط ورقها, يقال: يوم عاصب وعصيب. وهذا البيت ينسب إلى تأبط شرًا [الكامل] وإذا دعيت لشر يومٍ عاصبٍ ... فاصبر ليوم الشر حتى ينجلي وقوله: يعاف خيام الريط في غزواته ... فما خيمه إلا غبار حروب الريط: جمع ريطة, وهي كل ثوبٍ لم يكن لفقين. وقوله: تسل بفكرٍ في أبيك فإنما ... بكيت وكان الضحك بعد قريب ذكر ابن السكيت: الفكر, بالفتح, وكأنه عنده أفصح من الفكر, بكسر الفاء, ويقال في تثنية أبٍ: أبوان على الإتمام, وأبان على ترك الاسم منقوصًا. وفي النصب أبوين وأبين.

فأما قولهم في الجمع: أبون وأبين فيجوز أن يكون على الإتمام, وعلى النقص؛ لأنه إذا قال في التثنية أبوان وجب أن يقول في الجمع أبوين على القياس؛ وذلك لا يجوز. ولو سميت رجلًا بعصًا لقلت في التثنية: عصوان, وفي الجمع المنصوب عصين, والأصل: عصوين فاستثقلوا الكسرة على الواو فسكنوها فالتقى ساكنان, فحذفت الواو, وبقيت الصاد مفتوحة. أو يكونوا جاؤوا بياء الجمع بعد ألف عصا (8/أ) فالتقى ساكنان فحذفت الألف. والنحويون يقولون: قلبت الواو ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها؛ وذلك لا يحتاج إليه, بل يقال: إن الياء راموا دخولها بعد ألف عصا وهي ساكنة فأوجب ذلك لها السقوط, وهذا الشعر ينسب إلى الفرزدق: [مجزوء الكامل] يا خليلي اسقياني ... أربعًا ثم اثنتين من شرابٍ كدم الجو ... ف يحر الكليتين واصرفا الكأس عن الجر ... هل يحيى بن حصين لا يذوق اليوم كأسًا ... أو يفدى بالأبين وقول الشاعر: [المتقارب] فلما تسمعن أصواتنا ... بكين وفديننا بالأبينا يجوز أن يكون جمع أبٍ على الإتمام, وهو جمع على النقص. وكذلك قولهم: أخون وأخين في جمع أخ. قال الشاعر: [الوافر] وكان لنا فزارة عم سوءٍ ... وكنت له كشر بني الأخينا

وقوله: وللواجد المكروب من زفراته ... سكون عزاءٍ أو سكون لغوب الزفرات: جمع رفرة, وهو الزفير؛ وذلك صوت يخرج عن حبس النفس في الجوف, ومنه قولهم: طوى الفرس على زفرته؛ أي: أنه مجفر الجنبين, زفر, ثم خيط على ذلك, فثبت, ولم يزل عن تلك الحال, قال الجعدي: [المنسرح] خيط على زفرةٍ فتم ولم ... يرجع إلى دقةٍ ولا هضم واللغوب: الإعياء, وقد حكي بفتح اللام, وروي أن أبا عبد الرحمن السلمي قرأ: {وما مسنا من لغوب} , بفتح اللام. وقوله: وكم لك جدًا لم تر العين وجهه ... فلم تجر في آثاره بغروب الغروب: جمع غرب, وأصل الغرب حدة الشيء, وأصحاب النقل يتجوزون في العبارة فيقولون: الغروب: الدمع, وقيل: الغرب أن لا ترقأ الدمعة, قال الراجز: [الرجز] مالك لا تذكر أم عمرو ... إلا لعينيك غروب تجري والمعنى أن الإنسان إنما يحزن لمن يعرف ويشاهد, فأما جدوده الذاهبون فلا يدركه عليهم البكاء, وهو معنى قول أبي خراش الهذليّ: [الطويل] ولكنّها تعفو الكلوم وإنما ... نوكل بالأدنى وإن جل ما يمضي

ومن أبيات أجاز بها بيتا أولها

وقوله: وفي تعبٍ من يحسد الشمس نورها ... ويجهد أن يأتي لها بضريب ضريب الإنسان مثله وشبهه, وأصل ذلك فيما يضرب من الدراهم والسيوف. يقال: هذا من ضرب هذا؛ أي: أنه قد ضرب معه فهو له مشابه, وكأن ضريبًا جاء على قولهم: هو يضاربه أي يكون من ضربه الذي ضرب معه, إما من السيوف, وإما من الدراهم, كما يقال: جالسه فهو جليسه, وصادقة فهو صديقه, ونحو ذلك. ومن أبيات أجاز بها بيتا أولها فديناك أهدى الناس سهمًا إلى قلب ... وأقتلهم للدارعين بلا حرب هي من الطويل الأول في قول الخليل, وفي قول غيره من السحل الأول إلا أنه لا يجعله في أول شيء من ضروبه, وقافيتها من المتاتر. أفعل إذا كان للتفضيل فبينه وبين أفعل الذي للتعجب مناسبةً؛ وذلك أنه يقال: هذا أقول منه, وما أقوله, فتصح الواو في المثالين. وتمتنع أن يقال: هذا أحمر من هذا؛ أي: أشد حمرةً, كما يمتنع أن يقال: ما أحمرة أي: ما أشد حمرته. وفعل التعجب يبنى من الأفعال الثلاثية, وهي ثلاثة أبنية, وهي: فعل وفعل وفعل, ولا

يبنى إلا من فعلٍ قد سمي فاعله, ولا يجوز أن يبنى من فعلٍ فاعله غير مسمى, فيقال: ما أضرب أخاك؛ لأن هذا اللفظ مأخوذ من قولهم: ضرب أخوك, ثم وقع التعجب من كثرة ضربه أو شدته. فإذا قلت: ضرب أخوك لم يحسن أن تقول: ما أضرب أخاك, وأنت تريد ما أشد الضرب الذي ضربه. وقوله: أهدى الناس سهمًا يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون مأخوذًا من قولهم: هدى الوحشي إذا تقدم, فيكون سهم منصوبًا على التمييز, ويكون أفعل مبنيًا من فعل له فاعل, ويكون الفعل للسهم, والآخر أن يكون الفعل للمخاطب من قولهم: هديته الطريق؛ فإذا حمل على ذلك فسهم ينتصب بفعل مضمر يدل عليه قوله: أهدى؛ لأن فعل التعجب لا يجوز أن ينصب مفعولًا, وكذلك أفعل الذي للتفضيل, وعلى ذلك حملوا قول الشاعر: [الطويل] فلم أر مثل الحى حيا مصبحًا ... ولا مثلنا لما التقينا فوارسا أكر وأحمى للحقيقة منهم ... وأضرب منا في اللقاء القوانسا نصب القوانس بفعل مضمر كأنه قال: وأضرب منا في اللقاء فتم الكلام, وأضمر نضرب القوانس. والدارع: الذي عليه الدرع. وقوله: (8/ب): تفرد بالأحكام في أهله الهوى ... فأنت جميل الخلف مستحسن الكذب

ومن بيتين أولهما

الأفصح الكذب, وهم ينقلون فعلًا إلى فعل كثيرًا, فيقولون: كبد وكبد, وكتف وكتف. وقوله: ومن خلقت عيناك بين جفونه ... أصاب الحدور السهل في المرتقى الصعب الحدور: كل مكانٍ ينحدر فيه, فهو عندهم أسهل من الصعود؛ لأن الصعود شاقةً, ولذلك قالوا: تصعدني هذا الأمر إذا شق علي, ومنه قوله تعالى: {سأرهقه صعودًا} , وقال الهذلي: [الوافر] وإن سيادة الأقوام فاعلم ... لها صعداء مطلبها طويل وكلام أبي الطيب مؤد هذا المعني كأنه قال: أصاب الحدور السهل في الصعود, والصعود والحدور يستعملان على التأنيث, وذكر الحدور هاهنا؛ لأنه جعله كالنعت لمكان. ومن بيتين أولهما لعيني كل يومٍ منك حظ ... تحير منه في أمرٍ عجاب وهما من الوافر الأول في قول الخليل, ومن السحل الرابع في قول غيره, وقافيتهما من المتواتر.

فعيل إذا أريد به المبالغة إلى فعال, فإذا أرادوا الزيادة شددوا فقالوا: فعال؛ من ذلك: عجيب وعجاب, فإذا أرادوا أن يزيدوا للمبالغة قالوا: عجاب, وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي: {إن هذا لشيء عجاب} , وقالوا: طويل وطوال وطوال, وأنشد الفراء: [الرجز] جاء بصيدٍ عجبٍ من العجب ... أزيرق العينين طوال الذنب وقوله: حمالة ذا الحسام على حسامٍ ... وموقع ذا السحاب على سحاب حمالة السيف, بالكسر, وهي مأخوذة من الحمل, يقال: حمالة ومحمل, قال الراجز: نحن ضربنا مخلدًا في هامته ... بصارمٍ أوفى على علاوته حتى هوى يعثر في حمالته ... ياثكل أميه وثكل خالته يجوز أن يعني بأميه أمه وجدته, أو أمه وعمته, أو أمه وظئره التي أرضعته. والحسام من أسماء السيف, وهو وصف في الأصل من قولهم: حسم إذا قطع, وربما أدخلوا فيها الهاء فقالوا: حسامة, ويقولون: حساماه في معنى حديه. قال الشاعر: [الطويل] وعندي حساما سيفه وحمائله

ومن أبيات أولها

ومن أبيات أولها تجف الأرض من هذا الرباب ... ويخلق ما كساها من ثياب وهي في وزن ما قبلها. يقال: جف الثوب يجف, بكسر الجيم, وهي اللغة العالية, وحكى الكسائي: جف يجف, يقال على اللغة الأولى: جففت يا ثوب, وعلى اللغة الثانية جففت. والرباب: سحاب دون السحاب الأعلى. قال الشاعر: [المتقارب] كأن الرباب دوين السحاب ... نعام يعلق بالأرجل ويقال: خلق الثوب وأخلق. وقوله: تسايرك السواري والغوادي ... مسايرة الأحباء الطراب السواري: السحب التي تمطر بالليل؛ لأن السرى مخصوص بها المسير في الليالي دون الأيام, والغوادي ما غدا من السحب. وكأن السير كلمة عامة والسرى كلمة مخصوصة. وقد استعمل أبو الطيب السير هاهنا لسواري السحب, وقوى ذلك أنه أشرك معها الغوادي, إلا أنه غير الممتنع أن يقال ساروا ليلًا, كما يقال: سروا. والأحباء: جمع حبيبٍ, وهو جمع قليل على رأي أبي زيد, ولم يذكره النحويون في أبنية الجموع القليلة, فأما الأحبة فجمع قليل بلا اختلاف, والطراب جمع طرب, وهو الذي تأخذه خفة من الفرح أو الحزن.

ومن التى أولها

ومن التى أولها فديناك من ربع وإن زدتنا كربا ... فإنك كنت الشرق للشمس والغربا وهي من الطويل الأول, وقافيتها من المتواتر. الربع: المنزل في كل الأحيان, والمربع: المنزل (9/أ) في الربيع خاصة. وقوله: نزلنا عن الأكوار نمشي كرامةً ... لمن بان عنه أن نلم ربه ركبا الركب: جمع راكب, وهم أصحاب الإبل خاصة, كذلك يقول أصحاب النقل, فإذا جاؤوا بالفعل قالوا: ركب, [ثم] توسعوا في هذه الكلمة فقالوا: ركب الناقة والفرس والحمار وغير ذلك. فإذا قالوا: أركوب فقد اختلفوا فيه فقيل: الأركوب مثل الركب, وقيل: هو أكثر منه, وقيل بل الركب أكثر من الأركوب, وإذا صغروا الركب قالوا: ركيب, قال الشاعر: [الطويل] وأين ركيب واضعون رحالهم ... إلى أهل نارٍ من أناسٍ بأسودا وقوله: نذم السحاب الغر في فعلها به ... ونعرض عنها كلما طلعت عتبا السحاب: جمع سحابة, وكل جمع ليس بينة وبين واحده إلا الهاء يجوز أن يحمل على

التوحيد فيقال: هذا تمر طيب, وإن قيل: هذا تمر طيبة فحسن. وقوله: الغر قد جاء بالنعت مجموعًا, ولو قيل: السحاب الأغر لكان صوابًا, ومثل مجيء النعت مجموعًا قوله تعالى: {وينشئ السحاب الثقال} , ولو أنه في غير كتاب الله سبحانه لجاز أن يقال: السحاب الثقيل. وقوله: وكيف التذاذي بالأصائل والضحى ... إذا لم تعد ذاك النسيم الذي هبّا قالوا: أصيل وأصائل, قال الهذلي: [الطويل] لعمري لأنت البيت أكرم أهله ... وأقعد في أفيائه بالأصائل ويقال: أصل, وزعم بعضهم أنه جمع أصيلٍ, مثل: رغيفٍ وزغفٍ, وقال بعضهم: بل هو واحدٌ والجمع آصال, وقالوا: أصيل وأصلان, كما قالوا: رغيف ورغفان, وقالوا في التصغير: أصيلان, وأبدلوا اللام من النون فقالوا: أصيلال. وكان الفراء يقول: إن أصيلالاً تصغير آصال, وإنهم جعلوا زيادة اللام عوضًا مما حذفوه؛ لأنهم لو جاؤوا به على الأصل لقالوا: أو يصال, وكان يشبّهه بقولهم: دهر وأدهر ثم قالوا: دهارير, كأنه يذهب إلى أنهم أرادوا: أداهير. والضحى: مؤنثة, وتصغيرها عندهم ضحي, وهذا خلاف ما أصلوه في مؤنث الثلاثي؛

لأنهم يرون زيادة الهاء, فيقولون: شمس وشميسة, وقدم وقديمة, واحتجوا في أنهم قالوا في تصغير ضحى ضحي, فلم يزيدوا الهاء بأنهم فعلوا ذلك ليفرقوا بين تصغيرها وبين تصغير ضحوة, وقالوا: فعل كذا ضحوًا في معنى ضحى, فيجوز أن يكون قولهم: ضحي تصغير ضحو. قال الشاعر: [الطويل] طربت وهاجتك الحمام السواجع ... تميل بها ضحوًا غصون نوايع والنسيم: أول الريح, ولا يكون إلا ضعيفًا. وقوله: فيا شوق ما أبقى ويا لي من النوى ... ويا دمع ما أجرى ويا قلب ما أصبا حذف الياءات التي للإضافة وهي اللغة الجيدة, ويجوز في غير هذا الموضع: فيا شوقي بياء ساكنة ويا شوقي بياء مفتوحة, ويا شوقًا بياء منقلبة إلى الألف, وقوله: يا لي: يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون أراد اللام المفتوحة التي للاستغاثة, كما يقال: يال فلان, ويال بكرٍ. والآخر أن يكون أراد اللام المكسورة التي تكون في المستغاث من أجله كأنه قال: يا قوم اعجبوا لي من النوى. وقوله: ما أجرى, وما أصبى, وما أبقى: كله على إرادة الكاف, كأنه أراد ما أبقاك, وما أجراك, وما أصباك, وحذف لعلم السامع. وقوله: لقد لعب البين المشت بها وبي ... وزودني في السير ما زود الضبا أشبه ما يقال في هذا البيت أنهم يزعمون أن الضب إذا خرج من بيته فبعد لم يهتد للرجوع فيقال: «هو أحير من ضب» , «وأبله من ضب». ويجوز أنه يعني أنه لم يزود شيئًا كما أن الضب لا يزود, وخص الضب؛ لأنه لا يحتاج إلى الماء, وكأنه يزود ماءً ولا غيره.

وقوله: عليم بأسرار الديانات واللغى ... له خطرات تفضح الناس والكتبا اللغى: جمع لغةٍ, ردت في الجمع إلى الأصل, كأنها لغوة, وربما قالوا في الجمع: لغين, كما قالوا: ثبة وثبين, وقالوا: لغات, وهو المعروف, وقال الشاعر في لغين: [الطويل] وصهب اللحى شتى اللغين كأنهم ... ضفادع جياتٍ لهن نقيق (9/ب) وقوله: فبوركت من غيثٍ كأن جلودنا ... به تنبت الديباج والوشي والعصبا الديباج: كلمة معربة, وقد استعملوها في الكلام القديم, وقالوا: دبجه الغيث؛ أي: أظهر فيه زهرًا وألوانًا مختلفةً. والوجه كسر الدال من ديباج, وقد حكي فتحها, وهي رديئةً, وقالوا في الجمع: ديابيج. قال ذو الرمة: [الطويل] يلس الندى حتى كأنه سراته ... عليها دهان أو ديابيج تاجر والوشي: كل ما كان فيه ألوان مختلفة. والعصب: صله الغزل, ثم قيل للثياب: عصب لأنها تنسج منه. والعصاب: الغزال, كذلك فسروا قول رؤبة: [السريع] طي القسامي ثياب العصاب والأشبه أن يكون العصاب هاهنا بائع الثياب التي تسمى عصبًا أو ناسجها.

وقوله: ومن واهبٍ جزلًا ومن زاجرٍ هلا ... ومن هاتكٍ درعًا ومن ناثرٍ قصبا هلا: من زجر الخيل, فإن شئت نونت, وإن شئت لم تنون, وقد أخرجوه من زجر الخيل فاستعملوه للآدميين, قالت الأخيلية: [الطويل] وأي حصانٍ لا يقال لها هلا والجزل: أصله في الحطب, وهو ما غلظ منه. قال حاتم الطائي: [الطويل] ولكن بهذاك اليفاع فأوقدي ... بجزلٍ إذا أوقدت لا بضرام ثم قالوا: عطاء جزل؛ أي: كثير, والقصب: المعى, وربما قالوا: هو النصف الأسفل مما في البطن. قال الشاعر: [الطويل] تمشي بها الدرماء تسحب قصبها ... كأن بطن حبلى ذات أونين متئم

وقوله: وهل رد عنه باللقان وقوفه ... صدور العوالي والمطهمة القبا المطهم: الحسن الخلق من الخيل والناس. وقالوا: مطهم. قال النمر بن تولب: [المتقارب] فأحبلها رجل نابه ... فجاءت به جعظرًا مطهما الجعظر: الكثير العظل واللحم, والقب: جمع أقب وقباء, وهو الذي لحق بطنهُ بخاصرته, وأكثر ما يقال: أقب, وربما قالوا: بطن مقبوب. قال الشاعر: [البسيط] فاليد سابحة والرجل ضارحة ... والعين قادحة والبطن مقبوب وقوله: مضى بعدما التف الرماحان ساعةً ... كما يتلقى الهدب في الرقدة الهدبا ثنى الرماح؛ لأنها من حيزين: حيز الروم وحيز المسلمين, وربما ثنوا هذا الجمع الذي له وزن في الآحاد, مثل: رماح وجمال؛ لأنهما على وزن حمار وعذار, ويقبح أن يقولوا في مساجد مثل ذلك؛ لأن مساجد جمع لا نظير له في الآحاد. قال أبو النجم: [الرجز]

تبقلت في أول التبقل ... بين رماحي مالكٍ ونهشل وقال الآخر: [البسيط] سعى عقالًا فلم يترك لنا سبدًا ... فكيف لو قد سعى عمرو عقالين لأصبح الحى أوبادًا ولم يجدوا ... عند التحمل للهيجا جمالين والهدب: ما نبت على شفر العين من الشعر. وقوله: ولكنه ولى وللطعن سورة ... إذا ذكرتهما نفسه لمس الجنبا أصل السورة الوثبة والعلو, وفيه ساوره الأسد؛ أي: واثبه, وقالوا: سور المدينة لارتفاعه. وقوله: إذا ذكرتها نفسه لمس الجنبا؛ أي: يظن أنه قد طعن فيلمس جنبه هل فيه طعنة أم لا, وهذا نحو من قول الحكمي: [المنسرح] إذا تفكرت في هواي له ... مسست رأسي هل طار عن جسدي وقوله: وخلى العذارى والبطاريق والقرى ... وشعث النصارى والقرابين والصلبا العذارى: جمع عذراء, وهي التي لم تقتض من النساء. وقالوا: درة عذراء, فزعم

بعض أهل العلم أنهم وصفوها بذلك؛ لأنها إذا فتحت عنها الصدقة وجد معها ماء قيل, يذهب إلى أن ذلك الماء مثل الدم الذي يسيل من المقتضة, ويجوز أن يكون قولهم عذراء؛ لأن الذي ظفر بها لم يظفر بها أحد قبله. ويقال في الجمع: عذارٍ مثل صحارٍ, إلا أن عذارى أكثر. والبطاريق: جمع بطريق, وهو صاحب هذه الرتبة من الروم, وكانت العرب تسمع أن البطاريق من أجلاء الروم, فإذا وصفوا الرجل منهم بالفضل قالوا: بطريق؛ أي: هو جليل مثل بطريق (10/أ) الروم, قال أبو ذؤيب: [الطويل] هم رجعوا بالحزم حزم نبايع ... هوازن يحدوها كماة بطارق والقرى: جمع قرية, وهو جمع شاذ؛ لأن فعلة لا تجمع على فعلٍ إلا في شذوذ. قالوا: لأمة للدرع والجمع لؤم, ودولة والجمع دول في حروف قليلة, وإنما سميت القرية قرية؛ لأنها موضع يجتمع فيه أهله كأنها مأخوذة من قريت الماء في الحوض إذا جمعته. والنصارى: جمع نصران, كما قالوا: سكران وسكارى, وقالوا للأنثى: نصرانة, قال الشاعر: [الطويل] فكلتاهما خرت قليلًا وأسجدت ... كما سجدت نصرانة لم تحنف والقرابين: جمع قربان, والأشبه أن يكون من قرابين الملك؛ أي: جلسائه, وواحدهم قربان, قال الشاعر: [الوافر] وما لي لا أحبهم ومنهم ... قرابين النبي بنو قصي ويجوز أن يكون أرد بالقرابين جمع قربانٍ, وهو ما يتقرب به النّصارى في دينهم.

وقوله: أرى كلنا يبغي الحياة لسعيه ... حريصًا عليها مستهامًا بها صبا المستهام: الذي يغلب عليه الحب, فيذهب على وجهه في الأرض, يقال: هام يهيم واستهامه الحب. والصب: أخو الصبابة, وهي رقة الهوى, وقيل: رقة الشوق, والمعنى متقارب. يقال: صب الرجل يصب فهو صب, ويجوز أن يكون صب على فعلٍ, وأصله: صبب, فادغم. قال الهلالي: [البسيط] بانوا فلست, على أني أصب بهم ... أدري إلى أي صرفي نيةٍ عتكوا وقوله: فأضحت كأن السور, من فوق بدؤه ... إلى الأرض, قد شق الكواكب والتربا فوق هاهنا: غاية, والمعنى أنه وصف بناء هذا الموضع بالعلو, وأنه قد تناهى بانيه, فكان أعلاه في السماء, وأسفله قد شق الأرض. وقوله: تصد الرياح الهوج عنها مخافةً ... وتفزع فيها الطير أن تلقط الحبا يقال: ريح هوجاء, فقيل: هي الدائمة الهبوب, وقيل: هي التي تجريء من كل ناحيةٍ, والأشبه أن تكون ذات الهبوب الدائم؛ لأنها شبهت بالناقة الهوجاء, وهي التي تركب رأسها في السير. قال ابن أحمر في صفة الريح: [الكامل]

ولهت عليه كل معصفةٍ ... هوجاء ليس للبها زبر وقوله: وتردي الجياد الجرد فوق جبالها ... وقد ندف الصنبر في طرقها العطبا ردى الفرس يردي, وهو عدو يرجم فيه الأرض بحوافره. وهذه الحكاية تردد عن الأصمعي كثيرًا, وهو أنه قال: سألت منتجع بن نبهان عن الرديان فقال: عدو الحمار بين آرية ومتمعكه ثم استعاروا الرديان في غير الخيل, وقالوا في أحجيّة لهم: أحاجيك؛ ماذو ثلاث: آذان يسبق الخيل بالرديان. يعنون السهم. والصنبر هاهنا واحد الصنابر, وهي شدة البرد. قالت الأخيلية: [الطويل] ولا تأخذ الكوام الجلاد سلاحها ... لتوبة في صر الشتاء الصنابر وهذا أشبه من أن يكون الصنبر اليوم من أيام العجوز, الذي هو مذكور في البيت المعروف: [الكامل]

كسع الشتاء بسبعة غبر ... بالصن والصنبر والوبر لأن هذا اليوم يجيء في آخر الشتاء, والبرد في وسطه أشد. والعطب, بسكون الطاء وضمها: القطن. يريد أن الثلج قد وقع على الجبال فكأنه ما ندف من القطن. وقوله: كفى عجبًا أن يعجب الناس أنه ... بنى مرعشًا تبًا لآرائهم تبا تبا لآرائهم: أي: خسرانًا. وقوله: ولكن نفاها عنه غير كريمةٍ ... كريم النثا ما سب قط ولا سبا النثا: ما يظهر من الحديث الحسن أو الشنيع. يقال: نثا الحديث ينثوه نثوًا. وقوله: وجيش يثني كل طودٍ كأنه ... خريق رياحٍ واجهت غصنًا رطبًا الطود: الجبل, وادعى أن الجيش يثني الطود كما تثني الريح الخريق الغصن, وهذا من المبالغة التي يعدها الشعراء من بديع النظام, وهي كذب في الحقيقة. والريح الخريق: الدائمة الهبوب, وقيل: هي التي يسمع لها صوت, قال الشاعر: [الوافر] كأن هوية خفقان ريحٍ ... خريقٍ بين أعلامٍ طوال

ومن أبيات أولها

ومن أبيات أولها ألا ما لسيف الدولة اليوم عاتبًا ... فداه الورى أمضى السيوف مضاربا وهي من الطويل الثاني على رأي الخليل, وعلى رأي غيره من أول ضروب السحل الأول, لأن صاحب السحل يجعل الضرب الثاني في قول الخليل مقدمًا على الضرب الأول, وقافيتها من المتدارك. قوله: (10/ 5) ومالي إذا ما اشتقت أبصرت دونه ... تنائف لا أشتاقها وسباسبا التنائف: جمع تنوفةٍ, وهي الأرض المقفرة, ولم يصرفوا منها فعلًا. والسباسب: جمع سبسبٍ, وهي الأرض التي لا شيء فيها, وربما قالوا: سبسب مقلوب عن بسبسٍ, والمعنى واحد. وقوله: حنانيك مسؤولًا ولبيك داعيًا ... وحسبي موهوبًا وحسبك واهبًا حنانيك: تستعمل مثناة, وهي موضوعة موضع المصدر, كأنهم قالوا: افعل حنانًا بعد حنانٍ, أو تحنن حنانًا بعد حنانٍ, وقد قالوا في الواحد: حنان. قال امرؤ القيس: ويمنحها بنو شمجى بن جرم ... معيزهم حناك ذا الحنان أي رحمتك يا ذا الرحمة, وهو مأخوذ من قولهم حنت الناقة على ولدها, وحنت إليه؛ أي: رقت له, قال الحطيئة: [المتقارب] تحنن علي هداك المليك ... فإن لكل مقامٍ مقالا

ولبيك: كلمة مثناة مأخوذة من قولهم: لب الشيء, وألب به إذا لزمه. فهذا مذهب سيبويه. وكان يونس يذهب إلى أن ياء لبيك منقلبة من ألف, يذهب إلى أنها جارية مجرى على وإلى, تقول: على لان وإلى فلان, فإذا جئت بالمضمر قلت: عليك وإليك وأنشد سيبويه: [المتقارب] دعوت لما نابني مسورًا ... فلبي فلبي يدي مسور وكأنه يريد بهذا قول يونس؛ لأنه لو كان كما زعم لوجب أن يقول فلبا يدي مسور بألف. وحسبي كلمة معناها الكفاية. ويقال: حسبي الله, أي: كافي, وحسبي هذا الشيء أي قد كفاني. وهذه المنصوبات التي في البيت كقوله: مسؤولًا وواعيًا, الأحسن أن تكون منصوبة على التمييز, ولا يمتنع نصبها على الحال وقوله: أهذا جزاء الصدق إن كنت صادقًا ... أهذا جزاء الكذب إن كنت كاذبا هذا بيت فيه عتب شديد على سيف الدولة. يقول: أهذا الفعل الذي فعلت بي من الإبعاد والإخافة جزاء مدحي لك. فإن كنت صادقًا فما يجب أن تجازيني على صدقي بقبيحٍ, وإن كنت كاذبًا فإكرامي يجب أكثر مما يجب على الصدق؛ لأني تقولت لك من المكارم ما ليس فيك.

ومن بيتين أولهما

ومن بيتين أولهما أحسن ما يخضب الحديد به ... وخاضبيه النجيع والغضب وهما من المنسرح الأول في قول الخليل, ومن الطلق السادس في قول غيره, وقافيتهما من المتراكب. النجيع: تختلف العبارة فيه, فيقولون مرة هو الدم الخالص, ومرةً هم الدم الأحمر, ومرة هو دم الجوف. وخاضبيه: معطوف على قوله: ما يخضب؛ أي: أحسن خاضبي الحديد الدم والغضب, وإن جعل (خاضبيه) منصوبًا على أنه مفعول معه فلا يمتنع. وقوله: فلا تشيننه بالنضار فما ... يجتمع الماء فيه والذهب النضار: الخالص من كل شيء, وقد صار اسمًا للذهب, والمعنى أن الحديد إذا أذهب ستر الذهب الماء الذي هو من غريزته الأصلية, وكأن الشاعر اختار أن يترك على هيئته التي بها يقطع ويحمد, ولا يغير عن تلك الحال. ومن التي أولها أيدري ما أرابك من يريب ... وهل ترقى إلى الفلك الخطوب وهي من الوافر على رأي الخليل, ومن ثاني السحل الرابع على رأي غيره, وقافيتها من المتواتر. يقال: أرابه ورابه بمعنىً. قال الشاعر:

وقد رابني من صاحبي أن صاحبي ... يليح على قرصٍ ويبكي على جمل وقال جميل: [الطويل] بثينة قالت يا جميل أربتني ... فقلت كلانا يابثين مريب وقال قوم: رابني إذا عرفت فيه الريبة, وأرابني إذا ظننتها به, وأنشدوا هذا البيت: [الطويل] أخوك الذي إن ربته قال إنما ... أربت وإن عاتبته لان جانبه والخطوب: الأمر العظام. وقوله: يجمشك الزمان هوىً وحبًا ... وقد يؤذى من المقة الحبيب

زعم قوم أن التجميش كلمة مولدة, وإنما يراد به قرص غير مؤلم, وقال قوم: هو مأخوذ من الجمش, وهو الحلب بإصبعين, كأنهم أرادوا أنه مس برفقٍ. والمقة: محذوفة الواو, وهي من قولهم: ومقة مقةً, وأصلها: ومقة, ولو صغرتها لقلت: وميقة. وقوله: (11/أ) وأنت الملك تمرضه الحشايا ... لهمته وتشفيه الحروب الحشايا: جمع حشيةٍ, وهي فراش محشو, وهي معدولة عن محشوة, قال عنترة: [الكامل] تمسي وتصبح فوق ظهر حشيةٍ ... وأبيت فوق سراة أدهم ملجم وادعى لسيف الدولة أن الحشايا تمرضه, وأن الحروب تشفيه؛ وذلك من الكذب الذي اصطلح عليه أصحاب النظم, واستحسنوه في صناعة الشعر. وقوله: وما بك غير حبك أن تراها ... وعثيرها لأرجلها جنيب الهاء في تراها عائدة على الخيل, أضمرها قبل الذكر لعلم السامع بما يريد, والعثير: الغبار, يقول: ما بك داء إلا حبك أن ترى الخيل والغبار طائر من تحت أرجلها, وهو يتبعها كأنه جنيب لها.

وقوله: مجلحةً لها أرض الأعادي ... وللسمر المناحر والجنوب المجلحة: الجريئة المقدمة يقال: جلح الذئب إذا لج في الطلب, وجلحت السنة إذا اشتدت على القوم. وقد استعملوا ذلك في الإنس, فقالوا: رجل مجلح إذا ألح في الحاجة. وقال امرؤ القيس: [الوافر] أرانا موضعين لحتم غيب ... ونخدع بالطعام وبالشراب عصافير وذبان ودود ... وأجرأ من مجلحة الذئاب وقوله: لها أرض الأعادي يحتمل أن يريد أنها تركض فيها, وتشغلها بحوافرها, فكأنها لها, أو يريد أن فرسانها يملكونها, فكأنها هي المالكة على معنى السعة والمجاز, كما يقولون: الخيل تعلم, والخيل تشهد؛ أي فوارس الخيل. وللسمر المناحر والجنوب, أي: تطعن بها فكأنها لها دون غيرها. وقوله: فقرطها الأعنة راجعاتٍ ... فإن بعيد ما طلبت قريب يقال: قرط الفرس عنانه إذا أرسله من يده حتى يصل إلى أذنه التي هي موضع القرط, أو يمد يده بالعنان حتى تصل إلى ذلك الموضع, والقرط في أسفل الأذن, والشنف في أعلاها؛ فلذلك كان التقريط هاهنا أولى من التشنيف. وقوله: أذا داء هفا بقراط عنه ... فلم يوجد لصاحبه ضريب؟ الناس يختلفون في إنشاد هذا البيت, وأصح ما يقال: أذا داء؛ أي: أهذا داء؟ ؟ وتكون الألف للتقرير أو الاستفهام الخالص؛ كأنه لما ذكر داء سيف الدولة, وأنه حب الحرب وشوقه إليها, قال: أهذا الداء داء لم يعرفه بقراط. فأما من يروي: إذا داء فلا وجه لروايته, على أنه

ومن التي أولها

يؤدي معنى انفراد سيف الدولة بهذا الداء إذا جعلت الفاء جوابًا لإذا. والذين رووا أذى داءٍ أقرب إلى الإصابة؛ لأنه يحمل على أنه أراد هذا أذى, ويجوز أن يقول أصحاب هذه الرواية: إن الهمزة للنداء, والمعنى: ياذا اداءٍ؛ أي: أنت يا سيف الدولة صاحب هذا الداء. وقوله: بسيف الدولة الوضاء تمسي ... جفوني تحت شمسٍ ما تغيب يقال: وضيء ووضاء, كما يقال: كريم وكرام, قال الشاعر: [الكامل] والمرء تلحقه بأسباب العلى ... شيم الكريم وليس بالوضاء ومن التي أولها بغيرك راعيًا عبث الذئاب ... وغيرك صارمًا ثلم الضراب وهي في الوزن كالتي قبلها, وقافيتها من المتواتر. يجوز أن يكون نصب راعٍ وصارمٍ على التمييز, وعلى الحال. والصارم: القاطع, وكل صرمٍ قطع. وقوله: وتملك أنفس الثقلين طرًا ... فكيف تحوز أنفسها كلاب الثقلان: يراد بهما الإنس والجنس, ولو تؤول أنهما العرب والعجم لكان ذلك وجهًا؛ لأن الجن لا يظهرون للإنس, فأما الثقلان اللذان في الحديث فتفسيرهما معهما, وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «أترك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي» , وإنما ذلك مأخوذ من ثقل الرجل الذي هو

محتاج إلى حمله ومراعاته, فكأن كتاب الله وعترته ثقلا النبي صلى الله عليه وسلم اللذان يجريان مجرى متاعه, وقوله: طرا: يريدون بها معنى الجميع, يقولون: لقيتهم طرًا؛ أي: كلهم, وهو من قولهم: طررت الإبل إذا جمعتها من أطرارها؛ أي: نواحيها, ونصب طر في قول قوم على المصدر, وفي قول قومٍ على أنه حال. وقوله: وتسأل عنهم الفلوات حتى ... أجابك بعضها وهم الجواب (11/ب) الفلوات: جمع فلاةٍ, وهي الأرض المقفرة, وهي مأخوذة من: فلوته بالسيف إذا قطعته, ويحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون سميت فلاة لانقطاعها عن الناس. والثاني: أن تكون سميت بذلك لأنها تفلى؛ أي: تقطع بالسير. والثالث: أنها تقطع من سار فيها لبعدها. وقوله: وقاتل عن حريمهم وفروا ... ندى كفيك والنسب القراب حريم الرجل: ما يجب عليه أن يحميه من النساء وغيرهن, كأنه الشيء الذي يتحرم به, أي يكون له إليه حرمة, والقراب: مثل القريب إلا أنه أشد مبالغة, قال الحارث بن ظالم: [الوافر]

وكنت إذا رأيت بني لؤي ... عرفت الود والنسب القرابا والمعنى أن هؤلاء القوم فروا, وتركوا حريمهم, فرحمت من خلفوه لما بينك وبينهم من النسب؛ إذ كنت أنت وهؤلاء القوم يجمعكم في النسب نزار بن معد بن عدنان. وقوله: وحفظك فيهم سلفي معد ... وأنهم العشائر والنصاب عنى بالسلفين ربيعة ومضر؛ لأن سيف الدولة من ربيعة, وبنو كلابٍ مضريون. والمعنى أنك حفظت السلفين المنتسبين إلى معد؛ لأنه لو لم يعن ذلك لاحتمل المعنى أن يحمل على أنه أراد السلفين اللذين قبل معد؛ مثل: عدنان, وأدد. والعشائر: جمع عشيرة, وهذا اللفظ يقع على البعيد في النسب والقريب, وهو مأخوذ من المعاشرة, وقد قالوا لامرأة الرجل: عشيرته, وكذلك يقولون للجارة, قال أوس بن حجرٍ: [الوافر] ولست بأطلس الثوبين يصبي ... عشيرته إذا ما الناس ناموا وأصل المعاشرة - والله أعلم - أن تكون مأخوذةً من أعشار الجزور, فكأن المعاشر - في الأصل - الذي يأخذ مع أصحابه عشر جزورهم, ثم كثر ذلك حتى أصلت المعاشرة الموافقة والمنادمة. والنصاب: الأصل.

وقوله: تكفكف عنهم صم العوالي ... وقد شرقت بظعنهم الشعاب تكفكف: في معنى تكف وتصرف, وهو مأخوذ من الكف. ووزن تكفكف على مذهب سيبويه تفعلل, وعلى ما وضع في كتاب العين تفعفع, وعلى مذهب الفراء تفعفل, وإليه ذهب الزجاج. والأشبه أن تكون صم العوالي هاهنا معرفةً, وتكون الإضافة على معنى من, كأنه أراد صما من العوالي, وهذا أحسن من أن تكون نكرةً. ويكون المعنى تكفكف عنهم صمًا عواليها. وأصل الظعن: الرحيل, وقيل للقوم المتحملين, ظعن وظعن. والشعاب: جمع شعبٍ, وهو الطريق في الجبل. يقول: ترد عنهم الرماح وهو فارّون, قد شرقت الشعاب بظعنهم؛ أي: ضاقت كما يضيق حلق الشرق بما فيه. والشرق هاهنا كقول الآخر: [الوافر] وما أنا والتلدد حول نجدٍ ... وأجهضت الحوائل والسقاب الأجنة: جمع جنينٍ, وهو الولد ما دام في بطن أمه؛ لأنه يجن به؛ أي: يستر, والولايا: جمع وليةٍ, وهو شيء يكون على ظهر البعير يجري مجرى البردعة لذوات الحافر. وسمي وليةً لأنه يلي الظهر, أو لأنه يلي ما فوقه. والمعنى أنهم أعجلوا فركبوا على الولايا, ولم يجعلوا فوقها شيئًا, فإذا فعل الرجال ذلك

فالنساء أسوأ حالًا منهم. وأجهضت الحوائل والسقاب: أي أسقطت من قبل أن تتم. يقال: أجهضت الناقة ولدها إذا ألقته لسنة أشهر أو نحو ذلك, قال الشاعر: [الكامل] أجهضن معجلةً لستة أشهر ... وحذين بعد نعالهن نعالًا يريد أن النوق حملت على السير الشديد, وألقت أولادها. والحوائل: جمع حائلٍ, وهي الأنثى من أولاد النوق, يقال: لا أفعل ذلك ما أرزمت أم حائلٍ, قال أبو ذؤيب: [الطويل] فتلك التي لا يبرح القلب حبها ... ولا ذكرها ما أرزمت أم حائل وجمع حائلٍ حول, قال الراجز: تسمع بين السجر والتحوب ... من أمهات حولها والأسقب مثل حنين القصب المثقب والسقاب: جمع سقب, وهو الذكر من أولاد النوق. وقوله: وعمرو في ميامنهم عمور ... وكعب في مياسرهم كعاب أراد أنهم قد افترقوا فصارت عمرو فرقًا كثيرة, يقال لكل واحد منها: عمرو, وكذلك كعب قصد صارت كعابًا لأجل الفرقة, وهذا مثل قول الرجل إذا أخذ نصيبه ثم قسمه على جماعةٍ صار نصيبي أنصبا, ونحو بيت أبي الطيب قول معود الحكماء الكلابي: [الوافر]

رأيت الصدع من كعبٍ وكانوا ... من الشنآن قد صاروا كعابا أي: افترقوا في الرأي والمنازل. وقوله: فعدن كما أخذن مكرماتٍ ... عليهن القلائد والملاب الملاب: طيب من طيب البادية, وقيل: هو الزعفران, وزعموا أنه معرب, قال الهذلي: [الوافر] (12/أ) أبيت على معاري فاخراتٍ ... بهن ملوب كدم العباط فهذا يدل على أن ألف ملابٍ منقلبة من واو. وقوله: يثبنك بالذي أوليت شكرًا ... وأين من الذي تولي الثواب يثبنك: أي: يعطينك على جهة الجزاء, وكأن الثواب عطاء لمستحق بالسابقة, ومن ذلك ثواب الله سبحانه لعباده؛ لأنهم يعملون فيستحقون العطاء. وقوله: وليس مصيرهن إليك سببًا ... ولا في صونهن لديك عاب يقال: سبيت النساء والذرية, وزعم قوم أن السبي لا يقع إلا على النساء. فأما الشعر القديم فبدل على أنه واقع على الرجال. قال امرؤ القيس: [الطويل] فقالت سباك الله إنك فاضحي ... ألست ترى السماء السمار والناس أحوالي

فقد وقع السبي على الرجل. وقد يجوز أن يكون قوله: سباك: أي: سلط عليك من يسبي أهلك. ويقولون في جمع سبي: سبي, كما يقال: ثدي وثدي, وينشد للكميت بن معروف الأسدي في أن السبي للنساء خاصة: وقائد دهمٍ قد حوته رماحنا ... أسيرًا ولم يحوينه وهو طائع فللقوم من أطرافهن مصارع ... وللسبي في أظلالهن مضاجع وقوله: وعين المخطئين هم وليسوا ... بأول معشرٍ خطئوا فتابوا يقول قوم: إن أخطأ وخطئ بمعنىً واحدٍ, وقيل: بل أخطأ إذا تعمد الخطأ, وخطئ إذا لم يتعمد. وقوله: وجرمٍ جره سفهاء قومٍ ... وحل بغير جارمه العذاب يقال: جرم وأجرم إذا فعل ذنبًا وهو الجرم, وأصل الجرم الكسب, فكأن المجرم يكسب الذنوب, وجريمة القوم: كاسبهم, وقيل للعقاب: حريمة ناهضٍ, لأنها تكسب لفرخها, قال الهذلي: [الوافر] كأني إذ غدوا ضمنت بزي ... من العقبان خائتةً طلوبا جريمة ناهضٍ في رأس نيقٍ ... ترى لعظام ما جمعت صليبا خائتة: التي تنقض.

وقوله: وتحت ربابه نبتوا وأثوا ... وفي أيامه كثروا وطابوا لما استعار الرباب للإحسان جعل القوم الذين نعشوا به كالنبت. وأصل الرباب سحاب دون السحاب المرتفع. وأثوا: أي: كثروا,] قال: نبت أثيث, وشعر أثيث. قال النابغة: [الكامل] وبفاحم رجلٍ أثيثٍ نبته ... كالكرم مال على الدعام المسند ويقال: أث لحم المرأة إذا كثر, وهي أثيثة. وقوله: ولو غير الأمير غزا كلابًا ... ثناه عن شموسهم ضباب لما كانت المرأة تشبه بالشمس جعل نساء القوم شموسًا, وجعل دونها من حمايتهم ضبابًا. وأصل ذلك أن المرأة يقال لها: كأنها الشمس, ثم يحذف حرف التشبيه, قال قيس ابن الخطيم: [الكامل] فرأيت مثل الشمس عند ذروها ... في الحسن أو كدنوها لغروب وقال آخر فحذف حرف التشبيه: [الوافر] من الشمسين شمس بني عقيلٍ ... إذا حضرت وشمس بني هلال وقوله: ولاقى دون ثأيهم طعانًا ... يلاقي عند الذئب الغراب

الثأي: جمع ثأية, وهو مراح الإبل إذا كانت عازبة, ويقال: إنه يتخذ من الشجر, وقوله: يلاقي عنده الذائب الغراب: أي: يجتمعان على أكل القتلى, وبعض الناس يذهب إلى أن الذئب لا يأكل إلا ما افترسه, وأنه لا يجري مجرى الضباع والكلاب, وعلى ذلك فسروا قول الشاعر: [الكامل] ولكل سيد معشرٍ من قومه ... دعر يدنس مجده ويعيب لولا سواه لجررت أوصاله ... عرج الضباع وصد عنه الذيب وقوله: وخيلًا تغتذي ريح الموامي ... ويكفيها من الماء السراب تغتذي من الغذاء؛ أي: تقوم لها الريح مقام العليق والمرعى. والموامي: جمع موماةٍ, وهي الأرض المقفرة, وجعل هذه الخيل تكتفي من الماء بالسراب على معنى المبالغة. والسراب عند أكثر الناس هو الذي يكون نصف النهار, والآل الذي يكون في أوله وآخره. ومنهم من يجعلهما سواءً. وقوله: بنو قتلى أبيك بأرض نجدٍ ... ومن أبقى وأبقته الحراب (12/ب) كان أبو الهيجاء بن حمدان قد حج بالناس في بعض السنين فلقيته العرب, وكان لهم معه خطب طويل, وكان معه أخوه داود بن حمدان. والحراب: جمع حربةٍ, وكان الظفر في ذلك اليوم للعرب فادعى أبو الطيب أن الظفر كان لأبي سيف الدولة.

ومن التى أولها

وقوله: عفا عنهم وأعتقهم صغارًا ... وفي أعناق أكثرهم سخاب السخاب: قلادة من قرنفلٍ, وربما كان من غيره, وينشد لامرأة: [الطويل] ويوم السخاب من تعاجيب ربنا ... على أنه من ظلمة الشك نجاني ويروى: ويوم الحقاب. وقوله: كذا فليسر من طلب المعالي ... ومثل سراك فليكن الطلاب موضع قوله كذا نصب بقوله: يسر. وقوله: مثل سراك منصوب؛ لأنه خبر يكن, وهذا من عجيب كلامهم؛ لأن الفاء إنما تعطف أو تكون في الجواب, فإذا تقدم المفعول أو الخبر جاؤوا بها ليعلموا أن الخبر وضع في غير موضعه. وكان بعض الكوفيين إذا قال: أخاك فاضرب, ينصب الأخ بفعلٍ مضمرٍ, كأنه قال: اقصد أخاك واعمد أو نحو ذلك. فإما في الخبر فيبعد هذا التأويل. ومن التى أولها يا أخت خير أخٍ يا بنت خير أبٍ ... كنايةً بهما عن أشرف النسب وهي من البسيط الأول على رأي الخليل, ومن السحل الثاني في قول غيره, وقافيتها من المتراكب. تاء الأخذت بدل من واوٍ في القول الأكثر, ووزنها فعل. وقال قوم: تاء أختٍ هي هاء التأنيث التي تصير هاء في الوقف, فلما سكنت خاء أختٍ قويت التاء فثبتت في الوقف؛

لأن ما قبل هاء التأنيث لا يكون إلا متحركًا حركةً بينةً أو مرادةً في النية كقولهم: أرطاة. فما قبل الهاء ساكن إلا أن أصله الحركة فكأنه أرطية فقلبت الياء ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها, ومن ذهب إلى هذا الوجه فوزن أخت عنده: فعت. والقول في تاء بنتٍ كالقول في تاء أختٍ, فمن زعم أن الساقط من ابن واو جعل أصل بنت على القول الأول بنو. ومن ذهب إلى أن الساقط من ابن ياء وأنه من بنى الرجل على امرأته يبني فأصل بنتٍ عنده بني, وكان الأخفش يجعل الذاهب من ابن واوًا ويستدل على ذلك بقولهم: البنوة, وكان الزجاج يجيز أن يكون الذاهب من ابن واوًا أو ياءً, ومن قال: إن تاء أختٍ هي هاء التأنيث فوزن بنت عنده: فعت, وهي على القول الأول فعل. وقوله: أجل قدرك أن تسمي مؤبنةً ... ومن يصفك فقد سماك للعرب التأبين: الثناء على الميت دون الحي, قال لبيد: [الرجز] فأبنا ملاعب الرماح ... ومدره الكتيبة الرداح وقد ذهب بعضهم إلى أن التأبين قد جاء للأحياء, وإنما يقال: إنه ورد في بيت الراعي وذلك قوله: [الطويل] وقلت لخلي ارفعاها وأبنا ... هنيدة واهتاج العيون اللوامح كأنهم يذهبون إلى أنه أراد أنشدا النسيب الذي قيل في هنيدة. وقد يمكن أن تكون هنيدة قد ماتت في تلك الحال, أو يكون يائسًا من لقائها؛ فكأنها عنده في حال الميت.

ومن يصفك فقد سماك للعرب؛ أي: أنك إذا ذكرت صفاتك علم السامع أنك المعنية بها دون غيرك؛ فكأن ذاكرك قد سماك, وهذا مثل قولك: في طيئ رجل يضرب به المثل في السخاء؛ فيعلم أنه حاتم, وإن لم يسم, وكذلك لو قيل: في بني كلاب فارس أعور هو أحد فرسان العرب الثلاثة لعلم أن المعني عامر بن الطفيل. وقوله: تعثرت به في الأفواه ألسنها ... والبرد في الطرق والأقلام في الكتب يريد أن هذا الخبر نبأ عظيم لا تجترئ الأفواه على النطق به, فهذا قد يجوز أن يكون صحيحًا؛ لأن الإنسان ربما هاب الإخبار بالشيء لعظمه في نفسه, وكذلك الكاتب الذي يكتب بالخبر الشنيع ربما تعثر قلمه هيبةً للأمر الذي دخل فيه, وإنما التعثير من الكاتب. وأما إدعاؤه التعثر للبرد فكذب (13/أ) لا محالة؛ لأن البريد لا يشعر بالخبر. وقد ذكر أبو الطيب في موضع آخر ما يدل على أن حامل الكتاب الذي لا يشعر ما فيه غير شاقٍ عليه حمله, فكيف بالدابة التي لا يحكم عليها بالعقل, ومن ذلك قوله لعضد الدولة: [السريع] حاشاك أن تضعف عن حمل ما ... تحمل السائر في كتبه والبرد: جمع بريد, وأصل ذلك أنهم كانوا ينصبون في الطريق أعلامًا, فإذا بلغ بعضها

راكب البريد نزل عنه وسلم ما معه من الكتب إلى غيره؛ فكأن ما به من الحر والتعب يبرد في ذلك الموضع أو ينام فيه الراكب. والنوم يسمى بردًا فسمي ما بين الموضعين بريدًا, وإنما الأصل الموضع الذي ينزل فيه الراكب, ثم قيل للدابة: بريد؛ لأنها يستعان بها على قضاء المأربة, وإنما كانت البرد للملوك, ثم قيل للسير: بريد, قال امرؤ القيس: [الطويل] على كل مقصوص الذنابى معاودٍ ... بريد السرى والليل من خيل بربرا وقال مزرد بن ضرار: [الطويل] فدتك عراب اليوم نفسي وأسرتي ... وناقتي الناجي إليك بريدها وقوله: به؛ حذف الياء التي عادتها أن تكون بعد هذه الهاء في الوصل كقوله تعالى: {وأنا به زعيم} , وقوله: {فخسفنا به وبداره الأرض} , وذلك عند سيبويه ضرورة, ومن الأبيات التي أنشدها سيبويه: [الطويل] فأيقن أن الخيل إن تلتبس به ... يكن لفسيل النخيل بعده آبر

وقول الآخر: [الطويل] فإن يك غثا أو سمينًا فإنني ... سأجعل عينيه لنفسه مقنعا وأنشد الكسائي بيتًا قد حذفت فيه الياء والواو وهو لأبي حزام العكلي: [الكامل] لي والد شيخ تسوؤه غيبتي ... وأظن أن فناء عمره عاجل وقوله: كأن فعلة لم تملأ مواكبها ... ديار بكرٍ ولم تخلع ولم تهب كنى عن خولة بفعلة, وهذا تقوية لقوله: «أجل قدرك أن تسمي مؤنثة» , والخولة, فيما يزعمون, ظبية السهل, وبها سميت المرأة. والمتورعون من أهل العلم إذا ذكروا بيتًا فيه هجاء وقد سمي المهجو فيه كنوا عنه باسمٍ على وزنه يبنونه من الفعل, من ذلك أنهم ينشدون: [الطويل] تعرض ضيطارو فعالة دوننا ... وما خير ضيطارٍ يقلب مسطحا فيقال: إن القائل قال: ضيطارو خواعة, فوضعوا مكانه فعالة.

وقوله: وهمها في العلى والملك ناشئةً ... وهم أترابها في اللهو واللعب العلى: جمع عليا, وهي أنثى الأعلى, وإذا ردوا الأفعل إلى الفعلى, وكان من ذوات الواو قلبوا الفعلى إلى الياء. من ذلك الأعلى والعليا والأدنى والدنيا, وقالوا الأقصى والقصيا والقصوى, فجاء بالياء والواو, والقصوى عندهم كالشاذ. والأتراب أكثر ما تستعمل في الإناث. وذكر سعيد بن مسعدة ما يدل على أنه يستعمل في الرجال, وأنهم يدخلون الهاء على المؤنث فيقولون: تربتها, وترب الرجل. والغالب على الأتراب كونها في النساء. وقوله: يعلمن حين تحيا حسن مبسمها ... وليس يعلم إلا الله بالشنب المبسم: الموضع الذي يكون فيه التبسم, ولو بني المصدر منه لوجب أن يفتح فيقال: بسم الرجل مبسمًا, وهذا كالمطرد في المكان والمصدر. والشنب: البرد. ويقال: يوم شانب؛ أي: بارد, والثغر يوصف بذلك, قال الشاعر, وهو ينسب إلى امرئ القيس: [الكامل] بردت مراشفها علي فصدني ... عنها وعن قبلاتها البرد وقال الراجز يخاطب ولده: يا بأبا أنت وفوك الأشنب ... كأنما ذر عليه الزرنب وقال قوم: الشنب: تحدد أطراف الأسنان.

وقوله: مسرة في قلوب الطيب مفرقها ... وحسرة في قلوب البيض واليلب استعار للطيب قلوبًا؛ لأن جعله كمن يعقل, ولما كان الطيب يقع على صنوف كثيرة حسن أن يجمع فيقول: قلوب الطيب؛ لأن من الطيب المسك والكافور والعنبر, وغير ذلك. والبيض: جمع بيضة الحديد. واليلب في هذا الموضع: شيء يتخذ من الجلود, فيجعل على الرأس في الحرب, وقد اختلف فيه, فقيل: هو شيء كالدروع يتخذ من أديمٍ, وقال قوم: اليلب: الترسة. وقال قوم: اليلب: خالص الحديد. وقال بعضهم: إنما غلط الراجز فظن أن اليلب حديد, فقال: ومحور أحكم من ماء اليلب كما غلط الآخر في قوله: [الرجز] برية لم تعرف المرققا ... ولم تذق من البقول الفستقا فظن أن الفستق من البقول. ومثل هذا من أغلاط العرب كثير. وقوله (123/ب): إذا رأى ورآها رأس لابسه ... رأى المقانع أعلى منه في الرتب

رأى تقع على قوله: رأس لابسه, وتقدير الكلام إذا رأى البيض واليلب رأس لابسه ورأى هذا المرأة علم أن المقانع التي تلبسها النساء أشرف منه. وقوله: وإن تكن تغلب الغلباء عنصرها ... فإن في الخمر معنى ليس في العنب يقال: إن تغلب الغلباء إنما قيل في الأصل لتغلب بن حلوات بن عمران بن الحاف بن قضاعة. فيجوز أن يكون قولهم: الغلباء: أي: أنها تغلب الناس, ويحتمل أن يراد بذلك الكثافة والقوة من قولهم: أسد أغلب إذا كان غليظ العنق, ثم وصفت تغلب بنة وائل بهذا الوصف. والعنصر, بضم الصاد, وفتحها: الأصل, ويحتمل أن يكون اشتقاقه من عصرت الماء, وتكون النون زائدةً؛ لأن المولود عصارة من أبيه؛ إذ كان يخلق من مائه, ولا يمتنع أن يكون العنصر من العصر الذي هو الملجأ؛ لأن أصل الإنسان كأنه شيء يلجأ إليه. قوله: وليت عين التي آب النهر بها .... فداء عين التي زالت ولم تؤب جعل النهار يؤوب بعين الشمس؛ لأنه يكون كالغائب, والمعروف في كلام العرب أن يكون الإياب مع الليل, ولذلك قالوا: التأويب سير النهار كله إلى الليل, وقال كعب بن سعد الغنوي: [الطويل] هوت أمه ما يبعث الصبح غاديًا ... وماذا يؤدي الليل حين يؤوب

وقد جعلوا رجوع الغائب إيابًا كما قال امرؤ القيس: [الوافر] وقد طوفت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب ولو ذهب ذاهب إلى أن أبا الطيب عني بقوله: آب النهار أن الشمس تغرب من انقضائه فكأنه يؤوب بها إلى الموطن الذي كانت فيه لكان ذلك وجهًا موافقًا لقول من يقول: إن الإياب مع الليل, وأنشد سعيد بن مسعدة: [الطويل] وما أبت حتى قال لي بعدما أبت ... معيزي أوب المهتدي الجعد أب أب وقوله: [البسيط] وهل سمعت سلامًا لي ألم بها ... فقد أطلت وما سلمت من كثب الكثب: القرب, ومنه البيت المنسوب إلى عبد الله بن الزبعرى: [الهزج] وهو يوم عكاظٍ مـ ... ـنعوا الناس من الهزم فهذان يذودان ... وذا من كثبٍ يرمي ويقال: أكثب الشيء إذا أمكن وقرب.

وقوله: وكيف يبلغ موتانا التي دفنت ... وقد يقصر عن أحيائنا الغيب في يبلغ ضمير يرجع على سلامه, يقول: كيف يبلغ سلامي موتانا المدفونة, وقد يقصر عن الغائب الحي؟ وقوله: قد كان قاسمك الشخصين دهرهما ... وعاش درهما المفدي بالذهب كان لسيف الدولة أختان: إحداهما هذه المرثاة بالقصيدة التي على الباء, وهي الكبرى منهما. والأخرى المرثية بالقصيدة التي أولها: إن يكن صبر ذي الرزية فضلا وهي الصغرى من الأختين. وقوله: قد كان قاسمك الشخصين دهرهما ... وعاش درهما المفدي بالذهب مبني على قوله في القصيدة الأخرى: قاسمتك المنون شخصين جورًا ... جعل القسم نفسه فيه عدلًا فإذا قست ما أخذن بما أعـ ... ـدرن سرى عن الفؤاد وسلى يقول: قاسمتك المنون هذين الشخصين جورًا منها؛ لأنه كان ينبغي أن لا تقدم على أذيتك. والهاء في قوله: فيه: عائدة على الجور؛ أي: قد عدل القسم لما ترك الجزء الأفضل, يعني هذه المرثية بالقصيدة التي على الباء. وأغدرن: تركن. وقوله: ما كان أقصر وقتًا كان بينهما ... كأنه الوقت بين الورد والقرب يقول: كان الوقت بين هاتين الأختين متقاربًا كالوقت بين الورد والقرب.

والقرب هو طلب الماء ليلة ثم الورد. قال الراجز: ينهضن بالقوم عليهن الصلب ... موكلاتٍ بالنجاء والقرب والإبل قوارب وقاربة. قال المخبل السعدي: [الطويل] يقاسون جيش الهرمزان كأنهم ... قوارب أحواض الكلاب تلوب أي تحوم حول الماء من العطش. وقوله: وأنتم نفر تسخو نفوسكم ... بما يهبن ولا يسخون بالسلب (14/أ) يجوز يسخون بالياء, وهو أجود الوجهين؛ لأنه يعود إلى النفوس؛ وإن رويت تسخون بالتاء فهو وجه جيد. ويكون تسخون مخاطبة للمدوحين, والمعنى أنكم تسخون بالهبات عن طيب نفوس, ويشق عليكم أن تسلبوا؛ لأن السلب يؤخذ منكم على كره. وقوله: حللتم من ملوك الناس كلهم ... محل سمر القنا من سائر القصب سائر عند البصريين مأخوذ من سؤر الشيء, وهو بقيته, فيرون أنه يجب أن يقدم قبل هذه الكلمة بعض الشيء الذي هي مضافة إليه, فيقال: لقيت الرجل دون سائر بني أبيه؛ لأن الرجل بعضهم, وكذلك قول الشاعر: [الطويل] وما حسن أن يعذر المرء نفسه ... وليس له من سائر الناس عاذر ولا يحسن أن يقال: لقيت اليوم سائر الناس؛ لأنه لم يتقدم شيء يجعل سائر بقية له,

وعلى هذا المنهج أكثر كلام العرب, ومنه قول الهذلي: [الطويل] وغير ماء المرد فاها فلونه ... كلون النؤور وهي أدماء سارها أي: سائرها, وحسن ذلك؛ لأنه قال: وغير ماء المرد فاها, ففوها شيء قد تقدم يكون ما بعده سؤرًا له. وقال قوم: سائر مأخوذ من سار يسير, وقولهم: لقيت سائر القوم؛ أي: الجماعة التي يسير فيها هذا الاسم وينتشر. ومما جاء على هذا الوجه قول الراجز: [الرجز] لو أن من يرجز بالحمام ... يقوم يوم وردها مقامي إذا أضل سائر الأحلام أي كلها. وبيت أبي الطيب على مذهب البصريين يضعف؛ لأن القنا ليست من القصب في الحقيقة, فكأنه قال: لقيت عنترة العبسي دون بني كلاب, وعنترة ليس منهم. والبيت على الوجه الآخر لا كلام فيه. وقوله: فلا تنلك الليالي إن أيديها ... إذا ضربن كسرن النبع بالغرب النبع: شجر يوصف بالصلابة, وهو من أشجار الجبال, والغرب: شجر ينبت على الأنهار وليست له قوة. والعرب إذا وصفوا الحيزين المقتتلين بالشدة قالوا: النبع بالنبع يقرع, ولذلك قال, ولذلك قال زفر بن الحارث: [الطويل]

فلما قرعنا النبع بالنبع بعضه ... ببعضٍ أبت عيدانه أن تكسرا ويروى: عيدانهم. ولم يكن ثم نبع يقرع بعضه ببعضٍ, وإنما أراد صفة الفريقين بالشدة والصلابة. وقوله: ولا يعن عدوا أنت قاهره ... فإنهن يصدن الصقر بالخرب الخرب: ذكر الحبارى, والصقر يصيده إذا أراده. قال خداش بن زهير: [البسيط] هل بالحوادث والأيام من عجبٍ ... أم بابن جدعان عبد الله من كلب وما سمعت بصقرٍ ظل يرقبه ... حد الظهيرة يوم المرج من خرب وقوله: وما قضى أحد منها لبانته ... ولا انتهى أرب إلا إلى أرب يقول: ما تنقضي حاجة إلا وهي موصولة بحاجة أخرى, وهو كقول الأول: [المتقارب] وحاجة من عاش لا تنقضي واللبانة: الحاجة. وأصل ذلك أن الرجل منهم كان يطلب اللبن من غيره؛ فيقولوه: أعطاه لبانةً؛ أي: شيئًا من لبنٍ, ثم كثر ذلك حتى صارت كل حاجةٍ لبانةً.

وقوله: وما قضى أحد منها لبانته: يعني اللبانات كلها, فكأن اللبانة هاهنا شائعة في الجنس, وإن لم يعتقد ذلك أدى إلى أنه لم يقض أحد من الناس حاجةً له في دنياه, وذلك مستحيل. وقوله: تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم ... إلا على شجبٍ والخلف في الشجب الشجب: الهلاك, قال عنترة: [المتقارب] فمن يك في قتله يمتري ... فإن أبا نوفلٍ قد شجب والمعنى أن الناس مختلفون, فالإجماع لا يقع إلا على الموت الذي لابد منه, ثم يقع الاختلاف فيه. وقوله: فقيل تخلص نفس المرء سالمةً ... وقيل تشرك جسم المرء في العطب الملحدون يزعمون أن النفس تهلك كما يهلك الجسم. وقد روي عن أفلاطون ورسطاطاليس في ذلك أقوال, فيذكرون أن أحدهما كان يقول ببقاء النفس الخيرة بعد خروجها من الجسد, وأن الآخر كان يقول ببقاء النفس المحمودة والمذمومة. ومن يذهب إلى هذا الوجه يزعم أنها تكون ملتذة بما فعلته من الخير في الدار الفانية.

ومن التى أولها

ومن التى أولها فهمت الكتاب أبر الكتب ... فسمعًا لأمر أمير العرب أصل الكتاب الجمع, وقيل للكتاب كتاب لأن حروفه يجمع بعضها إلى بعض ولذلك (14/ب) قيل للجماعة الكثيرة من الفرسان كتيبة, وقيل لخرزة المزادة كتبه؛ لأنها تجمع بين الأديمين أو بين جانبي الأديم. وقوله: وتكثير قوم وتقليلهم ... وتقريبهم بيننا والخبب استعار التقريب والخبب للوشاة؛ لأنهم يوصفون بالمشي والسعي, ومنه قوله تعالى: {مشاء بنميم} , والتقريب جنسان: التقريب الأعلى, والتقريب الأدنى هو الخبب, ولعل التقريب والخبب لما يستعارا قبل أبي الطيب للوشاة. وقوله: وما قلت للبدر أنت اللجين ... ولا قلت للشمس أنت الذهب يقول: إني تناهيت في مدحك لم أجعلك, وأنت البدر, فضةً, ولم أقل: إنك, وأنت الشمس, ذهب؛ لأن الذهب والفضة يستهلكان, والشمس والقمر ليسا كذلك. وقوله: وما لاقني بلد بعدكم ... ولا اعتضت من رب نعماي رب يقال: ما لاقني البلد, وما ألاقني, أي لم أقم فيه. ولم يمسكني, ويقال: كف فلانٍ لا تليق درهمًا؛ أي: هو جواد. قال الراجز: [الرجز] كفاك كف لا تليق درهما ... جودًا وأخرى تبد في الحرب دما ويروى: يجر.

وقوله: ومن ركب الثور بعد الجوا ... د أنكر أظلافه والغبب يقال: غبب الثور وغبغبه. والأظلاف تستعمل للبقر والغنم. وقد جاءت مستعملة للإنس قال الشاعر: [الطويل] سأمنعها وسوف أجعل أمرها ... إلى ملك أظلافه لم تشقق وقوله: مبارك الاسم أغر اللقب ... كريم الجرشى شريف النسب يعني بالجرشى النفس. قال الأسدي: [الطويل] بكى جزعًا من أن يموت وأجهشت ... إليه الجرشى وارمعل خنينها ارمعل: أي: سال, والخنين: الأنف هاهنا, وسمي خنينًا؛ لأن الخنين صوت يخرج منه, فيه خنة, وجعله أغر اللقب؛ لأن لقبه سيف الدولة, والسيف يوصف بالبياض. وقوله: وإني لأتبع تذكاره ... صلاة الإله وسقي السحب يريد أني إذا ذكرته قلت: صلى الله عليه, وسقاه الله السحاب, والناس يقصرون الصلاة على الأنبياء عليهم السلام تمييزًا لهم بذلك, فأما الشعراء فيعطون الممدوح غاية ما يقدرون

عليه, قال عدي بن الرقاع: [الكامل] صلى الإله على امرئ ودعته ... وأتم نعمته عليه وزادها وقال الراعي النميري: [البسيط] صلى على عزة الرحمن وابنتها ... ليلى وصلى على جاراتها الأخر وقوله: وأثني عليه بآلائه ... وأقرب منه نأى أو قرب الآلاء: النعم يقال لواحدها: إلى وألى وإلي, وبيت الأعشى يحمل على وجهين, وهو قوله: أبيض لا يرهب الهزال ولا ... يقطع رحمًا ولا يخون ألى فقيل: إنه أراد النعمة, وهي واحدة الآلاء, وقيل: أراد إلا؛ أي: عهدًا فخفف اللام, وتخفيف مثلها قليل. وقوله: وإن فارقتني أمطاره ... فأكثر غدرانها ما نضب الغدران: جمع غديرٍ, يقال: غدير وغدر, وهو ما أغدره السيل في الأرض من ماءٍ مجتمعٍ, فهذا هو الوجه في اشتقاقه, وقيل: إنما سمي غديرًا؛ لأنه يغدر بالنازل به. قال الكميت: [المتقارب] ومن غدره نبز الأولون ... بأن لقبوه الغدير الغديرا

وقوله: أيا سيف ربك لا خلقه ... وياذا المكارم لا ذا الشطب الشطب والشطب والشطب: طرائق في السيف. فأما الشطب فيجوز أن يكون جمعًا وواحدًا, فإذا كانت واحدًا فهي مثل صردٍ ونغرٍ, وإذا كان جمعًا فهو مثل ظلمٍ وغرفٍ, وواحدة شطبة, وإذا قيل: شطب, بالضم, احتمل أن يكون جمع شطيبةٍ, وهي طريقة مستطيلة, ومنه شطائب السنام, وهي قطع منه تستطيل. ويجوز أن يكون واحدًا مثل: شغلٍ وعتقٍ. وتسكين الطاء جائز على أي الوجهين حمل. وقوله: ونجى الدمستق قول العدا ... ة إن عليا ثقيل وصب (15/أ) الدمستق كلمة رومية وما علمت أنها جاءت في شيء من الشعر الفصيح وبناؤها ليس من أبنية العرب؛ لأن الخماسية من الأصول ليس فيها مثل فعلل, هذا موضوع سيبويه؛ لأنه ذكر الخماسية الأصلية على أربعة أبنية: فعلل, مثل: فرزدقٍ, وفعللٍ, مثل: جحمرشٍ, وفعلل, مثل: قرطعبٍ, وفعللٍ, مثل: قذعملٍ. وقد ذكر غيره فعللًا في الأصول, وهو من قولهم: ليس له من نسب قرعطبة: يعنون الشيء القليل, إلا أنهم لم يحكوها إلا بالهاء, فأما فعلل من غير الأصول فقد جاء من قولهم للحساء الرقيق: ثرعطط. وقالوا: صفرق, واختلفوا فيه فقيل: هو الشيء الأصفر, وقيل: الذهب, وقيل: الزعفران, وزعم بعضهم أنه الفالوذ. والوصب من الوصب, وهو دوام المرض, ومنه قوله: عذاب واصب, أي: دائم.

وقوله: أتاهم بأوسع من أرضهم ... طوال السبيب قصار العسب السبيب: شعر الذنب, وإنما قيل له سبيب؛ لأنه ربما سب؛ أي: قطع, وقد يقال للناصية: سبيب. قال عبيد بن الأبرص: [مخلع البسيط] مضبر خلقها تضبيرًا ... ينشق عن وجهها السبيب ووحد السبيب هاهنا ضرورة؛ لأنه كان ينبغي أن يقول طوال السبائب, قصار العسب. والعسيب: أصل الذنب, وهو يستعمل في الإبل, وربما استعمل في الإنس, قال الشاعر: [الطويل] فطار بكفي ذو حراشٍ مشذب ... قليل هماليل العسيب قصير يعني ذنب بعيرٍ. وقوله: تغيب الشواهق في جيشه ... وتبدو صغارًا إذا لم تغب يقال للجبال الطوال: شواهق, مأخوذة من شهق الإنسان إذا أخرج نفسه متعاليًا, كأن الجبل شهق في الهواء. وقوله: فغرق مدنهم بالجيوش ... وأخفت أصواتهم باللجب المدن: جمع مدينةٍ, وجمعهم إياها على فعلٍ يدل على أن الميم أصلية, وقيل: إنها من قولهم مدن بالمكان إذا أقام به. وزعم قوم أن المدينة مأخوذة من قولهم: دان الملك القوم إذا

ومن أبيات أولها

ملكهم, فكأنها على هذا في الأصل مديونة, وهذا القول ينتقض على رأي النحويين؛ لأن القراء كالمجمعين على همز المدائن, ولو كانت من دنت لتعذر فيها الهمز إلا على رأي أبي الحسن سعيد بن مسعدة. واللجب: كثرة الأصوات واختلاطها. وقوله: وقد زعموا أنه إن يعد ... يعد معه الملك المعتصب المعتصب يحمل وجهين: أحدهما, وهو الأجود, أن يكون من الاعتصاب بالتاج, والآخر أن يكون مفتعلًا من العصبية, وفي هذه القصيدة سناد على بعض المذاهب, وهو مجيء الفتحة مع الضمة والكسرة كقوله: الخشب والكتب وصلب. والكسرة والضمة عندهم ليستا سنادًا, فإذا جاءت الفتحة جعلوا ذاك من السناد, وكان سعيد بن مسعدة لا يرى بذلك بأسًا؛ لأنه قد كثر في أشعار الفصحاء, وهذا سناد التوجيه وهو الحركة التي قبل الروي في الشعر المقيد. ومن أبيات أولها قوله: [البسيط] المجلسان على التمييز بينهما ... مقابلان ولكن أحسنا الأدبا فلم يهابك ما لا حس يردعه ... إنى لأبصر من فعليهما عجبا لم مما حذفت منه الألف لكثرة الاستعمال, والأجود أن يقول: لم كان كذا, بفتح الميم. وقد جاء إسكانها في الشعر الفصيح, قال الشاعر يخاطب حمامةً: [الطويل] فويحك لم ذكرتني اليوم أرضنا ... لعل حمامي بالحجاز يكون

ومن بيتين أولهما

وقال الراجز: يا أم سعد لم ولدت سعدا ... ولدت منه رجلًا سمعدا أي: هو أحمق, وقيل: مجنون. ومما يجري مجرى لم في الحذف قولهم: بم أخذت كذا, فإثبات الألف جائز في الضرورة, وإثباتها هو الأصل, قال الشاعر, ويقال: إنه لوضاح اليمن: [السريع] يا أمة الواحد جودي أما ... إن تقتليني فبما أو لما فالألف في بما تثبت للضرورة. وقوله لما يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون رد الألف الذاهبة, والآخر أنه أراد لم, بالحذف, وأثبت الألف للترنم. ومن بيتين أولهما تعرض لي السحاب وقد قفلنا ... فقلت إليك إن معي السحابا (15/ب) الأحسن في ياء لي ومعي التحريك إذا لقيهما ساكن, وليس الإسكان بضرورةٍ, ولو كان الكلام منثورًا لكان الأحسن أن يقول: تعرض لي السحاب, وإن معي السحاب, وكذلك ياء الإضافة التي يجوز فيها التحريك والإسكان, إذا لقيها ساكن فالأحسن فيها التحريك, يقول الرجل: لي ابن, ولي ابنة, فيكون أحسن من حذف الياء لالتقاء الساكين. وقوله: فشم في القبة الملك المرجى ... فأمسك بعدما عزم انسكابا

ومن بيتين أولهما

الشيم: النظر إلى البرق. قال الأعشى: [البسيط] فقلت للشرب فى درنا وقد ثملوا ... شيموا وكيف يشيم الشارب الثمل والقبة: عربية صحيحة واشتقاقها من قببت الشيء إذا جمعت أطرافه: وأكثر ما يستعملون عزمت وعزم مع حرف الخفض, أو مع أن والفعل, فيقولون: عزمت على الارتحال, وعزمت أن أرتحل واحد, ولا يكادون يقولون: عزمت الارتحال, إلا أن ذلك جائز؛ لأن العزم القطع والإمضاء. ومن بيتين أولهما الطيب بما غنيت عنه ... كفى بقرب الأمير طيبا الوزن من سادس البسيط, والقافية من المتواتر. الباء دخلت على الفاعل في قوله: كفى بقرب الأمير, فهي تدخل في هذا الموضع, وفي الابتداء والخبر. ومن دخولها على الابتداء, قول الشاعر: [المتقارب] بحسبك في القوم أن يعلموا ... بأنك فيهم غني مضر ومن الأخبار التي دخلت عليها الباء قوله تعالى: {جزاء سيئةٍ بمثلها} , وكأن

ومن أبيات أولها

دخول الباء في قوله: وكفى به دليل على التعجب. ودخلت الباء كما دخلت في قوله: أكرم ربه, إلا أنها في أكرم به لازمة, وحذفها مع كفى جائز, ومن هذا النحو قول النمر بن تولب: [الكامل] ظهرت ندامته وهان بسخطه ... شيئًا على مربوعها وعذارها كأنه قال أهون بسخطه. وقوله: يبني به ربنا المعالي ... كما بكم يغفر الذنوبا سكن ياء المعالي للضرورة, وذلك كثير. وواحد المعالي: معلاة, وهي الفعل الذي يعلو به الإنسان. قال أعشى باهلة: [البسيط] فإن يصبك عدو في مناوأةٍ ... فقد تكون لك المعلاة والظفر ومن أبيات أولها أيا ما أحيسنها مقلةً ... ولولا الملاحة لم أعجب أفعل الذي للتعجب عند البصريين فعل, وينقض ذلك عليهم تصغيره, إلا أنهم يزعمون أنه لما لم يتصرف وصح في قولهم: ما أقوله, وما أبيعه, كما تصح الأسماء؛ صغرته العرب على جهة الغلط, والفراء يزعم أنه اسم, وتصغيره في الشعر قليل جدًا.

والمتأخرون من النحويين ينشدون بيتًا, ويظنون أنه قديم, وهو قول الشاعر: [البسيط] ياما أميلح غزلانًا عرضن لنا ... من هؤلياتئكن البان والسمر والبيت لرجل يعرف بعلي بن محمد الغريبي كان يتفاصح في شعره, ويشبهه بأشعار العرب, ولا أدري أحضريًا كان أم بدويًا, وقد مدح علي بن عيسى الوزير. وقوله: إذا نظر الباز في عطفه ... كسته شعاعًا على المنكب يقال: باز على مثال نار, وباز على مثال قاض, وبازئ بالهمز, كما يقال: خاطئ. وحكى قطرب: بازي بالتشديد. وأصل العطف كل موضع يمكن عطفه من الإنسان, فيمكن أن يقال للعنق: عطف, وكذلك الإبط, والجنب, ومنه قوله تعالى: {ثاني عطفه} , والمنكب: رأس الكتف, واستعاره هاهنا للباز, وكذلك العطف.

ومن التي أولها

ومن التي أولها إنما بدر بن عمارٍ سحاب ... هطل فيه ثواب وعقاب هذه الأبيات على مذهب الخليل مبنية على أصل الرمل, فلم يذكر الخليل مثلها فيما وضع, ولا يوجد مثلها في أشعار المتقدمين, وقد ذكروا أبياتًا لرجل من قريش قيلت في الإسلام, وهي على وزن هذه الأبيات, وهي: إن ليلي طال والليل قصير ... طال حتى ما أرى الصبح ينير ذكر أيامٍ غرتنا منكراتٍ ... حدثت فيها أمور وأمور فالذي يأمر بالغي مطاع ... والذي يأمر بالرشد دحير والبيت المصرع من أولها قد استعملت العرب مثله, وإنما الذي لم يوجد لها نظير ما كان غير مصرعٍ, وهو يزيد حرفين على ما جرت العادة باستعماله, كقوله: إنما بدر عطايا ورزايا ... ومنايا وطعان وضراب قوله يا في نصف البيت الأول زيادة على ما تستعمله العرب, وكذلك قوله: بأبي ريحك لا نرجسنا ذا

لو حذف ذا لكان موازنًا لشعر العرب المستعمل ولكنه زادها ليكون به البيت على منهاج الأبيات التي قبله والنرجس أعجمي معرب (16/أ) وقد حكي بكسر النون. والفتح الوجه. وقوله: طاعن الفرسان في الأحداق شزرًا ... وعجاج الحرب للشمس نقاب يقال: طعنه شزرًا؛ أي: عن اليمين والشمال, والعجاج: الغبار. يقال: عجاج وعجاجة. يقال: عجت العجاجة تعج, وينشد لرجلٍ من فهم بن عمرو بن عدوان, وقد روي للشنفرى: [الطويل] فإني زعيم أن تعج عجاجة ... على ذي كساءٍ من سلامان أو برد وقوله: ليس بالمنكر أن برزت سبقًا ... غير مدفوعٍ عن السبق العراب العراب: كأنه جمع عريب, ولم يرو أنهم قالوا: فرس عريب, ولكنهم جمعوه على هذا التقدير, كما قالوا: رجل حسان, ولم يعلم أنها قالوا: رجل حسين, وكان القياس أن يقولوه؛ لأن ماضيه حسن, فكان ينبغي أن يقال: حسن فهو حسين كما قالوا: كرم فهو كريم, وظرف فهو ظريف, وقد حكي حسين حكايةً شاذةً. وفعيل مطرد في هذا الباب. وقوله: غير مدفوعٍ, الأجود لو أن الكلام منثور أن يقال: غير مدفوعةٍ؛ لأن «العراب» في تقدير مبتدأ, وغير مدفوع خبر مقدم. فلو قال قائل: العراب غير مدفوع عن السبق لم يكن ذلك بوجه الكلام إلا أن يحمل على قول الراجز: مثل الفراخ نتفت حواصله

ومن التى أولها

حمل الفراخ على الجنس. ومن أجاز «قائم زيد» على أن يكون قائم قد سد مسد المبتدأ. وزيد مرفوع بفعله, حسن على مذهبه أن يكون قوله غير مدفوع قد سد مسد الابتداء, و «العراب» مرفوعة لأنها اسم ما لم يسم فاعله, فكأنه قال: لا يدفع عن السبق العراب. ومن التى أولها ألم تر أيها الملك المرجى ... عجائب ما رأيت من السحاب قوله: تشكى الأرض غيبته إليه ... وترشق ماءه رشف الرضاب الرشف: شرب قليل, فإما أن يكون الشارب يتعمد تقليل الشرب, وإما أن يكون المشروب قليلًا؛ ولذلك قالوا: رشف الرضاب؛ لأن الريق لا يوصف بالكثرة, وقالوا في المثل: «العب أروى والرشيف أشرب»؛ أي أن الإبل إذا أخذت الماء قليلًا قليلًا كان ذلك أكثر لشربها, وإذا عبت عبا رويت سريعًا. ويقال للمطر: رضاب, ويوم راضب إذا كان ذا مطر, ويجب أن يكون ذلك في الأصل لمطر غير شديد. وقوله: وأوهم أن في الشطرنج همي ... وفيك تأملي ولك انتصابي الشطرنج: كلمة معربة, وليس في كلام العرب شيء على هذا المثال, وقد استعملوها في صدر الإسلام, وأعربوها كما يعربون العربي, وأدخلوا عليها الألف واللام, ولو صغرت لكان القياس أن يقال: شطيرج وشطيريج, وتحذف النون؛ لأنها من حروف الزوائد, وهي ساكنة, ولو جمعت لقيل: شطارج وشطاريج, وكان القائل مخيرًا في التعويض بالياء وتركه, فأما من يقول: شطارٍ فقوله ضعيف؛ لأنهم إذا قالوا: فرازق في جمع فرزدقٍ فحذفوا الدال؛ لأنها تشبه التاء, والتاء من الحروف الزوائد, فحذف النون هاهنا واجب.

ومن الأبيات التي أولها

ومن الأبيات التي أولها ياذا المعاني ومعدن الأدب ... سيدنا وابن سادة العرب الأدب الذي كانت تعرفه العرب هو ما يحسن من الأخلاق وفعل المكارم, مثل ترك السفه, وبذل الموجود, وحسن اللقاء. قال الغنوي: [البسيط] لا يمنع الناس مني ما أردت ولا ... أعطيهم ما أرادوا حسن ذا أدبا كأنه أنكر على نفسه أن يعطيه الناس ولا يعطيهم. واصطلح الناس بعد الإسلام بمدةٍ طويلةٍ على أن يسموا العالم بالنحو والشعر وعلوم العرب أديبًا, ويسمون هذه العلوم الأدب, وذلك كلام مولد؛ لأن هذه العلوم حدثت في الإسلام, وقال بعض الناس: يقال: جاء بالأدب؛ أي: العجب, فيذهب إلى أن قولهم أديب؛ أي: رجل يعجب منه لفضله. وقوله: سيدنا وابن سادة العرب؛ كل شيء غلب أشياء من جنسه فهو سيد لها؛ فلذلك قيل للعير: سيد العانة؛ لأنه يقهرها ويغلبها على ما يريد. وقالوا في صفة الناقة: هي تسود المطايا؛ لأنها تغلبها في السير, وأنشد أبو زيدٍ لزهير بن مسعودٍ الضبي: تسود مطايا القوم ليلة خمسها ... إذا ما المطايا بالنجاد تبارت

ومن التي أولها

وسادة ليس في الحقيقة جمع سيدٍ, وإنما هو جمع سائد؛ كما يقال: ذادة وذائد, وقادة وقائد, ويجب أن يكون اشتقاق السيد من قولهم: ساد الرجل القوم؛ أي طالهم بسواده؛ أي: شخصه, ثم كثر ذلك حتى صارت السيادة بالفعل لا بالشخص. ومن التي أولها بأبي الشموس الجانحات غواربا ... اللابسات من الحرير جلاببا جرت العادة بأن يقولوا: بأبي فلان وهم يريدون أنه مفدي به, ورفع الشموس وما جرى مجراها يقع على وجهين: أحدهما أن تكون مبتدأ كأنه قال: الشموس بأبي مفديات, والآخر أن يكون الخبر قوله (16/ب) الشموس, ويكون المبتدأ محذوفًا كأنه قال: المفديات هي الشموس, ويجوز وجه ثالث, وهو أن تكون الشموس مرفوعةً؛ لأنها اسم ما لم يسم فاعله كأنه قال: تفدى بأبي الشموس, ويجوز أن ينصب على معنى قوله: أفدي بأبي الشموس, ومثل هذا قوله: بنفسي فلان, إذا أرادوا معنى الفداء. والجانحات المائلات, يقال: جنحت الشمس للغروب, وجنحت النجوم إذا مالت للمغيب. قال عبد الله بن عنمة الضبي: [الوافر] نقسم نهبه فينا وندعو ... أبا الصهباء إن جنح الأصيل أراد إذا مالت شمس الأصيل. والجلابب: أراد الجلابيب, فحذف الياء, والجلابيب القمص, وربما قيل: الأردية, وحذف هذه الياء مثل قول الراجز: [الرجز] وغير سفعٍ مثلٍ يحامم

أراد يحاميم, وأجازوا في الميم الأولى الإخفاء, وهو شيء يشبه الادغام, وليس به, لأن الادغام هاهنا يكسر, وليس الإخفاء بكسر؛ لأن الحرف المخفي باقي الحركة, وكذلك يجوز في الجلابب كما جاز في اليحامم وقوله: المنهبات عيوننا وقلوبنا ... وجناتهن الناهبات الناهبا الوجنة: عظم الخد وما عليه من اللحم, وحكى يعقوب بن السكيت فتح الواو, وهو الوجه, وضمها وكسرها. فمن ضم الواو جاز أن يهمز فيقول: أجنة, كما تقول في وجوهٍ أجوه. ومن كسر الواو ومن رأيه أن الواو المكسورة إذا كانت في أول الاسم جاز همزه جوازًا مطردًا فإنه يقول: إجنة, وهذا رأي المازني, وكان الجرمي يذهب إلى أنه مسموع, وقد قالوا: وشاح وإشاح, ووعاء وإعاء, قال الهذلي: [الوافر] هواء مثل بعلك مستميت ... على ما في إعائك كالخيال وقوله: حاولن تفديتي وخفن مراقبًا ... فوضعن أيديهن فوق ترائبا الترائب: مجال القلادة, وهي عظام الصدر, واحدها تريبة. وقوله: ويسمن عن بردٍ خشيت أذيبه ... من حر أنفاسي فكنت الذائبا

شبهوا الثغر بالبرد, ثم حذفوا التشبيه, ومثل ذلك في الكلام كثير. قال النابغة: [الكامل] تجلو بقادمتي حمامة أيكةٍ ... بردًا أسف لثاته بالإثمد وقوله: خشيت أذيبه حذف أن, ومثله كثير, وحذفها إذا كانت وما بعدها في موضع المفعول أحسن من حذفها إذا كانت هي وما يليها في معنى الفاعل؛ فقولك: أريد أقوم أحسن من قولك: آن لزيدٍ يقوم؛ لأن المفعول فضلةٌ, والفاعل لا يجوز تركه كما يجوز ترك المفعول, ومما حذفت فيه أن وهو في موضع رفع قول ذي الرمة: [الوافر] لحق لمن أبو موسى أبوه ... يوفقه الذي رفع الجبالا أراد: أن يوفقه. وقوله: يا حبذا المتحملون وحبذا ... وادٍ لثمت به الغزالة كاعبًا حب وذا عندهم كالشيء الواحد, وقال بعضهم: هي سادة مسد الابتداء, ولم يقولوا: حب ذه. وكان القياس أن يقولوه إذا جاؤوا بالمؤنث, فقالوا: حبذا هند, وذا هاهنا واقع على الشيء, وذا مرفوع بحب, والاسم الثاني بدل من ذا, فربما كان معرفةً وربما كان نكرةً؛ فقوله: المتحملون بدل معرفة من معرفة, وقوله حبذا وادٍ بدل نكرة من معرفة, وتأول حبذا على هذا الوجه أحسن من تأولها على أنها سادة مسد المبتدأ. والغزالة: ارتفاع الضحى, ثم كثر حتى سموا الشمس غزالة, وهي في هذا البيت الشمس بعينها. قال ذو الرمة: [الوافر] فأشرفت الغزالة رأس حوضى ... أراقبهم فما أغني قبالًا

والكاعب: التي قد كعب ثديها فصار مثل الكعب, يقال: كعبت تكعب وتكعب وكعبت تكعيبًا. وقوله: كيف الرجاء من الخطوب تخلصًا ... من بعد إذ أنشبن في مخالبا يجوز أن تقع في هذا الموضع أن وما وإذ, والاستعمال في إذ أقل منه في الأخريين, وفي الكتاب العزيز: {بعد إذ نجانا الله منها}. واستعار المخالب للخطوب؛ لأنه جعلها كالأسود. وقوله: أظمتني الدنيا فلما جئتها ... مستسقيًا مطرت علي مصائبا أراد أظمأتني فخفف الهمزة, وإنما يحمل ذلك على أن يقال: أظمأ في الوقف فتسكن الهمزة, فإذا سكنت وقبلها فتحة جاز أن تجعل ألفًا, كما فعلوا ذلك في رأسٍ وبأسٍ, فإذا صارت إلى ذلك حذفت مع تاء التأنيث, ومنهم من يرى ذلك مطردًا, ومنهم من يجعله مسموعًا, ومنه قول ابن أبي ربيعة: [الطويل] فقالت وقد لانت وأفرخ روعها ... كلاك بحفظٍ ربك المتكبر يريد: كلأك, وحكي مصايب ومصاوب, ولا يجوز همزه؛ لأن الياء فيه أصلية, وإن كانت منقلبة من الواو, وهو جارٍ مجرى معايش. وقوله: وحبيت من خوص الركاب بأسودٍ ... من دارشٍ فغدوت أمشي راكبا

الدارش: كلمة معربة وهو الأديم المحبب, وإنما يعني خفا أو شمشكًا, وخوص الركاب: التي قد غارت عيونها. والركاب: الإبل خاصةً. يقول: جعل حظي من خوص الركاب هذا الحذاء الذي أمشي به, وقد كرر أبو الطيب هذا (17/أ) المعنى في النعل كما قال: [المنسرح] لا ناقتي تقبل الرديف ولا ... بالسوط يوم الرهان أجهدها وقد سبق الناس إلى هذا المعنى ومنه قول القائل: ................... ... إليك امتطينا الأرحبي الملسنا يعني نعلًا ملسنةً. وقوله: يستصغر الخطر الكبير لوفده ... ويظن دجلة ليس تكفي شاربا إذا رويت الخطر, بكسر الطاء, فهو على حذف الياء من الخطير. يقال: شيء خطير؛ أي: له قيمة عظيمة, وقل ما يحذف منه الياء, وإذا رويت الخطر فهو يؤدي معنى الخطير إلا أنه في الكلام. وقوله ليس تكفي, الأحسن أن تكون ليس في معنى لا, فلا يكون فيها ضمير؛ لأنه إذا جعلها التي تحتاج إلى اسمٍ وخبرٍ لزمه أن يكون فيها ضمير يرجع إلى دجلة؛ فيكون قد ذكر المؤنث, فكأنه قال: الشمس ليس طالعةً. ولو كان الكلام منثورًا لوجب أن يقال: ليست تكفي شاربًا. وقوله: سل عن شجاعته وزره مسالمًا ... وحذار ثم حذار منه محاربا حذار: كلمة مبنية على الكسر, وهي في معنى الأمر, وتكون متعدية وغير متعديةٍ؛ كما تقول: حذرت وأحذر, فلا تذكر مفعولًا, ويجوز أن تقول احذر من كذا, فتعدي الحذر بحرف الخفض, واحذر كذا, فتسقط الخافض, وكذلك تقول: حذار وحذار من فلان,

وحذار فلانًا. وقوله: إن تلقه لا تلق إلا جحفلًا ... أو قسطلًا أو طاعنًا أو ضاربا الجحفل: العسكر العظيم, وقال قوم: لا يقال له جحفل حتى يكون فيه دواب ذوات جحافل؛ لأن الجحفلة لذوات الحافر مثل الشفة للإنسان, وقد اتسعوا في هذه الكلمة, قالوا: رجحل جحفل إذا كان عظيم الشأن, ومنه قول أوس بن حجرٍ: [الطويل] عبيد لذي المال الكثير يرونه ... وإن كان عبدًا سيد الأمر جحفلا وربما استعملوا الجحفلة للإنسان إذا وصفوه بالغلظ كأنهم يشبهونه بالبهائم. قال الشاعر: [الوافر] وقلصت الجحافل فاستقلت ... فويق لثاتها والقوم روق وقال النابغة الذبياني: [الوافر] ألا من مبلغ عني لبيدًا ... أبا الدرداء جحفلة الأتان أي: أنه عظيم الشفة كأن شفته جحفلة أتانٍ. ونحو من هذا قول الفرزدق: [الطويل] تركنا جريرًا وهو في السوق حابس ... عطية هل يلقى به من يبادله فقالوا له رد الحمار فإنه ... أبوك لئيم رأسه وجحافله والقسطل: الغبار.

وقوله: وإذا نظرت إلى الجبال رأيتها ... فوق السهول عواسلًا وقواضبا العواسل: جمع عاسل, والعسلان اضطراب في وسط الرمح وطرفيه, توصف به الرماح والذئاب, قال ساعدة بن جوية يصف الرمح: [الكامل] لذ بهز الكف يعسل متنه ... فيه كما عسل الطريق الثعلب وقال الهلالي في صفة الذئب: [الطويل] ترى جانبيه يعسلان كلاهما ... كما اهتز عود الاسم المتتابع وقوله: وعجاجةً ترك الحديد سوادها ... زنجًا تبسم أو قذالًا شائبًا شبه العجاجة بالزنج, وجعل الحديد فيها كالتبسم؛ لأن الأسنان بيض فهي تضاهي ما أبيض من الحديد في هذه الكتيبة. والقذال: مؤخر الرأس, وقيل: هو ما بين النقرة إلى الأذن, وقيل: هو حيث يحجم الحجام. وهذه أقوال متقاربة, يقال: قذلة الحاجم قذلًا إذا حجمه في ذلك الموضع, وقال ابن قيس الرقيات: [الخفيف]

إن تريني تغير اللون مني ... وعلا الشيب مفرقي وقذالي ويقال في الجمع القليل: أقذلة, والكثير: قذل. وقوله: في رتبةٍ حجب الورى عن نيلها ... وعلا فسموه علي الحاجبا حذف التنوين في قوله: علي الحاجبا, وإثباته أحسن, وقد جاء مثله كثيرًا, وقرأ بعضهم: {قل هو الله أحد * الله الصمد} , بحذف التنوين من أحدٍ, وقال الراجز: لقد أكون بالأمير برا ... وبالقناة مدعسًا مكرا إذا غطيف السلمي فرا وهذا البيت ينشد على حذف التنوين. كيف نومي على الفراش ولما ... تشمل الشام غارة شعواء تذهل الشيخ عن بنيه وتبدي ... عن خدام العقيلة العذراء أراد: عن خدامٍ العقيلة العذراء, ومنهم من ينشد: وتبدي عن خدامٍ عقيلة عذراء وحذف التنوين في قوله: «أحد الله» أحسن من حذفه في هذه المواضع؛ لأن التنوين إذا ثبت في أحد وجب أن يحرك الالتقاء الساكنين, وقبل أحد الهاء التي في اسم الله سبحانه, فلو جيء بالتنوين لاجتمعت خمس متحركات, وذلك ثقيل جدًا.

وقوله: كالبدر من حيث التفت رأيته ... يهدي إلى عينيك نورًا ثاقبا أي: مضيئًا. يقال: ثقبت النار ثقوبًا, والذي يطرح عليها لتقد يقال له: الثقوب. قال الشاعر, ويقال: إنه لأبي الأسود الدؤلي: (17/ب) [الطويل] أشاد به في الناس حتى كأنه ... بعلياء نار أوقدت بثقوب وقيل: حسب ثاقب: استعاروه من النار والنجم, يريدون أن الآباء فيه مشهورون. قال قيس ابن الخطيم: [الطويل] ويوم بعاثٍ أسلمتنا سيوفنا ... إلى نسبٍ في جذم غسان ثاقب والنجم الثاقب: قيل: المضيء, وقيل: المرتفع. وقوله: كالشمس في كبد السماء وضوؤها ... يغشى البلاد مشارقًا ومغاربا كبد السماء: وسطها, وكذلك وسط كل شيء, وقالوا: رجل أكبد إذا كان عظيم الوسط. وإنما أصل ذلك أن تكون كبده عظيمة, وقالوا: صخرة كبداء؛ أي: عظيمة, وأصل ذلك فيما له كبد. وقالوا: بلغ كبيدات السماء. قال الشاعر: [الطويل] وأي أناسٍ لا أبحت بغارةٍ ... يساوي كبيدات السماء عمودها يعني بعمودها غبارها. وقوله: شادوا مناقبهم وشدت مناقبًا ... وجدت مناقبهم بهن مثالبا يقال: شاد البناء وشيده, وقال بعض الناس: هما واحد, إلا أن شيد للتكثير. وقيل: شاده إذا طلاه بالشيد وهو الجص, وشيده إذا رفعه, والأشبه أن يكون الأصل واحدًا, وأن يكون المراد أنه عمل بالشيد وقد استعملته العرب قديمًا. قال الشماخ: [البسيط]

لا تسحبني وإن كنت امرأً غمرًا ... كحية الماء بين الطي والشيد وقوله: تدبير ذي حنكٍ يفكر في غدٍ ... وهجوم غر لا يخاف عواقبا الحنك: جمع حنكة. يقال: رجل ذو حنكةٍ إذا كان قد أسن وجرب, ويقولون: قد حنكته التجارب؛ أي: قد ذاق شدائد الزمان, وبلغت حنكه فعرف حلوها ومرها. واحتنك الرجل إذا صار كذلك. وقوله: خذ بن ثناي عليك ما أسطيعه ... لا تلزمني في الثناء الواجبا كان ابن سعدٍ راوية أبي الطيب يحكي عنه حكايةً, معناها أنه قال: ليس في شعري قصر ممدود إلا في هذا الموضع, يعني قوله: خذ من ثناي, وإنما كان يذكر ذلك؛ لأنه كان يحكي أنه رأى القصيدة «الكافية» التي في عضد الدولة, وبخط أبي الفتح بن جني, وقد ضبط قوله: وقد فارقت دارك واصطفاكا وقد كسر الطاء كأنه أراد: واصطفاءك. وليس هذا بحجةٍ على ابن جني؛ لأن أبا الطيب يجوز أن يكون قصر الممدود, بعد أنقال ذلك القول. والثناء أكثر ما يستعمل في الخير, وحكى ابن الأعرابي أنه يستعمل في الشر, وأنشد: [الكامل] أثني علي بما علمت فإنني ... أثني عليك بمثل ريح الجورب وقوله: فلقد دهشت لما فعلت ودونه ... ما يدهش الملك الحفيظ الكاتبا أصل الملك ملاك, ويدل على ذلك قولهم: الملائكة, ووزنه: مفعل, فإذا حذفت الهمزة

ومن التي أولها

فقد ذهبت العين فوزنه مفل, وعندهم أنه مأخوذ من الألوكة وهي الرسالة فكأنه مقلوب؛ لأنه كان ينبغي أن يقال مالك فأخرت الهمزة, وربما جاء في أشعار المحدثين: الأملاك يريدون به جمع ملكٍ؛ وذلك غلط, إنما جمع ملكٍ ملائك وملائكة. ومن التي أولها دمع جرى فقضى في الربع ما وجبا ... لأهله وشفى أنى ولا كربا أنى: في معنى من أين. وفي الكتاب العزيز: {أنى لك هذا}؛ أي: من أين لك, وقال بعضهم: إنها تؤدي معنى كيف. وقد جازت بها العرب كما جازت بغيرها من حروف الجزاء. قال لبيد: [الطويل] فأصبحت أنى تأتها تشتجر بها ... كلا مركبيها تحت رحلك شاجر ويروى: تلتبس بها. وكرب في معنى دنا, قال الشاعر: [الكامل] أجبيل إن أباك كارب يومه ... فإذا دعيت إلى المكارم فاعجل

وهذا البيت الذي لأبي الطيب فيه الذي يسمى الإكذاب؛ لأنه ادعى أن الدمع قضى ما يجب للربع, وشفى نفسه من الوجد, ثم زعم أنه لم يفعل ذلك. ومن الإكذاب قول زهير: [البسيط] قف بالديار التي لم يعفها القدم ... بلى وغيرها الأرواح والديم وقوله: عجنا فأذهب ما أبقى الفراق لنا ... من العقول وما رد الذي ذهبا عجنا: أي: عطفنا العيس, وفي (أذهب) ضمير راجع إلى الربع. وقوله: سقيته عبراتٍ ظنها مطرًا ... سوائلًا من جفونٍ ظنها سحبا العبرة: تردد البكاء في العين, كأنه مأخوذ من قولهم: عبرت الطريق, ثم اشتقوا من العبرة العبر والعبر فاستعملوها في معنى الثكل؛ لأنه يؤدي إلى البكاء. وقالوا: أمه عابر؛ أي: ثاكل. والجفن يجمع شفر العين وهدبها. وقوله: هام الفؤاد بأعرابيةٍ سكنت ... بيتًا من القلب لم تمدد له طنبا (18/ب) قياس أصحاب العربية يوجب أنك إذا نسبت إلى جمعٍ على أفعالٍ رددته إلى الواحد, وكذلك شرطهم في كل الجموع, إلا أن أشياء تجيء شاذة, وإنما هي في الجمع الذي يشبه الآحاد مثل رماح؛ لأنه يشبه حمارًا في الوزن, وفعال أشبه بالآحاد من أفعالٍ؛ لأنه من

أبنية الواحد, وأفعال من أبنية الجمع, على أنهم قد وصفوا به الواحد فقالوا حبل أرمام, وقدر أعشار. ولما كانوا قد فرقوا بين العرب والأعراب, فجعلوا العرب اسمًا جامعًا يقع على الحاضرة والبادية, والأعراب اسمًا مخصوصًا به أهل البدو, نسبوا إليه على لفظه؛ لأنه صار كالاسم لهم. ومن نحو هذا قولهم: رجل أنصاري؛ لأن الأنصار جعل كالاسم للأوس والخزرج, قال الراجز: [الرجز] قد لفها الليل بعصلبيً ... مهاجرٍ ليس بأعرابي كأنهم يجعلون من دخل إلى الأمصار من أهل البادية مهاجرًا, ومن ذلك قول الطائي, وهو إياس بن عبد الله: [الطويل] سمونا إلى جمع الحروري بعدما ... تناذره أعرابه والمهاجر وقوله: بيضاء تطمع فيما تحت حلتها ... وعز ذلك مطلوبًا إذا طلبا الحلة عندهم ثوبان, لا يقال لها حلة إلا وهي كذلك, وجمعها: حلل وحلال, وقيل لبعض الأعراب: ما تشتهي؟ ! فقال: خضلة ونعلان وحلة. يعني بالخضلة المرأة. وقال

ذو الرمة: [الوافر] يعوضه الألوف موفراتٍ ... مع البيض الكواعب والحلالا يريد جمع حلةٍ. وقوله: كأنها الشمس يعيي كف قابضه ... شعاعها ويراه الطرف مقتربا حسن تقديم ضمير الشعاع قبل ذكره؛ لأنه اتصل بمخفوضٍ قد أضيف إليه مفعول, كما يقال: أخذ ثوب غلامه الأمير, فيحسن تقديم الهاء التي هي عائدة على الأمير لأجل ما ذكر. وإذا اتصل الضمير بالفاعل قبح تقديمه على المفعول, فلا يحسن أن يقال: خان غلامه الأمير إلا في ضرورة الشعر, كما قال: [الطويل] جزى ربه عني عدي بن حاتم ... جزاء الكلاب العاويات وقد فعل وهذا المعنى مأخوذ من قول الأول: [الطويل] فقلت لأصحابي هي الشمس ضوؤها ... قريب ولكن في تناولها بعد وشعاع الشمس: ما ينتشر من ضوئها, واشتقاقه مثل اشتقاق الشعاع؛ أي: المفترق, ويقال: أشعت الشمس إذا انتشر ضوؤها. وبيت قيس بن الخطيم ينشد بالضم والفتح: [الطويل] طعنت ابن عبد القيس طعنة ثائر ... لها نفذ لولا الشعاع أضاءها إذا فتحت الشين فمعناه المفترق من الدم, وإذا ضم أوله فالمراد شعاع الشمس.

وقوله: مرت بنا بين تربيها فقلت لها ... من أين جانس هذا الشادن العربا شبهها بالشادن من الوحش, وهو ولد البقرة والظبية إذا قوي واشتد. يقال: شادن وشادل, فتبدل اللام من النون, ويقال: وحشية مشدن: إذا شدن ولدها, قال الراجز: [الرجز] يا دار عفراء ودار البخدن ... بك المها من مطفلٍ ومشدن البخدن: يقال: هي العظيمة الساقين والأعضاد. والصحيح أنه اسم امرأةٍ. ويقال: جانس الشيء الشيء إذا جمعه وإياه الجنس, والأجناس تتسع وتضيق, فيقال جانس الرجل الفرس؛ لأن كليهما يقع عليه اسم الحيوان. فإذا قالوا: جانس فلان فلانًا أرادوا أنه من جنسه, إما في النسب, وإما في الخلق, وإما في الخلق, ولو قيل: جانست التمرة الدرة لكان ذلك صحيحًا؛ لأن كلتيهما قد جمعتهما الجسمية. وقوله: فاستضحكت ثم قالت كالمغيث يرى ... ليث الشرى وهو من عجل إذا انتسبا الشرى: الشجر الملتف, وقيل: أشراء الحرم؛ أي: نواحيه, وقيل: طرقه. وشرى الفرات: ما يقرب منه. قال القطامي: [الكامل] لعن الكواعب بعد يوم لقينني ... بشرى الفرات وليلةٍ بالجوسق

وقوله: بياض وجه يريك الشمس حالكةً ... ودر لفظٍ يريك الدر مشخلبا يقال: مشخلب ومخشلب على القلب, ولم ينقل عن العرب مثل هذا البناء, ومن كلامهم الذي يوجد في بعض نسخ كتاب العين: يا مخشلبة, يا ذي الجلبة, تزوج حرملة, عجوزًا أرملة. وقوله: وسيف عزمٍ ترد السيف هبته ... رطب الغرار من التامور منخضبا هبة السيف: اهتزازه, وغراره: حده, ويقال: هو ما بين حده وعيره, والتامور: دم القلب, وقال أوس بن حجر: [الكامل] نبئت أن بني سحيمٍ أدخلوا ... أبياتهم تامور نفس المنذر وقال امرؤ القيس في هبة السيف: [الطويل] وأبيض كالمخراق بليت حده ... وهبته في السوق والقصرات القصرات: أصول الأعناق. فإن كان أبو الطيب قال: منخضبًا, وعدل عن مختضبٍ, فإنه أراد أن يجعل الفعل للمدوح. وإذا قال: خضبت السيف فانخضب فالفاعل هو الخاضب, وإذا قيل: اختضب السيف فكأن الفعل قد جعل له, وانفعل (18/ب) وافتعل يشتركان في المطاوعة إلا أن الانفعال متحقق بها أكثر من تحقق الافتعال.

وقوله: توقه فمتى ما شئت تبلوه ... فكن معاديه أو كن له نشبا كان أبو الطيب ينظر في نحو الكوفيين فربما استعمل ما يجده جائزًا في مذهبهم, ونصبه تبلوه جائز على رأيهم بإضمار أن, كأنه قال: فمتى ما شئت أن تبلوه, فكأنه جمع بين ضرورتين؛ لأنه حذف أن في الموضع الذي ينبغي أن تثبت فيه, ونصب بها مع الحذف. والبصريون إذا حذفوا أن في مثل هذه المواضع رفعوا الفعل, وكذلك ينشدون قول طرفة: [الطويل] ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي فسيبويه يختار الرفع, والكوفيون يجيزون النصب. وحكى المازني عن علي ابن قطرب عن أبيه أنه سمع العرب تنصب أحضر في هذا البيت, وبعض الناس يروي: ألا أيها اللاحي أن أحضر الوغى فأما قول عامر بن الطفيل: [الطويل] فلم أر مثلها خباسة واجد ... ونهنهت نفسي بعدما كدت أفعله

فكلام سيبويه يدل على أنه نصب أفعله بإضمار أن؛ لأنه شبهه بقول الشاعر: [الطويل] مشائيم ليسوا مصلحين عشيرةً ... ولا ناعبٍ إلا ببينٍ غرابها فخفض ناعبًا لأن الباء من عادتها أن تدخل في خبر ليس فكأنه قال: ليسوا بمصلحين ولا ناعبٍ, وشبه كاد بذلك لأن أن تدخل على الفعل بعدها؛ وذلك عنده ضرورة, وهو الأصل عند الفراء, كما قال الراجز: [الرجز] قد كان من طول البلى أن يمصحا فالشاعر في البيت الذي قافيته أفعله قد جمع بين ضرورتين, كأنه أدخل أن ودخولها عنده ضرورة, ثم نصب, وتلك ضرورة ثابتة؛ لأن عوامل الأفعال لا تضمر. وذهب قوم إلى أن بيت عامر بن الطفيل على إرادة النون الخفيفة, كأنه أراد بعدما كدت

أفعلنه. وفي هذا المذهب أيضًا ضرورتان؛ لأنه أدخل النون في موضعٍ لم تجر عادتها أن تدخل فيها, ثم حذفها بعد ذلك, وحذفها من الضرورات. وقال قوم: بيت عامر بن الطفيل على لغة لخمٍ؛ لأنهم يحذفون الألف التي تلحق بعد هاء التأنيث في مثل قولك: أخافها, وأضربها, فإذا فعلوا ذلك نقلوا حركة الهاء إلى ما قبلها, وينشد هذا البيت: [الوافر] فإني قد رأيت بدار قومي ... نوائب كنت في لخمٍ أخافه يريد أخافها. وقال الراجز: [الرجز] ليس لواحدٍ على نعمه ... ألا ولا اثنين ولا أهمه أي: أهمها. وقوله: وتغبط الأرض منها حيث حل به ... وتحسد الخيل منها أيها ركبا بعض الناس يفرق بين الغبط والحسد فيقول: قد غبطت الرجل إذا أردت أن يكون لك مثل ما له, ولا يكون لك غرض في زوال نعمته. وحسدته إذا أردت أن تنال مثل نعمته, وأن يزيلها الله عنه. وفي بعض الحديث: أنه قيل له: هل يضر الغبط؟ فقال: «كما يضر العضاه الخبط»؛ أي أن العضاه لا تحس بخبط الورق, كأنه سهل أمره. وقال لبيد: [المنسرح]

كل بني حرةٍ مصيرهم ... قل وإن أكثرت من العدد إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا ... يومًا يصيروا للبؤس والنكد وقوله: وكلما لقي الدينار صاحبه ... في ملكه افترقا من قبل يصطحبا الدينار معرب تعريبًا قديمًا, وجاء في الشعر الفصيح, واشتقوا منه الفعل, فقالوا: ثوب مدنر؛ إذا كان فيه نقش كهيئة الدنانير, وقالوا: رجل مدنر ومدنر؛ أي: ذو دنانير. وقوله: من قبل يصطحبا مشابه قوله: «فمتى ما شئت تبلوه» , جمع فيه بين ضرورتين: حذف أن وإعمالها, وذلك مفقود في الشعر الفصيح. وقوله: مال كأن غراب البين يرقبه ... فكلما قيل هذا مجتدٍ نعبا حسنت إضافة الغراب إلى البين؛ لأن في كلامهم أشياء يقال لها: الغراب, منها رأس الورك. قال الراجز: [الرجز] يا عجبًا للعجب العجاب ... خمسة غربانٍ على غراب

يريد خمسة غربان من الطير على رأس ورك بعيرٍ أو ناقةٍ, ويقال لحد الفأس غراب, قال النابغة: [الطويل] أكب على فأسٍ يحد غرابها ... مذكرةٍ من المعاول باتره وزعم قوم أن ذؤابة الجارية يقال لها غراب, وأنشدوا: [البسيط] وشعشعت للغراب الخمر واتخذت ... ثوب الأمير الذي في حكمه قعدا يزعمون أن المرأة من العرب (19/أ) كانت إذا هلك زوجها فحلقت ذؤائبها وغسلتها بالخمر علم أنها لا رغبة لها في الأزواج. وغراب البين يقع على الأسود والأبقع, وهذا البيت يروى لعبيد بن الأبرص والنابغة: [الكامل] زعم البوارح أن رحلتنا غدًا ... وبذاك خبرنا الغراب الأسود وقال عنترة: [الكامل] ذهب الذين فراقهم أتوقع ... وجرى ببينهم الغراب الأبقع وقوله: بحر عجائبه لم تبق في سمرٍ ... ولا عجائب بحر بعدها عجبا السمر: ظل القمر, ومن كلامهم: لا أكلمك السمر والقمر؛ أي: طول الدهر, وقيل للقوم الذي يتحدثون في القمر سمار, وقد سمروا يسمرون, ثم كثر ذلك حتى سمي الحديث بالليل سمرًا, وإن لم يكن في القمر, ويقولون: كما في السامر؛ أي: في الرهط الذين يتحدثون في ذلك الوقت. وجعل ابن أحمر السمر وقتًا, فقال: [الكامل] من دونهم إن جئتهم سمرًا ... عزف القيان ومجلس عبر أي: كثير الأهل. وقولهم: سمرًا, أي: في وقت السمر.

وقوله: مبرقعي خيلهم بالبيض متخذي ... هام الكماة على أرماحهم عذبا يريد أنهم يمدون أيديهم بالسيوف للضرب فتصير أمام وجوه الخيل وكأنها لها براقع, ويمكن أن يريد أنهم يضربون أعداءهم بالسيوف فيمنعونهم من النظر إلى وجوه خيلهم, فكأنهم قد ستروها بالبراقع. والكماة: جمع كمي, وهو الذي قد كمى نفسه بالسلاح؛ أي: قد سترها, وقيل: الكمي: الذي يستر شجاعته, والكماة: جمع كامٍ في الحقيقة, ولكنهم استغنوا عنه بكمي. وقال كثير: [الطويل] وإني لأكمي الناس ما أنا مضمر ... مخافة أن يثرى بذلك كاشح يثرى, أي: يفرح. وقالوا في جمع الكميك أكماء, كما قالوا: يتيم وأيتام, وأنشد أبو زيد: [الطويل] تركت ابنتيك للمغيرة والقنا ... شوارع والأكماء تشرق بالدم وقوله: متخذي هام الكماة: يريد ذوائب هام الكماة, وقد يجوز أن يجعل الهامة كالذؤابة, وعذبة الرمح: ما يشد في طرفه. وقوله: إن المنية لو لاقتهم وقفت ... خرقا تتهم الإقدام والهربا الخرق في الناس وغيرهم: أن يتحير الإنسان أو الظبي أو الطائر فلا يدري ما يصنع, قالوا للتي لا تحسن العمل: خرقاء, وقالوا في المثل: «خرقاء وجدت صوفًا, وخرقاء وجدت

ثلةً» , ووصفوا الريح بالخرقاء؛ لأنها تقوض البيوت, وتزيل الحظائر, ونحو ذلك. وفسروا قول علقمة على وجهين: [البسيط] هيق كأن جناحيه وجؤجؤه ... بيت أطافت به خرقاء مهجوم فقيل: أراد بالخرقاء امرأةً, وقيل: ريحًا. وقوله: محامد نزفت شعري ليملأها ... فآل ما امتلأت منه ولا نضبا يقال: نزفت ما في البئر إذا استقصيت أخذه. وآل: أي رجع. وكان أبو الفتح بن جني - رحمه الله - يتأول هذا البيت على معنى إذا اعتقده وجب أن يروي: وما نضبا. ويفسر الغرض بأن الشاعر أراد بقوله: ما امتلأت منه الذي امتلأت, وأنه وصف شعره بأنه لم ينضب, وفي هذا طعن على الممدوح؛ لأنه وصف المحامد بالامتلاء من الشعر. وإذا روي: ولا نضبا, فالمعنى أن محامده لم تمتلئ, وأن شعره لم ينضب, فهو مدح للمحامد وللشعر, وإذا رويت: وما نضبا, فهو يؤدي المعنى الذي تؤديه لا, ولكنه أشبه بها من ما. وقوله: لما أقمت بأنطاكية اختلفت ... إلي بالخبر الركبان في حلبا أنطاكية: بلد قديم, وقد ذكرته العرب في أشعارها, وقيل: إنهم كانوا يقولون لمن جاء من الشام, ولما جلب من متاعه: أنطاكي, ومنه قول امرئ القيس: [الطويل] علون بأنطاكيةٍ فوق عقمةٍ ... كجرمة نخلٍ أو كجنة يثرب

ومن التي أولها

أي بثيابٍ أنطاكية, وقيل: إنها سميت أنطاكية؛ لأن الذي بناها يقال له: أنطيخنوس الملك, ولا شك أن لفظها قد عرب بعض التعريب, ولو أنها عربية لوجب أن تكون من النطك, ولم يذكر أحد ذلك من الثقات. وقوله: وإن عمرت جعلت الحرب والدةً ... والسمهري أخًا والمشرفي أبا المشرفي: السيف نسب إلى المشارف, وهي مواضع كانت تشرف على بلاد العرب. وقوله: قح يكاد صهيل الجرد يقذفه ... من سرجه مرحًا بالعز أو طربا (19/ب) يقال: أعرابي قح إذا كان لم يدخل الأمصار, ولم يخالط الحضر, وكأنهم يعنون بالقح الخاص. قال الراجز: يا رب خالٍ لك عبدٍ قح ... مقدمٍ أعفاجه ملح يمشي كمشي الكلبة المجح المجح: التي قد أثقلها الحمل. ومن التي أولها ضروب الناس عشاق ضروبًا ... فأعذرهم أشفهم حبيبا

الوزن من الوافر, والقافية من المتواتر. ضروبًا منصوبة بوقوع الفعل عليها, وهو العشق؛ أي: فنون الناس يعشقون فنونًا, فهذا الوجه الذي لا ينبغي أن يعدل عنه, وقد يمكن أن يقال: هي منصوبة على الحال, كأنه قال: الناس عشاق مختلفين في عشقه. وقوله: أعذرهم لا يجب أن يكون مأخوذًا من قولك عذرت الرجل, فهو معذور؛ لأنه إذا حمل على ذلك كان أفعل الذي للتفضيل قد بني من فعل ما لم يسم فاعله, وذلك ممتنع, ولكنه مأخوذ من قولهم: عذر الرجل وأعذر إذا أتى بعذر يقال عذر من نفسه, وأعذر إذا بين عذره أو فعل فعلًا يعذر به من أساء إليه. يقال: عذر من نفسه وأعذر إذا بين عذره. وأشفهم: أي أفضلهم مأخوذ من الشف, وهو الفضل والربح. قال الشاعر: [الطويل] فلا أعرفن ذا الشف يطلب شفه ... ليستاد منكم بالأديم المسلم والشف عندهم من الأضداد, يكون في معنى الزيادة ومعنى النقص. وقوله: تظل الطير منها في حديثٍ ... ترد به الصراصر والنعيبا الطير: جمع طائر, مثل: راكبٍ وركبٍ, وصاحبٍ وصحبٍ, وإنما استعمال الطير للواحد؛ وذلك قليل رديء, قال الشاعر: [الوافر] فلا يحزنك من زمنٍ تولى ... تذكره ولا طير أرنا

ولما قالوا للواحد: طير, قالوا في الجمع: طيور, كما قالوا: شيخ وشيوخ, وعيب وعيوب. قال الشاعر: [الوافر] بطيرٍ من طيور الغش يأوي ... صدورهم فعشش ثم باضا والصراصر: جمع صرصرةٍ, قال: صرصر البازي والصقر إذا صاح, والنعيب مخصوص به الغربان, يريد أن الجوارح والغربان من الطير التي تقع على الجيف المقتولة يجري بينها حديث لما هي فيه من الخضب والرغد فتكثر الصراصر والنعيب كأنه جعل ذلك حديثًا. وقوله: وقد لبست دماؤهم عليهم ... حدادًا لم تشق لها جيوبا الحداد: يراد به الثوب الذي يلبسه الحزين, وجعل الطير لوقوعها على هؤلاء القتلى وأكلها لحومهم قد اختضبت بدمائهم, فكأنها لابسة حدادًا لم تشق جيوبه؛ لأن الدم قد عم جميع شخوصها, فليس منها شيء بالظاهر, وذلك ضد ما يجب إذ كانت مسرورةً بقتلهم, والحداد إنما يلبسه الحزين. وادعى أن دماءهم سود, والدم قد يكون أحمر وأسود. قال الشاعر: [الكامل] فكسا منا سمها النجيع الأسود ويجوز في تشق فتح القاف وضمها وكسرها, والفتح أجود الوجوه. وقوله: فمرت غير نافرةٍ عليهم ... تدوس بنا الجماجم والتريبا التريب: جمع تريبةٍ, وهو جمع ليس بينه وبين واحده إلا الهاء, كما قالواة: هامة وهام, وجمجمة وجمجم قال رؤبة: [الرجز] وهو إذا النطح تفأى جمجمه

جمع جمجمةً على جمجمٍ, وتريب في جمع تريبةٍ قليل في الاستعمال, ولعل أبا الطيب جمعه قياسًا أو سمعه في بعض الشواذ. وقوله: يقدمها وقد خضبت شواها ... فتى ترمي الحروب به الحروبا الشوى: القوائم هاهنا؛ فلذلك أنثها, ولو أنه في غير الشعر لكان قوله: خضب شواها أحسن؛ لأن الجمع الذي بينه وبين واحده الهاء يجوز تذكيره وتأنيثه, إلا أن بعضه يؤلف فيه التذكير, ومنه ما تجري العادة فيه بالتأنيث, وواحد الشوى شواة, ويقال للجلد كله شوى وشواة, وبيت الأعشى ينشد على وجهين: [مجزوء الكامل] قالت قتيلة ماله ... قد جللت شيبًا شواته؟ ويروى سراته. ومعنى سراته: أعلاه, ومعنى شواته: جلدة رأسه, فأما قول أبي ذؤيب: [الطويل] إذا هي قامت تقشعر شواتها ... ويشرق بين الليت منها إلى الصقل فيقال: إنه أراد بالشواة الجلد أجمع, وإنما قالوا للرامي: أشوى إذا أخطأ؛ لأنهم أرادوا أنه أصاب الشوى؛ أي: القوائم, وليست موضع مقتلٍ, ثم كثر ذلك حتى قالوا: أشوى الرامي, إذا لم يصب مقتلًا ولا غيره. (20/ا) ويقول القائل للرزء إذا أصابه: هذا شوى؛ أي: يهون علي. قال الهذلي: [الطويل]

وكنت إذا ما الدهر أحدث نكبةً ... أقول شوى ما لم يصبن صميمي وإن رويت خضبت شواها, بفتح الخاء, كان أحسن في حكم النظم, وسلم البيت من تأنيث الشوى, ويجعل الخضب للجياد, كما جعل الطعن لها في بعض المواضع: وقوله: ........................ ... ترمي الحروب به الحروبا أي: يخرج من حرب إلى حرب. وقوله: شديد الخنزوانة لا يبالي ... أصاب إذا تنمر أم أصيبا الخنزوانة: الكبر. وقوله: تنمر؛ أي: تغير وجهه للغضب, وأصل ذلك أنه يصير مثل النمر ظاهر الشر, فإذا وصفوا القوم بالتغير عن المودة قالوا: لبسوا لنا جلود النمر. وفي كلام يروي عن عبد الملك بن مروان في وصيته لابنه الوليد: «زر واتزر والبس جلد نمر» , زر من الزئير؛ أي: تنكر لأعدائك, قال قيس بن الخطيم: [الوافر] متى تلقوا رجال الأوس تلقوا ... نيوب أساودٍ وجلود نمر ومن روى: أم أصيبا, فلابد له أن يعتقد حذف ألف الاستفهام, كما قال الشاعر: [الطويل] فوالله ما أدري وإن كنت داريًا ... بسبعٍ رميت القوم أم بثمان

أراد: أبسبعٍ. ومن روى: أو أصيبا فيجوز أن لا يذهب إلى الاستفهام, ويجعل الماضي واقعًا موقع الحال, كأنه يقول: لا أبالي في حال إصابته عدوه, ولا في حال إصابة عدوه إياه. وقوله: كأن الفجر حب مستزار ... يراعي من دجنته رقيبا الفجر: أول الصبح, وهما فجران: الفجر المستدق, وهو المستطيل الذي يقال له: ذنب السرحان, والفجر المستطير, وهو المعترض الذي يجب معه إمساك الصائم عن الأكل والشرب والجماع, وروي عن ابن عباسٍ في قوله: {والفجر * وليالٍ عشر} , أنه يريد بالفجر المحرم؛ لأنه أول السنة, وإنما حسن ذلك؛ لأنه جاء مع عشر ذي الحجة. ودجنة الليل: ظلمته, وربما قالوا: الدجنة: ظلمة مع غيمٍ, كأنه مشتق من الدجن, ولم يقولوا: دجن الليل, وقالوا: دجنت السماء وأدجنت؛ إذا لبسها الغيم وقوله: كأن نجومه حلي عليه ... وقد حذيت قوائمه الجبوبا الجبوب: الأرض. وربما قالوا: الأرض الصلبة. وقال قوم: الجبوب الطين اليابس. والذي يوجبه الاشتقاق أن يكون الجبوب الأرض كلها, لا يخص صلبها بذلك دون سهلها. وأصل الجب القطع, فيجوز أن تكون الأرض سميت جبوبًا؛ لأنها مجبوبة في معنى مفعولةٍ, كما قالوا لما يركب: ركوب, ولما يحلب: حلوب, ويكون المراد أنها تقطع بالسير أو

تحفر فيها الآبار, وتقطع صخورها للبناء, ويحتمل أن تكون سميت جبوبًا؛ لأنها تجب الناس بدفنهم فيها؛ أي: تقطعهم من الأحياء, وقد زعموا أنه يقال: جبهم إذا سبقهم, فيجوز أن يراد أنه سبقت الناس الذين هم فيها؛ لأنها خلقت قبلهم. وحذيت: من الحذاء, والمعنى أن الليل قد عم الأرض, فكأنها حذاء لقوائمه. وقوله: كأن الجو قاسى ما أقاسي ... فصار سواده فيه شحوبا الجو: ما بين السماء والأرض. قال ذو الرمة: [البسيط] وظل للأعيس المزجي نواهضه ... في نفنف الجو تصويب وتصعيد ويقال للوادي: جو. والشحوب: تغير اللون من سفرٍ أو تعبٍ, وربما سمي الهزال شحوبًا, قال الشاعر: [الطويل] فقلت لها ليس الشحوب على الفتى ... بعارٍ ولا خير الرجال سمينها وقوله: عرفت نوائب الحدثان حتى ... لو انتسبت لكنت لها نقيبا الحدثان: ما يحدث من خطوب الدهر, فيقال للحرب: حدثان, وكذلك للموت, قال صخر بن عمرو بن الشريد: [الطويل] وما كنت أخشى أن أكون جنازةً ... عليك ومن يغتر بالحدثان فهذا اسم جامع لما يحدث من الأمور, وقال عمرو بن معد يكرب فخص الحرب: [مجزوء الكامل]

أعددت للحدثان سا ... بغةً وعداء علندى فهذا يريد الحرب, وأنشد أبو عمرو الشيباني بيتًا فيه ذكر الحدثان, وقيل: إن المراد به الفأس, والبيت: [الوافر] وجونًا يزلق الحدثان عنه ... إذا أجراؤه نحطوا أجابا جعل الفأس حدثانًا؛ لأنها تحدث كسرًا فيما يضرب بها. ونقيب القوم: الذي يعرف أسماءهم. وقوله: وترتع دون نبت الأرض فينا ... فما فارقتها إلا جديبا (20/ب) لما جعل الخطوب مطايا زعم أنها لا تذل لمن ركبها, وفي هذا مدح لنفسه؛ لأنه ادعى ركوبها, وأن ذلك لا يبغيه أحد, وجعلها ترتع في ركبانها دون النبت, والرتوع: هو تردد الراعية في المرعى, فجعلها تفنيهم وتؤثر فيهما كما تؤثر الماشية في النبات, فقد تركته جديبًا مثل المكان المرعي.

وقوله: إذا نكبت كنائنه استبنا ... بأنصلها لأنصلها ندوبا الكنائن: جمع كنانة, وهي التي تكن بها السهام؛ أي: تستر. ومن أمثالهم: «قيل الرماء تملأ الكنائن»؛ أي: قبل كون الأمر يستعد له. ويقال: نكبت الكنانة إذا فرغت ما فيها من السهام, وكذلك نكبت ما في الوعاء من زاد ونحوه. والندوب: جمع ندبٍ, وهو الأثر. وفي هذا البيت إفراط وادعاء لما لا يجوز أن يكون, كأنه يرمي السهم ثم يتبعه بالآخر فيصيب فوق السهم الذي قبله, وينحدر السهم الثاني حتى يبلغ إلى نصل السهم الأول فيؤثر فيه, والشعراء تستحسن هذه المبالغة, وهي مستحيلة. وقوله: يريك النزع بين القوس منه ... وبين رمية الهدف اللهيبا الهدف: ما ينصبه الرماة ليتعمدوه إذا كانوا متعلمين للرمي أو متناضلين, لينظروا أيهم أكثر إصابةً, وإنما يجعلون في الهدف شيئًا يقصدونه بالرمي؛ لأن الهدف يكون مشرفًا مرتفعًا. ويقال لما أشرف من الرمل: هدف. ومن ذلك: أخذ هدف الرمي, وقالوا للرجل العظيم الشخص مع فخامةٍ وقلة مضاءٍ: هدف؛ كأنهم شبهوه بهدف الرمل. قال أبو ذؤيب: إذا الهدف المعزاب صوب رأسه ... وأعجبه ضفو من الثلة الخطل وقوله: فآجر الإله على عليلٍ ... بعثت إلى المسيح به طبيبا يقال: أجره الله وآجره؛ أي: أثابه. والمسيح يقال: إنه سمي بذلك؛ لأنه ولد ممسوحًا بالدهن, وقيل: لأنه كان إذا مسح عليلًا برأ, فهو على هذا فعيل في معنى فاعلٍ, وقيل سمي مسيحًا؛ لأنه كان يمسح الأرض؛ أي: يسيح فيها, وقيل: سمي بذلك؛ لأن الناس كانوا

يتمسحون به يريدون البركة. وقيل: كان ممسوح القدم لا أخمص لرجله, وقيل: هو بالعبرانية مشيحاء, فلما عرب قيل: مسيح. وقوله: تيممني وكيلك مادحًا لي ... وأنشدني من الشعر الغريبا يقال: تيممه وتأممه؛ إذا قصده, والياء في تيمم أكثر. فإذا قالوا: أممته, فالهمزة أكثر من الياء؛ لأنهم قل ما يقولون يممته. وقد أنشدوا هذا البيت: [الوافر] فلم أجبن ولم أنكل ولكن ... يممت بها أبا عمرو بن عمرو وقولهم: أنشدت الشعر: مأخوذ من قولهم: أنشدت الضالة إذا عرفتها؛ لأن الرجل ينشد الشعر والسامع لا يعلم من قائله, فإذا قيل له: لمن هذا الشعر نسبه إلى قائله, فشبه بالضالة المعرفة, ثم كثر الكلام بهذه اللفظة حتى سمى رفع الصوت بالشعر إنشادًا, وإن لم يسأل المنشد عن القائل. قال القطامي: [البسيط] ما لي أرى الناس مزورا فحولهم ... عني إذا سمعوا صوتي وإنشادي وقالوا: نشيد الشعر, كما قالوا: نشيد الضالة. قال الشاعر: [الوافر] وأنا نعم أحلاس القوافي ... إذا استعر التنافر والنشيد وقال عبد يغوت الحارثي: [الطويل] أحقًا عباد الله أن لست سامعًا ... نشيد الرعاء المعزبين المتاليا

ومن التي أولها

ومن التي أولها أعيدوا صباحي فهو عند الكواعب ... وردوا رقادي فهو لحظ الحبايب وهي من الطويل الثاني عند الخليل, ومن السحل الأول في قول غيره, وقافيتها من المتدارك. الحبايب: جمع حبيبة, وإذا قيل: الأحباب فهو جمع حب, وأصله للمذكرين, وقد استعملت الشعراء الأحباب في معنى الحبايب؛ وذلك جائز إذا جعلوا الحب واقعًا على الشخص, وقالوا للمرأة: حبة؛ إذا كانت محبوبة. وقوله: فإن نهاري ليلة مدلهمة ... على مقلةٍ من فقد كم في غياهب (21/أ) المقلة: جملة العين بياضها وسوادها, والجمع مقل, وهو القياس, وقد قالوا: مقل فجمعوه على حد برةٍ وبر. والغياهب: جمع غيهب, وهو الليل المظلم. ويقال للرجل الجافي الوخم: غيهب, وحكى بعضهم: غهب الليل؛ إذا أظلم. وقوله: بعيدة ما بين الجفون كأنما ... عقدتم أعالي كل هدبٍ بحاجب سكن ياء أعالي للضرورة, وهذا المعنى ينظر إلى قول بشار: [الوافر]

جفت عيني عن التغميض حتى ... كأن جفونها عنها قصار والحاجب: الشعر الذي على الحجاج, فأما قول قيس بن الخطيم: [الطويل] تبدت لنا كالشمس تحت غمامةٍ ... بدا حاجب منها وضنت بحاجب والأشبه أن يكون أراد حاجب المرأة, وقد قيل: إنه أراد حاجب الشمس؛ أي: جانبها, وحكوا في ذكر قرصٍ قدم إلى ضيفٍ: «كل من حواجبه»؛ أي: من جوانبه ونواحيه. وقوله: ولو قلم ألقيت في شق رأسه ... من السقم ما غيرت من خط كاتب البغداديون ينشدون شق, بفتح الشين. وحكى أبو الفتح محمد بن الحسن بن روحٍ, رحمه الله, وكان يلي لأبي الطيب أمرًا في بصف, أنه سمعه ينشد في شق رأسه, فقال له أبو الطيب: شق, والمعنيان متقاربان. ويجوز أن يكون أبو الطيب عن له في الفتح والكسر رأي. والشق ما بين سني القلم, وشقه أحد جانبيه, والكسر أشد مبالغةً من الفتح. وقوله: ولابد من يومٍ أغر محجلٍ ... يطول استماعي بعده للنوادب أصل قولهم: يوم أغر محجل: منقول من الفرس الذي له غرة وتحجيل؛ لأنه إذا كان كذلك شهر في الخيل أكثر من اشتهار البهيم. وقيل لكل أمر يظهر ويشيع ذكره: أغر

محجل. واستعملوا في الخير والشر, فمما جاء في الافتخار البيت المنسوب إلى السموأل وإلى غيره: [الطويل] وأيامنا مشهورة في عدونا ... لها غرر معروفة وحجول وقال الجعدي: [الطويل] ألا ناديا ليلى وقولا لها هلا ... فقد ركبت أمرًا أغر محجلا أي: مشهورًا, وإنما يريد أمرًا شنيعًا قبيحًا. وقال الراجز: [الرجز] لا هم إن الحارث بن جبله ... زنا على والده وقتله وركب الشادخة المحجلة ... وكان في جاراته لا عهد له وأي شيءٍ سمجٍ لا فعله والشادخة المحجلة يراد بها سبة مشهورة. وقوله: يطول استماعي بعده للنوادب: يريد أن القتلى تكثر, فلا يزال يسمع نوادب المقتولين. وقوله: إليك فإني لست ممن إذا اتقى ... عضاض الأفاعي نام فوق العقارب

الأفاعي: جمع أفعى, وهي تقع على الذكر والأنثى, وإذا قالوا: أفعوان فهو الذكر لا غير. ومن تذكير الأفعى البيت المعروف: [السريع] مطرق يرشح سما كما ... أطرق أفعى ينفث السم صل ويقال: تفعى له؛ إذا تنكر له, قال الهذلي: [الطويل] رأته على فوت الشباب وأنها ... تفعى لها إخوانها وعشيرها والمعنى: أني لست ممن إذا اتقى الأمور الكبار صبر على ما هو دونها. وقوله: أتاني وعيد الأدعياء وإنهم ... أعدوا لي السودان في كفر عاقب الأدعياء: جمع دعي, وهو الذي يدعيه أبوه, أو يدعي هو إلى أبٍ, ولا يكون نسبه ثابتًا. والسودان - هاهنا - مراد بهم عبيد سودان أعدوا له في كفرٍ عاقبٍ ليقتلوه. وكفر عاقبٍ في الشام الأعلى, وكل قريةٍ كفر. وبعض من فسر شعر أبي الطيب يذهب إلى أنه أراد بالسودان الحيان؛ جمع أسود, ويذهب إلى أن السودان كناية عن الشرور, ولا يمتنع ما قال, ولكن ظاهر الأمر أنهم عبيد سود, وقولهم: السودان يقع على الإنس وغيرهم, فيقال: معزى سودان, وأنشد سيبويه: [الهزج]

ومعزى هدبًا يعلو ... قران الأرض سودانا وقول القائل: [الوافر] أحب لحبها السودان حتى ... أحب لحبها سود الكلاب جعل السودان تقع على الكلاب وغيرها. وقوله: كأن رحيلي كان من كف طاهرٍ ... فأثبت كوري في ظهور المواهب لما وصف نفسه بأنه جواب للأرض قد سلك منها كل مكانٍ جعل ذلك خروجًا إلى مدح الممدوح, فقال: كأني رحلت من كف طاهر وقد أثبت كوري؛ أي: رحلي الذي على الناقة فوردت (21/ب) بي موطن كل قومٍ, وهذا من الإفراط في المبالغة. وقوله: فلم يبق خلق لم يردن فناءه ... وهن له شرب ورود المشارب استعار الورود للمواهب, وقد يستعمل الناس قولهم: ورد البلد في معنى قدم, وأصله في ورد الماء, وفي هذا البيت تقديم وتأخير كأنه قال: لم يردن فناءه ورد المشارب؛ أي: مواهبه تقصد ديار الناس, وتحرص على ورودها كما تحرص الظماء على ورود المشرب, وهن مع ذلك شرب للقوم, والشرب: الحظ من الماء, وقد جعله قوم كالمصدر. وقوله: فتى علمته نفسه وجدوده ... قراع الأعادي وابتذال الرغائب القراع: مصدر قارع القوم القوم إذا ضاربوهم, وكانت المضاربة بيابسٍ يقع على مثله في اليبس. والرغائب: جمع رغيبةٍ, وهي العطية التي يرغب فيها. ويقال: رغبت فهي رغيبة؛ إذا كثرت واتسعت, ومنه قولهم: فرس رغيب الشحوة؛ أي: واسع الخطوة.

وقوله: كذا الفاطميون, الندى في بنانهم ... أعز امحاء من خطوط الرواجب كذا: كلمة تستعمل كاستعمال المثل, والمعنى: كذا الوصف الذي أصفه الفاطميون. والرواجب: واحدها راجبة. فمنهم من يقول: هي بطون الأصابع وظهورها, واحدتها راجبة, وقال قوم: الأنامل من أطراف الأصابع إلى العقد الأولى, ومن العقد الأولى إلى الثانية الرواجب, ومن الرواجب إلى العقد الأخرى البراجم, وقيل: البراجم هي نفس العقد الأخيرة التي تظهر إذا قبضت في الكف. وقوله: أناس إذا لاقوا عدًى فكأنما ... سلاح الذي لاقوا غبار السلاهب المعنى مما يقال في هذا الموضع أن عداهم إذا لاقوهم قاتلوهم بالفرار, فسلاحهم أن يركضوا جيادهم فيثور غبارها في الهزيمة. ويجوز أن يذهب إلى أن الممدوحين لا يحفلون بسلاح الأعداء, ولا يضرهم, فكأنه غبار

الخيل يدخلون فيه بلا اكتراثٍ, ويقوي هذا القول قوله في صفة الخيل: دوامي الهوادي. والسلاح يذكر ويؤنث. قال الطرماح في تأنيثه يصف ثورًا وحشيًّا: [الطويل] يهز سلاحًا لم يرثها كلالةً ... يشك بها منها أصول المغابن ويدل على التذكير قولهم: أسلحة, فجمعوه بالهاء, كما يقولون: حمار وأحمرة, ولو كان مؤنثًا لقالوا أسلح كما قالوا: شمال وأشمل, وأنشد أبو زيدٍ: [الوافر] لقد أعجبتموني من جسومٍ ... وأسلحة ولكن لا فؤادا والسلاهب: الخيل السراع, وقيل: الطوال, والسرعة أشبه في هذا البيت. وقوله: رموا بنواصيها القسي فجئنها ... دوامي الهوادي سالمات الجوانب سكن دوامي للضرورة, وهي في موضع الحال. والهوادي: الأعناق, واحدها هادٍ, قال القطامي: [البسيط] إني وإن كان قومي ليس بينهم ... وبين قومك إلا ضربة الهادي وجاءت الهادية بالهاء في معنى العنق, وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم لما قال وهو يعني رقبة الشاة: «إنها هادية الشاة وأبعدها من الأذى». فجعلها هاديةً؛ لأنها متقدمة من الجسد,

ويقال: إن الهاء لم تعرف في الهادية إلا في هذا الحديث, وإنما جاء بها صلى الله عليه وسلم لما كانت في ذكر الرقبة, والمعنى الذي قصده أبو الطيب قد سبقت إليه الشعراء, قال كعب بن زهيرٍ: [البسيط] لا يقع الطعن إلا في نحورهم ... وما لهم عن حياض الموت تهليل وقال القطامي: [البسيط] ليست تجرح فرارًا ظهورهم ... وبالنحور كلوم ذات أبلاد وقوله: أولئك أحلى من حياةٍ معادةٍ ... وأكثر ذكرًا من دهور الشبائب الشبائب: جمع شبيبة, فأما قول الراجز: [الرجز] يخضبن بالحناء شيبًا شائبًا يقلن كنا مرةً شبائبا فيجوز أن يريد ذوات شبائب فحذف المضاف كما قال الطهوي: [الوافر] حسبت بغام راحلتي عناقًا ... وما هي ويب غيرك بالعناق

أراد بغام عتاقٍ, ويجوز أن يكون جمع شبيبة من قولهم: امرأة مشبوبة إذا وصفت بالجمال والحسن, فتكون فعيلة في معنى (22/أ) مفعولة. قال الشاعر: [الطويل] ومشبوبةٍ لا يقبس الجار ربها ... ولا طارق الظلماء منها يونس أراد امرأةً جميلةً شبهها بالنار المشبوبة, وقالت امرأة من العرب لابنتها: «لو رأيتني وأنا شابة لرأيت أحسن من النار الموقدة». فأما شبائب فلا يجوز أن يكون جمع شابةٍ, وإنما جمعها شواب. وقوله: نصرت عليا يابنه ببواترٍ ... من الفعل لا فل لها في مضارب أراد أنه يفعل أفعالًا جميلةً تكون في أعدائه مثل السيوف البواتر, ولكن لا يحدث بها فل, وإنما يريد أنك فعلت من المكارم مثل ما كان يفعل, وكأنه يدعي له أنه زاد في شرف عليّ عليه السلام وقوى أمره. وقوله: وأبهر آيات التهامي أنه ... أبوك وإحدى ما لكم من مناقب أبهر: من قولهم: بهره؛ إذا غلبه, والآيات: العلامات, كذلك يأتي في كلام العرب, قال الشاعر: [الطويل] ألكني إلى قومي السلام رسالةً ... بآية ما كانوا ضعافًا ولا عزلا

أي بعلامة ذلك, وآية القرآن مأخوذة من هذه كأنها علامة للنبوة. وقيل: الآية جماعة الحروف من قولهم: خرج القوم بآيتهم؛ أي: جماعتهم, والتهامي منسوب إلى تهامة, والتهم: شدة الحر, وانخفاض الأرض, قال الراجز: نظرت والعين مبينة التهم إلى سنا نارٍ وقودها الرتم والتهم - هاهنا - مصدر أخذ من تهامة, وإذا نسبوا إلى تهامة فأقروا التاء على الكسر شددوا الياء في النسب, وإذا فتحوا التاء خففوا الياء, فقالوا: تهامٍ مثل قاضٍ, ومررت بتهامٍ, ورأيت تهاميًا. وقوله: إحدى ما لكم: يحتمل أن يكون إحدى نسقًا على قوله أبوك؛ فيكون قد جعل النبي صلى الله عليه وسلم إحدى مناقب هؤلاء القوم, وهذا من الغلوّ. ولكن الشعراء يجرون من ذلك على سجيةٍ, ويجوز وجه آخر, وهو أن تكون إحدى معطوفةً على قوله: أنه أبوك, فتكون هاهنا مردودةً على الجملة, ويذهب بقوله: إحدى ما لكم من مناقب إلى ما يروى عن علي عليه السلام في باب خيبر, ونحو ذلك. فالوجه الأول يكون فيه النبي صلى الله عليه وسلم إحدى مناقبهم,

والوجه الثاني أن يكون إحدى مناقبهم من آياته. وقوله: إذا علوي لم يكن مثل طاهرٍ ... فما هو إلا حجة للنواصب النواصب: جمع ناصبة؛ أي: الجماعة التي تنصب العداوة لأهل البيت عليهم السلام, ولو أنه جمع ناصب لوجب أن يقول: نصاب, إلا أن وضع فواعلٍ في موضع فعالٍ جائز في الشعر, ومنه قول الفرزدق: [الكامل] وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم ... خضع الرقاب نواكس الأبصار وضع نواكس موضع نكاسٍ. وقوله: ويحذى عرانين الملوك وإنها ... لمن قدميه في أجل المراتب يحذى عرانين الملوك؛ أي: تجعل له حذاءً, والعرنين: ما بين العينين إلى الأنف. قال المتلمس: [الطويل] ولو غير أخوالي أرادوا نقيصتي ... جعلت لهم فوق العرانين ميسما

ويكنون عن السادة بالعرانين. قال ابن لجأٍ: [البسيط] إن العرانين تلقاها محسدة ... ولن ترى للئام الناس حسادا وقوله: يد للزمان الجمع بيني وبينه ... لتفريقه بيني وبين النوائب سمت العرب النعمة يدًا, فقالوا: لفلانٍ عندي يد, وأصل ذلك أن الرجل إذا أعطى الآخر شيئًا ناوله إياه بيده, فكنوا عن النعمة باليد, وأنشد أبو زيد لضمرة بن ضمرة النهشلي: [الطويل] فلن أذكر النعمان إلا بصالحٍ ... فإن له عندي يديا وأنعما زعموا أن يديا جمع يدٍ, مثل عبيدٍ وكليبٍ, ويجوز أن يكون يديا فعيلًا في معنى مفعول من قولهم: يديت إلى الرجل جميلًا, فهو ميدي ويدي. وقوله: يرى أن ما ما بان منك لضاربٍ ... بأقتل مما بان منك لعائب في أنّ ضمير, وهو الهاء, كأنه قال: ترى أنه ما الذي بان منك لضاربٍ, فما الأولى نافية, والثانية في معنى الذي. ومثل حذف الضمير هاهنا قول الأعشى: [الخفيف] (22/ب) ... إن من لام في بني ابنة حسا ... ن ألمه وأعصه في الخطوب

أراد أنه من لام, ولولا ذلك لم يجز الجزاء. وقوله: ألا أيها المال الذي قد أباره ... تعز فهذا فعله بالكتائب أباره: أي: أهلكه, والبور: الهالك الفاسد, ومنه قول ابن الزبعرى: [الخفيف] يا رسول المليك إن لساني ... راتق ما فتقت إذ أنا بور ومنه: بارت السلعة؛ إذا لم تنفق, وفي الكتاب العزيز: {كانوا قومًا بورًا}. وبور يقع على الواحد والجميع. وقوله: حملت إليه من لساني حديقةً ... سقاها الحجا سقي الرياض السحائب الحديقة أرض فيها نخل أو عنب, وأصل ذلك أن يحدق بها حائط أو نهر من قولهم: حدقوا به وأحدقوا؛ إذا أطافوا. قال الأخطل: [البسيط] المنعمون بنو حرب وقد حدقت ... بي المنية واستبطأت أنصاري وقال آخر في يوم الحرة: [الوافر]

ولما أحدقوا بي واستكفّوا ... وإن ناديت ثم فلن أجابا وأراد بالحديقة القصيدة على التشبيه, وفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول في قوله: سقي الرياض السحائب, أراد سقي السحائب الرياض, وقد فصلوا بينهما بالظرف, والمصدر, وحروف الخفض, وبالمفعول. قال الشاعر في الفصل بالظرف: [الوافر] كما خط الكتاب بكف يومًا ... يهودي يقارب أو يزيل وقال ذو الرمة ففصل بينهما بحرف الخفض والمخفوض الذي بعده: [البسيط] كأن أصوات من إيغالهن بنا ... أواخر الميس أنقاض الفراريج أراد كأن أصوات أواخر الميس من إيغالهن بنا. وقال آخر في الفرق بالمصدر: [الوافر] أزب كأنه أسد هموس ... معاود جرأةً زفت الهوادي أراد معاد زفت الهوادي جرأةً, فجرأةً هاهنا يجوز أن تكون مصدرًا, ويجوز أن تكون مفعولًا له. وقال في الفرق بينهما بالمفعول: [مجزوء الكامل] فزحجته متعرضًا ... زج القلوص أبي مزاج ويروى: أبي مزادة, أراد: زج أبي مزادة القلوص.

وقوله: فحييت خير ابنٍ لخير أبٍ بها ... لأشرف بيت في لؤي بن غالب حييت: فعلت من التحية, ويجب أن يكون أصل التحية البقاء, كأنهم يقولون: حييت الرجل؛ إذا دعوت له بالحياة, ثم سلموا الملك تحيةً؛ لأن الملك يدعى له بأن يعمر, وسموا الوجه محيًا؛ لأنه يلقى بالكلام الجميل, ثم سموا ما طابت رائحته من الأشياء إذا لاقوا به الرجل تحيةً, وكذلك السلام. ويجب أن يكون الشاعر أراد بالتحية هاهنا ما كان طيب الرائحة من الزهر, وغيره؛ أي: هذه القصيدة أرجة ذكية. ولؤي بن غالب يهمز ولا يهمز, فإذا همز احتمل وجهين: أحدهما أن يكون تصغير لأى, وهو الثور الوحشي, وأن يكون تصغير لأي, وهو البطء. وإذا لم يهمز احتمل وجوهًا؛ منها: أن يكون من الوجهين اللذين مضيا, وتجعل الهمزة واواً؛ لأنها مفتوحة وقبلها ضمة. ويجوز إذا لم يهمز أن يكون تصغير لوى الرمل ولواء الجيش, واللوى من قولهم: فرس ألوى؛ إذا كان في ظهره التواء. واللوى من قولهم: خصم ألوى؛ إذا كان شديد الخصومة. واللوى إذا أريد به الوجع الذي في البطن. ويجوز أن يكون تصغير لي من قولهم: لويته ليا, ويجوز في تصغير لي وجهان: لوي وليي, وأن يكون ترخيم التصغير من قولهم: ألوى إذا كان شديد الخصومة.

ومن أبيات أولها

ومن أبيات أولها لأحبتي أن يملؤوا ... بالصافيات الأكؤبا وهي من ثامن الكامل على رأي الخليل, وعلى رأي غيره من ضروب السحل الثالث, وقافيتها من المتدارك. الأكؤب: جمع كوبٍ, وهو إبريق لا أذن له, وربما قيل: إبريق مدور, وليس أصله عربيًا, وقد جاء في القرآن. وأكواب في الجمع أقيس من أكؤبٍ؛ لأن الفتحة أخف عليهم, كما أنهم آثروا أثوابًا في الجمع على أثؤب؛ إلا أنهم قد جاؤوا به, قال الراجز: [الرجز] لكل دهرٍ قد لبست أثؤبا ... يمنته والآخر المعصبا فإذا جمعوا كوبًا على أكؤب فبعض الناس يختار الهمز؛ لأن الواو مضمومة, وبعضهم يؤثر إظهار الواو. وقد جاء الكوب في الشعر القديم, قال الشاعر: [السريع] متكئًا تغلق أبوابه ... يسعى عليه العبد بالكوب

ومن التي أولها

ومن التي أولها أبا سعيدٍ جنب العتابا وهي من سادس السريع على رأي الخليل, والعرب تسمي مثل هذا الوزن رجزًا, ولا يمكن الخليل أن يدفع ذلك, وهي في مذهب غيره من سادس الرجز. قوله: وإن حد الصارم القرضابا القرضاب: من صفات السيف, وهو مأخوذ من القرضبة, وهي القطع, ومن قولهم للص قرضوب؛ لأنه يقرضب أموال الناس؛ أي: يقطع منها ما يقدر عليه, قال سلامة بن جندلٍ: [البسيط] قوم إذا صرحت كحل, بيوتهم ... مأوى الضريك ومأوى كل قرضوب يفسرون القرضوب هاهنا اللص, وليس هذا مما يمدح به الكرام؛ لأنه يجب أن يخيفوا اللصوص. ولكن لما كان اللص يحمله على التلصص الفقر جاز أن يجعله من القوم الفقراء.

ومن التي أولها

ومن التي أولها لأي صروف الدهر فيه نعاتب ... وأي رزاياه بوترٍ نطالب وهي من الطويل الثاني في رأي الخليل, ومن أول السحل الأول في رأي غيره, وقافيتها من المتدارك. قال: فيه؛ فأضمر قبل الذكر لعلم السامع بما يريد, ومثل هذا كثير, قال النابغة: [الوافر] فأقبلهن بطن الأتم شعثًا ... يصن المشي كالحدأ التؤام فقوله: أقبلهن: يعني الخيل, ولم يتقدم لها ذكر. ومن العرب من يكسر واو الوتر, ومنهم من يفتحها لجعله مصدر وترت وترًا, مثل: وعدت وعدًا. والوتر الذي هو فرد يجوز فيه الوجهان أيضًا. وقوله: مصائب شتى جمعت في مصيبةٍ ... ولم تكفها حتى قضتها مصائب شتى: لكمة مأخوذة من الشت, وهو في معنى الفرقة, ويمكن أن يكون اسمًا موضوعًا على فعلى, ويجوز أن يكون جمع شتيتٍ, مثل: جريحٍ وجرحى, قال الراجز: [الرجز] القوم أخياف وشتى في الشيم ... وكلهم يجمعه بيت الأدم وشتان: اشتقاقه مثل اشتقاق شتى, يقال: شتان فلان وفلان, وشتان ما هما. وأجاز الفراء كسر النون, فيجوز أن يكون كسرها بناءً, ويحتمل أن يكون تثنية شت, قال الأعشى: [السريع]

شتان ما يومي على كورها ... ويوم حيان أخي جابر وأصحاب النقل يضعفون قول الناس: شتان ما بينهما, ويطعنون في قول الشاعر: [الطويل] لشتان ما بين الزيدين في الندى ... يزيد سليمٍ والأغر بن حاتم والبيت لربيعة بن ثابت الرقي, وهو حضري لا يستشهد بشعره. وقوله: أليس عجيبًا أن بين بني أبٍ ... لنجل يهودي تدب العقارب النجل: الولد. واليهود: استعملت هذه الكلمة بالألف واللام في القرآن, فأما العرب فتستعملها مرة كذلك, ومرة على التعريف العلمي, فيقولون: زعمت يهود, قل الشاعر: [الكامل] فرت يهود وخلفت أبناءها ... صمي لما لقيت يهود صمام وقال قيس بن الخطيم: [المتقارب] نمتها اليهود إلى قبةٍ ... دوين السماء بمحرابها

وإنما قيل لهم: اليهود؛ لأنهم منسوبون إلى يهوذا بن يعقوب, فعربوا, فجعلت الذال دالًا, ووافق ذلك أن العرب تقول: هاد الرجل: إذا تاب, وهود إذا مشى مشيًا رفيقًا, وهود في الغناء إذا خفض صوته. قال الراعي النميري: [الطويل] وخودٍ من اللائي تسمعن بالضحى ... قريض الردافى بالغناء المهود قريض الردافى: القريض هو غناء المتراسلين, والردافى: جمع رديف. وإنما أدخلت على اليهود الألف واللام؛ لأنهم نسبوا إليها فقالوا: يهودي, ثم جمعوه فقالوا: اليهود, كما قالوا رومي لواحد الروم, وزنجي لواحد الزنج, وفي الكتاب العزيز: {كونوا هودًا أو نصارى} , فهذا جمع هائدٍ. وجاء في الشعر القديم اليهدان في جمع يهود؛ فهذا يدل على أن الياء أصلية, وأن اشتقاقه ليس من هاد يهود. ووزن يهود فعول. فإن ادعي أن ياءها زائدة فينبغي أن يكون على يفعلٍ في الأصل كأنها يهود, ثم سكنت الواو لثقل الضمة. والعقارب يكنى بها عن النمائم والشرور؛ يقال: دبت عقاربه بين القوم, قال الشاعر: فللموت خير للفتى من قعوده ... ذميمًا ومن مولى تدب عقاربه

ومن التي أولها

قال النابغة: [الطويل] علي لعمروٍ نعمة بعد نعمةٍ ... لوالده ليست بذات عقارب أراد أنها خالية من الأذاة والشرور. ومن التي أولها من الجآذر فى زي الأعاريب ... حمر الحلى والمطايا والجلابيب (23/ب) وهي من البسيط الثاني عند الخليل, وعند غيره من السحل الثاني, وقافيتها من المتواتر. الجآذر: أولاد بقر الوحش, واحدها جؤذر, وجؤذر, وكنت العرب بها عن النساء, وكذلك بالبقر والغزلان والظباء. والأعاريب: جمع أعراب, وأعراب جمع عرب, وقد خصوا بالأعراب سكان البدو. قال الشاعر: [الطويل] يسموننا الأعراب والعرب إسمنا ... وأسماؤهم فينا رقابُ المزاود

وقال ذو الرمة: [الطويل] أعاريب طوريون عن كل بلدةٍ ... يحيدون عنها من جحاف المقادر وقوله: إن كنت تسأل شكا في معارفها ... فمن بلاك بتسهيدٍ وتعذيب؟ هذا البيت فيه ضرب من الإكذاب؛ لأنه سأل عن الجآذر كأنه لا يعرفها, ثم قال هذه المقالة الثانية, فدل على أنه خبير بهن. والمعارف تستعملها العرب في معنى الوجوه, واحدها معرف, سمي بذلك لأن الوجه يعرف به الإنسان. وروي عن الأصمعي أنه قال في واحد المعارف: أنا منه أوجر؛ أي: خائف, كأنه لا يدري ما حقيقة واحد المعارف, فأما القياس فيوجب أن يكون الواحد معرفًا بكسر الراء؛ لأنه موضع المعرفة, والمضارع على يفعل؛ فهو كالمجلس موضع الجلوس, والمهبط موضع الهبوط. قال أبو كبيرٍ الهذلي في أن المعارف الوجوه: [الكامل] متكورين على المعارف بينهم ... ضرب كتعطاط المزاد الأنجل ويجوز أن تكون المعارف جمع معرفةٍ, كأنه أراد: إن كنت تسأل شكا في معرفتها, ثم جمع لإقامة الوزن. وقوله: لا تجزني بضنًى بي بعدها بقر ... تجزي دموعي مسكوبًا بمسكوب كني بالبقر عن النساء. قال عبد الرحمن بن حسان: [الكامل]

صفراء من بقر الجواء كأنما ... أثر الحياء بها رداع سقيم وقوله: لا تجزني, مجزوم بالدعاء؛ لأنه ينجزم كانجزام النهي, والمعنى أنه: بكى عند الفرقة وبكين فجزين دمعه بدم, فدعا لهن أن لا يجزينه بضناه ضنًى مثله, كما جزينه بالدمع؛ أي: لا أريدهن يضنين بعدي. وقوله: كم زورةٍ لك في الأعراب خافيةٍ ... أدهى وقد رقدوا من زورة الذيب يريد أنه يزور بعض الناس, فيكون ذلك أشق على القوم من زوره الذئب؛ لأن الذئب إنما يأخذ شاةً أو نحوها, وهذا الزائر يقدم على أمرٍ عظيمٍ. والذئب يكنى به عن الرجل الخبيث المتلصص, قال الشاعر: [الطويل] أتضرب ليلى أن ألم بأرضها ... وما ذنب ليلى أن طوى الأرض ذيبها وقوله: قد وافقوا الوحش في سكنى مراتعها ... وخالفوها بتقويضٍ وتطنيب التقويض: من قولهم: قوضت الخباء؛ إذا هدمته, والتطنيب: من قولهم: طنبت البيت والخباء؛ إذا مددت أطنابه, ويقال لعروق الشجرة الضاربة في الأرض أطناب. وقوله: جيرانها وهم شر الجوار لها ... وصحبها وهم شر الأصاحيب قوله: وهم شر الجوار لها؛ أي: شر أصحاب الجوار؛ لأنه لا يقال قوم جوار إلا على حذفٍ, أو يكون أراد: وجوارهم شر الجوار.

وأصاحيب: جمع جمعٍ, كأنهم قالوا: صاحب وصحب, مثل: راكبٍ وركبٍ, ثم جمعوا صحبًا على أصحاب, ثم جمعوا أصحابًا على أصاحيب, فهذا جمع ثالث, وقالوا: أصاحب في معنى أصاحيب, قال الشاعر: [الطويل] فإني رأيت الموت أجمل بالفتى ... إذا ضن عنه بالنوال أصاحبه وقوله: فؤاد كل محب في بيوتهم ... ومال كل أخيذ المال محروب يقول: في بيوت هذه البادية قلوب المحبين, وأموال من حرب من المسافرين؛ أي: أخذت حريبته. وحريبة الرجل: المال الذي إذا أخذ منه حرب, يقال: أحربت الرجل إذا دللته على مالٍ يأخذه فتصير له حريبة. أو يكون قولهم: أحربته؛ أي: دللته على حريبة غيره ليأخذها. ويقال: رجل حريب, وقوم حربى, مثل: جريح وجرحى, قال الأعشى: [الخفيف] وشيوخٍ حربى بشطي أريكٍ ... ونساءٍ كأنهن السعالي وقوله: ما أوجه الحضر المستحسنات به ... كأوجه البدويات الرعابيب جعل الحضر هاهنا اسمًا للموضع الذي يحضر, وقد يجوز أن يقع الحضر على أهل الموضع. والبدويات: جمع بدويةٍ, وكأنه على غير قياس؛ لأنهم يقولون: البدو, فكان يجب أن يقال: امرأة بدوية, ولكنه جاء على غير قياس. والنسب تجيء فيه أشياء على هذا النحو: من ذلك قولهم: قوس رضوية منسوبة إلى رضوى (24/أ) , والقياس رضوية, بسكون الضاد.

والرعابيب: جمع رعبوبةٍ, فقيل: هي البيضاء شبهت برعابيب السنام؛ أي: قطعه, يقال: رعبوا السنام ترعيبًا, والقطعة ترعيبة, وأنشد ابن الأعرابي: [البسيط] كأن ليلى إذا ما جئت طارقها ... وأخمد الليل نار المدلج الساري ترعيبة فى دمٍ أو بيضة وضعت ... في دبةٍ من دباب الرمل مهيار وقيل: الرعبوبة: التي ترعبك إذا رأيتها بجمالها, وهذا نحو من قولهم للرجل: أروع, إذا راعك بجماله. وقوله: أين المعيز من الأرآم ناظرةً ... وغير ناظرةٍ في الحسن والطيب جعل نساء الأمصار كالمعيز, ونساء البادية كالأرآم. والأيرام جمع ريمٍ, وهو الظبي الأبيض, والأنثى رئمة. وقد يجوز أن يقال في الأرآم: هو جمع رئمةٍ بالهاء. وقد زعم سيبويه أن قولهم: أنعم في جمع نعمةٍ على حذف الهاء, وقال بعضهم: الأشد المذكور في القرآن جمع شدة, قال حميد بن ثور: [البسيط] إن الحبالة ألهتني عبادتها ... كيما أسوق إليها ريمةً شخصا

وغيره ناظرةٍ منصوبة على الحال, والأجود أن يكون حالًا من الأرآم, ولا يمتنع أن يكون حالًا من المعيز, والمعنى واحد. وإنما الغرض تفضيل الظباء على المعز. وقوله: أفدي ظباء فلاةٍ ما عرفن بها ... مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب أدخلوا الياء في الحواجب للزوم الجيم الكسرة, وقد أنشد الفراء: [الطويل] سوابيغ زغف لا يخرقها النبل فأدخل الياء في السوابغ, وليس لمضطر إلى ذلك؛ لأن حذف الياء لا يخل بالوزن, وكذلك حكي بواطيل في جمع باطلٍ. وهذا البيت يروى لعمرو بن أيهم التغلبي: [الخفيف] وسواعيد يختلين اختلاءً ... كالمغالي يطرن كل مطير يقال: صبغ الثوب صبغًا وصبغًا, وقالوا في المضارع: يصبغ ويصبغ, ومضغ الكلام: لجلجته في الفم, وإخراجه على غير ما يجب. شبهه بالشيء الذي يمضغ فيتغير عن حاله قبل المضغ. وقوله: ولا برزن من الحمام مائلةً ... أوراكهن صقيلات العراقيب الحمام: مذكر؛ لأنه يراد به البيت الذي يحم فيه الماء؛ أي: يغلى, ويجوز أن يكون أخذ

من الحميم؛ أي: العرق. وزعم قوم أن الماء البارد يقال له: حميم, وأنشدوا: [الوافر] فساغ لي الشراب وكنت قبلًا ... أكاد أغص بالماء الحميم فإن صحت هذه الرواية فإنما قيل للماء البارد حميم لأنه يعين الروح, فكأنه حميم لها, أخذ من قولهم: حميم الرجل؛ أي: نسيبه وصفيه, قال الهذلي: [الطويل] أصبن أبا زيدٍ ولا حي مثله ... وكان أبو زيدٍ أخي وحميمي ولم تكن العرب في الجاهلية تعرف الحمام؛ لأن أكثرهم كانوا أصحاب عمدٍ وأطنابٍ, وإنما يوجد في الشعر الإسلامي. قال الشاعر: [الطويل] ألم تعلما حمامنا في بلادنا ... إذا جعل الحرباء بالجذل يخطر وقال أبو النجم: [الرجز] كأنه في الطرف وهو سام ... مشتمل جاء من الحمام والعرقوب من الإنسان: ما فوق العقب, وهو من الدابة في الموضع المعروف. وقوله: ومن هوى كل من ليست مموهةً ... تركت لون مشيبي غير مخضوب يقولون: موهت الشيء؛ إذا حسنته, وأصل هذه الكلمة أنهم يريدون بها: جعلت له ماء؛ لأن أصل الماء موه, ثم قالوا لمن يجمل نفسه بالكذب مموه, كأنه يحسنها بالباطل, وأصل التمويه التحسين مطلقًا, ثم نقل إلى معنى الذم والخديعة.

وقوله: ومن هوى الصدق في قولي وعادته ... رغبت عن شعرٍ في الوجه مكذوب لما كان تغيير الشعر جاريًا مجرى الكذب جعل الشعر نفسه مكذوبًا, ومكذوب هاهنا مفعول صحيح ليس هو موضوعًا موضع المصادر كما حكوا عن العرب: بنو فلان ليس عندهم مكذوبة, وكذلك قولهم: ليس له مجلود؛ أي: جلد, وسيبويه لا يجعل مجلودًا مصدرًا, بل يجعله كالمفعول. وقوله: حتى أصاب من الدنيا نهايتها ... وهمه في ابتداءاتٍ وتشبيب كثر استعمالهم لفظ التشبيب في القصائد فألزموها إياه. وهو مأخوذ من الشباب أو من شببت النار. واستعاره هاهنا للابتداء بالشيء وترتيبه. والهم هاهنا الهمة. وقوله: يدبر الملك من مصرٍ إلى عدنٍ ... إلى العراق فأرض الروم فالنوب مصر: يقال: إنها منسوبة إلى مصراييم بن سام بن نوح وليس اسمًا عربيًا, إلا أنها وافقت قولهم لضرب من التراب: مصر, وقالوا: ثوب ممصر؛ إذا صبغ بالمصر. والمصر أيضًا: الحاجز بين الشيئين. (24/ب) وقال أمية, ويقال: هو لعدي بن زيد: [البسيط] وجعل الشمس مصرًا لا خفاء به ... بين النهار وبين الليل قد فصلا

وإذا حملت مصر على أنها معربة فالأقيس أن لا تصرف. فأما قوله تعالى: {اهبطوا مصرًا فإن لكم ما سألتم} , فالأشبه أن يكون أراد مصرًا من الأمصار. وقد روى أن الأعمش سئل عن ذلك فقال: هي مصر التي عليها صالح بن علي. ويدل على أن القول هو الأول قوله جلت عظمته: {ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين} , فلم تصرف مصر. وعدن: هذا الموضع المعروف. يقال: هو عدن أبين, وأبين نسبوه إلى أبين بن زهيرٍ, وهو رجل من حمير, وأخذ من: عدن بالمكان إذا أقام به. والنوب يراد به هذا الجيل من الحبشة, وهو اسم معرب قد وافق قولهم: ناب ينوب, وكثرت هذه الكلمة في العربية حتى زعم بعضهم أن النحل يسمى نوبًا لما فيها من السواد, وقيل: سميت نوبًا لأنها تنوب الموضع الذي تكون فيه؛ أي: تحله مرة بعد مرةٍ. وعلى هذين الوجهين فسروا قول الهذلي: [الطويل]

إذا لسعته النحل لم يرج لسعها ... وخالفها في بيت نوبٍ عوامل وشبهوا الغربان بالنوب لأنها شبهت بهذا الجيل من الجبشة, قال الشاعر: [الطويل] ومستشحجات بالفراق ... مثاكيل من صيابةٍ النوب نوح وقوله: إذا أتتها الرياح النكب من بلدٍ ... فما تهب بها إلا بترتيب النكب: جمع نكباء, وهي كل ريحٍ تهب بين ريحين, وإذا رويت تهب بتاء فالفعل للرياح, وبعضهم ينشد: فما يهب بها كأنه يجعل الممدوح يهب بالرياح لما كانت تهب بإذنه وترتيبه. وقوله: يحط كل طويل الرمح حامله ... من سرج كل طويل الباع يعبوب في قوله يحط ضمير يرجع على طين الخاتم, والهاء في حامله راجعة على الطين أيضًا. والباع يستعمل في الناس وغيرهم, يقال: باع الرجل والدابة بوعًا إذا مد باعه, ومدحوا الرجل فقالوا: هو طويل الباع. وكثرت الكلمة حتى قالوا: هل من أهل الباع؛ أي: القوة, وإن كان باعه قصيرًا, قال المسيب بن علسٍ: [الكامل]

ولذاكم علمت معد أنه ... أهل الحفيظة والندى والباع وقال أبو دؤاد في البوع يصف الفرس: ويمطي بوعًا كما يتمطى ... حبشي بحربةٍ مظلوم ومنه قولهم: انباع العرق ينباع؛ إذا جرى وامتد, وقالوا في المثل: «مخرنبق لينباع»؛ أي: متقبض ليمتد في وثبته, ومنه قول عنترة: [الكامل] ينباع من ذفرى غضوبٍ جسرةٍ ... زيافةٍ مثل الفنيق المكدم فأما من ذهب إلى أن ينباع في معنى ينبع فزاد الألف للضرورة فقوله كالهذيان, وإنما حمله على قول من يقول: ينبع, بفتح الباء. واليعبوب: الفرس الكثير الجري, أخذ من قولهم: نهر يعبوب؛ أي: كثير الماء, واشتقاقه من قولهم: عب البحر إذا كثرت أمواجه. وقوله: أو حاربته فما تنجو بتقدمةٍ ... مما أراد ولا تنجو بتجبيب تقدمة: مصدر قدم, مثل تقديمٍ, والأشبه أن يكون أراد: فما تنجو بتقديم هربٍ منه, وقد يحتمل أن تكون التقدمة من قولهم: قدموا إليه الجيوش. والتجبيب: من قولهم: جبب في الأرض؛ إذا ذهب فيها.

وقوله: قالوا هجرت إليه الغيث قلت لهم ... إلى غيوث يديه والشآبيب معنى قوله: هجرت إليه الغيث؛ أي فارقت البلاد التي تمطر, وسرت إلى مصر, وهي غير ممطورةٍ, ولو أنه في غير المنظوم لكان وجه الكلام أن يقول: قالوا هجرت إليه الغيث فقلت لهم. وحذف مثل هذه الفاء كثير, وكذلك حذف الواو العاطفة, ومنه قوله تعالى: {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع}. ولو أنه في غير كتاب الله سبحانه لجاز دخول الفاء على قلت لهم. وتولوا جواب إذا, وقال الراجز: (25/أ) لما رأيت نبطًا أنصارا ... شمرت عن ركبتي الإزارا كنت لها من النصارى جارا ولو كان في منثور حسن أن يقول: فكنت أو وكنت. والشآبيب: جمع شؤيوبٍ, وهي سحابة دقيقة العرض, شديدة الوقع. ويجوز أن يكون اشتقاق الشوبوب من شببت النار, وتكون الهمزة زائدةً؛ لأنهم يريدون أنه حاد, وإذا وصفوا الشيء بالحدة والسرعة شبهوه بالنار. ولا يمتنع أن يكون من شاب يشوب, كأنه شؤبوب, وهمزت الواو لجوارها الضمة, ويكون المعنى: أن أفقه مشوب بالصحو؛ لأنهم يصفوا الشؤبوب بدقة العرض, فوزنه في القول الأول فؤعول, وفي القول الثاني فعلول, ولو ادعي أنه مقلوب عن أشبت؛ أي: خلطت, لم يبعد ذلك كأنه أشبوب, ثم قبلوه, فقدموا الشين, واستعاروا الشؤبوب في الحرب وجريان الدم, وقال ابن هرمة: [المنسرح]

كم ناقةٍ قد وجأت منحرها ... بمستهل الشؤبوب أو جمل أراد بالشؤبوب ما يخرج من الدم. وقوله: إلى الذي تهب الدولات راحته ... ولا يمن على آثار موهوب العرب إذا جمعت ما كان على مثال دولةٍ وعورةٍ, وكلّ ما كان على فعلةٍ موضع العين منه واو أو ياء؛ مثل: بيضةٍ وعيبةٍ, فإنهم يسكنون العين, فيقولون: بيضات, ودولات, إلا هذيل بن مدركة, فإنهم يفتحون فيقولون: بيضات وعورات, وقد روي عن بعض القراء: {الذين لم يظهروا على عورات النساء} بفتح الواو, وقال الشاعر: [الطويل] أبو بيضاتٍ رائح متأوب ... رفيق بمسح المنكبين سبوح وقوله: بلى يروع بذي جيشٍ يجدله ... ذا مثله في أحم النقع غربيب بذي جيش؛ أي: بملكٍ صاحب جيشٍ, وذا مثله؛ أي: ملكًا صاحب جيشٍ مثل هذا الجيش, وذو في معنى صاحب ونحوه. يقال: هو ذو مالٍ وذو جاهٍ. ولا تضاف ذو إلا إلى اسم ظاهر مثل أن يقال: ذو عقلٍ وذو رئاسةٍ, ولا يحسن أن يقال: المال أنت ذوه؛ أي: أنت صاحبه, وقد أضافوه لما جمعوه, ومنه البيت المنسوب إلى كعب بن زهير: [الوافر]

صبحن الخزرجية مرهفاتٍ ... أبان ذوي أرومتها ذووها كأن الاسم قوي بزيادة واو الجمع. وقولهم: الأذواء من حمير يعنون: ذا جدنٍ, وذا رعينٍ, وذا يزنٍ, وكل ذلك راجع إلى معنى الصاحب وما قرب منه, والمعروف في جمعهم الأذواء على التكسير, وجمعهم الكميات على ذوين, وهو جمع السلامة؛ وذلك قوله: [الوافر] وما أعني بذلك أسفليكم ... ولكني عنيت به الذوينا وقوله: فتن المهالك حتى قال قائلها ... ماذا لقينا من الجرد السراحيب السراحيب: جمع سرحوبٍ, وهو من صفات الخليل الإناث, يريدون به الطويلة على وجه الأرض, وربما استعملوه للمذكر شاذًا. والجرد: جمع أجرد وجرداء؛ وذلك أن يكون الفرس قصير الشعر. ويقال: انجرد الرجل في سيره إذا امتد فيه, وقيل: الانجراد عدو ليس بشديدٍ. وقوله: أنت الحبيب ولكني أعوذ به ... من أن أكون محبا غير محبوب أكثر ما يقولون في الماضي: أحببت فإذا صاروا إلى اسم المفعول قالوا: محبوب, وقد جاءت ألفاظ على هذا النحو, قالوا: أجنه الله فهو مجنون, وأكزه فهو مكزوز, وأقره فهو

مقرور, فهذا كله على تقدير: حب وكز وقر, وقد حكوا حببته. وروي أن أبا رجاءٍ العطاردي قرأ {فاتبعوني يحبكم الله} , فهذا على (حب) , وأنشدوا بيتًا: [الوافر] لعمرك إنني وطلاب سعدى ... لكالمزداد مما حب بعدا وأنشد ابن الأعرابي: [الطويل] وأقسم لولا تمره ما حببته ... ولا كان أدنى من عبيدٍ ومرشق ومن شأنهم إذا عدوا المضاعف الثلاثي أن يجيئوا به في المضارع على يفعل فيقولوا: عد القوم يعدهم, ومد الحبل يمده, وقد شذت حروف, منها قولهم: شد الحبل يشده

ومن التي أولها

ويشده ونم الحديث ينمه وينمه, وعل القول والشرب يعله ويعله في حروف معدودة مثل: أضني يؤضني ويئضني إذا اضطرني, وكان القياس (25/ب) أن يقال: حببته أحبه ولكنهم لم يحكوه إلا بالكسر. وجاء بيت عنترة على أحببته فهو محب, وهو قوله: [الكامل] ولقد نزلت فلا تظني غيره ... مني بمنزلة المحب المكرم ويقال: إن أم عبد الله بن الحارث المعروف بببة قالت وهي ترقصه: لأنكحن ببه ... جاريةٍ خدبه ... مكرمةً محبه ... تمشط رأس لعبه ومن التي أولها أغالب فيك الشوق والشوق أغلب ... وأعجب من ذا الهجر والوصل أعجب وهي من الطويل الثني عند الخليل, ومن السحل الأول عند غيره, وقافيتها من المتدارك. يريد والشوق أغلب مني؛ أي: أني لا أطيقه.

وذهب أبو الفتح بن جني - رحمه الله - إلى أن أغلب هاهنا من قولهم: أسد أغلب؛ أي: غليظ العنق, يصف الشوق بالشدة, ويزعم أنه يغالبه, وهو كالليث الأغلب, وهذا المعنى قريب من الأول, إلا أن الذي ذهب إليه أبو الفتح لا يكون فيه إقرار من أبي الطيب أنه مغلوب, وهذا أشبه بمذهبه. والوجه الثاني فيه إقرار للشوق بالغلبة. وقد أنكر بعض الناس قول أبي الفتح, وليس بمنكرٍ. وقوله: ولله سيري ما أقل تئيةً ... عشية شرقي الحدالي وغرب الحدالي: في موضع رفع بالابتداء, وموضع شرقي نصب على الظرف, وحذف ياء الإضافة من شرقي لالتقاء الساكنين, ويحوز أن يكون الحدالي خبرًا وشرقيّ مبتدأً؛ لأن شرقيّ يجوز أن يكون ظرفًا وغير ظرف. قال جرير: هبت جنوبًا فذكرى ما ذكرتكم ... عند الصفاة التي شرقي حورانا فالوجه النصب في (شرقي) حوران, والرفع جائز على أن يكون التقدير: عند الصفاة التي هي شرقي حوران, والحدالي وغرب جبلان, وغرب مذكور في الشعر القديم. قال الشاعر: ازجر حمارك إنه مستنفر ... في إثر أحمرةٍ عمدان لغرب

فأما الحدالي فليس بمتردد الذكر, والحدالي: جمع حدلاء, والحدلاء أنثى الأحدل, وهو الذي في عنقه تطامن على صدره, وقيل: الأحدل الذي أحد جانبيه أعظم من الآخر. وقيل للقوس: محدلة للانحناء الذي فيها. قال ساعدة بن جوية: دلى يديه له قصرًا بمحدلةٍ ... جشءٍ وزرقٍ نواحيهن كالسحم الجشء: القوس الغليظة الخفيفة المحمل, وقيل: هي التي لها صوت عن الرمي, كأنه مأخوذ من قولهم: تجشأ الرجل. وإذا جمعوا مثل حدلاء جاز أن يقولوا: حدالٍ مثل صحارٍ, وحدالى مثل صحارى, وذلك كله مردود إلى السماع. وقوله: وكم لظلام الليل عندك من يدٍ ... تخبر أن المانوية تكذب المانوية: منسوبة إلى ماني, وهو رجل يعظمه أهل مذهبه, ويقال: إن طائفةٍ من

الترك عظيمةً يرون رأيه, وأن أهل الصين على مذهبه, وأن لأصحابه كتبًا ومناظراتٍ, ويزعمون أنهم يقولون باثنين: رب يفعل الخير لا غير, وهو في بعض الألسنة الذي يسمى يزدان, وضده يفعل الشر, ويسمونه أهرمز, ويذكر عنهم أنهم يقولون: إن الخير من النهار, والشر من الليل. وقوله: له فضلة في جسمه عن إهابه ... تجيء على صدرٍ رحيبٍ وتذهب يحمد من الفرس أن يكون جلد صدره واسعًا. والإهاب: الجلد, يقال في جمعه: أهب وأهب وأهب على غير قياس, وقالوا في الجمع القليل: آهبة. فأما قولهم في الرجل: أهبان, فيجوز أن يكون جمع إهابٍ؛ لأن فعالًا يشارك فعيلًا وفعالًا في أنه يجمع على فعلانٍ, ولم يصرفوا الفعل من الإهاب, لم يقولوا: أهب يأهب. وقوله: ألا ليت شعرى هل أقول قصيدةً ... فلا اشتكي فيها ولا أتعتب (26/أ) القصيدة يحتمل أن تكون من قولهم: قصد الشيء يقصده؛ إذا اعتمده, كأن الشاعر يقصدها بالإنشاء, ويجوز أن تكون فعيلةً في معنى فاعلةٍ, كما يقال: عليمة في معنى عالمةٍ كأنها تقصد الممدوح أو المهجو أو من قيلت فيه على سبيل الغزل أو سواه, ويحتمل أن تكون القصيدة من قولهم: قصدت العود من الشجرة؛ إذا قطعته منها, كأن

الشاعر يقطعها من كلامه أو من خاطره, ويجوز أن تكون مأخوذةً من القصيد, وهو مخ السمين؛ أي: كأنها سمينة, والسمن محمود. وأجاز بعض العلماء المتقدمين أن تسمى الأبيات الثلاثة قصيدة, والغالب على كلامهم أن تكون القصيدة أبياتًا كثيرةً, قال المسيب ابن علس: [الكامل] فلأرسلن مع الرياح قصيدةً ... مني مغلغلةً إلى القعقاع وقصيدته هذه تقارب الثلاثين بيتًا, وقال عدي بن الرقاع: [الكامل] وقصيدةٍ قد بت أجمع شملها ... حتى أقوم ميلها وسنادها فهذا يدل على أنهم لا يسمون قصيدةً إلا ما كان كثيرًا من الأبيات. وحكي سعيد بن مسعدة أنه سمع بعض العرب يقول: الشعر ثلاثة: القصيد والرجز والرمل, فالقصيد ما كان طويل الوزن, والرجز هو الذي يجيء كأنصاف الأبيات, والرمل زعم سعيد بن مسعدة في حكايته أنه كل شعرٍ مهزولٍ غير مؤلف الأجزاء ومثله بقول عبيدٍ: [مخلع البسيط] أقفر من أهله ملحوب ... فالقطبيات فالذنوب

وبقول الآخر: [مجزوء الوافر] ألا لله قوم و ... لدت أخته بني سهم هشام وأبو عبد ... منافٍ مدره الخصم فأما قصيدة عبيد فتبنو عنها الغرائز, وأما الأبيات الميمية, وتنسب إلى ابن الزبعرى, فمستقيمة في الحس إلا أن وزنها أقصر. وقوله: وبي ما يذود الشعر عني أقله ... ولكن قلبي يابنة القوم قلب يقال: رجل قلب؛ إذا كان جيد الحيلة, متصرفًا في الأمور, ويقال: إن معاوية قال لابنتيه وهما تقلبانه في المرض الذي مات فيه: إنكما لتقلبان قلبًا حولًا إن سلم من هول المطلع. ويذوذ الشعر؛ أي: يصرفه. وفي كندة رجل يقال له: امرؤ القيس الذائد, وهو غير ابن حجرٍ. وهذا الشعر يروى له, ولابن حجرٍ: [المتقارب] أذود القوافي عني ذيادا ... ذياد غلامٍ غوي جرادا فأعزل مرجانها جانبًا ... وآخذ من درها المستجادا

وقوله: إذا لم تنط بي ضيغةً أو ولايةً ... فجودك يكسوني وشغلك يسلب قوله: تنط: من النوط, وهو التعليق ووصل الشيء بالشيء. يقول: إّا لم تصل بي ضيعةً تقطعني إياها فجودك يكسوني, وشغلك عني يسلبني تلك الكسوة. واصطلح الناء على أن يسموا القرية ضيعةً. والكلام القديم يدل على أن الضيعة هي كثرة الخير, واتساع الرجل فيما يملك, وهو اسم مستطرف الوضع, لأن الضياع هلاك الشيء؛ فيجوز أن يكونوا أرادوا أن المال إذا كثر أتعب صاحبه وأهمه, فكأنه يضيعه؛ لأن كثيرًا من العرب يصفون أنفسهم بالقيام على المال, والتطرح في طلبه. ويحتمل أن يكون قولهم: ضيعةً على معنى العكس؛ أي: أنها غير ضيعةٍ, ويكون ذلك من جنس قولهم للديغ: سليم, إلا أن ذلك فأل, وهذا فيه تهزؤ. ومثاله أن يقال للرجل إذا كان غنيًا: أنت فقير لا شيء لك, أي: لست كذلك, ومثل هذا يجري في الكلام كثيرًا, فإذا قال أحد المتخاصمين للآخر: يا حر, ويا كريم, فإنما يريد ضد ما قال. ويجوز أن تكون الضيعة من قولهم: ضاع الطيب؛ إذا انتشرت رائحته, وانضاع الفرخ إذا تحرك واضطرب, فيراد أن أمرها ينتشر, ويحوج إلى الاضطراب, ويكون أصلها ضيعةً فخففت كما قالوا: ميت, وهو من يموت, وتكون الضيعة من ذوات الواو؛ لأنها من ضاع يضوع. والولاية إذا كانت في القرابة من قولهم: فلان ولي فلانٍ بفتح الواو وكسرها, فإذا أريد بها ولاية الشيء فأصلها كأصل الأولى, إلا أنهم يؤثرون فيها الكسر. وقوله: أحن إلى أهلي وأهوى لقاءهم ... وأين من المشتاق عنقاء مغرب

عنقاء مغرب تستعمل في المثل, ويقال: إنها كانت طائرًا عظيمًا, اختطفت صبيًا أو جارية فدعا عليها نبي أهل الرس, وهو حنظلة بن صفوان, فيما يزعمون, فغابت إلى اليوم, فقيل للشيء الذي يبعد: طارت به عنقاء مغرب. والعنقاء: الطويلة العنق, وأكثر ما يقولون: عتقاء مغرب, فينعتونها بمغرب. قال الشاعر: [الطويل] (26/ب) فلولا سليمان الخليفة حلقت ... به من يد الحجاج عنقاء مغرب وربما أضافوا عنقاء إلى مغربٍ, والأول أجود. وقوله: فإن لم يكن إلا أبو المسك أوهم ... فإنك أحلى في فؤادي وأعذب قال: أبو المسك, وهو يعني كافورًا, ويخاطبه, وقد يمكن, لو لم يبن المعنى والغرض, أن يعني بأبي المسك رجلًا آخر, كما تقول لرجل اسمه خالد: إذا كان خصمي خالدًا فأنت ممن لا أخالفه؛ أي: أنك يا خالد أنت خصمي. وبعض أهل العلم المتأخرين كان يسمي هذا الفن التجريد, ويجعل من ذلك قوله تعالى: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة} , وهو يعني

نفسه, فهذا كما يقول في المثل الحجاج بن يوسف: إن الحجاج لا يترك أهل العراق وما يريدون, وهو يريد أني أنا الذي أمنعهم. وقوله: يريد بك الحساد ما الله دافع ... وسمر العوالي والحديد المذرب ذربت الحديد فهو مذروب, وذربته فهو مذرب؛ إذا حددته وأرهفته, ويقال: لإلان ذرب اللسان؛ أي: حاده, ومنه قيل للداهية: ذربيًا؛ لحدتها. قال الشاعر: [الطويل] رمتني بالآفات من كل جانبٍ ... وبالذربيا مرد فهرٍ وشيبها وقوله: ودون الذي يبغون ما لو تخلصوا ... إلى الشيب منه عشت والطفل أشيب كأنه يومئ إلى أن الأعداء يريدون قتله, ودون الذي يبغون أهوال عظيمة, لا يتخلصون إلى الشيب منها؛ لأنك يا كافور تقتلهم قتلًا وحيا, ولا تمهلهم إلى أن يشيبوا, ولو تخلصوا إلى زمان الشيب لعشت أيها الممدوح والطفل أشيب؛ أي: أنهم لا يصلون لك إلى كيد, ويجوز أن يعني بشيب الطفل أنه يشيب من الخوف, ويحتمل أن يعني طول عمر كافور, وأنهم لو سلموا حتى يشيبوا لعاش الممدوح إلى أن يشيب الطفل بعلو السن. وقوله: وأنت الذي ربيت ذا الملك مرضعًا ... وليس له أم سواك ولا أب في هذا البيت حمل على المعنى, ولو أنه في كلام منثورٍ لوجب أن يقال: وأنت الذي ربى ذا الملك. والذي في البيت لا عائد عليه إلا في المعنى, ومثل ذلك قوله في موضع آخر: [البسيط] أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ... وأسمعت كلماتي من به صمم

إنما الواجب أن يقال إلى أدبه, وأسمعت كلماته. وقد استعملت العرب مثل هذا كثيرًا, قال مهلهل: [الكامل] وأنا الذي قتلت بكرًا بالقنا ... وتركت تغلب غير ذات سنام كان ينبغي: وأنا الذي قتل بكرًا. وقال الراجز: [الرجز] يا مرة بن واقعٍ يا أنتا ... أنت الذي طلقت عام جعتا أراد: أنت الذي طلق عام جاع, فحمل الكلام على معناه. وقوله: وما عدم اللاقوك بأسًا وشدةً ... ولكن من لاقوا أشد وأنجب الكاف في اللاقوك يختلف في موضعها النحويون, وكذلك في كل ما كان في التثنية أو في الجمع السالم, مثل قولك: الضارباك, والضاربوك, وكذلك الهاء في قولك: الضارباه والضاربوه, فقال قوم: هي في موضع خفضٍ, وقال آخرون: بل هي في موضع نصبٍ, وأجاز المازني والجرمي الوجهين, وكذلك يجب أن يكون اختلافهم في الياء إذا قلت: الضارباي والضاربي.

ومن التي أولها

ومن التي أولها منى كن لي أن البياض خضاب ... فيخفى بتبييض القرون شباب وهي من ثالث الطويل عند الخليل, ومن ضروب السحل الأول عند غيره, وقافيتها من المتواتر. يقال لذوائب الشعر: قرون, واحدها قرن, ويقال أيضًا لجانب الرأس: قرن, فإذا قالوا: شابت قرونه, فيجوز أن يعنوا بها الذوائب وجوانب الرأس, قال أبو دؤاد: [الخفيف] ذاك أمر أبيته في شبابي ... ووليدًا وحين شابت قروني ولو أن هذا الكلام في غير الشعر لكان أحسن من حذف الألف واللام من شبابٍ أن تثبتا فيه؛ لأنه مضاهٍ لقوله: المشيب, وكانت العرب في الجاهلية إذا اتفق لها مثل ذلك آثرت دخول لام التعريف, وإن قبح في السمع, وأكثر ما يجيء في شعر امرئ القيس, فمنه قوله: [الطويل] فإن أمس مكروبًا فيا رب بهمةٍ ... كشفت إذا ما اسود وجه الجبان (27/أ): فقد أساءت الألف واللام حال الرنة عند السامع وآثرها قائل البيت على الحذف, ولو حذف لكان الحذف أحسن في الغريزة, ولكن دخول الألف واللام أثبت في تمكين اللفظ, وكذلك قوله, وذكر الفرس: [الطويل] فلما أجن الشمس عني غؤورها ... نزلت إليه قائمًا بالحضيض أدخل الألف واللام, وحذفهما أحسن في السمع.

وقوله: ليالي عند البيض فوداي فتنة ... وفخر وذاك الفخر عندي عاب ليالي: جمع على غير قياسٍ؛ لأن ليلةً وزنها فعلة فكان ينبغي إذا جمعت جمع التكسير أن يقال: ليال, مثل عيبةٍ وعياب, فلم يقولوا ذلك, وقالوا ليالٍ, وحكوا أنهم يقولون في التصغير: لييلية, فيجيئون بالياء كما جاؤوةا بها في الجمع. وحكوا الليايل في الجمع, وأنشدوا: ولدنك والبدر بن عائشة التي ... أضاء ابنها مسحنككات الليايل فهذا كأنه جمع ليلةٍ في وزن لينةٍ, فيجوز أن يكون قولهم ليالٍ مقلوبًا عن ليايل؛ لأن نقل الياء إلى آخر الكلمة أخف على اللسان, ومثل قولهم: ليايل مفقود في الجموع, ورأي النحويين أن تهمز الياء التي بعد الألف في مثل ليايل, وإذا جمعوا لبنًا قالوا: لبائن, فهمزوا أيضًا. وكان سعيد بن مسعدة لا يرى الهمز إلا في ذوات الواو, واستدل على ذلك بقولهم: أوائل في جمع أول, فإن كانوا زادوا الياء في ليالٍ ولييليةٍ من غير قلبٍ فوزن ليالٍ فعالٍ, ووزن لييليةٍ فعيليه. وإن كانوا قلبوا ليالي عن ليايل فوزن ليالٍ فيالع؛ لأنهم جعلوا العين بعد اللام, ووزن ليلةٍ على هذا فيلة؛ لأن عينها ذهبت, وكذلك يقال في وزن ميت إذا خفف من ميتٍ وزنه فيل؛ لأن العين التي في قولهم: ميت ألقيت, وبقيت الياء الساكنة. وحكى الفراء في «كتاب التصغير» كييكية في تصغير كيكةٍ, وهي البيضة, فهذا مثل قولهم: لييلية. وأضاف ليالي إلى الجملة التي بعدها, وذلك مطرد في أسماء الزمان.

يقال: لقيتك يوم عندك الأمير, وليلة أبوك راحل, وساعة سألك الحاجة فلان. والفودان: جانبا الرأس, ومن ذلك قيل للعدلين: الفودان, ومنه قولهم في المقثل: «ما بال العلاوة بين الفودين» , يضرب ذلك مثلًا لمن سأل حاجةً صغيرة بعد كبيرة, ويقال: إن لبيد بن ربيعة دخل على معاوية فقال له: كم عطاؤك؟ فقال: ألفان وخمس مئة, فقال له معاوية: ما بال العلاوة بين الفودين؟ فقال لبيد: أموت وأترك لك الفودين والعلاوة, فرق له معاوية, وأجراه على رسمه, وخرج من عنده, فمات في سنته. ويقال: عاب وعيب. وأصل عابٍ عند البصريين فعل عيب فقلبت الياء ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها. وحكي أن الفراء يجعل عابًا فعلًا, بسكون العين, كأنه يرى أن الياء قلبت من غير أن تكون مفتوحة, قال ضمرة بن ضمرة النهشلي: أأصرها وبني عمي ساغب ... وكفاك من إبهٍ بذاك وعاب الإبه: ما يستحيا منه. وقوله: جلا اللون عن لونٍ هدى كل مسلكٍ ... كما انجاب عن ضوء النهار ضباب اللون: يجوز رفعه ونصبه, فإذا رفع احتمل وجهين: أحدهما أن يكون من قولهم: جلا القوم عن منازلهم, كأن الشباب ارتحل لما جاء المشيب, كما يقال: رحل بنو فلانٍ عن بني فلان, ويجوز أن يكون عن في مذهب قولهم: رحل فلان عن ضيقةٍ؛ أي: من أجلها, وتركت زيارتك عن غضبٍ؛ أي: من أجله.

والآخر أن يكون جلا من: جلوت الشيء؛ إذا كشفته وأظهرته. وإذا نصب اللون فالمعنى أن المشيب جلا اللون الأسود عن لونٍ هدى كل مسلكٍ, يعني أن الشيب هداه إلى طرق الخير وفعله, وأن الشباب كان يضله ويستر عنه الفعل الأجمل, وشبهه بالضباب إذا انجاب عن ضوء النهار. وقوله: وعن ذملان العيس إن سامحت به ... وإلا ففي أكوارهن عقاب الكلام يستغني عند قوله: وعن ذملان العيس, كأنه قال: أنا غني عن الأوطان وعن ذملان العيس, ثم ابتدأ كلامًا فقال: إن سامحت العيس بذملانها ركبتها وإلا تسامح به ففي أكوارهن عقاب؛ أي أنا أقدر من السير والتصرف في الأسفار على ما تقدر عليه العقاب. وقوله: وأصدى فلا أبدي إلى الماء حاجةً ... وللشمس فوق اليعملات لعاب وصف نفسه بالصبر على العطش, وأنه لا يبدي لأصحابه أنه محتاج إلى الماء, وذلك إذا ذاب لعاب الشمس, واشتد الظمأ, قال الراجز: وذاب للشمس لعاب فنزل ... وقام ميزان النهار فاعتدل ويقال: ناقة يعملة, أي: قد أعملت في السفر, وقل ما (27/ب) يقولون للذكر يعمل, وقد جاؤوا به في صفة الظليم جعلوه يعمل نفسه في السير. وقوله: وللخود مني ساعة ثم بيننا ... فلاة إلى غير اللقاء تجاب الخود: الناعمة الجسم, وجمعها: خود, وقد جاءت أحرف على فعلٍ وتجمع على فعلٍ؛ قالوا: فرس ورد وخيل ورد, ورجل ثط وقوم ثط, وسقف وسقف, ورهن ورهن, وصدق؛

أي: صلب, وصدق, ومن هذا اللفظ قولهم: خود الظليم والرأل, وهو ضرب من سير النعام, ويجوز أن يكونوا أرادوا سيرًا لا يجهد فيه الظليم نفسه, قال القطامي: [الطويل] تخود تخويد النعامة بعدما ... تصوبت الجوزاء قصد المغارب وحكوا, خودت الفحل في الإبل؛ إذا أرسلته فيها, فيجوز أن يكون من تخويد النعامة, ويحتمل أن يكون اشتقاق هذه اللفظة من الخود التي توصف بها المرأة؛ أي أنه جعل الإبل لهذا الفحل فنعمه بها, كأن كل واحدٍ منها خود. وقوله: وغير فؤادي للغواني رمية ... وغير بناني للرخاخ ركاب الغواني: جمع غانيةٍ, وقد اختلفوا في تفسيرها, فقيل: هي التي تقيم في بيت أبيها, من قولهم: غني بالمكان إذا أقام به, وقيل: هي التي غنيت بالمال عن التزويج, وقيل: هي التي غنيت بجمالها عن الحلي, وقيل: هي التي غنيت بزوجها عن سواه, وينشدون بيتًا لنصيبٍ: [البسيط] أزمان سلمى فتاة غير غانيةٍ ... وأنت أمرد معروف لك الغزل وقال بعضهم: الغانية: الشابة, وهي أقوال متقاربة.

ويقال لما رمي: رمية, ولما ذبح: ذبيحة, كأنهم أرادوا أن يفرقوا بين النعت وغيره؛ كأنهم يقولون: هذه شاة رمي بغير هاء؛ أي: مرمية, فإذا حذفوا الشاة وما يجري مجراها قالوا: رمية, وكذلك: ناقة عقير؛ أي: معقورة, فإذا حذفوا الناقة قالوا: هذه عقيرة بني فلانٍ. ويقولون للسيد إذا قتل: لم نر مثله عقيرةً, كأنهم أقاموا مقام ما يعقر, وقيل: إنما أدخلت الهاء في الرمية والعقيرة على سبيل المبالغة, كأنهم يقولون: رمي لما رمي رميةً واحدة, فإذا كثر الرمي لها قيل: رمية, وقال عنترة: [الطويل] فلله عينا من رأى مثل مالكٍ ... عقيرة قومٍ أن جرى فرسان ويروى: الزجاج. فمن روى الرخاخ فهو جمع رخ, وهو الذي يستعمل في الشطرنج, كأنه ادعى أنه لا يشغل نفسه بذلك. وحدث أبو إبراهيم العلوي - رحمه الله - أنه كان يلعب مع أبي الطيب في مصر بالشطرنج, وأنه رأى أظفاره طوالًا, فأنكر عليه ذلك, فقال أبو الطيب: أنا رجل أمارس السلاح أو نحو ذلك. وإذا رويت: الزجاج, فالمعنى أنه لا يشرب الخمر, ولا ريب أنه كان يستعمل الشراب المسكر. وقوله: نصرفه للطعن فوق حواذرٍ ... قد انقصفت فيهن منه كعاب حواذر: جمع حاذرةٍ, وإذا كان حاذر لغير الإنس جاز أن يجمع على حواذر, ومعنى حذرٍ وحاذرٍ متقاربان, وأكثر ما يقال حذر, وقرأ بعض القراء: {وإنا لجميع حاذرون} , فقيل: هو في معنى حذرين. وقيل: الحاذرون المعدون للحرب, وهذا يشبه قول من يقول: فلان ميت؛ أي: قد مات, ومائت من بعد, فكأن الحذر الذي فيه الحذر مستقر, والحاذر

الذي ينتظر أمرًا يحذر منه, فقد أخذ له أهبته, وأنشد أبو زيد: [الطويل] إذا أنت عاديت الرجال فلا تزل ... على حذرٍ لا خير في غير حاذر يصف هذه الخيل بأنها مجربة قد طعنت بالرماح, فهي تحذرها؛ لأنها قد بليت بطعنها مرارًا. وقوله: أعز مكانٍ في الدنا سرج سابحٍ ... وخير جليسٍ في الزمان كتاب الدنا: جمع دنيا, وهو مستمر في الفعلى, التي هي أنثى الأفعل, مثل صغرى أنثى الأصغر, يقال في جمعها: الصغر, وفي جمع الكبرى: الكبر, وقل ما يوجد في الشعر الدنيا مجموعة, وإنما جاء بها أبو الطيب قياسًا, ولعله سمعها في بعض الأشعار, وإذا بنوا الفعلى التي ذكرها الأفعل, وكانت من ذوات الواو, نقلوها إلى الياء, فقالوا الدنيا, وهي من (دنا يدنو) , والعليا, وهي من (علا يعلو) , وإنما فعلوا ذلك لأنهم إذا ثنوا الأعلى والأدنى قالوا: الأعليان والأدنيان, فيجعلون الواو ياءً لوقوعها رابعةً, كما فعلوا ذلك في يغرى إذا قالوا: يغريان. وقوله: (28/أ) وبحر أبو المسك الخضم الذي له ... على كل بحرٍ زخرة وعباب قوله: وبحر, عطف على قوله: كتاب؛ أي: الكتاب وهذا الممدوح خير الجلساء, وأبو المسك بدل من بحرٍ. والناس يقولون وبحر بالرفع, ولو خفض البحر, وجعل عطفًا على جليسٍ, لكان ذلك أبلغ في المدح. والخضم: الكثير العطاء, ويقال: بحر خضم؛ أي: كثير الماء, وهو من قولهم:

خضمت الشيء؛ إذا أكلته بكل فيك. وقيل: هو أكل الشيء الرطب؛ أي: أن هذا البحر يتسع عطاؤه كما يتسع الآكل في مطعمه. وزخر البحر وعب في معنى واحد. وجاء بالزخرة والعباب لاختلاف اللفظين, وكل شيء وصف بكثرة وزيادة تستعظم يجوز أن يقال في صفته: عب. قالت دختنوس بنة لقيطٍ: [الطويل] فلو شهد الزيدان زيد بن مالكٍ ... وزيد مناةٍ حين عب عبابها وقوله: وغالبه الأعداء ثم عنوا له ... كما غالبت بيض السيوف رقاب عنوا له؛ أي: ذلوا, ومنه قولهم: فتح البلد عنوةً؛ أي: بغلبةٍ لأهله وإذلالٍ. يقول: حاربته الأعداء فغلبها, وكانت مغالبتهم له كمغالبة الرقاب بيض السيوف؛ لأن السيف يقطع العنق, وهي لا تحدث فيه أمرًا يغيره عن حاله. فإن اتفق له أن ينفل أو ينقطع فإنما ينسب ذلك إلى فعل الضارب. وقوله: رقاب: بغير ألف ولام مثل قوله في أول القصيدة: شباب, وهو من مواضع دخول التعريف. وقوله: أيا أسدًا في جسمه روح ضيغمٍ ... وكم أسدٍ أرواحهن كلاب

أراد أن يقول: في جسمه روح أسدٍ, فلم يستقم له الوزن فأقام الضيغم مقام الأسد. والضيغم من قولهم: ضغمه إذا عضه بفمه كله. ويقال في جمع أسدٍ: أسود, ثم تحذف الواو, فإذا حذفت كان أكثر الاستعمال تسكين السين, وضمها جائز. وكل اسم على فعلٍ ساكن الأوسط فجائز فيه التسكين والتحريك, ولا يحسب ذلك من الضرورات, إلا أن العادة تغلب على بعض الكلام فيكثر فيه التحريك أو السكون, كقولهم: صبح وملك, أكثر ما يستعمل بالتسكين, والضم فيه جائز, وقرأ عيسي بن عمر: {تبارك الذي بيده الملك} , و {إن موعدهم الصبح} , ومما غلب عليه التحريك: الثلث والسدس ونحوهما. واجترؤوا على حذف الواو من الأسود؛ لأنها حرف لين زائد, كما قالوا في جمع نمورٍ: نمر, وحذف رؤبة الواو من الحلوق حذف ضرورةٍ فقال: حتى إذا بلت غلاصيم الحلق فإذا كان الاسم الذي على فعلٍ جمعًا, مثل: صفر في جمع أصفر وصفراء, فالسكون وجه الكلام, ولا يستعمل الضم إلا في ضرورةٍ, كما قال الأعشى: [البسيط] نحن الفوارس يوم العين ضاحيةً ... جنبي فطيمة لا ميل ولا عزل أراد جمع أعزل.

وقوله: لنا عند هذا الدهر حق يلطه ... وقد قل إعتاب وطال عتاب يلطه: أي: يستره. قال الأعشى: [الخفيف] ولقد ساءها المشيب فلطت ... بحجابٍ من دوننا مصدوف ويقال: لطت الناقة بذنبها؛ إذا أدخلته بين فخذيها. قال قيس بن الخطيم: [المتقارب] ليالي لنا ودها منصب ... إذا الشول لطت بأذنابها ويقال: عاتبت الرجل فأعتب؛ إذا رجع إلى ما يراد منه. وأعتب يذكر في الأضداد, يقال: أعتبت الرجل إذا أحوجته إلى العتاب, وأعتبته إذا أزلت عتبه. قال المسيب بن علس: [المتقارب] تبيت الملوك على عتبها ... وشيبان إن غضبت تعتب وقوله: وقد تحدث الأيام عندك شيمةً ... وتنعمر الأوقات وهي يباب اليباب: كلمة تقع على الواحد والجمع, يقال: بلد يباب؛ أي: خالٍ, وكذلك بلاد يباب, وهو اسم لم يصرف منه الفعل, ولو صرف لوجب أن يقال: يب ييب, ولم يأت من الثلاثي المضاعف فعل في أوله ياء إلا فعلان: قولهم: يمه في معنى أمه, ويل الرجال إذا صار أيل, وهو أن تنقلب أسنانه إلى داخلٍ. وقد قالوا: حجر أير, ولم يعلم أنهم استعملوا منه الفعل, ولو استعمل لكان قياسًا, وحقه أن يقال فيه: ير يير, وأنشد ابن الأعرابي: [الرجز]

إن هي هرت قلت هري هري ... ما لك غير الحجر الأير أي: الحجر الصلب, وقيل: الأملس. وقوله: تحدث الأيام عندك شيمةً, أي: قد يجيء منها الفعل الجميل فيجب أن تصنعه إلي. وقوله: (28/ب) وإنك إن قويست صحف قارئ ... ذئابًا ولم يخطئ فقال ذباب قويست رده من قايست إلى ما لم يسم فاعله, ولم تدغم الواو في الياء؛ لأنها منقلبة عن ألف فاعل, ولا يجوز عندهم أن تدغم الواو في الياء, ولا الواو في الواو إذا كانت في هذا الموضع. فإذا رددت طاوعت وقاولت إلى ما لم يسم فاعله وجب عندهم أن تظهر الواو الأولى, وتنطق بواوين, فتقول: طووعت, وقوولت, كذلك يقول النحويون, وعليه ينشد قول جرير: [البسيط] بان الخليط ولو طووعت ما بانا فيظهرون واوين: الأولى منقلبة عن ألف طاوعت, والأخرى الأصلية. والتصحيف أصله أن يأخذ الرجل اللفظ من قراءته في صحيفةٍ, ولم يكن سمعه من الرجال, فيغيره عن الصواب. وذباب: يقع على الواحد والجمع. وكان الأصمعي ينكر قولهم في الواحد: ذبابة, وقد حكى ذلك الكسائي, والنضر بن شميلٍ, وسعيد بن مسعدة, وإنما سمي الذباب ذبابًا لأنه يذب؛ أي: يطرد, ويقال في الجمع: أذبة إذا كان قليلًا, وإذا كثر فهو الذبان, مثل: غرابٍ وغربانٍ. قال الشاعر: [الطويل]

ومن أبيات أولها

وأنتم طراثيث وذبان قفرةٍ ... وأضعف طير الأرض قدمًا ذبابها ومن أبيات أولها وأسود أما القلب منه فضيق ... نخيب وأما بطنه فرحيب ووزن هذه الأبيات كوزن ما قبلها. الأسود يقع على الحيوان وغيره, إلا أنهم قل ما يقولون للفرس الأدهم: أسود, وقد جاء به الراعي فقال: [الطويل] طوال الخدود ليس فيها علامة ... سوى قرحةٍ في كل وردٍ وأسودا فأما الإبل فيقال فيها: ناقة دهماء وسوداء. قال حميد بن ثورٍ: [الطويل] ودهماء منها كالسفينة نضجت ... به الحمل حتى زاد شهرًا عديدها يعني ناقةً. وقال الراجز: قد كنت متاحًا على زرودا ... وكنت أروي مئتين سودا فاليوم لا أترك أن ذودا يقال: إن السود من الإبل أكثرها شربًا, وأغزرها ألبانًا, ويقال في صفة الجبان: هو نخيب, وكأنهم يريدون بذلك خلوه من الخير والشجاعة؛ لأنهم يقولون: انتخبت الشيء؛ إذا أخذت خياره. وقوله: أعدت على مخصاه ثم تركته ... يتبع مني الشمس وهي تغيب

ومن أبيات أولها

المخصى: الموضع الذي يقع فيه الخصاء, أراد أنه أعاد عليها خصاءً ثانيًا, أو ما هو مثل الخصاء؛ لأن هذه اللفظة إنما هي مأخوذة من الخصية, فإذا زالت فلا خصاء, يقال: خصيته خصيًا وخصاءً, قال الشاعر: [الطويل] خصاك جرير يابن قينٍ فإن تعد ... لهجو جريرٍ بعد خصيك تجدع وقوله: يتبع مني الشمس وهي تغيب, من قول الآخر: [الطويل] فأصبحت من ليلى الغداة كناظرٍ ... مع الصبح في أعقاب نجمٍ مغرب ومن أبيات أولها لحا الله وردانًا وأما أتت به ... له كسب خنزيرٍ وخرطوم ثعلب فهي من الطويل الثاني عند الخليل, ومن السحل الأول عند غيره. الخنزير إذا جعلت النون فيه زائدةً فهو من الخزر في العين, وهو ضيق فيها, وأن ينظر الإنسان بالجانب الذي فيه المؤق. يقال: تخازر الرجل؛ إذا فعل ذلك. قال الراجز: [الرجز] إذا تخازرت وما بي من خزر ... ثم كسرت الطرف من غير عور وجدتني ألوى بعيد المستمر ... أبذى إذا بوذيت من كلبٍ ذكر

وإذا جعلت النون في الخنزير أصليةً فهو مأخوذ من الخنزرة, وهي فأس غليظة تكسر بها الحجارة, يراد أنه غليط الخلقة. والخرطوم: يستعمل لغير الإنس في وضع الشفة والأنف. قال جران العود: [الطويل] فصرنا إليها واللغام كأنه ... بألحي المهاري والخراطيم كرسف واستعملوه في العقاب, قال جران العود أيضًا: [الطويل] عقاب عقنباة كأن جناحها ... وخرطومها الأعلى بنارٍ ملوح وقيل لأول ما يعتصر من الكرم: خرطوم؛ لأنه يتقدم كتقدم الشفة, وقد سمي الأنف خرطومًا, قال الفرزدق: [البسيطي يا ظمي ويحك إني ذو محافظةٍ ... أنمي إلى النفر الشم الخراطيم وقوله: إذا كسب الإنسان من هن عرسه ... فيا لؤم إنسانٍ ويا لؤم مكسب الهن يكنى به عن الفرج وكل ما يقبح من الأمور, ويدخلون فيه الهاء إذا وقفوا, ويحركون النون, فيقولون: هنه. (29/أ) فإذا وصلوا سكنوا النون وجاؤوا بالتار فيقولون: خذ فيه الهاء إذا وقفوا,

وهنت, كأنهم يريدون تأنيث هنٍ, وأنشد ابن الأعرابي: [الرجز] فقلت مهلًا لا تلومي يا هنه ... أنا ابن ثنتين وسبعين سنه والعرس أكثر ما يستعل للمرأة, وقد يقال للرجل: عرس, وهما عرسان, قال علقمة: [البسيط] أدحي عرسين فيه البيض مركوم وكذلك عروس يستعمل للأنثى والذكر, واشتقاقها من العرس, قال الشاعر في استعمال عروس للمذكر: [الطويل] أترضى بأنا لا تجف دماؤنا ... وهذا عروسًا باليمامة خالد ويروى: بالمدينة خالد. فأما قولهم: «لا مخبأ لعطرٍ بعد عروسٍ» , فيجوز أن يحمل على المذكر والمؤنثب. وقوله: أهذا اللذيا بنت وردان بنته ... هما الطالبان الرزق من شر مطلب اللذيا: تصغير الذي. والذي عند البصريين أصله لذٍ مثل عمٍ, ودخلت عليه لام التعريف. وقال قوم: بل هو مبني من لامٍ وذالٍ, وقال آخرون: ذاله مثل ذال هذا, واستدلوا على ذلك بقولهم في التصغير: اللذيا, كما قالوا في تصغير هذا: هاذيا, ويقال في تصغير التي: اللتيا, ويقال في المثل: «فعل ذلك بعد اللتيا والتي»؛ أي: بعد الأمر الشاق. وبعض

الناس يقول: اللتيا والتي من أسماء الداهية, والمعنى متقارب. قال الراجز: [الرجز] يا بنة هندٍ لا تسبن ابنتي بعد اللتيا واللتيا والتي ... إذا علتها أنفس تردت فجاء لقوله التي في آخر البيت بصلةٍ على أصل ما يجب في الأسماء الموصولات, ويجوز أن يكون قولهم: اللتيا والتي يريدون به ما صغر من الأمور وكبر, ومنه قول الضبي: ولقد رأيت ثأى العشيرة كلها ... وكفيت جانيها اللتيا والتي وإذا أرادوا الكناية عن الأمر الشديد جاؤوا بالكلمتين الأولى مصغرة والثانية غير مصغرة, لا يقتصرون على الواحدة منهما. وقوله: لقد كنت أنفي الغدر عن توس طيئٍ ... فلا تعذلاني رب صدق مكذب يقال: فلان من توس صدقٍ, وسوس صدقٍ؛ أي: من أصله ومعدنه. وطيئ

أكثر ما يستعمل بالهمز, وربما قالوا: طي بغير همزة. وحكي عن ابن الكلبي أنه قال: إنما سمي طيئًا لأنه أول من طوى المناهل, يعني طي البئر التي تعرفه العامة, ونسب هذا البيت إليه, وهو قوله: [الوافر] فإن الماء ماء أبي وجدي ... وبئري ذو حفرت وذو طويت وهذا البيت يوجد في الحماسة منسوبًا إلى رجل يقال له: سنان, وإذا صح هذا القول فالهمز في طيئٍ غير أصلي, وإنما يجري مجرى قولهم: حلأت السويق, والأصل من الحلاوة ونشئت الرائحة, وإنما هو من النشوة, وهي الرائحة الطيبة. وقال بعض الناس: طيئ مأخوذ من قولهم: طاء في الأرض إذا ذهب فيها. فإذا أخذ بهذا القول فالهمزة في طيئ أصلية. وقد زعموا أن سبأ بن يشجب إنما سمي سبأً لأنه أول من سبى الذرية, وسبي الذرية غير

ومن أبيات أولها

مهموزٍ, وقد جاء سبأ في القرآن والشعر الفصيح مهموزًا. قال الشاعر: [البسيط] ظلت تطاردها الولدان من سبأٍ ... كأنهم تحت دفيها الدحاريج وقال آخر, وهو يروى للجعدي ولأمية بن أبي الصلت: [المنسرح] من سبأٍ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سيله العرما وهذا أمر لا يعلم كيف حقيقته؛ لأنه خطب متقادم. ويجوز أن يكون مأخوذًا من سبأت الخمر, أو سبأته النار؛ إذا أحرقت جلده. ومن أبيات أولها لما نسبت فكنت ابنًا لغير أبٍ ... ثم اختبرت فلم ترجع إلى أدب وهي من البسيط الأول عند الخليل, والسحل الثاني عند غيره, وقافيتها من المتراكب قوله: ملقب بك ما لقبت ويك به ... يا أيها اللقب الملقى على اللقب

ويك: كلمة يختلف في تفسيرها, وكان الخليل يذهب إلى أنها وي في معنى التعجب من الشيء والإنكار له, فقيل بعده كأنه كذا وكذا. وفي الكتاب العزيز: {ويكأنه لا يفلح الكافرون}. وكان أبو زيد يحكي عن العرب أن ويك في معنى ألم تعلم وألم تر, ويفسر الآية على معنى ألم تعلم أنه لا يفلح الكافرون, وألم تر. وقال قوم: هي كلمة موضوعة للتعجب وقل ما تجيء في الكلام الفصيح إلا وبعدها أن المخففة أو المثقلة, وقد استعملها أبو الطيب على غير ذلك, إلا أن عنترة قال: [الكامل] ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها ... قول الفوارس ويك عنتر أقدم ويحكى عن الفراء أنه يذهب إلى المراد بها ويلك فحذفت اللام, وهذا قول يبعد, ويلزمه فيه أن تكون أن بعدها مكسورة, (29/ب) , لأنا لو قلنا للرجل: ويلك إن السلطان يطلبك, وويلك إن فعلك مذموم, لكان الوجه كسر إن, ولابد لمن ذهب مذهب الراء أن يضمر فعلًا يوجب فتح أن, كأنه لما كان المعنى ويلك كان كأنه قال: احذر أن فعلك مذموم فيفتح أن, إما لأنها وما بعدها من الكلام في معنى المصدر, وقد وقعت موقع المفعول كأنه قال: احذر ذمك. ويجوز أن تجعل وما بعدها في موضع المفعول له, كأنه قال: احذر لأن فعلك مذموم؛ أي: من أجل ذلك. وقال زيد بن عمرو بن نفيلٍ: [الخفيف] سالتاني الطلاق أن رأتاني ... قل مالي قد جئتماني بنكر ويك أن من يكن له نشب يحـ ... ـبب ومن يفتقر يعش عيش ضر

ومن أبيات أولها

وقوله: يا أيها اللقب الملقى على اللقب: لما كان اللقب المكروه يشق على الإنسان جعل الشاعر من هجاه كأن لقبه ملقب به؛ أي: أن اللقم لم يزده نقصًا, بل أحدث نقصًا في اللقب. ومن أبيات أولها لقد أصبح الجرذ المستغير ... أسير المنايا صريع العطب وهي من المتقارب الثالث. الجرذ: ذكر الفأر, وقد تكلموا به قديمًا, وقالوا في جمعه: جراذ, كما قالوا: ربع ورباع. قال الهذلي, وكان طرق الحبشة أيام كونهم في اليمن: لدى معشرٍ لا يختنون نساءهم ... وأكل الجراذ عندهم غير أفئد والمستغير: يحتمل أن يكون من قولهم: استغار إذا طلب الغيرة؛ أي: الميرة, أو من أنه يغير على الطعام إذا قدر عليه, أو من أنه يدخل في غار يسكنه. وقوله: كلى الرجلين اتلى قتله ... فأيكما غل حر السلب يقال: اتلى الشيء, وهو افتعل من ولي, كما أنك إذا بنيت من وعد افتعل قلت: اتعد,

ومن التي أولها

والأكثر تشديد التاء, وربما قالوا: ايتعد, فيجوز على هذا أن يقال كلى الرجلين ايتلى بياء. والوجه في كلى أن يكون خبرها موحدًا, وكذلك جاء في هذا البيت ويقال: كلى الرجلين مريض, ويقبح أن يقال: كلى الرجلين مريضان. وكان الكوفي لا يجيز ذلك. وذكر سعيد بن مسعدة, وأبو إسحاق الزجاج أن ذلك جائز عندهما, وإنما ذكراه في قوله تعالى: {كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئًا}. ويقال: إن يزيد بن القعقاع قرأ «آتتا» على التثنية, وهذا شاهد لمن أجاز ذلك, وليس هو بمعروفٍ. وقوله: غل حر السلب, أي: أيكما خان في الغنيمة, والغلول: الخيانة في المغنم, وحر الشيء خالصه وجيده. ومن التي أولها آخر ما الملك معزى به ... هذا الذي أثر في قلبه وهي من السريع الثاني في رأي الخليل, ومن أول الطلق السابع في قول غيره, وقافيتها من المتواتر جعل التنوين في قوله معزى به بمنزلة الحروف الصحاح؛ لأنه موازٍ للام في قلبه, ولو وقع في موضعها اسم مؤنث لا ينصرف مثل حبلى وسكرى لجاز صرفه على الضرورة؛ وذلك لا يوجد في الشعر القديم إلا أنه جائز على القياس, ولا يعرف شعر

جاءت فيه سلمى ونحوها مصروفةً, لأن ألف التأنيث في زنة التنوين فلا يحتاج إلى الصرف, ألا ترى أنه لا ضرورة تدعو إلى تنوين سلمى في قول الشاعر: [الوافر] وكم من مهمهٍ من دون سلمى ... قليل الأهل ليس به كتيع أي: أحد, فإن اتفق أن يجيء في الشعر سلمى ابنة فلان مثل عامرٍ أو مالك فقول النحويين أن صرف ما لا ينصرف جائز في الشعر يوجب أن يجيزوا تنوين سلمى, ثم يحركوا التنوين لالتقاء الساكنين, وإذا وقعت في مثل هذه القافية التي لأبي الطيب جاز تنوينها لتخرج من حال اللين إلى حال التنوين, وهو يقوم في هذا الموضع مقام ما صح من الحروف ولم يكن فيه لين. وقوله: لو درت الدنيا بما عنده ... لاستحيت الأيام من عتبه يقال: استحيا الرجل, وهي اللغة العالية, ويجوز: استحى, وقد روي عن ابن كثيرٍ أنه قرأ: {إن الله لا يستحي أن يضرب مثلًا ما} , وقال التغلبي: [الطويل] ألا تستحي منا ملوك وتتقي ... مظالمنا لا يبؤ الدم بالدم

وقوله: يموت راعي الظأن في جهله ... موتة جالينوس في طبه (30/أ) الظأن: مهموزة, يقال: ضأن وضأن, بالتحريك, وضئين على مثال فعيلٍ, وضئين بكسر الضاد؛ لأن ما كان على فعيل وفعل إذا كان ثانيه حرفًا من حروف الحلق كسر بعض العرب أوله فإذا وقع الضأن في قوافٍ مثل الزبن والخزن همز لا غير, كقول الراجز: تعلمن يا زيد يا بن زبن ... لشربتان من عكي الضأن ألين مسا في حوايا البطن ... من يثربياتٍ خفافٍ خشن يرمي بها أرمى من ابن تقين وإذا وقع الضأن مع قواف ملينةٍ مثل دانٍ وجانٍ لم يكن بد من تليين الهمز, كقول أبي خراش: إليك أم ذبان ... قد صرحت بجلدان طعنًا كإيزاغ الضان

فإذا كان الضأن في غير القافية جاز الوجهان. وأصل الطب العلم بالشيء, يقال: هو طب وطبيب, وكثر ذلك حتى سمي الداء طبا؛ لأنه يحتاج إلى طبيب, كأنهم يريدون الشيء الذي يفتقر إلى الطب. وحكي: إن كنت ذا طب وطب وطب فطب لنفسك وطب لنفسك. وسموا السحر طبا. وفي الحديث: «طب النبي صلى الله عليه وسلم». ويجوز أن يكون قولهم للرقعة التي في أسفل المزادة: طبابة وطباب مأخوذًا من الطب؛ أي: إنها تطبيب لدائها, قال جرير: [الوافر] بلى فارفض دمعك غير نزرٍ ... كما عينت بالسرب الطبابا وقوله: وربما زاد على عمره ... وزاد في الأمن على سربه يقال: هو آمن في سربه؛ أي: في نفسه, هكذا عبارة المتقدمين, وينبغي أن يكون أصله من السرب الذي هو جماعة النساء؛ أي: هو آمن على نفسه وحلائله وقرائبه, ثم اتسعوا في ذلك لما كان أمن هؤلاء مؤديًا أمنه, فجعلوا سربه كنايةً عن نفسه, والقياس يوجب أن يقال: هو آمن في سربه؛ لأن السرب المال الراعي. وقد زعم بعضهم أنه يقال له سرب في معنى سربٍ, إلا أن أكثر الاستعمال في المال فتح السين. قال الراجز:

ياثكلها قد فقدته أروعا ... أبلج يحمي السرب أن يفزعا وقالوا: خل سربه؛ أي: طريقه, والمعنى: خل الطريق الذي يسرب فيه؛ لأنه يقال: سرب في النهار إذا سار, وفي الكتاب العزيز: {وسارب بالنهار} , وقال قيس بن الخطيم: [الكامل] أني سريت وكنت غير سروب ... وتقرب الأحلام غير قريب يقول: كيف سريت إلينا ليلًا وأنت لا تسربين بالنهار, وسرى الليل أشق وأصعب؟ وقوله: وكان من حدد إحسانه ... كأنه أسرف في سبه من روى حدد فهو من: حددت الشيء؛ إذا فصلته من غيره, ومن روى عدد فهو من العدد. يقول: كان هذا الشخص من حدد إحسانه أو عدده, فكأنه ساب له؛ لأن فعله الأجمل كثير لا يدخل تحت العدد ولا الحدود. ويجوز أن يكون المعنى أن المذكور كان يكره أن يحمد لاحتقاره ما يسدي من الأيادي. وأصل السب القطع, وإنما يقال: سببت الرجل؛ إذا شتمته؛ لأن الشتم يقطع ما بينكما من المودة. وقيل للشقة: سبيبة, لأنها تقطع عن النول, ومن ذلك قول الشاعر: [المتقارب] فما كان ذنب بني دارمٍ ... بأن سب منهم غلام فسب

بأبيض ذي شطبٍ باترٍ ... يقد العظم ويبري العصب قوله: بأن سب منهم غلام؛ أي: شتم. وسب في القافية في معنى قطع, كذلك ذكر ابن دريد, وقد يجوز أن يكون سب في القافية في معنى الشتم, كأنه لما سب جعل جزاء سبه أن عقر إبله وأعلمهم أنهم لا يقدرون على مثل ما فعل؛ فكأنه شتمهم. وقوله: ويظهر التذكير في ذكره ... ويستر التأنيث في حجبه بعض الملوك إذا ذكرت من أهله امرأة أخبر عنها كما يخبر عن الرجال؛ فإذا كانت له أخت قيل: أخو الملك أو الأمير يريد كذا, أو يسأل كذا, وربما فعلت العامة ذلك, فإذا سألوا الصديق عن أخته قالوا: ما فعل أخوك الذي في البيت؟ وهذا من جنس قول أبي الطيب: يا أخت خير أخٍ يا بنت خير أبٍ ولم يسمها. ونحو قوله: كأن فعلة يريد خولة ولعل عضد الدولة لما عزي بهذه المرأة جعلت (30/ب) عما, وأخبر عنها كما يخبر عن الملك أو الأمير. وقوله: فخرًا لدهرٍ بت من أهله ... ومنجبٍ أصبحت من عقبه يكنى عن الولد بالعقب والعقب, وفي الكتاب العزيز: {وجعلها كلمةً باقيةٍ في

ومن التي أولها

عقبة}. وقد قرئت بسكون القاف. وكذلك يقولون: رجع على عقبه وعقبه, واستعملوا عقب الإنسان على الوجهين, والعقب من القدم هو الأصل؛ لأنه المؤخر عنها فشبه به ما يجيء بعد. وقوله: أيما لإبقاءٍ على فضله ... أيما لتسليمٍ إلى ربه جاء إبدال الميم الأولى في إما وأما. قال ابن أبي ربيعة في إبدالها من المفتوحة: رأت رجلًا أيما إذا الشمس عارضت ... فيضحى وأيما بالعشي فيخصر وإذا فعلوا ذلك بالمكسورة فتحوا أولها, قال الشاعر: [البسيط] ياليت ما أمنا شالت نعامتها ... أيما إلى جنةٍ أيما إلى نار ومن التي أولها ما أنصف القوم ضبه وهي من المجتث عند الخيل. ضبة الذي هو اسم الرجل يحتمل وجوهًا من الاشتقاق, منها: أن يكون مسمى بأنثى الضب, أو بالضبة التي هي الطلعة قبل أن تنفتح, أو بالضبة من الحديد, ويجوز أن يكون من قولهم: ضبت لثته؛ إذا سال لعابه من الحرص. قال عنترة: [الطويل] أبينا أبينا أن تضب لثاتكم ... على نسوةٍ مثل الظباء عواطيا

وقالوا: بضت يده دمًا, وضبت كأنه مقلوب, وينشد لأيوب بن عبيدٍ العنبري: [الطويل] ويوم كتنور الإماء سجرنه ... وألقين فيه الجزل حتى تضرما رميت بنفسي في أجيج سمومه ... وبالعنس حتى ضب منسمها دما ويقال: ضب الحالب إذا جمع الخلفين بكفيه. قال الشاعر: [الطويل] جمعت له كفي بالرمح طاعنًا ... كما جمع الخلفين في الضب حالب وقوله: وأمه الطرطبه الطرطبة: العظيمة الثديين, ويجوز أن يكون قبل لها ذلك لأن ثديها إذا وقع على صدرها سمع له صوت, والطرطبة: صويت يخرجه الراعي من بين شفيته, وسموا ذلك الصويت الطرطب, قال الراجز: [الرجز] إن أباك زهزق دقيق ... لا حسن الوجه ولا عتيق تضحك من طرطبه العنوق

زهزق: خفيف طائش العقل, قال الراجز: [الرجز] لما رآني قد أتيت طحربا ... وفر مني فرقًا وطرطبا ويجوز أن يكون طرطب في هذا الموضع كنايةً عن صوتٍ يخرج من البطن, والمعروف من كلامهم طرطبة, بسكون الراء. وفي حديث علي عليه السلام «أنه تزوج امرأة فسئل عنها قال: فوجدتها ضبعًا طرطبه». وإذا سكنت الراء في هذا البيت لحق الوزن شيء لا بأس به, إلا أن تسكينها يجعل بين النصفين فرقًا في الغريزة. وأصحاب الخليل ينكرون ذلك, وهو عند غيرهم جائز بلا امتراء. ويجوز أن يكون أبو الطيب قاله بتسكين الراء, وذلك أشبه به, وتحريكها أوزن, إلا أنهم يجيزون ضم الساكن الذي في فعل الثلاثي, فإذا كان أول الكلمة مضمومًا, وثانيها ساكنًا, وجاء صدرها على فعل, بفتح اللام, أو فعل, بضمها, لم يستعلموا فيها ما استعملوه في شغلٍ وصبحٍ, وآثروا الإسكان. وقد حكى سيبويه حرفًا شاذًا, وهو قولهم: السلطان, بضم اللام. وروي أن عيسى بن عمر قرأ: {حتى يأتينا بقربانٍ تأكله النار}. فأما مثل طرطبة فلم يأت فيه تحريك الثاني, وليس بأبعد من غيره إن جاء. وقوله: رمواة برأس أخيه ... وناكوا الام غلبه غلبة كالمصدر لغلبت, يقال: غلبته غلبًا وغلبًا وغلبةً وغلبةً.

وقوله: وحيلةً لك حتى ... عذرت لو كنت تئبه يقال في الماضي: ما أبهت له, وما أبهت. فمن قال أبهت فإن بعض العرب إذا كان الماضي على فعل يجيز كسر أول المضارع مع حروف المضارعة الثلاثية, فيقول: إيبه وتئبه ونئبه, فإذا صاروا (31/أ) إلى الياء فتحوا أول المضارع, هذه حكاية سيبويه. وزعم الفراء أن قومًا من كلبٍ يكسرون مع الياء, ومن هذا النحو قولهم: إخال في أخال؛ لأن الماضي خلت, ولا يحسن أن تجعل الهمزة في تئبه ياءً في هذا الشعر؛ لأنه يصير سنادًا, وقد جعل أبو الطيب الهاء الأصلية وصلًا مع هاءات الإضمار في غير موضع, كقوله: تئبه وأشبه, وقوله: .............. ... ............ يا فردًا بلا مشبه وليس ذلك بعيبٍ, وتركه أحسن. وقوله: ولم ينكها ولكن ... عجانها ناك زبه العجان: ما بين بيضتي الإنسان ودبره, وقد استعمل في المرأة والرجل والناقة, قال الشاعر: [الطويل] تركت العبدى ينقرون عجانها ... كأن غرابًا فوق أنفك واقع وقوله: وليس بين هلوكٍ ... وحرةٍ غير خطبه

الهلوك: الفاجرة؛ لأنها تتهالك على الرجال؛ أي: تلقي نفسها إليهم, قال أبو دؤاد: [المتقارب] غدونا به كسوار الهلو ... ك مضطمرًا حالباه اضطمارا وقوله: يا قاتلًا كل ضيفٍ ... غناه ضيح وعلبه الضيح: اللبن الذي يمزج بماءٍ كثيرٍ, يقال: ضيحت الضيف؛ إذا سقيته الضيح. قال الراجز: [الرجز] امتحضا وسقياني ضيحا ... وقد كفيت صاحبي الميحا وفي الحديث أن عمار بن ياسرٍ أتي بضيحةٍ من لبنٍ وهو يقاتل مع علي, فقال: «خبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها آخر رزقي». والعلبة: إناء من جلودٍ يجعل حوله قضيب ويشرب فيه ويحتلب, ويجمع علبًا وعلابًا, وعلب أكثر, وهذا البيت ينشد على وجهين: [الخفيف] صاح أبصرت أو سمعت براعٍ ... رد في الضرع ما قرى في العلاب

ويروى: الحلاب. فالعلاب: جمع علبةٍ, والحلاب: ما حلب من اللبن, وقيل: بل الحلاب الإناء الذي يحتلب فيه. وقوله: وخوف كل رفيقٍ ... أباتك الليل جنبه يقال: بات الرجل بموضع كذا, وأباته غيره. قال الشاعر, ويقال: إنه لجذيمة الأبرش: [مجزوء الرمل] ربما أوفيت في علمٍ ... يرفعن ثوبي شمالات في فتو أنا رابئهم ... من كلال غزوةٍ ماتوا ليت شعري ما أباتهم ... نحن أدلجنا وهم باتوا وقوله: على نسائك تجلو ... فعولها منذ سنبه يقال سبة من الدهر وسنبة, وأصل السبة من الدهر من السب الذي هو قطع؛ لأنها كالقطعة من الدهر. وفي كتاب العين أن قومًا من العرب الذين بنواحي حمص يبدلون من أول

الحرفين اللذين فيهما تشديد نونًا فيقولون: حنظ في حظ, فيجوز أن يكون قولهم: سنبة في سبةٍ من هذه اللغة. وقد حكوا: مضى سنبت من الدهر, وسنبتة؛ أي: وقت طويل, فيحتمل أن يكون من قولهم: مضى سبت من الدهر؛ أي: حين, وتكون النون زائدة, قال لبيد: [الكامل] وغنيت سبتًا قبل مجرى داحسٍ ... لو كان للنفس اللجوج خلود وقال الأغلب العجلي: [الرجز] رأت غلامًا قد صرى في فقرته ... ماء الشباب عنفوان سنبته فيجوز أن يكون أراد سنبةً, فلما أضاف الكلمة إلى الهاء ثبتت تاء التأنيث كما تثبت في الإدراج, وكانت التاء في سنبته مثلها في رحمته, ويحتمل أن يكون أراد السنبت الذي التاء فيه أصلية, فأضافه إلى الهاء. وقوله: وهن حولك ينظر ... ن والأحيراح رطبه الكلمة التي أولها حاء مكسورة وآخرها راء قد حذفت منها حاء هي آخر الاسم. ولا يعلم أن الحاء حذفت في شيء غير هذه اللفظة, وإنما استدلوا على ذلك بالجمع والتصغير, وأنشد قطرب: [الرجز] لقد أقود جملًا ممراحا ... وقبةً حاملةً أحراحا

وقوله: وكل غرمول بغلٍ ... يرين يحسدن قنبه الغرمونل: يستعمل في ذوات الحافر, وربما استعمل للرجال. وفي الحديث أن عبد الله بن عمر دخل الحمام فلما رأى غراميل الرجال غشي عليه. والقنب: وعاء قضيب الفرس وغيره من ذوات الحافر, قال الراجز: عمارة الوهاب خير من أنس ... وزرعة الفساء شر من علس وأنا خير منك يا قنب الفرس يقال: إنه شبهه بالقنب؛ لأنه كان أسود. وقوله: (31/ب) وإن يخنك لعمري ... لطال ما خان صحبه يقال: لعمري, ورعملي على القلب, وهذا الحرف من نادر كلامهم؛ لأنهم جعلوا لام الابتداء في آخر الحرف وقدموا راء عمروٍ, وهذا كلام جاء على الحذف, يقال: لعمري؛ أي: لعمري ما أحلف به, ويقال: هو عمر الإنسان وعمره, فإذا جاؤوا باللام واستعملوه في القسم لزموا فتح العين, وإذا قالوا: عمرك الله فإنما يريدون بعبادتك إياه وخدمتك, وكأنه مأخوذ من العمر الذي هو الزيادة, ومن ذلك اشتقاق عمرة الحج. وأنشد ابن الأعرابي لغالب بن الحر الجعفي: [الطويل] تطوف بها الزوار كل عشيةٍ ... كما طافت العمار بين المناسك

ويجوز أن يكون أصل قولهم: لعمروا الله من قولك: إن عمره دائم بلا نفادٍ, ويقولون: عمرتك الله, أي: قلت لك, عمرك الله, قال الشاعر: [البسيط] عمرتك الله إلا ما ذكرت لنا ... هل كنت جارتنا أيام ذي سلم وقوله: وقلت ليت بكفي ... عنان جرداء شطبه الشطبة من الخيل: السبطة العظام, القليلة اللحم, وإنما يستعملونه في الإناث, قال عبد يغوث الحارثي: ولو شئت نجتني من الموت شطبة ... ترى خلفها الجرد العتاق متاليا وقالوا: غلام شطب, يريدون به خفة اللحم, قال الراجز: ترى مع القوم الغلام الشطبا ... إذا أحس وجعًا أو كربًا دنا فما يزداد إلا قربا ويجوز أن يكون قولهم للغلام: شطب, تشبيهًا بالشطبة, وهو ما يشق من جريد النخل.

وفي حديث أم زرعٍ: «مضجعه كمسل الشطبة» , يقال: شطبت المرأة جريدةً؛ إذا شقتها لتتخذ الحصر, قال قيس بن الخطيم: [الطويل] ترى قصد المران تهوي كأنها ... تذرع خرصانٍ بأيدي الشواطب ومن ذلك قيل: شطائب السنام, الواحدة شطيبة, وهي قطع مستطيلة منه, قال الشاعر: [البسيط] عاذت ولما تعذ منه براكبها ... حتى اتقاها بنكلٍ غير مسمور ثم امتطاها فجلى عن شطائبها ... معود ضرب أعناق البهازير الراكب: السنام. والنكل: أصله القيد, يريد أنه عرقبها بالسيف فجعله كالنكل لها. والبهازير: الضخام من الإبل, وهي البهازر أيضًا. * * *

حرف التاء

حرف التاء من أبيات أولها لنا ملك لا يطعم النوم همه ... ممات لحي أو حياة لميت وهي من الطويل الثاني عند الخليل, ومن أول السحل الأول عند غيره. استعمل أبو الطيب في هذه الأبيات ضد ما استعمله كثير في لزوم الحرف الذي قبل التاء, فقال: ميت, ثم قال: فرت في البيت الثاني, ثم دولتي. وأكثر الشعراء على هذا لا يلزمون ما قبل التاء. قال الشنفرى: [الطويل] أرى أم عمروٍ أزمعت فاستقلت ... وما ودعت جيرانها إذ تولت وقال فيها: لها وفضة فيها ثلاثون سيحفًا ... إذا آنست أولى العدي اقشعرت وقد لزم ما قبل التاء غير كثيرٍ. قال عمرو بن معد يكرب: [الطويل] ولما رأيت الخيل زورًا كأنها ... جداول زرعٍ أرسلت فاسبطرت فلزم الراء قبل التاء إلى آخر الأبيات, وكذلك فعل الضبي في قوله: [الكامل] حلت تماضر غربةً فاحتلت ... فلجا وأهلك باللوى فالحلة فلزم اللام في جميع الأبيات.

ومن بيتين أولهما

ومن بيتين أولهما أرى مرهفا مدهش الصيقلين ... وبابة كل غلامٍ عتا وهما من المتقارب الثالث. الصيقلين: جمع صيقلٍ, وأكثر ما يستعمل الصياقل, قال خفاف بن ندبة: [الوافر] جلاها الصيقلون فأخلصوها ... خفافًا كلها يتقي بأثر وقوله: بابة كلام غلامٍ: هذا كلمة قد ابتذلتها العامة حتى ظهر فيها ضعف, وقد تكلموا بها قديمًا, فيقولون: هذا بابة كذا؛ أي: يصلح له. والغلام: أصله أن يستعمل فيمن بلغ سبعًا أو ثمانيًا, ثم يقال له ذلك مادام شابا, واشتقاق الغلام في الحقيقة من الاغتلام, أي: إرادة النكاح, فكأنه يجب أن يقال لمن احتلم أو قارب الاحتلام, إلا أن الكلام قد كثر بقولهم للطفل المولود: غلام, فإنما ذلك (32/أ") على سبيل التقول؛ أي: أنه بمشيئة الله

يسلم ويبلغ الحلم, وقد جعلت الأخيلية الحجاج غلامًا, ولم يل إلا وهو مكتهل؛ وذلك قولها: [الطويل] شفاها من الداء العقام الذي بها ... غلام إذا هز القناة سقاها ويجوز في القياس أن يسمى الشيخ غلامًا على معنى الذي كان مرةً غلامًا, كما أنك إذا رأيت طفلًا يلعب ثم رأيته بعد برهةٍ طويلةٍ وهو شيخ جاز أن تقول: هذا الطفل فلان. ويقال: غلام وغلامة, قال الشاعر: [الوافر] ومركضةٍ صريحي أبوها ... تهان لها الغلامة والغلام وعتا: من ذوات الواو, يقال: عتا يعتوا عتوا؛ إذا أبى الطاعة ولزم فعلًا غير جميلٍ. وقوله تعالى: {أيهم أشد على الرحمن عتيّا} , يجوز أن يكون جمع عات مثل غاز وغزي, ويجوز أن تكون الواو قبلت ياءً في المصدر. وإذا جعل هذا الشعر في حرف التاء؛ فالألف التي بعدها وصل, وقد يمكن أن يجعل الألف رويًا, ويكون الشاعر متبرعًا بلزوم التاء. وقد كثر في الشعر القديم مجيء فتى مع غيره من المقصورات؛ مثل: سرى ورحى, وغير ذلك. قال الراجز, ويروى للشماخ: إنك يا بن جعفر نعم الفتى ... ونعم مأوى طارق إذا أتى ورب ضيفٍ طرق الحي سرى ... صادف زادًا وحديثًا ما اشتهى إن الحديث طرف من القرى وقال الراعي النميري: [الطويل]

ومن التي أولها

عجبت من السارين والريح قرة ... إلى ضوء نارٍ بين فردة والرحى وقال فيها: فأومأت إيماءً خفيا لحبترٍ ... فلله عينا حبترٍ أيما فتى ومن التي أولها سرب محاسنه حرمت ذواتها ... داني الصفات بعيد موصوفاتها وهي من الضرب الأول من الكامل عند الخليل, ومن أول السحل الثالث عند غيره. المحاسن: جمع لم يستعملوا واحده, ولو استعملوه لوجب أن يكون على محسنةٍ, مثل مطعمةٍ. ويمكن أن يستعمل على محسنة؛ لأن الفعل حسن يحسن, مثل: مكرمةٍ من كرم يكرم, وقد جاءت أشياء من هذا الباب تشترك فيها مفعلة ومفعلة, مثل: مزرعة ومزرعةٍ ومثلبةٍ ومثلبةٍ, وحكوا في واحد المآرب مأربة ومأربة ومأربة. وقوله: ذواتها: في معنى صواحبها؛ لأن ذات أنثى قولهم: ذو مال, إلا أن ذو يكون في الرفع بواوٍ, وفي النصب بألفٍ, وفي الخفض بياءٍ, وذات لزمها الألف في كل حالٍ؛ وذلك لأن ما قبل هاء التأنيث لا يكون إلا مفتوحًا في أكثر الكلام إلا في مواضع شاذة كقولهم هذه وهذه وأختٍ وبنتٍ في أحد القولين, ولم يجئ عن العرب ذو في حال التوحيد مضافًا

إلى ضمير. وإذا قووه بالجمع فقالوا: ذوو في الرفع وذوي في النصب والخفض, فربما أضافوه إلى المضمر. وذوات في الإضافة أقوى من (ذوو)؛ لأن حروفها أكثر من حروفه. وقوله: داني الصفات بعيد موصوفاتها؛ أي: إنا نصفه بيننا فنقول: سرب حسن, وسرب جميل, فالصفات قريبة منا, والموصوفات بالحسن والجمال بعيدات منا لا يقدر عليهن. وقوله: أوفى فكنت إذا رميت بمقلتي ... بشرًا رأيت أرق من عبراتها أوفى: يستعمل في معنى أطل وأشرف, ولا يكون ذلك إلا من مكان عالٍ, يقال: أوفى الجبل إذا علاه, ولا يستعملون وفى في هذا الموضع. وقالوا: أوفى بالعهد ووفى. قال الصمة الأكبر: [الوافر] وفاء ما معية من أبيه ... لمن أوفى بجارٍ أو بعقد وقال السموأل: [الوافر] وفيت بأدرع الكندي إني ... إذا ما خان أقوام وفيت وقوله: رميت بمقلتي؛ أي: رميت بلحظها, فحذف المضاف, كما قال النابغة: [الطويل] وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي ... على وعلٍ في ذي المطارة عاقل

أي: على مخافة وعلٍ. والعبرات: جمع عبرةٍ, ويقال: إن أصل العبرة تردد البكاء في العين. فأما هذا الشاعر فلم يرد إلا الدمع بعينه. وقد يجوز أن يحمل على أنه أراد من ماء عبراتها فحذف, ووصف البشر بالرقة, وجعله أرق من عبرات عينه؛ لأن الدمع يوصف بالصفاء, فيقال في الماء: كأنه الدموع, يريدون صفاءه. وقوله: يستاق عيسهم أنيني خلفها ... تتوهم الزفرات زجر حداتها (32/ب) قد مضى ذكر العيس ويقال: تعيس البعير إذا كان يشبه ذلك الصنف من الإبل, ولم يكن بالخالص منه. قال المرار الفقعسي: [الكامل] داو الهموم بكل معطي رأسه ... جونٍ مخالط صهبةٍ متعيس وهذا كما يقال للرجل: تقيس؛ إذا أضاف نفسه إلى قيسٍ بانتسابٍ أو مجاورةٍ أو عصبيةٍ, وليس هو من الصميم. يستاق: يفتعل من السوق, يريد أن الإبل تسير وهو يئن خلفها ويزفر؛ أي: يتنفس تنفسًا عاليًا, فتحسب العيس ذلك زجر حداةٍ يحدونها ويحثونها على السير.

وقوله: وكأنها شجر لكنها ... شجر جنيت الموت من ثمراتها الشعراء تشبه حمولة القوم بالشجر وبالسفين, وأكثر ما يشبهونها بالنخيل, وقد شبهها امرؤ القيس بالدوم, وإنما يجعلونها كالسفين والنخيل إذا رفعها الآل. قال: [الطويل] فشبهتهم بالآل لما زهاهم ... عصائب دومٍ أو سفينًا مقيرا أو المكرعات من نخيل ابن يامنٍ ... دوين الصفا اللائي يلين المشقرا وقال النابغة: [الطويل] فشبهتها في الصبح نخل ابن يامنٍ ... فلما طغت في الآل قلت سفائن وقوله: لا سرت من إبلٍ لو اني فوقها ... لمحت حرارة مدمعي سماتها دعا بأن لا تسير الإبل خشيةً من أن يبعد من عليها. والسمات: جمع سمةٍ, وادعى أنه لو ركبها لمحت حرارة الماء الذي يسيل من مدمعيه وسومها الثابتة على ممر الأيام, وهذه نهاية في المبالغة؛ لأن الوسم لا يزول من البعير حتى يموت. وقوله: وحملت ما حملت من هذي المها ... وحملت ما حملت من حسراتها يقول: لو أني فوقك يا إبل راكبًا لحملت اللواتي عليك من النساء المشبهات بالمها, وكان ذلك هينًا علي, وحملت ما حملت من حسراتها؛ أي: كنت أتولى حملها دونك فتلحقك لذلك حسرات فتحملين ما أنا حامل من الحسرات الموجبتها هذه المتحملات, وأضاف الحسرات إلى النساء؛ لأنها تكون من أجلهن. والعرب تتسع في الإضافة فتضيف الشيء إلى ما بعد منه, مثل أن ترى رجلًا قد قتل

آخر بنجدٍ وهو بالغور فتقول: هذا قاتل نجدٍ؛ أي: الذي قتل رجلًا في ذلك المكان. وقوله: إني على شعفي بما في خمرها ... لأعف عما في سراويلاتها الشعف في الحب مثل اللهج به, وقيل: أصل الشعف الإحراق, كأنهم يريدون أنه قد احترق باللوعة. وقيل: شعفه الحب؛ إذا أخذ شعفة قلبه؛ أي: أعلاه. والخمر: جمع خمارٍ. وكل كلمة فيها خاء وميم وراء على هذا الترتيب فهي مأخوذة من خمرت الشيء إذا سترته. وسراويلات: جمع سراويل, وهو اسم أعجمي في الأصل معرب, وكلام سيبويه يدل على أنه مصروفٌ, وسعيد بن مسعدة يمتنع من صرفه, ويقول: هو جمع سروالةٍ, وينشد: [المتقارب] عليه من اللؤم سروالة

وأصحاب سيبويه يطعنون في قول ابن مقبلٍ: [الطويل] يمشي بها ذب الرياد كأنه ... فتى فارسي سراويل رامح وينشدونه بالخفض على إضافة سراويل إليه ينصرون بذلك قول سيبويه, ولا ريب أن قول ابن مسعدة في هذا أقوى. وقوله: وترى المروة والفتوة والأبو ... ة في كل مليحةٍ ضراتها أصل المروة الهمز, ويجب أن يكون أبو الطيب خفف الهمزة ليضاهي بها الأبوة والفتوة. والمروة في الاشتقاق من قولهم: هذا امرؤ صالح, كأنهم يقولون: في فلان مروءة؛ أي: هو امرؤ محمود, كما يقولون: فيه إنسانية. وقد علم أن كل من ولده آدم لا يخلو من شبه بالإنس يحكم له بالإنسانية, ولكن هذا اللفظ حمل على الحذف, كما أنهم يقولون: فلان من أهل بيتٍ, يريدون بيتًا له شرف وكرم. وكل أحدٍ لا بد أن يأوي إلى بيتٍ أو إلى ما يقوم مقامه من الكن. والضرة: التي يتزوجها الرجل بعد المرأة الأولى, ثم يقال لكل واحدةٍ منهما: ضروة, ويقال: تزوجت المرأة على ضر وضر, وامرأة مضر؛ أي لها ضرات. قال ابن أحمر: كمرآة المضر غدت عليها ... إذا رامقعت فيها الطرف جالا وقالوا في الجمع: ضرائر, وكأنه جمع ضريرةٍ؛ لأن الضرة والضريرة أخذتا من الضر, قال كثير: [الطويل]

وإني لأستأني ولولا طماعتي ... بعزة قد جمعت بين الضرائر والمعنى أن المروءة والأبوة والفتوة تمنعني من وصال الملاح؛ فكل مليحة تعد هذه الخلال التي في ضراتٍ لها تمنعني من وصالها. وقوله: (33/أ) ومطالبٍ فيها الهلاك أتيتها ... ثبت الجنان كأنني لم آتها يقال: رجل ثبت الجنان وثابت الجنان وثبيت الجنان, وقولهم: ثبت كأنه مصدر وصف به, قال طرفة: [المديد] الهبيت لا فؤاد له ... والثبيت ثبته فهمه كل من نقصت رتبته قيل له: هبيت, وهو وصف مذموم. هذا يدل على أن الثبت في هذا البيت مصدر. والجنان: القلب. وقوله: ومقانبٍ بمقانبٍ غادرتها ... أقوات وحشٍ كن من أقواتها المقانب: جمع مقنبٍ, وهو ما بين الثلاثين إلى الأربعين, أكثر ما يستعمل ذلك في الخيل, وقيل: إنه يستعمل في الرجالة. وفي الحديث: «يكون في مقنبٍ من مقانبكم». وسليك المقانب هو: سليك بن السلكة, أضيف إلى المقانب لأنه كان كثير الغارات, وإنما

لزمه هذا الاسم لقول القائل: [الطويل] لزوار ليلى منكم آل برثنٍ ... على الهول أمضى من سليك المقانب ويقال لكساء يجمع فيه الجراد: مقنب. قال الراجز: أقسمت لا أجعل فيها عنظبا ... إلا دباساء توفي المقنبا العنظب: ذكر الجراد, والدباساء: الأنثى. يعني أنه قتلهم فأكلتهم الوحوش كالأسد والنمور والذئاب والضباع, وكأن هؤلاء القوم يصيدون هذه الوحوش فيأكلونها, كأنه يصفهم بالنجدة والشدة وأنهم كانوا يأكلون هذه الأجناس التي لم تجر العادة بأكلها. وقوله: الثابتين فروسةً كجلودها ... في ظهرها والطعن في لباتها قوله: في ظهرها: وضع الواحد في موضع الجمع, وهو كقول الآخر: كلوا في نصف بطنكم تعيشوا ... فإن زمانكم زمن خميص وقال علقمة: [الطويل] بها جيف الحسرى فأما عظامها ... فبيض وأما جلدها فصليب

أي: جلودها, والمعنى أنه وصفهم بالثبات على ظهور الخيل وهي تطعن في لباتها. واللبة: باطن العنق, وهو ما حول النحر, والذي يكون عليه الحلي من المرأة. قال امرؤ القيس: كأن على لباتها جمر مصطلٍ ... أصاب غضًاغ جزلًا وكف بأجذال وقوله: العارفين بها كما عرفتهم ... والراكبين جدودهم أماتها لو أن هذا الكلام منثور لكان الواجب أن يقال والراكب جدودهم على التوحيد؛ لأن اسم الفاعل إذا تقدم جرى مجرى الفعل, فيقال: مررت بالراكب الخيل جدوده, وجدودهم؛ لأن الألف واللام تنوب عن الذي واللذين والذين, وكذلك عن التي وتثنيتها وجمعها, فإذا جمعت أو ثنيت فهو على قول من قال: قمن النساء, وأكلوني البراغيث, وقامتا أختاك, ومنه قول الفرزدق: ولكن ديافي أبوه وأمه ... بحوران يعصرن السليط قاربه ولو أنه في غير الشعر لكان الوجه تعصر السليط, وقال آخر, ويروى لأحيحة بن الجلاح: يلومونني في اشتراء النخيـ ... ــل قومي وكلهم ألوم

ويروى: يعذل, وإنما الكلام يلومني قومي, وقال الآخر: [السريع] ألفيتا عيناك عند القفا ... أولى فأولى لك ذا واقية أكثر الاستعمال يجيء على أن يقال: أمات لغير الإنس, وأمهات لما يعقل. وربما استعمل كل واحدٍ من اللفظين في موضع الآخر. وإنما قيل للأم أم لأنها تضم الولد وتشتمل عليه, وكل ما اشتمل على شيء فهو أم له؛ كأنهم يريدون أنها تؤم الولد؛ أي: تكون قدامه, أو تؤمه بالمنفعة؛ أي: تقصده, أو يؤمها لطلب الرضاع؛ أي: يقصدها. وقولهم في اسم المرأة: أميمة, إنما هي تصغير أم, ويقولون في الواحد: أمهة, يظهرون الهاء التي كانت في أمهات, ومجيئها في الواحد قليل جدًا, وإنما أنشدوا رجزًا ينسبونه إلي قصي ابن كلابٍ جد هاشم بن عبد منافٍ, وهو: [الرمل] إني لدى الحرب رخي لببي ... عند تداعيهم بهالٍ وهب معتزم الصولة عالي النسب ... أمهتي خندف والياس أبي

وقال الهذلي في قولهم: أمهات لغير الإنس: [الطويل] ألا هل أتى الأقوام أن خويلدًا ... يعطف أبكارًا على أمهاتها (33/ب) وإذا وقع قبل أم وجمعها حرف مكسور أو ياء فبعض العرب يكسر الهمزة فيقول: مررت بإمه, وفلان حسن الرأي في إمك. وقد قرأ الكوفي بذلك: {في بطون إمهاتكم} بكسر الهمزة. وقوله: فكأنها نتجت قيامًا تحتهم ... وكأنهم ولدوا على صهواتها صهوات: جمع صهوةٍ, وهي مقعد الفارس من الفرس, وصهوة معرفة اسم جبلٍ, قال المخبل السعدي: [الطويل]

ولما تزل عن رأس صهوة عصمها ... ولما يصر أعلى العضاه أسافله وقوله: عجبًا له حفظ العنان بأنملٍ ... ما حفظها الأشياء من عادتها الأنمل: أطراف الأصابع, يستعمل في اليدين والرجلين. قال زهير: [الطويل] وملجمنا ما إن ينال قذاله ... ولا قدماه الأرض إلا أنامله وفي الأنملة لغات أعرفها: الأنملة والأنملة, وقد حكي أنملة وأنملة وإنملة وإنملة, حكى ذلك اللحياني. وحكى بعضهم: رجل مؤنمل؛ إذا كان عظيم الأنامل, ويضعف هذا القول من قبل أن همزة أنملٍ زائدة, فلو قيل: مؤنمل لدل ذلك على أنها أصلية, إلا أن يجعل مثل قولهم: كساء مؤرنب. قالت الأخيلية: [الطويل] تدلت على حص الرؤوس كأنها ... كراة غلامٍ في كساءٍ مؤرنب

وقد أثبتوا الزوائد في مواضع يجب أن تسقط فيهن كقولهم: تمدرع؛ إذا لبس المدرعة, وإنما القياس تدرع. وتمهجر؛ إذا تشبه بالمهاجرين, وإنما القياس تهجر. وقوله: لو مر يركض في سطور كتابه ... أحصى بحافر مهره ميماتها يقال لولد الفرس حين ينتج: مهر, ثم يقال له ذلك إلى أن يركب. ويقال في المثل: «لا يعدم شقي مهرًا» , وبعضهم يقول: مهيرًا. وهذا الكلام يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون المعنى أن الشقي لا يعدم أن يكون له مهر يقوم به فيزيد ذلك في شقائه, ويشبه هذا قولهم: [البسيط] إن الشقاء على الأشقين مصبوب والآخر أن يكون الغرض أن الإنسان وإن كان شقيًا لا يعدم أن يرزق مهرًا كما يقال: لا يعدم فقير زادًا؛ أي: أن الله يرزقه كما يرزق غيره. وقال عمرو بن معد يكرب: [الوافر] فإما كنت سائلتي بمهرٍ ... فمهري إن سألت به الرفيع فهذا يدل على أن المهر هاهنا مركوب, والمهرة جارية مجرى المهر. يقال لها مهرة عند النتاج, ثم تبقى عليها السمة إلى أن تركب, قال حاتم الطائي: [الطويل]

شهدت ودعوانا أميمة أننا ... بنو الحرب نصلاها إذا شب نورها على مهرةٍ جرداء كبداء ضامرٍ ... أمينٍ شظاها مطمئن نسورها جمع نارٍ, وربما استعملوا المهر في ولد حمار الوحش, قال عدي بن زيدٍ, وذكر الحمار: في مصاب الغاديات له ... لقح لم تفل أمهارا وقال الأخطل وذكر الحمار والأتن: موكل بتواليهن لا ضرع ... مهر ولا ثلب أفناه تعويد وجعل الممدوح لو ركض في سطور كتابةٍ أحصى بحافر مهر الميمات, وهذا من مبالغة الشعراء التي تستحسن, وهي مستحيلة لا يمكن أن تكون. ويقال: إنه خص الميمات لأن الحافر يشبه بالميم, ولأن حافر المهر لم يعظم فيشبهه بغيرها من الحروف. وقوله: يضع السنان بحيث شاء مجاولًا ... حتى من الآذان في أخراتها الأخرات: جمع خرتٍ, وهو ثقب الأذن, ويقال: خرت بالفتح. والآذان: جمع لم ينطق بغيره للأذن, فهو جارٍ مجرى عنق وأعناق, ولم يجمعوه على غير هذا المثال. والمجاول: الذي يجول مع عدوه, يقال: جاوله مجاولةً, وإنما أخذ هذا الفعل من الجال والجول, وهو جانب البئر والقبر ونحوهما, فيقال: جال الفرس؛ إذا أخذ ف يجانبٍ, وجاول الفارس الآخر؛ إذا أخذ كل واحدٍ منهما في جانب صاحبه, وقيل لثوب يخاط أحد جانبيه: مجول, وهو من لباس الفتيات والشواب؛ كأنه يخاط أحد جانبيه, وهو جاله. وقيل: إنما سمي بذلك لأن اللابسة له تجول فيه, قال الشاعر: [الكامل] وعلي سابغة كأن قتيرها ... حدق الجنادب لونها كالمجول

وقيل: إن المجول هاهنا الغدير؛ لأنه يجول في الريح. وقيل: المجول في البيت الفضة, فإن صح ذلك (34/أ) فإنما يراد أنها تجول في البلاد؛ أي: تسير, كما قالوا في صفة الدرهم: أبيض قرقوف في كل أرضٍ يطوف: وقوله: تكبو وارءك يابن أحمد قرح ... ليست قوائمهن من آلاتها تكبو: تعثر, والقرح: جمع قارحٍ, وهو من ذوات الحافر الذي قد نبت قارحه. والهاء في آلاتها راجعة على وراء؛ لأنها مؤنثةً, وكذلك قدام وأمام. وقوله: رعد الفوارس منك في أبدانها ... أجرى من العسلان في قنواتها الرعد: جمع رعدة, وهو اضطراب الجسد من الفرق والبرد, يقال: أرعد فهو مرعد, فهذه اللغة الفصيحة. وقد قالوا: رعد فهو مرعود. وقد مر ذكر العسلان. ومن الرعدة قيل للجبان: رعديد. وإذا قيل للنساء رعاديد فإنما يراد أنهن كاللواتي يرعدن من نعمتهن؛ أي: تضطرب أجسامهن. ورعد السحاب من هذا مأخوذ؛ لأنه اضطراب في السحاب وحركة, وقد وصفوا الفالوذ بالرعديد, وإنما ذلك للينه ونعمته وأنه يضطرب في اليد. وقوله: لا خلق أسمح منك إلا عارف ... بك رآء نفسك لم يقل لك هاتها يقال: رآء, وهو مقلوب عن رأى, قال الشاعر: [الوافر] عليل رآء رؤيا فهو يهذي ... بما قد رأء منها في المنام وهات: كلمة تستعمل في الأمر, وهي على فاعل في الماضي, يقال: هاتى يهاتي فهو مهات, والمصدر المهاتاة مثل مواتاةٍ, فيقال للرجل: هات, كما يقال له: غاد؛ إذا أمر من غاديت, ولاثنين: هاتيا, مثل غاديا, وللجميع: هاتوا, وللمرأة: هاتي بإثبات الياء, قال طرفة: [الطويل]

إذا قيل هاتي أسمعينا انبرت لنا ... على رسلها مطروقةً لم تشدد وللمرأتين: هاتيا, وللنساء: هاتين مثل غادين, وليست الياء في (هاتي) بالياء التي كانت في هاتيت, ولكنها ياء التأنيث التي تلحق في مثل قولك: اضربي, وكأن أصلها هاتيي, فاستثقلت الكسرة على الياء الأولى, فلما سكنت وبعدها ياء ساكنة حذفت لالتقاء الساكنين وبقيت العلامة, فأما الياء في هاتين فمن نفس الكلمة, وليست للتأنيث, وإنما هي كباء ضاربن ولام قاتلن. وقوله: غلت الذي حسب العشور بآيةٍ ... ترتيلك السورات من آياتها ذهب قوم إلى أن الغلت والغلط واحد, وإن كان أحد الحرفين مبدلًا من الآخر. وذهب أبو عبيدة إلى أن الغلت في الحساب خاصةً, والغلط في غير ذلك. والعشور: جمع عشر. والسورة: يقال: إن معناها المنزلة؛ أي: أن هذه المنزلة رتبة في الدين. وقيل: إنها مأخوذة من الارتفاع وهو راجع إلى المعنى الأول, وقيل: سورة؛ أي: خيار من قولهم للناقة الكريمة: سورة, وجمعها سور, وقد فسروا على ذلك قول العجاج: [الرجز] ورب ذي سرادقٍ محضور ... سرت إليه في أعالي السور

أراد بأعالي السور ظهور إبلٍ كرائم, والأشبه أن يكون الغرض في أعالي المراتب. وسورة: من قال في عورةٍ عورات بالسكون, وهو مذهب أكثر العرب, قال سورات بسكون الواو. ومن قال: عورات فحرك الواو, وهي لغة هذيل, قال: سورات؛ لأنهم يقولون في الصحيح: حجرة وحجرات وحجرات وحجرات بالسكون, وكأن الفتح في هذا الموضع أحسن؛ لأن الغريزة تجذب إليه, وهو أقوى في الوزن. ويجوز أن يكون سورات بتحريك الواو وجمع سورٍ, وكذلك قالوا في قول الشاعر: [الطويل] ولما رأونا باديًا ركباتنا ... لدى موطنٍ لا نخلط الجد بالهزل يحتمل أن يكون جمع ركبةٍ إذا فتحت الكاف على مذهب من يقول حجراتٍ, ويحتمل أن يكون جمع ربٍ. وإذا أخذ بهذا القول لم يجز ضم الكاف في ركباتٍ, ولا تسكين الواو في السورات, والمعنى أن الذي حسب العشور غلط في العدد؛ لأن ترتيل هذا الممدوح إذا قرأ السور يجب أن يحسب آيةً, فتكون الآيات العشر بترتيله إحدى عشرة آيةً, وهذا من الغلو الذي يقصده الشعراء, وهو كذب صريح. وقوله: كرم تبين في كلامك ماثلًا ... ويبين عتق الخيل في أصواتها العتق هاهنا: الكرم, وإذا وصفت الخيل بالعتق فإنما يراد كرمها في الجري, وإذا قيل للرجل: عتيق, ذهبوا به إلى حسن الوجه مرةً, وإلى جميع ما يحمد من الخلائق أخرى, قال جميل: [الطويل]

فلو كنت خوارًا لقد باخ ميسمي ... ولكنني صلب القناة عتيق وإذا قيل للشراب: عنيق, فإنما يراد به القدم (34/ب) , والذين يعرفون أمر الخيل بحمدون الحبشة في أصواتها, قال لبيد: [الرمل] بأجش الصوت يعبوبٍ إذا ... طرق الحي من الغزو صهل وقوله: ويبين عتق الخيل في أصواتها, محمول على قول الجعدي: [المتقارب] ويصهل في مثل جوف الطوي ... صهيلًا يبين للمعرب أي: أن الرجل الذي يملك خيلًا عرابًا إذا سمع صوت هذا الفرس بان له عتقه؛ لأنه قد جرب أصوات الخيل وملكها. وقوله: أعيا زوالك عن محل نلته ... لا تخرج الأقمار عن هلاتها يقال: هالة الشمس, وهالة القمرة, وهي الدارة التي تكون حولهما, ويجوز أن يكون اشتقاقها من أنها تهول من رآها بحسنها وضيائها, فلو صغرت على هذا لوجب أن يقال: هويلة. وزعم ابن الأعرابي أن هالة القمر يقفال لها طفاوة, وأنشد: [المنسرح] كأنها البدر في طفاوته ... أو هالة الشمس عند تشريق يقول: فكما أن القمر لا يخرج من هالته فهذا من الممدوح لا يخرج من محله الذي خصه الله به. وقوله: فإذا نوت سفرًا إليك سبقتها ... فأضفت قبل مضافها حالاتها

ادعى أن الرجال إذا أرادوا السفر إليه سبقتهم حالاتهم إلى الممدوح, فأضافها قبل إضافة الرجال التي هي حال لهم, وهذه دعوى باطلة, ولكنه تدقيق في المراد. وقوله: حق الكواكب أن تعودك من علو ... وتعودك الآساد من غاباتها قال: من علو بإثبات الواو على ما حكاه ابن السكيت, ويجوز أن يكون أصحاب النقل رأوا قول الشعراء في القوافي المرفوعة من علو فحملوا ذلك على أن الواو هي الأصلية, وقوى هذا المذهب عندهم أنها مأخوذة من العلو, وأنهم قالوا: جاء الراكب من علو قال الشاعر: شهدت فلم أكذب بأن محمدًا ... رسول الذي فوق السماوات من عل وأن أبا يحيى ويحيى كليهما ... له عمل في دينه متقبل والنحويون يرون أن هذه الواو جاءت للترنم. وقد يمكن أن يكون هذا الحرف جاء شاذًا فوقعت الواو في آخره, وقبلها ضمة. فأما مجيء من علو في نصف البيت الأول فإن كان الحرف شاذًا قد تكلمت به العرب كذلك فلا كلام فيه, وإن كان القول كما ذهب إليه أصحاب القياس فثبات الواو يحتمل وجهين: أحدهما: أنه جعل آخر النصف الأول بمنزلة آخر النصف الثاني؛ لأنه في موضع وقف. والآخر أن يكون أشبع الضمة فصارت واوًا, كما ذهب إليه أبو علي الفارسي في قراءة ابن كثير: {إنه من يتقي ويصبر} , بالياء؛ لأنه يذهب إلي أن هذه الياء ليست الأصلية, وأنها مجتلبة بالكسرة المشبعة.

وكذلك يرى في قول قيس بن زهير: [الوافر] ألم يأتيك والأنباء تنمي ... بما لاقت لبون بني زياد يرى أن الياء في يأتيك ليست التي في قولك هو يأتيك. ويقوى مجيء الواو في قوله من علو في نصف البيت الأول قول بعض العرب في الرفع: قام زيدو, ومررت بزيدي في الخفض. وقوله: والجن من ستراتها والوحش من ... فلواتها والطير من وكناتها يجوز في السترات ما جاز في جيم الحجرات, والضم أجود الوجوه, وكذلك في كاف الوكنات. والوكنة: موقع الطائر, وهو مأخوذ من قولهم: وكن بالموضع إذا أقام به, وفي الحديث: «أقروا الطير على وكناتها» , فسروه على وجهين: أحدهما أنه نهي عن التصيد بالليل, والآخر أنه نهي عن التطير, وهذا كما يقال إذا ذكر بعض الناس في أمرٍ لا يجب أن يذكر فيه دع فلانًا في شغله أو في داره؛ أي: لا تذكره.

ومن أبيات أولها

ومن أبيات أولها فدتك الخيل وهي مسومات ... وبيض الهند وهي مجردات وهي من الوافر الأول على رأي الخليل, ومن السحل الرابع عند غيره, وقافيتها من المتواتر. مسومات: إذا وصفت به الخيل احتمل وجهين: أحدهما أن عليها سيمةً, والسيمة: العلامة. والآخر, وهو المراد في هذا الموضع, أنها المرسلات في الغارة من قولك: خله وسومه؛ أي: وذهابه حيث شاء, فأما قوله تعالى: {والخيل المسومة} فإنما يراد بها المرسلة في الرعي, وقد يجوز أن يعنى بها التي عليها سيمة صاحبها؛ أي علامته. ونسبت السيوف إلى (35/أ) الهند؛ لأنها تعمل في بلادهم كثيرًا, واتسعوا في النسب إليها فقالوا: هندي وهندواني, وقالوا: رجل هندكي, وقوم هنادك, قيل: إنه في معنى هندي, وقال قوم: بل نسب إلى موضع بالهند, أو بالقرب منهم, يقال له هندك. وقالوا: سيف مهند؛ أي: صنعته الهند, أو أنه إذا رئي علم أن الهند صنعوه فقيل: هند؛ إذا حكم له بذلك, كما يقال: فضلت فلانًا إذا زعمت أنه فاضل. ولم يوجد لأبي الطيب على الثاء شيء. * * *

حرف الجيم

حرف الجيم من قصيدة أولها لهذا اليوم بعد غدٍ أريج ... ونار في العدو لها أجيج وهي في الوزن كالتي قبلها. الأريج مثل الأرج, وهو الرائحة الطيبة, وقد قالوا: أرجت النار والحرب؛ إذا أوقدتهما. والأجيج تهلب النار, وصوت وقودها. ويقال: أج الحر إذا اشتد, وأجت الشعرى؛ لأنها تطلع في شدة القيظ, فجعلت الأجة لها. قال الشاعر: [الطويل] فظلت على العذب النقاخ لبونه ... رواءً إذا الشعرى على الهام أجت وقالوا: أججت النار؛ إذا أعظمت وقودها, قال عبيدالله بن الحر الجعفي: [الطويل] متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ... تجد حطبًا جزلًا ونارًا تأججا وقوله: تبيت به الحواصن آمناتٍ ... وتسلم في مسالكها الحجيج الحواصن: جمع حاصنٍ, وهي العفيفة, يقال: حج البيت حجا وحجا, ورجل حاج, ويستعملون الحاج للجماعة, فيقولون: جاء الحاج, وهم يعنون رفقًا كثيرةً؛ أي: جاء الجمع الحاج. وقيل للسنة حجة؛ لأن العرب في قديم الزمن كانت تحج في كل سنة مرةً؛ فسميت

السنة بذلك, وإذا قالوا: قوم حج احتمل وجهين: أحدهما: أن يكون جمع حاج مثل: راكبٍ وركبٍ. والآخر أن يكون مصدرًا اتسع فيه, كما قالوا: قوم زور؛ أي: زائرون, وإذا قيل: حج, والمراد الناس, فهو مصدر وصف به. قال الراجز: كأنما أصواتها في الوادي أصوات حج من عمان غاد وقال جرير: [الكامل] وكأن عافية النسور عليهم ... حج بأسفل ذي المجاز نزول

وقولهم: الحجيج: اسم وضع للجميع, ويجوز أن يكونوا سموا باسم البيت؛ لأنه المحجوج والحجيج. وأصل الحج القصد والزيارة, قال دكين الراجز في صفة الفرس: ظل يحج وظللنا نحجبه وظل يرمى بالحصى مشربه والحج الذي هو من مداواة الجراح راجع إلى معنى القصد, يقال: حججت الجريح فهو محجوج وحجيج, قال أبو ذؤيبٍ: [الطويل] وصب عليها المسك حتى كأنها ... أسي على أم الدماغ حجيج وقوله: عرفتك والصفوف معبآت ... وأنت بغير سيرك لا تعيج يقال: عبأت الشيء وعبيته بالهمز وتركه. وتعيج من قولهم: ما عجت بكذا؛ أي: ما انتفعت به, ولا التفت إليه, أي وأنت لا تحفل بغير السير.

وقوله: ووجه البحر يعرف من بعيدٍ ... إذا يسجو فكيف إذا يموج يقال: سجار البحر إذا سكنت أمواجه, وناقة سجواء إذا كانت تسكن للحلب. وليل ساجٍ؛ أي: ساكن, وطرف ساجٍ, أي: فاتر. قال الراعي: [البسيط] ألا اسلمي اليوم ذات المرط والعاج ... والجيد والنظر المستأنس الساجي ألا اسلمي اليوم ذات المرط والعاج ... والجيد والنظر المستأنس الساجي والسجية: واحدة السجايا, من هذا مأخوذة؛ لأنهم إذا قالوا: سجية الرجل؛ فإنما يريدون حاله التي يثبت عليها. والمعنى أن هذا الممدوح يشبه بالبحر, والبحر معلوم عظمه في حال سجوه, فكيف إذا ماج؟ ! وقوله: بأرض تهلك الأشواط فيها ... إذا ملئت من الركض الفروج والأشواط جمع شوطٍ, يقال: عدا الفرس شوطًا؛ إذا عدا قدرًا معروفًا, ولا حد لذلك, ولكنه غاية بعيدة, ولا يستعملون منه الفعل؛ لا يقولون: شاط الفرس يشوط. وأراد بقوله: تهلك الأشواط فيها: أنها واسعة, فهي تفتي الأشواط, وبعدها غير فانٍ. والفروج: ما بين قوائم الدابة, وإذا تناهو في صفة العدو قالوا: عدا ملء فروجه, كأنه يملؤها بالعدو. وقوله: نحاول نفس ملك الروم منها ... فتفديه رعيته العلوج (35/ب) يقال: حاولت الشيء إذا طلبته, وهو مأخوذ من الحول؛ أي القوة والحركة. والمعنى أني قاويته من القوة؛ لأنظر أهو يغلب أم أنا؟ والعلوجك جمع علجٍ, وهو الغليظ الشديد. وفي حديث علي عليه السلام: «إنكما علجان, فعالجا عن دينكما». ويقال لحمار الوحش: علج؛ إذا وصف بالغلظ والشدة.

قال صخر الغي الهذلي: ولا علجان تنتابان روضًا ... نضيرًا نبته عما تؤاما وقوله: أبالغمرات توعدنا النصارى ... ونحن نجومها وهي البروج الغمرات: الشدائد, والمثل السائر: «الغمرات ثم ينجلين» , وهذا المثل في رجز الأغلب العجلي: [الرجز] الغمرات ثم ينجلينا ... ثم يذهبن فلا يجينا وبروح السماء هي هذه الاثنا عشر برجًا التي أولها الحمل, وآخرها الحوت, والنجوم السبعة السيارة مترددة فيها, فيقول: نحن في الغمرات مثل النجوم في هذه البروج؛ لأنها منازلنا, وهي لنا كالبيوت. وقوله: نعوذه من الأعيان بأسًا ... ويكثر بالدعاء له الضجيج يقال في جمع عين: أعين, وهي اللغة التي جاء بها القرآن في قوله: {على أعين الناس لعلهم يشهدون}.

وقال بعض العرب: الأعيان: كأنهم فروا من ضمة الياء, وأنشد أبو زيد: [البسيط] إما تري شمطًا في الرأس حل به ... من بعد أسود داجي اللون فينان فقد أروع قلوب الغانيات به ... حتى يملن بأجيادً وأعيان وقال آخر: [الطويل] ولكنما أغدو علي مفاضة ... دلاص كأعيان الجراد المنظم والضجيج: ارتفاع الأصوات في دعاءٍ أو تشك. قال الشاعر: [الوافر] دعوتك والحجيج له ضجيج ... بمكة والقلوب لها وجيب وقوله: رضينا والدمستق غير راضٍ ... بما حكم القواضب والوشيج الدمستق: كلمة رومية معربة ولا تعرف في شعرٍ فصيحٍ, وبناؤها على غير بناء العربية؛ لأن تاءها مضمومة, فليس في الخماسية لها نظير, ولو كانت التاء مكسورةً لكان نظيرها من الخماسي قذعملًا ونحوه. وإذا جمعتها الشعراء المحدثون قالوا: دماسق, فحذفوا التاء؛ لأنها من حروف الزوائد, وإن لم يثبت أنها زائدة. وأصحاب التصريف لو جاء اسم على دمستق من العربية لحكموا على تائه بالزيادة, كما حكموا على نون كنهبل؛ إذ كان ليس في الأصول شيء على مثال فرزدقٍ, وقد قالوا في

جمع فرزدقٍ: فرازق, حذفوا الدال, واحتجوا بأنها تشبه التاء, والتاء من حروف الزوائد, فإذا فعلوا ذلك فحذف التاء من دمشق أوجب. والقواضب: جمع قاضبٍ؛ أي: قاطعٍ, وكثر ذلك في صفات السيوف حتى صار لها كالاسم. والوشيج: أصول الرماح. وقوله: فإن يقدم فقد زرنا سمندو ... وإن يحجم فموعده الخليج جاء سمندو على اللفظ الذي تعرفه العامة فأقرها على ما يقال. وبعض الناس يلزمه في هذه الكلمة أن يقلب الواو ياءً؛ لأنها طرف وقبلها ضمة, فيقول سمندٍ في الرفع والخفض جميعًا, ويقول في النصب رأيت سمندي, وقلب الواو ليس باللازم هاهنا؛ لأنه حكى اللفظة على ما هي عليه. ولو سمي رجل «قاموا أو قعدوا» على أنه فعل متأخر قد استكن فيه الضمير لوجب أن تقر الواو على حالها, فيقال: هذا قاموا قد جاء, ورأيت قاموا, ومررت بقاموا. فإن كان الفعل متقدمًا, وقد لحقه علامة التثنية والجمع على مذهب من قال: ألفيتا عيناك, وأكلوني البراغيث, فالنحويون يلحقونه النون, فيقولون في الرفع: هذا قامون, وفي النصب والخفض: رأيت قامين, ومررت بقامين. والخليج: كل ما خلج عن شيء؛ أي: جذب عنه, فيقال لما انقطع من البحر: خليج؛ لأنه كالمجذوب من معظمه, وقالوا للحبل: خليج؛ لأنه يجذب. قال ابن مقبل: [الطويل] وظل يغني في الخليج كأنه ... حصان كميت أحمر اللون أقرح

ويقال: خلج بعينه؛ إذا أشار بها إلى غيره كأن جذبه إليه, قال الراجز: جارية من رهط ذي رعين ... حياكة تمشي بعلطتين حياكة: هي التي تحرك أعضاءها في مشيها. والعلطة: سواد تجعله المرأة على وجهها تتحسن به, وقيل: هي: قلادة. قد خلجت بحاجبٍ وعين ... يا قوم خلو بينها وبيني أشد ما خلي بين اثنين ومن ذلك قولهم اختلج في صدره كذا, وتخالج؛ أي: تجاذب, ويقال للشك: خلاج؛ لأنه كالجذاب بين الأمرين لا يعلم أيهما الصواب. * * *

قافية الحاء

قافية الحاء من التي أولها بأدنى ابتسامٍ منك تحيا القرائح ... وتقوى من الجسم الضعيف الجوارح وهي من الطويل الثاني عند الخليل, وعند غيره من السحل الأول, وقافيتها من المتدارك. القرائح: جمع قريحةٍ, وهي خالص الغريزة, ومنه قولهم: ماء قراح؛ أي: خالص لا يخالطه غيره, وقريحة البئر: أول ما يظهر من مائها. (36/أ) ويقال: فعل ذلك في قرح العشرين؛ يعنون سنيه؛ أي: في أولها. وقولهم للرجل: قرحان؛ إذا لم يصبه جدري ولا طاعون, يريدون أنه خالص الجسد من آثار البثور. والجوارح: جمع جارحةٍ, وأصل الجرح الاكتساب, يستعمل ذلك في اكتساب الذنوب وغيرها, فيقال في اليدين والعينين والرجلين: جوارح, وكذلك الفم والأذن؛ لأن الاكتساب يكون بهن من مأثمٍ وغيره. والجوارح في كتاب الله سبحانه يراد بها ما علم من الكلاب, ويجوز أن تحمل على أنها الكواسب, ويمكن أن تكون من أنها تجرح الصيد؛ أي: تغادر فيه جرحًا, وهذا أشبه. وقوله: وإن محالًا إذ بك العيش أن أرى ... وجسمك معتل وجسمي صالح جعل اسم أن هاهنا نكرةً وخبرها معرفةً, وهو قوله أن أرى. والمعنى أن محالًا رؤية الناس إياي وجسمك معتل وجسمي صالح؛ أي: معافىً. وقد يجوز أن يحسب هذا من الضرورات, وهو أقل مؤونةً من كون خبر كان معرفةً, وكون اسمها نكرةً؛ لأن اسم إن في حال التعريف والتنكير لا يكون إلا منصوبًا, وإذا قلت: كان زيد قائمًا, ثم قلت في الضرورة: كان زيدًا قائم, فقد تغير اسم كان عن حال الرفع. وقوله: وما كان ترك المدح إلا لأنه ... تقصر عن وصف الأمير المدائح المدائح: جمع مديحةٍ, وإنما المدح للرجل, فيجوز أن يكون قولهم: مديحة في معنى مادحةٍ, كما يقول: عالمة وعليمة, واتسع في ذلك فنقل من الرجل إلى القصيدة, ويحتمل

ومن أبيات أولها

أن تكون فعلية في معنى مفعولةٍ؛ فهي منقولة عن ممدوح بها إلى مديحهٍ؛ واستغنوا عن حرف الخفض لكثرة الاستعمال, وكأنها موضوعة موضع المصدر, وقالوا للمدائح: أماديح. قال الهذلي: لو كان يثني المديح الموت عن أحدٍ ... أحيا أباكن يا ليلى الأماديح وقولهم: مدحت الرجل, إنما يريدون وسعت أمره, وعظمت شأنه. ومن أبيات أولها وطائرةٍ تتبعها المنايا ... على آثارها زجل الجناح وهي من الوافر الأول على رأي الخليل, ومن السحل الرابع على رأي غيره, وقافيتها من المتواتر. الزجل: شدة الصوت وتتابعه, وإن كان قول العامة للإناء: زنجلةً عربيًا, فاشتقاقه من الزجل والنون زائدة؛ لأنها إذا قرعت لم ينقطع الصوت كانقطاعه إذا ضرب الحجر بمثله, أو بعصًا, وإذا رفع زجل الجناح فقد تم الكلام في النصف الأول, ويرفع زجل على الابتداء, وفي مذهب سعيد بن مسعدة بالاستقرار ونحوه, وعلى رأي الكوفيين لأنه خبر الصفة, وإذا نصب زجل الجناح فالمنايا فاعلة, وقع فعلها على زجل الجناح. وقوله: كأن رؤوس أقلامٍ غلاظًا ... مسحن بريش جؤجؤه الصحاح الجؤجؤ: عظام الصدر, والصحاح في معنى الصحيح, وقد يستعمل الصحاح في معنى الصحة. وروي عن الأصمعي أنه رأى شيخًا من الأعراب قدامه حمولة داخلًا إلى البصرة وهو يقول:

يا أيها المضمر همًا لا تهم ... إنك إن تقدر لك الحمى تحم قد قضي الأمر وقد جف القلم ... وخط أيام الصحاح والسقم وقوله: فأقعصها بحجنٍ تحت صفرٍ ... لها فعل الأسنة والرماح أقعصها؛ أي: قتلها قتلًا وحيًا, وبعض الروايات في قوله النابغة: لما رأى واشق قدحان صاحبه ... ولا سبيل إلى عقلٍ ولا قود إقعاص صاحبه في موضع قدحان صاحبه, والحجن: جمع أحجن, وهو الذي فيه انعطاف, ويقال: إن الهلال يسمى حجينًا لانعطافه. وقوله: فقلت لكل حي يوم سوءٍ ... وإن حرص النفوس على الفلاح حرص, بفتح الراء: اللغة الفصيحة. والفلاح والفلح: البقاء, قال لبيد: نحل ديارًا كلها حل قبلنا ... ونرجو الفلاح بعد عادٍ وحمير

ومن بيتين أولهما

وهو الفلح أيضًا. قال الأعشى: [الرمل] فلئن كنا كناسٍ هلكوا ... ما لقومٍ يا لقومٍ من فلح وكثرت هذه الكلمة, فيقال لمن أقبل في دنياه: قد أفلح, ولمن خاب في الحاجة: ما أفلح فلان, وأما قولهم للسحور فلح فيراد أنه خير يصاب؛ لأنه يؤدي إلى قوةٍ وصبرٍ على الصوم, وهو من قولهم للرجل إذا ظفر: قد أفلح. ومن بيتين أولهما (36/ب) يقاتلني عليك الليل جدا ... ومنصرفي له أمضى السلاح وهما في وزن التي قبلها. يقول: إن الليل يمنعني من لزوم مجلسك؛ لأني أفتقر إلى النوم كغيري من الناس, وأوثر التخفيف عنك فأقلق لذلك. وقوله: منصرفي في معنى انصرافي, وإذا بلغ الفعل الماضي أربعة أحرفٍ فما زاد استوى فيه المصدر, واسم الزمان, واسم المكان. وإذا كان الفعل متعديًا ساوت هذه الأشياء لفظ المفعول, فالمنصرف يقع على المصدر, وعلى الموضع الذي ينصرف فيه, وعلى الوقت الذي يقع فيه ذلك. وانصرف فعل لا يتعدى إلى مفعولٍ, ولو بني مثل هذه الأشياء من اجتذب ومثله فيما هو على أربعة أو أكثر استوت فيه الأشياء الأربعة: المصدر والزمان والمكان والمفعول, فتقول: هذا حبل مجتذب, وعجبت من مجتذبي حبلك؛ أي: اجتذابك, وهذا مجتذب حبلك؛ أي: الموضع الذي اجتذب فيه, والوقت الذي كان فيه من الاجتذاب. وقوله: لأني كلما فارقت طرفي ... بعيد بين جفني والصباح

ومن أبيات أولها

يجوز رفع بين ونصبه, والرفع أقوى عند البصريين, وهذا مثل قوله: {لقد تقطع بينكم} , يجعلون بين فاعلًا, ويكون في بيت الطيب مبتدأً, ويجوز نصبه على إضمار فاعل كأنه قال: يبعد وقت بين جفني والصباح؛ أي: إذا فارقتك لم أنم. وأجاز قوم نصب بين في مثل هذا الموضع على إضمار ما كأنه قال: بعيد ما بين جفني. وهذا البيت ينشد على وجهين: [الطويل] يديرونني عن سالمٍ وأديرهم ... وجلدة بين الأنف والعين سالم الأجود خفض بين, ويجوز نصبها في رأي من أجاز حذف ما, وهي في معنى الذي أو التي, وذلك مذهب كوفي. ومن أبيات أولها جارية ما لجسمها روح ... في القلب من حبها تباريح وهي من ثاني المنسرح إذا حملت على رأي الخليل, ولم يذكر هو ذلك, ولكن غيره

قد أنشد فيه أبياتًا, وصاحب السحل يجعلها من الطلق السادس, وقافيتها من المتواتر. يقال: جارية بينة الجراء والجراء. قال الأسود بن يعفر, ويروى للأعشى: [الكامل] والبيض قد عنست وطال جراؤها ... ونشأن في قن وفي أذواد وإنما يريدون بالجارية الشابة التي تخف في الحوائج؛ أي: تجري فيها, ويقولون للطفلة وهي في بطن أمها وحين توضع: جارية, كما يقال للطفل: غلام. ومن ذلك قول الزبرقان بن بدرٍ في صفة كنائنه: «أبغض كنائني إلي التي في بطنها جارية, وفي حجزها جارية, وتتبعها جارية». وهذا الاسم يقع على الحرة والأمة, كما أن الغلام يقع على الصنفين, قال عنترة: [الكامل] فبعثت جاريتي وقلت لها اذهبي ... فتحسسي أخبارها لي واعلمي ويجوز أن يقال لها بعدما تسن: جارية, أي: التي كانت كذلك. والتباريح: جمع تبريحٍ, من قولهم: برح به الأمر؛ أي: اشتد عليه, ويقال: لقي منه أمرًا برحًا, أي: شاقًا, وقالوا للداهية: بنت برحٍ, ويقولون في كلامهم: بنت برحٍ شرك على رأسك, يريدون بذلك الداهية.

ومن أبيات أولها

ومن أبيات أولها أباعث كل مكرمةٍ طموح ... وفارس كل سلهبةٍ سبوح وهي من الوافر الأول على رأي الخليل, ومن السحل الرابع على رأي غيره. الطموح: التي تطمح في السير وتبلغ أمدًا بعيدًا, ومنه الطماح في الخيل, وذلك إذا غلبت فوارسها على رؤوسها وتمادت في العدو, ومنه قول امرئ القيس: [الطويل] لقد طمح الطماح من بعد أرضه ... ليلبسني من دائه ما تلبسا وقوله: وطاعن كل نجلاءٍ غموسٍ ... وعاصي كل عذالٍ نصيح النجلاء: الطعنة الواسعة, قال العجاج: [الرجز] نطعنه نجلاء فيها ألمه ... كمرجل الصباغ جاش بقمه والغموس: البعيدة القعر, قال الأفوه: [السريع] وفرجوا الهبوة عن مذحجٍ ... بكل نجلاء فري غموس والعرب تصرف ما لا ينصرف في الضرورة, مثل: مساجد, وعمر, وأفعل, وقلما يصرفون فعلاء, مثل: نجلاء وحمراء.

وقوله: سقاني الله قبل الموت يومًا ... دم الأعداء من جوف الجروح جوف: جمع أجوف, وهو الواسع الجوف من جميع الأشياء, والجروح: جمع جرحٍ, وذكر سيبويه أنهم لم يقولوا أجراح (37/أ) في أدنى العدد, وإنما يحمل هذا القول على أن أجراحًا غير كثير الاستعمال, وقد أنشد أبو زيد هذا البيت, وهو لعبدة بن الطبيب: حتى تصرعن من حيث التبسن به ... مخرجاتٍ بأجراحٍ ومقتول والعرب تقول: شربنا دماء بني فلانٍ؛ أي: قتلناهم, ولا يريدون أنهم يشربون الدم للغيظ, ولكنهم يعنون أنهم لما قتلوهم اشتفت صدورهم, فكأنهم نقعوا بالشراب. ولا يمتنع أن يكون بعض العرب في الجاهلية قد شرب من دم ثأره؛ لأنهم يروون أن هند ابنة عتبة أرادت أكل كبد حمزة بن عبد المطلب, أو أكلتها لشدة حنقها عليه, فيقال: إنها جفت عن مضغها, والله أعلم بهذا الحديث. وهذا البيت يروى لعمرو بن الأيهم التغلبي: [الوافر] شربنا من دماء بني سليمٍ ... بأطراق القنا حتى روينا

فأما قول الآخر: شربت دمًا إن لم أرعك بضرةٍ ... بعيدة مهوى القرط طيبة النشر فيحتمل وجوهًا, منها: أن يكون حلف بهذه اليمين؛ لأن الدم تعافه النفس؛ فكأنه قال: أكلت ميتةً إن لم أفعل كذا. وقيل: إنه أراد دم الحية؛ لأنه عنده سم. وقد جاء في دعائهم: سقيت دم الحيات, وسقيت دم الأساود. وفيه وجه ثالث, وهو أحسنها: وذلك أن يكون أراد: قتل لي قتيل فأخذت ديته إبلًا, فشربت لبنها, فكأني شربت دم ذلك القتيل. ومنه قول الشاعر: أبا العوف إن الإبل ينقع رسلها وكان دم الثأر النميري أنقعا تبكي على ريا إذا الحي أصعدوا ... وتترك ريان القتيل المضيعا إذا صب ما في الوطب فاعلم بأنه ... دم الشيخ فاشرب من دم الشيخ أو دعا ونحو منه قول الآخر: فإن دمًا بالجزع جزع شمابثٍ ... إذا حلبت منها لبون تضورًا ونحو من ذلك قول القائل: فظل يضوز التمر والثوب ناقع ... دمًا مثل لون الأرجوان سبائبه

ومن التي أولها

يصف رجلًا أخذ الدية تمرًا فكأنه يشرب الدم فيجري على ثوبه. ويقولون: شربت بنو فلان دماءنا؛ أي: قتلت منا رجالًا. قال الشاعر: [الطويل] لقد شربت منا عبادة مشربًا ... دمًا طيبًا يا ويحه أي مشرب دمًا مثل ماء المزن إن فات فاتنا ... حميدًا وإلا ينفد الدهر يطلب ومن التي أولها أنا عين المسود الجحجاح ... هجنتني كلابكم بالنباح وهي من الخفيف الأول على رأي الخليل, ومن الطلوق على رأي غيره. الجحجاح: السيد الشجاع, قال الراجز: نحن قتلنا الملك الجحجاحا ولم ندع لسارحٍ مراحا وهجنتني؛ أي: جعلتني كالهجين, ولم يكن حقها أن تنبح مثلي. وقوله: أيكون الهجان غير هجانٍ ... أو يكون الصراح غير صراح الهجان: الأبيض في الأصل, ثم قيل للكريم: هجان؛ لأن السادات يحمدون بأن لا تلدهم الإماء السود, فيؤثر ذلك في الألوان, قال الشاعر يصف الشباب وما بعده من التكهل والمشيب:

سوداء حالكةً وأخرى بعدها ... وأجد لونًا بعد ذاك هجانا فأما قول الآخر: [الوافر] هجان اللون كالذهب المصفى ... صبيحة ديمةٍ يجنيه جان أراد أن لونه خالص, وأنه في النسب كالذهب الخالص, ولم ير كأن لونه كلون الذهب. وقال آخر في أن الهجان السيد: [الخفيف] وإذا قيل: من هجان قريشٍ ... كنت أنت الفتى وأنت الهجان والهجان: يستعمل للواحد والاثنين والجميع على لفظٍ واحدٍ, وقالوا: هجائن المنذر لإبلٍ بيضٍ كانت له, فجاؤوا بهذه الكلمة مجموعة. فأما الهجين المذموم فهو الذي أبوه أشرف من أمه. ومنه قول عنترة في رجزٍ له: [مجزوء الرجز] أنا الهجين عنتره والصراح يستعمل بكسر الصاد وضمها في صفة الشيء الخالص, والضم أحسن في مثل هذا الموضع؛ لأن فعيلًا وفعالًا يتواخيان, ويقال: طويل وطوال, وجسيم وجسام.

ومن التي أولها

ومن التي أولها جللًا كما بي فليك التبريح ... أغذاء ذا الرشأ الأغن الشيح وهي من الكامل الثاني على رأي الخليل, ومن السحل الثاني على رأي غيره. الجلل: من الأضداد, يكون في معنى الصغير والكبير, فإذا استعمل في معنى الصغر فمنه الجلة, التي يراد بها البعر, والجليل (37/ب) الذي هو الثمام. قال الشاعر في الجلل إذا كان في معنى الصغير الهين: كل رزء ما أتاني جلل ... غير ما جاء به الركب ثنى وقال آخر في أن الجلل العظيم: [الكامل] فلئن عفوت لأعفون جللا ... ولئن سطوت لأوهنن عظمي وحذف النون من (تك) في مثل هذا الموضع يذكر سيبويه أنه لا يجوز؛ لأنه يذهب إلى أن النون تحذف في حال السكون مثل قولك: لا يك فعلك ذميمًا؛ لأن النون إذا ظهرت فهي ساكنة, فإذا وجب تحريكها في بعض المواضع لم يجز حذفها, وقد جاءت أشياء من حذفها في موضع التحريك. أنشد أبو زيد: [الوافر] لم يك الحق على أن هاجه ... رسم دارٍ قد تعفت بالسرر

فلو ظهرت النون هاهنا لقيل: لم يكن الحق, وفي بعض الرجز القديم: ومن يك الدهر له بالمرصد وهذه النون إذا حذفت شبهوها بالتنوين, وهي أشد قوةً منه؛ لأنها من نفس الكلمة, والتنوين زائد, وقد أنشد سيبويه بيتًا, وحذفت فيه نون لكن في الموضع الذي يجب فيه تحريكها؛ وذلك قول النجاشي: [الطويل] فلست بآتيه ولا أستطعيه ... ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل ولو ظهرت النون لقيل: لكن اسقني. فأما الفراء فيذكر أن قولهم: (لاك) لغة في لكن, فإذا حمل بيت النجاشي على ذلك فلا ضرورة فيه. والأغن من الظباء: الذي في صوته غنة, قال الشاعر: [مجزوء الوافر] غزال ما رأيت اليو ... م في دار بني كنه غضيض الطرف مكحول ... وفي ألفاظه غنه فهذا يصف امرأة شبهها بالغزال الأغن. وقوله: لعبت بمشيته الشمول وجردت ... صنمًا من الأصنام لولا الروح

الشموم: من صفات الخمر, سميت بذلك لأنها تشمل برائحتها, وقيل: بل شبهت بالشمال من الريح؛ لأنها تعصف باللب كعصفة الشمال. وقالوا: رجل مشمول الخلائق؛ أي: محمودها, كأنهم شبهوها بالشمول من الراح. وقالوا مشمول الخلائق في الذم, كأنهم جعلوها مأخوذة من الشمال؛ لأنهم لا يحمدونها؛ إذ كانت تفرق السحاب. وقد ذكر ذلك ابن السكيت في الأضداد. وقوله: جردت صنمًا؛ أي: أزالت الريح عنه لباسه. وقوله: ما باله لاحظته فتضرجت ... وجناته وفؤادي المجروح التضرج: حمرة ليست بالشديدة, ويقال: ضرج فلان بالدم؛ إذا جرح فسال الدم عليه, وكأنهم يريدون سيلانًا لا يعم الجسد, بل يكون في جانبٍ, قال عقيل بن علفة: إن بني ضرجوني بالدم ... شنشنة أعرفها من أخزم من يلق أبطال الرجال يكلم وقالوا: انضرجت العقاب؛ إذا تدلت في شق. قال امرؤ القيس: [الطويل] كتيس الظباء الأعفرا نضرجت له ... عقاب تدلت من شماريخ ثهلان وقالوا: فرس إضريج, كأنه ينضرج بالشد؛ أي: يأخذه في جانبٍ, أو يكون من قولهم: انضرج الطريق؛ إذا انشق واتسع, قال أبو دؤاد الإيادي: ولقد أغتدي يدافع ركني ... أجولي ذو ميعةٍ إضريج

وقوله: ورمى وما رمتا يداه يداه فصابني ... سهم يعذب والسهام تريح يقول: رماني بسهم عذبني ولم يقتلني, والسهام تريح؛ أي: بعضها يصمي الرمية, وهذا نحو من قوله النابغة: [الكامل] في إثر غانيةٍ رمتك بطرفها ... فأصاب قلبك غير أن لم تقصد والمشهور من كلامهم: أصابه السهم, وقد حكي: صابه, فإن أخذ من قولهم: صابتهم السحابة؛ إذا أمطرتهم, فهو من ذوات الواو؛ لأنهم يقولون: صاب المطر يصوب, وقد حكي: صاب السهم يصيب. وقوله: قرب المزار ولا مزار وإنما ... يغدو الجنان فنلتقي ويروح الجنان: القلب, سمي بذلك لاستتاره في الجسد, وكل كلمة في كلامهم مبنية من جيم ونون مشدودة فهي مأخوذة من: جننت الشيء؛ إذا سترته, فيجوز أن يعني غدو قلبه دون قلب صاحبه, ويحتمل أن يعني القلبين معًا؛ لأن الجنان يحتمل في هذا الموضع أن يعنى به الواحد والاثنان, وقالوا: جنان الليل, وجنونه, يعنون ظلامه؛ لأنه يستر, فهذا ضدر قولهم للقلب: جنان؛ لأن القلب سمي بذلك من قبل استتاره, وبيت دريدٍ ينشد على وجهين: فلولا جنان الليل أدرك ركضنا ... بذي الرمث والأرطى عياض بن ناشب ويروى: جنون الليل.

وقوله: لما تقطعت الحمول تقطعت ... نفسي أسىً وكأنهن طلوح (38/أ) الحمول هاهنا: القوم المتحملون, والحمول في غير هذا هي الأحمال. والحمولة: الإبل التي تحمل. وقوله: تقطعت الحمول؛ أي: سبق بعضها بعضًا. والشعراء المتقدمون يشبهون الحمول السائرة بالنخيل والدوم. والطلوح هاهنا: جمع طلحٍ من الشجر, ولو ادعي أن الطلوح هاهنا طلحٍ, وهو المعيي, لم يبعد ذلك, ويكون المعنى أن النساء المحمولات على الإبل قد أثقلنها لعظم أجسامهن. وكان أبو الطيب مولعًا بمثل هذه الصفة, من ذلك قوله: تشكو روادفك المطية فوقها ... شكوى التي وجدت هواك دخيلًا والقول الأول أشبه. وقوله: وجلا الوداع من الحبيب محاسنًا ... حسن العزاء وقد جلين قبيح المحاسن: جمع لا واحد له من لفظه, وقياسه أن يقال: محسنة أو محسنة, كما يقال: متشرقة ومشرقة, ولكن ذلك غير معروف. والعزاء يستعمل في معنى حث من أصيب على حسن الصبر, وهو مأخوذ من قولهم: عزوت الحديث والنسب إذا رفعته, كأنهم يريدون أن العزاء يرفع من قد خفضته المصيبة. وقوله: فيد مسلمة وطرف شاخص ... وحشًى يذوب ومدمع مسفوح يقال: سفحت الماء والدمع, وسفكت الدم. والمدمع: الموضع الذي يجري فيه الدمع, وهذا كما يقال: سفح الوادي؛ أي: سال فيه الماء المسفوح, ويقال: سفح الدمع وسفحه الباكي. ومنه قول كثيرٍ: [الكامل]

لعزة هاج القلب فالدمع سافح ... مغانٍ ورسم قد تغير ماصح وسمي السفاح التغلبي لأنه أراق ماء المزاد. قال الأخطل يفتخر بذلك: [الكامل] وأخوهم السفاح ظمأ خيله ... حتى وردن جبا الكلاب نهالا وأما السفاح من بني العباس فإنما سمي بذلك لكثرة ما سفح في أيامه من الدم. واستعملوا هذه اللفظة في الدماء؛ لأنهم أرادوا أنها تسيل كما يسيل الماء إذا سفح. وقوله: يجد الحمام ولو كوجدي لانبرى ... شجر الأراك مع الحمام ينوح هذه مبالغة في صفة الوجد, وهو من الدعوى التي تستحسنها الشعراء, وليس فيها مخلص من الكذب. وأصل النوح: التقابل, كذلك يزعم أصحاب اللغة, إلا أنهم أخرجوا هذه الكلمة إلى الصوت الذي يبين فيه وجد وتحزن وإن لم تكن ثم مقابلة بين اثنين. والعرب تصف الحمام تارة بالنياحة, وتارةً بالغناء. قال الشاعر: ألا يا غراب البين إلفك حاضر ... وغصنك مياد ففيم تنوح

وأكثر ما يستعملون النوح في الحمام ثم في الغربان. فأما نوح - عليه السلام - فهو اسم أعجمي إلا أنه وافق هذا اللفظ العربي. وقالوةا في الجمع: نوح, كما قالوا: تاجر وتجر, وصاحب وصحب. وقوله: وأمق لو خدت الشمال براكب ... في عرضه لأناخ وهي طليح الأمق هاهنا: مكان واسع بعيد الأطراف. قال امرؤ القيس: [الوافر] وخرقٍ تهلك الأرواح فيها ... أمق الطول لماع السراب ويقال: فرس أمق, والأنثى مقاء, قيل: هو الطويل القوائم. وقيل: هو المتباعد ما بين الفروج, ويزعمون أن جيشًا من العرب هزم, فتسرع شيخ من الفل فاجتمعت إليه جواري الحي يسألنه عن آبائهن, فقال: صفن لي خيل آبائكن لأخبركن عنهم, فقالت إحداهن: كان أبي على شقاء مقاء طويلة الأنقاء تمطق أنثياها بالعرق تمطق الشيخ بالمرق, فقال: نجا أبوك, وقالت أخرى: كان أبي على قصيرٍ ظهرها, رحيب صدرها, هاديها شطرها, فقال: سلم أبوك, وقالت أخرى: كان أبي على ضئيلةٍ أنوحٍ, يكفيها لبن لقوحٍ, فقال: قتل أبوك. فلما قدم الفل وجد الأمر كما ذكر ذلك الشيخ. يعني بالأنثيين الأذنيين, يريد أنها لا تعرق سريعًا, ولا يبطئ عرقها في الجري, كأنها في ذلك متوسطة بين الأمرين. وأنوح من قولهم: أنح بالحمل, إذا أخرج صوتًا من صدره كالنحيم. واستعار الخدي للشمال, وإنما هو للمطية من الإبل. ومن روى في عرضه, بفتح العين, وهو حسن صواب, إلا أن العرض, بضم العين, أبلغ في مذاهب النظم؛ لأن العرض خلاف

الطول, والعرض: الناحية, وكلما ضاق الموضع (38/ب) كان أشد في المبالغة. والطليح: المعيي, يقال: طلحت الناقة فهي مطلحة وطليح. وزعم قوم أن الطليح لا تستعمل إلا في الإناث, وربما جاء في الذكور, وقد استعملها الهذلي في صفة الرجل فقال: [المتقارب] بعيد الغزاة فما إن يزا ... ل مضطمرًا طرتاه طليحا وقوله: لولا الأمير مساور بن محمدٍ ... ما جشمت خطرًا ورد نصيح في جشمت ضمير يعود على قلص الركاب. يقال: جشمت الأمر وتجشمته؛ إذا تكلفته على مشقةٍ, وتجسمته إذا ركبت جسيمه, ومنه سمي الرجل جشم, أرادوا أنه يجشم الأمور. وقوله: شمنا وما حجب السماء بروقه ... وحرى يجود وما مرته الريح يقال: هو حري بذاك, كما يقال: هو جدير به. والمعنى: وحرى أن يجود, فحذف أن للضرورة, يقال: حرى وحري, فإذا شددت الياء ثني وجمع؛ لأنه ليس بمصدرٍ. وإذا قيل حرًى لم يثن ولم يجمع, واستعمل للمذكر والمؤنث على جهةٍ واحدة. قال الشاعر: [الطويل] وهن حرى ألا يثبنك نقرةً ... وأنت حرًى بالنار حين تثيب وقوله: حنق على بدر اللجين وما أتت ... بإساءة وعن المسيء صفوح

البدر: جمع شاذ؛ لأن فعلة يجب أن تجمع على فعالٍ, مثل: جفنةٍ وجفانٍ, وصحفةٍ وصحافٍ, إلا أنهم استعملوا هذا الحرف على فعل, وكأنهم حذفوا الألف من قولهم: بدار لما كانوا يقولون بادرته بدارًا, فأرادوا الفرق بين الجمع والمصدر, وقالوا في الواحد: بدر, كما يقولون: بدرة, قال المثقب العبدي: [السريع] قالت ألا لا يشترى داؤكم ... إلا بما شئنا ولم يوجد إلا ببدري ذهبٍ خالصٍ ... كل صباحٍ آخر المسند واللجين: من أسماء الفضة, وهو من المصغرات التي لا مكبر لها, مثل الكميت والثريا من النجوم. وقيل: إنها كلمة ليست بالعربية, إلا أنهم قد تكلموا بها قديمًا. قال عبيد بن الأبرص: [الوافر] فإن يك فاتني ومضى شبابي ... وأضحى عارضيؤ مثل اللجين وقوله: ألغت مسامعه الملام وغادرت ... سمةً على أنف اللئام تلوح ألغيت الشيء إذا أهملته, قال ابن أحرم, وذكر إبلًا: يظل رعاؤها يلغون منها ... وإن عدت نظائر أو جمارا وقيل للكلام الذي ليس بمحمودٍ: لغو؛ لأنه لا يبلغ أن يكون جارًا للمآثم, فكأنه قد

أسقط. وقال في أنف اللئام فوحد, وهذا كما قال الراجز: إن تقتلوا اليوم فقد سبينا في حلقكم عظم وقد شجينا يريد بقوله: سبين, النساء؛ لأنه زعم أنهم قتلوا منهم, فسبوا نساءهم جزاءً على ذلك, ولا يحتمل أن تكون الألف في سبينا يريد بها أنفسهم, وإنما هي للإطلاق, وهذا على رواية من روى: إن تقتلوا منا. ومن روى إن تقتلوا اليوم فالنون للمذكرين المتكلمين. وقوله: وعلى التراب من الدماء مجاسد ... وعلى السماء من العجاج مسوح المجاسد: ثياب مصبوغة بالجساد, وهو الزعفران, ويقال له أيضًا: الجسد, والجسد, وواحد المجاسد مجسد ومجسد, وهما سواء في قول بعضهم. قال قوم: المجسد: المصبوغ بالجساد, والمجسد: بكسر الميم, هو الثوب الذي يلي الجسد, قال الشاعر: كأن ذات العرش لما بدت ... خريدة بيضاء في مجسد يعني بذات العرش الثريا. والمسوح: جمع مسحٍ, وقد جرت عادته أن يكون أسود؛ لأنه يتخذ من الشعر, يقال في الجمع القليل: أمساح, وفي الكثير: مسوح, قال الشاعر: صبغ الهواجر لونها فكأنما ... تجتاب فوق جلودها الأمساحا

وقال أبو النجم: [الرجز] جونًا كأن العرق المنتوحا ... جللها القطران والمسوحا وقوله: يخطو القتيل إلى القتيل أمامه ... رب الجواد وخلفه المبطوح المبطوح: الذي يلقى على وجهه, هكذا يستعمل في بني آدم, فأما قولهم لبطن الوادي: أبطح وبطحاء, إذا كان فيه رمل أو حصًى صغار, فإنما يريدون به السعة والانبساط, وقال ذو الرمة: [الطويل] ولا زال من نوء السماك عليكما ... ونوء الثريا باكر يتبطح أي: ينبسط في الأرض, والهاء في قوله: أمامه, راجعة على الممدوح, يريد أن قدامه قرنًا يقاتله, والقرن فارس؛ لأنه رب جوادٍ, رب الشيء مالكه, وخلفه مقتول قد بطح على وجهه. وهذا مبالغة في صفة الشجاعة. وقوله: (39/أ) فمقيل حب محبه فرح به ... ومقيل غيظ عدوه مقروح أصل المقيل: الموضع الذي يثبت فيه الشيء, فيقال: الهامة على مقيلها؛ أي: على العنق, قال الراجز: نحن ضربناكم على تأويله ... كما ضربناكم على تنزيله

ضربًا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله ثم صار الناس يقولون: قال في الهاجرة؛ إذا أقام فيها, ولم يتعرف أنائمًا كان أم يقظان, قال عمر بن أبي ربيعة: [الخفيف] عرجي ساعةً كما عرج الظل وقيلي هذا أوان المقيل ويقولون: جئناه وقت القائلة؛ أي: وقت قيل القوم الذين يقيلون, والجماعة التي تقيل, وهذا أشبه من أن تكون القائلة في معنى المصدر كمكا جاء في الكتاب العزيز: {ليس لوقعتها كاذبة} , وسمي الشراب الذي يشربه القائل قيلًا على المجاز والاتساع. ومقروح؛ أي: مجروح. والمقيل في هذا البيت يراد به سواد القلب؛ لأنه حيث تكون المحبة والبغضاء. وقوله: يابن الذي ما ضم برد كابنه ... شرفًا ولا كالجد ضم ضريح يقال للذي يشق في وسط القبر ضريح وضريحة, فإذا كان الشق في جانب القبر فهو لحد. وكان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم رجلان في المدينة أحدهما يضرح والآخر يلحد, فلما توفي صلى الله عليه قال الذين ولوه: أيهما جاء قبل صاحبه آثرناه على صاحبه, فجاء الذي يلحد, فألحد عليه السلام. وقوله: نفديك من سيلٍ إذا سئل الندى ... هولٍ إذا اختلطا دم ومسيح قوله: اختلطا دم, ومسيح جاء الضمير قبل الذكر, وهو مثل قوله: رمتا يداه. وليس قوله اختلطا في هذا الموضع كقوله: المسيح والدم اختلطا؛ لأن الفعل إذا تأخر استكن فيه الضمير فتكون الألف دالةً عليه.

وإذا تقدم الفعل وجاءت علامة التثنية فلا ضمير, وإنما الألف علامة الاثنين. والمسيح: العرق, وإنما سمي مسيحًا؛ لأنه يمسح عن الجسد, فكأنه فعيل في معنى مفعولٍ. قال الراجز: يا ريها إذا بدا مسيحي ... وصار ريح العنبلي ريحي ويقال: إن العنبلي هاهنا الزنجي, والأصل أنه منسوب إلى العنبلة, وهي مدقة يدق بها الزرع, يراد أنه غليظ جاف. وقوله: لو كانت بحرًا لم يكن لك ساحل ... أو كنت غيثًا ضاق عنك اللوح ساحل البحر: عربي صحيح, فقيل: إنه في معنى مسحولٍ, كأن الماء يسحله؛ أي: يقشره, وقيل: بل سمي ساحلًا لأن المراد في الأصل الماء الذي يسحل التراب, ثم كثر الكلام في ذلك حتى جعل البر الذي يلصق بالبحر ساحلًا, والجمع: سواحل. قال النابغة: [الطويل] لعمر بني البرشاء ذهلٍ وقيسها ... وشيبان حيث استبهلتها السواحل واللوح: الهواء الذي بين السماء والأرض, يقال: إنه سمي لوحًا لأن الأنواء تلوح فيه. وقوله: إن القريض شج بعطفي عائذ ... من أن يكون سواءك الممدوح شجٍ؛ أي: غصان, والناس يختلفون في قوله: «ويل للشجي من الخلي» , فأحمد

ابن يحيى يختار تخفيف الياء, وغيره ينكر ذلك ويختار التشديد, وليس هذا المثل مما يليق به الغصص, والأشبه أن يكون الشجي مشددًا من قولهم: شجاه الأمر؛ إذا حزنه, فهو مشجو وشجي, ويكون شجي في المثل فعيلًا في معنى مفعول. والعطف: كل موضعٍ ينعطف من الجسد, وقد مر ذكره. وسوى إذا فتح أولها مدت, والبصريون يرون أن انتصابها كانتصاب الظروف, وغيرهم يذهب إلى أنها جارية مجرى غير. وكان سيبويه يجعل من الضرورات قول الشاعر: [الطويل] ولا ينطق الفحشاء من كان منهم ... إذا جلسوا منا ولا من سوائيا وكذلك يرى في قول الأعشى: تجانف عن جو اليمامة ناقتي ... وما قصدت من أهلها لسوائكا كأنه يرى أن دخول من واللام عليها ضرورة؛ لأنها أخرجت من الظروف إلى حال الأسماء لإدخال الجار عليها. * * *

حرف الدال

حرف الدال من التي أولها ما سدكت علة بمورود ... أكرم من تغلب بن داوود سدك بالشيء إذا لزمه, والمورود الذي به ورد الحمى. وداوود اسم أعجمي وهو يوافق فاعولًا من داد الطعام يدود. ومن هذا اللفظ اشتقاق دؤادٍ, وهو عربي صحيح. ومن أقدم الأسماء قولهم دؤاد لابن أبي دؤاد الشاعر, وله يقول أبوه: [الكامل] ولقد تركت بها دؤادًا نائمًا ... فالقلب مما قد عناه مريض ويقال: إن الدؤاد داء يصيب الجسد (39/ب) وقد كان في العرب المتقدمين ملك يقال له داوود, وكان نصرانيًا, وكأنه سمي بهذا الاسم لما قرأ أهله الزبور, وهو داوود بن مندله, ويجوز أن يكون الذي عناه عامر بن جوينٍ في قوله: [الطويل] فآليت لا أعطي مليكًا مقادةً ... ولا سوقةً حتى يعيش ابن مندله

وقوله: بعد عثار القنا بلبته ... وضربه أرؤس الصناديد واحد الصناديد صنديد, وإذا حمل على الاشتقاق وجب أن يكون من صد يصد, كأنهم يريدون أنه يصد الأعداء, ونوائب الدهر, فالنون على هذا زائدة, وهو على فنعيلٍ, ولم يستعملوا الصند فيحمل على أنه فعليل من ذلك؛ لأنهم لم يقولوا صند, ولا استعملوا ذلك في فعلٍ ولا اسمٍ, وقالوا في اسم جبلٍ صندد, وقيل صندد فيجب أن يكون من الصد أيضًا؛ لأنهم لو بنواة اسمًا على فنعلٍ أو فنعلٍ من عد يعد لقالوا: عندد وعندد, وقالوا لشدائد الدهر: صناديد؛ لأنها تصد الإنسان عن الغرض. وقوله: وخوضه غمر كل مهلكةٍ ... للذمر فيها فؤاد رعديد الذمر: الشجاع. يقال: ذمرته على كذا إذا احثثته عليه, فكأن الذمر يحث نفسه على الشجاعة أو يحثه غيره فينتهي إلى أمره, ويقال ذمر في معنى ذمرٍ, وقالوا: عنق ذمر؛ أي: شديد, قال الراجز: [الرجز] فيهن حمراء إذا أصرا ... أجشمهن عنقًا ذمرا والرعديد: الجبان, وإنما أخذ من الرعدة؛ لأنه يرعد من الفرق. والأكثر في كلامهم: أرعد الرجل, وقد قالوا: مرعود, فدل ذلك على رعد, وزعموا أن الفالوذ يسمى الرعديد, وإنما قيل له ذلك للينه وتثنيه في يد الآكل. وقوله: وإن جزعنا له فلا عجب ... ذا الجزر في البحر غير معهود يريد أن هذا المرثي كان مثل البحر في الجود, فلما هلك ألفي كأنه البحر جزر؛ أي: غاض ماؤه, وذلك لا يعرف في البحار. وقوله: أين الهبات التي يفرقها ... على الزرافات والمواحيد

الزرافات: جمع زرافةٍ, وهي الجماعة من الناس. وحكى أبو عبيد عن القناني أنهم يقولون: جاء القوم برزافتهم, فيشددون الفاء. والمواحيد: جمع ميحادٍ, يقال: رجل ميحاد؛ أي: وحده, وجاؤوا مواحيد؛ أي: أفرادًا. وقوله: إن نيوب الزمان تعرفني ... أنا الذي طال عجمها عودي أصل العجم عض الشيء لينظر أصلب هو أم لين؟ ! وكثر ذلك حتى قالوا: أعجمت الرجل إذا فعلت به فعلًا لتختبر ما عنده, وهل هو وثيق العقدة أم غير حصيفٍ؟ وقالوا: ناقة ذات معجمةٍ إذا كانت لها بقية على السفر, وقد استعمل أبو الطيب حمل صلة الذي على المعنى في غير موضع من ديوانه, ومنها هذا البيت, وإنما جيد الكلام أن يقول: أنا الذي طال عجمها عوده. وقد جاء مثل هذا كثيرًا قال الراجز: [الراجز] يا مر يا بن واقعٍ يا أنتا أنت الذي طلقت عام جعتا

وإنما القياس أنت الذي طلق عام جاعا. وقد يمكن أن يقول طلق في هذا البيت, ولكن القافية منعته من ذلك؛ لأنه لو قال: طلق, ثم جاء يجعت لكان أقبح مما فر منه. وقوله: ما كنت عنه إذا استغاثك يا ... سيف بني هاشمس بمغمود يقال: أغمدت السيف, وهي اللغة العالية. وقد حكي مغمود؛ وذلك قليل, وأنشدوا بيتًا: تركت سرجك قد مالت سيورته ... والسيف يبلى طوال الدهر مغمود فأما أغمدت فكثير. قال القطامي: [البسيط] لا يغمدون لها سيفًا وقد علموا ... ألا تكون لهم أيام إغماد وقوله: يا أكرم الأكرمين يا ملك الـ ... أملاك طرا يا أصيد الصيد أصل الصيد: داء يصيب البعير في رأسه فيميل عنقه, يقال: صيد وصاد واصيد, ثم استعمل ذلك في الرجل صاحب النخوة. والأحسن أن يكون قوله: أصيد الصيد على منهاج قولهم: فلان ملك الملوك؛ أي: واحدهم الذي يعظمونه, ولا يريد أنه أعظمهم صيدًا؛ لأن ذلك يقبح كما يقبح: أنت أعور العور, أي: أشدهم عورًا؛ لأن الخلق والعاهات (40/أ) لا يستعمل فيها أفعل منك, ولا ما أفعله. وقوله: قد مات من قبلها فأنشره ... وقع قنا الخط في اللغاديد اللغد واللغدود: لحم باطن الأذى الذي هو غائب في الرأس, وربما قالوا للموضع الذي يظهر وذلك تحته: لغدود ولغد ولغد, وهذا البيت يروى لزيد الخيل: [البسيط]

وعامر بن طفيلٍ قد نحوت له ... حد المثقف بين النحر واللغد والخط سيف عمان, وإليه تنسب الرماح الخطية؛ لأن السفن من الهند ترفأ إليه. وقال قوم: كل سيفٍ خط. والمعروف في الخطي فتح الخاء, وذكر ابن درستويه في شرحه «كتاب الفصيح» أن الكسر جائز. وقوله: فصبحته رعالها شزبًا ... بين ثباتٍ إلى عباديد الرعال: جمع رعلة, وهي القطعة من الخيل والإبل والنعام وقالوا: أراعيل كأنهم جمعوا رعيلًا على أرعلٍ, ثم جمعوه ثانيةً. وشزبًا: جمع شازبٍ, وهو الضامر, والشاسب أشد ضمرًا من الشازب, ثم الشاسف أشد ضمرًا منه. والناس يقولون: شزب جمع شازب على المجاز, وإنما الحقيقة أنه جمع شزوبٍ مثل قولك: رجل صبور وقوم صبر. والثبات: جمع ثبةٍ, وهي جماعة ليست بالكثيرة, ويقال في جمعه: ثبات وثبون وهو من قولهم: ثبيت الشيء إذا جمعته, ويقال: ثبة من الرجال وثبة من المال, وهذا الرجز يروى لأحيحة بن الجلاح: [الرجز]

بنيته بثبةٍ من ماليا ... أخشى رجيلًا أو ركيبًا غاديا وفي كتاب ينسب إلى الخليل يعرف بكتاب الأبنية أن الثبة من الناس تصغيرها ثبية, وأن ثبة الحوض, وهي وسطه, تصغيرها ثويبة, فهذا يدل على أن الاشتقاقين مختلفان. وأكثر العرب يجروز قباتٍ في النصب والخفض مجرى مسلماتٍ. وبعضهم ينصب التاء في موضع النصب وكذلك أنشدوا قول الهذلي: [الطويل] فلما جلاها بالأيام تميزت ... ثباتًا عليها ذلها واكتئابها يروى بفتح التاء وكسرها, ولابد في الحالين من التنوين. والعباديد: الأفراد, ولا واحد له من لفظه, وقد ادعى قوم أن الواحد عبديد. وقوله: تحمل أغمادها الفداء لهم ... فانتقدوا الضرب كالأخاديد يريد أنه وعدهم المال, فأقام الخيل التي هي ناصرة مقام الأموال. فانتقدوا ضربًا كالأخاديد؛ أي جعلوا ذلك كنقد المال, وهذا على سبيل الهزء. والأخاديد: جمع أخدودٍ, وهو حفرة في الأرض مستطيلة. وقد جاء الأخدود في الكتاب الكريم, وفي الشعر القديم, قال الشاعر: [البسيط] ولو يمر بصفوانس على عجلٍ ... إذًا لغادر في الصفوان أخدودا

وقوله: موقعه في فراش هامهم ... وريحه في مناخر السيد الفراش: عظام رقاق تكون في الرأس بين عظامه, قال النابغة: [الطويل] تطير فضاضًا بينهم كل قونس ... ويتبعها منهم فراش الحواجب والمناخر: واحدها منخر, بكسر الميم والخاء, وهو من الشواذ, وقالوا منخر, بفتح الميم, وهو القياس, وحكي منخر, بكسر الميم وفتح الخاء, ويقال لمثل المنخر من الإبل نخرة ونخرة. وقالوا نخر في جمع نخرةٍ. وأنشد أبو عمرو الشيباني: [الطويل] كأن رداءيه إذا قام علقا ... على جعلٍ يغشى المآزف بالنخر المآزف: المواضع التي يتغوط فيها. والسيد: الذئب, وحكي في جمعه سيدان, وهو مما وافق جمعه لفظ التثنية إلا في كسر النون, وبعض العرب يسمي الأسد سيدًا. وقوله: سقيم جسمٍ صحيح مكرمةٍ ... منجود كربٍ غياث منجود يقال: رجل منجود إذا كان غي غم وعرقٍ, فيريد أن هذا المرثي اعتل فكان في كربٍ وجهدٍ وهو مع ذلك غياث للمنجود, قال أبو زبيد: [الخفيف] صارخًا يستغيث غير مغاثٍ ... ولقد كان عصرة المنجود

وقوله: ثم غدا قده الحمام وما ... تخلص منه يمين مصفود جعل الحمام كالقد الذي يشد به الأسير, وهذا مثل قول لبيدٍ: [الكامل] تراك أمكنةٍ إذا لم أرضها ... أو يرتبط بعض النفوس حمامها جعل الحمام كالرباط. وإذا رفع القد والحمام ففي غدا ضمير يرجع على المرثي, وإذا نصب أحد المرفوعين فلا ضمير في الفعل. والمصفود (40/ب) الذي يشد بقد أو غيره, والاسم الصفاد. وقوله: تهب في ظهرها كتائبه ... هبوب أرواحها المراويد يقال في صفات الرياح المراويد, والقياس أن يكون الواحد مروادًا إلا أنه قليل في الاستعمال, قال ذو الرمة: [البسيط] يا دار مية لم يترك لها علمًا ... تقادم العهد والهوج المراويد وهو من قولهم: راد يرود إذا ذهب وجاء, ويجب أن يكون من ذلك قولهم: ريح رادة وريدة, فإن قيل: كيف قالوا ريدة وهو من ذوات الواو؛ فالجواب أن الأصل ريدة مثل ميتةٍ, ثم خففوه فقالوا: ميتة, وهي من مات يموت, ومن هذا النحو قولهم: ريحان, وهو من الروح, فتقديره أن يكون في الأصل بتشديد الياء كأنه ريحان أو ريحان, فخفف. وقوله: أول حرفٍ من اسمه كتبت ... سنابك الخيل في الجلاميد سنابك الحوافر: مقاديمها, ويقال للأرض الغليظة: سنبكة تشبيهًا بسنبك الحافر, وفي حديث أبي هريرة: «يخرجكم الروم منها كفرًا كفرًا كما أخرجتموهم منها كفرًا كفرًا إلى

سنبكٍ من الأرض, قيل: وما ذاك السنبك؟ قال: هو حسمى جذامٍ». والجلاميد: جمع جلمودٍ, والقياس إثبات الياء كما قال الأفوه: [السريع] يغشى الجلاميد بأمثالها ... مركباتٍ في وظيف نهيس وقد قالوا: جلامد, وهم يجترئون على حذف هذه الياء كثيرًا, فيقولون: مصابح في مصابيح, ومفاتح في جمع مفتاح, ولا يعرف أنهم قالوا: جلمد بغير واوٍ, قال حميد بن ثور: [الطويل] جلبانة ورهاء تخصي حمارها ... بفي من بغى خيرًا لديها الجلامد إلا أنهم قالوا جلمد للواحد, فيجوز أن تكون جلامد جمع جلمدٍ, وهذه الياء تثبت في الجمع إذا كان المجموع على خمسة أحرف وقبل آخره ياء أو واو أو ألف, كما يقال: ثؤلول والجمع تآليل, ودهليز والجمع دهاليز, وقرطاس والجمع قراطيس.

ومن التي أولها

ومن التي أولها عواذل ذات الخال في حواسد ... وإن ضجيع الخود مني لماجد وهي من الطويل الثاني على قول الخليل, ومن السحل الثاني على قول غيره. وقافيتها من المتدارك. وهي من الطويل الثاني على قول الخليل, ومن السحل الثاني على قول غيره. وقافيتها من المتدارك. الخال هاهنا يحتمل أن يكون الشامة, وهو الذي أراد القائل, ولو حمل على أن الخال الاختيال لم يبعد؛ أي: أن هذه المرأة فيها تكبر واختيال. والخود: الناعمة الجسم, وجمعها فيما قيل خود, وهو أحد ما جاء على فعلٍ في جمع فعل كما قالوا: فرس ورد, وخيل ورد, وسقف وسقف, ورجل ثط وقوم ثط, وصدق في معنى صلبٍ, والجميع صدق, ويجوز أن يكون قولهم: خود الظليم والرأل مشتقًا من الخود كأنه يسير سيرًا لا يجهد نفسه فيه, فكأنه ينعمها بذلك. وقالوا: خود فحله في الإبل؛ إذا أرسله فيها, كأنه ينعمه بذلك؛ لأنه يجعل النوق بمنزلة النساء. والماجد, قيل: إن الذي له شرف في نفسه, وقيل: المجد شرف الآباء, وهو مأخوذ من: أمجدت الدابة علفًا؛ إذا أكثرته لها, ومنه قولهم في المثل: «في كل شجرٍ نار, واستمجد المرخ والعفار»؛ أي: استكثرا منها. وقوله: متى يشتفي من لاعج الشوق في الحشى ... محب لها في قربه متباعد اللاعج: الشوق الذي يؤثر في القلب, يقال: لعج الضرب في جلده إذا أثر فيه, قال عبد مناف بن ربعٍ الهذلي: [البسيط] إذا تجاوب نوح قامتا معه ... ضربًا أليمًا بسبتٍ يلعج الجلدا

وقوله: إذا كنت تخشى العار في كل خلوةٍ ... فلم تتصباك الحسان الخرائد تتصباك: أي تجذبك إلى الصبى وتخرجك إليه. والخرائد: جمع خريدةٍ, وهي الحيية, وقيل: الناعمة, ويقال: تخردت الجارية إذا صارت من جملة الخرائد, وأكثر ما تستعمل الخريدة (41/أ) بالهاء, وقد قال كثير في صفة السحاب والبرق: [الطويل] كما أومضت بالطرف ثم تحجبت ... خريد بدا منها جبين وحاجب وقوله: مررت على دار الحبيب فحمحمت ... جوادي وهل تشجو الجياد المعاهد الحمحمة: صوت يردده الفرس في صدره وعنقه, يقال: حمحم ويحمحم, وأنشد أبو زيد: [الوافر] فلا وأبيك خيرٍ منك إني ... ليؤذيني التحمحم والصهيل والجواد: يستعمل في صفه الذكر والأنثى. وهذا البيت يروى لامرئ القيس بن حجرٍ وامرئ القيس بن عابسٍ, وهو قوله: [المتقارب] وأعددت للحرب خيفانةً ... جواد المحثة والمرود والمعاهد: المنازل التي عهد فيها القوم.

وقوله: وما تنكر الدهماء من رسم منزلٍ ... سقتها ضريب الشول فيها الولائد الضريب: لبن إبلٍ يحلب بعضه على بعض, قال ابن أحمر: [الطويل] وما كنت أخشى أن تكون منيتي ... ضريب جلاد الشول خمطًا وصافيا والشول: الإبل التي قلت ألبانها, وذلك إذا مرت عليها بعد النتاج سبعة أشهر أو ثمانية, وجعلها تسقى ضريب الشول؛ لأن الإبل إذا شالت قل اللبن, وإذا سقوه الفرس دل ذلك على كرمها عندهم. والولائد: جمع وليدة, وهي الأمة الشابة, ويقال للغلام المسعبد وليد ما دام شابًا مقتبلًا, إلا أن الوليد من الأحرار يشركه في هذا الاسم, ولا يقال وليدة للحرة. وقوله: وتسعدني في غمرةٍ بعد غمرةٍ ... سبوح لها منها عليها شواهد يريد أن هذه الفرس في خلقها أشياء تشهد بأنها من كرائم الخيل, مثل: قصر الظهر, وطول العنق, وانضمام الأذن, ونحو ذلك مما يحمد في خلق الخيل. والسبوح التي كأنها تسبح لشدة جريها, وإنما يشبهون أيدي الخيل بأيدي الرجال الذين يسبحون؛ لأنهم يسرعون نقلها في الماء. ومن ذلك قول النعمان بن بشيرٍ: [البسيط] واليد سابحة والرجل ضارحة ... والعين قادحة والبطن مقبوب

وقوله: تثنى على قدر الطعان كأنما ... مفاصلها تحت الرماح مراود يريد أنها كالتي تعلم ما يراد منها؛ فهي تتقي الطعن كما يتقيه الفارس, وهذه من الدعوى المستحيلة, ويجوز أن يريد أنها تطيعه إذا ثناها لجهةٍ من خوف الطعن. والمفاصل: واحدها مفصل, وقد حكى مفصل, بفتح الميم وكسر الصاد. فأما اللسان فمفصل بالكسر لا غير. وبيت حسان ينشد على وجهين: [الكامل] كلتاهما حلب العصير فعاطني ... بزجاجةٍ أرخاهما للمفصل إذا روي بكسر الميم احتمل أن يراد اللسان واحد مفاصل الإنسان, وإذا روي مفصل بفتح الميم فهو ما بين العضوين, والأشبه أن يكون المراد المفصل من مفاصل الجسد؛ لأنهم يصفون الخمر بإرخاء المفاصل ودبيبها في الأعضاء. وشبه مفاصل الفرس بالمراود؛ لأن المرود من شأنه أن يدور ويتصرف, وهو من راد يرود إذا ذهب وجاء. وقوله: خليلي إني لا أرى غير شاعرٍ ... فلم منهم الدعوى ومني القصائد كان الناس في هذا الشام يروون: فلم منهم الدعوى, ولا يمتنع ذلك, ولكن الذي يؤثرون تهذيب الكلام يختارون «كم» في هذا الموضع؛ لأن «لم» قد جاءت في أول القصيدة, وكم أحسن في المعنى وأشد مبالغةً؛ لأنها تدل على كثرة فعلهم ذلك, ويجوز أن يكون الشاعر قالها لم ثم غيرها من بعد, أو غيرها سواه؛ لأن الشعراء ربما وضعت الرواة في كلامهم الكلمة التي هي أوقع من التي نظمها القائل, وفي كلام يروى عن ابن مقبل: «إني لأرسل القوافي عوجًا فتقومها الرواة بألسنتها».

وقد مضى الكلام في اشتقاق القصيدة, وبقي منه أنه يجوز أن يكون اشتقاقها من القصيد, وهو مخ السمن؛ أي أنها قوية قد اجتهد فيها الناظم فلها (41/ب) فضل كما أن مخ السمين أفضل من مخ المهزول. وقوله: له من كريم الطبع في الحرب منتضٍ ... ومن عادة الإحسان والصفح غامد انتضى السيف إذا أخرجه من عمده, وغامد: على مذهب من يقول غمدت السيف, وهي حكاية أبي زيد, وكان الأصمعي ينكر ذلك, وسئل عن اشتقاق «غامدٍ» أبي هذا الحي من الأسد فقال: هو من غمدت الركية إذا كثر ماؤها, فأما أصحاب النسب فيزعمون أنه سمي بقوله: تغمدت ذنبًا كان بينه عشيرتي ... فسماني القيل الحضوري غامدا وهذا كله راجع إلى غمد السيف, وهو دليل على قول من قال: إن «غمدت» لغة صحيحة. وقوله: أحقهم بالسيف من ضرب الطلى ... وبالأمر من هانت عليه الشدائد الناس ينشدون: أحقهم بالرفع, وهو وجه حسن, والنصب أيضًا وجه قوي, كأنه قال: رأيت أحقهم بالسيف, والطلى: جمع طليةٍ, وهي صفحة العنق. وقال قوم: واحد الطلى طلاة,

ومنه قول الأعشى: [الطويل] متى نسق من أنيابها بعد هجعةٍ ... من الليل شربًا حين مالت طلاتها وقال ذو الرمة: [البسيط] أضله راعيا كلبيةٍ صدرا ... عن مطلبٍ وطلى الأعناق تضطرب وقوله: شننت بها الغارات حتى تركتها ... وجفن الذي خلف الفرنجة ساهد شننت الغارة إذا فرقتها, وعندهم أن الغارة لا تكون إلا في وجه الصبح وأول النهار. ومنه قول امرئ القيس: [الطويل] ولم أشهد الخيل المغيرة بالضحى ... على هيكلٍ عبل الجزارة جوال وقد جاءت الغارة في الليل, جاء بها عبيد الله بن قيس الرقيات, وهو ممن يضعف شعره عن شعر غيره؛ وذلك قوله في صفة الخيل: [الخفيف] بدلت بالشعير والقت والتبـ ... ـن ومسح الغلام تحت الجلال غارة الليل والنهار فما تصـ ... ـبح إلا معدة للقتال ويجوز أن يكون لما ذكر النهار أشرك معه الليل فيكون ذلك نحوًا من قول الحطيئة: [الطويل] سقوا جارك العيمان لما جفوته ... وقلص عن برد الشراب مشافره سنامًا ومحضًا أنبت اللحم فاكتست ... عظام امرئٍ ما كان يشبع طائره

لما ذكر المحض أضاف السنام إليه, وقال قوم: بل يذاب من السنام دهن فيخلط باللبن فيسقاه الإنسان. وقد يجوز مثل ذلك, ولا بأس بالوجه الأول؛ لأنهم يتسعون في المجاز والاستعارة. والفرنجة: اسم أعجمي, والذين يقربون من تلك البلاد يقولون: إفرنجة بزيادة الهمزة في أولها, والشعراء يجترئون على تغيير الاسم المنقول إلى العربية فلا يحفلون كيف جاؤوا به. وقوله: تنكسهم والسابقات جبالهم ... وتطعن فيهم والرماح المكايد يقال: نكس الفارس ونكت؛ إذا ألقاه عن فرسه على رأسه, وجعل الجبال ها هنا كالسابقات من الخيل؛ لأنهم يحلون بها فكأنهم فرسان عليها. والمكايد: جمع مكيدة, من قولهم: كاده إذا مكر به, ولا يجوز همز المكايد كما لا يجوز همز المعايش. وقوله: وتضربهم هبرًا وقد سكنوا الكدى ... كما سكنت بطن التراب الأساود الهبر: ضرب يلقي هبرةً من اللحم؛ أي: قطعةٍ, والكدى: جمع كديةٍ, وهي الغلظ من الأرض. يريد أن لهم مغارًا في الجبال والأماكن الغليظة, فهم يسكنونها من خوف الأسر والقتل, كما تسكن أساود الحيات بطن التراب. وإذا كان الاسم الذي على أفعل صفةٍ لم تقرب من الأسماء جمع على فعلٍ, مثل: أسود وسود, وأحمر وحمر, فإذا صار كالاسم للشيء جمع على أفاعل, من ذلك قولهم في جمع الأسود من الحيات أساود, ولا يقولون سود, ولا يستعملون قولهم: رجال أساود إلا في ضرورةٍ. وقوله (42/أ): وتضجي الحصون المشمخرات في الذرى ... وخيلك في أعناقهن قلائد المشمخر: المرتفع من الجبال, والذرى: جمع ذروةٍ, وهي أعلى الشيء, ويقال: ذروة بكسر الذال, والقياس يوجب أن يقال ذرى, كما يقولون في نصل السهم: سروة وسرًى.

والهاء في أعناقهن راجعة على الحصون, وهذه مبالغة في وصف الخيل؛ لأنها تدرك أعناق الحصون المبنية على أعالي الجبال, وهذا مأخوذ من قول أوس بن حجر: [الوافر] جزين بني عوار الإفك عنا ... ودمخًا يوم هز له نطاق وقوله: عصفهن بهم يوم اللقان وسقنهم ... بهنزيط حتى ابيض بالسبي آمد ذكر آمد على معنى الموضع والمكان, وهو اسم أعجمي وقد وافق من العربية فاعلًا من أمد إذا غضب. وحكي عن أبي عمرو الشيباني: سفينة آمد؛ إذا كانت ملأى, ويقال: إن علي بن حمدان الملقب بسيف الدولة أمر بإطلاع السبي على سور آمد لينظر إليه عسكر الروم, وسورها أسود الحجارة, فذلك معنى قوله: ابيض بالسبي آمد. وقوله: وألحقن بالصفصاف شابور فانهوى ... وذاق الردى أهلاهما والجلامد الصفصاف, وشابور: حصنان. وانهوى انفعل من هوى يهوي إذا انهدم, وهو فعل المطاوعة, وأكثر ما يجيء في فعلته فانفعل, مثل: كسرته فانكسر, ودفعته فاندفع, ولا يعرف هويته في معنى أهويته. وقوله: انهوى يشبه قولهم: إدخلت يدي في الوعاء فاندخلت ولا يقولون: دخلت يدي. وقال الكميت: [البسيط] ولا يدي في وعاء القوم تندخل

وقال يزيد بن الحكم الكلابي: [الطويل] وكم موطنٍ لولاي طحت كما هوى ... بأجرابه من قلة النيق منهوي وثنى الأهل في قوله: أهلاهما ليحسن الوزن, ولو وحد لكان جائزًا على مذاهب العرب إلا أنه تقويم اللفظ في الغريزة, وأصلأهلٍ ألا يثنى ولا يجمع؛ لأنه يقع على الواحد والاثنين والجمع؛ لأنه يقال: أهل الخير, وأهل الكرم, قال حاتم الطائي: [البسيط] ظلت تبكي على بكرٍ شربت به ... إن الرزية في الدنيا ابن مسعود غادرة القوم بالمعزاء منجدلًا ... وكان أهل الندى والخير والجود وربما جمعوا أهلًا بالمعزاء منجدلًا ... وكان أهل الندى والخير والجود وربما جمعوا أهلًا جمع السلامة, قال الجعدي: [المتقارب] لبست أناسًا فأبليتهم ... وأبليت بعد أناسٍ أناسا ثلاثة أهلين أفنيتهم ... وكان الإله هو المستآسا وقوله: وذاق الردى أهلاهما والجلامد, يريد أنهما أحرقا, فذاق الردى الصخر والحجارة؛ لأن النار عملت فيهما. وقوله: وغلس في الوادي بهن مشيع ... مبارك ما تحت اللثامين عابد غلس: إذا سار في الغلس, وهو اختلاط ظلام الليل بضوء الصبح. والوادي مأخوذ من قولهم ودى إذا سال, إلا أنهم تركوا استعمال الودي إلا في قولهم: ودى البائل. قال الشاعر:

ترى ابن أبيرٍ خلف قيسٍ كأنه ... حمار ودى خلف است آخر قائم ويقال في جمع الوادي: أودية, وذلك جمع شاذ, ومثله: جائز البيت, وجمعه أجوزة, والجائز الخشبة التي تجعل عليها أطراف القواري. ومن كان من لغته أن يقول ناصاة الفرس يريد الناصية وما الدنيا بباقاةٍ؛ أي: بباقية؛ فإنه يقول في أوديةٍ أوداة, وتلك لغة طائية؛ قال الشاعر: [الطويل] بريحٍ من الكافور والطلح أبرمت ... به شعب الأوداة من كل جانب والمشيع: يراد به الشجاع الجريء كأنه يشيعه غيره؛ أي: يصحبه. وعابد: يحتمل أن يكون من العبادة, ومن الأنفة؛ لأنهم يقولون عبد إذا أنف, وقد فسرت الآية على الوجهين, وهي قوله تعالى: {فأنا أول العابدين}. وقوله: فلميبق إلا من حماها من الظبى ... لمى شفتيها والثدي النواهد الظبى: جمع ظبةٍ, وهي حد السيف, وهي من المنقوص الذي ذهب منه حرف, كأنها ظبية في الأصل, فلما جمع ترجعت الياء وانقلبت ألفًا لوقوعها طرفًا وقبلها فتحة, وقالوا في جمعها: ظبين, وكذلك يفعلون في المنقوص يقولون: عزة وعزين وعزون, وثبة وثبين

وثبون, قال الكميت: [الوافر] يرى الراؤون في الشفرات منها ... كنار أبي الحباحب والظبينا وقال الأسود بن يعفر: [الطويل] (42/ب) فغظناهم حتى أتى الغيظ منهم ... قلوبًا وأكبادًا لهم ورئينا يريد جمع رئةٍ. واللمى: سمرة شديدة في الشفتين, ويقال: ظل ألمى؛ إذا كان واسعًا بعيدًا من الشمس, وهو مأخوذ من السمرة والسواد, قال حميد بن ثور: [الطويل] إلى شجرٍ ألمى الظلال كأنه ... رواهب أحرمن الشراب عذوب والثدي: جمع ثدي, وما جمع على فعولٍ من ذوات الياء والواو مثل: دلي وثدي جاز في أوله الضم والكسر. والنواهد: جمع ناهدٍ, يقال: نهد الثدي إذا ارتفع حجمه, والمرأة ناهدز وقوله: ومن شرف الإقدام أنك فيهم ... على القتل موموق كأنك شاكد الشاكد: المعطي من غير مسألة وقيل: هو الذي يعطي ولا يريد عوضًا, يقال: شكده شكدًا, والاسم الشكد, بضم الشين. وادعى لسيف الدولة أن الروم تمقه مع ما يفعل بهم من القتل والأسر؛ وذلك من الدعوى الباطلة. وقوله: وكل يرى طرق الشجاعة والندى ... ولكن طبع النفس للنفس قائد يقول: كل العالم يعرف طريق الشجاعة وطريق الجود ولكنه لا يسلكه؛ لأن طبعه يقوده إلى غيره, وهذا تفضيل للمدوح على سواه؛ لأنه جعله يأتي ما لا يأتيه الأنام. وقوله: وأنت أبو الهيجا ابن حمدان يا بنه ... تشابه مولود كريم ووالد وحمدان حمدون وحمدون حارث ... وحارث لقمان ولقمان راشد

اتفق له في هذين البيتين ما لم يتفق لغيره من تشبيه الممدوح بأبيه وتشبيه أبيه بجده ثم كذلك حتى استوفى سبعةً في النسب وعشرةً في المقابلة. وحمدون اسم لم تتسم به العرب في القديم وقلما بنوا اسمًا على فعلونٍ. وقد ذهب قوم إلى أن وزن زيتونٍ فعلون, وقد ذكر فيما أغفله سيبويه من الأبنية, وكان الزجاج يذهب إلى أنه جمع سلامةٍ لزيت, ومثل هذا يبعد. والأعاجم يقربون الألف من الواو, والواو من الألف, فيقولون حمدان فيشيرون بالألف إلى الواو, وقد حكي عن العرب نحو من ذلك في الصلاة والحياة والزكاة, فيجوز أن يكون حمدون مما فعل به ذلك, ومثله علون كأنهم نحوا بألف علان إلى الواو, فلما سمعتها العرب في الإسلام جعلتها واوًا خالصة فقالوا علون؛ وهذا يقوي ترك الصرف في حمدون وما كان مثله. وحذف التنوين من حارثٍ, وحذفه في الشعر جائز. وكان محمد بن يزيد ينكر جوازه, ويغير أبياتًا أنشدها النحويون, منها قول عبيد الله بن قيس الرقيات: [مجزوء الوافر] ومصعب حين جد الأمـ ... ـر أكثرها وأطيبها فينشد: وأنتم حين جد الأمر وأنشد النحويون: [المتقارب] وما كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس في مجمع وكان المبرد ينشد: يفوقان شيخي في مجمع

وأقبح ما يكون حذف التنوين في الخفض؛ لأنه إذا حذف في الرفع والنصب شبه بما لا ينصرف, وإذا حذف في الخفض لم يكن له شيء يشبهه فيما يمتنع عن الصرف؛ لأنما لا ينصرف لا ينخفض إلا أن يضاف أو تدخل عليه الألف واللام. وكان الكوفيون يرون في مثل البيت المنسوب إلى تأبط شرًا: [الكامل] قالت أميمة ما لثابت شاحبًا ... عاري الأشاجع ناحلًا كالمنصل أن تفتح التاء في ثابت, وكذلك الراء من دوسر في قول الآخر: [الطويل] وقائلةٍ ما بال دوسر بعدنا ... صحا قلبه عن آل ليلى وعن هند ويقال: إن مذهب البصريين كسر الراء في دوسر, والتاء في ثابتٍ. وقوله: وذاك لأن الفضل عندك باهر ... وليس لأن العيش عندك بارد أشار بذاك إلى الحب الذي دل عليه بقوله: أحبك, وكذلك يفعلون في كثير من الكلام فيقولون: أعطيت فلانًا دراهم؛ وذاك لأنه فقير, يشيرون بذاك إلى الإعطاء, ويقولون عيش بارد إذا وصفوه بالخفض والطيب, وإنما فعلوا ذلك لأن الغالب على بلاد العرب شدة الحر, فكانوا يرون للمكان البارد فضيلة, قال الشاعر: [الطويل] خليلي بالبوباة عوجا ولا أرى ... بها منزلًا إلا جديب المقيد نذق بردها من بعد ما لعبت بنا ... تهامة في حمامها المتوقد

(43/أ) فقال آخر: [الطويل] فما وجد أعرابيةٍ قذفت بها ... صروف النوى من حيث لم تك ظنت إذا ذكرت ريح العضاه وطيبه ... وبرد الحصى من أرض نجدٍ أرنت وقد يكون البارد في معنى الساكن: فأما أبو الطيب فلم يرد إلا وصف الممدوح بالفضل, فيجوز أن يحمل على أن العيش عنده بارد؛ أي: طيب؛ إلا أنه لا يحبه لأجل ذلك. ويمكن أن يكون نفى عنه العيش البارد؛ لأنه صاحب حربٍ وغزوٍ. وجاء في الحديث: «الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة»؛ أي: لا يكون فيها حر ولا عطش, وهو نحو من قولهم: «عيش بارد». وكانت العرب في الجاهلية تقول: غنيمة باردة؛ أي: لا يحتاج فيها إلى قتال ولا سفك دم. فهذا يجوز أن يكون من السكون أو من الحرب تشبه بالنار, وتوصف بأنها تتقد فيراد أنها لا حرراة فيها.

ومن التي أولها

ومن التي أولها لكل امرئٍ من دهره ما تعودا ... وعادات سيف الدولة الطعن في العدى وهي من الطويل الثاني على رأي الخليل ومن السحل الأول على رأي غيره. يجيء في الشعر القديم أشياء قد اصطلحت عليها الشعراء, ويستعملها كل منهم ولا يعيبون ذلك, مثل قولهم: [الطويل] وكنا إذا الجبار صعر خده قاله المتلمس وتمام البيت: أقمنا له من ميله فتقوما وقال الفرزدق: [الطويل] وكنا إذا الجبار صعر خده ... ضربناه حتى تستقيم الأخادع ويقال: إن ذا الرمة سمعه الفرزدق ينشد هذا البيت: [الطويل] وكنا إذا الجبار صعر خده ... ضربناه تحت الأنثيين على الكرد فقال الفرزدق: لتتركن لي هذا البيت أو لتتركن لي عرضك. ونحو ذلك من الكلام. وقوله: لكل امرئٍ من دهره ما تعودا قد تردد معناه ولفظه في الشعر القديم, من ذلك البيت المنسوب إلى حاتم: [الطويل]

ذريني ومالي إن مالك وافر ... وكل امرئٍ جارٍ على ما تعودا وهذا مثل المصراع الأول من بيت أبي الطيب إلا أنه قد غيرمنه بعض اللفظ. وقولهم: امرؤ إذا عدم الألف واللام قالوا: هذا امرؤ, ورأيت امرأً, ومررت بامرئٍ, فجعلوا الراء تابعة للواو في الضم والفتح والكسر, فإذا أدخلوا الألف واللام قالوا: المرء والمرء والمرء, فلم يدخلوا في أوله ألف الوصل. ويقال: إن بعض العرب يقول: هذا مرء, ورأيت مرءًا, ومررت بمرءٍ, فيغير الميم بتغير الهمزة. وقرأ بعضهم: {بين المرء وزوجه}. وقلما يقولون: مرءًا صالحًا؛ لأنهم يعاقبون بين ألف الوصل وعلامة التعريف, وربما قالوا ذلك, وينشد هذا البيت: [الطويل] ولست أرى مرءًا تطول حياته ... فتبقي له الأيام خالًا ولا عما ومنهم من يقول: هذا المر, ورأيت المر, ومررت بالمر, فيلقي الهمزة ويشدد الراء. وحكي أن الحسن البصري قرأ: {بين المر وزوجه} , وذلك في لغة من يلقي الهمزة ويشدد الحرف الذي قبلها, فيقول: اللوسي في الأوسي. وقد أنشدوا على ذلك قول الشماخ: [الوافر]

رأيت عرابة اللوسي يسمو ... إلى الغايات منقطع القرين وقوله: وأن يكذب الإرجاف عنه بضده ... ويمسي بما تنوي أعاديه أسعدا يكذب: أي يجعله كذبًا, والإرجاف: من قولهم: أرجف العامة؛ إذا أفاضوا الحديث المؤدى عن حادثةٍ كانت أو تكون, وهو مأخوذ من: رجف؛ إذا اضطرب. وأسعد هاهنا يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون مرادًا به: ويمسي بما تنوي أعاديه أسعد منهم, كأنه جعلهم يرجون السعادة بما ينوون فيغلبهم سعد هذا الممدوح. وقد يجوز أن يكون أسعد في معنى سعيدٍ ولا يراد به معنى من؛ لأنهم يضعون أفعل في موضع اسم الفاعل من الثلاثي. ومن ذلك قول معن بن أوسٍ: [الطويل] لعمرك ما أدري وإني لأوجل ... على أينا تغدو المنية أول أي: وجل. وقالوا في قول الفرزدق: [الكامل] إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتًا دعائمه أعز وأطول (43/ب) معناه عزيرة طويلة, وهذا مذهب كثيرٍ من أهل العلم, والأشبه أنه أراد أفعل الذي للتفضيل, ولعلهم فروا من ذلك لذكره السماء في أول البيت, كأنهم كرهوا أن يكون فضل بيتهم على السماء في العز والطول, وقد يحتمل أن يكون أراد أعز من بيوت العرب وأطول منها.

وقوله: فإني رأيت البحر يعثر بالفتى ... وهذا الذي يأتي الفتى متعمدًا في هذا البيت ضرب من العكس؛ لأنه الأشبه أن يقال: عثر الفتى بالبحر؛ لأن العثار للقدم وغيرها من قوائم الدواب, وهو منوط بالمشي, إلا أنه استعار العثار للبحر؛ لأن الفتى ربما ركب فيه فجعله كالذي يعثر به. وفي يأتي ضمير يعود على البحر الذي يعنى به سيف الدولة, فإن جعل العثار للفتى دون البحر كان في يأتي هاء مضمرة ترجع على سيف الدولة؛ كأنه قال وهذا الذي يأتيه الفتى متعمدًا. وإن جعل العثار للبحر ففي يأتي ضمير مرفوع وهو راجع إلى سيف الدولة أيضًا. وقوله: ذكي تظنيه طليعة عينه ... يرى قلبه في يومه ما ترى غدا تظنيه: تظننه, وهم يبدلون من لام تفعل ياءً إذا اجتمعت فيها حروف من جنس واحد, وكذلك من لام فعلت, فيقولون تظنيت في تظننت, وتقضى البازي في معنى تقضض إذا انقض. وقصيت أظفاري؛ أي: قصصت, وهذا شعر يروى لبعض العرب ويجوز أن يكون لامرأة: [مجزوء الرجز] إن لنا لكنه ... سمعنة نظرنه كالريح حول القنه ... إلا تره تظنه أراد تتظنن, فحذف إحدى التاءين, وأبدل من النون الآخرة ألفًا, ثم حذفها للجزم.

ويجوز أن تكون الهاء في تظنه منصوبة بتظن, ولا يمتنع أن تكون للوقف. وقال العجاج: [الرجز] تقضي البازي إذا البازي كسر أي تقضض البازي. ويروى ترى على أن تكون الرؤية للعين, والأحسن أن يكون يرى بالياء, وتكون الرؤية للمدوح, وعلى ذلك كان الناس ينشدونه في الزمان الأول. وقوله: وصول إلى المستصعبات بخيله ... فلو كان قرن الشمس ماءً لأوردا يجوز مستصعباتٍ, بكسر العين وفتحها, فإذا كسرت فهو من استصعب الأمر إذا صار صعبًا, وإذا فتحت فهو من استصعب الإنسان الأمر إذا رأى أنه صعب, وفتح العين أبلغ في صفة الممدوح. وقرن الشمس: ابتداء ضوئها. وقوله: فأصبح يجتاب المسوح مخافةٍ ... وقد كان يجتاب الدلاص المسردا يجتابها: أي: يلبسها, ويجوز أن يكون يفتعل من الجوب, فتكون الألف منقلبة من الواو, ويكون مأخوذًا من: اجتاب الأرض؛ أي: قطعها؛ أي: أنه يقطع المسوح ليلبسها, ولا يمتنع أن يكون من جيب القميص أي يجعل لها جيوبًا؛ لأنه يتخذ منها أثوابًا, وقد حكي: جاب الأرض يجيبها ويجوبها. وأنشد الفراء: [الرجز] جيب البيطر مدرع الهمام

يعني بالبيطر هاهنا الخياط. والدلاص: الدروع؛ سميت بذلك لملاستها, وهي كلمة تقع على الواحد والجمع. والنحويون يذهبون إلى أن فعيلًا وفعالًا اشتركا في أن جمعا على فعال كما قالوا: شمال للواحدة, وشمال للجميع. قال الشاعر: [الطويل] ألم تعلمي أن الملامة نفعها ... قليل وما لومي أخي من شماليا يذهبون إلى أنه أراد من شمائلي. وليس في هذا البيت حجة لما قالوه؛ إذ كان يحتمل أنه يريد وما لومي أخي من خليقتي, ولا يحمله على الجمع, والأشبه أن يكون الدلاص اسمًا كالمصدر, يقع على الواحد والجميع, وقد قالوا: دليص, يريدون به ما برق ولان, قال امرؤ القيس: [الطويل] كنائن يجري فوقهن دليص يعني ذهبًا. وقالوا في صفة الذهب دلامص, فروي أن الخليل كان يجعل الميم زائدةً, ويأخذه من الدليص. قال الشاعر: [مجزوء الكامل] ككنانة الزغري زيـ ... ـنها من الذهب الدلامص

وقال الراجز: [الرجز] لأصبحن العاصي بن العاصي سبعين ألفًا عاقدي النواصي مستلئمين حلق الدلاص (44/أ) الدلاص هاهنا جمع. فأما بيت أبي الطيب فيحتمل أن يعني به واحدًا وجمعًا؛ لأنه سائغ في الكلام أن يقال فلان يلبس ثوب ديباجٍ, وإن قيل ثياب ديباج فالمعنى صحيح. والمسرد: المنسوج من الدروع, وكل ما تتابع فهو مسرد ومتسرد. وقوله: وتمشي به العكار في الدير تائبًا ... وما كان يرضى مشي أشقر أجردا هذا البيت فيه قلب أيضًا. وإنما أصل الكلام: ويمشي في الدير بالعكاز إلا أنها لما كانت مؤديةً إلى المشي جاز أن تجعل هي الماشية كما أن الليل لما كان مؤديًا إلى النوم جاز أن يقال في صفته ليل نائم. والعكاز مأخوذة من قولهم: تعكز إذا تقبض واجتمع, كأن الشيخ يتقبض عليها ويجتمع. وقد جاءت في الشعر القديم قال أبوزبيد الطائي: [البسيط] ثوب وقوس وعكاز وذو شطبٍ ... لم يترك لومةً في رقه الصنع وقوله: فإن كان ينجي من علي ترهب ... ترهبت الأملاك مثنى وموحدا مثنى وموحد وما كان مثلها إلى العشرة لا ينصرف في المعرفة ولا في النكرة. والألف في

قوله: موحدا ليست بدلًا من التنوين؛ لأنها للترنم جارية مجرى الألف في قوله: تعودا وأوردا ولم يحتج إلى صرف موحد. وقال الهذلي: [الطويل] ولكنما أهلي بوادٍ أنيسه ... ذئاب تبغى الناس مثنى وموحد وقوله: هنيئًا لك العيد الذي أنت عيده ... وعيد لمن سمى وضحى وعيدا ينتصب هنيئًا عند قوم على مذهب قولهم: ثبت لك هينئًا, وقيل: بل هو اسم وضع موضع المصدر. كأنه قال: هنأك هناء؛ لأنهم ربما وضعوا اسم الفاعل في هذا الموضع كما قالت بعض نساء العرب وهي ترقص ابنها: [مجزوء الرجز] قم قائمًا قم قائما ... لاقيت عبدًا نائما وأمةً مراغما ... وعشراء رائما تريد: قم قيامًا. والعيد مأخوذ من عاد يعود, وقالوا في جمعه أعياد كراهة أن يقولوا أعواد فيلتبسن بجمع العود, ولما قلبوه في الجمع أجروا الفعل على ذلك, فقالوا عيد, ولو حملوه على الأصل لقالوا عود, وسمي: يعني قول القائل: بسم الله إذا أراد الذبح أو النحر, وكذلك يقولون: سمى الرجل إذا ذكر اسم الله, وينشد لبعض اللصوص: [الطويل] لحى الله صعلوكًا إذا جن ليله ... أناخ وسمى من حذار الطوارق ويقال: ضحى إذا ذبح الأضحية إن كانت من الغنم, أو نحرها إن كانت من الإبل. وفيها

أربع لغاتٍ: أضحية وإضحية وضحية وأضحاة. وقولهم: عيد الأضحى يريدون جمع أضحاةٍ كما يقال: أرطاة وأرطى, وأنشد ابن السكيت: [الوافر] رأيتكم بني الخذواء لما ... دنا الأضحى وصللت اللحام توليتم بودكم وقلتم ... لعك منك أقرب أو جذام ويجوز أن يقال هذا أضحى القوم يراد جمع أضحاةٍ؛ لأن الجمع الذي بينه وبين واحده الهاء يجوز فيه التذكير والتأنيث, وإن قيل: هذه الأضحى فحسن. ويقال في جمع ضحيةٍ: ضحايا, وفي جمع أضحيةٍ وإضحيةٍ: أضاحي. ولما قتل عثمان بن عفان بعد عيد النحر قالت الشعراء: ضحوا به؛ أي: جعلوه كالأضحية. قال الشاعر: [البسيط] ضحوا بأشمط عنوان السجود به ... يقطع الليل تسبيحًا وقرآنا وقال القاسم بن أمية بن أبي الصلت: [البسيط] لعمري لنعم الذبح ضحيتم به ... خلاف رسول الله يوم الأضاحي وإنما قيل: أضحية؛ لأنها تذبح إذا أضحى النهار. وقوله: هو الجد حتى تفضل العين أختها ... وحتى يكون اليوم الليوم سيدا الجد: الحظ, وهو هاهنا يشير بها إلى ما الناس فيه من الملك والسيادة, وغير ذلك من

الأشياء المحمودة, وهذا كقولهم في المثل: «عش بجدك لا بكدك». قال الحارث بن حلزة: [مجزوء الكامل] فعشن بخيرٍ لا يضر ... النوك ما أعطيت جدا وقال الآخر: (44/ب) وليس الغنى والفقر من حيلة الفتى ... ولكن أحاظٍ قسمت وجدود وجعل العيد سيدًا للأيام؛ لأنه يشرف دومًا ويخص بالنفقة والهبة, وكل ما غلب شيئًا فهو سيد له, حتى يقال لحمار الوحش هو سيد العانة. وسادت المطية المطايا إذا غلبتهن في السير, وأنشد أبو زيد لزهير بن مسعودٍ الضبي: [الطويل] تسود مطايا القوم ليلة خمسها ... إذا ما المطايا بالنجاء تبارت وأصل السيد مأخوذ من السواد, وهو الشخص, قال الشاعر: [الطويل] ولما رمى شخصي رميت سواده ... ولابد أن يرمى سواد الذي يرمي

أي: شخصه فكأنهم قالوا: ساود الرجل الرجل فساده إذا كان سواده أعظم من سواده وأطول, ثم نقل ذلك إلى الفعل الأجمل, والأخلاق المحمودة. وجاز أن يقال للقصير سيد إذا كان شريف الشيم, وقالوا للمرأة: سيدة, قال الشاعر: [المديد] أرسلت إلى سيدتي ... ائتنا وحاذر الطلبا وقوله: حتى تفضل العين أختها, أقل ما تفضلها فيه أن تكون اليمنى وأختها اليسرى, وقد يجوز أن يصيب إحداهما العور, أو يكون بها الحول أو غيره من الأشياء المذمومة, وربما عارت اليمنى منهما فصارت المنفعة بالسيرى دونها. وقوله: ومن يجعل الضرغام للصيد بازه ... يصيره الضرغام فيما تصيدا رواية أهل هذه البلاد جزم يجعل, ورفع يصيره؛ وذلك ضعيف جدًا؛ لأنه يحوج أن تضمر الفاء فيجري مجرى قول زهير: [البسيط] وإن أتاه خليل يوم مسألة ... يقول لا غائب مالي ولا حرم كأنه أراد فيقول؛ أي: فإنه يقول. وكذلك قول الهذلي: [الطويل] فقيل تحمل فوق طوقك إنها ... مطبعة من يأتها لا يضيرها مطبعة: ثقيلة الحمل, وليست هاهنا ضرورة داعية إلى رفع يصيره وجزم يجعل؛ لأنه إذا

رفع يجعل, وحمل الكلام على المبتدأ والخبر, وصرفه عن الشرط والجزاء, كفي هذه المؤونة, وتكون من في معنى الذي, كأنه قال: والذي يجعل الضرغام للصيد بازه يصيره فيكون يصيره في موضع خبر المبتدأ. وقوله: أجزني إذا أنشدت شعرًا فإنما ... بشعري أتاك المادحون مرددا يقال: إن أصل تسميتهم العطية جائزةً أن بعض الملوك كان في حرب, بينه وبين أعدائه نهر, فقال من جاز إلى الجانب الآخر فله كذا؛ فكان إذا جاز الرجل أعطاه عطيته, فقيل: قد أجازه. وقد يمكن مثل هذا الحديث, ويحتمل أن يكون قولهم: جائزة من أنها تجوز لصاحبها من قولك: هذا يمتنع وهذا يجوز؛ أي: يحتمل أن يفعل, فكأن الرجل إذا أعطي عطيته فقد جازت له. وقوله: ودع كل صوتٍ بعد صوتي فإنني ... أن الصائح المحكي والآخر الصدا الصدى هاهنا: هو الذي يسمع في الجبال والأماكن الخالية, كأنه يحكي كلام المتكلم, والعرب تسميه ابنة الجبل, ولذلك قالوا في المثل للرجل الذي إذا رأى غيره يفعل أمرًا فعل مثله: هو كابنة الجبل مهما يقل يقل. وقالوا صمي يا بنة الجبل للداهية إذا سمعوا بها, أي: لا يكن هذا الحديث, ولا يذكره, وقال الشاعر: إني بما كان من عسرٍ وميسرةٍ ... أدعو حنيفًا كما تدعى ابنة الجبل أي: أني إذا دعوت أجابني غير متلبثٍ كالصدى الذي يجيب الصائح.

ومن أبيات أولها

ومن أبيات أولها وبنيةٍ من خيزرانٍ ضمنت ... بطيخةً نبتت بنارٍ في يد وهي من الكامل الأول في رأي الخليل, ومن السحل الثالث في رأي غيره. الخيرزان: هذه القضبان المعروفة, وقيل: إنها عروق تكون في الأرض, إلا أن العرب شبها بها الغصن الرطيب؛ لأنه يتثنى كتثنيها, قال الشاعر: هتوفًا دعت فرخًا على خيزرانةٍ ... يكاد يدنيها من الأرض لينها وذكر ابن قتيبة أن بعض من كان يتردد إليه من طلاب الغريب سأله عن الجنهي, فلم يعرفه, فرأى في منامه قائلًا يقول: هو الخيرزان, وأنشده: هدية ظريفة ... في طبقٍ مجنه ثم سمع ابن قتيبة بعد ذلك من ينشد: في كفه جنهي ريحه عبق ... من كف أروع في عرنينه شمم وقد كان ابن قتيبة يعرف هذا البيت, ولكنه (45/أ) كان يروي: في كفه خيزران, وقد سموا العروق التي في الجوف خيزرانًا. والبطيخ: عربي معروف.

ومن بيتين أولهما

ومن بيتين أولهما وسوداء منظومٍ عليها لألئ ... لها صورة البطيخ وهي من الند وهما من الطويل الأول في قول الخليل, ومن ضروب السحل الأول في قول غيره. الند: من الطيب, وقد تكملوا به في صدر الإسلام, وقال بعضهم: ليس بعربي في الأصل, وقال آخرون: بل هو مأخوذ من قولهم: ند البعير إذا ذهب على وجهه في الأرض, وفارق الإبل وأصحابه. كأن هذا الفن من الطيب قد خالف جميع أصنافه, وقد جاء به الأحوص وغيره في الشعر قال: [البسيط] إذا خبت أوقدت بالند فاشتعلت ... ولم يكن عودها قسط وأظفار وقوله: كأن بقايا عنبرٍ فوق رأسها ... طلوع رواعي الشيب في الشعر الجعد يقال لأول شعرة تطلع من الشيب راعية, والجمع: رواعٍ. قال الشاعر: [البسيط] أهلًا براعيةٍ للشيب ناعيةٍ ... تبكي الشباب وتنهانا عن الغزل وكأنهم أرادوا رائعةً من راعت تروع؛ أي: أفزعت, فقلبوها إلى الرعاية على طريق الفأل.

ومن بيتين أولهما

ومن بيتين أولهما أتنكر ما نطقت به بديهًا ... وليس بمنكرٍ سبق الجواد وهما من الوافر الأول على رأي الخليل, ومن السحل الرابع على رأي غيره. البديه: ما يبدو من الرجل على غير تفكرٍ, فيكون ذلك في المقال والفعل. وقد كثر استعمال ذلك في نظم القريض دون غيره, وقالوا: بداهة الفرس لأول جريه, قال الأعشى: [مجزوء الكامل] إلا علالة أو بدا ... هة قارحٍ نهد الجزاره وقوله: أراكض معوصات القول قسرًا ... فأقتلها وغيري في الطراد أراكض: أفاعل, من: ركضت الفرس, وقال قوم لا يقال: ركض الفرس, ولا يمتنع ذلك؛ لأن الركض إنما هو ضرب بالرجل, فيقال: ركض الفارس فرسه, وركض الفرس؛ أي: ضرب الأرض بجوافره, فأما البيت المنسوب إلى طرفة: هما أورثاني الموت عمدًا وجردا ... على الغدر خيلًا ما تمل من الركض فقد استشهد به على أنهم يقولون: ركض الفرس. وقال قوم: إنما أراد لا تمل من ركض الفوارس إياها. والمعوصات من القول: الذي يأتي بالعويص, وهو ما يتعذر فهمه, أو ما يعتاص أن يقال مثله, وجعل ظفره بالمعوصات مثل قتله لها.

ومن أبيات أولها

ومن أبيات أولها يا من رأيت الحليم وغدًا ... به وحر الملوك عبدا وهي من البسيط السادس على رأي الخليل, ويلزم صاحب السحل أن يكون عنده من السحل الثاني أو من الطلق السادس. أصل الوغد من قولهم: وغد القوم؛ أي: خدمهم, وقيل لأن الهيثم الأعرابية أتقولين للعبد وغد؟ ! قالت ومن أوغد منه؟ وكأنهم لما كان أصل الوغد الخدمة سموا من يضعف جسمه أو عقله, أو يستهان به في بعض الأمور وغدًا. وقال بعض السلف كنت وغدًا يوم الكلاب؛ فهذا يحتمل غير وجهٍ, منها: أن يكون أراد صباه, وأنه لم يكن في حد الرجال, ويجوز أن يكون ضعف لعلة, أو كان ممن يخدم المقاتلة. ومن أبيات أولها أمن كل شيءٍ بلغت المرادا ... وفي كل شأوٍ شأوت العبادا وهي من المتقارب الأول على رأي الخليل. الشأو: الطلق, يقال: شاءه يشأه إذا سبقه, وقالوا في الماضي: شأوت وشأيت, وكأنهم يلزمون في المضارع يشأى كراهة أن يقولون: يشؤوا فيجمعوا بين الهمزة والواو. والعباد: مثل العبيد, إلا أن العباد جمع على القياس. والعبيد اسم للجمع ليس بالمطرد, وهو مثل قولهم: كلب وكليب وضرس وضريس. وأما عباد الحيرة فجماعة من قبائل شتى دخلوا في دين المسيح (45/ب) فكرهوا أن يقال لهم عبيد فيشابهوا في اللفظ من الرق عليه واقع فقالوا: نحن العباد, ولزمهم هذا الاسم. وقيل في النسب إليهم: عبادي؛ لأن هذا اللفظ صار كأنهم سموا به فأشبه قولهم في النسب إلى كلابٍ وإلى أنمارٍ أنماري.

ومن التي أولها

وقوله: كأن السمانى إذا ما رأتك ... تصيدها تشتهي أن تصادا السمانى: جمع فيجوز أن يكون من الأسماء التي تقع على الآحاد والجموع, فيقال: سمانى للواحدة والجماعة, وقد حكوا في الواحد سماناة, والذين ينكرون دخول التأنيث على مثله ينفرون من ذلك, ومثله الشكاعى لضربٍ من النبت. ومن التي أولها وشامخٍ من الجبال أقود ... فردٍ كيافوخ البعير الأصيد وهي من الرجز الرابع في قول الخليل, وعند صاحب السحل من الرجز الأول. الشامخ من الجبال: الطويل, ومنه قولهم: شمخ الرجل بأنفه إذا تطاول وتكبر. والأقود: ربما عبروا عنه بأنه الطويل, وربما أرادوا البيان, فقالوا: هو الطويل الذي ينقاد؛ أي: يذهب في الأرض مع طوله, ويقال: تقاود الجبل؛ إذا ذهب في الأرض, وكذلك الأبرق, قال الشاعر: [الطويل] يقر بعيني أن أرى من مكانه ... ذرى عقدات الأبرق المتقاود وإذا قالوا للفرس أو الناقة: قوداء فإنما يريدون طول العنق, كأن عنقها قيدت قدامها, وقالوا في قول حاتم: [الطويل] إن الكريم من تلفت حوله ... وإن اللئيم دائم الطرف أقود

أي كأنه يقاد إلى الأمام فلا يلتفت. واليافوخ: أصله في ابن آدم, ووزنه يفعول, وهو مهموز في الأصل, وقالوا: أفخته إذا ضربت يأفوخه. والصيد قد مر ذكره, وهو الصاد أيضًا, قال الراعي: [الطويل] وبيض خفاف قد علتهن كبوة ... يداوى بها الصاد الذي في النواظر أراد بالنواظر عروقًا في الرأس. وقوله: في مثل متن المسد المعقد المسد: حبل شديد الفتل يكون من جلود وغيرها. والمتن: أسفل الظهر من الإنسان, فإذا قيل: متن الأرض فيجوز أن يراد ظهرها إذا غلظ, ولا يخص ما تأخر منها, وكذلك متن الحبل, وقالوا: متن ومتنة إلا أنهم استعملوا المتنة في بني آدم والخيل. ولا يقولون: متنة الأرض, وإن سمع فليس بمنكرٍ, وجمع متن الأرض متان, وجمع متن الإنسان متون. قال الحارث بن حلزة: [الكامل] أنى اهتديت وكنت غير رجيلةٍ ... والقوم قد قطعوا متان السجسج وقوله: للصيد والنزهة والتمرد أصل قولهم: مكان نزيه؛ أي: بعيد من الماء, ثم ابتذلت هذه الكلمة حتى قالت العامة: خرجوا يتنزهون إذا أرادوا الفرجة في الرياض والبساتين, وإنما الأصل بعدهم من المياه, وقال الهذلي: [المتقارب]

ومن التي أولها

أقب طريدٍ بنزه الفلا ... ة لا يرد الماء إلا ائتيابا وقوله: بكل نابٍ ذربٍ محدد ... على حفافي حنكٍ كالمبرد الذرب: الحديد, يستعمل في اللسان والسنان. يقال: ذربت الحديدة إذا أحددتها, والحفافان: الجانبان. ومن التي أولها أحلمًا نرى أم زمانًا جديدا ... أم الخلق في شخص حي أعيدا وهي من المتقارب الأول في رأي الخليل. قد كثر في الشعر قولهم للرجل: كأنه الخلق, وكأنه الناس كلهم, ومن ذلك قول القائل: وليس لله بمستنكرٍ ... أن يجمع العالم في واحد وهذا مما يخرج على العموم, والمراد به الخصوص؛ لأنه لو عم به الخلق كلهم لكان ذلك منقصةً عظيمةً على الممدوح؛ إذ كان العالم فيه المجنون, والأحمق, والأخرس, وغير ذلك من الأشياء المذمومة. وقوله: رأينا ببدرٍ وآبائه ... لبدرٍ ولودًا وبدرًا وليدا

(46/أ) إنما شبه الممدوح بالبدر إذ كان اسمه بدرًا, ادعى أنه قد رأى للبدر ولودًا؛ أي: أبًا, وللبدر وليدًا؛ أي: مولودًا, وهذه من الدعاوي الباطلة؛ لأنه لا يعني إلا بدر السماء, وقوله: لبدرٍ نكرة, ولا يحتمل أن يكون معرفةً؛ لأنه لو كان ذلك لم يكن فيه مدح. وقوله: وربتما حملةٍ في الوغى ... رددت بها الذبل السمر سودا إذا جاءت بعد رب وربت فالأحسن الخفض, وتكون ما زائدةً, فيقال: ربما رجلٍ مررت به, وربتما خيلٍ شهدتها. قال ضمرة بن ضمرة: [السريع] ماوي يا ربتما غارةٍ ... شعواء كاللذعة بالميسم ولو رفع الاسم بعد ما وجعلت كافة لم يبعد ذلك. فأما قوله تعالى: {ربما يود الذين كفروا} فما وما بعدها في موضع خفضٍ كأنه قال: رب ودادٍ للذين كفروا. وقد يجيء في الشعر بعد ربما ما فيه الألف واللام فقال أبو دؤاد: ربما الجامل المؤبل فيهم ... وعناجيج بينهن المهار فيجوز أن يكون أشمر يكون كأنه قال: ربما يكون الجامل. ويجوز أن يجعل ما نكرة ويوقعها على زمان كأنه قال: رب زمانٍ الجامل في هؤلاء القوم فيه. وجعل الذبل تصير سودًا؛ لأن بعض الدم يكون أسود. وقوله: بهجر سيوفك أغمادها ... تمنى الطلى أن تكون الغمودا إلى الهام تصدر عن مثله ... ترى صدرًا عن ورودٍ ورودا

ومن التي أولها

البيت الأول قد كمل معناه وهو غير محتاجٍ إلى ما بعده. وقوله: إلى الهام: يفتقر إلى فعلٍ مضمرٍ يكون راجعًا إلى السيوف كأنه لما جرى في البيت الأول ذكر الهجر أضمر يهجر في البيت الثاني, يريد تهجر سيوفك أغمادها إلى الهام, كما قال: (هجرت إليه الغيث) أي: تركت الغيث لتتصل به, وكذلك سيوفه تهجر الأغماد لتقع في الهام. وقوله: قتلت نفوس العدى بالحديد ... حتى قتلت بهن الحديدا يريد أنه يحطم السيوف في الأعداء, وهذا نحو من قول البعيث: [الطويل] وإنا لنعطي المشرفية حقها ... فتقطع في أيماننا وتقطع وقوله: فأنت وحيد بني آدمٍ ... ولست لفقد نظيرٍ وحيدا ادعى له الوحدة في أول البيت, ثم قال: ولست لفقد نظيرٍ وحيدًا؛ أي: أن الناس يشاركونك في الصورة الإنسية, وفي الأشياء التي يشترك فيها العالم, كالنوم والطعام والشراب, فإذا جاء السؤدد والشجاعة والكرم وما يحمد الرجل عليه كنت الأوحد. ومن التي أولها أحاد أم سداس في أحاد ... لييلتنا المنوطة بالتناد وهي من الوافر الأول على رأي الخليل, ومن السحل الرابع على رأي غيره.

أحاد: فعال, يذهب قوم إلى أنه يستعمل من الواحد إلى العشرة, وبعض الناس يزعم أنه مقصور على الواحد, ثم ما بعده إلى الأربعة, وهو لا ينصرف في معرفةٍ ولا نكرةٍ, قال الهذلي: [الوافر] أحم الله ذلك من لقاءٍ ... أحاد أحاد في الشهر الحلال ويجب أن يكون هذا الكلام على تقدير ألف الاستفهام, ويدل على ذلك مجيء أم في آخره, كأنه قال: أواحدة أم ست هذه الليلة. وحكي عن أبي الفتح بن جني - رحمه الله - أنه كان يحتج لتخصيص أبي الطيب سداس دون غيره مما هو أكثر بأن الله سبحانه خلق السموات والأرض في ستة أيام. يريد أن هذه الليلة طويلة كأنها الأيام الستة التي خلقت فيها السماوات والأرض؛ إذ كان كل يوم من أيام الله سبحانه كألف سنةٍ مما يعده بنو آدم بدليل قوله تعالى: {وإن يومًا عند ربك كألف سنةٍ مما تعدون}؛ وهذا قول حسن. ومما يجوز أن يقال في هذا المعنى أن الحديث جاء فيه «أنه إذا جاءت القيامة وقضى الله أنت طلع (46/ب) الشمس من مغربها تأخر طلوعها ثلاثة أيامٍ, فينكر الناس ذلك, ويفزعون إلى المساجد, ثم تطلع بعد ثلاث ليلٍ سوداء» ,

والثلاثة الأيام إذا لم تطلع فيها الشمس صارت كثلاث ليالٍ؛ فهي حينئذ ست. ويقوي هذا القول قوله: «لييلتنا المنوطة بالتناد»؛ لأن طلوع الشمس من مغربها يتصل بالقيامة, وصغر الليلة على معنى التعظيم, كما قال لبيد: [الطويل] وكل أناسٍ سوف تدخل بينهم ... دويهية تصفر منها الأنامل والبصريون المتقدمون لا يرون تصغير الشيء على معنى التعظيم, ويرون أن قول لبيد دويهية وهو يريد الموت فصغرها؛ إذ كان الموت لا يرى, فكأنه خفي إذ كان العيان لا يدركه. وقوله: كأن بنات نعشٍ في دجاها ... خرائد سافرات في حداد بنات نعشٍ في السماء: في موضعين: إحداهما يقال لها بنات نعشٍ الكبرى, والأخرى بنات نعشٍ الصغرى. والبنات نجوم ثلاثة, والنعش أربعة. وربما جاء في الشعر بنو نعشٍ في موضع بنات نعشٍ كأنه لما حكم لها بالبنوة ذكرها؛ لأن النجم مذكر, وينشد هذا البيت: [الطويل] شربت بها والديك يدعوه صباحه ... إذا ما بنو نعشٍ دنوا فتصوبوا وهذا من نحو قوله جلت عظمته: {رأيتهم لي ساجدين} , لما أخبر عن الكواكب والشمس والقمر كما يخبر عن الآدميين جمعهم بالياء والنون. وسافرات: من قولهم: سفرت المرأة إذا ألقت خمارها عن وجهها, والمصدر السفور. وقال توبة: [الطويل]

وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت ... فقد رابني منها الغداة سفورها والحداد: ما لبس من السواد للحزن, وهو من قولهم: أحدت المرأة وحدت؛ إذا تركت الخضاب والزينة بعد وفاة زوجها. وقوله: أفكر في معاقرتي المنايا ... وقودي الخيل مشرفة الهوادي إذا وقف الواقف على معاقرة بالهاء وجعل القود مضافًا إلى الخيل فالمعنى صحيح. وأحسن من ذلك أن تكون المعاقرة مضافةٍ إلى الياء, وكذلك القود, وتكون المنايا والخيل في موضع نصبٍ؛ لأن أبا الطيب كان يؤثر أن يصف نفسه كثيرًا, وإضافة هاتين الكلمتين إلى نفسه أبلغ من ترك الإضافة؛ لأنه إذا لم يضف جاز أن يكون فكره في معاقرة الناس, وقود الخيل التي يقودها غيره, والمعاقرة لزوم الشيء, يقال: عاقر الخمر؛ إذا أدمن شربها, ومنه قول الوليد ين يزيد: إنهم قد عاقروا اليو ... م عقارًا مقديه وقيل: إنما سميت العقار عقارًا لمعاقرتها الدن؛ أي: لزومها إياه. والهوادي: الأعناق وكل ما تقدم شيئًا فهو له هادٍ, ومن ذلك قيل لمتقدمات الوحش هاديات. وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر معناه «أن ضباعة ذبحت شاةً, فبعث إليها النبي صلى الله عليه وسلم أن أرسلي إلي بشيءٍ منها؛ فقالت لم يبق عندي إلا الرقبة, وأنا أكره أن أوجه بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأرسل إليها أن ابعثي بها؛ فإنها هادية الشادة وأبعد الشاة من الأذى».

ولم تجئ الهادية بالهاء في معنى العنق إلا في هذا الحديث, ونصب مشرفةً على الحال, وهي نكرة, لأن اسم الفاعل إذا كان في معنى الحال أو الاستقبال لم يتعرف بالإضافة إلى المعرفة, فكأنه قال: مشرفةً هواديها. وقوله: زعيمًا للقنا الخطي عزمي ... بسفك دم الحواضر والبوادي الزعيم: الكفيل. ويقال لرئيس القوم زعيمهم؛ لأنه يكفل أمورهم. وزعم الرجل إذا كفل, وقال الجعدي, ويروى لأمية. [المنسرح] نودي قيل اركبن بأهلك إن ... ن الله موفٍ للناس ما زعما فهذا في معنى الكفالة, وهو الأصل في هذا اللفظ, وقال آخر في صفة فرسٍ: تصب لها نطاف القوم سرا ... ويشهد خالها أمر الزعيم خالها: أي الذي يحسن القيام عليها, أي: الرئيس, وهو (47/أ) راجع إلى معنى الكفالة. والحواضر: جمع حاضرةٍ, وأصل ذلك أنهم كانوا يقولون لمن نزل على الماء قد حضر, ويقولون: كان فلان في الحاضر إذا كان في القوم النزول على الماء. قال الشاعر: يا حاضري الماء لا معروف عندكم ... لكن أذاكم إلينا حاضر باد ثم قالوا لأهل المدن حاضرة وحواضر؛ لأنهم لا يكونن إلا على ماءٍ إما جارٍ وإما غير جارٍ. والبادية: ربما أقاموا أيامًا لا يردون الماء. وإنما قيل: بادٍ وبادية؛ لأنهم يبدون للنظر. والذين يحضرون على الماء إن كانوا أهل مدنٍ فإنهم يستترون بالجدر, وإن كانوا في غير الأمصار جاز أن يتخذوا خيامًا من الشجر فيتظللوا بها. وقوله: متى لحظت بياض الشيب عيني ... فقد وجدته منها في السواد

أي: إني إذا لحظت بياض الشيب فكأني لحظت به بياضًا في سواد عيني, ولا يمكنه أن يلحظ سواد عينه إلا في المرآة, ولولا أنه بين سواد العين في هذا البيت لجاز أن يحمل على سواد القلب, فيكون نحوًا من قول الطائي: [الخفيف] شاب رأسي وما عهدت مشيب الر ... أس إلا من فضل شيب الفؤاد إلا أن الطائي جعل مشيب فؤاده متقدمًا شيب رأسه, وأبو الطيب جعل البياض في سواد عينه من أجل حزنه لبياض الشيب. وقوله: جزى الله المسير إليه خيرًا ... وإن ترك المطايا كالمزاد أي: أنها قد هزلها السير فتركها كالمزاد التي نضب ماؤها, واشتد عليها الهجير, فتناهى يبسها. والمزاد: جمع مزادةٍ, وجمعها مزايد, ويجب ألا تهمز؛ لأن ألفها منقلبة عن حرفٍ أصلي, قال الشاعر: [الطويل] مزايد خرقاء اليدين مسيفة ... أخب بهن الساقيان وأحفدا والناس يقولون: حملوا الزاد والمزاد, يعنون بالزاد ما كان للأكل, وبالمزاد ما يوعون فيه الماء. فأما الزاد فقد ثبت أنه من ذوات الواو؛ لأنهم قالوا: تزودوا, وزودتهم, وذلك كثير في الشعر, قال قيس بن الخطيم: [الطويل] تروح من الحسناء أم أنت مغتدٍ ... وكيف انطلاق عاشقٍ لم يزود وأصل التزويد في الطعام, ولكن الشعراء نقلته إلى ما يفعله المحبوب من وصالٍ أو حسن وداع.

ومن الزاد اشتق المزود. فأما المزاد فلا يمتنع أن يكون اشتقاقها من التزويد, والأقيس أن يكون من الزيادة. وكان القوم يكون معهم الزاد ويزادون الأسقية للسفر, ويقوي هذا المذهب قولهم في الجمع: مزايد, ولو كانت من ذوات الواو لوجب أن يقال: مزاود, كما يقال في جمع الملامة: ملاوم, وفي جمع مقامٍ: مقاوم, ولم يقولوا: مقايم ولا ملايم. ويروى للأخطل: [الطويل] وإني لقوام مقاوم لم يكن ... جرير ولا مولى جريرٍ يقومها ولقائل أن يقول: أصل مزادٍ من الزاد إلا أنهم آثروةا الياء في غالجمع ليفرقوا بين ما يحمل فيه الماء وبين ما يحمل فيه المأكول, كما قالوا: أعياد في جمع عيدٍ, وهو من ذوات الواو ليفرقوا بينه وبين أعوادٍ جمع عودٍ, ومعنى البيت هو الذي تقدم. ويجوز لقائل أن يدعي أنهم طمؤوا الإبل, وسقوها الماء ليستعينوا به في المفاوز إذا افتظوا كروشها عند شدة الظمأ, كما قال علقمة: [البسيط] وقد أصاحب أقوامًا طعامهم ... خضر المزاد ولحم فيه تنشيم فذكروا أنه يريد بخضر المزاد كروش الإبل التي يفتظون, ولما كان ذلك يستعمل مع اللحم المنشم جاز أن يجعله طعامًا. ومن هذا النحو قول القائل: [الكامل] ضمنت لهم أرماقهم أسآرها ... وجرومها كأهلة المحل وردوا بأرشية الحديد ففرجوا ... عن فائر الجنبات كالغسل وقال آخر: [السريع] مزادة الراكب فيها إذا ... لم ينتض المخصف لم تفتح

يعني بالمزادة كرش البعير أو الناقة, وبالمخصف السيف. وقوله: [الوافر] فلم تلق ابن إبراهيم عنسي ... وفيها قوت يومٍ للقراد (47/ب) العنس: الناقة القوية المسنة. يقول: لم تلق هذا الممدوح ناقتي وفيها للقراد قوت يومٍ, وهذه مبالغة تخرج إلى الكذب, والعرب تصف القراد بترقيه في المهزول وقلة ثباته على السمين, قال الأسود بن يعفر: [الكامل] عيرانةٍ سد الربيع خصاصها ... لا يستبين بها مقيل قراد ومن ذلك قول الراعي: [الكامل] بنيت كواهلهن فوق مزلةٍ ... لا يستطيع بها القراد مقيلا وقال الراجز في صفة القراد وترقيه في المهزول من الإبل: [الرجز] إن بني بهثة يرتقون في ... ترقي القراد في القود الرذي ويروى: العلي. وقال آخر: [الطويل] ظلت ثلاثًا لا تراع من الشذى ... وإن ظل في أوصالها العل يرتقي يعني بالعل القراد. والقراد اسم يقع على الذكر والأنثى. وأصحاب المعاني ينشدون هذا البيت: [الوافر] وما ذكر فإن يكبر فأنثى ... شديد الأزم ليس بذي ضروس

يعنون أنه يقال له قراد ما دام صغيرًا, وهذا اسم مذكر, فإذا كبر قيل له حلمة, فأنث. وقال آخر: [البسيط] إني وجدت بني سلمى بمنزلةٍ ... مثل القراد على حاليه في الناس وقالوا في جمعه: قرد وقردان. وقالوا للنقرة التي وراء الحافر: أم القردان وأم القرد؛ لأن القراد يحل بذلك الموضع, قال ذو الرمة: [الطويل] رمى أمهات القرد وخز من السفا ... وأحصد في قريانه الزهر النضر وقوله: [الوافر] ألم يك بيننا بلد بعيد ... فصير طوله عرض النجاد وأبعد بعدنا بعد التداني ... وقرب قربنا قرب البعاد في صير ضمير عائد على المسير, وكذلك في أبعد وقرب, والمعنى أنه دعا للمسير بأن يجزى خيرًا؛ لأنه قرب الأمد الذي كان بينه وبين الممدوح, فصير مقداره كعرض النجاد, وهو ما يقع على الكتف من حمائل السيف. وقال دريد بن الصمة: [الوافر] أعاذل إنما أفنى شبابي ... ركوبي في الصريخ إلى المنادي مع الفتيان حتى سل جسمي ... وأقرح عاتقي حمل النجاد وكان في كندة ملك يعرف بمقطع النجد, وذلك أنه كان مولعًا بتقطيع نجد السيوف التي يحملها من يركب معه, يقول: كان تدانينا بعيدًا فأبعد المسير بعدنا فصيره

في النأي بمنزلة ما كان عليه التداني من قبل, وجعل قربنا قريبًا منا كما كان البعاد في أول الدهر مقارنًا لنا. وقوله: تهلل قبل تسليمي عليه ... وألقى ما له قبل الوساد نتهلل الرجل: إذا ضحك واستبشر, وكذلك تهلل السحاب: إذا برق, قال الشاعر: [الطويل] وإني وإن شطت نواها لقائل ... سقى آل هند العارض المتهلل فأما قولهم: استهل السحاب فإنهم يريدون به شدة وقعه, أخذ من الإهلال, وهو رفع الصوت, يقول: عجل إلي بالمال قبل أن يطرح لي الوساد كي أجلس. وقوله: نلومك يا علي لغير ذنبٍ ... لأنك قد زريت على العباد وأنك لا تجود على جوادٍ ... هباتك أن يلقب بالجواد يقال: زرى عليه؛ إذا عاب فعله. وقوله: نلومك, يريد يلومك بعضنا؛ لأن المادح لا يجوز أن يكون من اللائمين, وهذا من الكلام الذي كأنه عموم وهو على التخصيص, كما يقال: الناس يلومون فلانًا على كذا, أي: بعضهم. وزريه على العباد أنه قد أعلمهم أنهم بخلاء لا جواد فيهم, فلم يبق أحد يقال له: جواد, وكان كثير من المتأدبين يروون تلقب بالتاء, وتلك غباوة بينة, وإنما المعنى أن هباتك مرفوعة بفعلها, وهو (48/أ) تجود, كأنه قال: لا تترك هباتك أحدًا يلقب بالجواد. فأما من روى تلقب بالتاء فيلزمه أن يرفع هباتك بالابتداء ويحيل المعنى إلى غير ما أراده القائل. وقوله: ويم جلبتها شعث النواصي ... معقدة السبائب للطراد

الهاء في جلبتها راجعة إلى الخيل, ولم يتقدم لها ذكر في المديح, وقد ذكرها في أول القصيدة, وهذا من باب إضمارهم الشيء قبل ذكره لعلم السامع بما يريدون, ومنه قول النابغة: [الوافر] فأقبلهن بطن الأرض شعثًا ... يصن المشي كالحدإ التؤام أضمر الخيل قبل ذكرها. والسبائب: جمع سبيبٍ, وهو شعر الذنب, وربما جعلت الناصية سبيبًا, قال عبيد: [مخلع البسيط] ينشق عن وجهها السبيب ويجوز أن يكون تسميتهم شعر الذنب سبيبًا لأنه ربما قطع في بعض الحالات, فهو فعيل في معنى مفعول, من قولهم: سب إذا قطع, ومنه قولهم للشقة المستطيلة سبيبة؛ لأنها تقطع عن النول, وكذلك قولهم للعمامة: سب, وللخمار أيضًا. وقوله: لقوك بأكبد الإبل الأبايا ... فسقتهم وحد السيف حاد باب ما كان على فعلٍ أن يجمع على أفعالٍ, مثل كتفٍ وأكتافٍ, وكبدٍ وأكبادٍ, ونمرٍ وأنمارٍ, جمعها أبو الطيب على أكبدٍ, ويجوز أن يكون سمعها في شعرٍ, قال الراجز: [الرجز] إنك لو ذقت الكشى بالأكباد ... لما تركت الضب يعدو بالواد

والأبايا: جمع أبيةٍ, فيجوز أن يجعل من صفة الأكبد, ومن صفة الإبل, وهم يصفون أكباد الإبل بالغلظ, وإذا وصفوا أنفسهم بالقسوة شبهوها بأكباد الإبل. قال قتادة بن مسلمة الحنفي: [البسيط] يبكى علينا ولا نبكي على أحدٍ ... لنحن أغلظ أكبادًا من الإبل وقد كثر وصفهم الإبل بالحنين والرقة, ولكنهم يرجون القول على ما يتفق في بعض الأحيان, ولا يميزون بين الحالين, قال متمم: [الطويل] فما وجد أظآرٍ ثلاثٍ روائمٍ ... رأين مجرًا من حوارٍ ومصرعا وقال عمرو بن كلثوم: [الوافر] فما وجدت كوجدي أم سقبٍ ... أضلته فرجعت الحنينا وقوله: ولكن هب خوفك في حشاهم ... هبوب الريح في رجل الجراد يريد أن الريح إذا هبت في رجل الجراد فرقته. والرجل القطعة العظيمة منه خاصة, قال النابغة: [الطويل]

غداة استهلت بالنسار سحابة ... تشبهها رجل الجراد من النبل وقوله: وما الغضب الطريف وإن تقوى ... بمنتصفٍ من الكرم التلاد أصل التلاد: لما يولد عند الرجل من الإنس وغيرهم, والتاء فيه مبدلة من الواو, ثم كثر ذلك حتى سموا ما قدم تلادًا, ويجوز أن يكون هذا الاسم واقعًا على ما ولد عند الأب والجد وورثه الإنسان. والطريق والطارف: ما استفاده الرجل فكان محدثًا, فاستعار ذلك للغضب, وجعل كرم الممدوح تلادًا؛ لأنه ورثه عن آبائه. وقوله: وكن كالموت لا يرثي لباكٍ ... بكى منه ويروى وهو صاد جعل الموت يروى على الاستعارة, أي أنه قد أخذ ما سبيله أن يروى به, إلا أنه مع ذلك غير مكتفٍ فكأنه صادٍ, وهو ك لام يحمل على المجاز؛ لأن الري لا يجتمع مع الصدى في حال, وإنما يريد أنه قد استكثر فوجب أن يكون ما قد أخذ كافيًا له وهو مع ذلك ليس بالمقتصر. وقوله (48/ب): وكيف يبيت مضطجعًا جبان ... فرشت لجنبه شوك القتاد؟ المثل يضرب بشوك القتاد, وهما قتادان: القتاد الأكبر, والقتاد الأصغر, ذكر ذلك أبو زيد في «كتاب الشجر والنبات» , ويقولون في الأمر إذا استصعبوه: دونه خرط القتاد؛ لأن الخرط هو مباشرة الشيء بالكف, والقتاد: شاك لا يمكن فيه ذلك, والمثل المروي عن كليب وائل: «دون عليان خرط القتاد» , وعليان فحل من الإبل كان له.

ومن التي أولها

ومن التي أولها ما الشوق مقتنعًا منب بذا الكمد ... حتى أكون بلا قلبٍ ولا كبد وهي من البسيط الأول على قول الخليل, ومن السحل الثاني على رأي غيره, وقافيتها من المتراكب. الكمد: وجد يستره الإنسان, يقال: رجل كامد, وكمد, وكميد, يقول: لا يقتنع الشوق مني بكمدٍ أجنه في القلب حتى يذهب بقلبي أو كبدي .. وقوله: مازال كل هزيم الودق ينحلها ... والسقم ينحلني حتى حكت جسدي الهزيم: يجوز أن يكون من الصوت, من قولهم: سمعت هزمة الرعد, ويحتمل أن يكون من قولهم: تهزم السقاء؛ إذا قدم فتكسر وحدتث فيه خروق. يقال: مطر هزيم ومتهزم, وكل شيء كصسر فقد تهزم, قال المرقش: [مجزوء البسيط] تبكي على الدهر والدهر الذي ... أبكاك فالجفن كالشن الهزيم وقال جرير: [الطويل] ويوم أبي قابوس لم نعطه المنى ... ولكن ضربنا البيض حتى تهزما

ومنه هزيمة الجيش. والودق: عظام القطر, وقيل: إنما هو مأخوذ من ودق إذا دنا فسمي القطر ودقًا لأنه يدون من الأرض. وروى عطاء بن أبي رباح, عن ابن عباسٍ في تفسير قوله تعالى: {فترى الودق يخرج من خلاله} أن الودق شبه الدخان يخرج من الغيم, والأشبه أن يراد به القطر إذا عظم وكثر, ومنه قيل: ودق الرجل إذا أكثر كلامه, قال الراجز: [الرجز] إني إذا ما ذبت الأشداق وكثر الضجاج واللقلاق ثبت الجنان مرجم وداق فأما قول امرئ القيس: [الطويل] .............. ... تعفي بذيل الدرع إذ جئت مودقي فإنه أراد الموضع الذي دنا منها فيه.

وقوله: وكلما فاض دمعي غاض مصطبري ... كأن ما سال من جفني من جلدي غاض: ضد فاض؛ لأن الغيض نقصان, والفيض زيادة, قال الأسود بن يعفر: [الكامل] إما تريني قد كبرت وغاضني .. ما نيل من بصري ومن أجلادي وفي حديث بعض الصحابة: «لدرهم ينفقه أحدكم من جهد خير من ألفٍ ينفقه أحدنا غيضًا من فيضٍ». وقوله: ما دار في خلد الأيام لي فرح ... أبا عبادة حتى درت في خلدي هذا الرجل كني بكنية جده أبي عبادة الوليد بن عبيدٍ البحتري الشاعر, وذكر ابن فارسٍ المنبجي فيما جمعه من أخبار أبي عبادة أنه كان يكنى أبا الحسن, وأن المتوكل كان عنده رجل أعرابي يعرف بأبي عبادة فمات, أو غاب غيبةً لم يعد منها, فلما قدم البحتري على المتوكل أعجبه وشبهه بأبي عبادة, فلزمته هذه الكنية. وقوله: قد كنت أحسب أن المجد من مضرٍ ... حتى تبحتر فهو اليوم من أدد

تبحتر: انتسب إلى بحترٍ, وإنما سمي الرجل بحترًا من قولهم للقصير: بحتر. وأدد والد طيء, واسم طيءٍ جلهمة. وأدد: يجوز أن يكون اشتقاقه من أد البعير يئد؛ إذا حن حنينًا شديدًا, وقالوا: أمر إد وأد؛ أي: عظيم منكر, وجعلوا القوة أدًا, قال الراجز: [الرجز] نضون عني قوةً وأدا ... من بعدما كنت صملًا جلدا (49/أ) فيجوز أن يكون أدد من هذا كله. وفعل إذا كان معرفةً ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها أن يكون معدولًا عن معرفةٍ فلا ينصرف في المعرفة, وينصرف في النكرة؛ ومن ذلك قولهم: عمر وزفر وقثم. والثاني أن يكون قد استعمل وصفًا مثل قولهم: رجل حطم, من قول الراجز: [الرجز] قد لفها الليل بسواقٍ حطم

ومن التي أولها

فالبصريون يرون أن هذا إذا سمي به صرف, وقد خولفوا في ذلك. والثالث أن يكون اسمًا لجنسٍ, مثل: جعلٍ وصردٍ ونغرٍ, فهذا مصروف أيضًا. وقوله: قوم إذا مطرت موتًا سيوفهم ... حسبتها سحبًا جادت على بلد يقال: مطر السحاب وأمطر لغتان. وكان أبو عبيدة يذهب إلى أن أمطر في العذاب, ومطر في الرحمة, وكذلك هو في كتاب الله عز سلطانه؛ كقوله: {هذا عارض ممطرنا} , ونحوه من الآيات. وأصل البلد الأثر من الجرح وغيره. قال الشاعر, وهذا البيت يروى مرةً لمالك بن نويرة ومرة لأخيه متمم, وقد رواه بعضهم لأبي ذؤيب: [الكامل] أفنين عادًا ثم آل محرقٍ ... فتركنهم بلدًا وما قد جمعوا أي: أثرًا, وقولهم: هذا بلد كذا يعنون المدينة والإقليم, وإنما يراد به أنه أثر باقٍ من قوم ذاهبين. ومن التي أولها أقل فعالي بله أكثره مجد ... وذا الجد فيه نلت أو لم أنل جد وهي من أول الطويل في رأي الخليل, ومن ضروب السحل الأول في رأي غيره, وليست من أول ضروبه, ولكنها الخامس منه أو السادس.

بله يعبر عنها المتقدمون بأنها في معنى دع وكيف وغير, ويحكون أنها ينصب ما بعدها ويخفض, وذكرها بعض المتقدمين في حروف الاستثناء, فإذا نصبت فهي اسم للفعل تجري مجرى رويد, ويجوز أن يكون اشتقاقها من بله عن الشيء يبله إذا غفل عنه, وإذا خفضت فهي كالمصدر أضيف إلى ما بعده. قال ابن هرمة: [البسيط] تمشي القطوف إذا غنى الحداة لها ... مشي النجيبة بله الجلة النجبا وقال أبو دؤاد: [الوافر] فدت نفسي وراحلتي ورحلي ... نجادك بله ما تحت النجاد أي دع ما تحت النجاد, وكيف ما تحت النجاد. وحكي عن أبي علي الفارسي أنه ذكر رفع ما بعد بله, وأنشد على ذلك قول الأنصاري: [الكامل] تذر الجماجم ضاحيًا هاماتها ... بله الأكف كأنها لم تخلق فإن صحت هذه الحكاية وجب أن يكون بله في معنى بله من قولهم: بله الرجل يبله, وسكنت اللام على اللغة الربعية؛ لأن ربيعة تسكن الحرف الثاني من الثلاثي إذا كان

مكسورًا أو مضمومًا ويجرون الفعل والاسم في ذلك مجرًى واحدًا, قال الأخطل: [الطويل] فإن أهجه يضجر كما ضجر بازل ... من البزل دبرت صفحتاه وكاهله يريد ضجر ودبرت, وقالوا: بقي في معنى بقي, قال الراجز: [الرجز] من كل حمراء شروبٍ للصرا ... ما بقي منه في الحياض أكدرا فتكون الأكف مرفوعةً بفعلها, ويكون المعنى: بله القوم عن الأكف, وينقل البله إليها, كما قيل: ليل نائم؛ أي: ينام فيه, وقد نام الليل. وقوله: سأطلب حقي بالقنا ومشايخٍ ... كأنهم من طول ما التثموا مرد المشايخ: جمع مشيخةً, وهي جماعة الشيوخ, وكأن المشيخة في الأصل مصدر, كأن المراد قوم ذوو مشيخة؛ أي: شيخوخة, أو يكونون جعلوا كالموضع لتلك الحال. وكان ابن دريد يذهب إلى أن المشيخة كلمة ليست بفصيحة, وقد جاء في كلام الفراء سمعنا المشيخة, وحدثتنا المشيخة, والفراء أقرب إلى زمان الفصاحة من ابن دريد, ولا يجوز همز مشايخ؛ لأن الياء أصلية, وهي متحركة في الواحد. وبعض الناس يذهب إلى أن المعنى أن هؤلاء المشايخ كأنهم من طول تلثمهم مرد لا لحى لهم؛ لأن لحاهم مستورة باللثم, فهذا قول حسن, ويجوز أن يذهب ذاهب إلى أن طول التلثم قد حص شعر لحاهم كما قال أبو قيس بن الأسلت (49/ب): [السريع]

قد حصت البيضة رأسي فما ... أطعم نومًا غير تهجاع والمرد: جمع أمرد, وهو الغلام إذا احتلم ولم ينبت في وجهه الشعر, ولا يقال لمن أسن ولا شعر في وجهه: أمرد, ولكن ثط, قال الشاعر: [الطويل] فويح الرجال الدافنيك عشيةً ... أما راعهم مثواك في القبر أمردا وقالوا: غصن أمرد؛ إذا لم يكن عليه ورق. ورملة مرداء لا تنبت شيئًا, قال الراجز: [الرجز] هلا سألتم يوم مرداء هجر عنا أبا بكرٍ وعنكم وعمر ويقال في جمع المرداء: مرادٍ, قال طفيل: [الطويل] فليتك حال البحر دونك كله ... ومن بالمرادي من فصيحٍ وأعجما وقالوا: فرس أمرد؛ إذا انحتت ثننه. وقوله: ثقالٍ إذا لاقوا, خفافٍ إذا دعوا ... كثيرٍ إذا شدوا, قليلٍ إذا عدوا

يقول: إذا لاقوا أعداءهم كانوا ثقالًا عليهم, واللقاء هاهنا مقصور على لقاء الحرب دون غيره. وأراد أنهم يخفون إذا دعوا للنجدة ولا يتثاقلون دون النصرة, والعرب تفتخر بذلك, قال الشاعر: إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم ... لأية حرب أم بأي مكان كثيرٍ إذا شدوةا: أي: يفعلون أفعالًا عظيمة فيظن أنهم كثير. وشدوا: إذا حملوا في الحرب, ووصفهم بالقلة؛ لأنهم إذا انتصفوا من أعدائهم أو غلبوهم في قلة عددٍ فذاك أفخر لهم من الكثرة. وقوله: إذا شئت حفت بي على كل سابحٍ ... رجال كأن الموت في فمها شهد أي: حفت بي من كل جانب, ومنه قيل لجانب الشيء: حفاف, ووحد الفم في موضع الجمع؛ لأن الغرض معلوم, وإنما كان ينبغي أن يقول في أفواهها, وبعض العرب يقول: فم فيكسر الفاء, وبعضهم يقول: فم فيضم, وينشدون قول عنترة: [الكامل] إذ تقلص الشفتان عن وضح الفم بكسر الفاء, وقال قوم: تضم الفاء في حال الرفع, وتكسر في حال الخفض, وتفتح في حال النصب, وقد حكوا فم, بالتشديد, قال الراجز: [الرجز] يا ليتها قد خرجت عن فمه ... ريح تنال الأنف قبل شمه

وقالوا في التثنية: فموان. قال الفرزدق: [الطويل] هما نفثا في في من فمويهما ... على النابح العاوي أشد رجام وحكى أبو زيد فمًا في وزن عصًا, وأنشد: [الرجز] يا حبذا ثغر سليمى والفما ... والجيد والنحر وثدي قد نما فإذا أخذ بذلك ففموان تثنية على قول من قال: فما, ومن قال: فم فيجب أن يقول في التثنية فمان, والتوحيد هاهنا مثله في قول علقمة: [الطويل] بها جيف الحسرى فأما عظامها ... فبيض وأما جلدها فصليب وقوله: أذم إلى هذا الزمان أهيله ... فأعلمهم فدم وأحزمهم وغد الفدم عند قوم: الثقيل الوخم, وهو من قولهم: ثوب مفدم؛ إذا أثقل بالصبغ, وقيل: الفدم: العيي اللسان؛ أي: كأنه قد شد فمه بفدامٍ, وهو ما يجعل على فم الإنسان والإبريق. وفي الحديث: «مفدمة أفواههم بالفدائم». والحزم: جودة الرأي, وإنما أخذ من حزم المتاع؛ أي: إحكامه بالشد, وأراد بالوغد هاهنا من ضعف رأيه.

وقوله: وأكرمهم كلب وأبصرهم عمٍ ... وأسهدهم فهد وأشجعهم قرد الكلب يوصف باللؤم والبخل, قال الشاعر: [الطويل] سرت ما سرت من ليلها ثم عسرت ... على رجلٍ بالعرج ألأم من كلب ويقولون في الكلام: الكلب أضن بالشحمة. وروي أن عبد الملك بن مروان قال لرجل: إن فلانًا طلق أختك, فقال: الكلب أضن بالشحمة؛ أي: لم يفعل. وأبصرهم: يجوز أن يكون من البصيرة ويكون عمٍ من عمى القلب, ويحتمل أن يكون أبصرهم من البصر وعمٍ من عمى العين, والمعنيان متقاربان. والفهد يوصف بكثرة النوم, قال الراجز: [الرجز] ليس بفحاشٍ كفحش العبد ... ولا بنوامٍ كنوم الفهد وقالت المرأة في صفة زوجها: (50/أ) إذا خرج أسد, وإذا دخل البيت فهد, ولا يسأل عما عهد؛ تريد بفهد أنه يكون كالنائم, وهذا أجمل من أن تكون وصفته بكثرة النوم, وإنما أرادت أنه يغفل عما تفعل من تبذير ماله وإعطائه للفقراء. والقرد يوصف بالجبن, ويزعم من شاهد بلاد القردة أن القرد لا يبيت إلا وفي يده حجر مخافة أن يطرقه طارق, ويقال: إنها تصطف بالليل صفًا, فإذا سمع الأول منها نبأةً نفر, ونفر الذي يليه, ثم كذلك إلى آخر الصف.

وقوله: ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... عدوًا له ما من صداقته بد يحتمل أن يعني بالعدو هاهنا عدوًا من بني آدم؛ لأن أكثر العالم لا يخلو من عدو يفتقر إلى أن يظهر له الصداقة, وأحسن من هذا أن يريد بالعدو الدنيا؛ لأن كل أحدٍ مضطر إلى خدمتها كما يخدم صديق محب وقد علم أنها له عدوة. وقوله: وإني لتغنيني من الماء نغبة ... وأصبر عنه مثل ما تصبر الربد النغبة: الجرعة. والفعل نغبت, بكسر الغين. والربد: جمع أربد وربداء. والربدة غبرة إلى سواد, وهي من صفات النعام. وبعض الناس يذكر أنها لا تشرب, وعلى ذلك يوجد تفسير المتقدمين للشعر, قال بشر بن أبي خازم: [المتقارب] نعامًا بخطمة صعر الخدو ... د لا تطعم الماء إلا صياما وقد حكى الثقات أنهم رأوها تشرب. ويجوز أن تكون إذا حصلت في المفاوز صبرت عن الماء وترده إذا وجد. وحدث بعض من يسكن بشط الفرات أنه رآها تدخله, فلا يدري أتطلب الماء أم شيئًا غيره مما ترعاه؟ وقوله: وأمضى كما يمضي السنان لطيتي ... وأطوي كما تطوي المجلحة العقد لطيتي: أي: لنيتي التي انطوي عليها, وقيل للنية التي أطوي بها الأرض؛ أي: أقطعها, وقد قالوا طية وطيات, فخففوا لكثرة الاستعمال, والمجلحة ها هنا: الذئاب, وكل من اجترأ على شيء, وألح فهو مجلح, قال امرؤ القيس: [الوافر] أرانا موضعين لحتم غيبٍ ... ونسحر بالطعام وبالشراب عصافير وذبان ودود ... وأجرأ من مجلحة الذئاب

ويقال: سنة مجلحة كأنها توصف بإهلاك المال, وهو من قولهم: جلح المال الشجر وجلحه؛ إذا أكل ورقه ثم أخذ في أطرافه ورؤوسه, ويجوز أن يكون تجليح الشجر من أن ورقه يذهب فيصير كالرأس الأجلح الذي لا شعر على مقدمه. قال الراجز: ألا ازحميه زحمةً فروحي وجاوزي ذا السحم المجلوح وكثرة الأصوات والنبوح ويقال: ذئب أعقد؛ إذا كان في ذنبه شيء كالعقدة. وقوله: وأرحم أقواةمًا من العي والغبا ... وأعذر في بغضي لأنهم ضد الغبا: مقصور في قول الفراء, وذكره الأصمعي بالمد, وإذا قالوا: رجل غبي فكأنهم يريدون أن ذهنه مغطى عليه, من قولهم: في السماء غبو وغبوة؛ أي: غبرة تستر النجوم أو الهلال, والضد: يقال للواحد والاثنين والجميع. والعامة يقولون: أضداد, وهو القياس, إلا أنه قليل في الكلام الأول. وقوله: وتمنعني ممن سوى ابن محمدٍ ... أيادٍ له عندي تضيف بها عند أي: أنه قد أكثر النعم لدي فضاقت بها عند, وهي أوسع من أخاتها التي هي ظروف؛ لأن القائل إذا قال: فوق أو تحت أو وراء أو قدام أو عن يمينٍ وشمالٍ فقد خص جهةً من الجهات الست, وإذا قال الظبية عند فلان احتمل الكلام أن تكون في كل الجهات, وفي عند ثلاث لغات: ضم العين وفتحها وكسرها. وروي أن يونس بن حبيبٍ قال يومًا في كلامه

عند, فقال له أبو عبيدة: أيقال عند؟ قال: نعم, يقال: عند, وعند (50/ب) , فقال أبو عبيدة: ما كان عندي ذلك, فقال يونس: أولك عند كأنه يستزري به! وقوله: كأن القسي العاصيات تطيعه ... هوى أو بها في غير أنمله زهد قسي: مقلوب, كأنهم جمعوا قوسًا على قؤوسٍ, ثم قلبوا فقالوا: قسو, ثم كرهوا أن يلتبس بالمصدر من قولهم: قسا القلب قسوا, فأجروه مجرى دلوٍ ودلي, وقالوا: قسي, فألزموا القاف الكسر, ولم يحك فيه الضم كما حكي في دلي وبابه الوجهان, وقال بعض المتأخرين: إنما لزموا الكسر في أول قسي ليدلوا على كسرة قياسٍ في الجمع؛ وهذا قول ضعيف. وإذا جمعت القوس جمع القلة قيل: أقؤس وأقواس. وكان المازني يرى أن الهمز في قولك: أقؤس كالواجب, وكان أبو حاتم السجستاني يختار الواو في أقؤسٍ وأثؤبٍ, قال الشاعر: [البسيط] طرن انقطاعة أوتارٍ مخظربةٍ ... في أقؤسٍ نازعتها أيمن شملا محظربة: أي: مفتولة. وقال الراجز: [الرجز] ووتر الأساور القياسا ... صغديةً تنتهب الأنفاسا وقوله: بنفسي الذي لا يزدهى بخديعةٍ ... وإن كثرت فيها الذرائع والقصد إذا قالوا: بنفسي فلان فالمعنى المفدي بنفسي, أو يفدى بنفسي. ويزدهى؛ أي: يستخف, وهو يفعتل من: زهاه إذا استخفه. والذرائع: جمع ذريعةٍ, وهو ما يتوصل به إلى الشيء المطلوب, يقال: فلان ذريعتي إلى السلطان؛ أي: الذي أتوسل به, ويقال لبيت

الصائد: ذريعة؛ لأنه يتوصل به إلى الصيد, قال الشماخ: [الطويل] وصدت صدودًا عن ذريعة عثلبٍ ... ولابني عياذٍ في القلوب حزاحز ويقال للناقة أو الجمل الذي يستتر به كي يرمى الصيد ذريعة. وقوله: مضى وبنوه وانفردت بفضلهم ... وألف إذا ما جمعت واحد فرد الألف: مذكر, وقال: جمعت فأنث؛ لأنه ذهب بها مذهب الجماعة؛ لأنها آحاد كثيرة, وإذا جعل الألف أجزاء على مئة أو دون ذلك فهو جماعة؛ فلذلك أنثه في هذا الموضع, وكان بعض العرب يقول في الألف عشر مئةٍ, وفي كلام بعضهم: ما كان عندي أن شيئًا يكون أكثر من عشر مئة, وقالوا في جمع ألف: آلاف؛ وعلى ذلك أكثر الاستعمال. والنحويون يرون أن أكثر ما كان على فعلٍ فليس بابه أن يجمع على أفعالٍ, وإن كان ذلك قد جاء في مثل قولهم: زند وأزناد, وفرخ وأفراخ, قال الأعشى: [المتقارب] وجدت إذا اصطلحوا خيرهم ... وزندك أثقب أزنادها وقال الحطيئة: [البسيط] ماذا تقول لأفراخٍ بذي مرخٍ ... حمر الحواصل لا ماء ولا شجر وقالوا: ألف, وهي قليلة, والجمع الكثير: ألوف. وقوله: لهم أوجه غر وأيدٍ كريمة ... ومعرفة عد وألسنة لد

أصل العد: الماء الذي له أصل, فلا ينتزح, والجمع أعداد. يريد أن معرفتهم بالأشياء واسعة, لا يدرك لها آخر, كما لا ينتزح الماء العد. وألسنة جمع لسانٍ على لغة من ذكر, ومن أنث قال: ألسن. قال الحطيئة: [الوافر] ندمت على لسانٍ فات مني ... فليت بأنه في جوف عكم أراد على كلام قيل باللسان, والذين يؤنثون اللسان يؤنثون الكلام الذي يقال به إذا سموه باسمه, فيقولون أتتني لسان بني فلان؛ أي: رسالتهم, وكذلك أتتني لسان عن فلان؛ أي: حديث سار أو غير سار, قال أعشى باهلة: [البسيط] إني أتاني لسان لا أسر بها ... من علو لا عجب منها ولا سخر أراد نعي رجلٍ أتاه. واللد: جمع ألد, وهو الشديد الخصومة, وكانت العرب تفتخر بذلك. وقوله: وأردية خضر وملك مطاعة ... ومركوزة سمر ومقربة جرد (51/أ) أراد بالأردية الخضر السيوف, والعرب تجعل السيف رداءً, قال عمرو بن شأسٍ الأسدي: [الطويل]

كأن رداءيه إذا قام علقا ... على جذع نخلٍ لا سحوقٍ ولا بال وقال آخر: [الوافر] ينازعني ردائي عبد شمسٍ ... رويدك يا أخا سعد بن بكر لي الشطر الذي ملكت يميني ... ودونك فاعتجر منه بشطر وملك: جمع ملكٍ, مثل نمرٍ ونمرٍ, وبيت ابن أحمر يحمل على وجهين: [السريع] مدت عليه الملك أقطارها ... كأس رنوناة وطرف طمر قيل: ملك: جمع ملكٍ, وقيل: بل أراد المملكة فأنث, كما قال الآخر: [الوافر] وحمال المئين إذا ألمت ... بنا الحدثان والأنف الغيور أنث الحدثان على معنى الحادثة. وقوله: وما عشت ما ماتوا ولا أبواهم ... تميم بن مر وابن طابخةٍ أد يقول: بنو سيار بن مكرمٍ لم يموتوا ما دمت أيها الممدوح في الحياة, وكذلك لم يمت أبواهما؛ جعل الجدين القديمين أبوين, وكذلك موضوع اللغة؛ لأن الرجل يقول: أبي آدم, وبينهما من العدد ما شاء الله. وتميم بن مر بن أد بن طابخة, وأد يقول بعض الناس هو من الود قلبت الواو همزةً لوقوعها مضمومة في أول الاسم, قال الشاعر: أد بن طابخةٍ أبونا فاذكروا ... يوم الفخار أبًا كأد تنفروا

ويجوز أن يكون اشتقاق أد من كل لفظ جاز أن يشتق منه أدد. وطابخة هو طابخة بن إلياس بن مضر, وكانوا ثلاثة إخوة مع أبيهم: طابخة, ومدركة, وقمعة. وأمهم ليلى ابنة حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة, فأغير على إبلهم, فمضى أحدهم في طلبها, فأدركها فسمي مدركة, وكان اسمه عمرًا, وأقام أخوه على قدرٍ لهم يطبخها, واسمه عامر فسمي طابخة, وأقام أخوهم عمير في البيت فكأنه انقمع فسمي قمعة, فجاءت أمهم ليلى وهي مسرعة فقال لها زوجها إلياس: مالك تخندفين وقد أدركت الإبل, فسميت خندف. والخندفة فيما يقال الذهاب والمجيء, وقيل: بل الخندفة السرعة, وقيل هي مشي فيه استدارة, وذلك من مشي النساء. وقوله: كذا فتنحوا عن علي وطرقه ... بني اللؤم حتى يعبر الملك الجعد موضع كذا نصب بفعل مضمر, كأنه قال: اذهبوا كذا, أو تنحوا كذا. والجعد: إذا وصف به ابن آدم فإنما يراد أنه مجتمع ليس بسبطٍ, وإنما يريدون صفة حاله التي هو عليها, والسباطة أحمد عندهم, قال الراجز: [الرجز] قالت سليمى لا أحب الجعدين ... ولا القطاط إنهم مناتين يا رب جعدٍ فيهم لو تدرين ... يضرب ضرب السبط المقاديم جاء بالميم مع النون, وهو إكفاء. والقطاط: جمع قططٍ, وهو الشديد الجعودة, وإذا قالوا ثرى جعد فإنما يريدون أنه ندٍ يجتمع في الكف, وكذلك إذا قالوا شعر جعد.

ومن التي أولها

ومن التي أولها اليوم عهدكم فأين الموعد ... هيهات ليس ليوم عهدكم غد وهي من الكامل الأول في قول الخليل, ومن السحل الرابع في قول غيره. هيهات: بعض العرب يفتح تاءها ويقف عليها بالهاء, وبعضهم يكسر ويقف بالتاء. ومن كان من لغته أن يقول طلحت فيقف بالتاء وهو يريد طلحة جاز أن يقول: هيهات, وهو يريد الواحد, ومن كسر ذهب بها مذهب الجمع, وهي في الوجهين معرفة. فإذا ذهب بها مذهب النكرة, وهي واحد, قيل هيهاة ففتحت التاء, كما تفتح تاء أرطاةٍ في النصب, ومن كسر قال: هيهاتٍ, كما يقول: مسلماتٍ. وقالوا أيها, وأيهات في معنى هيهاتٍ, قال الشاعر: [الطويل] ومن دونه الأعيار والقنع كله ... وكتمان أيها ما أشد وأبعدا القنع: ما بين الرمل والجبل, وقيل: هو أسفل الرمل, والأعيار: جبال. معنى هيهات معنى البعد, فإذا قالوا: هيهات كذا, فمعناه بعيد. وقوله: (51/ب) الموت أقرب مخلبًا من بينكم ... والعيش أبعد منكم لا تبعدوا استعار المخلب للموت, شبهه بمخلب الأسد؛ لأنه مهلك. وإذا قالوا: بعد الشيء يريدون ضد القرب. قالوا: يبعد وبعيد, وإذا قالوا يبعد فالماضي بعد, ومرادهم بها الهلاك, كأنهم فرقوا بين اللفظين والأصل واحد. ويقال: قوم بعد, فقيل: هو جمع باعدٍ, مثل خادمٍ وخدمٍ, وقيل: بل هو كالمصدر يقع على الواحد والاثنين والجمع, قال النابغة: [البسيط] فتلك تبلغني النعمان أن له ... فضلًا على الناس في الأدنى وفي البعد فهذا يدل على أنهم قالوا: بعد الرجل من البعد لا من الهلاك.

وقوله: إن التي سفكت دمي بجفونها ... لم تدر أن دمي الذي تتقلد هذا يحتمل وجهين؛ أحدهما: أنها سفكت دمي ولم تدر أنها تتقلده؛ لأنها غافلة عنه, وهي مطالبة به. والآخر أن يريد أنها متقلدة بقلادةٍ حمراء إما من ذهبٍ وإما من غيره, فيذهب إلى أن دمه بين عليها, ويكون نحوًا من قول أبي ذؤيبٍ: [الطويل] تبرأ من دم القتيل وبزه ... وقد علقت دم القتيل إزارها وقوله: قالت وقد رأت اصفراري من به؟ ... وتنهدت فأجبتها المتنهد من شأنهم أن يقولون لمن شكا أمرًا مثل أن يقتل له قتيل, أو يؤخذ له مال: من بك؟ أي من الذي أوقعك في هذا الأمر؟ وكأنهم يريدون: من المأخوذ بك, ومن المطالب بمالك؟ وقوله: المتنهد: كأنها لما سألت عن شأنه وتنهدت بعقب ذلك جعل جوابها عما تسأل عنه قوله المتنهد, وذكر كأنه قال الذي بي الإنسان المتنهد أو الشخص. والتنهد من قولهم: نهد الشيء إذا نهض كأنه نفس يتصعد من الصدر. وقوله: فمضت وقد صبغ الحياء بياضها ... لوني كما صبغ اللجين العسجد قد عاب هذا بعض الناس على أبي الطيب؛ لأن الصفرة لا تصدر عن الحياء, وإنما تكون معه الحمرة, ومثل هذا لا يمتنع؛ لأن حياءها يجوز أن يكون معه خوف من فضيحةٍ فتغلب عليه الصفرة. وقوله: لوني: في موضع نصبٍ؛ فيجوز أن يكون مفعولًا ثانيًا كما يقال: صبغت الثوب أحمر؛ أي: جعلته كذلك, ويحتمل أن يكون المراد صبغًا مثل لوني, فيكون اللون نائبًا عن المصدر المحذوف, وهو قريب من معنى المفعول. وقوله: فرأيت قرن الشمس في قمر الدجى ... متأودًا غصن به يتأود يحتمل هذا البيت معنيين؛ أحدهما: أن يعني رأيت نورًا كنور قرن الشمس في وجهٍ

مثل قمر الدجى. والآخر أن يعني بقمر الدجى القمر الذي يطلع بالليل, كأنه رآها في ليل فقال ذلك. والمتأود: المتعطف المتمايل, وهو من قولهم: آده إذا أثقله الشيء حتى يميله فيجعل فيه أودًا. وقوله: عدوية بدوية من دونها ... سلب النفوس ونار حربٍ توقد عدوية: منسوبة إلى عدي. وبدوية نسب على غير قياسٍ, وربما اتفق ذلك في باب النسب؛ لأنها لو نسبت إلى البدو, فلو أخذ بالقياس لقيل: بدوية, بسكون الدال, ولو نسبت إلى البادية لوجب أن يقال بادية في قول من يقول إذا نسب إلى قاضٍ: قاضي, وهو الوجه المختار, ومن قال قاضوي ألزمه القياس أن يقول بادوية, وهذا مثل قولهم في النسب: قوس رضوية, وإنما القياس رضوية, بسكون الضاد. والسلب والسلب واحد عند قوم, مثل الطرد والطرد, والشل والشلل, وقيل: بل السلب بالسكون المصدر, والسلب الاسم (52/أ) , وقيل: السلب أخذ السالب ما على المسلوب, والسلب: الشيء المأخوذ, والتحريك أحسن في هذا البيت؛ لأنه مؤد معنى التسكين, وفتح اللام أفخم وأتم للوزن. وقوله: وهواجل وصواهل ومناصل ... وذوابل وتوعد وتهدد الهواجل: جمع هوجلٍ, والألفاظ تختلف في تفسيره, فيقال: الهوجل: الأرض البعيدة الأطراف, ويقال: الهوجل: المهملة التي ليس فيها أعلام ونحو ذلك, واشتقاقه من الهجل. وإذا فسرواة الهجل قالوا: أرض مطمئنة فيها صلابة, ومنه قول ابن ميادة: [الطويل] ألا ليت شعري هل أبيتن ليلةً ... بحرة ليلى حيث نبتني أهلي وهل أسمعن الدهر أصوات هجمةٍ ... تطلع من هجلٍ خصيبٍ إلى هجل

ويجوز أن يكون مأخوذًا من الهجول, وهي المرأة البغي, كأنها مباحة من شاء ألم بها, كما أن الهوجل كذلك, قال الأفوه: [السريع] وأقطع الهوجل مستأنسًا ... بهوجلٍ عيرانةٍ عنتريس والهوجل: من النوق الجريئة على السفر. وصواهل: جمع صاهلةٍ من الخيل؛ أي: دون هذه المرأة فرسان يمنعونها. ومناصل: جمع منصلٍ, وهو السيف. يقال له: منصل ومنصل ونصل, ويقال للسنان ونصل السهم: نصل, ولا يقال فيهما: منصل. والتهدد: يحتمل أن يكون من قولهم: رجل هد؛ أي: جبان, كأنه حمله على الجبن بما قال, أو يكون من هد الحائط. وقوله: أبلت مودتها الليالي بعدنا ... ومشى عليها الدهر وهو مقيد يريد أن وطأه دام على مودتها فذلك أشد لتغيرها؛ لأن المطلق يمر مرًا سريعًا, والمقيد يتثاقل في مشيته. والعرب تصف ذلك, قال الشاعر: [الكامل] ووطئتنا وطئًا على حنقٍ ... وطء المقيد نابت الهرم وقوله: أبرحت يا مرض الجفون بممرضٍ ... مرض الطبيب له وعيد العود

أبرحت: أي: صرت به إلى البرح, وهو الأمر الشديد الشاق, وسموا الداهية بنت برحٍ, وجعله مرض الجفون؛ لأنه يحملها على البكاء والسهر, وبعض الناس ينشده يا مرض, بكسر الراء, وهو قليل في الاستعمال, إنما يقولون: لإلان مريض, والقياس لا يمنع أن يقال: مرض, كما يقال: سقم فهو سقيم وسقم, قال الأعشى: [المتقارب] يقضي بها المرء حاجاته ... ويشفى عليها الفؤاد السقم وقوله: فله بنو عبد العزيز الرضى ... ولكل ركبٍ عيسهم والفدفد الهاء في قوله: له, راجعة على الممرض, وإنما يعني نفسه؛ أي: أنه اختار هؤلاء القوم دون الناس, وترك المقاصد لمن يريدها من الركبان. والفدفد: أرض غليظة فيها ارتفاع. وقوله: من في الأنام من الكرام؟ ! ولا تقل ... من فيك شأم سوى شجاعٍ يقصد من في الأنام من الكرام معناه الاستفهام, وقد حذف منه الفعل, كأنه قال: قل يا سامع: من في الأيام, لا تقل ذلك للشأم؛ لأنه قد علم أنه ليس فيه من يقصد إلا هذا الممدوح. والشأم يستعمل بالألف واللام, وهو خاص بلد بعينه, فليست الألف واللام فيه مثلهما في الرجل؛ لأن كل آدمي يقع عليه هذا الاسم, وليس كل أرضٍ مثل الشأم في السعة يقال لها: شام؛ إلا أنه لا يمتنع أن يحذف منه الألف واللام في النداء؛ لأنه سمي وهما فيه, كما قالوا: الضحاك والعباس, فكأن حذف الألف واللام منهما أيسر منه في قولك: رجل أقبل. والنحويون يرون ذلك من الضرورات, ويحتجون بقول العرب: أصبح ليل, وافتد مخنوق؛ لأن هذين اللفظين جريا مجرى الأمثال, فجاز فيهما ما يجوز في الشعر؛ لكثرتهما على الألسن, قال بشر بن أبي خازم: [الوافر]

فبات يقول أصبح ليل حتى ... تجلى عن صريمته الظلام كأنهم يقولون: يا أيها الليل, فيجعلونه نعتًا لأي, فكرهوا أن يحذفوها مع حذف حرف النداء, وإذا سموةا (52/ب) الرجل العباس أو الحارث لم يحسن أن يقولوا: يا أيها العباس ولا يا أيها الحارث, إلا أن يخرجاهما من حال التسمية إلى حال الصفة. وقوله: أعطى فقلت لجوده ما يقتنى ... وسطا فقلت: لسيفه ما يولد قوله: لجوده ما يقتنى؛ أي: كل ما اقتناه الناس فهو من هباته, وهذا كما يقال: لفلان كل جميل يفعل في بلده؛ أي: هو من فعله ومنسوب إليه. وقوله: لسيفه ما يولد؛ أي: أنه لكثرة ما يقتل يظن كل من يولد مقتولًا بسيفه. وحسن أن يوقع ما هاهنا على الآدميين؛ لأنه وسع دعواه فكأنه قال: ولسيفه الشيء الذي يولد. وهذا كما يقال: ما أنت وقد علم أنه آدمي؛ أي: أي فن من الناس؟ وكأن المتكلم إذا سأل عن ذلك يوهم أنه جاهل متهاون. فأما قولهم: سبحان ما سبح الرعد بحمده, فإن الله سبحانه لما كان لا تدرك صفته, ولا يعلم ما حقائقه جعل كالشيء المجهول, فكأنهم قالوا: سبحان الشيء الذي سبح الرعد بحمده. وقوله: في كل معتركٍ كلًى مفرية ... يذممن منه ما الأسنة تحمد المفرية: المقطوعة, يقال: فريت وأفريت, فيشتركان في معنى القطع الذي هو هلاك وإفساد, فإذا أخرج الفري إلى معنى الإصلاح لم يقولون: أفريت. وذم الكلى هذا الفعل يريد به أنه فعل بها فعلًا قبيحًا من الفري, وإنما الذم من أصحابها, ولكن لما كان ذمهم لأجل فريها جاز أن يستعار الذم لها, وقوله: ما الأسنة تحمد: لو كان وضع موضع الأسنة غيرها لكان ذلك أقوى في النظم؛ لأن الأسنة لا تنتفع بالمفري, وربما انحطمت فيه, ولكن لما كان الممدوح يفعل بالأسنة ما يحمد عليه جاز أن ينقل إليها الحمد؛ لأنها كالخدم له.

وقوله: أسد دم الأسد الهزبر خضابه ... موت فريص الموت منه يرعد الفريص: جمع فريصةٍ, وهي لحمة في مرجع الكتف أو قريبة منها, يقال: إنها أول ما يرعد من الفرق. والأقيس في جمعها فرائص, مثل صحيفةٍ وصحايف, وكريمةٍ وكرائم, وقد قالا: فريص, كما قالوا: شعيرة وشعير, قال امرؤ القيس: [الطويل] ويشربن أنفاسًا وهن خوائف ... وترعد منهن الكلى والفريص ويسمى ما كان من اللحم على مقدار الفريصة فريصةً أيضًا على معنى التشبيه, ويجمع على فريصٍ, وفي الحديث: «إني لأكره أن أرى الرجل ثائرًا فريص رقبته قائمًا على امرأته يضربها»؛ أي: قد انتفخت عنقه من الغضب. وقوله: ما منبج مد غبت إلا مقلة ... سهدت ووجهك نومها والإثمد منبج: موافق من العربية قولهم: نبج الرجل ينبج فهو نباج ونابج؛ إذا رفع صوته, ويجوز أن تكون في الأصل عربيةً. والنباج: موضع في بلاد العرب, وقيل: إنه سمي بذلك لارتفاعه, وهو مأخوذ من رفع الصوت. وضرب من الثياب يقال لها: المنبجانية, يقال: إنها منسوبة إلى منبج, وفتحت الباء لأن الفتحة أخف من الكسرة.

وجعل وجهه كالنوم والإثمد؛ إذ كانت العين إذا لم تنم لحقها من ذلك أمر شاق, ولأن الإثمد يحسن العين, ويقوي النظر فيما يزعمون. وقيل: إن زرقاء اليمامة إنما وصفت بحدة النظر لأنها كانت تكثر استعمال الإثمد, واشتقاقه من الثمد, وهو الماء القليل, كأنه يؤخذ بالمرود قليلًا قليلًا, فيكون من قولهم: ثمدت الركي إذا أخذت ماءه قليلًا قليلًا, وماؤه في ذلك نزر. ولا يقال ثمدت الماء الغزير, وقالوا: ثمدت الرجل إذا أخذت منه عطاءً يسيرًا وهو ليس بالمكثر, قال النابغة: [الطويل] قعودًا لدى أبوابهم يتثمدونهم ... رمى الله في تلك الأكف بكانع وقوله (53/أ): لهفان يستوبي بك الغضب الورى ... لو لم ينهنهك الحجى والسؤدد يستوبي: يستفعل من الوباء, وهو كثرة الموت, وخفف الهمزة للضرورة, وتخفيفها في مثل هذه المواضع كالشيء المستمر. فإذا كان قبلها فتحة جعلوها ألفًا, مثل قولهم: يكلأ, وإذا كان قبلها ضمة جعلوها واوًا كقولك: لؤلؤ, وجؤجؤ, وإذا كان قبلها كسرة جعلت ياءً؛ كقولك: يستوبئ ويخطئ, وقد قرأت القراء بذلك في مثل قوله: {والصابئين والنصارى} يقولون: الصابين. يقال: نهنهته عن الشيء؛ إذا صرفته عنه.

والورى: كلمة أصلها أن تستعمل في النفي, فيقال: ما في الورى مثله, كما يقال: ما في النخط مثل فلان؛ أي: في الناس, وقد استعملوها في غير النفي, قال ذو الرمة: [الطويل] وكائن ذعرنا من مهاةٍ ورامحٍ ... بلاد الورى ليست له ببلاد وقوله: ريان لو قذف الذي أسقيته ... لجرى من المهجات بحر مزبد يقال: سقيت وأسقيت, فذهب قوم إلى أن المعنى واحد. وقال آخرون سقيته باليد وبالكأس, وأسقيته إذا جعلت له سقيًا؛ أي: شربًا دائمًا. ويقال أسقيته إذا أعطيته سقاءً, وقد جمع لبيد بين اللغتين في قوله: [الوافر] سقى قومي بني مجدٍ وأسقى ... نميرًا والغطارف من هلال والمهجة: خالص النفس, ويقال في الجمع الذي بالألف والتاء: مهجات, كما يقال: ظلمات, ويجوز مهجات بالفتح, ومهجات بالتسكين وهو أضعفها, والناس يألفون مهجاتٍ بفتح الهاء كأنهم يجعلونه جمع مهجٍ, فيكون الفتح أحسن عندهم من الضم. وقوله: صح يال جلهمةٍ تذرك وإنما ... أشفار عينك ذابل ومهند جلهمة هو اسم طيئ. والجلهمة هو مثل الجلهة, وهو ما استقبلك من الوادي, وكأنه مأخوذ من قولك: جلهت التراب عن الموضع إذا كنسته, ويجوز أن تكون الميم في جلهمةٍ زائدةً, كما قالوا زرقم للزرقاء, وفي الحديث: «ما كدت تأذن لي حتى تأذن

لقطا الجلهمة». والنحويون يذكرون أن جلهمة بالهاء من أسماء الرجال, وجلهم بغير هاءٍ من أسماء النساء, وينشدون: [البسيط] أودى ابن جلهم عباد بصرمته ... إن ابن جلهم أمسى حية الوادي وهم يستشهدون بهذا البيت على الترخيم في غير النداء, أراد ابن جلهمة, والذين يزعمون أنه اسم امرأةٍ يريدون أن يدفعوا بذلك الترخيم في هذا البيت, وحذف الهاء في مثل هذه المواضع غير مستنكرٍ. وقوله: أشفار عينك ذابل ومهند؛ أي: أنصارك قريب منك, فكأنهم في ذلك أشفار عينك, ويحتمل أن يريد أنك إذا نظرت إليهم قام نظرك مقام الرمح والسيف, ونسب ذلك إلى الأشفار؛ لأنها مجاورة لناظر العين, فعلم الغرض في الكلام. وقوله: أنى يكون أبا البرية آدم ... وأبوك والثقلان أنت محمد البرية: مراد بهم الخلق الذي برأه الله, ويجب أن يقع على جميع الحيوان, إلا أن الناس يخصون به بني آدم. والبرية: أصلها الهمز, وهي مما ترك همزه. وقيل: إن أهل مكة يهمزونها. وقال بعض الناس: إمنما ترك همز البرية لأنها مأخوذة من البرى, وهو التراب, وليس البرى بمهموز. والثقلان: يراد بهما الجن والإنس, والمعنى: كيف يكون آدم أبا البرية وأنت الثقلان وأبوك محمد؟ وهذا من اللفظ الذي اصطلحت عليه الشعراء, وإنما يريدون التشبيه بالفضلاء دون غيرهم؛ لأن الرجل إذا شبه بالعالم أو بالخليقة أجمعين فقد جعل مشبهًا بالسفلة وذوي العاهات؛ لأن البشر يقل فيه الفضلاء, وقد استعمل أبو الطيب مثل ذلك كثيرًا, كقوله: ومنزلك الدنيا, وأنت الخلائق, ونحوه.

ومن التي أولها

ومن التي أولها لقد حازني وجد بمن حازه بعد ... فياليتني بعد وياليته وجد وهي من أول الطويل على رأي الخيل, ومن الخامس من ضروب السحل الأل على رأي غيره. قوله (53/ب): أسر بتجديد الهوى ذكر ما مضى ... وإن كان لا يبقى له الحجر الصلد قوله: ذكر ما مضى: ينتصب على أحد وجهين: أجودهما أن يكون مفعولًا بتجديد الهوى إياه, والآخر أن يكون مفعولًا له, كأنه قال: أسر بتجديد الهوى لذكر ما مضى؛ أي: لذكري إياه, ويجوز أن يكون نصبًا على المصدر. وقوله: سهاد أتانا منك في العين عندنا ... رقاد وقلام رعى سربكم ورد القلام: ضرب من الحمض, وبعض الناس يقول: هل القاقى, وأنشد أبو عمرو الشيباني: [الطويل] أتوني بقلامٍ فقالوا تعشه ... وهل يأكل القلام إلا الأباعر والسرب: المال الراعي, والورد هذا المشموم, يقال: إنه ليس بعربي في الأصل إلا أنهم قد تكلموا به قديمًا, وهو مفقود في شعر الجاهلية, وقد جاء في الشعر الإسلامي, قال الشاعر: [الطويل] أرى عهدها كالورد ليس بدائمٍ ... ولا خير فيمن لا يدوم له عهد وعهدي بها كالآس حسنًا وبهجةً ... له نضرة تبقى إذا ما انقضى الورد

وقد استعملت العرب الورد في مواضع, ولا يريدون به المشموم, فقالوا: أسد ورد, وكأنهم يريدون أن لونه إلى الحمرة قال زهير: [الكامل] ولأنت أشجع حين تنجه الـ ... أبطال من ليثٍ أبي أجر وردٍ عريض الساعدين حديـ ... د الناب بين ضراغمٍ غثر ويروى: ضراغمٍ غبر. والغثرة: حمرة كدرة, والأغثر: الأحمق. وقالوا: عنبر ورد, قال الأعشى: [البسيط] إذا تقوم يضوغ المسك أصورةً ... والعنبر الورد من أردانها شمل واستعملوا الورد في صفة الدم, قال الشاعر: [الطويل] فلو أن أشياخًا ببدرٍ شهوده ... لبل نحور القوم معتبط ورد وقالوا: فرس ورد, وهو الذي بين الشقرة والمغرة, وقال سحيم: [الطويل] فلو كنت وردًا لونه لعشقنني ... ولكن ربي شانني بسواديا أراد لو كنت إنسانًا وردًا لونه لعشقنني, فيرفع لونًا بمعنى الفعل الذي في وردٍ. ومنهم من ينشد: وردًا لونه, فيجعله الورد المشموم, وينصب لونه على البدل.

وقوله: ممثلة حتى كأن لم تفارقي ... وحتى كأن اليأس من وصلك الوعد ممثلة, أي: أنت ممثلة كأنك ما فارقتني, وكأن يأسي منك ومن لقائك وعد يطمعني في الوصل. وقوله: إذا غدرت حسناء أوفت بعدها ... ومن عهدها ألا يدوم لها عهد كأنه قد جعل الحسناء لها عهد متقدم بالغدر, فإذا غدرت فهو وفاء منها بالعهد القديم. وقوله: وإن عشقت كانت أشد صبابةً ... وإن فركت فاذهب فما فركها قصد ادعى على الحسناء أن صبابتها تكون أشد من صبابة الرجل, والصبابة: رقة الشوق والهوى, والفرك: بغض المرأة الرجل؛ يقال: فركته فهي فارك, وقال قوم: الفرك: اسم, والفرك مصدر, وقيل: بل الفرك الاسم, والفرك المصدر, والأول أشبه, وقد جاء الفرك مستعملًا في الرجال, ولكنه شاذ, وأنشدوا قول الراجز: [الرجز] إن العجوز فارك ضجيعها ... تنهل من غير أسىً دموعها فهذا ينشد على الفرك من البغض, ويجوز أن يكون فارك ها هنا من قولهم: قال فلان كذا, ثم فرك؛ أي: لم يثبت على ما قال, كأن الضجيع لا يدوم للعجوز على ما كان عقد. فأما بغض الرجل المرأة فهو الصلف, يقال: صلفت المرأة؛ إذا لم تخظ عند زوجها, فهي صلفة وقد صلفها هو, قال الشاعر: [الوافر] وقد خبرت أنك تفركيني ... وأصلفك الغداة ولا أبالي وقوله: فما فركها قصد؛ أي: أنها لا تقصد في الأمور؛ أي: لا تفعل فعلًا متوسطًا مأخوذًا من الاقتصاد؛ من قولهم: رجل قصد؛ أي ليس بالطويل ولا القصير, والمعنى أن فركها متجاوز فيه حد القصدو وهذا يشبه قوله: كانت أشد صبابة, ولا يحسن أن يكون القصد

هاهنا مرادًا به التعمد؛ لأنها لا (54/أ) تفرك إلا وهي عامدة لما تفعل, ويدلك على أنه أراد الاقتصاد قوله: فاذهب؛ أي: ليقع منها اليأس. وقوله: سقى ابن علي كل مزنٍ سقتكم ... مكافأةً يغدو إليها كما تغدو المزن: جمع مزنةٍ, وهي السحابة البيضاء, ويجوز أن يقال: سقتكم المزن, وسقاكم, فيؤنث الفعل تارةً ويذكر أخرى, كما جاز ذلك في النخل, وما كان مثله مما بينه وبين واحده الهاء. دعا للمزن أن يسقيها جود الممدوح, وهو ابن علي, ليكون ذلك كالمكافأة لها على سقياها إياكم, ولعله ما سبق إلى هذا المعنى. وقوله: بمن تشخص الأبصار يوم ركوبه ... ويخرق من زخمٍ على الرجل البرد الباء في قوله: بمن: متعلقة بقوله لتروى, وفي تروى ضمير يرجع على البلاد؛ أي: لتروى بلاد حللتها بسقيا من تشخص الأبصار إذا ركب؛ لأنها ترى منه ما لم تجر العادة بمثله. وقوله: وتلقي وما تدري البنان سلاحها ... لكثرة إيماء إليه إذا يبدو أنث البنان, وتذكيره جائز؛ لأنه من باب المزن والنخل, جمع ليس بينه وبين الواحد إلا الهاء. وهذا الشعر يروى لنائلة بنة الفرافصة الكلبية التي تزوجها عثمان بن عفان.

ومحمد بن حبيبٍ يقول: الفرافصة, بفتح الفاء. ألا إن خير الناس بعد ثلاثةٍ ... قتيل التجيبي الذي جاء من مصر وما لي لا أبكي وتبكي قرابتي ... وقد قبضت عني بنان أبي عمرو وقوله: ضروب لهام الضاربي الهام في الوغى ... خفيف إذا ما أثقل الفرس اللبد الضاربي الهام: يجوز منه الخفض, وهو الوجه, والنصب على تقدير حذف النون لطول الاسم, وإذا قيل: هذا الضارب الرجل فالوجه النصب, ويجوز الخفض تشبيهًا بقولهم: مررت بالحسن الوجه, فإذا لم يكن في الاسم الثاني ألف ولام لم يحسن الخفض عند أهل البصرة, ولا يجيزون: هذا الضارب زيدٍ. وكان الفراء يجيزه على تأول حذف الألف واللام, كأنه قال: هذا ضارب زيدٍ. فإذا ثنى البصريون أو جمعوا جمعًا على حد التثنية وفيه الألف واللام وجاؤوا بعد باسم علمٍ مثل زيدٍ وعمروٍ, أو اسمٍ فيه علامة التعريف مثل الرجل والغلام, ساووا بين الحيزين في إجازة الخفض فيقولون: هذان الضاربا زيدٍ والضاربو أخيك, كما يقولون: هذان الضاربا الرجل, والداخلو الدار, ويجيزون حذف النون مع النصب فيقولون: هذان الضاربا عمرًا, كأنهم يعتقدون إثبات النون إلا أنهم حذفوها تخفيفًا. والعرب تصف نفوسها بالخفة على ظهور الخيل؛ لأن ذلك يدل على قلة البدن, وهم يفتخرون بالهزال والشحوب وقلة الأكل, قال الشاعر: [الطويل] فقلت لها ليس الشحوب على الفتى ... بعارٍ ولا خير الرجال سمينها

وقال الأعشى: ترى همه نظرًا خصره ... وهمك في الغزو لا في السمن وإنما آثروا خفة الجسم لأنه إذا خف كان أسرع لانتقاله, وأجدر بتمكنه من الطعن وغيره مما يعانيه أصحاب الحرب. وقوله: وسيفي لأنت السيف لا ما تسله ... لضربٍ ومما السيف منه لك الغمد وسيفي: أراد به معنى القسم, كأنه آلى بسيفه أن هذا الممدوح هو السيف لا الذي يسله للضرب. ومما السيف منه لك الغمد؛ أي: عليك درع أو جوشن, وهما يتخذان من الحديد كما أن السيف منه يطبع. وقد ذهب قوم إلى أن قوله: وسيفي: يريد به ويا سيفي لأنت السيف, فحذف حرف النداء, وهذا لا يمتنع, ولكن الأول أحسن. والقول في قوله: ورمحي, مثل القول في قوله: وسيفيه؛ أي: أنت يا ممدوح سيفي ورمحي, والقسم أجود. وقوله: ورمحي لأنت الرمح لا ما تبله ... نجيعًا ولولا القدح لم يثقب الزند الزند: الذي يقدح به معروف, وهما زندان, فلأعلى مذكر, والأسفل مؤنث, يقال فيه: زندة؛ لأنهم جعلوهما كالرجل والمرأة. وأثقب الزند: إذا أخرج نارًا, ثم قيل لما يطرح على النار لكي تشتعل: ثقوب. وقوله: صيام بأبواب القباب جيادهم ... وأشخاصها في قلب خائفهم تعدو (54/ب) يقال: فرس صائم, وخيل صيام؛ إذا كانت واقفةً لا تأكل ولا تشرب, ويقال: هو في مصامه؛ أي: في الموضع الذي يثبت فيه. قال امرؤ القيس: [الطويل] كأن الثريا علقت في مصامها ... بأمراس كتان إلى صم جندل

وقال النابغة: [البسيط] خيل صيام وخيل غير صائمةٍ ... تحت العجاج وأخرى تألك اللجما يريد أنهم يقفون الخيل بأبواب قبابهم لتكون معدةً إن صاح صائح عجلوا إلى الركوب, قال الشاعر: ولهم قباب لا تزال منيفةً ... سدوا بكل مطهمٍ أبوابها ويقولون للخيل التي يفعل بها ذلك: المقربة؛ أي: أنهم يقربونها منهم, وذهب قوم إلى أنهم لا يقولون مقربةً إلا للإناث؛ لأنهم يدنونها من البيوت خشية أن ينزو عليها فحل غير كريمٍ, والأشبه أن يكون ذلك عامًا للذكور والإناث. وقوله: وأنفسهم مبذولة لوفودهم ... وأموالهم في دار من لم يفد وفد الوفد: جمع وافد, مثل صاحبٍ وصحبٍ, وأكثر ما يستعمل ذلك في القوم الذين يفدون على الملك يطلبون عطاءه أو عفوه, وكثرت هذه الكلمة حتا قالوا: وفد عليه الشيء؛ إذا جاءه, ويقولون: فلان وافد بني فلانٍ؛ إذا كان المعتمد عليه في الوفادة على الملوك؛ لأنه يصلح شأنهم ويتنجز مآربهم, قال الأعشى: رأت رجلًا غائب الوافد يـ ... ـمن منتشل النحض أعشى ضريرا أراد أن الذين يفدون عنه قد غابوا, ويروى الوافدين على التثنية, ويزعمون أنه أراد عينيه؛ لأنه جعلهما تفدان على الملوك. وقوله: كأن عطيات الحسين عساكر ... ففيها العبدى والمطهمة الجرد

العساكر: جمع عسكرٍ, يقال ذلك لكل جماعةٍ, إلا أن أكثر ما يستعمل في الجموع المجتمعة للحرب. قال الراجز: [الرجز] هل لك في أجرٍ عظيمٍ تؤجره تعين صعلوكًا كثيرًا عسكره قد حدث النفس بمصرٍ يحضره أراد بعسكره عياله, ويقال: جاءت عساكر الليل عساكيره؛ أي: ظلامه, وقد عسكر الرجل إذا كان حوله عسكر, قال الراجز: لما رأيت الليل في حريمه معسكرًا في الغر من نجومه والعبدى: جمع عبدٍ على غير قياسٍ, وقد حكي فيه المد والقصر. والمطهمة من الخيل: التي يحسن منها كل شيء على حدته. وربما قيل: المطهم: الحسن الخلق, وقالوا: رجل مطهم, وهو من هذا الاشتقاق, قال النمر ابن تولب: [المتقارب]

فأحبلها رجل نابه ... فجاءت به جعظرًا مطهما الجعظر: الكثير العضل الغليظ, والمطهم: الحسن الخلق التامه. وقوله: أرى القمر ابن الشمس قد لبس العلى ... رويدك حتى يلبس الشعر الخد العرب مجمعون على تأنيث الشمس, والمنجمون يزعمون أنها نجم ذكر, وجرت عادة الشعراء بأن يشبهوا المرأة بالشمس؛ لأنها مؤنثة في كلامهم, وقد شبهوا الملك بالشمس, قال النابغة: [الطويل] بأنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب ولا شك أن أبا الطيب لم يرد بالشمس إلا أبا الممدوح, فأما تشبيههم السيد بالقمر فكثير, قال الفرزدق: كم من أبٍ لي يا جرير كأنه ... قمر الدجنة أو سراج نهار وحذفوا حرف التشبيه كما فعلوا ذلك في مواضع كثيرة, قال الفرزدق: أخذنا بآفاق السماء عليكم ... لنا قمراها والنجوم الطوالع يقال: إنه أراد بالقمرين النبى صلى الله عليه وسلم وإبراهيم عليه السلام. والأشبه أن يكون الفرزدق أراد بالقمرين والنجوم الطوالع سادات قومه خاصةً ولم يذهب إلى ما تقدم ذكره؛ لأنه يفخر في هذه القصيدة على جرير, ولجرير في الفخر بالنبى صلى الله عليه وسلم وإبراهيم عليه السلام مثل ما للفرزدق, وكلاهما من تميم بن مر. وقوله: وغال فضول الدرع من جنباتها ... على بدنٍ قد القناة له قد لم تزل الشعراء تصف السادة بالطول, قال الشاعر, ويروى لابن ميادة: [الطويل]

ترى سيفه لا ينصف الساق نعله ... أجل لا وإن كانت طوالًا حمائله وقال بعض الأعراب: [المتقارب] نشدتك بالله هل تعلميـ ... ـن أني طويل وأني حسن وقال آخر وهو معتذر من قصره: [الطويل] إذا كنت في القوم الطوال وصلتهم ... بعارفةٍ حتى يقال طويل وقوله: غال فضول الدرع؛ أي: أنها قصرت عليه (55/أ) فكأنه غال فضولها؛ أي: أهلكها؛ لأنه لم يترك لها فضلًا, بل هي قصيرة عليه, وهذا ضد ما قال قيس بن عيزارة الهذلي لما أسره تأبط شرًا وأخذ درعه فلبسها, وكان تأبط شرًا قصيرًا فسحبها: [الطويل] فلله بز جر شعل على الحصى ... ووقر بز ما هنالك ضائع وشعل: لقب تأبط شرًا. وقوله: وشهوة عودٍ إن جود يمينه ... ثناء ثناء والجواد بها فرد ثناء: لا ينصرف في المعرفة ولا في النكرة, وكذلك أخواةته من أحاد إلى عشار, وردد ثناء مرتين لأنه أشد للمبالغة وأدل على تتابع العطاء, وترك صرف الأول على ما يجب,

وصرف الثاني على معنى الضرورة؛ لأنه لو لم يصرفه لصار في البيت زحاف يسمى القبض, وكان أبو الطيب يجتنبه, وقد استعمله الطائيان, كقول حبيب بن أوس: [الطويل] كساك من الأنوار أبيض ناصع ... وأحمر ساطع وأصفر فاقع وكقول الوليد بن عبيد: [الطويل] تبعت الرجال أطلب المال عندهم ... فكيف يكون المال مطلبًا عندي وقوله: وعندي قباطي الهمام وماله ... وعندهم مما ظفرت به الجحد القباطي: جمع قبطية, وقالوا: قبطية, بكسر القاف, وهي ثياب بيض, كأنها كانت تأتيهم من بلاد القبط, وهي مصر وما حولها, فنسبوها إليهم, وغيروا في النسب؛ كما قالوا: بصري في بصري, ودهري في الرجل الذي تقادم عليه الدهر؛ قال زهير: [البسيط] ليأتينك مني منطق قذع ... باقٍ كما دنس القبطية الودك وقوله: يرومون شأوي في الكلام وإنما ... يحاكي الفتى فيما خلا المنطق القرد يريد أنهم يرومون مجاراته في الكلام, وأن يكون شأوهم مثل شأوه؛ أي: سبقهم مثل سبقه, والشأو: السبق, ثم سمي الطلق شأوًا يريد أنهم مثل القرود, والقرد يتشبه بابن آدم في أفعاله, ولا يقدر على أن ينطق كما ينطق الرجل, فهؤلاء إن تشبهوةا بي في بعض الشيم فلن يستطيعوا على الإتيان بمثل ما أقول.

وقوله: فهم في جموعٍ لا يراها ابن دأيةٍ ... وهم في ضجيجٍ لا يحس به الخلد ابن دأيةٍ: الغراب, وهو معرفة في الأصل, مثل: ابن عرسٍ وابن آوى, وصرفه هاهنا للضرورة, وإنما سمي بذلك لأنه يقف على دأية البعير, وهي الضلع. وقيل: إن الفقاء دأيات, ولا يمتنع أن يقال لكل عظيم غليظ: دأية, قال طرفة: [الطويل] كأن علوب النسع في دأياتها ... موارد من خلقاء في ظهر قردد ويجوز أن يجعل ابن دأيةٍ هاهنا نكرةً فلا يكون في البيت ضرورة؛ لأن تنكيره ممكن إذا كان سائغًا أن يقال: وقع على الناقة ابن دأيةٍ, ثم جاء ابن دأيةٍ آخر. والخلد هذه: الفأرة المعروفة, وهو موصوف بجودة السمع, كما أن الغراب موصوف بحدة النظر. قال ابن ميادة: [الطويل] ألا طرقتنا أم عمروٍ ودونها ... حراج من الظلماء يعشى غرابها بالغ في صفة الظلماء لأنه جعل الغراب لا يبصر فيها. وقوله: ومني استفاد الناس كل غريبةٍ ... فجازوا بترك الذم إن لم يكن حمد تم الكلام عند قوله كل غريبة, وهو إخبار عن أغيابٍ, ثم ترك ذلك الكلام وخرج إلى صفة قوم مخاطبين, كأنه قال: فيا أيها الناس جازوا بترك الذم إن لم تحمدوي إذا كنت أستحق منكم الحمد. والخروج من الإخبار عن الغائب إلى مخاطبة الشاهد, ومن مخاطبة الشاهد إلى الإخبار عن الغائب كثير جدًا, وبعضه أحسن من بعضٍ, ومن أشده ما أنشده أبو عبيدة: [الطويل] وما جأبه عصماء تأوي بغفرها ... إلى الهضبات الشم من وطدان بأنفع لي منها وإني لذاكر ... هوى منك أفنى مهجتي وبراني

ومن بيتين أولهما

ومن بيتين أولهما إن القوافي لم تنمك وإنما ... محقتك حتى صرت ما لا يوجد وهما من الكامل الأول في قول الخليل, ومن السحل الثالث في قول غيره. يقال: محق الشيء بمحقه؛ إذا أهلكه, ومال ممحوق إذا لم تكن فيه بركة. وقالوا لشدة الحر: ماحق, كأنه يمحق الشيء الذي يصادفه, (55/ب) فإذا طلع على العشب يبس وذهبت نضرته, وإذا اشتد على الثمار تضاءلت منه, قال الهذلي: [البسيط] ظلت صوافن بالأرزان ضاويةٍ ... في ماحقٍ من نهار القيظ محتدم جمع رزنٍ, وهو ما غلظ من الأرض. ومن بيتين أولهما تستكثرون أبياتًا نأمت بها ... لا تحسدن على أن ينئم الأسدا وهما من أول البسيط في قول الخليل, ومن السحل الثاني في قول غيره. الأبيات تصغير أبيات من الشعر. وإنما قيل للكلام المنظوم بيت تشبيهًا ببيت الشعر, وربما ألغزوا به, كما قال الشاعر: [الوافر] وبيتٍ ليس من شعرٍ وصوفٍ ... على أوصال راحلةٍ بنيت

ومن أبيات أولها

يريد بيت الشعر. والنئيم: صوت خفي يستعمل للأسد وغيره, ومنه قولهم: أسكت الله نأمته؛ أي: لا سمع له صوت. وقد استعملوا النئيم في صوت الحمام. وقوله: لا تحسدن على أن ينئم الأسدا أعمل الفعل الأول وهو قوله: لا تحسدن؛ لأن القافية منصوبة, وإعمال الفعل الأول اختيار الكوفيين, ولو أن البيت مرفوع لكان ذلك على إعمال الفعل الثاني وهو ينئم, وإلى هذا الوجه يذهب البصريون؛ لأن مذهبهم إعمال أقرب الفعلين من المعمول فيه. وقوله: لو أن ثم قلوبًا يعقلون بها ... أنساهم الذعر مما تحتها الحسدا ثم: كلمة مبنية على الفتح, وهي كناية عن الأمكنة. يقال: فلان هنا؛ أي: هو قريب, وفلان ثم؛ أي: بعيد, وكأنها ضد هنا, وتقع على ما بين الناطق وبينه أذرع إذا كان ثم ما هو أقرب إليه منه, ويجوز أن يقول المقيم بالشام إذا ذكر أبعد الأماكن ليس ثم كذا. ومن أبيات أولها أما الفراق فإنه ما أعهد ... هو توأمي لو أن بينًا يولد وهي من الكامل الأول في قول الخليل, ومن السحل الثالث في قول غيره. توأم الرجل: الذي يولد معه, وهما توأمان, والأنثى توأمه. والعرب تذم التوأم؛ لأنهم ينسبونه إلى الضعف وصغر الجسم؛ قال معاوية بن أوسٍ اليربوعي: [المتقارب] فقام فتىً نشنشي الذراع ... ليس بنكسٍ ولا توأم يقول: كأن البين ولد معي ومعرفتي به قديمة.

ومن التي أولها

ومن التي أولها كم قتيلٍ كما قتلت شهيد ... لبياض الطلى وورد الخدود وهي من الخفيف الأول على رأي الخليل, وعلى رأي غيره من الطلوق. وقوله: وعيون المها ولا كعيونٍ ... فتكت بالمتيم المعمود المتيم: الذي قد استعبده الحب, ومن ذلك سموا الرجل تيم اللات, كما يقولون: عبد الله, وتامت المرأة فؤاده: إذا ذهبت به, قال الشاعر: [البسيط] تامت فؤادك لما أن عرضت لها ... إحدى بنات بني ذهل بن شيبانا ويجب أن يكون من ذلك اشتقاق قولهم: التيمة للشاة التي يرتبطها أهل البيت, فينتفعون بلبنها ثم يذبحونها, كأنهم أرادوا أنهم ذهبوا بها فتمكنوا من المنفعة بلبنها ولحمها أكثر من تمكنهم بالمال الراعي, وقد جاء ذلك في الحديث في قوله: «والتيمة لصاحبها» , ويقال: اتام الرجل؛ إذا اتخذ تيمةً. قال الحطيئة: [الوافر] وما تتام جارة آل لأيٍ ... ولكن يضمنون لها قراها والمعمود: مثل العميد, وهو الذي قد غلب الحب عليه فأمرضه, حتى صار إذا احتاج أن يجلس عمد؛ أي: أسند, وهذا أشبه من أن يكون من قولهم: عمد البعير؛ إذا انفضح سنامه من حملٍ أو ركوبٍ, وكلا الوجهين يحتمل أن يكون.

وقوله: در در الصبى أأيام تجريـ ... ر ذيولي بدار الأثلة عودي الدر: أصله اللبن, وهو مسمى بالمصدر؛ لأنه يقال: در الضرع درًا, ثم كثر ذلك حتى قالوا للمحمود: لله دره؛ أي: لله اللبن الذي أرضع به. وقالوا للمذموم: لا در دره, وأوقعوا قولهم لله در فلان في معنى التعجب, قال رجل من قريش: [الطويل] لله دري حين أدركني البلى ... على أي ما تأتي الحوادث أندم وقال مالك بن الريب: [الطويل] فلله دري حين أترك طائعًا ... بني بأعلى الرقمتين وماليا كأنه تعجب من نفسه, وربما استعملوا ذلك في المذموم (56/أ) كأنه نقلوا التعجب من المحمود, وهو غير بريء من الحمد, فوضعوه لمن هو مستحق للذم, قال عبيد الله بن قيس الرقيات: [الخفيف] إن لله در قومٍ يريدو ... نك بالنقص والشقاء شقاء وإن ها هنا في معنى نعم, وقال عبيد بن الأبرص: [الخفيف] در در الشباب والشعر الأسـ ... ود والراتكات تحت الرحال

أأيام: يختار أكثر الناس أن تخفف الهمزة الثانية, وتخفيفها أن تجعل بين بين, وهي في زنة المتحرك, وبعضهم يختار تخفيف الهمزة الأولى, وذلك إذا كان قبلها كلام, فأما إذا كانت مبتدأً بها فما يجوز فيها التخفيف. ويروى تجرير ذيولي بإضافة تجرير إلى ذيول. وبعض الناس ينشد: وتجريري فيضيف إلى ياء النفس, وهو فيما أراه أحسن وأخف في اللفظ. والأثلة: واحدة الأثل, وهو شجر يعظم. وقد يجوز أن يقال لكل شجرةٍ عظيمةٍ أثلة على معنى الاستعارة. ويقال إن أبا الطيب كان يسكن الكوفة في موضع به سدرة يعرف بدرب السدرة أو دار السدرة, فكأنه كنى عنها بالأثلة؛ لأن السدرة لم يمكن دخولها في هذا الموضع, وتوصل إلى نظم الأثلة في البيت بأن ألقى حركة الهمزة على لام التعريف, وقد استعاروا الأثلة في أصل الرجل ومحتد القوم وقالوا: هو مغرًى بنحت أثلتنا: إذا كان يذمهم ويذكر معايبهم؛ قال الأعشى: [البسيط] ألست منتهيًا عن نحت أثلتنا ... ولست ضائرها ما أطت الإبل وإلقاء حركة الهمزة على ما قبلها إذا كان ساكنًا كثير موجود, وليس بضرورة, ومنه قول ذي الرمة: [الطويل] من آلٍ أبي موسى ترى الناس حوله ... كأنهم الكروان لاقين بازيا وقوله: عمرك الله هل رأيت بدورًا ... قبلها في براقعٍ وعقود عمرك: كلمة تستعمل في القسم, فإذا دخلت عليها لام الابتداء كانت مرفوعةً, وكان الخبر محذوفًا. وإذا فقدت اللام فهي منصوبة, وانتصابها بفعل مضمرٍ, كأنه قال: أذكرك عمرك الله أو نحو ذلك من الأفعال, والعمر: يجب أن يكون مصدر عمر يعمر, وهو ها هنا موضوع موضع الخدمة كأنه قال أذكرك خدمتك الله, أخذ من قولهم: عمرت البيت الحرام؛

إذا زرته, ومنه اشتقاق الاعتمار والعمرة, قال غالب بن الحر الجعفي: أنشده ابن الأعرابي في صفة نخلٍ: [الطويل] يطوف بها الزوار كل عشيةٍ ... كما طافت العمار حول المناسك فلما كانت الزيارة فيها تواضع للمزور جعلت الخدمة عمرًا, وقال قوم: معنى قولهم: عمرك الله؛ أي: حلفك بعمره إذا قال: لعمر, والعمر: البقاء, وقالوا: عمرتك الله؛ أي: جعلتك تحلف بعمره, أو تخدمه, قال الشاعر: [البسيط] عمرتك الله ألا ما ذكرت لنا ... هل كنت جارتنا أيام ذي سلم ويحتمل أن يكون قولهم: عمرك الله, مأخوذًا من: عمرت الديار من العمارة؛ أي: بعمرك المنازل المشرفة بذكر الله وعبادته, ويكون هذا الكلام مجانسًا لقوله: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله}؛ أي: أمر الله, فحذف المضاف. وقوله: رامياتٍ بأسهمٍ ريشها الهد ... ب تشق القلوب قبل الجلود العرب تجعل العين كالسهم, قال جميل, ويروى للمرار: [الطويل] معانان منها مرةً في كليهما ... تصحفت واضطم الفؤاد على سهم أراد أنها نظرت إليه فكأنها رمته بسهم, أو كأنه نظر إليها فكان نظره كالسهم, وبيت أبي الطيب مأخوذ من قول جميل: [الطويل]

رمتني بسهمٍ ريشه الكحل لم يضر ... ظواهر جلدي وهو في القلب جارح والهدب: شعر الأجفان. وقوله: يترشفن من فمي رشفاتٍ ... هن فيه أحلى من التوحيد يترشفن: من قولهم: رشفت الماء؛ إذا أخذته قليلًا قليلًا, ومن أمثالهم: «العب أروى, والرشيف أشرب» أي: إن الذي يعب يروى سريعًا, والذي يرشف يشرب أكثر من العاب. وقالوا: رشفت الريق؛ لأنه (56/ب) يؤخذ قليلًا قليلًا, وقوله: أحلى من التوحيد: يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون وصف التوحيد بالحلاوة في فمه, وجعل الرشفات أحلى منه على وجه المبالغة, كما يقال: هو أحلى من الضرب, لأن الضرب معروف بالحلاوة. والآخر أن يكون جعل التوحيد غير موصوف بالحلاوة. وقوله: كل خمصانةٍ أرق من الخمـ ... ر بقلبٍ أقسى من الجلمود رفع أرق لا يمتنع على أن يجعل كل ابتداءً؛ أي: كل امرأةٍ خميصة البطن أرق من الخمر, والخميصة الضامرة, ويقال: خمصانة, وللذكر: خمصان. وقد حكي بفتح الخاء. ويجوز بأن ترفع كل على أنها بدل من المضمر في قوله: يترشفن, فإذا حمل على ذلك جاز رفع أرق على أن يحمل على كل, وجاز أن يفتح وهو في موضع خفضٍ على أن يجعل نعتًا لخمصانةٍ, ويجوز نصب كل على أن يكون محمولًا على قوله: بدورًا فيجعل بدل تبيين. وقوله: بقلبٍ: أي: تغدو بقلبٍ وتجيء به, كما يقال: فلان بثوبٍ موشي؛ أي: قد جاء بهذه الحال.

وقوله: حالكٍ كالغداف جثلٍ دجوجـ ... ي أثيثٍ جعدٍ بلا تجعيد الحالك: الشديد السواد, والغداف: الغراب الأسود الكثير الريش, وهم يشبهون الشعر الأسود بالغراب, قال الشاعر, ويقال: إنه لأبي حية النميري: [المتقارب] فلا يبعد الله ذاك الغراب ... وإن كان لا هو إلا ادكارا والجثل: الكثير الأصول. والأثيث: يوصف به الكثير من الشعر والنبت. والدجوجي: الأسود, والجعد: الذي ليس بسبطٍ كأنه يتجمع بعضه إلى بعض, يقال: جعد وجعاد, ولمة جعدة, قال الشاعر: [الخفيف] شدخت غة السوابق منهم ... في وجوهٍ مع اللمام الجعاد وقوله: تحمل المسك عن غدائره الريـ ... ح وتفتر عن شتيتٍ برود الغدائر: جمع غديرةٍ من الشعر, وهي مأخوذه من أغدرت الشيء وغادرته, إذا تركته, كأنها تركت في موضعها لم تذهب مع ما سقط من الرأس لما سرح. وتفتر: أي: تضحك, وهو مأخوذ من فررت الدابة إذا فرجت ما بين جحفلتيها لتعرف سنها, والشتيت من صفات الثغر؛ لأنهم يقولون: ثغر مفلج إذا لم يركب بعضه بعضًا وكان بينه فروق. والبرود: مثل البارد إلا أنه أشد مبالغةً؛ لأن فعولًا أبلغ من فاعلٍ. وإذا وصف الثغر بذلك احتمل أن يكون الفعل غير متعد, كما يقولون: برد الماء؛ إذا صار باردًا, وجاز أن يكون متعديًا, يؤخذ من قولهم: برد الماء غليل المدنف؛ إذا أذهب حرارته.

وقوله: جمعت بين جسم أحمد والسقـ ... ـم وبين الجفون والتسهيد ذكر أحمد وهو يعني نفسه, وقيل: إن أبا علي الفارسي كان يسمي هذا التجريد, ويجوز أن يكون أخذه عن بعض الأشياخ, ومثله كثير في الشعر, ومنه قول الأخطل: [المتقارب] ألم على عنبات العجوز ... وقفتها من غياثٍ لمم يعني بغياثٍ نفسه. وقد جعلوا من هذا النحو قوله تعالى: {واعلم أن الله عزيز حكيم} , وإنما هذا نائب عن قوله: واعلم أني عزيز حكيم. وقوله: أهل ما بي من الضنى بطل صيـ ... ـد بتصفيف طرةٍ وبجيد يقول: أهل ما بي رجل بطل صيد بطرةٍ, وهي ما تقدمه المرأة في مقدم شعرها, وأصل الطرة الجانب. كأنه يتشمت لنفسه لما غلبته هذه المرأة فيقول: أنا مستحق لما أصابني إذ كان ينبغي أن أحتمي وأمتنع. وقوله: كل شيء من الدماء حرام ... شربه ما خلا دم العنقود أحل الخمر في هذا البيت على سبيل الدعوى, وذلك قبيح بمن يشتمل عليه الإسلام. وقد فعل ذلك غيره من الشعراء, ويروى للحكمي: [الطويل] أحل العراقي النبيذ وشربه ... وقال أناس إنما حرم السكر وقال الحجازي النبيذان واحد ... فحلت لنا بين اختلافهم الخمر

فأما قول امرئ القيس: [السريع] حلت لي الخمر وكنت امرأً ... عن شربها في شغلٍ شاغل فلا معتبة عليه في ذلك؛ لأنه جاهلي. وكانوا إذا طلبواة ثأرًا حرموا على نفوسهم الخمر حتى يدركوه, ومنه قول قيس بن الخطيم: [الطويل] ومنا الذي آلى ثلاثين ليلةً ... على الخمر حتى زاركم بالكتائب وقوله: فاسقنيها فدًى لعينيك نفسي ... من غزالٍ وطارفي وتليدي خرج من التشبيب بالمؤنث إلى المذكر, وهم يفعلون ذلك كثيرًا؛ لأنهم يشبهون المرأة بالغزال والظبي وغير ذلك من المذكرات, فكأنهم يذكروا على هذا المعنى, وأصل ذلك أنهم يجترئون على طرح حرف التشبه؛ لأن السامع عالم بالغرض, ومن ذلك قول النابغة بعد أن بدأ بذكر المتجردة: [الكامل] فبدت ترائب شادنٍ متربب ... أحوى أحم المقلتين مقلد وقوله: مفرشي صهوة الحصان ولكـ ... ن قميصي مسرودة من حديد المفرش, بفتح الميم: كأنه موضع لا يجوز عليه الانتقال, وإذا كسرت الميم جاز أن يذهب به مذهب المخدة والمطرح. ولا يمتنع الوجهان في هذا الموضع, وكلاهما على معنى التشبيه, وهو كقول عنترة: [الكامل] وحشيتي سرج على عبل الشوى ... نهدٍ مراكله نبيل المحزم والصهوة: مقعد الفارس من الفرس, وصهوة كل شيء أعلاه. والمسرودة: الدرع, وسردها: نسجها, وكل متتابع مسرود ومتسرد.

وقوله: لأمة فاضة أضاة دلاص ... أحكمت نسجها يدا داوود اللأمة: الدرع. وفاضة: أي: تفيض على الدارع. وإنما جعلت فائصةً لأنها تشبه بالغدير, ومن شأن الماء أن يفيض. قال عمرو بن معد يكرب: [المتقارب] وأعددت للحرب فضفاضةٍ ... دلاصًا تفيض على الراهش وقال آخر في صفة الدرع: [المتقارب] تفيض على المرء أردانها ... كفيض الغدير على الجدجد وأضاة: غدير, وهذا على حذف التشبيه؛ لأنهم يقولون: كأنها أضاة, ثم يحذفون كأن؛ قال النابغة فجعل الدروع إضاءً: [الطويل] طلين بكديونٍ وأشعرن كرةً ... فهن إضاء صافيات الغلائل الكديون: عكر الزيت, والكرة بعر يحرق ويذر على الدرع كي لا تصدأ. والعرب تنسب الدروع إلى داود, وقد جاء ذلك في كتاب الله جلت عظمته, وربما نسبوها إلى سليمان, قال النابغة: [الطويل] وكل صموتٍ نثلةٍ تبعيةٍ ... ونسج سليمٍ كل قضاء ذائل

أراد سليمان. وقال الحطيئة, وذكر جيشًا: [البسيط] فيه الرماح وفيه كل سابغةٍ ... قضاء محكمةٍ من نسج سلام وقوله: لسري لباسه خشن القطـ ... ـن ومروي مرو لبس القرود اللام في لسري تحتمل وجهين: أحدهما أن تكون على تقدير قوله: اعجبوا لسري, وهو أحد القولين في قوله تعالى: {لإيلاف قريش}. ومنه قول النابغة: [الوافر] أتخذل ناصري وتعز عبسًا ... أيربوع بن غيظٍ للمعن أي: اعجبوا للمعن. وقال آخر: [الوافر] ألا ياحمز للقلص النواء ... وهن معقلات بالفناء والآخر أن تكون اللام في قوله لسري متعلقة بقوله باللطف من عزيزٍ حميد؛ أي: بلطف الله سبحانه لسري هذه صفته, كما يقال لطف الله له؛ أي: صنع إليه خيرًا. والقطن: يقال بتسكين الطاء وضمها, وجاء في الشعر القطن والقطنن, وهذا البيت ينشد على وجهين: كأن مجرى دمعها المستن ... قطنة من أجود القطن ويروى قطننة. فأما قول لبيد: [الكامل]

شاقتك ظعن الحي حين تحملوا ... فتكنسوا قطنًا تصر خيامها فقيل: أراد هذا (57/ب) القطن المعروف, وقيل: القطن: جمع قطينٍ, وهم أهل الدار, وقيل: بل القطن: جمع قطانٍ, وهو جانب الهودج. وقوله: يقتل العاجز الجبان وقد يعـ ... ـجز عن قطع بخنق المولود البخنق: خرقة صغيرة تجعل في عنق الطفل, ويجعل البخنق في غير هذا الموضع بمعنى البرقع الصغير. وقوله: ويوقى الفتى المحش وقد خو ... ض في ماء لبة الصنديد المحش: الذي يحش الحرب؛ أي: يوقدها. يقال: حش النار: إذا جمع جمرها وألقى عليها حطبًا, وكل من قوى شيئًا بشيء فقد حشه به, ومنه قول الحارث بن ظالمٍ: [الوافر] وحش رواحة القرشي رحلي ... بعنسٍ لم تكن منه ثوابا أي: قوى رحلي بأن أعطاني ناقة لم تكن ثوابًا عن فعلٍ جميلٍ تقدم مني إليه, والمخش بالخاء معجمةً من صفة الشجاع أيضًا, وهو من قولهم: خش في الشيء إذا دخل فيه, كأنه يدخل في غمرات الحرب, وقول العامة: قد انخش فلان؛ أي: ضعف وذل, كأن بعضه دخل في بعضٍ. وقوله: وبهم فخر كل من نطق الضا ... د وعوذ الجاني وغوث الطريد معروف بين الناس أن الضاد يتعذر النطق بها إلا على العرب, وذلك بين إذا تفقد. والمتفقهون من العجم بالعراق لا يكادون ينطقون بالضاد صحيحةً, ولابد لهم من تحريفها, إما إلى الظاء, وإما إلى الذال, وذكر ابن دريدٍ أن الطاء هي المقصورة على العرب, وأن الضاد قد يستعملها بعض العجم, والله العالم بحقائق الأمور.

ومن التي أولها

ويقال: إن حجرًا أبا امرئ القيس لما أخذ في قول الشعر أنكر عليه ذلك, وأحضروه, وقال: لا تبرح حتى تأتي بخمسين بيتًا على قافية بين الضرس والثنية, فقيل: أراد الضاد, وقيل: أراد السين. فأما الأطفال من كل الأجناس فتكون الظاء أخف عليهم من الضاد حتى يؤخذوا بإخلاصها والإتيان بها على ما يجب. ومن التي أولها أهلًا بدارٍ سباك أغيدها ... أبعد ما بان عنك خردها قال: أغيدها, وهو يريده مؤنثًا؛ لأنه أراد أن المرأة تشبه الغزال, ثم حذف التشبه. قال عدي بن الرقاع العامري: [الكامل] لولا الحياء وأن رأسي قد عثا ... فيه المشيب لزرت أم القاسم وكأنها بين النساء أعارها ... عينيه أحور من جآذر جاسم وسنان أقصده النعاس ورنقت ... في عينه سنة وليس بنائم شبهها بالجؤذر, وهو ولد البقرة الوحشية. ويجوز أن يكون تذكيرهم المحبوب وهم يريدون المؤنث على معنى الشخص أو الإنسان؛ لأن الإنسان يقع على الرجل والمرأة. وأجود الروايتين أبعد على أنه أفعل من البعد. والخرد: جمع خريدةٍ على غير قياسٍ؛ لأن فعيلًا وفعيلة ليس بابهما أن يجمعا على فعل, وإنما خرد في الحقيقة جمع خارد أو خاردة, ومن روى أبعد على الاستفهام فالمراد: أتفرح بهذه الدار بعدما بان الذين كنت تكرمها لأجلهم؟ ! . وهذا البيت فيه مجاز واتساع؛ لأن العادة جرت بأن يقال أهلًا بفلانس للقادم, لا للذي يقدم عليه, ولكن لما جعلها سارةً له كما يسر المحبوب القادم جاز أن يقول لها ذلك. وقوله: ظلت بها تنطوي على كبدٍ ... نضيجةٍ فيق خلبها يدها ظلت: مراد بها ظللت, وفيها لغتان: أجودهما فتح الظاء, والأخرى كسرها. وأكثر

القراء على الفتح في قوله: {فظلتم تفكهون}. وروي عن يزيد بن القعقاع أنه قرأ بالكسر. وسيبويه يذهب إلى أن هذه الأفعال مسموعة لا تقاس. وكان الكسائي يجيز ذلك في الأفعال الماضية إجازةً مطردةً. وأجازه الفراء في الماضي والمضارع, وأنشد: [الوافر] عليها من قوادم مضرحي ... من اللاتي يكن من الصقيع أراد يكنن فحذف النون (58/أ) , وحذفها يشبه حذف السين في قول أبي زبيدٍ: خلا أن العتاق من المطايا ... أحسن به فهن إليه شوس أراد أحسسن, فالحاء في أحسن ساكنة ألقيت عليها فتحة السين, ثم حذفت للسكون ولاجتماع المثلين, وكذلك يكنن لما كانت الكاف ساكنة نقلت إليها فتحة النون التي تليها ثم حذفت لأن بعدها نونًا أخرى, وقوى ذاك أن نون جمع المؤنث جاءت في الأخير. فأما ظللت فليس قبل اللام حرف ساكن تلقى عليه الحركة, وإذا فتحت الظاء شبهوها بلست, وإذا كسرت الظاء فكأنهم نقلوا إليها الكسرة التي في اللام وأزالوا عنها الفتح. والخلب:

زيادة الكبد, ويقال: هو حجاب القلب, وقيل: هو ما بين الكبد والقلب, وقال الزبرقان بن بدرٍ: [الوافر] وأجعل كل مضغنٍ أتاني ... يريد السلم بين حشًى وخلب وأضاف اليد إلى الكبد لأنه أراد الشخص الذي الكبد مستقرة فيه. وإذا أخذ بمذهب أبي الطيب في المبالغة جاز أن تكون اليد مرفوعةً بنضيجةٍ؛ لأن ذلك أشد للحرارة. وإذا جعلت نضيجة صفةً للكبد غير عاملةٍ في يدها فالمعنى صحيح, وليس بمبالغٍ فيه, وترفع اليد بالابتداء في ظاهر مذهب البصريين, وبمعنى الاستقرار على رأي سعيد بن مسعدة, وبخبر الصفة على رأي الكوفيين. وقوله: يا حاديي عيرها وأحسبني ... أوجد ميتًا قبيل أفقدها العير: هي الإبل الحاملة, فربما كان عليها ناس, وربما لم يكن فيها ركبان. وقد دل كلامه على أن المرأة في هذه العير. وقوله: أحسبني إلى آخر البيت من الكلام الذي يقال له الاعتراض؛ لأن المعنى المقصود غيره. وقوله: قبيل أفقدها: هذا من مواضع أن, وحذفها ليس بمستعمل في القرآن, ولا في كلام فصيح, وهو كالضرورة, وليس بالشديد, وإنما يكره إذا كان قبل الفعل ما يقتضي أن يكون بعده مصدر. والغرض قبيل فقدها. وقوله: قفا قليلًا بها علي فلا ... أقل من نظرةٍ أزودها المعنى الذي قصده في البيت الأول هو في هذا البيت, واعترض ذلك الكلام دونه. قوله: شاب من الهجر فرق لمته ... فصار مثل الدمقس أسودها

الفرق: فرق الشعر, وهو أن يفرق الفرق بين جانبي الرأس. والدمقس: القز الأبيض, وكل ما أشبهه فهو دمقس, وزعموا أنه ليس بعربي في الأصل. والأحسن أن تكون الهاء في لمته راجعةً إلى المحب, واللمة: الشعر الذي قد طال حتى ألم بالمنكب, وجمعه لمم ولمام, وذهب ناس إلى أن الهاء في لمته راجعة إلى الفؤاد, وليس ذلك بحسن؛ لأنه يجعل للفؤاد لمةً, وتلك استعارة ليست بالحسنة؛ لأن العادة جرت بأنهم لا يستعملون اللمة إلا في الشعر. وقوله: بانوا بخرعوبةٍ لها كفل ... يكاد عند القيام يقعدها الخرعوبة, والخرعبة: الناعمة, ويقال للغصن الناعم: خرعوبة, ومنه قول امرئ القيس: [المتقارب] برهرهة رخصة رودة ... كخرعوبة البانة المنفطر وقوله: ربحلةٍ أسمر مقبلها ... سبحلةٍ أبيضٍ مجردها السبحلة والربحلة: متقاربتان في المعنى, يراد بها الضخمة في طولٍ وسمنٍ, وقال بعض الأعراب لرجل أراد أن يشتري بعيرًا: عليك السبحل الربحل الراحلة الفحل؛ أي: يصلح أن يرحل وأن يتخذ فحلًا للإبل, وقالت امرأة تصف ابنتها: [مجزوء الرجز] سبحلة ربحله ... تنمي نبات النخله ووصفوا الضب بسبحلٍ, قال الشاعر: [الطويل] سبحل له نزكان كانا فضيلةً ... على كل حافٍ في البلاد وناعل

وقوله: ليس يحيك الملام في هممٍ ... أقربها منك عنك أبعدها (58/ب) ليس يحيك: أي: ليس يؤثر, والأجود عندهم ما أحاك فيه السيف؛ أي: ما أثر, ويقوي رواية من روى في أول القصيدة أبعد على الاستفهام قوله في هذا الموضع: أقربها منك عنك أبعدها؛ لأن أبا الطيب قليل التكرير. وقوله: أحييتها والدموع تنجدني ... شؤونها, والظلام ينجدها أحييتها: أي: سهرتها من أولها إلى آخرها, ومنه حديث خارجة بن زيد: «كان زيد لا يحيي شيئًا كما يحيي ليلة سبع عشرة من رمضان» , أي: كان يسهرها, والمعنى منقول في هذا اللفظ من ابن آدم إلى الليل؛ لأنه سهر, فكأنه يحيي نفسه؛ لأن النوم عندهم ضرب من الموت, وإنما قالوا: أحييت الليلة حملًا على قولهم: ليل نائم, أي: ينام فيه, وكذلك قولهم: أحييته, أي: لم أنم, فنقلت الحياة إلى الليل. وتنجدني: أي: تعينني. والشؤون: جمع شأنٍ, وهي عروق تصل بين عظام الرأس, وفيها يجري الدمع, وهي مهموزة في الأصل, والواحد شأن. قال أوس بن حجر: [الكامل] لا تحزنيني بالفراق فإنني ... لا تستهل من الفراق شؤوني وقوله: لا ناقتي تقبل الرديف ولا ... بالسوط يوم الرهان أجهدها أراد بالناقة هاهنا نعله, وقد استعملت العرب ذلك, ونحوه قال الشاعر: [الطويل] ركبنا إليك السبت في كل مهمهٍ ... خفي الصوى إذ أعوزتنا الركائب والرهان: أكثر ما يذكر في الخيل, وقد كانوا يستبقون على الإبل فيراهنون.

وقوله: شراكها كورها ومشفرها ... زمامها والشسوع مقودها لما جعل النعل ناقةً جعل لها كورًا مثل الكور الذي هو رحل الناقة, واستعار لها مشفرًا, وأعرف ما يكون المشفر للإبل. والشسوع: جمع شسعٍ, ولم يقولوا: أشساع, ولا أشسع, وكان القياس أن يقولون ذلك. وقوله: في مثل ظهر المجن متصلٍ ... بمثل بطن المجن قرددها المجن الترس, وشبه الأرض بظهر المجن؛ لأنها خالية من النبت, وهي في ذلك مرتفعة مع غلظٍ. وجعلها تتصل بأرض مثل بطن المجن؛ لأنها منخفضة. والقردد: ما غلظ من الأرض, وهي القردود أيضًا, ويقال لوسط الظهر: قردودة. وهذا البيت يروى لشقران السلاماني: فاركب من الأمر قراديده ... بالحزم والقوة أو بايع أي: اركب ما غلظ منه. وقوله: مرتمياتٍ بنا إلى ابن عبيـ ... ـد الله غيطانها وفدفدها الغائط: المطمئن من الأرض, وهو الغوط أيضًا, فإذا قالوا: غيطان جاز أن يكون جمع غائطٍ مثل حائط وحيطان, ويجوز أن يكون جمع غوطٍ مثل ثورٍ وثيرانٍ, قال الشارع: [مخلع البسيط]

إن شواءً ونشوةً ... وخبب البازل الأمون يجشمها المرء في الهوى ... مخافة الغائط البطين من لذة العيش والفتى ... للدهر والدهر ذو فنون والفدفد: أرض غليظة مرتفعة, قال الشاعر: [الطويل] إذا الحمل الربعي عارض أمه ... عدت وكرى حتى تحن الفدافد وقوله: إلى فتى يصدر الرماح وقد ... أنهلها في القلوب موردها النهل: الشرب الأول, يقال: أنهل إبله, والناهل عندهم من الأضداد, يكون في معنى الشارب, وفي معنى العطشان, والأصل أن يكون النهل في معنى الشرب, وقد أنشدوا بيت النابغة على أن الناهل العطشان, وهو قوله: [السريع] والطاعن الطعنة يوم الوغى ... ينهل منها الأسل الناهل وكأنهم قالوا للظامئ: ناهل, على معنى الفأل؛ أي: إنه يشرب إن شاء الله. أو يكونوا أرادوا أنه سوف ينهل فيما بعد؛ لأنه يحتمل أن يقال: هذا (59/أ) البعير ناهل؛ أي: ينهل فيما يستقبل. وقوله: تاج لؤي بن غالب وبه ... سما لها فرعها ومحتدها المحتد والمحكد: الأصل, وهو من قولهم: حتد بالمكان إذا أقام به. وقالوا للعين من عيون الماء: هي حتد؛ إذا كان ماؤها لا ينقص.

وقوله: شمس ضحاها هلال ليلتها ... در تقاصيرها زبرجدها التقاصير: جمع تقصارٍ, وهي قلادة قصيرة لا تنزل على الصدر, قال عدي بن زيدٍ: [المديد] رب نارٍ بت أرمقها ... تقضم الهندي والغارا عندها ظبي يؤرثها ... عاقد في الجيد تقصارا والزبرجد: فيما قيل معرب, وذهب قوم إلى أن تسميتهم قيس بن حسان أحد بني ضبيعة بن قيس بن ثعلبة برجدًا مراد به الزبرجد, سموه بذلك لحسنه, ولم تجر العادة بأن يحذفوا أوائل الأسماء الرباعية ولا الخماسية, ويجوز أن يكون مأخوذًا من البرجد, وهو الكساء المخطط, كأنه عندهم أحسن من الكساء الذي يكون غير مخططٍ. وقوله: ياليت بي ضربةً أتيح لها ... كما أتيحت له محمدها هذا البيت يحتمل وجهين: أحدهما أن يريد أن هذه الضربة قد حسنت وجه الممدوح وشرفته, ودلت على شجاعته. والآخر أن يكون أراد ياليت بي هذه الضربة؛ أي: ليتني فديته منها, فهو في الوجه الأول متمن خيرًا, وفي الثاني جعل نفسه فداءً للمدوح. وأتيح لها: أي: قدر.

وقوله: إذا أضل الهمام مهجته ... يومًا فأطرافهن ينشدها يجوز أن يكون أراد أن الهمام, وهو الملك, إذا أضل نفسه نشدها في أطراف هذه الرماح, ويكون المعنى معنى في, فكأنه جعل الأطراف ظرفًا, ويحتمل أن يجعل نشدت متعديًا إلى مفعولين فيكون التقدير أن الهمام ينشد مهجته أطرافهن. وقولهم: نشدت الضالة من قولهم: نشدتك الله, وهو في ذكر الله متعد إلى مفعولين, كأن القائل ذلك يريد: ذكرتك الله, وطلبته عندك. وقوله: وأنك بالأمس كنت محتلمًا ... شيخ معد وأنت أمردها أن المشددة إذا خففت فالوجه أن يكون ما بعدها مرفوعًا, كما قال سبحانه: {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين}. وربما نصبوا الاسم الذي بعدها وهي مخففة. وينشد: [الهزج] وصدر مشرق النحر ... كأن ثدييه حقان ويروى: ثدياه. قال اليشكري: [الطويل] ويومًا توافينا بوجه مقسمٍ ... كأن ظبية تعطو إلى وارق السلم يرفعون ظبية وينصبونها على ما تقدم, وقد خفضها بعضهم بالكاف وجعل أن زائدة.

وقوله: وأنك على لغة من نصب؛ لأن هذه الكاف لا تكون ضميرًا للمرفوع. ونصب محتلمًا بخبر كان على الحال, وجعل شيخ معدٍ بدلًا من محتلم, ويمكن أن ينصب محتلمًا على الحال ويجعل شيخ معدٍ خبر كان. وزعم بعض النحويين أن كان لا تعمل الحال, فإذا أخذ بهذا القول حمل على قوله: كنت بالأمس, وجعل العامل في الحال الفعل المضمر الذي عمل في قوله بالأمس, والقياس لا يمنع أن تعمل كان في الحال؛ لأنها فعل متصرف ترفع فاعلًا, وتنصب مفعولًا أو مشبهًا بالمفعول. ومعد يحتمل أن تكون فيه الميم زائدة, وأن تكون أصلية, واشتقاقه إذا جعلت الميم زائدة من: عددت, وإذا كانت أصلية فقد استعملوا من هذا اللفظ أشياء, فقالوا: غيث ثعد معد يريدون بالغيث النبت؛ أي: هو غض ناعم, وقالوا: معد الذئب الشاة إذا اختطفها, وقالوا: نزع معد: يعنون نزع الدلو من البئر؛ أي: شديد. قال الراجز: [الرجز] يا سعد يا بن عمل با سعد ... هل يروين ذودك نزع معد وقالوا: معد الرجل إذا صار لصًا, قال الراجز: [الرجز] أخشى عليها طيئًا وأسدا ... وخاربين خربا ومعدا لا يحسبان الله إلا رقدا واستدلوا على أن الميم في معد أصلية بقولهم: تمعدد الغلام إذا سمن وشب, قال الراجز: (59/ب) [الرجز] ربيته حتى إذا تمعددا ... وصار نهدًا كالحصان أجردا كان جزائي بالعصا أن أجلدا

وفي الحديث: «اخشوشنوا واخشوشبوا وتمعددوا»؛ أي: تشبهوا بمعد بن عدنان؛ لأنهم كانوا أهل شظفٍ وعيشٍ ليس بواسعٍ: ومعد الفرس: ما تحت فخذ الفارس, وعلى ذلك فسروا قول ابن أحمر: [الوافر] فإما زال سرج عن معد ... وأجدر بالمصائب أن تكونا وقد استعملوا المعد في الرجل يريدون به الخاصرة وما قاربها, قال أبو خراشٍ: [الطويل] رأت رجلًا قد لوحته مخامص ... وطافت بريان المعدين ذي شحم وقوله: فكم وكم من نعمة مجللةٍ ... رببتها كان منك مولدها مجللة: أي: تعم الجسد حتى تصير له كالجلال. ومن روى مجللةٍ بالفتح أراد معظمةً من قولهم: شيء جليل وجلل, ويحتمل أن يعني بالمجللة أنني جللتها. وقوله: أقر جلدي بها علي فما ... أقدر حتى الممات أجحدها كأنه أراد الثناء عليه بأنه كساه, وهو نحو من قوله في الأخرى: [الطويل] فبوركت من غيثٍ كأن جلودنا ... به تنبت الديباج والوشي والعصبا وقوله: فما أقدر حتى الممات أجحدها: هذا من مواضع أن, والمراد فما أقدر أن أجحدها, وقد حذفها أبو الطيب في مواضع كثيرةٍ, وإثباتها أحسن إذا لم تدع إلى ذلك ضرورة.

ومن أبيات أولها

ومن أبيات أولها أقصر فلست بزائدي ودا ... بلغ المدى وتجاوز الحدا قوله: جاءتك تطفخ وهي فارغة ... مثنى به وتظنها فردا أنث في قوله: جاءتك؛ لأنه أراد الجامة, وأضمر ولم يتقدم ذكر لعلم السامع, وتطفح: أي: تمتلئ حتى تفيض. ومثنى: أي: قد صارت هي والثناء اثنين, وأنت تظنها واحدة, ويقولون: قطاة فرد بغير هاء. ومن التي أولها أود من الأيام ما لا توده ... وأشكو إليها بيننا وهي جنده هذه القصيدة من الطويل الثاني ولا تعرف قصيدة للعرب على هذا الوزن والقري, ولم يستعمله أحد من فحول المحدثين استعمالًا ظهر عنه, وقد جاء حبيب بن أوس بقصيدة على هذا النحو إلا أن رويها لام, وهي التي أولها: [الطويل] أبا الفضل أنت الدهرمن لا ندله ... على الحزم في التدبير بل نستدله والبين هاهنا: الفراق, وقد استعمل في معنى الوصل. وقوله: يباعدان حبًا يجتمعن ووصله ... فكيف بحب يجتمعن وصده زعم أن الأيام يباعدان الحبيب المواصل, فكيف بحب موصوفٍ بالصدود؟ أي: هذا

الحب المذكور صاد عنا فذلك أجدر بمعونته الأيام على الفراق. وعطف وصله وصده على الضمير المرفوع في يجتمعن, والأحسن أن يؤكد الضمير المرفوع إذا عطف عليه مثل أن يقول: يجتمعن هن ووصله. وقوله: رعى الله عيسًا فارقتنا وفوقها ... مهى كلها يولى بجفنيه خده يولى: من الولي الذي هو مطر بعد الوسمي؛ أي: هذه المها قد بكت بكاءً أولًا, فهو من الدموع وسمي, ثم بكت بكاءً ثانيًا, فهو كالولي من المطر. يقال: وليت الأرض فهي مولية, ووليت وليةً ووليًا, قال الشاعر: [الطويل] لني وليةً تمرع جنابي فإنني ... لما نلت من معروف سيبك شاكر وقوله: بواد به ما بالقلوب كأنه ... وقد رحلوا جيد تناثر عقده ادعى أن الوادي إذا ساروا عنه يجد لفراقهم, كما يجد الآدميون فيه من الأسف, كما في قلوب الإنس, وكأنه لما رحلوا جيد انتثر عقده فقد بقي عاطلًا, فهذا المعنى الواضح, وقد يجوز أن يعني بقوله: بوادٍ به ما بالقلوب (60/أ) أنهن في الوادي ممثلات كما أنهن في قلوبنا كذلك. وقوله: إذا سارت الأحداج فوق نباته ... تفاوح مسك الغانيات ورنده الأحداج: جمع حدجٍ, وهو مركب من مراكب النساء, ومن أمثالهم: فخر الأمة بحدج ربتها, يقال ذلك للرجل يفخر بشيء ليس له. وتفاوح: تفاعل من فاح يفوح, وأكثر ما يكون التفاعل من اثنين, وهما ها هنا المسك والرند. وذكر أبو زيدفي «كتاب الشجر» أن الرند من العضاه, وقال غيره: هو شجر طيب الرائحة.

وسموا العود الذي يتبخر به رندًا على معنى التشبيه, وقال قوم: الرند الآس, وقيل: الحنوة. وقوله: وحالٍ كإحداهن رمت بلوغها ... ومن دونها غول الطريق وبعده يقول: رب حالٍ كإحدى هذه المها جليلةٍ عظيمةٍ بعيدةٍ على الطالب رمت بلوغها, والغول: يكون في معنى البعد, فيجوز أن يكرر المعنى لاختلاف اللفظين, ولا يمتنع أن يكون الغول في المعنى الهلاك من قولهم: غاله يغوله: إذا أهلكه. وقوله: يرى جسمه يكسى شفوفًا تربه ... فيختار أن يكسى دروعًا تهده الشفوف هاهنا: الثياب الرقاق التي يشف ما تحتها؛ أي: يبين للناظر, ويقال للستر الرقيق شف وشف, وقال الشاعر: [الخفيف] زانهن الشفوف والمحض والقيـ ... ـظ وعيش مفانق وحرير وقالت الكلبية: للبس عباءةٍ وتقر عيني ... أحب إلي من لبس الشفوف وتربه: أي تصلحه وتحسن حاله, من قولهم: رببت الصبي؛ إذا أحسنت القيام عليه,

وقد ردد أبو الطيب هذا المعنى في شعره, من ذلك قوله: فإني أستريح بذي وهذا ... وأتعب في الإناخة والمقام وقوله: يكلفني التهجير في كل مهمهٍ ... عليقي مراعيه وزادي ربده يكلفني: فيه ضمير يرجع إلى قلبه. والتهجير: السير في الهاجرة. ويقال: هجر النهار؛ إذا صار إلى وقت الهجير, وأكثر ما تستعمل الهاجرة في نصف النهار مع شدة الحر, قال امرؤ القيس: فدعها وسل الهم عنك بجسرةٍ ... ذمولٍ إذا صام النهار وهجرا وقوله: عليقي مراعيه؛ بمعنى أنه قد أقام مراعي هذه المهمه مقام العليق الذي يعلقه على خيله, وزادي ربده: أي أني أصطاد الربد, وهي النعام, وأقيمها مقام الزاد. وقوله: ونمتحن النشاب في كل وابلٍ ... دوي القسي الفارسية رعده النشاب: مأخوذ من قولهم: نشب في الشيء إذا علق به, وقد جاء في الشعر القديم, وينشد لعمر بن أبي ربيعة: [الكامل] فسمعت ما قالت فبت كأنما ... شك الحشى بنوافذ النشاب وقوله: سبائك كافورٍ وعقيانه الذي ... يصم القنا لا بالأصابع نقده السبائك: جمع سبيكة, وهي قطعة من الذهب أو الفضة تسبك بالنار, قال غالب بن الحر: [الطويل]

نبائت أنصابًا كأن وليعها ... سموط العذارى علقت في السبائك يصف نخلًا, والوليع: طلع الفحال, والعقيان: خالص الذهب, وكأنهم يريدون به الذي يخرج من المعدن, ثم صار ذلك اسمًا عامًا, قال الشاعر: [الرمل] كل قوم] خلقوا من آنكٍ ... وبنو العباس عقيان الذهب والأصابع: يقال في واحدها: إصبع وإصبع وأصبع وأصبوع. وقال بعض الناس: يجوز في الإصبع أن تأتي على وزن كل فعلٍ يخبر به المتكلم عن نفسه. ويقال: لفلان إصبع على المال؛ إذا كان حسن القيام عليه, قال الراعي النميري: [الطويل] صليب العصا بادي العروق ترى له ... عليها إذا ما أمحل الناس إصبعا وقوله: بلاها حواليه العدو وغيره ... وجربها هزل الطراد وجده بلاها: اختبرها, ويقال: هو حواليه وحوليه وأحواله وحاله وحوله, قال امرؤ القيس: ألست ترى السمار والناس أحوالي فهذا جمع حولٍ, كأنه جعل كل جانبٍ حولًا, وقال النابغة: (60/ب) [الكامل] حولي بنو دودان لا يعصونني ... وبنو بغيضٍ كلهم أنصاري وقال الراجز من العرب على لسان الضب, وهذا الرجز ينشد مطلقًا وموقوفًا: أهدموا دارك لا أبالكا ... وزعموا أنك لا أخالكا وأنا امشي الدألى حوالكا

وقال كعب بن زهير: [البسيط] يمشي الوشاة حواليها وقولهم ... إنك يا بن أبي سلمى لمقتول والهزل: ضد الجد. يقال: هزل الرجل يهزل؛ إذا جاء بالهزل. وهزل دابته يهزلها, بضم الزاي, كأنهم أرادوا أن يفرقوا بين الفعلين, وأصلهما واحد؛ لأن الهزل في القول مأخوذ من هزل الدابة إذا كان الهزل كلامًا لا طلاوة له ولا قوة. وقوله: فيا أيها المنصور بالجد سعيه ... ويا أيها المنصور بالسعي جده أراد أن الممدوح قد جمع بين الجد الذي هو حظ وبين السعي في طلب المكارم, فكل واحد من الخلتين تنصم الأخرى؛ لأن المجدود إذا اتكل على جده ولم يسع في طلب المكارم كان ذلك نقصًا عليه, وإذا سعى وهو غير مجدود لم يصل إلى خير؛ لأن المثل السائر: عش بجدك لا بكدك. وقوله: وليتك ترعاني وحيران معرض ... فتعلم أني من حسامك حده يجب أن يكون أراد بحيران هذا الموضع الذي هو قريب من حمص ومعرض: أي بادٍ, يقال: أعرض لك الشيء إذا بدا. قال عمرو بن كلثومٍ: [الوافر] فأعرضت اليمامة واشمخرت ... كأسيافٍ بأيدي مصلتينا والحسام: السيف, أخذ من الحسم؛ أي: القطع, وربما قالوا: حسامة بالهاء. وقال الشاعر:

وعندي حساما سيفه وحمائله أراد بحساميه حديه, والحد: أصله المنع, وفيه اشتقاق كل لفظة فيها حاء ودالان أصليتان, وهي ثلاثية في الأصل, مثل الحديد والحداد, وحدان اسم أبي حي من العرب. وقيل لحرف السيف حد؛ لأنه يمنع من العدو, أو لأنه إذا لمس حد اليد أن تقبض عليه. وقوله: وأني إذا باشرت أمرًا أريده ... تدانت أقاصيه وهان أشده أصل المباشرة أن تكون من اثنين يلصق أحدهما بشرته ببشرة الآخر, والبشرة: ظاهر الجلد, ثم كثر ذلك حتى قيل: باشر فلان كذا, وإن لم يكن للمفعول بشرة, مثل أن يقول باشر الشدة فجعل لها بشرةً مستعارة, وإنما ذلك مجاز ليست له حقيقة. وقوله: وألقى الفم الضحاك أعلم أنه ... قريب بذي الكف المفداة عهده ذي: في معنى هذي, يريد أن الفم إذا قبل كف الممدوح ظهر في المقبل فرح وسرور يضحك, وهذا أحسن من أن تجعل ذي في معنى صاحبٍ, كأنه قال: بصاحب الكف المفداة يعني الممدوح, وإن كان ذلك سائغًا, فالوجه الأول هو الصواب. وقوله: وكن في اصطناعي محسنًا كمجربٍ ... يبن لك تقريب الجواد وشده الشد: العدو الشديد, يقال: شد يشد شدا, وكذلك شد الحبل, وحكوا شد المرس يشده ويشده, وقال بعضهم: إذا عدى شد ضم الشين في أول المضارع وإذا جعلها غير متعدية كسر, مثل أن يقول: شد على العدو يشد, والأصل واحد. وجاء في الحديث: «فأشد حسابه»؛ أي: جعله شديدًا, كأنهم فرقوا بينه وبين شد الحبل, ومن ذلك اشتقاق

ومن التي أولها

الأشد, فهو على رأي قوم جمع شدةٍ على حذف الهاء, كما قالوا: نعمة وأنعم, وقيل: أشد: يجوز أن يكون واحده شدًا وشدًا وشدًا, وقيل: هو اسم على أفعلٍ. وزعم سيبويه أن أفعلًا لم يجئ في الآحاد, وتأنيثهم الأشد يدل على أنه جمع, قال الراجز: [الرجز] بلغتها فاجتمعت أشدي ... وشذب الباطل عني جدي وذكر ابن عباس في الأشد أنه يقال للغلام إذا بلغ ثماني عشرة سنة, وقال غيره: الأشد ثلاث وثلاثون, وقيل: ست وثلاثون, وقال بعضهم: أربعون سنة. وقوله: وكل نوال كان أو هو كائن ... فلحظة طرفٍ منك عندي نده يقال: هو نده ونديده ونديدته؛ أي مثله. قال لبيد: [الطويل] لئلا يكون السندري نديدتي ... وأشتم أعمامًا عمومًا عماعما ومن التي أولها حسم الصلح ما اشتهته الأعادي ... وأذاعته ألسن الحساد

وهي من الخفيف الأول. الأعادي يجب أن يكون جمع أعداءٍ؛ لأنهم قد جمعوا أفعالًا على أفاعيل, كما قالوا أقطاع من المال, وأقاطيع, قال النابغة: [البسيط] عدت أقاطيع أنعامٍ مؤبلةٍ ... لدى صليبٍ على الزوراء منصوب (61/أ) ويروى: لذي صليب, ويجوز أن يكون أصل أعادٍ أعادي بالتشديد فخففوا الياء كما خففوها في أماني وأواقي, إلا أنهم لم يستعملوا التشديد في ياء الأعادي. وقوله: وأرادته أنفس حال تدبيـ ... ـرك ما بينها وبين المراد أصل التدبير: أن يقلب الشيء فينظر إلى ما أدبر منه, ثم كثرت هذه الكلمة حتى قالوا: دبر المملكة إذا ساسها وأحسن القيام عليها, ويحتمل أن يقال: جعل كالذي ينظر إلى أدبار الأمور فيها. والعبد المدبر من هذا اشتقاقه؛ لأنه ينظر إلى عاقبة أمره. وقوله: صار ما أوضع المخبون فيه ... من عتابٍ زيادةً في الوداد يقال: وضع الدابة وخب وهما ضربان من السير, وأوضع الراكب وأخب: إذا حمل دابته على الوضع والخبب, وإنما يريدون بهذا اللفظ تصرف الشاة والساعين فيما يفعلون من الإطناب في القول؛ لأنهم يقولون: مشى فلان بين القوم بشر, وفي الكتاب العزيز: {همازٍ مشاءٍ بنميم}. فلما أرادوا المبالغة قالوا: أخب وأوضع؛ لأن الخبب والوضع يقعان على ما هو أكثر من المشي, وقال ابن أبي ربيعة: [الطويل] تبالهن بالعرفان لما عرفنني ... وقلن امرؤ باغٍ أكل وأوضعا

ويروى: أخب. فأما قول دريد بن الصمة: [مجزوء الرجز] يا ليتني فيها جذع ... أخب فيها وأضع فإنه جعل الخبب والوضع لنفسه لما كان يستعمل لفرسه؛ لأنهم يخبرون عما جاور الشيء كما يخبرون عنه. وجعل أبو الطيب الإخباب بعد الإيضاع على سبيل المجاز, ولو أن الكلام منثور لحسن أن يقول: صار ما أخب الموضعون فيه؛ لأن الخبب أشد من الوضع, وأكثر ما يستعمل الوضع للبعير. وقوله: وكلام الوشاة ليس على الأحـ ... ـباب سلطانه على الأضداد هذا البيت يحتمل وجهين: أقواهما أن يكون سلطانه مرفوعًا بليس, وقوله على الأضداد متعلق بقوله: سلطانه؛ أي ليس سلطان كلام الوشاة الذي يتسلط على الأضداد واقعًا على الأحباب. والآخر أن يكون الكلام قد تم عند قوله على الأحباب, ثم ابتدأ مخبرًا فقال: سلطانه؛ أي: سلطان الكلام على الأضداد, كما تقول: ليس شرك على صديقك إنما هو على عدوك. وقوله: أشمت الخلف بالشرة عداها ... وشفى رب فارسٍ من إياد الشراة: هم الذين خرجوا على علي بن أبي طالب - عليه السلام - لما حكم, وقالوا: لا حكم إلا الله, فالمسلمون يجعلون الشراة جمع شارٍ من قولهم: شرى إذا لج, وكذلك شرى البرق: إذا دام لمعانه. قال الشاعر: [المتقارب]

أجدك للبرق لم تغتمض ... ينام فوقًا ويشري فواقًا كانت الخوارج تقول: نحن الشراة لأنا شرينا الدنيا بالآخرة؛ أي: بعناها, وفيما نطق به المهلب في حرب الخوارج كلام معناه: أني أنتظر بهم أن يختلفوا, فلما اختلفوا تمكنت منهم أعداؤهم. ويعني برب فارسٍ كسرى؛ لأن إيادًا كانت قد غلبت على العراق فقصدهم إلى أن أجلاهم في البلاد, ولا يعلم أنه بقيت لهم بادية, وإنما هم أوزاع في الحضر. وقوله: وتولى بني البريدي بالبصـ ... ـرة حتى تمزقوا في البلاد بنو البريدي: كان أبوهم يلي البريد, فخرجوا بالبصرة وتغلبوا عليها, وقد كان ندب لقتالهم بنو حمدان, وكان فيهم رجل يقال له أبو يوسف, وحكى أبو عبد الله بن خالويه رحمه الله أن أبا بكر بن الخياط النحوي صاحب ثعلبٍ كان سبب موته أنه أكل مضيرةً عند البريديين.

وقوله: وملوكًا كأمس في القرب منا ... وكطسمٍ وأختها في البعاد كانت طسم وجديس من العرب العاربة, وكانت طسم تستطيل على جديس, وكان لهم ملك إذا زفت العروس أدخلت عليه قبل أن تمضي إلى زوجها فزفت عروس في ليلة فكره أهلها أن تدخل على الملك فأوقع بهم, فاستنصرت جديس حسان الحميري, فكان ذلك سبب هلاك طسمٍ, وضرب بتلك الليلة المثل, قال الراجز: [الرجز] يا ليلةً ما ليلة العروس ... يا طسم ما لا قيت من جديس إحدى لياليك فهيسي هيسي ... لا تطمعي الليلة في التعريس وقوله: فيه أيديكما على الظفر الحلـ ... ـو وأيدي قومٍ على الأكباد (61/ب) قد جرت العادة أن يقال للذي يشق عليه الأمر من حزنٍ أو حب: يده على كبده؛ أي: هي توجعه فهو يضع يده عليها؛ لأن من عادة من يشتكي عضوًا أن يضع يده

ومن التي أولها

عليه. ويقيمون الكبد في هذه المواضع مقام القلب, قال الشاعر: [الطويل] ولي كبد مقروحة من يبيعني ... بها كبدًا ليست بذات قروح وقالوا في صفة الأعداء: أكبادهم سود, قال الأعشى: [الوافر] وما جشمت من إتيان أرضٍ ... بها الأعداء والأكباد سود وقوله: كيف لا يترك الطريق لسيلٍ ... ضيقٍ عن أتيه كل واد الأتي: سيل يجيء من بلدٍ غير الذي القوم فيه, وهو في معنى آتٍ, كما يقال: عالم وعليم, وماجد ومجيد, ويقال للغريب: أتي وأتاوي, قال الراجز: [الرجز] يصبحن بالقفر أتاويات ... معترضاتٍ غير عرضيات ومن التي أولها عيد بأية حالٍ عدت يا عيد ... بما مضى أم لأمرٍ فيك تجديد وهي من البسيط الثاني. عيد: مرفوع؛ لأنه خبر ابتداء محذوف, كأنه جاءه فأنكر مجيئه, فقال له: أنت عيد,

كما تقول للرجل إذا لقيته: فلان؛ أي: أنت فلان, ويدل على أنه أنكر لقاءه قوله: بأية حالٍ عدت. وقوله: بما مضى: يجب أن تكون الباء متعلقة بقوله: عدت, ودخلت أم هاهنا لأن في أول الكلام استفهامًا. ويحتمل أن يكون أراد ألف الاستفهام في قوله: بما مضى, كأنه قال: أبما مضى عدت أم لأمر لا نعلمه جددت؟ وقد رويت باللام مكان الباء في قوله: بما مضى, ومنهم من يروي: لأية حالٍ باللام أيضًا. واللام فيما أراه أحسن من الباء. وقوله: لولا العلى لم تجب بي ما أجوب بها ... وجناء حرف ولا جرداء قيدود قيدود: من صفات الإناث, وهي الطويلة على وجه الأرض, كأنها قيدت. وأصلها من ذوات الواو, ويرون أنها قيدود, بالتشديد, فخففت الياء, كما قالوا: كينونة, والأصل كينونة. وقوله: أصخرة أنا مالي ما تغيرني ... هذي المدام ولا هذي الأغاريد الأغاريد: جمع يجب أن يكون واحده أغرودةً, كما قالوا: أسجوعة وأساجيع, وأعجوبة وأعاجيب, وقالوا في الفعل: غرد يغرد, وهو تحسين الصوت ورفعه. وقوله: ما يقبض الموت نفسًا من نفوسهم ... إلا وفي يده من نتنها عود هذا البيت يحتمل وجهين: أحسنهما: أن يكون العود مرادًا به الذي يتبخر به؛ لأنه يدفع ما يكره من رائحة الميت بإيقاد العود. والآخر: أن يكون أراد عودًا من العيدان؛ لأن من عادة الإنسان إذا كره أن يمس شيئًا استعان على قلبه ونقله بعودٍ من عيدان الشجر. وقولهم للذي يتبخر به عود: اسم يراد به التفضيل على غيره من العيدان, كما يقال: فلان رجل؛ أي: لأه فضل على غيره من الرجال, وكأنهم دلوا بقولهم عود على أنهم يريدون الطيب, وأن يفضلوه على غيره من العيدان, وقد استعملوا ذلك قديمًا, قال كثير: [الكامل]

ووضعن فوق مجامرٍ أدخلنها ... بين المجاسد والمفارش عودا وقوله: نامت نواظير مصرٍ عن ثعالبها ... فقد بشمن وما تفنى العناقيد يقال: إن النواظير كلمة نبطية, وأنهم أرادوا النواظير؛ أي: الذين ينظرون الكروم وغيرها على سبيل الحفظ. ومن شأن النبط أن تنقل الظاء إلى الطاء في بعض المواضع. والبشم أن يثقل الطعام على الإنسان ويكره الزيادة منه. قال الراجز: يظل يمشي بينها مثل الصنم ... يشكو إلى جاراته طول البشم والعناقيد: جمع عنقود وعنقادٍ, قال رؤبة: [الرجز] إذ لمتي سوداء كالعنقاد ... كلمةٍ كانت على مصاد يقول: إن النواطير قد نامت عن مصر فأكلت الثعالب من أعنابها حتى بشمت, وعناقيدها ليست بالفانية. وإنما ضرب المثل بالنواطير, وهو يريد السادة الذين يجب عليهم أن يحفظوها, وأراد بالثعالب الذين يأخذون نعمها ومالها, وجعل العناقيد كنايةً عما يصيبونه من الخير. وحكى الأصمعي أنه سمع عقبة بن رؤبة بن العجاج يقول: أما ترى النجم كأنه عنقود ملاحي, يعني بالنجم الثريا. وقوله: العبد ليس لحر صالحٍ بأخٍ ... لو أنه في ثياب الحر مولود لو أن هذا الكلام منثور لكان الأحسن أن يقول: ولو أنه, بالواو, كما يقال: لا تركن إلى عبدٍ ولو أنك قد (62/أ) وليت تربيته, وحذف الواو للضرورة وإقامة الوزن. وقوله: ولا توهمت أن الناس قد فقدوا ... وأن مثل أبي البيضاء موجود

يقولون للأسود: أبو البيضاء, على سبيل التفؤل, كأنهم يريدون أنه يولد له بنت بيضاء, أو أن نفسه مبيضة وإن كان جلده أسود, ولا يمتنع أن يكونوا قالوا ذلك على معنى الهزء والعكس, وقالوا للأبيض: أبو الجون. والجون من الأضداد يقع على البياض والسواد, فعكسوا كنية الأبيض والأسود, كما قالوا للغراب: أعور. وقوله: وأن ذا الأسود المثقوب مشفره ... تطيعه ذي العضاريط الرعاديد إذا وصفوا الإنسانا باللؤم ونسبوه إلى العبودية جعلوه شفته مشفرًا, قال الراجز: [الرجز] قد كنت حذرتك لقط العصفر ... بالليل حتى تصبحي وتبصري فإذا فعلت ما فعلت فاصبري ... إني زعيم لك أن تزحري بواسع الجبهة عبل المشفر والعضاريط: الأتباع, واحدهم عضروط, وحكى صاحب كتاب التقفية في باب الميم أنه يقال عضروم في معنى عضروطٍ, وإنما أخذ العضروط من العضرط وهو عظم الدبر قال الشاعر: لا أعرفن ربربًا حورًا مدامعها ... كأنهن نعاج حول دوار خلف العضاريط من عوذى ومن عمم ... مردفاتٍ على أحناء أكوار

وقوله: إن امرأً أمة حبلى تدبره ... لمستضام سخين العين مفؤود قولهم: سخين العين: أي يجب له أن يحزن فيبكي بدمع حارٍ فتسخن عينه, وقد جرت العادة أن يقولوا للمتخلف: هو سخين العين, وإن كان في سرورٍ ونعمة؛ أي: يحق له أن يبكي. والمفؤود: الذي قد أصيب فؤاده, كما يقال: مقلوب, إذا أصيب قلبه, وربما قالوا: المفؤود: الذاهب القلب. وقالوا للسفود: مفأد؛ لأنهم يدخلونه في فؤاد المشوي. وقوله: ويلمها خطةً ويلم قابلها ... لمثلها خلق المهرية القود ويلم: من شواذ الكلام, وهي عندهم وي التي تستعمل للتعجب, ثم جاؤوا باللام الخافضة, فمنهم من يضمها لإسقاط الهمزة من أم, كأنه نقل الضمة إلى اللام, ومنهم من يجعلها مكسورةً على أصل ما يجب في لام الخفض, وبعض العرب يكسر همزة أم إذا وقع قبلها حرف مكسور أو ياء. وقد قرأ الكوفيون: {فلامه السدس} , وحذفوا الهمزة من الأم لكثرة الاستعمال في هذا الموضع, وقد حذفوها في غيره, كما يتفق أن يحذفوا همزات القطع. قال حاتم: [الطويل] أبوهم أبي والأمهات امهاتنا ... فأنعم فداك اليوم أهلي ومعشري ونصب خطةً على التمييز, كأنه قال: ويلمها من خطةٍ, وهو متعجب منها ومن صعوبتها, وعجب من نفسه إذا تقبلها. وزعم أن المهرية القود إنما خلقت لمثل هذه الخطة, كيما ينجو عليها من بلي بها.

وقوله: المهرية منسوبة إلى مهرة بن حيدان بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة, وهم يوصفون بجودة الإبل. وقوله: وعندها لذ طعم الموت شاربه ... إن المنية عند الذل قنديد يذكرون أن القنديد شراب من عنبٍ يطبخ وتطرح فيه أفاويه. فأما القند فمعروف؛ لأنه ضرب من السكر, يقال: قندت السويق, فهو مقنود وقندته, قال الشاعر: [الطويل] أهاجتك أظعان تحملن غدوةً ... بكرمان يصبحن السويق المقندا واشتقاق القنديد من القند فيما يوجبه القياس. وقوله: وذالك أن الفحول البيض عاجزة ... عن الجميل فكيف الخصية السود الخصية: جمع خصي, وهو فعيل معدول عن مفعولٍ, ولم تجر العادة أن يجمع مثله على فعلةٍ, إنما يقولون: صبي وصبية, وعلي وعلية, إلا أن ذلك لما كثر صار كالاسم الذي ليس بمعدولٍ عن مفعولٍ, فجمعوه على هذا اللفظ, ومما يشبهه قولهم: وليد وولدة؛ لأن الوليد في معنى المولود, فلما كثر استعمالهم له صار كالأسماء غير المعدولة. والفحل يقع على الذكور كلها من الإنس وغيرهم, قال الشاعر: [الطويل] ونحن بنو الفحل الذي سال بوله ... بكل بلادٍ لا يبول بها فحل

ومن التي أولها

يعني ببوله ولده. وقال قوم: لا يقال في ذكر النخل فحل, وإنما يقال: فحال, وهذا يحمل على الأكثر من كلامهم. وقد جاء فحل في النخل, قال الراجز: [الرجز] تأبري يا خيرة الفسيل ... تأبري من حنذٍ فشولي إذ ضن أهل النخل بالفحول حنذ: موضع قريب من المدينة, فهذا يدل على أنهم قد استعملوا الفحل في النخل. (62/ ب) ... ومن التي أولها أيا خدد الله ورد الخدود ... وقد قدود الحسان القدود وهي من أول المتقارب. يقال: تخدد لحم الرجل, وخدده المرض أو الكبر؛ إذا جعل فيه طرائق كأنها خدود في الأرض؛ أي: شقوق. قال الراجز: إني على ما كان من تخددي ... ودقةٍ في عظم ساقي ويدي أروي على ذي العكن الضفندد

أروي: أي: أشد عليه بالرواء, وهو الحبل. والضفندد: الضخم الذي لا غناء عنده, وقال جرير: [الكامل] أفنى عرائكها وخدد لحمها ... ألا تذوق مع الشكائم عودا وقوله: فهن أسلن دمًا مقلتي ... وعذبن قلبي بطول الصدود الشعراء يستعلمون هذه الدعوى كثيرًا, فيزعمون أن المحب يبكي دمًا, ومنه قول الطائي: [الطويل] فأجرى لها الإشقاق دمعًا موردًا ... من الدم يجري فوق خذ مورد وقوله: وكم للهوى من فتى مدنفٍ ... وكم للنوى من قتيلٍ شهيد يقال: رجل مدنف ومدنف ودنف ودنف, وهو الذي قد طال مرضه حتى أشفى على الموت, قال أبو كبيرٍ الهذلي: [الكامل] ولقد وردت الماء لون جمامه ... لون الفريقة صفيت للمدنف وقال العجاج: [الرجز] والشمس قد كات تكون دنفا ... أدفعها بالراح كي تزحلفا أي: قد دنت من الغروب, فهي كالمريض المدنف الذي قد دنا من الموت, وجعل قتيل الحب شهيدًا؛ لأنه عنده مظلوم, فهو كالشهيد الذي قتل في سبيل الله, وقد استعملت

الشعراء ذلك قديمًا, قال جميل: [الطويل] يقولون جاهد يا جميل بغزوةٍ ... وأي جهادٍ غيرهن أريد لكل حديثٍ بينهن بشاشة ... وكل قتيلٍ بينهن شهيد والنوى: البعد. وقوله: رمى حلبًا بنواصي الخيول ... وسمرٍ يرقن دمًا في الصعيد الصعيد: يدل الاشتقاق على أنه ما صعد من الأرض على التراب, ومنهم من يقول: هو ظاهر الأرض, وقيل: هو التراب الخالص الذي لا يخالطه شيء غيره. قال ذو الرمة: وفتيةٍ مثل النشاوى غيد ... قد استحلوا قسمة السجود والمسح بالأيدي على الصعيد يريد أنهم يقصرون الصلاة للسفر, ويتيممون لفقد الماء. وسموا الطريق صعيدًا, وعلى ذلك فسروا الحديث: «إياكم والقعود على الصعدات»؛ أي: الطرق. وقال الشاعر, ويروى لامرأةٍ: [الوافر] ونائحةٍ تنوح بجنح ليلٍ ... على رجلٍ بقارعة الصعيد وقوله: فولى بأشياعه الخرشني ... كشاءٍ أحسن بزأر الأسود

ومن التي أولها

الشاء: يستعملونه مذكرًا, ولو أنث لم يبعد ذلك, واختلفوا في أصله؛ فقالوا: همزته بدل من هاء, واستدلوا على ذلك بأنهم يقولون في تصغيره شاةٍ: شويهة, فيظهرون الهاء, ويقولون في الجمع: شياه, فإذا أخذ بهذا القول فقد جمع في الكلمة بين ألفٍ مقلوبةٍ عن واو وهمزةٍ تبدل من الهاء. وقيل: هو مأخوذ من شاء يشوء إذا شاق, كأنه يشوق من يقرم إلى اللحم. وزعم قوم أنه مأخوذ من (شويت) , واستدلوا بقولهم في الجمع: شوي, فيلزم هؤلاء أن يكونوا قد جاؤوا في الثلاثي بحرفين معتلين؛ وذلك مفقود, فكأن أصله شوي فقلبت الياء ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها, ثم قلبت الواو إلى الألف؛ لأنها وسط وقبلها فتحة. فإن ادعي أن قلب الواو كان قبل الياء فيلزمهم أن يجعلوا الألف الأصلية المنقلبة تجري مجرى الألف الزائدة, فيقلبون الياء إلى الهمزة, كما قالوا: سقاء, وهو من سقيت, وإن زعموا أن الياء قلبت قبل الواو فكأنهم قالوا شوى, فأعلوا الواو بعدما اعتلت الياء, فجمعوا بين علتين. وقوله: فمن كالأمير ابن بنت الأميـ ... ـر أم من كآبائه والجدود قالوا: بنت وابنة. فانبة وزنها إفعة؛ لأن ألفها زائدة, وهي مأخوذة من البنوة, وإذا قالوا بنت فمن جعل التاء (63/أ) بدلًا من واوٍ فوزنها عنده فعل, ومن جعلها بدلًا من هاء التأنيث التي كانت في ابنة فوزنها فعت, ومما يشبه قولهم: ابنة وبنت قولهم: اثنتان وثنتان, إلا أنهم لم يحكوا اثنةً ولا ثنتًا, وقد حكى النحويون: اليوم الإثن, فإن حكى اثنة وثنت لم يبعد. ومن التي أولها أزائر يا خيال أم عائد ... أم عند مولاك أنني راقد وهي ما لم يذكره الخليل من الأوزان؛ لأن العرب عنده لم تستعمله, وقد ذكره غيره. وخروجه من ثاني المنسرح.

وقوله: أزائر: خبر مقدم محذوف المبتدأ, كأنه قال: أزائر أنت يا خيال؟ وقوله: أم عند مولاك أنني راقد؛ يقول: أظنني نائمًا فجاءني كما يجيء الخيال الطارق, وليس عادة الخيال أن يزور اليقظان. وقوله: ليس كما ظن غشية لحقت ... فجئتني في خلالها قاصد يقول: هذا الذي ظننته نومًا ليس بنومٍ, وإنما هو غشية عارضة ظننتها رقادًا, فجذبتني في خلالها قاصدًا وأنت في ذلك محطئ. وقوله: عد وأعدها فحبذا تلف ... ألصق ثديي بثديه الناهد الهاء في قوله: وأعدها عائدة على الغشية, والهاء في ثديه عائدة على المولى في قول من ذكر, ومن أنث جعل الهاء عائدة إلى المرأة, وذكر على معنى الشخص وإن كان يريد المرأة, والناهد الذي قد نهد؛ أي: نهض. وقوله: وجدت فيه بما يشح به ... من الشتيت المؤشر البارد ويقال: شح يشح ويشح, وحكي يشح, بفتح الشين, وقالواة: شحيح وشحاح, وقال ابن هرمة: [المتقارب] وإني وتركي ندى الأكرمين ... وقدحي بكفي زندًا شحاحا كتاركةٍ بيضها بالعراء ... وملبسةٍ بيض أخرى جناحا والمؤشر: الذي به الأشر, وهو تحزيز في أطراف الأسنان يدل على حداثة السن. ويقال: أشر وأشر, فإذا قالوا مؤشر جاز أن تجعل الهمزة واوًا خالصةً؛ لأنها مفتوحة, وقبلها ضمة. وقوله: إذا خيالاته أطفن بنا ... أضحكة أنني لها حامد جمع خيالًا بالألف والتاء لأنه لما لا يعقل, قال زهير: [الوافر]

تطالعنا خيالات لسلمى ... كما يتطلع الدين الغريم وقالوا: خيالة بالهاء, ويجوز أن تكون خيالات جمع خيالةٍ. ويروى لحاجز بن عوف الأسدي: [الوافر] ألا طرقت خيالة أم كرزٍ ... وأصحابي بعيهم من تباله يقول: هذا المحبوب إذا ألمت بي خيالاته فبلغه ذلك ضحك من أنني أحمدها؛ لأنه يعلم أنها ساخرة, فيعجب من خديعتها إياي, وهذه من الدعوى التي ليس لها حقيقة, ومثلها كثير في الشعر المحدث والقديم. وقوله: ما تعرف العين فرق بينهما ... كل خيال وصاله نافد قال: فرق بينهما؛ فخبر عن اثنين, كأنه يعني الخيال والذي هو متخيل منه, ثم قال: كل خيال, ولو أمكنه الوزن لكان هذا من مواضع كلا؛ لأن القائل إذا قال: جاءني رجلان فالأحسن أن يقال: كلاهما فاضل, ولا يقول: كل, على أن ذلك جائز, ويحتمل أن يدعى أن كلا هاهنا واقعة على جميع الشخوص المرئية من بني آدم؛ أي: كل الإنس خيالات, وهذا الوجه يسلم فيه القائل من أن يكون قد استعمل كلًا في اثنين. وقوله: يا طفلة الكف غيلة الساعد ... على البعير المقلد الواخد

الطفلة: الناعمة. ويقال: بنان طفل, والغيل: الساعد الممتلئ, وأدخل الهاء لأنه وصف به المؤنث, وبعضهم ينشد قول النابغة: [الكامل] بمخضبٍ غيلٍ كأن بنانه ... عنم على أغصانه لم يعقد وقوله: حكيت ياليل فرعها الوارد ... فاحك نواها لجفني الساهد الفرع: الشعر, والوارد: يحتمل وجهين: أحدهما: أنه قد طال حتى ورد إلى الكفل. والآخر: أنه يعل بالأدهان (63/ب) الطيبة, فكأنه يرد الماء لكثرة ما يسقاها. وقوله: حكيت ياليل فرعها, أي: أنك طويل شديد السواد. وقوله: فاحك نواها لجفني الساهد, أي: ابعد عني كما بعدت هي؛ فإنك ثقيل علي. وقوله: لو رعت الوحش وهي تذكره ... ما راعها حابل ولا طارد الحابل: الذي ينصب الحبالة ليصيد, يقال: حبل الصيد فهو محبول. قال الراجز: [الرجز] آذن بالبين صريد الضاله ... فظل منه القلب في بلباله ينزو كنزو الظبي في الحباله وأما قول لبيد: [الرمل] ولقد أغدو وما يعدمني ... صاحب غير طويل المحتبل

صاحب هاهنا: فرس, ويقالإنه أراد الرسغ؛ لأنه ربما شد فيه حبل, ويروى: المختبل مأخوذ من قولهم: أخبلته إذا أعرته. وله: وموضعًا في فتان ناجيةٍ ... يحمل في التاج هامة العاقد الموضع: الذي يحمل الناقة على الوضع. والفتان: إشاء الرحل. قال الشاعر: [الطويل] كأني ورحلي والفتان ونمرقي ... على يرفئي ذي زوائد نقنق يرفئي: لا فؤاد له. والناجية: ناقة تنجو براكبها. يقول: كل ساعة تمر بهذا الممدوح تهدي له خبرًا عن جيشٍ قد انهزم وقتله جنوده, وراكب ناقة يحمل هامة مخالفٍ من الملوك والتاج عليها معقود. وقوله: يا عضدًا ربه به العاضد ... وساربًا يتعب القطا الهاجد يقال: إن بعض الناس أنكر على أبي الطيب كثرة التصريع في هذه القصيدة؛ إذ كانت لم تجر العادة بمثله, وإن كانت الشعراء قد استعملته على ضروب, منهم من يستعمله في أول القصيدة ثم لا يصرع إلى آخرها, وبعضهم يترك التصريع في أول القصيدة, ومن المعروفين بذلك الفرزدق وذو الرمة, ومما ترك فيه الفرزدق التصريع قوله: [الطويل] سمونا لنجران اليماني وأرضه ... ونجران أرض لم تديث مقاوله تديث: تذلل. وقال ذو الرمة: [البسيط] أأن ترسمت من خرقاء منزلةً ... ماء الصبابة من عينيك مسجوم ومنهم من يبتدئ القصيدة غير مصرعة, ثم يجيء بعد ذلك بالأبيات المصرعة, ومنه

قال امرئ القيس: [المتقارب] لا وأبيك ابنة العامري ... لا يدعي القوم أني أفر ثم قال بعد أبيات: تروح من الحي أم تبتكر ... وماذا يضرك أن تنتظر أمرخ خيامهم أم عشر ... أم القلب في أثرهم منحدر وشاقك بين الخليط الشطر ... وفيمن أقام من الحي هر فجاء بثلاثة أبيات متوالية مصرعةٍ, وهذا من طريق ما جاء عنهم. وبعض الناس يجعل أول هذه القصيدة مصرعًا, وهو قوله: أحار بن عمروٍ كأني حمر ... ويغدو على المرء ما يأتمر وربما جعلوا التصريع في آخر القصيدة, وأخلوا منه الأول, من ذلك قول أبي زبيدٍ: [الخفيف] لمن العيس لابن أروى على ظهـ ... ـر المرورى حداتهن عجال ثم قال في آخرها: [الخفيف] كل شيءٍ تحتال فيه الرجال ... غير أن ليس في المنايا احتيال ولم يأت عن الطبقة المتقدمة مثل الخليل وأصحابه فرق بين التصريع وغيره, وبعض الناس يفرق بين التقفية والتصريع, فيجعل التقفية لما اعتدل شطراه من الشعر؛ كقول طرفة: [الطويل] لخولة أطلال ببرقة ثهمدٍ ... وقفت بها أبكي وأبكي إلى الغد

وكقول لبيد: [الكامل] عفت الديار محلها فمقامها والاعتدال عندهم في الأصل لا فيما يحدث من الفروع كنقصان الحركة والحرف الساكن, والتصريع لما كان أحد شطريه أزيد من الآخر؛ كقول جرير: [البسيط] بان الخليط ولو طوعت ما بانا والبيت الثاني يزيد في الأصل على البيت الأول بحركةٍ واحدةٍ لا غير. والهاجد: النائم. ومن كلامهم القديم: هو يبعث القطا الهاجد, يريدون أنه يسرى ليلًا في الأرض المقفرة؛ لأن القطا لا يتخذ أفاحيصه على الغالب إلا في أرضٍ بعيدةٍ من الإنس, ولذلك قالوا: لو ترك القطا لنام. وقال الشاعر, والبيت يروى لابن مقبل ولرجلٍ من ثقيفٍ: [الطويل] وإني وإياهم كمن نبه القطا ... ولو لم تنبه باتت الطير لا تسري وقوله: وليت يومي فناء عسكره ... ولم تكن غائبًا ولا شاهد يقول: جهزت جنودك الذين دبرتهم برأيك فكنت كأنك شاهد لما كان من تلك الوقعة وشخصك غائب عن الحرب. وأملي تفسير هذا البيت قبل أن يقرأ الذي بعده, وقد فسر أبو الطيب ما

أراد بالغائب والشاهد, وهو قوله: ولم يغب غائب خليفته ... جيش أبيه وجده الصاعد وقوله: ما كانت الطرم في عجاجتها ... إلا بعيرًا أضله ناشد الطرم: اسم قلعة أو موضع فيه القلعة, والهاء في عجاجتها عائدة على سوافك. والسوافك: يجوز أن يعني بها الخيل أو السيوف والرماح, ويستغنى عن تقدم ذكرها بعلم السامع ما يراد, ويجوز أن تكون (64/أ) الهاء في عجاجتها عائدةً على الطرم, أي: في العجاجة التي ثارت عليها كأن وهسوذان كان قد ملك هذه القلعة, واستردت منه فكانت كالبعير الذي أضله الناشد. وقوله: تسأل أهل القلاع عن ملكٍ ... قد مسخته النعامة الشارد يقول: هذه القلعة تسأل عن وهسوذان؛ لأنها لا تعلم ما كان منه. وقوله: قد مسخته يعني القلعة التي هي الطرم, أي لما أخذها أداه ذلك إلى طرده وانهزامه, فكأنه قد مسخ نعامةً, والنعام توصف بالشرود والنفار, قال الشاعر: [الكامل] ليث علي وفي الحروب نعامة ... ربداء تنفر من صفير الصافر

وقال أسامة بن الحارث الهذلي: [الطويل] لعمري لقد أمهلت في نصح خالدٍ ... إلى الشام إما يعصينك خالد وأمهلت في أصحابه فكأنما ... يسمع بالقول النعام الشوارد وقوله: تستوحش الأرض أن تقر به ... فكلها آنه به جاحد يجوز أن تضم التاء في تقر, وهي من الإقرار الذي هو ضد الجحد, ويجوز أن تفتح التاء, ويكون من القرار في الموضع. وادعى أن الأرض, التي هي مستخفٍ فيها, تستوحش أن تقر به, كأنها تخاف أن تلحقها من ذلك عقوبة من هذا الممدوح, وهذه من الدعوى الباطلة. فكلها آنه به, أي: قد استثقل كونه فيه؛ فهو آنه بما حمل. والآنه: مثل الآنح, وهو الذي يخرج من صدره صوتًا ليس بشديد يدل على أنه قد حمل ثقلًا أو نالته شدة, فالمكان يستثقل كون وهسوذان به, ويجحد أنه فيه خوفًا ممن هزمه. وقوله: فلا مشاد ولا مشيد حمى ... ولا مشيد أغنى ولا شائد الإشادة: تستعمل في الحديث, يقال: أشاد بذكره, يقول لم يحمه ذكر له رفيع, ولا رافع لذلك الذكر. والمشيد: الأحسن هاهنا أن يكون ما رفع من الأبنية, والشائد الذي يرفعه. وبعض الناس يقول: المشيد: المطلي بالشيد؛ أي: الجص, والمشيد: المرفوع من البناء, والوجه الأول أشبه بهذا البيت, ومن نون مشيدًا في النصف الأول فما فعله جائز إلا أنه يحدث في الوزن شيئًا تنكره الغريزة, وقد استعمل مثله المحدثون كثيرًا, إلا أن تركه أحسن, ولعل من روى هذه الرواية يريد أن يعطف على المرفوع مثله كما جاء في الكتاب

العزيز: {فلا رفث ولا فسوق}. والخروج إلى حال النصب أحسن من تغيير الوزن, وفي الآية: {ولا جدال في الحج}. وقوله: فاغتظ بقوم وهسوذ ما خلقوا ... إلا لغيظ العدو والحاسد رخم وهسوذان فحذف الألف والنون لأنه جعله كالاسم الواحد, وهذه الأسماء الأعجمية التي تجيء على سبعة أحرف وما زاد الأشبه بها أن تكون مركبةً من اسمين؛ فأبو الطيب جعل وهسوذان بمنزلة اسم واحد, مثل زعفران وما جرى مجراه. ولو قال قائل في ترخيم وهسوذان وهسو أو وهس لم يبعد ذلك؛ لأنه يجعل ذان بمنزلة اسمٍ قرن بالأول, أو يجعل الواو به متصلة في بعض النسخ. وقوله: رأوك لما بلوك نابتةً ... يأكلها قبل أهله الرائد الرائد: الذي يبعثه القوم يرود لها مواضع الكلأ, والمعنى أنه يرود فيها؛ أي: يذهب ويجيء لينظر كيف هي الخصب والإمراع. ثم قالوا رادها يرودها فاستغنوا عن حرف الخفض, ومن أمثالهم: «لا يكذب الرائد أهله»؛ لأنه إن كذبهم غرهم وغر معهم نفسه, يقول: كان هذا المنهزم كالعشبة النابتة يسبق إليها الرائد فيأكلها من قبل أهله, وذلك لهوانها عليهم, ولأن أكله إياها ليس بمؤد إلى الإضرار بمن وراءه. وقوله: وخل زيا لمن يحققه ... ما كل دامٍ جبينه عابد

أي أردت أن تكون ملكًا ولست من أهل المملكة, فاترك هذا الأمر لمن يحققه, كما أن بعض الناس يؤثر السجود في وجهه لكثرة ما يتعبد ويضع وجهه على الأرض, ومنه قوله تعالى: {سيماهم في وجوههم من أثر السجود}. وقال الشاعر: [البسيط] ضحوا بأشمط عنوان السجود به ... يقطع الليل تسبيحًا وقرآنا وبعض من يريد أن يتظاهر بالدين, وليس هو من أهله, يؤثر في موضع سجوده بشيء حتى يظن أن ذلك من السجود, وقيل: إنهم يدلكون الموضع بثومٍ. وقوله: ومتقٍ والسهام مرسلة ... تحيص من حابضٍ إلى صارد (64/ب) الحابض: من صفات السهام, فقيل: هو الذي يقع بين يدي الرامي, وقيل: بل الذي يتعلق في الغرض تعلقًا يسيرًا. والصارد من السهام: الذي ينفذ الرمية, قال اللعين المنقري: [الوافر] فما بقيا على تركتماني ... ولكن خفتما صرد النبال وقوله: ولا يبل قاتل أعاديه ... أقائمًا نال ذاك أم قاعد لا يبل: كلمة شاذة, وهي من بالى يبالي, وإنما القياس: ولا يبالي مثل لا يرامي, ولكن بعض العرب إذا وقف على مثل أبالي وأرامي, وما كان في آخره ياء من المضارعة مثل يقضي ويأتي يحذف آخر الفعل فيقول: نقض ولا أبال فيسكن اللام, فلما كثر ذلك توهموا أن الألف يجوز حذفها في الجزم, كما يقال: لم يقل, ولم يبل.

ومن التي أولها

ومن التي أولها جاء نوروزنا وأنت مراده ... ووردت بالذي أراد زناده وهي من الخفيف الأول. النوروز: من أعياد فارس, وهو يوم يرفعون فيه آلات الشتاء من بسط وما يجري مجراه ويستعملون آلات الصيف, وهم يصنعون ذلك إلى اليوم. وأما العامة في العراق وغيره فيصب الماء بعضهم على بعض لأربعٍ وعشرين ليلةً تمضي من حزيران, ويسمونه النوروز المعتضدي. وقال أبو الطيب: نوروز بالواو, وهو في شعر البحتري نيروز بالياء, وادعى للنوروز أنه جاء ومراده الممدوح؛ وذلك من الكذب الصريح, ولكنه مستحسن عند الشعراء, ويقولون للرجل إذا نجح وقوي أمره: ورت زناده ووريت؛ أي: بلغ حاجته؛ لأن القادح غرضه أن يري زنده, ويقول الرجل لصاحبه إذ صنع إليه صنيعًا يشكر: وريت بك زنادي؛ أي: أعنتني على ما ألتمس. وقوله: هذه النظرة التي نالها منـ ... ـك إلى مثلها من الحول زاده جعل لليوم نظرةً على سبيل الاستعارة, وصير له زادًا يأخذه من الممدوح في كل سنةٍ, وهذا من نحو الحديث الذي جاء, وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «إن المؤمن والكافر لا تراءى نارهما» أي لا يتجاوران, فتكون نار أحدهما قريبة من نار الآخر فكأنها تراه. ويقولون إذا نظرت إليك بلاد كذا فافعل ما بدا لك؛ أي إذا كنت في موضعٍ بمقدار ما يراك فيه الإنسان الناظر.

وقوله: ما لبسنا فيه الأكاليل حتى ... لبستها تلاعه ووهاده التلاع: جمع تلعةٍ, وهي مسيل في الوادي يقال لأعلاه: تلعة, وكذلك لأسفله, وقد ذكره بعض الناس في الأضداد, كأنه يذهب إلى أن التلعة المكان المرتفع والمنخفض. وكان أبو إسحاق الزجاج ينكر الأضداد, وله كتاب في الرد على من يقول بها. وزعموا أن ابن الأعرابي كان يذهب إلى ذلك, وأنشدوا بيت زهيرٍ في أن التلعة المنخفض من الأرض: [الطويل] وإني متى أهبط من الأرض تلعةً ... أجد أثرًا قبلي جديدًا وعافيا وقوله: كيف يرتد منكبي عن سماءٍ ... والنجاد الذي عليه نجاده المنكب: رأس الكتف, ويجوز أن يسمى ما قرب منه منكبًا. يقول: كيف لا يصل منكبي إلى السماء وقد وهب لي هذا الملك سيفًا, فنجاده على منكبي. وقوله: قلدتني يمينه بحسامٍ ... أعقبت منه واحدًا أجداده يقول: وهب لي هذا الممدوح سيفًا أورثته إياه أجداده, فكأن يمينه قلدتني به. وقوله: كلما استل ضاحكته إياة ... تزعم الشمس أنها أرآده إياة الشمس: ضوؤها. وقال قوم: الإياة: عين الشمس, قال طرفة: [الطويل] سقته إياة الشمس إلا لثاته ... أسف ولم تكدم عليه بإثمد وأرآده: واحدها رئد وأصلها الهمزة, وأصل ذلك في النساء, ويقال: فلانة رئد فلانةٍ؛ أي: تربها ومثلها في السن. قال كثير: [الطويل]

وقد أزروها وهي ذات مؤصد ... صغيرٍ ولما تلبس الإتب ريدها يريد أن نور الشمس إذا قابل فرند هذا السيف حدتث بينهما أنوار تزعم الشمس أنها أرآد هذا الحسام, وإنما ذلك زعم منها لا حقيقة له, وأكثر ما يستعمل الزعم فيما لا يثبت كما قال سبحانه: {زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا}؛ أي: ليس الأمر كذلك, وقال الضبي: [الكامل] زعمت تماضر أنني إما أمت ... يسدد أبينوها الأصاغر خلتي أي: إنها تدعي ذلك, وليس هو على ما تزعم. وقوله: (65/أ) مثلوه في جفنه خشية الفقـ ... ـد ففي مثل أثره إغماده يقول: هذا السيف يهوى الناظر إدامة نظره إليه, فقد مثل في غمده كيلا يستره الغمد عن العيون. والإثر: فرند السيف, كأنهم حلوه بفضة, ولا يمتنع أن يكونوا صاغوا له غمدًا من الفضة, والسيف يوصف بالبياض, والفضة بيضاء, كأنه مغمد في فرنده. وقوله: منعل لا من الحفا ذهبًا يحـ ... مل بحرًا فرنده إزباده لما كانت النعل تكون في رجل الإنسان شبهوا بها نعل الدابة من الحديد, والدواب تمشي فتشارك الأنيس في المشي, فهي أقرب إلى أن تستعمل لها النعال من السيوف, ولما كانت الحلية تكون في أسفل الغمد جعلت كالنعل للسيف. وإنما يحسن أن يجعل له نعلًا إذا أغمد؛ لأنه إذا سل كان ذبابه أعلى شيء فيه, ولعلهم إنما قصدوا بذلك الغمد دون السيف, ثم استعملوه لما يكون في الغمد.

وقوله: يقسم الفارس المدجج لا يسـ ... ـلم من شفرتيه إلا بداده يقال: فارس مدجج ومدجج؛ إذا كان كامل السلاح, ويجوز أن يكونوا أرادوا ستره بالدرع من قولهم: ليل دجوجي؛ أي: مظلم يستر ما تحته, وقالوا للقنفذ العظيم الشوك: مدجج لأنه يرمي بشكوكه, فكأنه معد للحرب. والبداد من السرج: ما كان تحت فخذ الفارس, وإنما قيل له: بداد؛ لأنه يفرق بينه وبين ظهر الفرس, ويقال لباطن الفخذ باد. والبد: أصله التفريق, وهو من قولهم: بدد الشيء إذا فرقه, قال الراجز: [الرجز] قد سمنتها بالسويق أمها ... فبدت الرجل فما تضمها أي: مدتها, فكأنها قد فارقت غيرها من الجسم, ومنه قولهم: أبدهم حتوقهم؛ أي: فرقها فيهم, وفي حديث أم سلمة: «أن السؤال كثروا عندها يومًا فقالت لجاريتها: أبديهم تمرةً تمرةً»؛ أي: فرقي عليهم التمر. وقوله: وتقلدت شامةً في نداه ... جلدها منفساته وعتاده الشامة: نكته يسيرة في شيء يخالف لونها لونه, وهي من ذوات الياء؛ لأنهم يقولون للرجل: أشيم؛ إذا كانت به شامة, وقالوا: إبل شوم؛ أي: سود, ولم يستعملوا لها واحدًا, قال الهذلي: [الطويل] معتقةً صرفًا يكون سباءها ... جياد المخاض شومها وحضارها

ويجوز أن يكون قولهم للسود شوم لأنهم تطيروا من السواد, وأخذوها من الشؤم, وأصله الهمز, ويجوز أن يكونوا لزموا فيه التخفيف, كما فعلوا ذلك في النبي والذرية, وقد تركت العرب همزة الشؤم في الفعل الماضي فقالوا: شامه, ويروى لكثير: وما شامني إلا كتاب بعثته ... فليت يميني قبل ذلك شلت فأما تصيير الهمزة في شؤمٍ واوًا فلا اختلاف في أنه لغة صحيحة تطرد في جميع ما كان مثله. ولما كانت الشامة تكون في الجلد استعاره أبو الطيب في هذا البيت, فجعل السيف شامةً في ندى الممدوح, والجلد الذي هي فيه المنفسات والعتاد, وهي قليلة فيها؛ لأن الشامة إنما تشغل ما قل من جلد الإنسان. وقوله: فرستنا سوابق كن فيه ... فارقت لبده وفيها طراده الهاء في فيه راجعة على الندى, وقوله: فرستنا: أي: جعلتنا حاذقين بالفروسية؛ لأن كل من ركب الفرس سمى فارسًا, إلا أنه, وإن ركب, جائز ألا يكون صاحب فروسة على ظهور الخيل. والهاء في لبده راجعة إلى الممدوح, واللبد هاهنا واحد في معنى الجمع. والهاء في طراده ترجع إلى الممدوح أيضًا؛ أي: أنه فارس على الخيل, فهذه السوابق قد فارقت ركابه, إلا أنها متعودة ما عودها من الطراد, فنحن نجده فيها إذا أردناه. وقوله: ورجت راحةً بنا لا تنلها ... وبلاد تسير فيها بلاده

يقول: هذه السوابق رجت أن تستريح إذا صرات إلينا؛ لأنها كانت متعبةً عنده بالطراد, ودعا عليها بأن لا تنال ذلك؛ أي: إنا بعد نتعبها؛ لأنا نتبع سيرته ونفعل كما يفعل من طراد الأعداء, وهذا معنى مستطرف؛ لأنه كان ينبغي لهذه الخيل أن تستريح ما دامت في بلاد الممدوح؛ إذ كانت آمنةً من الأعداء, فإذا خرجت منها جاز أن يحتاج أربابها إلى القتال. وقوله: أنا من شدة الحياء عليل ... مكرمات المعله عواده هذا البيت والذي بعده من الأبيات يدل على أن ابن العميد نقد على أبي الطيب شيئًا فيما مدحه به ولم يقرر بالتقصير إلا من أمرٍ عظيمٍ؛ لأنه يصف شعره وثناءه في مواضع كثيرةٍ. وقوله: (65/ب) ربما لا يعبر اللفظ عنه ... والذي يضمر الفؤاد اعتقاده ما هاهنا ليست كافةً مثلما في قوله: ربما تجزع النفوس من الأمـ ... ـر له فرجة كحل العقال ولكنها في معنى اسم منكورٍ كأنه قال: رب شيء لا يعبر عنه الفظ؛ أي: إني إن كنت قصرت فيما قلته باللسان فإنما المعول على ما يعتقده الفؤاد. والهاء في اعتقاده راجعة إلى الفؤاد. وإذا جعلت ما نكرةً بان لك معنى البيت, ولو اعتقدت ذلك في مثل قوله تعالى: {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين} لم يحسن.

وقوله: للندى الغلب إنه فاض والشعـ ... ـر عمادي وابن العميد عماده الغلب: مصدر غلب, وهو قليل في الاستعمال, إلا أن مصادر ما كان على هذا الوزن يحسن أن يستعمل فيها فعل, بسكون العين, وأقر في هذا البيت بأن الندى فاض فغلب الشعر, وجعل الشعر عمادًا له. والأشبه أن تكون الهاء في آخر البيت عائدةً على الندى, فكأنه يقول: إن عمادي الشعر, والندى عماده ابن العميد, فقد غلب الشعر, ويحتمل أن تجعل الهاء في عماده عائدةً على الشعر؛ أي: إني أستظهر على المديح بأن ابن العميد عماد للقريض. وقوله: نال ظني الأمور إلا كريمًا ... ليس ليس نطقه ولا في آده هذا البيت يشبه ما قبله في الاعتراف بشيء أنكر عليه, والآد: مثل الأيد؛ أي: القوة. قال الأعشى: [المتقارب] قطعت إذا خب ريعانها ... بوجناء تنهض في آدها وقوله: خلق الله أفصح الناس طرًا ... في مكانٍ أعرابه أكراده جرت العادة بأن يسمى سكان البدو أعرابًا, والنسابون يدعون أن الكرد من العرب, فذكر أبو اليقظان أنهم من ولد عمرو بن عامرٍ من الأسد, وادعى بعض الناس أنهم

من عامر بن صعصعة, وأنشدوا بيتًا: [الطويل] لعمرك ما الأكراد أولاد فارسٍ ... ولكنه كرد بن عمرو بن عامر أي: إن هذا الرجل أفصح الناس, وهو في بلد الأكراد يجرون فيه مجرى الأعراب فيسكنون في البدو, فذلك أعجب لما رزقه من الفصاحة. وقوله: وأحق الغيوث نفسًا بحمدٍ ... في زمانٍ كل النفوس جراده عطف أحق على قوله: أفصح الناس, كأنه قال: وخلق الله أحق الغيوث نفسًا بحمدٍ في زمانٍ أهله كلهم جرادٍ, أي: إنهم من عادتهم أن يضروا النبات ويرعوه ولا منفعة فيهم؛ أي: هذا الممدوح أحق الغيوث بالحمد. وقوله: مثل ما أحدث النبوة في العا ... لم والبعث حين شاع فساده هذا البيت مفسر لما قبله؛ لأن الله - سبحانه - لما كثر الجراد؛ أي: الناس, خلق أحق الغيوث أن يحمد, كما أنه أحدث النبوة لما قلت الديانة وفسد العالم. والبعث من قولهم: بعث الله النبي, وحسن أن يعطف البعث على النبوة لأنه ليس كل نبي مبعوثًا, وكل من بعثه الله نبي فلا يحسن على هذا أن يقال: كل نبي مبعوث, ولكن كل مبعوث نبي. والمبعوث الذي يرسل إلى أمةٍ من الأمم, ولا يحسن أن يكون البعث هاهنا من بعث القيامة الذي هو إحياء للموتى, على أنه قد جاء في الحديث: «أن القيامة تقوم على شر الناس». وإن ذهب إلى ذلك ذاهب فهو غير ممتنع, كأن المعنى يكون مثل ما قدر إحداث النبوة وإحياء

الموتى لما شاع فساد العالم. والذي يضعف هذا المذهب أن النبوة قد كانت في العالم والبعث الذي يكون في القيامة لم يكن بعد. وقوله: زانت الليل غرة القمر الطا ... لع فيه ولم يشنها سواده هذا البيت تقوية للأبيات الماضية وبيان لها؛ لأنه جعل الممدوح كالقمر الطالع والعالم كالليل الأسود؛ فالقمر يزين الليل, وسواد الليل لا يشين القمر؛ أي: معايب الناس الذين في زمن ابن العميد لا يلحقه منها شيء, بل هو يزيلها بمكارمه كما يزيل القمر ظلمة الليل. وقوله: كثر الفكر كيف نهدي كما أهـ ... ـدت إلى ربها الرئيس عباده والذي عندنا من المال والخيـ ... ـل فمنه هباته وقياده فبعثنا بأربعين مهارٍ ... كل مهرٍ ميدانه إنشاده عدد عشته يرى الجسم فيه ... أربًا لا يراه فيما يزاده فارتبطها فإن قلبًا نماها ... مربط تسبق الجياد جياده من شأن الفرس في النوروز والمهرجان أن تهدي إلى ملوكها, فيحمل كل رجل من أصحابه ما أمكن, فمنهم من يحمل الدرع, ومنهم من يجيء بالسيف, وأقلهم هديةً الذي يهدي دينارًا ودرهمًا, فذكر أبو الطيب أنه كثر فكره كيف يهدي إلى الممدوح كما جرت العادة من الأصحاب والأولياء, فإذا الذي في ملكه من المال والخيل وغيرهما من هبات الممدوح فلم يحسن أن يهدي له شيئًا مما وهبه, فأهدى قصيدةً عدد أبياتها أربعون, وشبه البيت بالمهر لأنه يجوز في البلاد, وجاء بشيء لم يهبه له ابن العميد؛ لأن الشعر مما أنشأه أبو الطيب, وجعل الإنشاد ميدانًا للمهر؛ لأن البيت إذا أنشد علم حسن لفظه ومعناه, كما أن المهر إذا أجيل في الميدان عرف حسن خلقه وموضعه في الجري. والميدان ليس أصله عربيًا. واحتج في كون الأبيات أربعين بحجةٍ لم يعلم أنه سبق إليها؛ وذلك أنه جعل عدة الأبيات كعد الأربعين من السنين التي يرى فيها الإنسان من القوة والشباب وقضاء المآرب ما

ومن أبيات أولها

لا يراه فيما يزاد من السنين, فاعتذر بأحسن اعتذارٍ من أنه لم يزد القصيدة على أربعين في العدة, ثم خرج من الإخبار عن الغائب إلى مخاطبة الممدوح فقال: فارتبطها, فإنها جاءت من مربطٍ تعود ما ربط فيه أن يسبق الجياد. ومن أبيات أولها بكتب الأنام كتاب ورد ... فدت يد كاتبه كل يد وهي من ثالث المتقارب. أصل الورود في الماء, ثم كثر ذلك حتى قالوا: ورد الغائب إذا قدم, وورد كتاب فلان وخبره, وكل ذلك تشبيه بورود الماء. وقوله: فدت يد كاتبه كل يد: لفظ ظاهره ظاهر العموم, وإذا لم يحمل على الخصوص كان إزراءً بالممدوح؛ لأنه يجعل يده فداء يد كاتب الكتاب, وهو والده, ومثل هذا في الشعير كثير, وكذلك في جميع الكلام. وقوله: فأخرق رائيه ما رأى ... وأبرق ناقده ما انتقد أخرق: من الخرق؛ أي أنه لما نظر إليه خرق من حسن الخط, وهذا يشبه قولهم: ذهب إذا رأى ذهبًا كثيرًا فلحقه مثل الفزع, وأبرق: من برق البصر, وهو شخوصه مع فتح العين, قال طرفة: [المتقارب] نعاني حنانة طوبالة ... ترعى أنيقًا من العشرق فنفسك فانع ولا تنعني ... وداو كلومك لا تبرق

ومن التي أولها

وقد قرئت الآية على جهين: «فإذا برق البصر» وبرق, فإذا فتحت الراء فالمعنى أنه يسرع النظر كسرعة البرق, وقيل يلمع لمعًا متتابعًا, وحنانة: حاجب كان لبني المنذر, وطوبالة: نعجة. يقول: حنانة هذا مثل النعجة. والنقد: أصله في الدراهم والدنانير, ثم استعمله الناس في نقد الشعر والكلام. قال امرؤ القيس: [الطويل] كأن صليل المرو بين خفافها ... صليل سيوفٍ ينتقدن بعبقرا وقوله: فقلت وقد فرس الناطقين ... كذا يفعل الأسد بن الأسد أصل الفرس: دق العنق, ثم صار كل قتلٍ فرسًا, وشبه الناس الشجاع بالأسد ثم حذفوا حرف التشبيه, وذلك كثير, قال الهذلي: [الكامل] أسد تفر الأسد من عروائه ... بمدافع الرجاز أو بعيون ومن التي أولها نسيت وما أنسى عتابًا على الصد ... ولا خفرًا زادت به حمرة الخد وهي من الطويل الأول. وقوله: ولا ليلةً قصرتها بقصورةٍ ... أطالت يدي في جيدها صحبة العقد القصورة: التي تقصر في خدرها؛ أي: تحبس, وهي القصيرة أيضًا, عدلت عن

مقصورة, وفي الكتاب العزيز: {مقصورات في الخيام}؛ أي: هن لها لوازم. وجميع القصورة والقصيرة قصائر, قال كثير: [الطويل] وأنت التي حببت كل قصيرةٍ ... إلي وما تدري بذاك القصائر أردت قصيرات الحجال ولم أرد ... قصار الخطى شر النساء البهاتر ويروى: قصار القنا. وقوله: (66/ب) تمن يلذ المستهام بمثله ... وإن كان لا يغني فتيلًا ولا يجدي قوله: تمن: أي هذا القول الذي أقوله تمن, والأماني, لا تجدي شيئًا, والفتيل: قشرة رقيقة تكون في بطن النواة, يضربون به المثل في قلة الشيء, ويستعملونه في النفي دون غيره, فيقولون: ما رزأه فتيلًا, قال النابغة: [الخفيف] يجمع الجيش ذا الألوف فيغزو ... ثم لا يرزأ العدو فتيلا وقوله: فإما تريني لا أقيم ببلدةٍ ... فآفة غمدي في دلوقي من حدي يقال: سيف دالق إذا خرج من غمده؛ لأن حده يشق الغمد, ويقال: طعن الحمار الوحشي أو الرجل فاندلق ما في بطنه؛ أي: خرج؛ يعنون الأمعاء, وكان عمارة بن زيادٍ العبسي يسمى دالقًا غاراته, شبه بالسيف الدالق, قال الفرزدق: [الطويل]

وهن بشرحافٍ تداركن دالقًا ... عمارة عبسٍ بعدما جنح العصر وشرحاف الضبي هو الذي قتل عمارة. وقوله: يمر من السم الوحي بعاجزٍ ... ويعبر من أفواههن على درد الدرد: جمع أدرد ودرداء. والدرد: ذهاب الأسنان, وهو الدرم أيضًا, والماضي درد, وربيعة تقول: درد كما تقول علم, قال الراجز: [الرجز] من يشتري شيخًا بدرهمين ... قد انحنى ودرد مرتين ويقال: إن مزردًا أخا الشماخ سمي مزردًا بقوله: [الطويل] فقلت تزردها فإني مثلها ... لدرد الموالي في السنين مزرد والوحي: السريع الإماتة, والمصدر منه: الوحى والوحاء, بالقصر والمد, ويقال للسرعة: وحى, وزعم بعضهم أن النار يقال لها وحًى لسرعة إحراقها, وكذلك يقولون للملك: وحًى؛ لأنه يمتثل أمره سريعًا. وقوله: كفانا الربيع العيس من بركاته ... فجاءته لم تسمع حداءً سوى الرعد

يقول: إن هذا الممدوح له بركات عظيمة, فلما سرنا إليه في الربيع كثرت الرعود فأغنتنا عن حداء الإبل؛ وهذا معنًى لم يعلم أنه سبق إليه, كأن الرعد يكون من خلفها, فيحثها على السير, فهو لها كالحادي. وقوله: إذا ما استحين الماء يعرض نفسه ... كرعن بسبتٍ في إناء من الورد استحين: في معنى استحيين. يقول: هذه الإبل غنية عن الورد, وهن يعبرن بالمياه كثيرًا. فالماء كالذي يعرض نفسه عليها فتستحيي منه ألا تشرب, فتكرع فيه. وأصل الكروع في الماشية التي تدخل في الماء حتى تغيب فيه أكرعها, ثم كثر ذلك حتى قيل: كرع الشارب في القدح في معنى شرب, قال النابغة: [الطويل] وتسقى إذا ما شئت غير مصردٍ ... بزوراء في أكنافها المسك كارع أي أن فيها مسكًا فكأنه قد كرع, وقالوا للنخل التي تسقى بالماء: مكرعات. ويجوز أن يقال للنخل التي تشرب بعروقها: مكرعات. وإنما استعاروا لها الأكارع من ذوات الظلف, قال امرؤ القيس: [الطويل] أو المكرعات من سفين ابن يامنٍ ... دوين الصفا اللائي يلين المشقرا وقال النابغة: [الطويل] من الواردات الماء بالقاع تستقي ... بأعجازها قبل استقاء الحآجر وقالوا للماء الذي يجتمع من السماء فترده الوحش وغيرها: كرع, وأصل ذلك أنها تخوضه فيبلغ أكارعها, قال الهذلي: [الكامل]

فشرعن في جنبات عذبٍ باردٍ ... حصب البطاح تغيب فيه الأكرع يقول: كرعت هذه الإبل بسبتٍ؛ لأن مشافرها تشبه بالسبت, والسبت: نعال تدبغ بالقرظ. قال بعضهم: هي نعال يحلق الشعر عنها, وإنما أخذت من سبت رأسه إذا حلقه, قال رؤبة في صفة الإبل: [الرجز] ينفضن أنقى من نعال السبت وقوله: في إناء من الورد, يريد أن الماء قد اجتمع في موضع منخفضٍ وقد نبت الزهر حوله, وكل زهر يسمى وردًا على الاستعارة؛ فكأن ذلك الموضع إناء من وردٍ؛ لأن الماء قد غطى ما ليس فيه ورد منه, فقد صار كالماء في القدح, وما حوله من الزهر كفضلة الإناء التي ليس فيها ماء. وقوله: كأنا أرادت شكرنا الأرض عنده ... فلم يخلنا جو هبطناه من رفد (67/أ) يقول: كأن الأرض أرادت أن نشكرها عند هذا الممدوح, فأعانتنا على السفر بالنبات والماء, فلم يخلنا جو؛ أي: وادٍ من رفدٍ؛ أي: عطاءٍ. وقوله: لنا مذهب العباد في ترك غيره ... وإتيانه نبغي الرغائب بالزهد يقول: العباد يتركون ما في الدنيا من اللذات رغبةً فيما هو أعظم منه, وذلك ما يرجون من ثواب الآخرة, فنحن في قصد هذا الممدوح لنا مذهب العباد؛ لأنا قد زهدنا في غيره من الملوك, وإنما زهدنا فيهم لكثرة ما نرجو عنده من الرغائب التي لا نجدها لديهم, وهذا من اللفظ الذي ظاهره عموم ومعناه خصوص.

وقوله: تعرض للزوار أعناق خيله ... تعرض وحشٍ خائفاتٍ من الطرد يقول: أعناق خيله تعرض للزوار تعرض وحشٍ يخاف أن تطرد, كأنه ادعى لها أنها تفرق من أن يهبها؛ لأن كونها في ملكه أشرف لها من أن تكون في ملك غيره, وهذا نحو من قوله في الأخرى: [المنسرح] من كل موهوبةٍ مولولةٍ ... قاطعةٍ زيرها ومثناها وقوله: وتلقى نواصيها المنايا مشيحةً ... ورود قطًا صم تشايحن في ورد المشيح: يذكر في الأضداد, فيقولون: المشيح: الحذر, ويقال: الجاد في الأمر. ومشيحةً في هذا البيت: يحتمل الوجهين, إلا أن الجد أغلب عليها من الحذر. وتشايحن: أي: تجاهدن, يقال: شايح الرجل شياحًا؛ إذا كان يباري غيره في الجد, قال الراجز: [الرجز] إذا سمعن الرز من رباح ... شايحن منه أيما شياح ويقال رجل شيح؛ أي جاد مجتهد, قال أبو ذؤيب: [الطويل] سبقتهم ثم اعتنقت أمامهم ... وشايحت قبل اليوم إنك شيح وادعى قوم أن القطا صم, وأنشدوا قول الراجز: [الرجز] ردي ردي ورد قطاةٍ صماء ... كدريةٍ أعجبها برد الماء

وقال قوم: إنما أراد أنها جادة في الطيران, فكأنها لا تسمع, أو أنها إذا سمعت صوتًا لم يشغلها عما هي فيه, فكأنها صمت عنه, ومثل هذا المعنى يستعمل في الناس, فيقال: هو أصم عن العذل وعن العتاب؛ أي: هو لا يقبله, فكأنه لم يطرق سمعه. وقوله: إذا الشرفاء البيض متو بقتوه ... أتى نسب أعلى من الأب والجد القتو: الخدمة, يقال: قتاه يقتوه إذا خدمه, قال الشاعر: [المنسرح] إني امرؤ من بني فزارة لا ... أحسن قتو الملوك والحفدا ومنه قيل: رجل مقتوي للذي يخدم بطعام بطنه, قال الشاعر: [مجزوء الكامل] من مبلغ عصمًا بأنـ ... ـي عن فتاحتكم غني لا خالتي أمة ولا ... خالي لخالك مقتوي وقال عمرو بن كلثوم: [الوافر] تهددنا وأوعدنا رويدًا ... متى كنا لأمك مقتوينا جمع مقتويًا على حذف ياء النسب, كما يقولون في جمع أشعري: أشعرون, قال الشاعر: [الطويل] أنت امرؤ في الأشعرين مقابل ... وفي الركن والبطحاء أنت غريب

وقوله: فتى فاتت العدوى من الناس عينه ... فما أرمدت أجفانه كثرة الرمد أصل الفتى أن يستعمل للشباب, ثم كثر من الكلام حتى صاروا يصفون الكهل والشيخ بذلك؛ أي أنه يفعل أفعال الفتيان الذين يرغبون في الذكر الحسن, فيجودون بالمال, ويتسرعون إلى الحرب, قال كثير: [البسيط] يا عز هل لك في شيخٍ فتًى أبدًا ... وقد يكون شباب غير فتيان فأما قول طرفة: [الطويل] إذا القوم قالوا من فتًى خلت أنني ... عنيت فلم أكسل ولم أتبلد فإنه كلام محمول على الحذف, كأنه قال: من فتًى يفعل كذا؛ أي: يقدم في حربٍ أو يبذل مالًا في مكرمةٍ, وهو نحو قول الآخر: [البسيط] لو كان في الألف منا واحد فدعوا ... من فارس خالهم إياه يعنونا والعدوى أن ينتقل الداء ممن هو فيه إلى من قاربه أو لاصقه, وهو غير منتقل عن الأول؛ وذلك من قولهم: عداه يعدوه إذا جاوزه, ويزعمون أن الجرب والرمد والثؤباء من المعديات, وقالوا في المثل: «هو أعدى من الثؤباء» وإنما ضرب الرمد هاهنا مثلًا لما في الناس من العيوب (67/ب)؛ أي أن فيهم البخلاء والجبناء ومن هو قليل اللب فما أعدوه بما فيهم من الأشياء المذمومة. وقوله: إذا ارتقبوا صبحًا رأوا قبل ضوئه ... كتائب لا يردي الصباح كما تردي يقول: إذا ارتقب أعداؤه صبحًا, وإنما يرتقبونه؛ لأن الغارة تكون في الصباح فيقال:

صبحناهم غارة, فكأن خيل هذا المعني تجيئهم قبل الوقت الذي يخافون مجيئها فيه. وفرق بينها وبين الصبح بالرديان, كأنه يذهب إلى أنها أسرع انتشارًا منه. وقوله: ومبثوثةً لا تتقى بطليعةٍ ... ولا يحتمى منها بغورٍ ولا نجد ومبثوثةً: أي: قد بثها صاحب الجيش, والمراد خيل لا تتقى بطليعة؛ أي: شأنها عظيم, فلا يبعث الأعداء إليها طليعةً, إذ كانوا عالمين بأنها الغالبة, ولا يحتمى منها بأرض مرتفعةٍ ولا منخفضة. وقوله: يغضن إذا ما عدن في متفاقدٍ ... من الكثر غانٍ بالعبيد عن الحشد يقول: صاحب الخيل يبث خيلًا لتأخذ له أخبار العدو, فإذا عدن غصن في جيش بحرٍ؛ أي: غبن فيه, من غاضب الماء في الأرض إذا ذهب فيها, ووصف الجيش بمتفاقدٍ؛ لأنه كثير العدة, ومثل هذه الصفة يتردد في الأشعار, ومنه قول الأفوة في صفة الجيش: [الرمل] زجل الأصوات حتى ما به ... ليس شتى حزق القوم شعار ويروى: خرق القوم, ويعني بالشعار قول القائل: يال فلانٍ فينتسبون إلى أبيهم ليعرف بعضهم بعضًا, وربما تواصوا بلفظ يقولونه ليتعارفوا بذلك, ومن هذا النحو قولهم: جمع تضل فيه البلقاء, قال عبيد الله بن قيس الرقيات: [الوافر] تضل العاند البلقاء فيه ... ويخطئ رحل صاحبه الزميل فزعم الأفوه أنهم يجتمع بعضهم إلى بعضٍ خشية أن يفترقوا فيضلوا. والخرق الجماعات من الناس ومن روى: شتى خرق القوم, أراد الرايات. وقوله: غانٍ بالعبيد أي الجيش قد استغنى بعبيد قائده عن أن يحشد له أخلاط الناس. وقوله: حثت كل أرضٍ تربةً في غباره ... فهن عليه كالطرائق في البرد

يقول: هذا الجيش إذا مر بأرض حثت في غباره حثوةً, ففيه تراب أحمر وأسود وأغبر, فكأنهن الطرائق في البرد الموشي. وقوله: أأحزم ذي لب وأكرم ذي يدٍ ... وأشجع ذي قلبٍ وأرحم ذي كبد يقال: رجل حازم وحزيم كما يقال: عالم وعليم. والحازم: الذي يجمع من أمره ما تشتت بحسن الرأي, ومن أمثالهم: «قد أحزم أو أعزم»؛ أي: أني أعرف كيف ينبغي أن تكون الأشياء, غير أني لا أقطع بالعزيمة. وإنما قيل للرجل: حازم من قولهم: حزم المتاع: إذا جمع أشتاته, يراد أنه يفعل ما يؤدي إلى السلامة والحفظ, ونسب الرحمة إلى الكبد لأن المتقدمين يذكرون ذلك, قال الشاعر: [البسيط] إني لعمرك لا أقضي الغريم وإن ... طال المطال ومارقت له كبدي إلاعصا أرزنٍ طارت برايتها ... تنوء ضربتها بالكف والعضد وقالت امرأة من العرب: [الكامل] لما رأوهم لم يحسوا مدركًا ... وضعوا أناملهم على الأكباد أي: إنهم رقوا لفقد هذا المنعي, فوجدوا المضض في أكبادهم, فوضعوا عليها الأيدي, ويقال: كبد وكبد, وبعضهم يقول: كبد, فيفتح الكاف, ويسكن الباء, ويجب أن يكون ذلك على اللغة الربعية. وقوله: وأحسن معتم جلوسًا وركبةً ... على المنبر العالي أو الفرس النهد الركبة: الهيأة التي يكون عليها الراكب. والركبة: المصدر, وهذا شيء كالمطرد يكسرون أول الهيئآت, ويفتحون أوائل المصادر, فيقولون: جلس جلسةً واحدة, وما أحسن جلسته, ومثل ذلك كثير متردد, والفرس: يقع على الذكر والأنثى, ومن الكلام المروي عن العرب:

خير المال فرس في بطنها فرس يتبعها فرس. والنهد: العالي الضخم, وهو من قولهم: نهد لكذا؛ أي: نهض له. وقوله: وقد كنت أدركت المنى غير أنني ... يعيرني أهلي بإدراكها وحدي (68/أ) أصحاب النقل يختارون عيرته كذا بغير باء, وتوجد في كتبهم ومصنفاتهم الباء كثيرةً في هذا الموضع. فأما الشعر القديم فقلما يوجد فيه عيرته بكذا. قال المتلمس: [الطويل] يعيرني أمي رجال ولن ترى ... أخا كرمٍ إلا بأن يتكرما وقال آخر: [الطويل] أعيرتنا ألبانها ولحومها ... وذلك عار يابن ريطة ظاهر وأنشد ابن الأعرابي في دخول البناء: [الرجز] بالموت ما عيرت يالميس وقد مضى هذا البيت. وقوله: وكل شريكٍ في السرور بمصحبي ... يرى بعده من لا يرى مثله بعدي الهاء في قوله: يرى بعده عائدة على المصحب, وقد يجوز أن تكون عائدة على شريك. والهاء في مثله: عائدة على الشريك.

ومن أبيات أولها

ومن أبيات أولها وزيارةٍ من غير موعد ... كالغمض في الجفن المسهد وهي من سادس الكامل. أي: إن هذه الزيارة كنا إليها مشتاقين كاشتياق الجفن المسهد إلى الغمض, وكسر عين موعد مع فتح الهاء الثانية في المسهد سناد عند الخليل, وليس عند الأخفش بسناد. وقوله: معجت بنا فيها الجيا ... د مع الأمير أبي محمد المعج: ضرب من السير سهل, ومنه قولهم: تمعج السيل والمكان, قال القطامي: [البسيط] صافت تمعج أعناق السيول به ... من باكر سبطٍ أو رائحٍ يبل ومن أبيات أولها ماذا الوداع وداع الوامق الكمد ... هذا الوداع وداع الروح للجسد وهي من البسيط الأول. قوله: إذا السحاب رفته الريح مرتفعًا ... فلا عدا الرملة البيضاء من بلد

السحاب: يجوز أن يوجد ويذكر, وأن يجمع ويؤنث, وهو في هذا البيت مذكر. وفي كتاب الله سبحانه: {وينشئ السحاب الثقال} , فهو مؤنث تأنيث الجمع. ورفته الريح يحتمل الوجهين: أحدهما أن يكون من رفأت الثوب على تخفيف الهمز؛ لأنهم قد حكوا رفا الثوب يرفوه, فكأن الريح رفته كما يرفى الثوب, وجمعت بعضه إلى بعضٍ. والآخر أن يكون من رفوت الرجل إلى رفقت به وسكنته, قال أبو خراش الهذلي: [الطويل] رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع ... فقلت وأنكرت الوجوه هم هم وقالوا: فلان يرافيني؛ أي: يداريني, ويرفوني, قال الشاعر: [الوافر] ولما أن رأيت أبا خبيبٍ ... يرافيني ويكره أن يلاما ووصف الرملة بالبيضاء لفضل البياض, كأنه أراد حسن البلد وضياءه, ويقال: إنها في رمل أحمر إلى السواد, وقيل: إن بالقرب منها رملًا أبيض, وقد ذكرت في الشعر الفصيح, قال الشاعر: [الطويل] وحنت قلوصي فاستمعت لسجرها ... برملة لد وهي معقولة تحبو لد: قرية عند الرملة, وجاء في الحديث: «الدجال يقتله المسيح بباب لد». * * *

قافية الذال

قافية الذال من التي أولها أمساور أم قرن شمسٍ هذا ... أم ليث غابٍ يقدم الأستاذا وهي من الكامل الثاني. قوله: شم ما انتضيت فقد تركت ذبابه ... قطعًا وقد ترك العباد جذاذا شم: في معنى انتض السيف, وقد يستعمل في معنى أغمد, وهو هاهنا في معنى الإغماد, وينشد بيت يقال إنه لجرير: [الطويل] إذا هي شيمت فالقوائم تحتها ... وإن لم تشم يومًا علتها القوائم فشيمت هاهنا: في معنى سلت. وقال الفرزدق في أن الشيم الإغماد: [الطويل] بأيدي رجالٍ لم يشيموا سيوفهم ... ولم تكثر القتلى بها حين سلت يقول: قد حطمت سيفك مما تضرب به الأعداء, فذبابه قطع, وقد ترك أعداءك جذاذا؛ أي: قطعهم, ومنه قوله تعالى: {فجعلهم جذاذا} قرئ بالضم والكسر. وقوله: ترك العباد عموم لا بد فيه من التخصيص. وقوله: هبك ابن يزداذٍ حطمت وصحبه ... أترى الورى أضحوا بني يزداذا (68/ب) هبك: كلمة منقولة من قولهم: وهبت الشيء إلا أنهم جعلوها في معنى

اعدد, كأنه قال: اعدد نفسك أنك قتلت ابن يزداذ. قال الشاعر: [الطويل] هبوني امرأً منكم أضل بعيره ... له ذمة إن الذمام كبير أي عدوني واجعلوني. وقوله: غادرت أوجههم بحيث لقيتهم ... أقفاءهم وكبودهم أفلاذا يحتمل أن يريد أن الضرب هتك وجوههم فأذهب الأنوف وما يعرف به الوجه, فقد صارت الوجوه كالأقفاء؛ لأنه لا تعرف لها صورة, وحذف حرف التشبيه لعلم السامع بما يريد, ويجوز أن يعني أنهم لقوه بوجوههم فلما هزمهم اتقوه بأقفائهم, فكأنه جعل وجوههم أقفاءهم. والأفلاذ: القطع. يقال: فلذ له من العطاء: إذا أعطاه قطعة منه. وفي الحديث: «قد رمتكم مكة بأفلاذ كبدها»؛ أي: بأهلها الذين هم العادة, وعليهم المعول. وقوله: في موقفٍ وقف الحمام عليهم ... في ضنكه واستحوذ استحواذا الضنك الضيق. قال عنترة: [الكامل] إن المنية لو تمثل مثلت ... مثلي إذا نزلوا بضنك المنزل وقالوا: امرأة ضناك؛ أي: عظيمة الخلق, كأن لحمها ضايق بعضه بعضًا, فيجوز أن تكون مسماةً بالمصرد من ضانك يضانك ضناكًا, قال الشاعر: [الطويل] ضناك على نيرين أمست لداتها ... بلين بلى الريطات وهي جديد وأنشد ابن الأعرابي: [الطويل]

يقول لها الرؤون أين خيارها ... أهاتيك أم هاتا التي لم تضانك أي: التي لم تزاحم صاحبتها في المنبت. واستحوذ عليهم: إذا استولى, ولم يجئ أبو الطيب بمصدرٍ لأجل القافية إلا في هذا البيت. وقوله: جمدت نفوسهم فلما جئتها ... أجريتها وسقيتها الفولاذا يقال: كأنهم من الفزع جمدت نفوسهم فلم تقدر على التصرف, فلما جئت أجريتها على السيوف, فكأنك سقيتها الفولاذ, وهو خالص الحديد, وليس أصله بعربي. والنفوس هاهنا بمعنى الدماء؛ لأنها تصحب الأنفس مادامت حيةً, فإذا الدم ذهب زالت النفس بزواله, وبعض العامة يقول: البولاذ بالباء, والأعاجم ينطقون بحرف بين الباء والفاء, وقد فعل ذلك بعض أهل اليمن, فإذا جاءت الكلمة الأعجمية جعلها العرب مرة فاءً ومرة باءً, كما قالوا: فرند السيف وبرنده, ويجوز أن يكون الفولاذ من هذا الحيز. وقوله: لما رأوك رأوا أباك محمدًا ... في جوشنٍ وأخا أبيك معاذا جوشن الرجل: صدره, وسميت هذه الآلة جوشنًا؛ لأنها تكون على الصدر, وجواشن الليل: صدوره وغياهبه. قال الراجز: [الرجز] مروا بهم على جواشن الليل ... مر الصعاليك بأرسان الخيل وقالوا: مر جوشن من الليل: أي: قطعة, فيجوز أن تكون النون زائدة في جوشنٍ, كما قالوا في ضيفن, وهو من ضاف يضيف؛ لأنهم يقولون: مضى جوش من الليل, بغير نونٍ, والمعنى أنهم لما رأوا هذا المذكور رأوا أباه وعمه في جوشنٍ؛ لأنه قد جمع شبهًا للرجلين. وقوله: أعجلت ألسنهم بضرب رقابهم ... عن قولهم لا فارس إلا ذا لما كانت (ذا) تستصحب حرف التنبيه كثيرًا وقع الفرق بين قولهم هذا وبين قولهم ذا,

فخرج هذا الشعر بتلك العلة من الإيطاء, وقد يكون إيطاءً على مذهب قومٍ؛ لأن من أهل العلم من يتشدد في تشابه اللفظ وإن اختلفت المعاني, فيجعل ذهب إذا أريد به الفعل الماضي مع الذهب الذي يراد به هذا الشيء المعروف إيطاءً لاتفاق اللفظين, وكذلك يجعلون الرجل بالألف واللام مع رجل إذا نكر إيطاءً, وفي ذلك بينهم خلاف. وقوله: غر طلعت عليه طلعة عارضٍ ... مطر المنايا وابلًا ورذاذا هذا الموضع على رأي أبي عبيدة يجب أن يستعمل فيه أمطر؛ لأن أمطر عنده للعذاب والسخط, ومطر للرحمة. وقال قوم: هما سواء. والوابل الشديد الوقع من المطر, والرذاذ يزيد على الطل شيئًا. وقوله: سدت عليه المشرفية طرقه ... فانصاع لا حلبًا ولا بغداذا انصاع: أي: ذهب في شق, قال الأخطل: [البسيط] فانصاع كالكوكب الدري منصلتًا ... والثور يخلط تقريبًا بإحضار ونصب حلبًا بإضمار فعلٍ كأنه قال: لا أتي حلبًا ولا بغداذ. وبغداذ تستعمل بالذال (69/أ) تارة وبالدال أخرى, وإنما استعملوها في الإسلام بعد أن نزل بها أبو جعفر وقيل: إن ذاذا اسم صنمٍ, وبغ أصله باغ في كلامهم, وهو البستان, فكأنهم أرادوا بستان الصنم, وقيل: أرادوا ببغ العطية؛ وذاك غير ممتنعٍ؛ لأنه يقال: هذا بستان فلان, فإن قيل:

هذا عطية فلان احتمل وجهين: أحدهما أن يكون هو الذي أعطيه, والأحسن أن يكون هو الذي أعطاه. ولأجل الصنم اختاروا أن يقولوا مدينة السلام ولا يقولون: بغداذ, وقد جاءت أشعار فيها ذكر بغداذ, وهي مما قيل في أيام بني العباس, وقالوا: بغدان, بالنون, قال الشاعر: لعمرك لولا حاجة ما تعفرت ... ببغدان في بوغائها القدمان وقد استشهدوا بهذا البيت؛ لأنه قد كان في أيام العباسيين فصحاء, كأبي حزامٍ العكلي وغيره. وقوله: طلب الإمارة في الثغور ونشؤه ... ما بين كرخايا إلى كلواذا نشؤه: مصدر نشأ ينشأ نشئًا. وكرخايا وكلواذا: اسمان أعجميان. وذكر أحمد بن يحيى في (المقصور والممدود) أن كلواذا تمد وتقصر, وهي كلمة مولدة, وليس في كلامهم الكلد, فتكون هذه الكلمة مشتقةً منه أو موافقةً له كما يتفق اللفظان: أحدهما أعجمي, والآخر عربي, كقولهم: يعقوب في اسم النبي صلى الله عليه, ويعقوب لذكر الحجل.

وقوله: فكأنه حسب الأسنة حلوةً ... أو ظنها البرني والآذاذا البرني والآذاذ: ضربان من التمر, فأما البرني فقد تردد في شعر العرب, وليس بعربي في الأصل, ورووا أن وفدًا قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فسألهم إن كان معهم تمر برني. والذين يخبرون أنواع التمر يذكرون أنه أقلها مضرةً للآكل. وأنشد الأخفش: [الطويل] باتوا يعشون القطيعاء ضيفهم ... وعندهم البرني في جلل ثجل وأما الآذاذ فقليل التردد في الشعر. وحكي أن الكميت بن زيدٍ قدم على بعض السلاطين يمدحه. فقيل له: إن الأمير قد رد الشعراء ولم يسمع منهم, فقال: إنهم حملوا دقلًا وحملت آذاذًا. وقوله: أعجب بأخذكه وأعجب منكما ... ألا تكون لمثله أخاذا إذا أضيف المصدر إلى الكاف, فكان متعديًا إلى مفعول, فأضمر ذلك المفعول, جاز أن يجاء بالضمير المنفصل تارة, والمتصل أخرى. فقوله: أعجب بأخذ كه: الهاء من الضمير المتصل, ولو أنه في غير الشعر لاحتمل أن يقول: أعجب بأخذك إياه, فإذا أضفت المصدر إلى الهاء قبح أن تقول عجبت من أخذهه, وهو على قبحه غير الممتنع, والأحسن أن تفصل بين الهاءين بياء فتقول: عجبت من أخذهيه كما تقول: من أخذه إياه, فإن قلت: عجبت من أخذهيك فمجيء الكاف بعد الهاء مكروه. * * *

قافية الراء

قافية الراء من التي أولها سر حل حيث تحله النوار ... وأراد فيك مرادك المقدار وهي من ثاني الكامل. والنوار والنور واحد, والشعر يدل على أنهم يعنون بالنون الأبيض؛ لأنهم شبهوا الثغر بنور الأقاحي قال الشاعر: [الطويل] من لامني على النوار فليته ... رآها معي يوم الكثيب فينظر بثغرٍ كنور الأقحوان اجتليته ... غداة الشروق والسحابة تمطر والأقيس أن يكون النور والزهر يستعملان في معنًى واحدٍ, فيقعان مرةً على الأبيض, ومرةً على الأصفر, ومرةً على الأحمر, وقال قوم: الزهر الأحمر والأصفر, والاشتقاق يدل على أنه من الزهرة؛ أي: البياض. وقوله: وإذا ارتحلت فشيعتك سلامة ... حيث اتجهت وديمة مدرار التشييع مأخوذ من اتباع الشيء, وهو من قولهم: آتيك غدًا وشيعه؛ أي: اليوم الذي بعده, وقيل لشبل الأسد: شيعه؛ لأنه يتبعه. قال عمر بن أبي ربيعة: [الكامل] قال الخليط غدًا تصدعنا ... أو شيعه أفلا تودعنا والديمة: مطر في سكونٍ, وأقل ما يكون فيما زعموا يوم وليلة. وقالوا في الجمع: ديم وديم, كما قالوا: سدر وسدر في جمع سدرةٍ. وقالوا: ديم السحاب؛ إذا جاء بالديمة, قال

الراجز: [الرجز] هو الجواد بن الجواد بن سبل ... إن ديموا جاد وإن جادوا وبل (69/ب) وقالوا: كثيب مديم؛ إذا أصابته الديمة, وأصل هذه اللفظة الواو لأنها من دام يدوم, إلا أنهم ألفوا الياء فقالوا: ديم, ولو حملوه على الأصل لقالوا: دوم, وقد حكي: دام المطر يديم, وإنما حملهم على ذلك أنسهم بالياء في الديم وديم. والمدرار: مفعال من درت تدر: إذا غزر ماؤها. وقوله: وأراك دهرك ما تحاول في العدى ... حتى كأن صروفه أنصار الصروف: جمع صرفٍ, وهو مصدر من صرف يصرف؛ أي: يصرف الإنسان عن مراده, وأصل المصدر ألا يجمع إلا أن تختلف أنواعه, فلما كان صرف الدهر متقلبًا كثير الأنواع جمعوه لهذه العلة, وقالوا: قتل, فلم يجمعوه, وإن ورد على ضروبٍ كثيرةٍ, وكذلك طعن وأكل, وما لا يدركه العدد من المصادر. وأنصار: ربما قيل: جمع ناصرٍ. وقال قوم: جمع ناصر على نصرٍ أو قدر على هذا التقدير, كما قالوا: صاحب وصحب, ثم جمع نصر على أنصارٍ, كما قالوا: صحب وأصحابز وقوله: أنت الذي بجح الزمان بذكره ... وتزينت بحديثه الأسمار أصل السمر فيما يقال: ظل القمر. ثم سمي الحديث في القمر سمرًا, ثم كنوا عن الليل بالسمر, فقالوا: جئناهم سمرًا؛ أي: ليلًا, كأنهم أرادوا وقت السمر. والبجح: يستعمل في معنى الفخر, وقالوا: بجحت وبجحت في معنى فرحت: والمعنيان متقاربان؛ لأن الفخر لا يكون إلا عن فرح الإنسان ربما رزقه مما لم يرزقه سواه, وفي حديث أم زرعٍ: «وبجحني فبجحت» , وفي رواية أخرى: «وبجحني فبجحت نفسي إلي» ,

وفسروا قول الراعي على الفرح: وما الفقر من أرض العشيرة ساقنا ... إليك ولكنا بقرباك نبجح وقوله: وله, إن وهب الملوك, مواهب ... در الملوك لدرها أغبار الأغبار: جمع غبرٍ, وهو بقية اللبن في الضرع, ثم جعلوا كل بقيةٍ غبرًا. والدر في هذا البيت: اللبن بعينه, سمي بالمصدر, من قولك: در يدر درا, وكانت العرب تعمد إلى ضرع الناقة فتضرب أسفله بأيديها, وتغسله بالماء البارد, فإذا فعل الرجل ذلك قالوا: كسع الإبل بأغبارها, قال الحارث بن حلزة: لا تكسع الشول بأغبارها ... إنك لا تدري من الناتج وفي الحديث: «ولا تأبطتني الإماء في غبرات المآلي». الغبرات: جمع غبرٍ. وغبر: جمع غابر؛ أي: باقٍ. والمآلي في هذا الحديث: خرق الحيض. وتغبرت الشيء إذا أخذت بقيته, وتزج رجل من يشكر امرأةً مسنةً, فقيل له في ذلك, فقال: لعلي أتغبر منها, فسمي ولده غبر. وقوله: وتحيد عن طبع الخلائق كله ... ويحيد عنك الجحفل الجرار

أصل الطبع أن يطغي الصدأ فرند السيف, قال الراجز: [الرجز] إنا إذا قلت طخارير القزع ... وصدر الشارب منها عن جرع نفحلها البيض القليلات الطبع ويروى: نفحلها, ثم قالوا لمن تقبح أخلاقه: إنه لطبع. وقالوا: لا خير في طمعٍ يدني إلى طبعٍ؛ أي: تدنس عرضٍ. قال ثابت قطنة: لا خير في طمعٍ يدني إلى طبعٍ ... وغفة من قوام العيش تكفيني والغفة: البلغة من العيش. والجرار: الجيش العظيم, كأنهم أرادوا أنه يجر الناس خلفه يرجون المغنم, وتتبعه الوحش والطير تؤمل أن تأكل من قتلاه. وقوله: يا من يعز على الأعزة جاره ... ويذل في سطوااته الجبار الجبار: فعال من قولهم: أجبرت الرجل على الشيء؛ إذا أكرهته على فعله, وحكى بعضهم: أجبرته وجبرته في معنى الإكراه, فإذا حمل جبار على جبرت فمثله كثير؛ لأن الثلاثة من الأفعال يجيء في أسماء فاعليها فعال مجيئًا مطردًا, مثل: قطع فهو قطاع, وقتل فهو قتال, وإذا حمل على أجبر فهو شاذ؛ لأنهم قلما يستعملون فعالًا في أفعل, وحكى الفراء: هو دراك بالثأر, وهو من قولهم: أدرك. ولم يحكوا: درك ثأره, إلا أن الفراء يلزمه أن يجيز فعالًا في كل أفعل؛ لأنه يجيز فعل في كل ذلك.

وقوله: (70/أ) وبدون ما أنا من ودادك مضمر ... ينضى المطي ويقرب المستار الوداد: يجوز أن يكون مصدر وددت ودادًا, ويجوز أن يكون من واد يواد. والمستار: مفتعل من السير, يجوز أن يقع على المصدر, وعلى المكال الذي يسار فيه, وجعلت المسيرة مستارًا لأنها يسار إليها, ويجوز أن يعنيها في هذا البيت. قال أبو وجزة: [الرجز] أشكو إلى الله العزيز الجبار ثم إليك اليوم بعد المستار وحاجة الحي وقط الأسعار يقال: قط السعر إذا غلا. وقوله: إن الذي خلفت خلفي ضائع ... مالي على قلقي إليه خيار وحد الذي, وهو يريد العيال؛ لأنه أراد النفر أو العدد أو نحو ذلك, ويجوز أن يجعل الذي شائعًا في الجنس؛ لأنها تشيع كغيرها مما فيه الألف واللام, فقول القائل: الذي في الدار له درهم, يحتمل أن يعني به واحدًا مقصودًا بعينه, ولا يمتنع أن يعني جماعةً كل واحدٍ منهم يستحق درهمًا.

ومن أبيات أولها

ومن أبيات أولها اخترت دهماءتين يا مطر ... ومن له في الفضائل الخير وهي من المنسرح الأول. قوله: ومن له في الفضائل الخير, موضع من نصب؛ لأنها تكون معرفةً ونكرةً, وهي هاهنا واقعة موقع النكرة؛ لأنها موصوفة بقوله: له في الفضائل الخير. والنكرة الموصوفة بابها النصب في النداء كأنه قال: يا ملكًا له في الفضائل الخير, وقال الشاعر في تنكير من: [السريع] يارب من يبغض أذوادنا ... رحن على بغضائه واغتدين وقال آخر: ألا رب من قلبي له الله ناصح ... ومن قلبه لي في الظباء السوانح والخير: جمع خيرةٍ, وقد قالوا: خيرة. فإذا جعلت جمع المتحركة الياء فهي مثل عنبةٍ وعنبٍ, وإن جعلت جمع التي ياؤها ساكنة فهي مثل سيرةٍ وسيرٍ, فأراد اخترت دهماء هاتين الفرسين. وقوله: وربما فالت العيون وقد ... يصدق فيها ويكذب النظر استعار فالت للعين, وإنما يستعمل في الرأي, يقال: فال الرجل وفال رأيه؛ إذا أخطأ

وضعف, يقول: ربما فالت العيون؛ أي: نظرت إلى الشيء فأعجبها وتفرست فيه الخير, ثم وجد على غير ذلك, يقال: فال الرجل فهو فائل وفال وفيل, قال الراجز: إنما تميمًا كان شيخًا فائلا ... أنكح هند ابنة مر وائلا فولدت خبلًا عليه خابلا ... عنزًا وبكرًا غلبا القبائلا وتغلب الغلباء سما ثاملا ثامل: من قولهم: مثمل إذا عمل وترك, وقال جرير: [الوافر] رأيتك يا أخيطل إذ جرينا ... وجربت الفراسة كنت فالا وقال الكميت: [الوافر] بني رب الجواد فلا تفيلوا ... فما أنتم فنعذركم لفيل وقوله: أنت الذي لو يعاب في ملأ ... ما عيب إلا بأنه بشر البشر: يقع على الواحد والجمع, وفي الكتاب العزيز: {نذيرًا للبشر}؛ أي: لجمع الخلق, وفيه: {ما هذا بشرًا}؛ أي: ما هذا إنسانًا. والبشرة, ظاهر الجلد. وقال قوم: يقال لباطنه: بشرة. وقالوا: بشر الرجل واستبشر وأبشر؛ إذا ظهر فيه سرور فحسنت بشرته. وقوله: وأن إعطاءه الصوارم والخيـ ... ـل وسمر الرماح والعكر وقوله: وأن إعطاءه عطف على قوله: بأنه, وهذا المعنى يحتمل وجهين:

ومن أبيات أولها

أحدهما أن يريد أن هذا ليس بعيبٍ فيكون نحوًا من قول النابغة: [الطويل] ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب ونحو قول الآخر: [الطويل] فتًى كملت أخلاقه غير أنه ... جواد فما يبقي من المال باقيا والآخر: أن يكون غلا في وصف الممدوح, فجعله يشرف أن يكون من هذا البشر, ويكبر أن يعطي الصوارم والخيل, وأوقع المصدر هاهنا موقع العطاء, كأنه قال: وأن الذي يعطيه الصوارم والخيل. والعكر: جمع عكرةٍ, قيل: هي من الستين إلى المائة, وقيل: من السبعين, وقيل: ما زاد على المائة, والمراد أنها عدد كثير, وإن اختلفت العبارات. ومن أبيات أولها (70/ ب) رضاك رضاي الذي أوثر ... وسرك سري فما أظهر وهي من ثالث المتقارب. قوله: وسركم في الحشا ميت ... إذا أنشر الستر لا ينشر

خرج من مخاطبة الواحد إلى مخاطبة الجميع, وذلك كثير جدًا في كتاب الله سبحانه: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء}. ويقال: أنشر الله الميت فنشر. وقرأ الحسن البصري: {كيف ننشرها ثم نكسوها لحمًا} , وقال الأعشى: [السريع] لو أسندت ميتًا إلى نحرها ... عاش ولم ينقل إلى قابر حتى يقول الناس مما رأوا ... يا عجبًا للميت الناشر وقوله: كأني عصت مقلتي فيكم ... وكاتمت القلب ما تبصر يقول: لا تخشوا أن أظهر سرًا فإن بعض جوارحي لا يفشي إلى بعضها ما يعلمه من أخباركم, والعين هي التي تدل القلب على ما تبصر؛ فكأنها لا تعلمه بشيء لما تؤثره من فرط الكتمان. وقوله: دواليك يا سيفها دولةً ... وأمرك يا خير من يأمر دواليك: كلمة موضوعة موضع المصدر ومعناها دوالًا بعد دوالٍ, كما أن قولهم: حنانيك؛ أي: حنانًا بعد حنانٍ, إلا أنهم يفردون حنانًا كثيرًا, وربما قالوا: دوال ودواليك من المداولة, وهو أن يفعل الشيء دولة بعد دولة, قال عبد بني الحسحاس: [الطويل] إذا شق برد شق بالبرد مئزر ... دواليك حتى كلنا غير لابس

ومن التي أولها

وأنشد أبو زيد لرجل يصف بنيه وأنهم بروه لما كبر: [الطويل] لعمري لقد سر الضباب بنوه ... وبعض البنين حمة وسعال جزوني بما ربيتهم وحملتهم ... كذلك ما إن الخطوب دوال وينبغي أن يهمز (يأمر) في هذه القافية؛ لأن الهمزة إن جعلت ألفًا صار ذلك سنادًا. وقوله: أتاني رسولك مستعجلًا ... فلباه شعري الذي أذخر الرسول: يقع على الواحد والاثنين والجميع. وقد جاء ذلك في القرآن, وتسمى الرسالة رسولًا, قال كثير: [الطويل] لقد كذب الاشون ما بحث عندهم ... بسر ولا أرسلتهم برسول وقوله: ولو كان يوم وغًى قاتماً ... للباه سيفي والأشقر في كان ضمير تقديره: ولو كان اليوم يوم وغًى. ويجوز أن يكون المضمر, ولو كان إتيان رسولك؛ لأنهم يضمرون المصادر التي يدل عليها الكلام, فتكون مرةً في النية ومرةً يستدل عليها بالحرف. ومن التي أولها أرى ذلك القرب صار ازورارا ... وصار طويل السلام اختصارا وهي من أول المتقارب.

والازورار: مأخوذ من ازور, وهو الميل عن الشيء, وصحت الواو في ازور لسكون ما بعدها وما قبلها. ويقال: إن الزور والعور وما كان مثلهما صححت فيه الواو؛ لأنه بني على ازور واعور, ولولا ذلك لوجب أن تقلب الواو ألفًا فيقال في الزور: زار, وفي العور: عار. وقولهم: اختصر الشيء إذا أخذ منه ما قل, وهو مأخوذ من خصر الإنسان؛ لأن العرب تصف نفوسها بالضمر ودقة الخصور. وقوله: تركتني اليوم في خجلةٍ ... أموت مرارًا وأحيا مرارا الخجلة: مصدر خجل. وكان ابن دريد يذهب إلى أن قولهم للذي يستحيي: خجل: كلمة مولدة, وحكى ابن السكيت في الأضداد أنه يقال: رجل خجل أي: نشيط, وخجل أي: كسلان, وأنشد عن أبي تمام الباهلي: إذا دعا الصارخ غير المتصل ... أتاك منهم كل ذيالٍ خجل أي نشيط. وجاء في الحديث: «أنه أتى على وادٍ خجلٍ مغن» , وفسروا الخجل الذي قد طال نبته؛ فهذا يحتمل أن يكون من خجل إذا نشط؛ كأن النبت أدركه نشاط فطال, ويجوز أن يكون من خجل إذا كسل؛ لأن النبت إذا طال تعطف, فكأنه كسل عن الانتصاب, قال الشاعر في صفة نبت: [الرمل] فتسامى زمخري وارم ... مالت الأعراق منه واكتهل

وقيل: إنما قالواك خجل الرجل: إذا استحيا واضطرب عليه أمره, من قولهم: خجل النبت إذا طال؛ لأنه يضطرب وتضعف أصوله (71/أ) عن حمل الفروع. وقالوا: الخجل: سوء احتمال الغنى, والدقع: سوء احتمال الفقر, وأنشدوا للكميت: [المتقارب] فلم يدقعوا عندما نابهم ... لصرف زمانٍ ولم يخجلوا وجاء في الحديث في مخاطبة النساء: «إنكن إذا جعتن دقعتن, وإذا شبعتن خجلتن». أي: ليس فيكن صبر ولا احتمال. وأصل الموت خلو الجسد من الروح, ثم قيل لمن تقل حركته: هو ميت, وقد مات, فكأن الشاعر جعل ضعف نفسه بالخجل موتًا, وذهاب ذلك عنه حياةً له. وقالوا: مات الثوب إذا خلق, وقالوا للبهيمة إذا غلب عليها الهزال: ميتة. قال الراجز: [الرجز] يا قوم من يحلب عنزًا ميته ... قد حلبت خطة جنبًا مسفته خطة: اسم عنزٍ بعينها, وجنب: أي علبة, ومسفتة: مثل مزفتةٍ من الزفت. وقوله: ولكن حمى الشعر إلا القليـ ... ـل هم حمى النوم إلا غرارا الغرار: نوم قليل, كأنه يغار الإنسان؛ أي: يجيئه على غرةٍ. وقالوا: ناقة مغار إذا كانت قليلة اللبن, وهو الغرار, كأنها تغر الحالب, فمرةً تعطيه لبنًا, ومرة تمنعه. قال الشاعر في صفة خيلٍ, وقيل صفة إبلٍ: [الوافر]

تراها من يبيس الماء شهبًا ... مخالط درةٍ منها غرارا وقال الآخر: [المديد] لا أذوق النوم إلا غرارا ... مثل حسو الطير ماء الثماد وقوله: وعندي لك الشرد السائرا ... ت لا يختصصن من الأرض دارا الشرد: جمع شرودٍ, وهي الأبيات والقصائد, يريد أنها تشرد في الأرض كما تشرد النعام والإبل, ولا تثبت على حال؛ لأنها سيارة في البلاد, وقد وصفت الشعراء الشعر بالشرود, قال القطامي: [البسيط] وربما ذب عني سير شرد ... يصبحن فوق لسان الراكب الغادي وقوله: فإني إذا سرن من مقولي ... وثبن الجبال وخضن البحارا المقول: اللسان. ويقال: رجل مقول إذا وصف بالقول, وقالوا لمن هو دون الملك: قيل, وقالوا في جمعه: أقيال وأقوال, فاستدل قوم على أنه من القول؛ فإن أصله قيل فخفف. كما قالوا: ميت وميت, وهين وهين, وزعم قوم أن الذي دون الملك سمي قيلًا من قال بالمكان إذا أقام به, أو من قلهم: تقيل أباه؛ إذا أشبهه. وقوله: وثبن الجبال: يصفهن بالسرعة, وإنما يريد أن الرواة تحملهن فيبلغن إلى من بينه وبينهن جبال. وكذلك يحملن في البحار فكأنهن قد خضنها إذا وصلن إلى البلد الذي دونه بحر.

ومن أبيات أولها

وقوله: سما بك همي فوق الهموم ... فلست أعد يسارًا يسارا ومن كنت بحرًا له يا علي ... لم يقبل الدر إلا كبارا تقول: سمت بك همتي فوق همم الناس؛ لأن الهمة تسمى هما, فإذا كنت موسرًا لم أعد ما أنا فيه يسارًا؛ لأن همتي أكبر منه فهي تطلب ما هو فوقه, وهذا البيت يجعل البيت الذي بعده يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون محمولًا على قوله: فلست أعد يسارًا يسارًا؛ أي: أني إذا أعطيت الدر لم أقبله إلا أن يكون من كباره, فالمعنى يجوز أن يراد به اليسار من المال. والآخر, وهو أحسن, أن يحمل الكلام على الشعر, كأنه يقول: وإن كنت أقدر على أن ما تيسر من الشعر فلا أعد ذلك يسارًا منه؛ إذ كنت لا أقنع بالأبيات, ولا أرضى لمدحك إلا القصائد, وإني أرضى بالقطعة التي هي كالدرة حتى آتي بقصيدةٍ تشبه بما كبر من الدر. ومن أبيات أولها الصوم والفطر والأعياد والعصر ... منيرة بك حتى الشمس والقمر وهي من البسيط الأول. يقال: عصر وعصر وعصر, وقالوا في جمع العصر: عصور. ويقال: إن أعصر الذي تنسب إليه باهلة إنما سمي أعصر بقوله: [الكامل]

أغني إن أباك غير لونه ... كر الليالي واختلاف الأعصر فقالت العرب: أعصر ويعصر, فأبدلوا من الهمزة ياءً كما قالوا: نصل يثربي وأثربي, وطير يناديد وأناديد. وقوله: يرى الأهلة وجهًا عم نائله ... فيما يخص به من دونها البشر الأهلة: جمع هلال الشهر, وقيل إنه يسمى هلالًا ثلثًا, فإذا صارت له دارة سمي قمرًا, ويقال: أهل الهلال واستهل وأهللناه؛ إذا رأيناه أو دخلنا في الشهر الذي هو هلاله. قال طفيل الغنوي: أهلت شهور المحرمين وقد تقت ... بأذنابها روعات أكلف مقرم وقال آخر: إذا ما سلخت الشهر أهللت غيره ... كفى حزنًا سلخي الشهور وإهلالي وقوله: ما الدهر عندك إلا روضة أنف ... يا من شمائله في دهره زهر (71/ 5) الروضة: يقال: إنها تكون في السهل, هكذا يقول بعض الناس, فأما الشعراء فقد نسبوها إلى الحزن, قال الأعشى: [البسيط] ما روضة من رياض الحزن معشبة ... خضراء جاد عليها مسبل هطل

وقال كثير: [الطويل] فما روضة بالحزن طيبة الثرى ... يمج الندى جثجاثها وعرارها ويزعمون أن الحزن الذي يذكره الشعراء هو موضع بعينه بنجدٍ. ويذكرون أن الروضة إذا كانت على مرتفعٍ من الأرض قيل لها: ترعة. ويقال: روض المكان ترويضًا, واستراض: إذا صارت فيه روضة. والأنف: التي لم ترع, فالذي يرعيها ماله كأنه يستأنفها؛ أي: يأخذ أولها؛ لأنها مأخوذة من الأنف. ويقال: شراب أنف؛ أي: مستأنف قد بدئ بشربه, وكأس أنف. قال امرؤ القيس: أنف كلون دم الغزال معتق ... من خمر عانة أو كروم شبام ويروى: سنام. وقال الراجز: إن الشواء والنشيل والرغف ... والغادة الحسناء والكأس الأنف للضاربين الهام والخيل قطف والشمائل تستعمل في الخلق والخلق, يقال: هو حسن الشمائل؛ أي: الأخلاق والخلق, قال امرؤ القيس: [الطويل] ونعرف فيه من أبيه شمائلًا ... ومن خاله ومن يزيد ومن حجر ويقال لواحد الشمائل: شمال, والنحويون يرون أن شمالًا تكون واحدًا وجمعًا؛ لأن فعيلًا وفعالًا أخوان, فلما كانوا يقولون: كريم وكرام, وظريف وظراف, أجروا فعالًا إذا كان واحدًا مجرى فعيلٍ في الجمع, ومثله قولهم: دلاص للدرع الواحدة والجميع. وذهب سعيد ابن مسعدة إلى أن قوله تعالى: {واجعلنا للمتقين إمامًا} جمع يجعله من باب دلاصٍ

وشمالٍ. فأما كون الشمال في معنى الخليقة فمنه قول السلمي: [الطويل] أبي الشتم أني قد أصابوا كريمتي ... وأن ليس إهداء الخنا من شماليا وقالوا: رجل مشمول الخلائق؛ أي: مبارك ميمون, ومشمول الخليقة؛ أي: مشؤوم, وذكره ابن السكيت في «الأضداد». وقوله: فإن حظك من تكرارها شرف ... وحظ غيرك منه الشيب والكبر الشرف: يستعمل في الخلائق الرفيعة, وهو مأخوذ من الشرف, وهو العالي من الأرض, فالشريف كأنه متعالٍ بخلائقه. وزعم قوم أن الشرف لا يكون إلا من قبل الآباء. وأشراف الجسد أعالي خلقه. ويقولون: أعد إتيانكم شرفةً؛ أي: أتشرف به وأرتفع. وشرف فلان فلانًا يشرفه إذا زاد عليه في الشرف. وقالواة: ناقة شارف وشريف وشروف: إذا كانت عالية السن, وقلما يستعملون الشارف في الذكور, وقد وصف ذو الرمة الربع بشارفٍ, فقال: كما كنت تلقى قبل من كل منزلٍ ... أقامت به مي فتي وشارف

ومن أبيات أولها

ومن أبيات أولها ظلم لذا اليوم وصف قبل رؤيته ... لا يصدق الوصف حتى يصدق النظر وهي من البسيط الأول. قوله: فكنت أشهد مختص وأغيبه ... معاينًا وعياني كله خبر هذا كلام يحمل على المجاز؛ لأنه ادعى أنه شاهد غائب, وهاتان الحالان لا تجتمعان, إلا أنه يحمل على أنه حضر ذلك اليوم, فكان بحضورة شاهدًا, ولم يعابن سيف الدولة, فكان كأنه غائب. ثم ذكر أنه معاين وعيانه خبر, كأنه إذا سمع خبرًا صحيحًا قام ذلك له مقام العيان. وقولهم: عاين كذا أصله أن يكون من فعل اثنين, فيقال: عاين فلان فلانًا؛ إذا رأى كل واحدٍ منهما الآخر بعينه. ويمكن أن يكون مأخوذًا من عين الشيء, وهو حقيقته, إلا أن أصل الباب في هذه اللفظة لعين النظر, ثم قالوا: عاين فلان البلد: إذا رآه بعينه, وكان البلد قريبًا منه بمنزلة الرجل الذي يعاينه. وقوله: وقد تبدلها بالقوم غيرهم ... لكي تجم رؤوس القوم والقصر يقول: تنقل سيوفك من قومٍ إلى قوم ليكثر القوم الذين أوقعت بهم, وأنت مشغول بسواهم لتجم رؤوس القوم؛ أي: تكثر. يقال: جم الشيء يجم إذا كثر. وأكثر ما يستعملون ضم الجيم في البئر وما كان من المياه. والقصر جمع قصرةٍ, وهي أصل العنق, ومنه قولهم لأصول الشجر: قصر, وقرأ بعضهم: {إنها ترمي بشررٍ كالقصر} بفتح الصاد. وقوله: تشبيه جودك بالأمطار عاديةً ... جود لكفك ثانٍ ناله المطر

ومن التي أولها

يقول: إذا شبه جودك بالمطر فذلك جود منك عليه, ولو أمكنه الوزن لكان قوله: تشبيه الأمطار بجودك أولى في المنطق. وهذا المعنى ضد قوله في الأخرى: وأنك لا تجود على جوادٍ ... هباتك أن يلقب بالجواد لأنه جعله في هذا البيت غير جائدٍ على جواد بهذه الصفة, وجعله في البيت الأول قد جاد على المطر (72/أ) لما شبه جوده به. وقوله: تكسب الشمس منك النور طالعةً ... كما تكسب منها نورها القمر يقال: إن نور القمر من نور الشمس, وإنها تضيء لما فوقها من الكواكب وما تحتها؛ لأنها متوسطة, فوقها ثلاثة أفلاكٍ, وتحتها ثلاثة. ومن التي أولها طوال قنا تطاعنها قصار ... وقطرك في ندًى ووغًى بحار وهي من الوافر الأول. يقول للمدوح: طوال قنا تطاعن فرسانها قصار, وليس هذا وصفًا لها بالقصر, ولكنه يريد أنها وإن كانت طوالًا فهي قصيرة عند رماحه, ولولا مجيء النصف الثاني وتبيينه المراد بالنصف الأول لاحتمل أن يكون قوله طوال قنا خبر مبتدأٍ محذوف كأنه قال: هذه طوال قنًى, وذلك كثير جدًا, ومنه قول القطامي: أمور لو تدبرها حليم ... إذًا لنهى وهيب ما استطاعا

أي: هذه أمور, وتلك أمور. وقطرك: جمع قطرةٍ, ولا يحسن أن يجعل القطر هاهنا مصدر قطر يقطر قطرًا؛ لأنه قار بحار, وأخبر عن الجمع بالجمع. وقوله: وأخذ للحواضر والبوادي ... بضبطٍ لم تعوده نزار أخذ: من قولهم: فلان يأخذ نفسه بالمكارم وبالفعل الأجمل؛ أي: يرفع نفسه عن الدنايا. وضبط: مصدر ضبط يضبط. وقالوا: أسد أضبط, ولبؤة ضبطاء, وكذلك يقولون لكل من يعمل بيديه؛ لأن ذلك تفضيل له على من يعمل بيمينه ما لا يعمل بشماله. قال تأبط شرًا: كأن الذي يأوي إلي بنفسه ... يلوذ بضبطاء الذراعين مشبل وأصل الضبط باليد, ثم اتسعوا فيه فقالوا: فلان يضبط ما يحفظ؛ أي: لا ينساه, والسلطان يضبط الرعية؛ أي: يسوسهم ويكف بعضهم عن بعضٍ, وليس هـ نالك ضبط باليد, وإنما هو بالرأي والتدبير, فلما كان يفتقر في السياسة إلى أيدي الأصحاب جعل كأنه يضبط بيديه. وقالوا في المثل: «أضبط من ذرةٍ وأضبط من نملةٍ»؛ لأنها تجر ما تصغر عنه. وقالوا: هو أضبط من عائشة بن عثمٍ, وهو رجل من سعد بن زيد مناة بن تميم وقف على بئرٍ ليسقي إبله فازدحمت الإبل على فم البئر فهوت منها بكرة. وكان أخوه قد نزل لينظر ما شأن الماء, فصاح إليه أخوه: الموت؟ فقال: ذلك إلى ذنب البكرة, وكان قد ضبط ذنبها؛ فيقال: إنه أخرجها من البئر, وسلم أخوه. وقوله: تشممه شميم الوحش إنسًا ... وتنكره فيعروها نفار يقول: ضبطك للرعية ما تعودت نزار مثله؛ لأنها كانت لا تدين للملوك, ولا تذعن لها بالطاعة, فهي تشمم هذا الضبط كما تشمم الوحش الأنيس, فإذا علمت أنهم إنس نفرت

منهم. يقال: شممت وشممت, والكسر أفصح, قال الراجز: يابن هشامٍ عصر المظلوم ... أشكو إليك جنف الخصوم وشمةً من شارفٍ مزكوم ... قد خم أو زاد على الخموم شممتها فكرهت شميمي فأما ما قول الآخر: تمتع من شميم عرار نجد ... فما بعد العشية من عرار فيجوز أن يكون شميم مصدرًا, وفعيلًا في معنى مفعولٍ, مثل: ذميمٍ في معنى مذمومٍ. وقوله: فأقرحت المقاود ذفرييها ... وصعر خدها هذا العذار جعل نزارًا كالدابة التي كانت غير مطيعةٍ القائدين, فلما كلفها الممدوح ذلة القود أقرحت المقاود ذفرييها؛ أي: جعلت فيهما قرحًا. والذفريان: تثنية ذفرى, وهي معقد العذار من الفرس, يستعمل للإنسان والخيل والإبل, قال ذو الرمة: والقرط في حرة الذفرى معلقة ... تباعد الحبل منه فهو يضطرب وقال عنترة: ينباع من ذفرى غضوبٍ جسرةٍ ... زيافةٍ مثل الفنيق المكدم ويقال: إن اشتقاق الذفرى من الذفر, وهي الرائحة الكريهة والطيبة, وسميت بذلك لأن عرق الإبل ينتح من الذفاري, وليست رائحته بالطيبة. وصعر خدها: أي جعل فيه صعرًا, وهو الميل.

وقوله: وغيرها التراسل والتشاكي ... وأعجبها التلبب والمغار يقول: طمعت هذه القبيلة فغيرها عما يعهد أن بعضها راسل بعضًا, واشتكى إليه ما يلقاه من الذل, فحثها ذلك على المخالفة. والتلبب: التحزم لشهود الحرب, قال الشاعر: إني أحاذر أن تقول ظعينتي ... هذا غبار ساطع فتلبب وقيل: المتلبب: الذي يلبس اللبابة, وهي شبيهة بالصدرة. والمغار: مصدر أغار. وقوله: (72/ب) وكنت السيف قائمة إليها ... وفي الأعداء حدك والغرار فأمست بالبدية شفرتاه ... وأمسى خلف قائمه الحيار يقول: كنت السيف تقاتل عن هؤلاء القوم لما كانوا في طاعتك, ومن شأن من معه سيف أن يكون قائمه إليه وفي كفه, وهو نحو من قول الأول: نقاسمهم أسيافنا شر قسمة ... ففينا غواشيها وفيهم صدورها وإذا قيل: إن الغرار الحد, حمل على أنه كرر المعنيين لاختلاف اللفظ, وقيل: الغرار ما بين حد السيف وعيره, فإذا أخذ بهذا القول فقد سلم من التكرير. يقال: وضع الشيء على غرار واحدٍ؛ أي: على طريقةٍ معلومة. يقول: لما خالف هؤلاء القوم زالت هيئة السيف عما كانت عليه, وإنما يزيد بالسيف الممدوح. فأمست بالبدية شفرتاه, كأن هذه العرب كانت نازلةً بالبدية. وأمسى خلف قائمه الحيار: كأنه جعل سيف الدولة في هذا الموضع الذي خلفه الحيار. وقوله: وكان بنو كلابٍ حيث كعب ... فخافوا أن يصيروا حيث صاروا

يقول: كانت بنو كلاب تحت ظل الممدوح, وفي ذراه مع كعب هذه, فخافت أن تصير بمنزلة بني كعبٍ قد عدت في الأعداء, وخشيت أن تطرد كما طردت كعب. وقوله: فأقبلها المروج مسوماتٍ ... ضوامر لا هزال ولا شيار مسومات: يحتمل أن تكون معلماتٍ من السيمة, وهي العلامة, وأن تكون من سومت المال إذا أخليته في الرعي. والشيار: السمان, ولا واحد لها من لفظها, وهي مشتقة من الشارة, وهي حسن الهيئة؛ لأن الخيل إذا سمنت حسنت في الأعين, ومن الأمثال: «قال: أرني حسنًا, قال: أريك سمينًا». واستعمل في هذا الموضع لا النافية المبنية مع الاسم, وليس هي متحققة بهذا المكان, ولولا الضرورة لكان أولى من ذلك أن يقول: لا هزالًا فيها ولا شيارًا, فيجعلها محمولةً على قوله: ضوامر, وإنما حمله على قوله: لا هزال فيها ولا شيار فهذا أسوغ من قراءة السلمي: {لا ذلوا تثير الأرض}. وقال عمرو بن معدي كرب في الشيار: [الطويل] أعامر لو كانت شيارًا جيادنا ... بتثليث ما ناصيت فيها الأحامسا وقوله: تثير على سلمية مسبطرا ... تناكر تحته لولا الشعار سلمية: بناء مستنكر, ولا ريب أنه أعجمي. ومسبطرًا: أي: غبارًا ممتدًا, يقال:

اسبطر في طريقه إذا امتد, قال ابن ربيعة: [المنسرح] قالت لها قد غمزته فأبى ... ثم اسبطرت تمشي على أثري يقول: هذه الخيل تناكر تحت هذا العجاج المسبطر؛ أي: لا يعرف بعضها بعضًا, وإنما يعني الفرسان, لولا الشعار الذي قد جعلوه علامةً بينهم. وقوله: عجاجًا تعثر العقبان فيه ... كأن الجو وعث أو خبار جعل العجاج ينعقد حتى تعثر به العقبان وهي تطير في الهواء. والجو: ما بين السماء والأرض. والوعث: أرض سهلة تسوخ قدم الماشي فيها, فيناله من ذلك تعب, والخبار: نحو من الوعث إلا أن فيه شقوقًا وجحرةً, ومن الوعث قالوا: وعثاء السفر؛ أي: ما يشق على المسافر منه ويصيبه من النصب والمرض, ومنه قول الكميت: [الطويل] فأين ابنها منا ومنكم وبعلها ... خزيمة والأرحام وعثاء حوبها وقوله: يشلهم بكل أقب نهدٍ ... لفارسه على الخيل الخيار يقال: شله يشله شلًا وشللًا إذا طرده, ومنه الشلة, وهي نية القوم حيث انتووا؛ لأنها تطردهم من الدار التي كانوا فيها, قال الهذلي: [الوافر] فقلت تجنبن سخط ابن عمي ... ومطلب شلةٍ وهي الطروح والأقب: الفرس الذي قد لحق بطنه بأيطليه, لفارسه الخيار على الخيل؛ أي: ما شاء فعل بها وبالفرسان, أي: إن أراد أن يلحق لحق, وإن شاء أن يطعن فهو مقتدر على الطعن.

وقوله: وكل أصم يعسل جانباه ... على الكعبين منه دم ممار يعسل: أي: يضطرب, يوصف بذلك الرمح والذئب, وربما قالوا: عسل للثعلب. قال ساعدة بن جؤية الهذلي: [الكامل] لدن بهز الكف يعسل متنه ... فيه كما عسل الطريق الثعلب والكعبان: أراد بهما الكعب الأعلى (73/أ) والكعب الأسفل؛ لأنه قد طعن به وسال عليه الدم حتى عم كعوبه كلها. كما يقال: غسل الرجل قدمه ورأسه؛ أي: غسل جسده كله؛ لأن الرأس والقدم طرفا الجسد فدلا على جميعه في اللفظ. وممار: أي: مجرًى من قولك: مار يمور, وأماره غيره؛ أي: حمله على المور, ويقال: مار إذا ذهب وجاء. وقوله: يغادر كل ملتفتٍ إليه ... ولبته لثعلبه وجار ثعلب الرمح: ما يدخل منه في جبة السنان. والوجار فيه لغتان: فتح الواو وكسرها. وقال بعضهم: الوجار ما كان في السهل, وما كان في الجبل فهو الغار. ويستعملون الوجار للضبع وما دونها, مثل الثعلب والأرنب ونحوهما. أي يطعن بهذا الرمح لبة الرجل إذا التفت فيدخل ثعلبه فيها فيصير كالوجه للثعلب من الوحوش. وقوله: وإن جنح الظلام انجاب عنهم ... أضاء المشرفية والنهار يقال: جنح من الليل وجنح, وهو وقت طويل, قيل: إنه نحو النصف, وإنما هو مأخوذ من جنح إذا مال, كأن بعض النجوم تجنح فيه للمغيب, وجنح النهار إذا مال, وكذلك جنحت الشمس. وانجاب: أي: انكشفت وانخرق.

وقوله: يبكي خلفهم دثر بكاه ... رغاء أو ثؤاج أو يعار الدثر: المال الكثير. والرغاء يستعمل للإبل, وكأنه صوتها عند الضجر والسأم, فقد استعمل جرير الرغاء للضباع فقال: [الطويل] تراغيتم يوم الزبير كأنكم ... ضباع بذي قارٍ تمنى الأمانيا وكان مجاشع بن دارم يلقب أبا رغوان, ويقال: إنه وقف بباب ملكٍ من ملوك العرب فلم يؤذن له فرغا كما يرغو البعير حتى سمعه الملك, فذكر جرير ذلك فقال: [الطويل] بسيف أبي رغوان سيف مجاشعٍ ... ضربت ولم تضرب بسيف ابن ظالم وقالوا في المثل: «كفى برغائها مناديًا» , يضرب مثلًا للرجل يبدو منه أمر فيدل على ما في نفسه من الأرب. والثؤاج: أصوات الضأن, واليعار: أصوات المعز. يقول: مال هؤلاء القوم كالذي يبكي خلفهم؛ لأنهم كانوا يحسنون إليه ويمنعونه من الوحش وغيرها من الطوارق. ولو ذهب ذاهب إلى أن في هذا البيت ذما لأصحاب المال لم يبعد ذلك؛ أي: أنهم كانوا لا يبذلونه ولا ينحرونه للضيفان, فقد أسف على فقدهم. ويقال لجديٍ يصلى به للأسد أو للذئب: يعر؛ لأنه ييعر. وإنما يريدون أن يسمع الأسد صوته فيجيء ليأخذه فيقع في الزبية, قال البريق الهذلي:

فلا أعرفن الشيخ يثوي خلافهم ... مقيمًا بأبياتٍ كما ربط اليعر وقوله: غطا بالغنثر البيداء حتى ... تخيرت المتالي والعشار غطا: مثل غطى, وأكثر ما يقولون: غطا عليه يغطو, ويغطي, وأنشد الأصمعي: ومن عجائب خلق الله غاطية ... يخرج منها ملاحي وغربيب يريد شجرة عنبٍ قد غطت أغصانها على الأرض. قال حسان: رب حلم أضاعه عدم الما ... ل وجهل غطا عليه النعيم والمتالي: جمع متليةٍ, وهي التي خلفها ولد يتلوها, قال الشاعر: [البسيط] فصادف السيف منها ساق متليةٍ ... جلسٍ فصادف منه عظمها عطبا ويروى: ساقها. والعشار: جمع عشراء, وهي التي أتت عليها عشرة أشهر منذ حملت, ثم يبقى عليها هذا الاسم إلى أن تنتج. وقالوا في جمع عشار: عشائر, وهو قليل. يقول: كثر هذا المال على سائقيه حتى تخيروا المتالي والعشار, وتركوا غيرها من صغار المال وحواشيه. وقوله: ومروا بالجباة يضم فيها ... كلا الجيشين من نقعٍ إزار الجباة: اسم موضع, وهي مأخوذة من جبوت الماء وجبيته إذا جمعته في الحوض. ويقال لما اجتمع فيه: الجبى, ولما حول الماء جبا. وقال قوم: هما سواء, ومن قال في الكمأة كماة جاز عنده أن يقول للجبأة, وهي ضرب من الكمأة جباة, وليس ذلك بمطردٍ عند سيبويه.

وكلا الجيشين: لم يحتج أن يظهر في كلا ياءً لأجل النصب؛ لأنهم يفعلون ذلك في المضمر خاصة, فيقال لقيني كلا الرجلين, ولقيت كليهما, ومررت بكليهما. ومنهم من يقول: ضربت كلاهما, ومررت بكلاهما, فيقر على حالة واحدة. ويجب أن يكون هذا مذهب من يقول: جاءني أباه, ومررت بأباه. والنقع: الغبار, وإنما يقال له نقع إذا ارتفع. وقوله: وجاؤوا الصحصحان بلا سروجٍ ... وقد سقط العمامة والخمار (73/ب) الصحصحان: هاهنا موضع بعينه. وكل أرض واسعة يقال لها: صحصح وصحصاح وصحصحان, ومنه البيت المروي لتأبط شرًا: [الوافر] بأني قد لقيت الغول تهوي ... بمرتٍ كالصحيفة صحصحان وقال الراجز: [الرجز] تركته بالصحصح الصحصاح ... مجدلًا للقدر المتاح يقول: هؤلاء القوم قد طردوا طردًا شديدًا, فالرجل قد طرح سرجه ليخفف عن فرسه, وقد سقطت العمائم عن الرؤوس لشدة السير, والخمر عن رؤوس النساء, وهم للذعر لا يتلبثون لأخذ عمامةٍ ولا خمارٍ. وقوله: وأرهقت العذارى مردفاتٍ ... وأوطئت الأصيبية الصغار أرهقت: أي: أعجلت, ويكون الإرهاق في معنى الإدراك والغشيان, ومنه قوله تعالى: {سأرهقه صعودًا}؛ أي: سأغشيه. يقول: أردفوا النساء للعجلة وخوف اللحاق,

والأصيبية: تصغير صبيةٍ, وهذا أقيس الوجهين, وفي الحديث: «ما تقول للأصيبية الصغار» , وقد قالوا: صبية في معنى التصغير, قال الراجز: [الرجز] صبيةً على الدخان رمكا ... ما إن عدا أكثرهم أن زكى أي: مشى مشيًا متقارب الخطو, وهو الزكيك, والقياس أن يقال: أصبية في الجمع إلا أنه مفقود في الكلام الأول. يقول: قد ألقيت الأصيبية من الفرق وإيثار النجاء, فهم يوطؤون. وفي هذا الكلام حذف, كأن أصله أن يقال: وأوطئت الأقدام الأصيبية أو حوافر الخيل وأخفاف الإبل. يقال: وطئ الرجل وأوطأه غيره, ولو ظهر المفعول المحذوف لكان الوجه أن تنصب الأصيبية؛ لأن المعنى أوطئت الأقدام الأصيبية, قال زيد الخيل: [الرمل] عودوا مهري كما عودته ... دلج الليل وإيطاء القتيل وقوله: وقد نزح العوير فلا عوير ... ونهيا والبييضة والجفار هذه كلها أسماء مواضع, يقال: نزحت البئر ونزحها غيرها, وأكثر ما يجيء كلامهم على أن يقولون: فعل الشيء وأفعله غيره, مثل خرج الرجل وأخرجته, ودخل وأدخلته, فإذا جاء فعل وفعلته فهو قليل, مثل ذرف الدمع وذرفته, وسجم وسجمته. والعوير هذا: هو الذي ذكره القطامي في قوله:

حتى وردن ركيات العوير وقد ... كاد الملاء من الكتاب يشتعل والبييضة: اسم ماءٍ يجوز كسر الباء وضمها, وكذلك كل مصغرٍ بعد حرفه الأول ياء, مثل بييضةٍ وبييتٍ. والجفار هاهنا: مياه معروفة, وهم يستعملون الجفر في البئر التي لم تطو وماؤها قليل, قال حاتم الطائي: [الكامل] وسقيت بالماء النمير ولم ... أترك ألاطس حمأة الجفر وقوله: وليس بغير تدمر مستغاث ... وتدمر كاسمها لهم دمار الدمار: الهلاك. وتدمر يقال: إنها بنتها امرأة من العماليق يقال لها: تدمر. وادعى النابغة أن سليمان بن داوود أمر الجن أن تبنيها, فقال: وخيس الجن أني قد أذنت لهم ... يبنون تدمر بالصفاح والعمد وقوله: أرادوا أن يديروا الرأي فيها ... فصبحهم برأيٍ لا يدار يقال: أدار القوم بينهم الرأي إذا اجتمعوا فتشاوروا فذكر كل رجلٍ منهم ما عنده؛ فكأنهم يديرونه عليهم, ثم يجمعون على أصحه عندهم. فأراد أن هذا الممدوح لا يفتقر إلى إدارة الرأي؛ وإنما يفعل رأي نفسه الذي لا يشاور أحدًا فيه؛ لأنه غني بالفطنة والحزم.

وقوله: وجيشٍ كلما حاروا بأرضٍ ... وأقبل أقبلت فيه تحار جعل المطلوبين يحاورن في الأرض الواسعة, فإذا أقبل الجيش حارت فيه الأرض, وهذه من الدعوى المستحسنة في الشعر, وليست لها صحة في الحقيقة, ولنكه يريد أن الجيش عظيم, فهذه الأرض تصغر عنده فتكون كالحيرى في كثرته, ومن الحيرة قالوا: مال حير؛ أي: كثير, كأن الذي يراه يحار, قال الراجز: ياربنا من سره أن يكبرا ... فسق له يارب مالًا حيرا وقوله: يحق أغر لا قود عليه ... ولا دية تساق ولا اعتذار يقول: هذا الممدوح إذا قتل قومًا فلا قود عليه؛ لأنه أعز من ذلك, وظاهر اللفظ يحتمل أن يكون القود على نفس الممدوح. والأحسن في معاني الشعر أن تكون جنوده إذا قتلوا لم يطالبه أعداؤه بأن يقيدهم (74/أ) , ولا يحمل عن القاتلين ديةً ولا يعتذر مما صنع. وقوله: تريق سيوفه مهج الأعادي ... وكل دمٍ أراقته جبار يقال: دم جبار وهدر وفرغ وطلف وظلف بمعنى. قال الأفوه: [الرمل] حكم الدهر علينا أنه ... طلف ما نال منا وجبار وفي الحديث: «العجماء جبار»؛ أي: إذا أصابت شيئًا فقد أهدر, وإنما قيل للدم

المطول جبار لأنه أمر يتهاون به, فكأن من أصابه ذلك يقدر على جبر مصيبته فلا يعطى العقل ولا القود. وقوله: فكانوا الأسد ليس لها مصال ... على طيرٍ وليس لها مطار يقول: هؤلاء القوم كأنهم أسد في الشجاعة, والأسد من عوائدها الصولة, وهذه لا تقدر أن تصول؛ لأنها مقهورة. وقوله: على طيرٍ؛ أي: على خيلٍ مثل الطير, وليس لها مطار؛ أي: لا تقدر على الطيران؛ لأن خيل الممدوح قد أحاطت بهم. وقوله: تفرقهم وإياه السجايا ... ويجمعهم وإياه النجار السجايا: جمع سجيةٍ, وهي الخليقة التي يدوم عليها الرجل, وأصل السجو السكون, ومنه: سجا الليل, وناقة سجواء إذا كانت تسكن عند الحلب. والنجر والنجار والنجار: الأصل. وربما استعملوا النجار في معنى اللون, وقالوا في المثل: «كل نجار إبلٍ نجارها» , فهذا يحتمل أن يكون من الأصل ومن اللون, فإذا ذهب إلى الأصل فالمعنى أنها إبل من كل أصول الإبل, فيها الجدلي والشل قمي والغريري وغير ذلك, وإذا حمل على اللون فالمعنى أن فيها ألوانًا مختلفةً, ففيها الصهب والعيس والدهم والرمك وجميع الألوان, وأراد أن هذه العرب التي هي من كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة يجمعهم والممدوح نزار بن معد؛ لأن هؤلاء من مضر, والممدوح من ربيعة بن نزارٍ, وربيعة ومضر أخوان. وقوله: ومال بها على أركٍ وعرضٍ ... وأهل الرقتين لها مزار أرك وعرض من المناظر, فأما بيت النابغة فيروى على وجهين: [البسيط] وهبت الريح من تلقاء ذي أركٍ ... تزجي مع الليل من صرادها صرما

فيروى: أرل باللام, وأرك بالكاف. والرقة: أرض يركبها الماء ثم يزول عنها, وبذلك سميت الرقة, ولم تجئ في الشعر القديم, وإنما هي اسم محدث في الإسلام, إلا أنه عربي اللفظ. وقوله: وأجفل بالفرات بنو نميرٍ ... وزأرهم الذي زأروا خوار يقال: جفل الرجل وأجفل, وكذلك غيره من البهائم, إذا نفر من ذغرٍ, قال الهذلي: ومعي لبوس للبئيس كأنه ... روق بجبهة ذي نعاجٍ مجفل ويقال: جفلت الريح السحاب إذا سفرته. ويقال للسحاب الذي تفعل به الريح ذلك: جفل, وإذا وصفوا الشيء بالكثرة قالوا: جفال. وهذا البيت يروى لذي الرمة: [الوافر] وأسود كالأساود مسبكرًا ... على المتنين منسدلًا جفالا والزأر: مخصوص به الأسد, ثم استعير لبني آدم؛ لأنها يشبهون بالأسد. قال النابغة: [البسيط] نبئت أن أبا قابوس أوعدني ... ولا قرار على زأرٍ من الأسد والخوار من أصوات الثيران, يقول: فهم بعد أن كانوا يزئرون كزأر الأسد يخورون كخوار الثيران. وقوله: فلم يسرح لهم في الصبح مال ... ولم توقد لهم في الليل نار يقال: سرح المال في الرعي إذا أرسله فيه. والسرح المال الراعي, والمال يقع على جميع ما يملك من الآدميين وغيرهم, إلا أن العرب اصطلحت على أن تسمي ما يكون معها من الإبل والغنم مالًا, وقالوا: رجل مال؛ أي: كثير المال. يقول: لم يسرح لهم مال في النهار؛ لأنهم يخافون أن تغير عليهم الخيل, ولم توقد لهم نار؛ لأنهم يخافون أن يوقدوها فيستدل بوقودها عليهم, فهذا وجه, ويجوز أن يكون

وصفهم في هذا البيت بالفقر لأن عدوهم أخذ مالهم فلم يبق لهم شيء من ذلك يسرح, ولم توقد نارهم ليلًا إذ كانت النار يستعان بها على الطعام, وتوقد للاختباز ولإطباخ, وهم لا يقدرون على شيء من ذلك, وهذا البيت يحتمل الوجهين الماضيين إذا لم يتله البيت الذي بعده فإذا جاء دل على ان تركهم ذلك من الفرق لا من الفقر. وهو قوله: هم ممن أذم لهم عليه ... كريم العرق والحسب النضار العرق يستعمل في بني آدم والشجر والنبات. فيقال: فلان كريم العرق؛ أي: أصله موصوف بالكرم, والمعنى: إذا لم يرض عنهم فليس بنافعٍ لهم جدودهم. قال الهذلي في صفة امرأةٍ: (74/ب) صناع بإشفافها حصان بشكرها ... جواد بقوت البطن والعرق زاخر أراد بالعرق الأصل؛ أي: هي كريمة الآباء, فكأن عرقها يزخر؛ أي: يرتفع كما يزخر البحر. وقال امرؤ القيس: إلى عرق الثرى وشجت عروقي ... وهذا الموت يسلبني شبايي وقالوا في الجميع القليل: أعرق, وقال الراجز: نحن ضربنا الأسد في العراق ... والحي من ربيعة المراق بلا معوناتٍ ولا أرزاق ... إلا بقايا كرم الأعراق ضربًا يزيل صعر الأعناق

والنضار: الخالص من كل شيءٍ, فأما الذهب فأكثر الناس يضم النون, وقد حكي النضار بكسر أوله, ويجوز أن يكون جمع نضرةٍ, ويسمون الخلنج نضارًا؛ لأنهم كانوا يستحسنونه, قال أبو ذؤيب: وسود من الصيدان فيها مذانب ... نضار إذا لم نستفذها نعارها وقوله: تخر له القبائل ساجداتٍ ... وتحمده الأسنة والشفار هذا مثل قوله في الأخرى: يذممن منه ما الأسنة تحمد والأسنة لا تحمد في الحقيقة, وكذلك الشفار, ولا يصيبها نفع من الممدوح, بل مضرتها به متصلة؛ لأن السنان ينحطم وكذلك السيف, ولكنه أراد أنه إذا طعن بالسنان أو ضرب بالسيف أثر أثرًا يحمد عليه, فكأن الأسنة والشفار أدته إلى أن يحمد. وقوله: كأن شعاع عين الشمس فيه ... ففي أبصارنا عنه انكسار هذا معنى يتردد إلا أنه يختلف به المراد, فهو ها هنا واقع لأجل الهيبة, أو يكون ادعى له أن وجهه منير كإنارة الشمس. فأما قول الآخر: إذا أبصرتني أعرضت عني ... كأن الشمس من قبلي تدور فإنما يريد أنه يبغضه فلا يستطيع أن ينظر إليه. وقوله: يوسطه المفاوز كل يومٍ ... طلاب الطالبين لا الانتظار

المعنى أن هذا المذكور يتوسط المفاوز في طلب أعدائه, ولا يتوسطها ينتظر غنيمة كما تفعل البادية؛ لأنها يكمنون في المفاوز لتجوز الرفق فيصيبوا منها فائدةً, فقد ذكر وصفين هما للمدوح تقريظ, وهو أنه لا يستتر لينال غنمًا كفعل الأعراب, ولا ينتظر أن تمر به حمولة التجار, والصفان كلاهما ذم لهؤلاء القوم؛ لأنه عرض بهم تعريضًا خفيًا. وقوله: تصاهل خيله متجاوباتٍ ... وما من عادة الخيل السرار هذا البيت مفسر لما قبله؛ لأنه ذكر أن خيل هذا الأمير يجاوب بعضها بعضًا بالصهيل. والبادية إذا كمنوا للغارة أو لقطع السبيل منعوها من أن تصهل؛ لئلا يسمع صهيلها من يلتمسون, فيكون ذلك نذيرًا له, فيضربونها تارة, وربما شدوا ألسنها لئلا تصهل, قال الشاعر: [المتقارب] إذا الخيل صاحت صياح النسور ... حززنا شراسيفها بالجذم أي: ضربناها بالسياط لئلا تصهل, وقال الآخر: ندني الجياد لأفلائها ... إذا ما استرقن إليها الصهيلا وقوله: بنو كعبٍ وما أثرت فيهم ... يد لم يدمها إلا السوار بها من قطعه ألم ونقص ... وفيها من جلالته افتخار ضرب المثل للمدوح وبني كعب بالسوار واليد؛ أي: أن سيف الدولة بالألم الذي أصابهم منه كالسوار الذي أدمى اليد فقد نالها منه ألم, ولها مع ذلك افتخار لتحليها به. وقوله: لعل بنيهم لبنيك جند ... فأول قرح الخيل المهار يقال لولد الفرس إذا نتج: مهر, ثم يبقى عليه هذا الاسم إلى أن يركب, ويقال للأنثى: مهرة, ولا تزال توصف بذلك مادامت فتيةً, ويقال في الجمع القليل: أمهار, وفي الكثير:

ومن بيتين أولهما

مهار, وإذا جمعوا المهرة على حد جمعهم الظلمة فالأجود مهرات بضم الهاء كما تقول: ظلمات, ويجوز الفتح والتسكين في الهاء, وإذا حملت على أنهم يقولون مهر مثل ظلمٍ ثم جمعوا الجمع فالفتح لا يجوز غيره. وقالوا: فرس ممهر؛ إذا كان في بطنها مهر, وقالوا لولد الحمار الوحشي مهر أيضًا, قال عدي بن زيدٍ: [المدريد] في مصاب الغاديات له ... لقح لم تفل أمهارا ومن بيتين أولهما أنا بالوشاة إذا ذكرتك أشبه ... تأتي الندى ويذاع عنك فتكره (75/أ) وإذا رأيتك دون عرضٍ عارضًا ... أيقنت أن الله يبغي نصره هذان البيتان يجب أن يجعلا في حرف الراء, وهما من أول الكامل إن كان قائلهما لم ينون «أشبه» وظن أن البيت مصرع, فإن ذلك يبطله البيت الثاني لأن قافيته نصره. وإذا صرع البيت الأول وجب أن يكون رويه الهاء؛ وذلك مستقيم لأن الهاء في أشبه وتكره أصلية, فإذا جاءت البيت الثاني انتقض ذلك التقدير؛ لأن الهاء للضمير ولا تجعل رويا في هذا الموضع, فإن لم يجعل البيت مصرعًا, ونونه وهو يريد بأشبه أآفعل التي للتفضيل, فإن تنوينه يقبح. وكان بعض من سلف من النحويين يجيز أن يصرف أفعل على اختلاف ضروبه إلا أفعل الذي يتصل به من كذا, كقولهم: هذا أفضل من فلانٍ, ولم يرد قائل البيت إلا هذا الوجه. وكان محمد بن يزيد يجيز صرف أفعل الذي معه من, فأما في الشعر القديم فلا يعرف شيء من ذلك جاء مصروفًا, وإذا لم تذكر «من» بعد أفعل حسن أن يشبه بغيره. فإن

ومن أبيات أولها

ادعي أن أشبه في البيت في معنى شبيهٍ جاز التنوين, ولم يرد القائل, والله أعلم, إلا معنى التفضيل؛ أي: أني أشد شبهًا, فإذانون أشبه كانت الراء في «تكره» رويًا والهاء وصلًا, وكذلك يكون في البيت الثاني, وابتداؤه بكون الهاء الأصلية وصلًا ثم مجيئه بعد ذلك بهاء الإضمار يشبه قول الأنصاري: [مجزوء الكامل] أبلغ أبا عمروٍ أحيـ ... ـحة والخطوب لها تشابه أني أنا الليث الذي ... تخشى مخالبه ونابه ومن أبيات أولها ووقتٍ وفى بالدهر لي عند واحدٍ ... وفى لي بأهليه وزاد كثيرا وهي من ثالث الطويل. جعل الوقت في شرفه قد وفى بالدهر, وهذا نحو من قولهم لمن يمدحون: أنت الناس كلهم, ونحو ذلك. وقوله: وفي لي, في وفى ضمير يعود على واحدٍ, والهاء في أهليه عائدة على الدهر, والمعنى أن هذا الممدوح قد وفى لي بأهل الدهر وزاد على ذلك. وقولهم: وفى فلان بفلان أي قام مقامه, كما قال الصمة: [الوافر] وفاء ما معية من أبيه ... لمن أوفى بجار أو بعقد وقد يجوز أن يكون قولهم: وفي به؛ أي: زاد عليه شيئًا, فيكون من قولهم وفي الميزان.

ومن بيتين أولهما

وقوله: غدا الناس مثليهم به لا عدمته ... وأصبح دهري في ذاره دهورا يقول: أصبح الناس وقد زادوا به فصاروا مثليهم, وهذا البيت ناصر للبيت الأول؛ لأنه قال: ووقتٍ وفى بالدهر لي عند واحدٍ وفى لي بأهليه؛ أي: كان مثلهم في الغناء والمكارم المحمودة, فلما كان مثل الناس أجمعين صاروا مثليهم. وقوله: وأصبح دهري في ذراه دهورًا: قد زاد في هذا المعنى على ما ذكره في البيت الأول؛ لأنه جعل الوقت وافيًا بالدهر, وجعل الناس مثليهم بالممدوح, وقد جمع في البيت الآخر الدهر, فبالغ فيه أكثر مما بالغ في الرجل؛ لأن الجمع لا نهاية له في العدد, فالدهور تقع على ثلاثةٍ فما زاد. وفائدته في طول الدهر أنه ينال فيه من المآرب ما لا يناله في الدهر القصير, ويصيب المسرة, ويدرك الأماني. ومن بيتين أولهما أنشر الكباء ووجه الأمير ... وحسن الغناء وصافي الخمور وهما من المتقارب الأول. النشر: الرائحة الطيبة. والكباء: العود الذي يتبخر به. يقال: هن يكتبين الكباء؛ أي: يدخلنه تحت ثيابهن, وهذا الاستفهام على معنى التقرير والإيجاب؛ أي: أهذه الأشياء قد اجتمعت في هذا الموضع, فقد سرني لك سرورًا تامًا, ففعل بي كفعل الخمر, فأنا مخمور. وقوله: فداو خماري بشربي لها ... فأني سكرت بشرب السرور هذا معنى مبتذل, ومنه قول الأعشى: [المتقارب] وكأسٍ شبت على غرةٍ ... وأخرى تداويت منها بها

ومن بيتين أولهما

ومن بيتين أولهما لا تلومن اليهودي على ... أن يرى الشمس فلا ينكرها وهما من ثالث الرمل. كان هذا اليهودي رأى رجلًا فعرفه, وهو أبو الممدوح؛ لأنه كان قد استخفى فقال الشعر. لا تلومن اليهودي, إنما حسن أن يذكر اللوم هاهنا لأن معرفة اليهودي بالمستخفي جائز أن تؤدي إلى غير ما يريد, فقد استحق اللوم من الذي كان له غرض في إخفاء نفسه, ولولا هذا التأويل لكان هذا الموضع يليق بأن يقال: لا تحمدن اليهودي؛ لأنه واجب أن يعرف الشمس كما عرفها غيره من العالم. وقوله: إنما اللوم على حاسبها ... ظلمةً من بعد ما يبصرها حاسبها؛ أي: الذي يظنها, والفعل حسب يحسب بكسر السين, ويحسب بفتحها, وعلى الكسر أكثر القراء. وهذا البيت يبين أن اللوم إنما وقع باليهودي لأن أبا الممدوح أراد ألا يعرفه أحد. ومن بيتين أولهما إنما أحفظ المديح بعيني ... لا بقلبي لما أرى في الأمير من خصالٍ إذا نظرت إليها ... نظمت لي غرائب المنثور (75/ب) وهما من أول الخفيف. يقول: إن عجبتم من حفظي لما أقول من المدح فلست أحفظه بقلبي, وإنما أنظر إلى الأمير فأرى الأوصاف التي وصفت بينة في خلقه وخلائقه فأذكر بها ما قلت. والخصال: جمع خصلةٍ, وهي الشيمة التي تكون في الإنسان, إما محمودةً, وإما رديئةً.

ومن أبيات أولها

ومن أبيات أولها لا تنكرن رحيلي عنك في عجلٍ ... فإنني لرحيلي غير مختار وهي من ثاني البسيط. إذا كان الفعل الماضي على افتعل, وكان معتل الأوسط أو من مدغم العين في اللام؛ فإن فاعله ومفعوله يستويان في اللفظ, يقال: اخترت الشيء فأنا مختار, وهو مختار, فقد استويا في اللفظ؛ لأن الياء التي هي في مكان العين كانت تدل باللفظ على الفرق بين الفاعل والمفعول من قبل أن تنقلب, فلما قلبت لتحركها وانفتاح ما قبلها لم يبق فرق بين الفاعل والمفعول, ومختار إذا كان فاعلًا مختير, وإذا كان مفعولًا فأصله مختير, وكذلك حال افتعل من المضاعف في تساوي فاعله ومفعوله, يقول: اجتررت الشيء فأنا مجتر, وهو مجتر, فالفاعل والمفعول في ذلك سواء في اللفظ؛ فالفاعل أصله مجترر بكسر الراء, والمفعول أصله مجترر بفتحها. وقوله: وقد منيت بحسادٍ أحاربهم ... فاجعل نداك عليهم بعض أنصاري منيت: أي قدر لي ورميت به؛ أي: إن هؤلاء الحساد قد قضي علي أن أحاربهم, وأصل المنا: القدر, يقال: مناه الله يمنوه ويمنيه, قال الشاعر: [البسيط] ولا تقولن لشيءٍ سوف أفعله ... حتى تبين ما يمنو لك الماني يعني ما يقدر لك القادر. وأصل الندى أن يستعمل في الشيء القليل, مثل ندي الحجر: إذا خرج منه ماء يسير, وإنما هو مأخوذ من ندى الليل, ثم اسعملوا ذلك في العطاء, فقالوا: هو غمر الندى؛ أي: الذي يكون منه قليلًا يعد كثيرًا من غيره.

ومن أبيات أولها

ومن أبيات أولها أصبحت تأمر بالحجاب لخلوةٍ ... هيهات لست على الحجاب بقادر وهو من الكامل الأول. قوله: فإذا احتجبت فأنت غير محجبٍ ... وإذا بطنت فأنت عين الظاهر قوله: فإذا احتجبت فأنت غير محجبٍ: من جنس قولهم: هو حي ميت, وهو غائب شاهد, وإنما يصفون بذلك لمن يجتمع فيه أمران, أحدهما يدل على ما يجحده الآخر. فإذا قالوا: هو حي ميت أرادوا هو حي من وجه وميت من آخر. فإن كان الموصوف بذلك حيا أريد أن فيه رمق الحياة, وأنه خامل خمولًا كالموت, أو به مرض يمنعه من التصرف, أو هو مسجون, أو نحو ذلك. قال الغساني: [الخفيف] ليس من مات فاستراح بميتٍ ... إنما الميت ميت الأحياء ولو قيل للنائم: هو حي ميت لاحتمل ذلك؛ لأن الحياة في جسده, وقد فقد حاسة المنتبه فكأنه ميت, وإذا قيل للميت: هو ميت حي أريد أن الموت قد نزل به, وأنه يذكر ذكرًا جميلًا أو غير جميل, فذكره جارٍ بين الأحياء. قال الشاعر: [الكامل] وإذا وصلتم أرضكم فتحدثوا ... ومن الحديث متالف وخلود

ومن بيتين أولهما

وكذلك هذا الممدوح هو محتجب عن العيون, ونواله وجماله لا يحتجبان فكأنه ظاهر, وادعاؤه أنضوء جبينه لا يحتجب من الكذب الذي اصطلحت عليه الشعراء وليس عندهم بالقبيح, وعين الشيء حقيقته فيقول: إذا كنت باطنًا فأنت حقيقة الظاهر وشخصهز ومن بيتين أولهما نال الذي نلت منه مني ... لله ما تصنع الخمور وهما من سادس البسيط. وقوله: وذا انصرافي إلى محلي ... أآذن أيها الأمير أي: هذا وقت انصرافي, ويجوز أن يشير إلى الانصراف لأنه قد حضر, وتم الكلام عند قوله: «محلي» , فاستفهم, وجاء بهمزة الاستفهام داخلةً على همزة آذنٍ, فالتقت همزتان متحركتان, فمن يحقق من العرب يحقق الهمزتين, ومن يخفف يوقع التخفيف بالثانية؛ لأن الأولى مبدوء بها, فلا يتسلط عليها التخفيف إلا أن يدعي مدعٍ أنه يصل النصف الآخر بالأول, فجعل الهمزة ياء وذلك بعيد جدًا, وإذا جعلت الهمزة الثانية بين بين فهي في زنة المتحرك عند البصريين. وحكي عن أهل الكوفة أو عن بعض شيوخهم أنها تكون في وزن الساكنة. والبصريون ينكرون ذلك؛ لأن الساكنين لا يجتمعان في حشو البيت إلا ولهما حكم غير موجودٍ في هذا الموضع, وهو أن يكون الأول منهما حرف لينٍ ويكون الثاني مدغمًا, وإنما يزعمون أن ذلك اتفق في الوزن المتقارب, كقول القائل: [المتقارب] فرمنا القصاص وكان التقاص ... ص فرضًا وحتمًا على المسلمينا

ومن أبيات أولها

وكان أبو إسحق الزجاج ينكر ذلك ويظهر التضعيف وينشد: وكان التقاصص, وقلما يمكن أن يجمع في حشو البيت بين ساكنين ليس بعد الأول منهما ادغام إلا أن يحتال, مثل أن يقال على سبيل التهجي والحكاية: نون قاف, ونحو ذلك. وبعض الناس ينشد: فآذن أيها الأمير بالفاء على تقدير حرف الاستفهام, وهذا مع الضرورة التي فيه أحسن من تلك الرواية فيما أتصوره, وأنت مضمرة في الوجهين, كأنه قال: أأنت آذن, أفأنت آذن. ومن أبيات أولها (76 /أ) ... وجاريةٍ شعرها شطرها ... محكمةٍ نافذٍ أمرها وهي من ثالث المتقارب. الأحسن في الشعر فتح العين, ولا اختلاف أن تسكينها لغة. والكوفيون إذا كان في وسط الثلاثي حرف من حروف الحلق أجازوا فيها الوجهين إجازةً مطردةً, وأنشدوا قول الراجز: [الرجز] أتبعته إياهما في السهل ... حتى إذا مازنأا في الجبل أزنأته فيه ولما أبل وشطر الشيء نصفه, وجعلها محكمةً؛ لأنها أحضرت في المجلس على هيئةٍ أراد بعض الجلساء أن يمتحن بها أبا الطيب؛ لأنه كان لا يحدث أمر في المجلس إلا نظم فيه شعرًا, فظن أنه يعمله قبل الحضور, فجاءت وفي يديها طاقة من ريحانٍ تدار, فإذا وقفت حذاء إنسان شرب, فوضعها الغلام من يده ونقرها فدارت وكانت على لولبٍ.

وقوله: تدار وفي يدها طاقة ... تضمنها مكرهًا شبرها يقال: طاقة من ريحانٍ إذا كانت مفردةً ليس معها غيرها, وكذلك طاقة من غزلٍ, والشبر ما بين طرف الإبهام وطرف الخنصر إذا مدت الأصابع, وأصحاب اللغة يذكرون أشياء في الفرج التي بين الأصابع, فيقولون: ما بين الإبهام والسبابة فتر, ثم يختلفون بعد ذلك فيقولون ما بين السبابة والوسطى عتب, وما بين الوسطى والبنصر رتب, وما بين البنصر والخنصر بصم, وربما قالوا: بصر, ويختلفون في ترتيب هذه الأسماء الثلاثة, وبعضهم يقول: هو الرتب, بتحريك التاء, وقد أنشدوا شعرًا يجوز أن يكون مصنوعًا, وهو: [الطويل] فمالكم فتر إذا ذكر الندى ... ولا لكم عتب ولا لكم رتب ولا لكم بصم ولا لكم يد ... ولا أنتم عجم ولا أنتم عرب وحدث عبد العزيز بن المبارك البهراني أنه لقي أبا أسامة جنادة بن محمدٍ الهروي اللغوي الذي قتله الحاكم بحلب سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة, وجرى ذكر الرتب عنده فقال: هو بتحريك التاء, فأنشده عبد العزيز هذين البيتين فرجع إلى قوله, وهو موجود في الكتب القديمة بالتحريك, وقد ذكر قطرب في كتاب الخيل ما يدل على أنه بالتسكين, ولا يمتنع أن يقال في القافية: ولا لكم رتب, ويقال في البيت الثاني: ولا أنتم عرب, ويجوز أن يكونوا قد نطقوا بالوجهين.

ومن أبيات أولها

ومن أبيات أولها إن الأمير أدام الله دولته ... لفاخر كسيت فخرًا به مضر وهي من البسيط الأول. الأحسن أن يكون قوله: لفاخر: لا يراد أنه ينطق بالفخر, ولكنه من قولهم: در فاخر؛ أي: له قيمة عظيمة؛ لأن النطق بالفخر ليس مما يوصف به الكرام, وقد جاء في كتاب الله سبحانه ذم الفخور. ومضر: قيل أنه سمي بذلك لبياضه كأنهم شبهوه باللبنٍ الماضر, من قولهم: مضر اللبن إذا حمض, ولا يمتنع أن يكون سمي مضر لأنه كان مولعًا بالماضر من اللبن, أو يكون من قولهم: شيء خضر مضر؛ أي: حسن, ومضر عندهم إتباع, فيجوز أن يكون مأخوذًا من البياض. وفي الحديث: «إن الدنيا خضرة مضرة» , وقالوا: ذهب دمه مضرًا إذالم يثأر به, ويجوز أن يكونوا أخذوه من اللبن الماضر أي: كأنه دمه لبن لا قيمة له. وقوله: قامت على فرد رجلٍ من مهابته ... وليس تعقل ما تأتي وما تذر على فرد رجل؛ أي: على رجلٍ مفردةٍ, وكذلك يقال: صنع كذا بفرد يدٍ؛ لأنهم يصفون الأنثى مرة بفردٍ, ومرة بفردةٍ, وتكون الإضافة هاهنا على معنى من كأنه قال: قامت على فردٍ من رجلٍ, كما يقال: جاء فلان بفردٍ من نفسه, أي: جاء واحدًا. ومن بيتين أولهما زعمت أنك تنفي الظن عن أدبي ... وأنت أعظم أهل العصر مقدارًا وهما من ثاني البسيط.

وهذا الوزن لا يحسن حتى يستعمل بحرف لينٍ, هو ألف, أو واو مضموم ما قبلها, أو ياء مكسور ما قبلها, فإن كان قبل إحداهما فتحة فقد استعمل المتقدمون ذلك إلا أنه ليس بكثير, وليس له قوة ما ضم الحرف الذي قبل الواو, أو كسر الحرف الذي قبل الياء. فمما جاء وقبل واوه فتحة ما هو موجود في الحماسة من قول القائل: يا أيها الراكب المزجي مطيته ... سائل بني أسدٍ ما هذه الصوت ومما جاء وقبل الياء فتحة شعر أنشده أبو عبيد في «غريب الحديث»: [البسيط] سعى عقالًا فلم يترك لنا سبدًا ... فكيف لو قد سعى عمرو عقالين ولم يجئ للعرب شيء على هذا الوزن إلا بلينٍ: إما كاملٍ وإما ناقصٍ, وربما استعمله المحدثون وليس بالملين كقول القائل: [البسيط] إن الملوك بلاء حيث ما حلوا ... فلا يكن لك في أفنائهم ظل وكقول الحكمي: [البسيط] لا تبك ليلى ولا تطرب إلى هند ... واشرب على الورد من حمراء كالورد

ومن أبيات أولها

ومن أبيات أولها برجاء جودك يطرد الفقر ... وبأن تعادى ينفد العمر وهي من خامس الكامل. يقال: نفد الشيء ينفد, بكسر الفاء في الماضي, وقد حكي نفد, وقالوا: ما للشيء نفد؛ أي: فناء, وقالوا للذي يخاصم على (76/ب) باب الحاكم منافد, وهو من نفد الشيء؛ لأن كل واحد من الخصمين يطلب نفاد الحجة من الآخر, قال الراجز: [الرجز] وهو إذا ما قيل هل من كايد ... أو رجلٍ عن حقكم منافد يكون للغائب مثل الشاهد وقوله: فخر الزجاج بأن شربت به ... وزرت على من عافها الخمر ضم الزاي في الزجاج أفصح اللغات, وقد حكي كسرها وفتحها. وقوله: وسلمت منها وهي تسكرنا ... حتى كأنك هابك السكر يقال: سكر وسكر بمعنى, مثل ما يقال: سقم وسقم, ورشد ورشد, فأما السكر المراد به المشروب الذي يسكر, وعلى ذلك تحمل الآية: {تتخذون منه سكرًا} , نزل هذا قبل تحريم الخمر, وقال قوم: السكر الخل, وقيل: هو الطعام, وليس هذا بشيءٍ.

ومن التي أولها عذيري من عذارى من أمور ... سكن جوانحي بدل الخدور وهي من أول الوافر. عذيري: في معنى عاذري, والمراد: أريد عذيري, أو أطلبه, أو نحو ذلك من الأفعال المضمرة, وأكثر ما يستعملون عذيري وعذيرك في موضع نصبٍ, وعلى ذلك ينشدون قول الشاعر: [الوافر] أريد حباءه ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد ورفع عذيرٍ لا يمتنع على أن يضمر له مبتدأ, ويجعل خبرًا, أو يضمر الخبر ويجعل مبتدأً, والعذير في غير هذا الموضع الحال, كما قال العجاج: [الرجز] جاري لا تستنكري عذيري ... سيري وإشفاقي على بعيري أي: حالي كذلك يفسرونه. ويجوز أن يكون أصله: لا تستنكري حالي التي أعتذر منها, أو التي إذا رآها غيري عذرني, ونصب بدل الخدور؛ لأن معنى قوله: سكن جوانحي جعلنها مسكونةً, فكأنه عدى الفعل إلى مفعولين؛ أي: جعلن جوانحي بدل الخدور, ولا يمتنع أن يعتقد في هذا المضاف الانفصال, ويكون التقدير بدلًا من الخدور فينصبه على الحال, ويجوز أن يجعل بدل الخدور نعتًا لجوانحي. وقوله: ومبتسمات هيجاوات عصرٍ ... عن الأسياف ليس عن الثغور

الهيجاوات: جمع هيجاء بالمد. والذين ينقلون لفظ العرب يزعمون أنها تمد وتقصر, ويدل كلامهم على أن قصرها ليس بضرورةٍ, ولما جرت الهيجاء مجرى الأسماء جمعت بالألف والتاء. ولو جرت مجرى الصفات لقيل في الجمع هيج كما يقال: بيضاء وبيض, وعيطاء وعيط, ولو كانت الهيجاء في حال القصر أصلًا في كلامهم؛ وجب أن يقال في جمعها هيجيات لأن الألف المقصورة إذا كانت في اسم إلى أربعة أحرفٍ فما زاد وجب أن تجمع بالياء, كما يقال في علقى علقيات وفي أرطى أرطيات. وقال الشاعر في مد الهيجاء: [الطويل] إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا ... فحسبك والضحاك عضب مهند وقال لبيد فقصر: [الرجز] يارب هيجا هي خير من دعه وقوله: ركبت مشمرًا قدمي إليها ... وكل عذافرٍ قلق الضفور يوصف من جد في الأمر بالتشمير, وهو شبيه بقولهم: كشف عن ساقه, وخارج نصف ساقه, ورفع إزاره, ونحو ذلك, قال دريد: [الطويل] كميش الإزار خارج نصف ساقه ... بعيد من الآفات طلاع أنجد وقال سعد بن مالك: [مجزوء الكامل] كشفت لهم عن ساقها ... وبدا من الشر الصراح

وقال آخر: [الطويل] وما طالب الحاجات في كل بلدةٍ ... من الناس إلا من أجد وشمرا والعذافر من الإبل: الغليظ الشديد, والضفور: جمع ضفرٍ, وهو ما يضفر من أدمٍ أو غيره, ووصف الضفور بالقلق؛ لأن العذافر قد ضمر فجالت عليه, أو لأنه لشدة سيره يقلقها, وإن كان بعد في حال البدن. وقوله: أوانًا في بيوت البدو رحلي ... وآونةً على قتد البعير الأوان: الوقت, وجمعه آونة, والمثل السائر: [الرجز] هذا آوان الحرب فاشتدي زيم وأصل آونةٍ أاونةٍ؛ لأن همزة أوانٍ أصلية, ولحقتها همزة أفعلةٍ, وصحت الواو؛ لأنهم لو أعلوها لالتقى ساكنان, فافتقروا إلى حذفٍ مخلٍ بالكلمة, قال ابن أحمر: [الوافر] أبو حنشٍ يؤرثنا وطلق ... وعباد وآونةً أثالا وقوله: فقل في حاجةٍ لم أقص منها ... على تعبي بها شروى نقير شروى الشيء: مثله. قال الحارث بن حلزة: [الكامل]

وإلى أبي حسان سرت وهل ... شروى أبي حسان في الإنس وفي حديث علي عليه السلام: «أن غنمًا ازدحمت على جسر الكوفة فوقعت منها شاة في الماء فغرقت, فاستعدوا إليه فقال: إن وجدتموها بعينها فهي لكم, ولا فشرواها من الغنم, يعني الشاة التي كانت سبب غرق شاتهم». والنقير: يقال: هو شق النواة, ويقال: بل هو شيء في ظهرها يتبدئ منه نبت النخلة, والنقير والفتيل: مما وضع استعماله في النفسي دون غيره. وشروى: اشتقاقها من شريت؛ أي: اشتريت (77/أ) أو بعت وإذا بنوا فعلى من ذوات الياء قلبوا ياءها واوًا, وكذلك موضوع التصريف, ولو بنوا من رميت اسمًا لقالوا: أرموي, فإن كانت فعلى صفةً أقرت الياء على حالها كقولهم: امرأة صديا وهي أنثى الصديان وقوله بعد هذا: ونفسٍ لا تجيب إلى خسيس معطوف على حاجةٍ. فكذلك المخفوضات التي في أوائل الأبيات التي جاءت بعد. وقوله: عدوي كل شيءٍ فيك حتى ... لخلت الأكم موغرة الصدور جاء باللام بعد حتى لأنه يجوز أن تقع بعدها الجمل, كما يقال: أبغضني فلان حتى وجهه منصرف عني. وموغرة الصدور: من الوغر, وهو ما يثبت في صدر الإنسان من الحقد, فذلك مأخوذ من اللبن الوغير, وهو الذي تحمى الحجارة الرقاق وتلقى فيه؛ كي يسخن, يقال: أوغرت الماء إذا أغليته. قال الشاعر, والبيت يروى للمستوغر السعدي: [الوافر] ينش الماء في الربلات منها ... نشيش الرضف في اللبن الوغير

ومن أبيات أولها

وقوله: فيا بن كروسٍ يا نصف أعمى ... وإن تفخر فيا نصف البصير كروس: يقال: إنه في معنى الكبير الرأس, والواو فيه زائدة, وهو من قولهم: تكرس الشيء إذا ركب بعضه بعضًا, قال الراجز: [الرجز] يا فقعسًا وأين مني فقعس ... أإبلي يأكلها كروس فيجوز أن يكون كروس هاهنا اسم رجلٍ, ويجوز أن يكون وصفًا, وكذلك قول الآخر: [الطويل] لعمري لقد جاء الكروس طاويًا ... على خبرٍ للمؤمنين وجيع ومن أبيات أولها مرتك ابن إبراهيم صافية الخمر ... وهنئتها من شاربٍ مسكر السكر وهي من الطويل الأول. مرتك: أصله الهمز؛ لأنه من قولهم: هنيئًا مريئًا, ويذكرون أنه يقال: هنأني الطعام ومرأني إذا جاؤوا بالفعلين متواليين حذفوا همرة مرأني, فإذا أفردوه قالوا: أمرأني, وترك الهمز في هذا الموضع, ومثله كثير. وأصل ذلك أن يقال: مرأ فيوقف على الهمزة الساكنة, فإذا

سكنت وقبلها الفتحة صيروها ألفًا, كما فعلوا في رأسٍ ويأسٍ. وقوله: مسكر السكر؛ أي: أن الخمر لا تغيره عن حال الصحو, فكأنه يسكر السكر فلا يعمل فيه شيئًا. وقوله: رأيت الحميا في الزجاج بكفه ... فشبهتها بالشمس في البدر في البحر الحميا: سورة الخمر, وهي مأخوذة من حميت النار وغيرها إذا اشتدت. وجاءت الحميا مصغرة لا يعرف لها مكبر. ولو استعمل لوجب أن يكون حموى بالواو؛ لأنه من الحمي من قول امرئ القيس: [الطويل] إذا جاش فيه حميه غلي مرجل فقلبت الياء واوًا, كما فعل بها في شروى, قال زهير: [الوافر] يجرون البرود وقد تمشت ... حميا الكأس فيهم والغناء وقوله: إذا ما ذكرنا جوده كان حاضرًا ... نأى أودنا يسعى على قدم الخضر هذا المعنى مبني على قولهم: إن الخضر حي لم يمت, وإنه إذا ذكر في موضع قضي أن يمر فيه ذلك الوقت, وإذا استعملت الشعراء الخضر قالوا: مرة الخضر على مثال الكتف والكبد, ومرةً الخضر على مثال الكتف والكبد. ولم يذكر في الشعر القديم؛ لأنه إنما عرف في الإسلام.

ومن التي أولها

ومن التي أولها إني لأعلم واللبيب خبير ... أن الحياة وإن حرصت غرور وهي من ثاني الكامل. يقال: حرصت, وهي اللغة الفصيحة. وحرصت, وهي قليلة. وقالوا: رجل حارص وحريص. واستعمالهم حريصًا أكثر من استعمالهم حارصًا, وهو الأصل, وإنما أخذ من حرصت السحابة الأرض إذا قشرت التراب, ومنه الشجة الحارصة التي تقشر الجلد, كأن هذا الطالب يبالغ في الطلب حتى يقشر ما يريد. قال الحادرة الذبياني: [الكامل] ظلم البطاح له انهمال حريصةٍ ... فصفا النطاف له بعيد المكرع يعني بالحريصة السحابة التي تقشر وجه الأرض. وقوله: أمجاور الديماس رهن قرارةٍ ... فيها الضياء بوجهه والنور الديماس: بيت في بيتٍ, وكسر داله أكثر, وقد حكي فتح الدال, وهو مأخوذ من: دمست الشيء إذا واريته, ودمس الليل إذا أظلم فوارى الأشياء, قال بعض الكلبيين: [الطويل] فقلت أبا الرمكاء إني محنب ... وقد تهت في الظلماء والليل دامس وقوله: ما كنت آمل قبل نعشك أن أرى ... رضوى على أيدي الرجال تسير

رضوى: اسم جبل, وهو مؤنث, يقال لاحت لهم رضوى, فإن ذكر على معنى الجبل فحسن, وهي أنثى رضوان؛ وذلك من أسماء الرجال؛ أي: اشتقاقه من الرضى والرضوان, قال الشاعر: [المتقارب] تجانف رضوان عن ضيفه ... ألم تأت رضوان عني النذر واختار الشاعر أن يقول في القافية يسير فيذكر؛ لأنه رده إلى الممدوح, واصطلحت الجماعة في الإسلام على أن سموا سرير الميت نعشًا. وكان النعمان بن المنذر إذا مرض حمل على سريرٍ فطيف به كأنه يرتاح إلى ذلك على سبيل الفرجة, فسمى النابغة ذلك السرير نعشًا, فقال: (77/ب) ألم تر خير الناس أصبح نعشه ... على فتيةٍ قد جاوز الحي سائرا ونحن لديه نسألة الله خلده ... يرد لنا ملكًا وللأرض غامرا ففي هذا دليل على أنهم لم يكونوا في ذلك الزمان يسمون سرير الميت نعشًا؛ لأن ذلك لو شهر بينهم لم يستعمله النابغة خيفةً من تطير النعمان. وقوله: خرجوا به ولكل باكٍ خلفه ... صعقات موسى يوم دك الطور الصعقات: جمع صعقةٍ من: صعق الرجل إذا غشي عليه, كأنه أصابته صاعقة. ودك الجبل إذا انفرش, ودكت الأرض إذا سوي بعضها ببعضٍ فلم يكن فيها ارتفاع وهبوط. وقالوا: ناقة دكاء: إذا كانت منفرشة السنام, وقال قوم: كل جبلٍ طور, فإن صح ذلك فهو مشبه بطور موسى صلى الله عليه, وقيل: إنها كلمة ليست بالعربية.

وقوله: والشمس في كبد السماء مريضة ... والأرض واجفة تكاد تمور هذا المعنى قد استعمل قديمًا, ومنه قول أوس بن حجرٍ: [المتقارب] ألم تكسف الشمس والبدر والـ ... ـكواكب للجبل الواجب وجعل الأرض تجف لأجل هذا الميت, ومن شأن الشعراء إذا رثوا ميتًا أن يدعوا للأرض التغير, قال الشاعر: لأصبح بطن مكة مقشعرًا ... كأن الأرض ليس بها هشام يعني هشام بن المغيرة المخزومي. وقال النابغة يرثي حصن بن حذيفة: يقولون حصن ثم تأبى نفوسهم ... فكيف بحصنٍ والجبال جنوح ولم تلفظ الأرض القبور ولم تزل ... نجوم السماء والأديم صحيح وقوله: وحفيف أجنحة الملائك حوله ... وعيون أهل اللاذقية صور الحفيف صوت مثل صوت الجناح ونحوه, وقالوا في المثل: «هو يحف له ويرف له» إذا كان يتعهد أموره, ويجهد في مصلحته .. يراد أنه يسعى في شأنه حتى يسمع له حفيف ويرف له من قولهم: رف النبت إذا اهتز من نضارته, أي هو يظهر له الجميل. وحذف الهاء

من الملائكة, كما يقال: صياقل وصياقلة, والمهالب والمهالبة. والصور: جمع أصور وصوراء, والأصور: الذي يميل إلى الشيء. قال الهذلي: [الكامل] ثم انصرفت ولا أبثك حيبتي ... رعش العظام أطيش مشي الأصور وقوله: وكأنما عيسى بن مريم ذكره ... وكأن عازر شخصه المقبور جعل ذكر الممدوح محببًا له, فكأنه عيسى بن مريم عليه السلام؛ لأنه كان يحيي الموتى, وهذا الكلام يقتضي أن يكون عيسى بن مريم أحيا عازر, وإنما جاء في التفسير أن عازر مر بالقرية التي ذكرت في قوله: {أو كالذي مر على قريةٍ وهي خاوية على عروشها} .. الآية هو يحتمل ألا يكون الشاعر ذهب إلى أن عازر أحياه المسيح, ولكنه لما شبه الذكر بعيسى بن مريم شبه الشخص المدفون بعازر, أي أن عيسى لم يكن يعزب عليه أن يحيي عازر, ولو أمره الله لأحياه. وقوله: نفر إذا غابت غمود سيوفهم ... عنها فآجال الرجال حضور هذا اللفظ لابد فيه من التخصيص, لأن هؤلاء النفر داخلون في جملة العباد, وكذلك من هو في حيزهم من عبد أو تابعٍ أو صديق. وغمود: جمع غدٍ في الكثرة, وأغماد جمعه في القلة, وسمي غمدًا؛ لأنه يواري النصل, ومنه قولهم: تغمده الله برحمته, وقالوا غمائد فكأنه جمع جمعٍ, قال حميد بن ثورٍ: [الطويل] كما سل سيف من غمائده نصل

ومن الزيادة التي أولها

ومن الزيادة التي أولها غاضبت أنامله وهن بحور ... وخبت مكايده وهن سعير قوله: يبكى عليه وما استقر قراره ... في اللحد حتى صافحته الحور قراره: يحتمل الرفع والنصب, فإذا رفع فهو على المبالغة يشابه قولهم: شيب شائب, وموت مائت, والمعنى: ما ثبت قراره. وإذا نصب قراره احتمل وجهين: أحدهما: أن يكون القرار في موضع الاستقرار ويكون مصدرًا جرى على غير لفظ الفعل وذلك كثير, ومنه قول القطامي: [الوافر] وخير الأمر ما استقبلت منه ... وليس بأن تتبعه اتباعًا وإنما مصدر تتبع التتبع, واتباع مصدر اتبع. والوجه الآخر أن يكون أراد بالقرار الموضع الذي يستقر فيه. كأنه قال: ما استقر في قراره فينصب على الظرف, أو على أنه مفعول يتسع فيه. ومن الزيادة التي أولها ألآل إبراهيم بعد محمدٍ ... إلا حنين دائم وزفير قوله: ما شك خابر أمرهم من بعده ... أن العزاء عليهم محظور يقال: حظرت الشيء: إذا منعته, ومنه اشتقاق الحظيرة, وهو موضع يحظر بشجرٍ أو غيره, فتكون فيه الغنم أو سواها, وأكثر ما تستعمله العرب فيما يحظر بالشجر. وفي الكتاب العزيز: {فكانوا كهشيم المحتظر} , أي: الذي يتخذ حظيرة, ويقال للحظيرة حظر أيضًا. قال الشاعر: [الطويل]

ومن التي أولها

فلولا أكف القائدين وأنه ... نزا حظرًا أذرى به الحي عاضد وقالوا: فلان يوقد في الحظر الرطب إذا كان ينم بين القوم, قال الشاعر: [الطويل] من البيض لم تصطد على حبل ريبةٍ ... ولم تمش بين القوم بالحظر الرطب وقالوا: جاء بالحظر الرطب؛ أي: بالمال الكثير, وإنما شبهوه (78/أ) بالحظر الرطب؛ لأن كل من له مال يتخذ حظرًا فتكثر حظائر الناس, قال الشاعر: [الطويل] أعانت بنو الحريش فيها بأربعٍ ... وجاءت بنو العجلان بالحظر الرطب ومن التي أولها أريقك أم ماء الغمامة أم خمر ... بفي برود وهو في كبدي جمر وهي من الطويل الأول. قوله: أذا الغصن أم ذا الدعص أم أنت فتنة ... وذيا الذي قبلته البرق أم ثغر الدعص: رمل مجتمع ليس بكثيرٍ, تشبه به أعجاز النساء, يقال: دعص ودعصة, قال ذو الرمة: تنفي الطوارف عنه دعصتا بقرٍ ... وهائل من فرندادين مركوم وذيا: تصغير ذا, وهذه المبهمات تفتح أوائلها في التصغير على خلاف غيرها من

المصغرات يقال: ذيا, وذياك, وذيالك, واحتج من زعم أن الذال والياء في الذي من ذا؛ لأنهم قالوا في تصغيره: اللذيا, وكذلك قولهم: تيا, بينهما وبين اللتيا من المناسبة كما بين ذيا واللذيا. وقوله: إليك بن يحيى بن الوليد تجاوزت ... بي البيد عنس لحمها والدم الشعر هذا يحمل وجهين: أحدهما: أن يعني بالعنس الناقة الصلبة المسنة, ويكون محمولًا على المبالغة, كما أنك إذا وصفت شاعرًا قلت: داره شعر, وفرسه قريض, أو نحو ذلك. والآخر: أن يريد بالعنس القصيدة, وهذا أحسن. وقوله: إلى ليث حربٍ يلحم الليث سيفه ... وبحر ندًى في موجه يغرق البحر يقال: ألحمت الرجل وغيره إذا أطعمته اللحم, يريد أن هذا الممدوح يجعل إطعامه الأسد اللحم ضربه إياه بالسيف, وهذا نحو من قولهم: تحيته الضرب, وعتابه السيف, أي: يقيمه مقام التحية والعتاب. ومن ذلك قولهم: قريت الهم الرحلة؛ أي: جعلتها كالقرى له. وقال عمرو بن معد يكرب: [الوافر] وخيلٍ قد دلفت لها بخيلٍ ... تحية بينهم ضرب وجيع وقوله: متى ما يشر نحو السماء بوجهه ... تخر له الشعرى وينكسف البدر الشعرى: إحدى الشعريين, وهما العبور والغميصاء. والعبور أكثرهما نورًا. والعرب تصف شدة الحر إذا كان النوء للشعرى, قال الشنفرى: [الطويل]

ومن التي أولها

ويومٍ من الشعرى يذوب لعابه ... أفاعيه في رمضائه تتململ أي: من أيام الشعرى وقالوا: ذكت الشعرى, وأجت الشعرى يريدون الحر الذي يكون أيام طلوعها, قال الشاعر: فظلت على العذب النقاخ لبونة ... رواء إذا الشعرى على الهام أجت ويصفون أنها تطلع في أول الليل إذا اشتد البرد, قال الشاعر: وإنا لنقري الضيف من قمع الذرى ... إذا وافت الشعرى انقطاع نهارها والعرب تزعم أن الشعريين أختا سهيلٍ, فالعبور تراه فهي مستعبرة والغميصاء لا تراه فقد غمصت من البكاء, والغمص مثل الرمص. ومن التي أولها أطاعن خيلًا من فوارسها الدهر ... وحيدًا وما قولي كذا ومعي الصبر وهي من الطويل الأول. هذه استعارة لا يثبت لها حقيقة, ولكن الشعراء عليها مصطلحون, ولكنه لما جعل الدهر يحاربه جعله من فوارس الخيل التي يطاعن, والعرب يقولون: طاعنا الخيل, وإنما يريدون فرسان الخيل؛ لأن الخيل لا تطاعن, إلا أنها تعين الفرسان على الطعان؛ فلذلك جاز أن ينسب إليها الطعن. يقال: طعن بالرمح طعنًا, وطعن باللسان طعنانًا, قال أبو زبيد: [الخفيف]

وأبى ظاهر الشناءة إلا ... طعنانًا وقول مالا يقال والكاف في كذا منصوبة بقولي, وليست جاريةً في هذا الموضع مجرى قولهم: أعطيته كذا وكذا, وفعلت به كذا؛ لأن تلك خرجت من الباء إلى سواه. وكذا هاهنا في موضعها الأصلي, والمعنى: ما قولي مثل هذا القول والصبر معي, وهذا إنكار على نفسه؛ لأنه ذكر طعانه الدهر وحيدًا وذلك جارٍ مجرى الشكوى منه فكأنه أنكر أن يقول هذه المقالة, وليس هو إكذابًا, إنما الإكذاب مثل قول زهيرٍ: [البسيط] قف بالديار التي لم يعفها القدم ... بلى وغيرها الأرواح والديم وقوله: وتضريب أعناق الملوك وأن ترى ... لك الهبوات السود والعسكر المجر الأعناق: واحدها عنق وعنق وعنق. والهبوات: جمع هبوةٍ وهو الغبار. والمجر: العسكر العظيم, ومنه قولهم: أمجرت الشاة إذا عظم بطنها على الحمل, وقد ذكر أن ذلك يقال في الناقة, قال امرؤ القيس: ومجرٍ كغلان الأنيعم قاصدٍ ... ديار العدو ذي زهاءٍ وأركان وقوله: وتركك في الدنيا دويًا كأنما ... تداول سمع المرء أنمله العشر هذا المعنى مبني على أن الإنسان إذا جعل إصبعيه في أذنيه سمع دويًا, وهو الذي جاء في الحديث المرفوع, وذلك قوله: «من شاء أن يسمع خرير الكوثر فليجعل إصبعيه في أذنيه».

وتداول: بالرفع على حذف التاء التي في قولك: تتداول, والمحذوف عند سيبويه التاء الثانية؛ لأن الأولى علامة المضارع, فلا يحسن حذفها. وقال غيره: المحذوف التاء الأولى, وقال بعض (78/ب) الكوفيين يجوز أن تكون المحذوفة الأولى والآخرة. وقد ذكروا أن التاء تحذف مع الياء, وروي أن بعض القراء قرأ: {كأنها كوكب دري يوقد من شجرة}؛ أي: يتوقد, وهذا مستنكر, وقد رووا بيت أبي خراشٍ الهذلي: [الطويل] وكاد أخو الوجعاء لولا خويلد ... يفرعني بسيفه غير قاصد أي يتفرعني, ولو روي تداول, بفتح اللام, على أنه ماضٍ لكان ذلك حسنًا. وقوله: إذا الفضل لم يرفعك عن شكر ناقصٍ ... على هبةٍ فالفضل فيمن له الشكر هذا البيت كأنه خطاب لغير الشاعر, وقد يجوز أن يعني به نفسه؛ لأن هذه صفة حالة, يقول إذا كان الإنسان فاضلًا ولم يرفعه فضله عن أن يشكر أخا النقص على هبةٍ فالفضل هو للمشكور, وقد ذهب فضل الفاضل. وكان أبو الفتح بن جني - رحمه الله - يذهب إلى أن المعنى له أن الفضل للشاكر, والأول أشبه. وقوله: ومن ينفق الساعات في جمع ماله ... مخافة فقرٍ فالذي فعل الفقر هذاا لبيت يدل على أن قوله: فالفضل فيمن له الشكر مراد به المشكور؛ لأن البيت الثاني ذم لمن ينفق الساعات مخافة الفقر, وإخبار أن فعله ذلك هو الفقر الأعظم. وقوله: علي لأهل الجور كل طمرةٍ ... عليها غلام ملء حيزومه غمر الطمرة: الفرس التي تطمر؛ أي: تثب, وهي أنثى الطمر. وقال بعضهم: الطمر المشمر

الخلق, وذلك راجع إلى معنى الوثب؛ لأن تشمير خلقه يدل على ذلك. والحيزوم: الصدر, وقيل: بل هو ما دونه. والحزيم مثل الحيزوم, ويقال: شد للأمر حزيمه وحيازيمه. قال أحيحة ابن الجلاح: [الهزج] ألا أبلغ سهيلًا أنـ ... ـني ماعشت كافيكا حيازيمك للموت ... فإن الموت آتيكا وقال آخر: [الوافر] وداهيةٍ يهال الناس منها ... بني بكرٍ شددت لها حزيمي وقولهم: شد حزامه قريب من هذا المعنى أو مثله, قال امرؤ القيس: [الكامل] أقصر إليك من الوعيد فإنني ... مما ألاقي لا أشد حزامي أي أنا متعود للقاء الحروب فلا أفتقر إلى شد الحزام؛ لأنه لا يزال عندي مشدودًا. ويجوز أن يكون الحزام هاهنا ما يحتزم به المحارب, أو حزام فرسه. والغمر والخمر: الحقد. وقوله: وكم من جبالٍ جبت تشهد أنني الجبال ... وبحرٍ شاهدٍ أنني البحر

هذا من الدعوى التي تقدم ذكرها, وهي من المبالغة التي تستحسنها الشعراء. وفي هذا البيت إدماج, وهو لقب موضوع يعنون به أن تكون لام التعريف في النصف الأول, والمعرف في النصف الثاني, والتنصيف على سبعة أضربٍ. تنصيف البيان: وهو أن يتم المعنى في النصف الأول, ويجيء النصف الآخر كالمبين له والشارح, كقول الفرزدق: [الطويل] قوارص تأتيني ويحتقرونها فهذا كلام تام ثم قال: وقد يملأ القطر الإناء فيفعم أي: أن القوارص تجيء قليلًا بعد قليلٍ, فتجتمع حتى تحدث الغضب والعداوة, كما أن القطر يقع شيئًا بعد شيءٍ فيمتلئ منه الإناء. وبعض الناس يروي: وقد يملأ القطر الأتي؛ أي: مجرى السيل. والتنصيف التام: وهو الذي يكمل معناه, ولو سكت عنه لاكتفى به كقول أبي ذؤيب: [الكامل] أودى بني وأعقبوني حسرةً فهذا كلام تام. والتنصيف المحتاج وهو الذي لا يكمل معناه إلا بما بعده, كقوله: [الكامل] والدهر لا يبقى على حدثانه فهذا كلام يحتاج على تمام, وذلك قوله: جون السراة له جدائد أربع وتنصيف الاقتضاء: وهو أن يكون في النصف الأول حرف قد جرت العادة بأن لا يسكت عليه, كقد, أو الذي, أو نحو ذلك, كقول القطامي: [البسيط]

حتى وردن ركيات العوير وقد ... كاد الملاء من الكتان يشتعل وكالبيت المنسوب إلى أخت جساسٍ: [الرمل] يابنة الأقوام إن لمت فلا ... تعجلي باللوم حتى تسألي وتنصيف الإدماج: وهو الذي بدئ به, وجيء كثيرًا في الأوزان الخفاف ويقل في الأوزان الطوال ومما جاء منه, فيما طال على اختلاف فيه قول حميد بن ثور: [الطويل] ينام بإحدى مقلتيه ويتقي ... بأخرى المنايا فهو يقظان هاجع فهذا لا إدماج فيه, ومنهم من يروي: ويتقي المنايا بأخرى؛ فهذا مدمج. ويروى لعبيد بن الأبرص شعر عدده ثمانية عشر بيتًا كلها مدمجة إلا بيتًا واحدًا؛ وذلك قوله: [الرمل] يا خليلي اربعا واستخبرا الـ ... منزل الدارس من أهل الحلال مثل سحق البرد عفى بعدك الـ ... قطر مغناه وتأويب الشمال ولقد يغني به جيرانك الـ ... ـبين والأيام حال بعد حال واستمر على ذلك في الأبيات كلها إلا في بيتٍ واحدٍ, وهو قوله: [الرمل] فانتزعنا الحارث الأعرج في ... حجفل كالليل خطار العوالي (79/أ) وهذا تنصيف اقتضاء؛ لأن (في) لا يوقف عليها إلا عند انقطاع النفس.

وتنصيف الاقتطاع: وهو أن يكون بعض الكلمة في النصف الأول, وبعضها في النصف الثاني, وإنما يستعملون ذلك فيما خف من الأوزان كقول الحارث بن حلزة: [الخفيف] غير أني قد أستعين على الهو ... ل إذا خف بالثوي النجاء بزفوفٍ كأنها هقلة أم ... م رئالٍ دوية سقفاء آنست نبأةً وأفزعها القنـ ... ناص عصرًا وقد دنا الإمساء فهذه الأبيات توالى فيها الاقتطاع. وتنصيف السكت: وهو أن تكون في أول النصف الثاني همزة الوصل فيختار أن يوقف على آخر النصف الأول, كقول الشاعر: [الكامل] إذ لا يبادر في الشتاء وليدنا ... القدر ينزلها بغير جعال وقول الآخر: [السريع] لا نسب اليوم ولا حرمةً ... إتسع الخرق على الراقع وقوله: وخرقٍ مكان العيس منه مكاننا ... من العيس فيه واسط الكور والظهر الخرق: الأرض الواسعة, قيل: لأن الريح تتخرق فيها, أو لأنها تنخرق إلى أرض غيرها. وقوله: مكان العيس منه مكاننا؛ أي: العيس في وسطه ونحن في أوساط العيس, ثم فسر مكانه ومكان أصحابه بقوله: واسط الكور والظهر. والكور: الرحل بأداته, وهو هاهنا

شائع في الجنس, وكذلك الظهر؛ لأنه لو لم يكن كذلك لكان القائل كالذي زعم أنه وأصحابه على واسط كور واحدٍ, وظهر مطيةٍ واحدةٍ. وقوله: يخدن بنا في جوزه فكأننا ... على كرةٍ أو أرضه معنا سفر الكرة: من شأنها التدوير, فإذا مشت عليها ذرة أو نحوها كان مسيرها متصلًا كأنها لا نهاية لها, وإنما وصف طول مسافة هذه الأرض, وأنهم لا يفنونها بالسير, فكأنهم على كرة أو كأن هذه الأرض تسافر معهم, فلا يصلون إلى فنائها بالسير. وقوله: أو ابن ابنه الباقي علي بن أحمدٍ ... يجود به لو لم أجز ويدي صفر الهاء في ابنه راجعة على عامرٍ, وهو جد الممدوح المذكور في البيت, الذي قبل هذا البيت. والهاء في قوله: يجود به راجعة على الغيث الذي ذكره في قوله: وغيثٍ ظننا تحته أن عامرًا ... علا لم يمت أو في السحاب له قبر يقول: ظننا أن عامرًا لم يمت, أو هو مقبور في السحاب, أو ابن ابن يجود بهذا الغيث, وجعل ظنه مبطلًا بقوله: لو لم أجز ويدي صفر؛ أي: لو كان هذا الظن صحيحًا لامتلأت يدي بالعطاء. وقوله: قران تلاقى الصلت فيه وعامر ... كما يتلاقى الهندواني والنصر يجب أن يكون الصلت جد هذا الممدوح لأمه. والقران يحتمل أن يكون من مقارنة الآدميين, ومن مقارنة الكواكب, أي: ولد هذا الممدوح في قرانٍ أوجب له سعدًا.

وقوله: فجاءا به صلت الجبين معظمًا ... ترى الناس قلا حوله وهم كثر الجبين الصلت: النقي, شبه بالسيف الصلت, الذي قد جرد من غمده. وقالواة: صلت في الأمور إذا مضى مضاءً سريعًا, ومنه قالوا: صلتان؛ أي: ماضٍ في الأمور كأنه سيف أصلت, والقل: القليل, قال الشاعر: قد يقصر القل الفتى دون همه ... وقد كان لولا القل طلاع أنجد يقول: إذا كثر الناس حول هذا الممدوح قلوا في نفوس الناس وعيونهم. وقوله: مفدى بآباء الرجال سميدعًا ... هو الكرم المد الذي ماله جزر مفدى بآباء الرجال؛ أي: يقال له: فداك أبي. والسميدع: يقال: هو الشجاع السخي. وحكي عن المنتجع بن نبهان الكلابي أنه سئل عن السميدع, فقال: هو السيد الموطأ الأكناف, كأنه أراد بتوطئة أكنافه أنه حليم. والمد: من قولهم: مد النهر إذا زاد, والجز: ضده, فأما الجزيرة فإنما سميت بذلك لأن الماء جزر عنها ولم يعل عليها كما هو حولها. وقوله: وأستكبر الأخبار قبل لقائه ... فلما التقينا صغر الخبر الخبر الخبر: هاهنا الذي يخبرك به غيرك, كما قال الفزاري: [الكامل] خبر أتاني عن عيينة أنه ... عانٍ عليه تظاهر الأقياد

والخبر: الذي يكون بعد ابتلاء وتكشيف, فالخبر يجوز عليه الصدق والكذب. والخبر قد استقر إما على حمدٍ, وإما على ذم؛ لأن الخابر قد عرف ما المخبور عليه, وذكر ابن السكيت أن الخبر والخبر بمعنى مثل السكر (79/ب) والسكر, ويجب أن يكون أراد به الخبر, الذي هو بعد التجربة؛ لأن الخبر من الأخبار, ويدل على ذلك قول الشاعر: [البسيط] لا تحمدن امرأً حتى تجربه ... ولا تذمن من لم يبله الخبر وهذا ضد قولهم: «أن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» وضد قول الآخر: [الوافر] تقول الحنظلية إذ رأتني ... رأيت مقرنًا دون المغيب أي: دون ما كان يوصف, وهو غائب. وقوله: إليك طعنا في مدى كل صفصفٍ ... بكل وآةٍ كل ما لقيت نحر استعار الطعن من الرماح للنوق, وجعل المدى كالمطعون. والصفصف: أرض واسعة صلبة, وربما كان فيها رمل رقيق. والوآة: أنثى الوأى, وأكثر ما يستعمل الوأى في الخيل وحمير الوحش, فربما قيل: الوأى: الطويل, وقيل: هو الصلب الشديد, وقيل المقتدر الخلق. والذي يدل عليه الاشتقاق أنه من قولهم: وأيت إذا وعدت, وقيل: الوأي: ضمان العدة فكأن الوأى يعد من يراه أنه إذا افتقر إلى جريه وجده مرضيًا. ولما استعار الطعن في أول البيت, وجعل الوآة كالقناة صير كل ما لقيت نحرًا؛ لأن الطعنة إذا وقعت في ذلك الموضع كانت أقتل منها في غيره؛ أي أنها تنفذ في هذا المدى كما ينفذ السنان في المطعون فيبلغ الطاعن مراده بذلك. وقوله: إذا ورمت من لسعةٍ مرحت لها ... كأن نوالًا صر في جلدها النبر

النبر: دويبة أصغر من القراد يلسع فيحبط موضع لسعته, وجمعه أنبار, قال الراجز: كأنها من بدنٍ وإيقار ... دبت عليها ذربات الأنبار يقول: هذه الوآة إذا لسعها النبر مرحت لذلك, كأنها تفرح, وكأن الورم الذي يحدث فيها نوال صره في جلدها اللاسع. وقوله: فجئناك دون الشمس والبدر في النوى ... ودونك في أحوالك الشمس والبدر يقول: الذي بيننا وبينك من البعد دون ما بيننا وبين الشمس والبدر؛ لأنا نستطيع لقاءك ولا نبلغ إليهما بالمسير, وهما دونك في أحوالهما من الشرف والإنارة. ودون: من الكلمات المستعملات ظروفًا. وزعم سيبويه أنها لا ترفع, ثم عرض في كتابه شيء يقال: إنه ليس من الكتاب, وذلك أنه لما ضعف الرفع في دون أنشد بيتين, دون فيهما مرفوعة: أحدهما قد سقط من أوله شيء وهو: [الطويل] .... يحسر الآل مرة ... فتبدو وأخرى يغرق الطرف دونها والساقط في هذا البيت أكثر ما يكون عشرة أحرف وأقل ما يكون سبعةً. والآخر ينسب إلى ذي الرمة وهو: [الطويل] وبيداء يحمي دونها ما وراءها ... ولا يختطيها الدهر إلا المخاطر ودون: كلمة قد اتسع فيها, واستعملت ظرفًا وغير ظرف, فقالوا: فلان دون؛ أي: ليس برفيعٍ, وهو يرضى بالدون؛ أي: بالشيء الخسيس, قال الشاعر: [المتقارب] إذا ما علا المرء رام العلاء ... ويقنع بالدون من كان دونا

ويروى لجذيمة الأبرش: [الخفيف] خبريني وأنت لا تكذبيني ... أبلص زنيت أم بهجين أم بعبدٍ وأنت أهل لعبدٍ ... أم بدونٍ وأنت أهل لدون وهذا يدل على أن الرفع يجوز في دون إذا أجريت مجرى خلف وأمام. وأما قول الحنفي: [الطويل] ألم تريا أني حميت حقيقتي ... وباشرت حد الموت والموت دونها وجدت بنفسٍ لا يجاد بمثلها ... وقلت اطمئني حين ساءت ظنونها فالناس يروونه برفع دون, وليس ذلك ببعيدٍ؛ أي: والموت صغير هذه الخطة. فإن رواه راوٍ بالنصب فهو نحو من الإقواء. وقد روي عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يروي في قصيدة الأعشى التي أولها قوله: [الكامل] رحلت سمية غدوةً أجمالها قوله: هذا النهار بدا لها من همه ... ما بالها بالليل زال زوالها فيرفع زوالها, واللام في القصيدة كلها مفتوحة. وفي شعر عمران الخارجي قصيدة على الميم فيها مواضع كثيرة مضمومة الميم, ومواضع مفتوحة وأولها: [مجزوء الكامل] الحمد لله الذي ... يعفو ويشتد انتقامه

وفيها: فهناك مجزأة بن ثو ... رٍ كان أشجع من أسمه وقوله: كأنك برد الماء لا عيش دونه ... ولو كنت برد الماء لم يكن العشر العشر: أقصى أظماء الإبل, فهو أن ترد يومًا وترعى ثمانية, ثم ترد في اليوم العاشر, قال ذو الرمة: [الطويل] حنين اللقاح الخور حرق ناره ... بغولان حوضى فوق أكبادها العشر غولان: ضرب من الحمض. وحوضى: موضع. يقول: لو كنت أيها الممدوح برد الماء لم تصبر الإبل عنه عشرًا؛ لأنها لا تستطيع الصبر عنه. وقوله: وما قلت من شعر تكاد بيوته ... إذا كتبت يبيض من نورها الحبر بعض الناس يحكي أنه قال: وما قلت؛ لأن الممدوح كان يشعر ثم جعله لنفسه. والحبر: يجوز أن يكون أخذ (80/أ) من قولهم: هو حسن الحبر؛ أي: الهيئة؛ أي: هذا الشيء يحسن الكتاب. ويحتمل أن يكون من قولهم: الحبر في معنى الأثر؛ أي: هذا أثر لأهل العلم, قال الشاعر في أن الحبر الأثر: [الطويل] لقد أشمتت بي أهل فيدٍ وغادرت ... بجلدي حبرًا بنت مصان باديا وقوله: كأن المعاني في فصاحة لفظها ... نجوم الثريا أو خلائقي الزهر

ومن التي أولها

الذي يحكون أنه قال: وما قلت على خطاب الممدوح يرون أنه قال: خلائقك الزهر, وذلك جدير بأن يكون. وقوله: لساني وعيني والفؤاد وهمتي ... أود اللواتي ذا اسمها منك والشطر الأود: يحتمل أن يكون واحدها, ود, وود, وود؛ لأنهم يقولون: فلان ودي وودي وودي كأنهم وصفوه بالمصدر قال النابغة: [البسيط] إني كأني لدى النعمان خبره ... بعض الأود حديثًا غير مكذوب يقول: لساني مواد لسانك, وكذلك فؤادي مواد فؤادك, والعين والهمة كذلك. وقال: ذا اسمها, ولولا الوزن لوجب أن يقول هذه أسماؤها, ولكنه محمول على قولة: اللواتي ذا لفظها. والشطر: النصف؛ أي: أن هذه المذكورة مني كأنها مشاطرة المسميات بها من خلقك وخلقك. ومن التي أولها حاشى الرقيب فخانته ضمائره ... وغيض الدمع فانهلت بوادره وهي من أول البسيط. حاشى: من المحاشاة, وهي أن يظهر للرجل غير ما في نفسه. وفي (حاشى) ضمير يرجع إلى المحب. وحسن ذلك لعلم السامع بالمراد. والهاء في ضمائره عائدة على المحب, وغيض الدمع مأخوذ من غاض الماء إذا غاب في الأرض. قال جرير: [الكامل] غيضن من عبراتهن وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا يقول: حاشى المحب رقيبه فخانته ضمائره؛ لأنه لم يستطع أن يكتم ما به لما انهل دمعه.

وقوله: لولا ظباء عدي ما شقيت بهم ... ولا بربرهم لولا جآذره قد كثر كناية العرب بالظباء عن النساء, وأصل ذلك التشبيه, ثم حذفت الآلة. والربرب القطيع من بقر الوحش. وجآذره أولاده, والواحد جؤذر وجؤذر, ويقال: إن أصله ليس بعربي فأما تردده في الشعر فكثير, قال ذو الرمة: [الطويل] وتحت العوالي والظبا مستظلةً ... ظباء أعارتها العيون الجآذر وقال ابن أبي ربيعة: [الطويل] وترنو بعينيها إلى كما رنا ... إلى ظبيةٍ وسط الخميلة جؤذر وقوله: من كل أحور في أنيابه شنب ... خمر مخامرها مسك تخامره أصل الحور: البياض. ومن ذلك اشتق الحوارى من الطعام, وقيل لنساء الأنصار: حواريات لبياضهن. وقيل للقصارين حواريون؛ لأنهم يحورون الثياب أي يبيضونها. وقال بعض المتقدمين الحور: نقاء بياض العين وشدة سواد سوادها. وقال بعضهم: الحور لا يكون في بني آدم, وإنما يكون في الوحوش, وهو أن تكون العين كلها سوداء, وإنما وصفت النساء بذلك على التشبيه والمبالغة. وقال قوم: الحور سعة العين وعظم المقلة. ومخامرها؛ أي: مخالطها. ومسك يجوز أن يكون رفعًا بفعله وهو مخامرته إياها, ويجوز أن يكون مخامرها ابتداءً, ومسك خبره. وقوله: نعجٍ محاجره دعجٍ نواظره ... حمرٍ غفائره سودٍ غدائره النعج بياض يضرب إلى الحمرة, قال ذو الرمة: [البسيط] بيضاء في دعجٍ صفراء في نعجٍ ... كأنها فضة قد مسها ذهب

والمحاجر: جمع محجرٍ, وهو ما حول العين. والدعج: جمع أدعج يستعمل في الليل والشعر والعين. والغفائر: جمع غفارةٍ, وهو شيء توقي به المرأة خمارها من الدهن, وإنما أخذ من الغفارة, وهي سحابة دون السحابة العليا, قال ذو الرمة: [الطويل] سقى دارها مستمطر ذو غفارةٍ ... أحم تجرى منشأ العين رائح وقوله: في فيلقٍ من حديدٍ لو قذفت به ... صرف الزمان لما دارت دوائره الفيلق: إذا أريد به العسكر ذكر, وإذا أريد به الكتيبة أنث, ولكن التذكير به أشبه, قال الأعشى: [السريع] في فيلقٍ جاؤوا بملمومةٍ ... تعصف بالدارع والحاسر فيحتمل أن يكون قولهم: فيلق من أنه يفلق الصخر إذا مر به, أو يفلق رؤوس الأعداء, ولا يمتنع أن يكون من الفلق الذي هو الداهية, وإنما سميت الداهية فلقًا؛ لأنها تفلق ما مرت به, فالأصل في هذا كله واحد. وقوله: تمضي المواكب والأبصار شاخصة ... منها إلى الملك الميمون طائره كانت العرب تتيمن بالطير تارة, وتتشاءم بها أخرى, وقد مر ذلك في السانح والبارح. والظاهر من كلامهم أنهم كانوا يتيمنون بما يجيء عن اليمين, ويتشاءمون بما يجيء عن الشمال, قال الشاعر: (80/ب) [الطويل] وهون وجدي أنني لم أكن له ... كطير الشمال ينتفق الريش حاتما فإذا قالوا: فلان ميمون الطائر أرادوا أنه مبارك تأتي من قبله المنافع. وقال الطرماح: [الطويل]

وحي حلالٍ قد هنأنا جربةٍ ... ومرت عليهم طيرنا بأيامن هنأنا: أعطينا. وجربة: جماعة. وقوله: حلو خلائقه شوس حقائقه ... يحصى الحصى قبل أن تحصى مآثره أصل الشوس في العين, وهو أن يضيق الرجل أجفانه من الغضب, وقيل: هو الذي ينظر في شق مع تضييق الأجفان, وربما قيل: الأشوس المتكبر, قال ذو الإصبع العدواني: [مجزوء الكامل] لو كنت ماءً لم تكن ... عذب المذاق ولا مسوسا أأن رأيت بني أبيـ ... ـك محمجين إلي شوسا محمجين: مغضبين, وقال الأنصاري: [الكامل] قد كنت أشوس في المقامة سادرًا ... فنظرت قصدي واستقام الأخدع والمآثر: جمع مأثرةٍ, ومأثرة, وهي المكرمة التي تؤثر؛ أي: تروى, ويبقي لها أثر من قولهم: أثرت الحديث آثره. وقوله: إذا تغلغل فكر المرء في طرقٍ ... من مجده غرقت فيه خواطره تغلغل في الشيء: إذا دخل فيه, ومنه قولهم للرسالة: مغلغلة؛ أي: إنها تدخل بين القوم, قال زهير:

أبلغ لديك بني كعبٍ مغلغلةً ... أن يسارًا أتانا غير مغلول وقيل للقصيدة التي تنفذ إلى الممدوح: مغلغلة؛ أي: كأنها رسالة. قال المسب بن علس: [الكامل] فلأهدين مع الرياح قصيدةً ... مني مغلغلةً إلى القعقاع وقوله: تحمى السيوف على أعدائه معه ... كأنهن بنوه أو عشائره يقال: حمي أنفه يحمى إذا أنف وغضب, وهو من الحمية, وأصل حمي وحمى واحد, ولكن فرق بينهما في اللفظ, وكأن قولهم: حمي أنفه من قولهم: حميت النار, وحميت الحرب. فأما قول القطامي: [البسيط] محميةً وحفاظًا إنها شيم ... كانت لقومي عاداتٍ من العادٍ فيحتمل أن يكون من (حميت أحمي) , وهو أولى به, ولا يمتنع أن يكون من (حميت أحمي)؛ لأنه قد قالوا: محمدة فكسروا, وهو من حمد يحمد. وقولهك تركن هام بني بحرٍ وثعلبةٍ ... على رؤوسٍ بلا ناسٍ مغافره الهاء في مغافره راجعة على هام بني بحرٍ, والمغافر: جمع مغفر, وهي كمة من الزرد تكون على رأس الفارس, وقد جعل الراجز ما يستر الشمس من الغيم مغفرًا, وإنما هو مأخوذ من (غفرت الشيء) إذا غطيته, قال: جاء الشتاء واربأل القبر وطلعت شمس عليها مغفر وجعلت عين الشمال تشكر

ولما كانت الجسوم معظم الناس, والرؤوس أقل منها شخوصًا استحسن أن يقول: على رؤوس بلا ناسٍ, ولولا الوزن لكان الواجب أن يقول بلا جسوم, أو بلا أجسامٍ. وقوله: حتى انتهى الفرس الجاري وما وقعت ... في الأرض من جيف القتلى حوافره الجيف: جمع جيفةٍ, وهي من ذوات الواو, كأنها مأخوذة من (جافه يجوفه) إذا أصاب جوفه, ولأن ما قتل أو مات وترك لم يوار فلا بد لباطنه أن يظهر, وقالوا في الجمع: جيف, فلم يردوا الحرف إلى أصله, كما قالوا: ديمة وديم وهي من (دام يدوم). فأما ما حيلة فقد قالوا في جمعها: حيل وحول, قال الراجز: إنا إذا ما أعيت القوم الحول ... ننسل في ظلمة ليلٍ ودغل ننسل؛ أي: نعدو, وسميت حوافر الفرس بهذا الاسم؛ لأنها تحفر الأرض, وقالوا في الكلام القديم: «النقد عند الحافر»؛ وذكروا أن أصل ذلك مستعمل في بيع الخيل؛ أي: إن الفرس إذا بيع وجب أن ينقد ثمنه بلا تأخير, وقالوا: النقد عند الحافرة؛ أي: عند أول كلمةٍ, فأما الحافرة في كتاب الله سبحانه فقيل: إنها مراد بها الأرض؛ لأنها يحفر فيها, كما قالوا عيشة راضية؛ أي: فيها رضًى, وهي ذات رضًى. وليل نائم؛ أي: ينام فيه, وقيل: الحافرة: القبر, ويحتملأن يكونوا قالوا للقبر حافرة أي حفر الحافرة يعنون الجماعة التي تحفره, أو الصورة التي تلي ذلك, ويكون من باب حذفهم المضاف. وقالوا: «رجع فلان على حافرته» أي: على الطريق الذي جاء فيه, و «رجع الشيخ على حافرته» إذا نكس في الخلق, وأنشد ابن السكيت: [الوافر]

(81/أ) ... أحافرةً على صلعٍ وشيبٍ ... معاذ الله من سفهٍ وعار وقوله: كم من دمٍ رويت منه أسنته ... ومهجةٍ ولغت فيها بواتره يقال: ولغ الذئب والكلب في الإناء. والمعروف: ولغ يلغ, وحكى ابن درستويه في شرح الفصيح, ولغ, بكسر اللام, وقالوا: غزو كولغ الذئب؛ أي: سريع, قال الشاعر: [الكامل] لا در در بني كنانة إن هم ... لم يجشموا غزوًا كولغ الذيب فأما قول أبي زبيد: تذب عنه كف بها رمق ... طيرًا حكين الزوار للعرس عما قليلٍ علون جثته ... فهن من والغٍ ومنتهس فزعم قوم أنه لا شيء من الطير يلغ إلا الذباب, ويجوز أن يكون أبو زبيدٍ استعار الولوغ للطير. فأما ولغ الذباب فقد جاء في الحديث المأثور.

ومن أبيات أوله

وقوله: لا يجبر الناس عظمًا أنت كاسره ... ولا يهيضون عظمًا أنت جابره أصل الهيض: أن يكون في إعنات عظمٍ قد جبر, هكذا أكثر ما يجيء, ثم استعاروا ذلك في صلاح الحال, ثم فسادها. وفي حديث عمر بن عبد العزيز: «فهاضه ذلك إلى ما به» فلم يكن هناك عظم جبر, وإنما أريد أنه كالذي نكس في المرض, وربما جاء: هاضة في معنى كسره وإن يكن ذلك متقدمًا. ومن أبيات أوله بقية قومٍ آذنوا ببوار ... وأنضاء أسفارٍ كشرب عقار وهي من ثالث الطويل. البوار: الهلاك. ومنه: بارت السوق تبور إذا انقطع بيعها, وقالوا: رجل بور, وقوم بور؛ أي: فاسد هالك, وفاسدون هالكون, والجمع والواحد سواء. وفي الكتاب الكريم: {قومًا بورًا}. وروى عطاء بن أبي رباح, عن ابن عباس أن معنى قوله: بورًا: عميًا .. وليس هذا ببعيدٍ من القول الأول إذ كان عماهم مؤديًا إلى الهلاك والفساد, وقال ابن الزبعري: [الخفيف] يا رسول المليك إن لساني ... راتق ما فتقت إذ أنا بور فالذين ذهبوا إلى أن الفلك إذا أريد به الجمع يكون جمع فلكٍ إذا أريد به الواحد يحتمل مذهبهم أن يكون بور في الجمع واحده بور إذا كان موحدًا, وإنما ذهبوا إلى أن فلكًا مؤاخٍ لفعلٍ, وجرت العادة أن يجيء في الحرف الواحد هاتان اللغتان؛ كما قالوا: سقم

وسقم, ورشد ورشد, فلما قالوا: أسد وأسد أجازواة أن يكون فلك جمعًا لفلكٍ؛ إذ عني به الواحد كأنهم قدروا أنه يقال: فلك وفلك, وإن لم يستعمل ذلك. وقوله: ولا تنكرا عصف الرياح فإنها ... قرى كل ضيفٍ بات عند سوار رواية أهل الشام سوار, بكسر السين, يعنون به اسم رجل كان واليًا لبعلبك, وإنما سمي بالسوار من الحلي, وفيه لغات: سوار, وسوار, وإسوار, وأسوار, وعندهم أنه معرب, وقد جاء في الشعر الفصيح, قال الشاعر: [الطويل] ألا طرقتنا في الظلام نوار ... فتاة عليها دملج وسوار ومن أمثالهم: «لو ذات سوارٍ لطمتني»؛ أي: لو أن الكف اللاطمتي كانت ذات سوارٍ لهان ذلك علي. يقول ذلك إذا أسدى إليه سوءًا من هو خامل خسيس, قال الراجز: [الرجز] والله لولا صبية صغار ... كأنما وجوههم أقمار تضمهم من العتيك دار ... أخاف أن يمسهم إقتار أو جارة تلطمهم أو جار ... أو لا طم بكفه إسوار لما رآني ملك جبار ... ببابه ما وضح النهار فأما الإسوار من أساورة الفرس فيراد به الرامي, ويقال: إنه سمي بذلك؛ لأن الأساورة كان من عادتهم أن يلبسوا الأسورة من الذهب. وفي الكتاب العزيز: {فلولا ألقي عليه أسورة من ذهبٍ}. فيجوز أن يكون جمع إسوارٍ, ودخلت الهاء بدلًا من الياء التي

وفي ديوان أبي الطيب هذا البيت فاردا

كانت في أساوير, ويجوز أن يكون جمع أسورة, ويحتمل أن يكون سوار اسم الرجل: مصدر قولهم ساوره سوارًا؛ أي: واثبه. وبعض البغداديين يروي: سوارٍ, بفتح السين, يريد جمع ساريةٍ من سواري المسجد, وحسن ذلك عندهم أن ذكر المسجد تقدم, والمعنى صحيح. وفي ديوان أبي الطيب هذا البيت فاردًا: إذا لم تجد ما يبتر الفقر قاعدًا ... فقم واطلب الشيء الذي يبتر العمرا وهي من أول الطويل. أصل القعود والقيام في الهيئتين المعروفتين, ثم قالوا: قعد الرجل عن نصر القوم إذا لم ينهض معهم, وكذلك قعد عن التكسب, وهو مستعار من القعود المعروف. وروى التوزي عن أبي عبيدة (81/ب) أن قعد من الأضداد. يكون في معنى الجلوس والقيام, وإنما ذلك منقول عن أصله, فلا تضاد بين الكلمتين؛ لأنهم يقولون: قعد على الملك فلان إذا تولاه, ولو قالوا: قام بالملك في هذا الموضع لاحتمل. ويوجه في أشعار المتقدمين البيت, لا ثاني له, فمن ذلك قول حاتمٍ: وإنا لنجفو الضيف من غير عسرةٍ ... مخافة أن يضرى بنا فيعود يعني بالضيف الأسد. وقول النابغة: [المتقارب] أيقظان زبان أم حالم ... فهب فقد حين بالحالم

ومن أبيات أولها

وقوله: وإني لمسلاس القيد إلى التي ... تخاف إذا كان امرؤ السوء أوجرا وقيل: لأبي الطيب, وقد ذكر الحرب نخاف عليك من مثل قول الشاعر, قال: وما قال؟ قالوا: قال: [الوافر] أخاف عليك من سيفٍ ورمحٍ ... طويل العمر بينهما قصير فأطرق, ثم قال: [الوافر] فإن أغمدت ذا وكسرت هذا ... فإن كثير ما تبقي يسير هذا البيت من الوافر الأول, وهو جواب للبيت الذي تقدمه, ولذلك جاءت الفاء في أوله. ويسير: يستعمل في معنى قليل, وأصله مأخوذ من اليسر الذي هو ضد العسر, واليسار مستعمل في كثرة المال؛ لأنه إذا رزقه الإنسان, تيسرت له الأمور أي جاءت سهلةً عجلةً, فكأن قولهم: يسير للشيء القليل مراد أنه يؤخذ في راحةٍ ولا يحوج إلى التعب. ومن أبيات أولها بسيطة مهلًا سقيت القطارا ... تركت عيون عبيدي حيارى وهي من أول المتقارب. ينبغي أن تفتح الراء في حيارى لتكون مشاكلةً للراء في قوله قطارا فإن أمالها مميل فقد أساء. وسيبويه يزعم أن الألف هي التي تفخم وتمال. والفراء يذكر أن الإمالة للحرف الذي قبل الألف, وقول الفراء أشبه. ومن اعتبر ذلك وجده على ما قال؛ لأن الألف جرس لا يحتمل أن يقع به تغيير. وحيارى: جمع حيرانٍ؛ لأن فعلان يجيء على هذا الجمع كثيرًا مثل سكران وسكارى, ونشوان ونشاوى, وبعض العرب يقول: سكارى, فإن كان ذلك

مردودًا إلى السماع فهو محمول عليه, وإن كان مطردًا فلا يمتنع أن يستعمل في كل الجموع الواردة على هذا النهج, فيقال: حيارى, كما يقال: غيران وغيارى, وقد كثرت فعالى في هذا النحو, قال الضبي: [الطويل] كسالى إذا لاقيتهم غير منطقٍ ... يلهى به المكروب فهو عناء وقوله: فظنوا النعام عليك النخيل ... وظنوا الصوار عليك المنارا يقول: إن عبيده ظنوا بسيطة بلدًا مسكونًا, فلما رأوا النعام على بعد مدًى ظنوا أنه نحيل, وحسبوا أن الصوار وهو القطيع من بقر الوحش منار يهتدى به. يقال: صوار وصوار وصيار, ويقال في الجمع: صيران, قال الشاعر: [البسيط] أشبهن من بقر الخلصاء أعينها ... وهن أحسن من صيرانها صورا يروى: صور وصور, بالكسر والضم. ويقال: إن مرابض بقر الوحش إذا رعت الزهر فاحت لها رائحة ذكية, قال ذو الرمة: [البسيط] إذا استهلت عليها غيبة أرجت ... مرابض العين حتى يأرج الخشب وقال العجاج وذكر الثور الوحشي: [الرجز] كأن ريح بيته المزبور كأنه جعل الثور كمن زبر بيته, مأخوذ من زبر البئر, وهو طيها بالحجارة.

في الظل تحت الهدب اليخضور مثواة عطارين بالعطور أهضامها والمسك والقفور فلما كان الأمر كذلك سموا المسك صوارًا, وينشد: إذا لاح الصوار ذكرت ليلى ... وأذكرها إذا فاح الصوار وقيل: الصوار: القليل من المسك. قال الراجز, أنشده المفضل بن سلمة في «كتاب الطيب»: يابن التي تصيد الوبارا وتتفل العنبر والصوارا وقال بعضهم: الصوار: أن يكف الثوب على مسكٍ, فلا يزال طيب الرائحة إلى أن يخلق, وقالوا في جمعه: أصورة, قال الأعشى: [البسيط] إذا تقوم يضوع المسك أصورةٍ ... والعنبر الورد من أردانها شمل وقوله: فأمسك صحبي بأكوارهم ... وقد قصد الضحك فيهم وجارا

ومن أبيات أولها

الذي أصله النحويون يوجب أن يجوز في الضحك أربعة أوجهٍ: ضحك, وضحك, وضحك. فأما الضحك, بفتح الضاد, وسكون الحاء, فيستعمل في معنى طلع النخل أول ما يبدو, وقيل: إن البلح يسمى ضحكًا, ويقال للعسل الأبيض: ضحك, قال أبو ذؤيب: فجاء بمزحٍ لم ير الناس مثله ... هو الضحك إلا أنه عمل النحل وقد قصد الضحك: أي: قد ضحكوا ضحكًا فيه اقتصاد, ثم أسرفوا في ذلك. ومن أبيات أولها ترك مدحيك كالهجاء لنفسي ... وقليل لك المديح الكثير (82/أ) وهي من الخفيف الأول. المدح من قولهم: انمدحت الأرض إذا اتسعت, فكأن قولهم: مدحت الرجل إذا وسعت أمره. والهجاء من قولهم: هجوت الحرف فأنا هاجٍ, إذا تهجيته, كأنهم يريدون أن الهاجي بالشعر يبين شأن الرجل, ويفصل أمره, كما أن اللفظة إذا عمد لها بالهجاء بانت للقارئ ودل عليها الخط المسطور. وقوله: غير أني تركت مقتضب الشعـ ... ـر لأمرٍ مثلي به معذور أصل الاقتضاب: الاقتطاع, وهو من القضب؛ أي: القطع, ومنه قولهم للسيوف: قواضب. وقالوا: اقتضب الناقة إذا اقتطعها من الإبل, فركبها عن غير رياضة, وهي القضيب, وجمعها قضب, قال الفرزدق أنشده ابن السكيت: [البسيط] إن الطرماح يهجوني لأشتمه ... هيهات هيهات عيلت دونه القضب

والشعراء في هذا العصر يسمون الشعر الذي لا تشبيب له مقتضبا. ويجوز أن يكون أبو الطيب أراد بمقتضب الشعر ما هو مختصر ليس بكثير, أو يكون أراد بالمقتضب ما يقوله على البديه, ولا يروض فيه نفسه. فأما الوزن الذي يسميه الخليل: المقتضب فهو مثل قول القائل: هل علي ويحكما ... إن لهوت من حرج وقوله: فسقى الله من أحب بكفيـ ... ـك وأسقاك أيهذا الأمير إذا وصلت العرب أي في النداء بهذا لم يكن لهم بد من أن يجيئوا باسم فيه الألف واللام فهذا نعت لأي, والذي فيه الألف واللام نعت لهذا, ولا يقولون: يا أيهذا ويسكتون إلا عنده انقطاع نفس. قال ذو الرمة: [الطويل] ألا أيهذا المنزل الدارس الذي ... كأنك لم يعهد بك الحي عاهد وقال آخر: [الطويل] ألا أيهذ الباخع الهم نفسه ... لشيء نحته من يديه المقادر

ومن التي أولها

ومن التي أولها بادٍ هواك صبرت أو لم تصبرا ... وبكاك إن لم يجر دمعك أو جرى وهو من الكامل الأول. قوله: لم تصبرا من الضرورات؛ لأن النون لم تجر عادتها أن تدخل في هذا الموضع إلا عن ضرورةٍ قال الراجز: [الرجز] يحسبه الجاهل ما لم يعلما ... شيخًا على كرسيه معمما وقد أدخلوا هذه النون في أشياء هي من الضرورات, وحذفوها في مواضع, وحذفها قبيح, فمن ذلك البيت المنسوب إلى طرفة: [المنسرح] اضرب عنك الهموم طارقها ... ضربك بالسوط قونس الفرس أراد اضربن. قال الراجز: [الرجز] من أي يومي من الدهر أفر ... أيوم لم يقدر أو يوم قدر أراد لم يقدرن, فحذفت النون وبقيت الحركة. وهذا البيت ذكره المفجع في حد الإعراب, وهو قول الشاعر: [البسيط]

إن ابن الاحوص معروف فبلغه ... في ساعديه إذا رام العلى قصر أراد فبلغنه, ومنهم من يقول فبلغه, بضم الغين, وهذا أقبح من الفتح؛ لأن الغين إنما تضم لأجل ضمة الهاء, والذي يذهب إلى هذا الوجه يحتج بقول الراجز: [الرجز] عجبت والدهر كثير عجبه ... من عنزي سبني لم أضربه ألقى حركة الهاء على الباء, ومثله قول طرفة: [المديد] حابسي ربع وقفت به ... لو أطيع النفس لم أرمه لما كان يقول في الوصل لم أرمه ألقى حركة الهاء على الميم, وهذا يشبه قولهم في الوقف: هذا بكر ومررت ببكر, ومنه الرجز المنسوب إلى جرير بن عبد الله البجلي: أنا جرير كنيتي أبو عمر أجبنًا وغيرةً خلف الستر قد نصر الله وسعد في القصر والبيت الذي أنشده المفجع قد ضمت الغين فيه على غير وقف, إلا أنهم يقولون: أجرى الوصل مجرى الوقف. ويجب أن تفتح الراء في جرى كنحو ما تقدم في حيارى. وقوله: تعس المهارى غير مهري غدا ... بمصورٍ لبس الحرير مصورا

تعس: كلمة تستعمل في الدعاء, وهي دعوة بأن يلقى المدعو عليه عنتًا وشرًا, يقال: تعس يتعس تعسًا, قال الحارث بن حلزة: [الكامل] فله هنالك لا عليه إذا ... دنعت أنوف القوم للتعس وقال الأعشى: بذات لوثٍ عفرناةٍ إذا عثرت ... فالتعس أدنى لها من أن أقول لعا والمهارى: جمع مهري, وهو بعير منسوب إلى مهرة بن حيدان بن عمران بن الحاف بن قضاعة. وقوله: بمصورٍ, أي: بشخصٍ صوره الله سبحانه. وقوله: نافست فيه صورةً في ستره ... لو كنتها لخفيت حتى يظهرا نافست: فاعلت من قولهم: نفست عليه بالشيء إذا بخلت. وهم يتنافسون في الشيء إذا كان كل واحد منهم يريده وينفس به على صاحبه, قال أرطأة بن سهية: [الطويل] نحن بنو عم على ذات بيننا ... زرابي فيها بغضة وتنافس والهاء في قوله: فيه, راجعة على المصور الذي هو الشخص, ولا يمتنع أن يريد بمصور أنه مصور في قلبه ممثل فيه. وهذا البيت فيه مبالغة عظمة يراد بها شدة النحول. والمعنى

أني نفست على هذه الصورة بأن تقرب من ذلك المصور, ولو كنت تلك الصورة لخفيت من نحولي حتى يظهر من قد وارته. ويحتمل أن (82/ب) يكون المراد مقصورًا على صفة نفسه بالنحول, ويجوز أن يضاف إليه إرادته أن يظهر هذا المستور فيراه؛ لأنه قد حجب عنه بالستر. وقوله: لا تترب الأيدي المقيمة فوقه ... كسرى مقام الحاجبين وقيصرا يقول: لا تترب يدك إذا دعي له بأن لا يفتقر, وتربت يداه إذا دعي عليه بالفقر, وأصل ذلك ألا يبقى له مال فلا يجد شيئًا يولع به إلا التراب, ودعا للأيدي التي صورت كسرى وقيصر, وجعلتهما كالحاجبين لهذا الشخص المستور؛ أي: إنه أهل أن يكون هذان الملكان له حاجبين فقد وفقت الأيدي المصورة ذلك, وكأن هذا المعنى ينظر إلى قول الحكمي: بنينا على كسرى سماء مدامةٍ ... مكللةً حافاتها بنجوم يريد أن صورة كسرى كانت في الكأس وهو نحو قوله في الأخرى: قرارتها كسرى وفي جنباتها ... مها تدريه بالقسي الفوارس وقوله: تقيان في أحد الهوادج مقلةً ... رحلت وكان لها فؤادي محجرا إذا روي: تقيان عني بهما الصورتان الممثل بهما كسرى وقيصر, وإن رويت بالياء, فهو أشد مبالغة في وصف الشخص المحجوب؛ لأنه جعل الملكين كأنهما توليا الحجبة لا صورتاهما اللتان لا تحسان. وقوله: فإذا السحاب أخو غراب فراقهم ... جعل الصياح ببينهم أن يمطرا من شأنهم أن يصفوا التفرق والظعن إذا صابت السحب؛ لأنهم يتفرقون لانتجاع الكلأ,

ولا يمكن أن يجتمعوا في موضعٍ واحدٍ, بل يؤم كل قومٍ منهم ناحيةً, فادعى الشاعر أن الغراب كأنه أخو السحاب, وأمطاره جارية صياحه بالبين. وقوله: وإذا الحمائل ما يخدن بنفنقٍ ... إلا شققن عليه ثوبًا أخضرا الحمائل: جمع حولة, وهي الإبل الحاملة, وهذه الهاء تدخل في فعولةٍ إذا كانت في معنى مفعولةٍ, مثل قولهم لما يركب: ركوبة, ولما يحلب: حلوبة, ولما يعلف: علوفة, وهو كثير. والنفنف هاهنا: الأرض الواسعة, ويقولون: نفنف الجو: يعنون ما يتسع منه. قال ذو الرمة يصف فرخ العصفور: [البسيط] وظل للأعيس المزجي نواهضه ... في نفنف الجو تصويب وتصعيد يقول: هذه الحمائل تمر بالنفنف فتطؤه بأخفافها وترعاه, فكأنها تشق عليه ثوبًا أخضر؛ لأنها ترعى النبت فيبين التراب, وكان كأنه كاسٍ بالنبات. وقوله: يحملن مثل الروض إلا أنها ... أسبى مهاةً للقلوب وجؤذرا لما كانت العرب تشبه المرأة بالروضة, وتقول في أشعارها: ما روضة من صفتها كذا بأحسن منها, كما قال قيس بن الخطيم: [المتقارب] فما روضة من ريضا القطا ... كأن المصابيح حوذانها بأحسن منها ولا مزنة ... تكشف بالودق إدجانها جعلوا المرأة بعينها روضةٍ. قال جران العود, وذكر النساء: ولسن بأسواء فمنهن روضة ... تجف الرياض نبتها ما يصوح وأبو طيب لم يأت بالروض إلا على معنى التشبيه؛ لأنه قال: يحملن مثل الروض, ويجوز أن يعني ما عليهن من الملابس وما يجللون به الهوادج من ألوان الثياب, فزعم أنهن

يحملن مثل الروض إلا أن هذه المحمولات أسبى مهاةً وجؤذرًا؛ لأن الروض الذي ترتع فيه الظباء وبقر الوحش لا تشغف بظبائها القلوب, ولا يسبين الرجال. وقوله: فبلحظها نكرت قناتي راحتي ... ضعفًا وأنكر خاتماي الخنصرا يقول: لما بليت بحب هذه المذكورة ضعفت راحتي عن حمل قناتي, فأنكر خاتماي خنصري؛ لأن النحول جعلهما لا يثبتان في الخنصر؛ لأنها دقت عما يحتاجان إليه, وهذا نحو من قول الآخر, أنشده ابن الأعرابي: بحربٍ إذا المرء السمين تلبست ... بأعطافه في الصيف لم يتخيم أي أن إصبعه يقل لحمها فلا يستمسك فيها الخاتم. وقوله: أرجان أيتها الجياد فإنه ... عزمي الذي يذر الوشيخ مكسرا أي: إذا وقعت على المؤنث جاز أن تدخل عليها الهاء, وجاز ألا تدخل, فيقال: أيتها المرأة وأيها المرأة, وكذلك أيتها الجياد وأيها الجياد. والهاء في أنه واقعة على الأمر والشأن. ومثله قوله جل اسمه: {إنه من يأت ربه مجرمًا}. والكوفيون يسمون هذا الضمير المجهول, ويحسن إذا ذكر بعد هذه الهاء مذكر, أن يذكر الضمير, وإذا ذكر بعده مؤنث أن يؤنث, فيقال: إنه (83/أ) جملك جمل ظهير, وإنها ناقتك ناقة ظهيرة, ولو استعمل في كل واحدٍ من الموضعين ما يستعمل في الآخر لجاز على أن يحمل إذا أنث على القصة والكائنة, وإذا ذكر على الخبر والشأن. وقوله: لو كنت أفعل ما اشتهيت فعاله ... ما شق كوكبك العجاج الأكدرا يخاطب الخيل, ويقول: لو كنت أفعل ما تؤثرين من الراحة والدعة لأقمت, ولم أكابد السفر, ولم يشق كوكبك العجاج, واستعار الكوكب للخيل, ويقال لمقدمة الكتيبة كوكب, ويجوز أن يعني بالكوكب نفسه؛ لأنه يفتخر كثيرًا بالحرب, وإيثاره لقاء الأعداء.

وقوله: أمي أبا الفضل المبر أليتي ... لأيممن أجل بحرٍ جوهرا يقال: أبررت القسم: إذا لم تحنث فيه. والألية اليمين, يقال: ألية على مثال فعيلةٍ, وألوة وألوة وإلوة. وقلما يجمعون الألية, وقاسها أن يقال في تكسيرها: ألايا, وإذا قالوا: ألوة فقياس جمعها في التكسير إلاء مثل: قشوةٍ وقشاء. وإذا قيل: ألوة فقياسها ألى مثل: رشوةٍ ورشًى, وإذا قيل إلوة فالقياس إلى مثل: عدوةٍ وعدًى. وبيت ذي الرمة يحتمل الوجهين: قليلًا كتحليل الولى ثم شمرت ... بنا كل فتلاء الذراعين ضامر وقوله: لأيممن أجل بحرٍ جوهرا: يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون قال النصف الأول فتم الكلام, ثم ابتدأ اليمين, فلا يكون للنصف الثاني تعلق بالنصف الأول من قبل موضع الإعراب. والآخر: أن يكون قوله: لأيممن وما بعده: مفسرًا للألية, فيكون موضعه نصبًا على البدل منها, والجوهر الذي يراد به ما يخرج من البحر, وما يجري مجراه في النفاسة, مثل الياقوت والزبرجد, يقال: إنه ليس بعربي, ولو حمل على أنه من كلام العرب لكان الاشتقاق دالًا عليه لأنهم يقولون: فلان جهير؛ أي: حسن الوجه والظاهر, فيكون الجوهر من الجهارة التي يراد بها الحسن, وإلى هذا الوجه يرجع ضد السر؛ لأنه يكشف ويعلم كما تعلم جهارة الوجه. وقد استعملت الجوهر طوائف من المتقدمين والمحدثين في صناعة الكلام. فالمتقدمون يجعلون الشخوص جواهر, ويقولون: العقل هو جوهر بسيط؛ أي: هو لطيف خفي, والمعتزلة يقولون: هو جزء لا يتجزأ, وربما قالوا: ما استبد بصفة التحيز. وقوله: أفتى برؤيته الأنام وحاش لي ... من أن أكون مقصرًا أو مقصرا

يقال: حاشى فلانٍ, وحاشى فلانًا, فإذا جاؤوا باللام أثبتوا الألف تارة, وحذفوها أخرى فقالوا: حاشى لله وحاش لله. وقالوا: حشى في معنى حاشى, وأنشد الفراء: حشا رهط الرسول فإن منهم ... قرابين النبي بني قصي والفرق بين المقصر والمقصر أنهم يقولون: قصر عن الشيء إذا تركه, وهو غير قادرٍ عليه, وأقصر إذا تركه باختياره, ومنه قول زهير: صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله وقال جميل: جميل كبرت وأودى الشباب ... فقلت بثين ألا أقصري أي اتركي هذا الكلام, وإن كنت قادرةً على الإتيان به. وقوله: صغت السوار لأي كف بشرت ... بابن العميد وأي عبد كبرا العميد هاهنا: من قولهم: هو عميد القوم؛ أي: رئيسهم الذي يعتمدون عليه, أو الذي يعمدونه في الأمور, أي يقصدونه. يقول: أي كفٍ بشرتني بلقاء ابن العميد وقربي منه, فإني قد صغت لها سوارًا جزاءً لها علي ما فعلته. وقوله: وأي عبد كبرا, يريد عبدًا من عبيد الله وجعل العبد مستحقًا للتسوير؛ لأنه إذا كبر رفع يده. وقوله: خنثى الفحول من الكماة بصبغه ... ما يلبسون من الحديد معصفرا

خنثى الفحول: أي جعلهم كالمخنثين أو جعل كل واحدٍ منهم كالخنثى. وفعلى: يزعم النحويون أنها لا تستعمل للمذكر. وقولهم: الخنثى: لم يخلص للمذكر ولا للمؤنث إلا أن الكلمة مشتركة بين الحالين, وإنما أخذ المخنث والخنثى من الانخناث؛ أي: الانكسار والضعف. وقد قالوا: امرأة خنث؛ أي: فيها لين وتكسر, وقالوا للوطب إذا ثني فوه إلى الخارج قد خنثه وخنثه. وفي الحديث: «أنه نهى عن اختنات الأسقية» ومنه البيت المعروف: [الوافر] لقيت مخنثًا فلثمت فاه ... فأطيب بالمخنث من لثام ألغزه عن المخنث من الناس. يقول: هذا الممدوح إذا لقيته الفحول من الكماة جعلها كالمخنثين أو كالخناثى؛ لأنها تضعف وتنكسر, ولأنه يصبغ ما لبسته من الدروع وغيرها بالدم؛ فهو كالعصفر, وقد جرت (83/ب) عادة من كان مخنثًا أن يرغب في لباس النساء. وقوله: أنت الوحيد إذا ارتكبت طريقةٍ ... ومن الدريق وقد ركبت غضنفرا الغضنفر: الغليظ الجلد, وهو من صفات الأسد, قال الراجز: [الرجز] وأنا كالضرغامة الغضنفر ... لو أتغدى رجلًا لم أسئر منه سوى كعبرةٍ أو كعبر والكعبرة: العقدة في الرأس؛ أي: إني لا أترك منه إلا شيئًا يسيرًا, وقالوا: لبن غضنفر؛ أي: غليظ خاثر. والنحويون يحكمون على نون غضنفرٍ بالزيادة, وكذلك كل نونٍ وقعت

ساكنة ثالثةً في اسم ليس بجارٍ على فعلٍ؛ لأنهم إذا قالوا: عندل البلبل يعندل فقولهم: معندل ليست النون فيه بالزائدة. والعندلة صوته, وإنما يعنون نون حجنفلٍ, وما كان مثله, ولم يجئ عنهم جمع غضنفرٍ في التكسير, ولو جمعوه لوجب أن يقولوا: غضافر وغضافير, ولو جمع جمع السلامة لقيل: غضنفرات, يقول: أنت أيها الممدوح وحيد إذا ركبت طريقةً؛ لأنك تسلك مسلك لا يقدر عليها سواك. ومن الذي يمكنه أن يكون رديفك إذا ركبت أسدًا. وقوله: قطف الرجال القول وقت نباته ... وقطفت أنت القول لما نورا يقال: قطفت العنب وغيره من الثمار إذا قطعته من شجرته, وهو القطاف والقطاف, قال الشاعر: [المتقارب] أحب أيافت وقت العصار ... وحين قطافٍ لأعنابها وكان بعض الناس يقول في قول الفقعسي: [البسيط]

يا أيها الراكبان السائران معًا ... قولا لسنبس فلتقطف قوافيها هو مأخوذ من قطف الثمرة, فيكون المعنى ليجنوا ثمرة ما اغترسوه, كما يقال: حصد فلان ما زرع, ونور الشجر والنبت إذا ظهر نوره, ويعني بالقول هاهنا ما نظمه من الشعر, وهذا أشبه به. ولا يمتنع أن يصرف ذلك إلى الممدوح يريد أن من قبله من البلغاء قطفوا الكلام قبل أن يزهر ويتم حسنه, وأن هذا المعني أدرك قطافه في أحسن ما يكون. وقوله: ورسائل قطع العداة سحاءها ... فرأوا قنًا وأسنةً وسنورا سحاءة الكتاب مأخوذة من (سحيت الشيء وسحوته) إذا قشرته, ويقولون للواحدة: سحاءة وسحاية. والسنور: يقال: إنه ليس بعربي في الأصل, وزعم بعضهم أن السلاح كله يقال له: سنور, وقيل: بل هو الدروع, وقيل: بل جلود تعمل كهيئة الأدراع, وقد تكلموا به قديمًا وأدخلوا عليه الألف واللام, وإذا فعلوا ذلك فهو عندهم كالعربي, قال المسيب بن علس: [الرجز] كأنهم إذ خرجوا من غضور مستلئمين لابسي السنور نشء سحابٍ صائبٍ كنهور وقوله: فدعاك حسدك الرئيس وأمسكوا ... ودعاك خالقك الرئيس الأكبرا خلفت صفاتك في العيون كلامه ... كالخط يملأ مسمعي من أبصرا أصل الدعاء: النداء, ثم اتسع في هذه الكلمة, فقالوا: دعاه إلى المرأة حسنها؛ أي: جذبه إليها, كأنه ناداه, قال الهذلي: [الطويل]

دعاك إليها مقلتاها وجيدها ... فملت كما مال البعير عن القصد وقالوا: فلان يدعى كذا؛ أي: يسمى؛ لأن التسمية لابد للنداء من أن يقع على الاسم الذي هو به متصلة, وعلى ذلك معنى البيت. وقالوا في قول ابن أحمر: [البسيط] أهوى لها مشقصًا حشرًا فشبرقها ... وكنت أدعو قذاها الإثمد القردا معنى أدعو: أجعل, وليس ذلك بقوي, وإنما المعنى: كنت أسمي قذاها لكرمها علي الإثمد القرد الذي ركب بعضه بعضًا, وإنما قالوا: دعا فلان ربه؛ لأن الداعي قد جرت عادته بأن ينادي باسم الله أو بصفةٍ من صفاته, فيقول: اللهم, ويارب, ويا خالق البشر, ونحو ذلك. يقول: دعاك الناس الرئيس, ولم يزيدوا على هذا المقدار, ودعاك خالقك بأعظم مما دعاك به الناس, فجعلك الرئيس الأكبر, ثم قال: خلفت صفاتك في العيون كلامه؛ أي: أنه لما خلقك علي هذه الصفات المعجزة على أن منزلتك عنده عظيمة لا يصل إليها غيرك, ثم مثل ما قدم في النصف الأول بقوله: كالخط يملأ مسمعي من أبصرا أي: إن الخط إذ ارآه من يقرؤه فكأن مسمعيه قد امتلأا بالكلام الذي قد رآه مكتوبًا, وهذا المعنى مثل قوله في الأخرى: [المنسرح] أغنته عن مسمعيه عيناه وقوله: (84/أ) أرأيت همة ناقتي في ناقةٍ ... نقلت يدًا سرجًا وخفًا مجمرا يدًا سرجًا: أي: سريعةً سهلة السير. والخف يستعمل للإبل والنعام. والمجمر من الخفاف الصلب المجتمع, وكذلك من الحوافر, يقال: حافر مجمر إذا كان ليس بأرح ولا مصطر كأنه يعجب السامع من ناقته وشرف همتها لقوله:

تركت دخان المرث في أوطانها ... طلبًا لقومٍ يوقدون العنبرا أي: إنها كانت في مساكن البدو تشم دخان الرمث, فطلبت دخان العنبر, وسارت إلى القوم الذين يوقدونه, وقد سبقت الشعراء إلى وصف النار بأنها تطعم ما طابت رائحته, قال الشاعر: [مجزوء الرمل] صاح هل أبصرت بالخبـ ... ـتين من أسماء نارا شبها الموقد يذكيـ ... ـها يلنجوجًا وغارًا وقال آخر: أوقدتها بالند والمندل الرطـ ... ـب فتاة يضيق عنها السوار وقوله: وتكرمت ركباتها من مبركٍ ... تقعان فيه وليس مسكًا أذفرا أكثر الرواية: تقعان. وبعض الناس ينشد تحتل فيه, يفرون من قوله: ركبات على الجمع, ثم جعل الفعل لاثنين, وإنما جرت العادة أن يخبر عن الاثنين بخبر الجمع كما جاء في الكتاب الكريم: {قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعضٍ} فأما ردهم الجمع إلى الاثنين فمفقود. ويجوز أن يكون عنى ركبتيها المتقدمتين. والمسك الأذفر: الحديد الرائحة؛ وذلك يستعمل في الطيب وضده, ومنه قول المرأة: [المتقارب] له ذفر كصنان التيو ... س أربى على المسك والغاليه يقول تكرمت هذه الناقة أن تبرك إلا على المسك الأذفر؛ لأنها في محلة ملوكٍ يوقدون العنبر. والذي ادعى من بروكها على المسك الأذفر يوفي على ما ذكره من العنبر الموقد بدرجات؛ إذ كانت الملوك تستعمل مثل هذه الخليقة, ولا يجوز أن تبرك الناقة على مسكٍ إلا أن يشاء الله سبحانه.

وقوله: فأتتك دامية الأظل كأنما ... حذيت قوائمها العقيق الأحمرا يقول: دميت أخفاف هذه الناقة فكأنها حذيت العقيق الأحمر؛ أي: جعل لها حذاءً, وقد استعمل الحذاء في أخفاف الإبل. وفي الحديث: «مالك ولها معها سقاؤها وحذاؤها». يعني ضالة الإبل. والأظل باطن الخف, وإنما سمي بذلك؛ لأنه في ظل دائمٍ. وقد حكي في جمعه ظل مثل أصم وصم, وليس ذلك بمعروفٍ, قال الشاعر: [المديد] وبما أبركها في مناخٍ ... جعجعٍ ينقب فيه الأظل وأظهرت الشعراء التضعيف في الأظل على الضرورة؛ قال الراجز: [الرجز] تشكو الوجى من أظللٍ فأظلل وقال ربعية بن مقرومٍ الضبي: [الكامل] ومطيةٍ ملث الظلام بعثته ... يشكو الكلال إلى دامي الأظلل وقوله: من مبلغ الأعراب أني بعدها ... شاهدت رساطاليس والأسكندرا رسطاليس: اسم أعجمي, والشعراء يتحكمون على الأسماء الأعجمية, ويغيرونها عما هي عليه, فمنها ما يلحق بكلام العرب, ومنها ما تلبث عليه العجمة, فالذي لحق بالعربي مثل قولهم: الديباج والبزبون, ونحو ذلك. والذي بقيت عليه العجمة, مثل: رسطاليس

وأفلاطون وفرعون ومالا تدخل عليه الألف واللام. والذي يقرؤون الكتب القديمة يقولون: رسطاطاليس, وربما حذفوا الياء فقالوا: رسطاطالس, ومنهم من يدخل الهمزة في أوله فيقول: أرسطاطاليس, ومنهم من يجعل الألف واوًا وقد اختصره أبو الطيب وصار ما فعله كالأصل. وقوله: والأسكندرا. يقال: إن رسطاليس كان معلم الأسكندر, فيجوز أن يعني أن الممدوح مثل هذين الرجلين في الحكمة, وفي الملك, كما تقول للرجل إذا وضعته بعلم اللغة والفقه لقيت الأصمعي ومالكًا. وإن كان أبو الطيب لقي ابن العميد بعد انصرافه عن عضد الدولة فلا يمتنع أن يعنيه بالأسكندر؛ لأنه الملك, والأول أشبه. وقوله: وسمعت بطليموس دارس كتبه ... متملكًا مبتديًا متحضرا مرةً ينشد بطليموس, بكسر اللام, وهي مقدمة على الياء وربما أنشدوا بطلميوس, بلام مفتوحةٍ بعدها الميم, وبعد الميم الياء, وذلك كله سهل؛ لأن الاسم الأعجمي لا تحفل العرب بتغييره. وادعى أبو الطيب للممدوح أنه مثل (84/ب) أرسطاليس, وهو صاحب المنطق والمتكلم على السماء والعالم, وأنه مثل بطليموس الذي كان الغاية في علم الهيئة, إلا أن أصحاب النجوم يزعمون أنه كان يقول بالأحكام دالة عليه الكواكب. ويقال: إن أرسطاليس ليس كان يدفع ذلك, فزعم الشاعر أنه سمع بطلميوس في حال درسه كتبه متبديًا متحضرًا؛ لأنه جعل الممدوح في فصاحة البادية, وهومع ذلك من المقيمين في الحضر. وقوله: ولقيت كل الفاضلين كأنما ... رد الإله نفوسهم والأعصرا نسقوا لنا نسق الحساب مقدمًا ... وأتى فذلك إذ أتيت مؤخرا خلص أبو الطيب هذا المعنى من الشبه؛ لأنه قد جاء به هو وغيره في المدح, ولم يكملوا فيه اللفظ, كقوله: [الطويل] ومنزلك الدنيا وأنت الخلائق لأن الخلائق الغالب عليها الذم. وإنما الخير فيها خصائص عند قومٍ أفرادٍ, وكذلك قوله: هدية ما رأيت مهديها ... إلا رأيت العباد في رجل

وفي العباد الفاجر والغادر, ومن هو مستحق للذم. وفي الكتاب العزيز: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم} ولا اختلاف بين أهل المعقول في أن أشرار العالم يوفون على خياره بأضعافٍ في العدة. فلما قال: ورأيت كل الفاضلين تهذب: الغرض من طعن الطاعن؛ لأنه خص الفضلاء دون ذوي العيوب والنقص. وقال: فذلك, وهو فاعل أتى, وجاء به على الحكاية؛ لأن ذلك هو الوجه, وحكى بعضهم أن ذلك ربما عربت كافها في الشعر وأنشدواة في قوافٍ مرفوعةٍ: [الرجز] كيف يكون النوك إلا ذلك وقبل هذا البيت: قد زعم الجاهل أني هالك ... وإنما الهالك ثم التالك مضلل ضاقت به المسالك وتالك إتباع. وقوله: وترى الفضيلة لا ترد فضيلةً ... الشمس تشرق والسحاب كنهورا الرواية الصحيحة ترد بضم الراء, وفي ترد ضمير عائد على الفضيلة الأولى, والثانية منصوبة بوقوع الرد عليها. وهذا من التنصيف المبين؛ لأن قوله: الشمس تشرق والسحاب كنهورا بيان لقوله: وترى الفضيلة لا ترد فضيلةً, وذلك أن الشمس لا تشرق إذا تراكم السحاب, ولأن السحاب لا يمطر إذا أشرقت الشمس فإحدى الفضيلتين رادة للأخرى؛ لأن المنفعة بالشمس عظيمة وكذلك المنفعة بالسحاب, وكان ابن جني - رحمه الله - ينشد:

ترد, بفتح الراء وضم التاء. والكنهور: السحاب المتكاثف, وإنما أخذ من الكهر, وهو غلظ الوجه. والقول يختلف في قول زيد الخيل: [الطويل] ولست بذي كهرورةٍ غير أنني ... إذا طلعت أولى المغيرة أعبس فأصح القولين أن يراد بالكهرورة عبوس الوجه وتجهمه. والقول الآخر أن الكهرورة الضحك. ولانون والواو في الكنهور زائدتان, يراد أنه أسود غليظ فكأنه يلقى الناظر بكهرٍ. وفي مصحف ابن مسعود: {وأما السائل فلا تكهر}. أي لا تلقه بوجهٍ غير بسيطٍ. وقوله: زحل على أن الكواكب قومه ... لو كان منك لكان أكرم معشرا زحل: اسم عربي إلا أن تردده في الشعر القديم غير كثيرٍ, وإنما كثر في أشعار المحدثين. وعندهم أنه معدول, فيجب ألا يصرف, وصرفه للضرورة. ولما أخبر عن زحل كإخباره عن الإنس جعل الكواكب قومه, وإنما القوم كلمة تستعمل للآدميين, ويجب أن يكون جمع قائمٍ, كما يقال: راكب وركب, وصاحب وصحب. وأصل ذلك أن يستعمل في كبراء الناس, ثم كثرت اللفظة حتى استعملت في الخاصة, وفي العامة؛ لأنهم يقولون: قام فلان في أمر العشيرة إذا سعى فيما يصلح أمورهم؛ قال زهير: [الطويل] إذا قام منهم قائم قال قاعد ... رشدت فلا غرم عليك ولا خبل ويقولون: هؤلاء قامة الحي؛ أي: الذين يقومون في أمره, قال الراجز: [الرجز] وقامتي ربيعة بن كعب ... حسبك ما عندهم وحسبي قامة: جمع قائم, مثل: باعةٍ وبائعٍ. * * *

قافية الزاي

قافية الزاي من التي أولها: (85/أ) كفرندي فرند سيفي الجراز ... لذة العين عدة للبراز وهي من الخفيف الأول. الفرند: جوهر السيف, وقد مر ذكره. والجراز: القاطع. يقال: جرزه إذا قطعه. والأرض الجرز: التي لا نبت فيها, كأنها قطع عنها النبات أو انقطع عنها المطر, ويقال: رجل جروز أي: أكول. وامرأة جارز: عقيم, كأنها قطعت الولد. وقوله: لذة العين كأنه على قوله: هو لذة العين. ويجوز أن يجعل لذة العين محمولةً على قوله: فرند سفي الجراز فلا يحتاج إلى إضمار هو. والبراز مصدر بارز القرن قرنه إذا ظهر كل واحدٍ منهما لصاحبه. قال الشاعر: [مجزوء الكامل] ولقد سئمت من الندا ... ء وقولهم هل من مبارز وقالوا: امرأة برزة إذا كانت تجترئ على خطاب الرجال, كأنها تبرز لهم, ولعلها وصفت بذلك أيام كان النساء لم يضرب عليهن الحجاب, وقالوا في قول العجاج: [الرجز] عف وذو العفافة البرزي أراد الحيي. وهذا ضد قولهم للمرأة: برزة. وذهب قوم إلى أن هذه الكلمة من الأضداد وأنشد أبو زيدٍ: [الطويل] إن تلقني برزين لا تغتبط به ... وإن تدع لا تنصر على وأخذل أراد أن كل واحدٍ منهما يبرز لصاحبه.

وقوله: كلما رمت لونه منه النا ... ضر موج كأنه منك هاز يصف جوهر السيف وأنه لا يثبت للناظر على حالٍ واحدةٍ ك أنه يهزأ به, وإن كان خفف الهمزة ونظم الكلمة في البيت بعد التخفيف فقد صارت مثل قاضٍ, لا يجب أن تثبت فيها الياء عند الكتب وإن كان جاء باللفظة مهموزةً. فلما عجز الوزن عن احتمالها كذلك جعل الهمزة ياءً فيجب أن تثبت في الخط, وتخفيف مثل هذه كثير. قال عبد الرحمن بن حسان: [الوافر] فكنت أذل من وتدٍ بقاعٍ ... يشجج رأسه بالفهر واجي وقوله: ودقيق قدى الهباء أنيق ... متوالٍ في مستوٍ هزهاز يقال: قدى الشيء وقيده وقاده؛ أي: مقداره, والأنيق: الحسن, الذي يعجب من رآه, والهباء: أدق ما يكون من الغبار. وإذا أحكم صقال السيف, والنصل من نصال السهام وصف بأن عليه مثل الهباء, قال الشاعر: [الوافر] دلفت له بأبيض مشرفي ... كأن على مواقعه غبارا مواقعه: المواضع التي يقع عليها المسن, وقال ذو الرمة يصف نصال السهام: [الطويل] وبيض رقاق قد علتهن هبوة ... أرق من الماء الزلال كليلها وقال والبة بن الحباب في صفة السيف: [مجزوء الكامل] فكأنما نفض الهبا ... ء عليه أنفاس الرياح

والهزهاز الذي كان ماؤه يهتز فيه, قال الراجز: [السريع] قد وردت مثل اليماني الهزهاز ... تدفع عن أعناقها بالأعجاز وقوله: ورد الماء فالجوانب قدرًا ... شربت والتي تليها جوازي أراد بالجوانب صفحاته, لأن ماءه يظهر فيهن, وبالتي تليها الحدين؛ لأن الفرند لا يظهر في الحد. وقد يجوز أن يكون المراد ما يسقاه الحد في الصقال, فالمعنى حينئذٍ ضد الأول؛ لأن الواردة في المعنى الأول الصفحات. وفي المعنى الثاني حده وما يليه. والجوازي التي جزأت عن الماء؛ أي: امتنعت عن شربه, وحكمها في الهمز وتخفيفه كحكم هازئ. وقوله: حملته حمائل الدهر حتى ... هي محتاجة إلى خراز استعار حمائل السيف للدهر, ووصفه بالقدم, وهذه نهاية في المبالغة؛ لأن حمائل الدهر قد حملته حتى بليت, فاحتاجت إلى أن تخرز. وقوله: وهو لا تلحق الدماء غراريـ ... ـه ولا عرض منتضيه المخازي يقول: هذا السيف من سرعة قطعه يسبق الدم فلا يتعلق به منه شيء. ويقرب من هذا المعنى قول الأول في صفة السيف: [الوافر] ترى ضرباته أبدًا خطايا ... إلى أن يستبين له قتيل وقوله: يا مزيل الظلام عني وروضي ... يوم شربي ومعقلي في البراز

البراز: الموضع المنكشف. والمعقل: الموضع الذي يلتجأ إليه. وأصله الموضع في أعلى (85/ب) الجبل, يقال: عقلت الأروى إذا حصلت بذلك الموضع كأنها تعقل الحوادث عن نفوسها؛ أي: تحبسها, كما يحبس البعير بالعقال, قال النابغة: [الطويل] وقد خفت حتى ما ت زيد مخافتي ... على وعلٍ في ذي المطارة عاقل وهذا مثل قول قيس بن الخطيم: [الطويل] معاقلهم أبياتهم ونساؤهم ... وأيماننا بالمشرفية معقل وشبه السيف بالروضة؛ لأنه يوصف بالخضرة. وقوله: إن برقي إذا برقت فعالي ... وصليلي إذا صللت ارتجازي يقول: إن كان أيها السيف برقك يسبق الضرب بك فبرقي أنا فعلي أي: إني أبدأ بالفعال إذا كنت أنت لا تبدأ به. والصليل: صوت الحديد بعضه على بعضٍ, قال عبد قيس ابن خفافٍ البرجمي: [المتقارب] وسابغةٍ من جياد الدرو ... ع تسمع للسيف فيها صليلا وكانت العرب إذا لاقت الحروب قالت الرجز, تستثير به نفوسها إلى الحرب, وتستجلب تعاون الشاهدين, وكذلك كانوا يفعلون إذا بشروا الأعمال كسقي الإبل ونحوه, وقالوا: ارتجز السحاب إذا جاء بالرعد كأنه يحث نفسه على المطر. قال الهذلي: [الوافر] سقى الرحمن حزم نبايعاتٍ ... من الجوزاء أنواءً غزارا بمرتجزٍ كأن على ذراه ... ركاب الشام يحملن البهارا البهار هاهنا: واحد في معنى جمعٍ. والرجز الذي كان يستعملون عند ممارسة الحروب

والأعمال: ثلاثة أصنافٍ, لا اختلاف بين أهل العلم أنهم كانوا يسمونها رجزًا, وبها جاء شعر الرجاز: العجاج, ورؤبة, وأبي النجم. فمن ذلك قول العجاج: [الرجز] ما هاج أحزانًا وشجوًا قد شجا من طللٍ كالأتحمي أنهجا وقوله: يا صاح هل تعرف رسمًا أكرسا أي: قد اجتمع عليه الكرس, وهو البعر. قال نعم أعرفه وأبلسا فهذا صنف. والصنف الثاني يجتمع في آخره ساكنان, كقوله: [السريع] يا صاح ما هاجك من ربعٍ خال ... ودمنةٍ تعرفها وأطلال وقول رؤبة: قد عرضت أروى بقولٍ إفناد والصنف الثالث أقصر من الصنف الأول بحرفٍ متحركٍ, وأقصر من الثاني بحرفٍ ساكنٍ, وهو كقول رؤبة: [السريع]

عاذل قد أولعت بالترقيش ... إلي سرًا فاطرقي وميشي وكان الخليل يجعل هذين الصنفين الآخرين من الوزن, الذي يقال له السريع على علمٍ أن العرب تسمها بالرجز, وهذا مستطرف من رأيه. والرجز عنده خمسة أضربٍ, وعند غيره تسعة. فأما تام الرجز فلم يرو أنهم استعلموا في الحرب, وكأنه لما طال جعلوه من القصيد, وهو كقول قعنب بن أم صاحبٍ: [الرجز] باكرني بسحرةٍ عواذلي ... ولومهن خبل من الخبل ولم ترو الثقات عنهم هذا الوزن إلا مقيدًا, وهو وزن مقصورة ابن دريدٍ. وأما الثاني من الرجز عند الخليل فهو كقول القائل: [الرجز] القلب منها مستريح دهره ... والقلب مني جاهد مجهود وأما الثالث منه فلا يستعملونه أيضًا في الحرب وما جرى مجراها. وقد استعمله عمر بن أبي ربيعة في النسيب كقوله: [مجزوء الرجز] قد هاج قلبي منزل ... من أم عمرو مقفر والرابع قد مر ذكره في الأصناف الثلاثة. والخامس قد استعمل في الحرب. وقال بعض من شهد يوم الجمل: [منهوك الرجز]

أضربهم باليابس ... ضرب غلامٍ عابس ... من الحياة يائس ويروى أن دريد بن الصمة قال في يوم الحنينٍ: [منهوك الرجز] يا ليتني فيها جذع ... أخب فيها وأضع أقود وطفاء الزمع ... كأنها شاة صدع فهذا من خامس الرجز: والذين جعلوه تسعة أضربٍ ألحقوا به الضربين اللذين جعلهما الخليل من السريع, والضربين المنهوكين اللذين ذكرهما في المنسرح: الأول منهما كقول أبي خراش: [منهوك المنسرح] إليك أم ذبان ... قد صرحت بجلدان ليس بتنكاع الضان ... نكع الجلاد الحمران لكن جلاد الفتيان ... بكل لينٍ حران وقالت نائحة سعد بن معاذ: [منهوك المنسرح] ويل ام سعدٍ سعدا ... صرامةً ومجدا وفارسًا معدا ... سد به مسدا

فهذا الآخر من الضربين اللذين ذكرهما في المنسرح. وهو في الأصل أنقص من الأول بحرفٍ ساكنٍ, والأول ثاني المنسرح. والثاني منهما ثالثه. ويقال (86/أ) إن الرجز سمي رجزًا لاضطراب أجزائه شبه بالرجز الذي يلحق الإبل, من قولهم: ناقة رجزاء إذا كانت تضطرب فخذاها عند القيام. قال أوس بن حجرٍ: [الطويل] هممت بمعروفٍ فقصرت دونه ... كما ناءت الرجزاء شد عقالها وكما قال أبو النجم في صفة امرأة: [الكامل] تذر القيام كأنما هو نجدة ... حتى تقوم تكلف الرجزاء وقوله: ولم احملك معلمًا هكذا إلـ ... لا لضرب الرقاب والأجواز طرح حركة الهمزة في أحملك على الميم من لم. وحذف الهمزة, وتلك لغة حجازية معروفة, وقد قرأ بها المدنيون, ومنه قول الشاعر: [الطويل] فقالت من أي الناس أنت ومن تكن ... فإنك راعي ثلةٍ لا يزينها والمعلم الذي يشهر نفسه في الحرب فيجعل لها علامةً تعرف بها, وذلك مما تفتخر به العرب, قال معاوية بن أوسٍ اليربوعي: [المتقارب] ولما تداعوا لأقرانهم ... دعوني إلى الفارس المعلم

وروي أن حمزة بن عبد المطلب كان في يوم أحدٍ معلمًا بريشة نعامةٍ. والأجواز: جمع جوزٍ, وهو الوسط. وقوله: ولقطعي بك الحديد عليها ... فكلانا لجنسه اليوم غاز يقول: أنا أضرب بك أيها السيف رؤوس الرجال وأوساطها؛ فأقطع بك الحديد الذي تتقي به السيوف, فأنا غازٍ لجنسي, وهم الإنس, وأنت غازٍ لجنسك, وهو الحديد, فكلانا صاحب غزوٍ, والغزو: أصله القصد. يقال: ما غزا فلان بقوله كذا, أي: ما قصد وما أراد, ثم قصروا ذلك على قصد العدو والمسافر إليه حتى يحارب بأرضه. وجمع غازٍ غزى وغزاة, فهذا على القياس, وقالوا: غزي كما قالوا: عبد وعبيد, وذلك اسم للجميع لا يقاس عليه, وإذا غارت المياه قالوا: غزا الماء أوطانه إذا نزل حتى يصل إلى الماء الغمر الذي يقال: إن الأرض محمولة عليه. وقالوا في صفة الأتان الوحشية: هي مغزية العقاق إذا بعد عهدها بالحمل. والعقاق أن يعظم بطنها وهي حامل, يقال: أعقت فهي معق, وعقوق أيضًا بينة العقاق. وقوله: سله الركض بعد وهنٍ بنجدٍ ... فتصدى للغيث أهل الحجاز يريد أن هذا السيف إذا كان مغمدًا فركض الفارس الذي هو متقلد له خرج بعضه من الغمد فرآه أهل الحجاز, وهو بنجدٍ فظنوا تلك السلة برقاً, وحسن ذكر الحجاز في هذا الموضع؛ لأن المطر يقل فيه, ولا يكون كأمطار الشام والعراق. وقوله: تصدى يجب أن يكون أصله تصدد, فأبدل من الحرف الآخر ألفًا, وإنما أخذ ذلك من قولهم: هو بصدد كذا؛ أي: قريب منه, يراد أن الإنسان يتعرض للشيء ليصيبه. والحجاز سمي حجازًا؛ لأنه حجز بالحرار الخمس, وهي: حرة ليلى وحرة واقم وحرة

النار, وحرة راجلٍ وقيل: حرة بني عبسٍ, وقيل: حرة بني سليم مكان حرة بني عبسٍ. وزعم قوم أنه سمي الحجاز؛ لأنه حجز بين نجدٍ والسراة. وقوله: فارسي له من المجد تاج ... كان من جوهرٍ على أبرواز أبرواز: ملك من ملوك الفرس. والعجم إذا نطقوا بالألف جاؤوا بها مثل الياء تارةً, ومثل الألف أخرى, وكأنهم يجعلونها بين بين ليست بالخالصة لأحد الحرفين, فلذلك جعلها أبو الطيب ألفًا خالصةً. فأما أبو عبادة فهي في شعره ياء, وذلك في قوله: [الخفيف] وتوهمت أن كسرى أبرويـ ... ـز معاطي والبلهبذ أنسي البلهبذ: صاحب رتبةٍ عظيمة من رتب الفرس دون الملك. وقوله: ليس كل السراة بالروذباري ... ي ولا كل ما يطير بباز تزعم الأعاجم أن من كان على شاطئ النهر فنسب إلى وطنه قيل له: روذباري. وقوله: شغلت قلبه حسان المعالي ... عن حسان الوجوه والأعجاز قوله: حسان الوجوه: لفظ يحتمل وجهين: أحسنهما أن تكون حسان معرفةً, وتكون إضافتها على معنى من, كأنه قال: عن التي حسنت من الوجوه والأعجاز, والآخر أن تكون حسان نكرةً ويكون التقدير (86/ب) عن حسانٍ وجوهها وأعجازها.

وقوله: وكأن الفريد والدر واليا ... قوت من لفظه وسام الركاز الفريد: جمع فريدةٍ, وهي العظيمة من اللؤلؤ كأنها تنفرد بعظم القدر لأنها قليلة المثال؛ كما يقال للرجل: هو فريد في قومه؛ أي: ليس فيهم مثله. والياقوت: معرب, وليس في كلامهم اليقت, فيقال: إنه مشتق منه, وقد جاء في كتاب الله سبحانه, وجاء في الشعر القديم, قال النابغة: [الكامل] بالدر والياقوت زين نحرها ... ومفصلٍ من لؤلؤٍ وزبرجد والسام: عروق الذهب والفضة, وبه سمي الرجل سامة, وأكثر الناس ينشد قول قيس بن الخطيم: [الطويل] لو انك تلقي حنظلًا فوق بيضنا ... تدحرج عن ذي سامه المتقارب فيضيفون سامًا إلى الهاء العائدة على بيضنا. وذكر أبو الحسن سعيد بن مسعدة في كتابٍ له يعرب بكتاب «المعاياة» , ورواه: عن ذي سامة المتقارب. ويقال: إن ذا سامة اسم معدنٍ. والركاز عند قومٍ ما يخرج من المعدن, وعند غيرهم: ما يوجد من كنوز الجاهلية في الأرض.

وقوله: تقضم الجمر والحديد الأعادي ... دونه قضم سكر الأهواز القضم أكل بمقدم الفم, ويستعمل ذلك في الشيء اليابس دون الربط. والسكر أصله أعجمي, وقد جاء في الشعر الفصيح, قال الراجز: [الرجز] تكون بعد الحسو والتمزر ... في فمه مثل عصير السكر والأهواز هذه البلدة المعروفة, واسمها أعجمي؛ إلا أنه قد وافق من العربية قولهم: هوز الرجل إذا مات, مثل فوز. وقولهم: ما أدري أي الهوز هو, أي: أي الخلق هو. والمعنى أن الأعادي إذا طلبوا هذا الممدوح لقوا شدةً عظيمة دونه فكأنهم يقضمون جمرًا وحديدًا من الشدائد التي يلقون, ولا يريد أنهم يفعلون ذلك باختيارهم, وإنما يقدر عليهم؛ لأنه لو وصفهم بالصبر على تلك الحال لكان مادحًا لهم, وإنما أراد أنهم يقضمون الجمر والحديد مكرهين كما يقضم غيرهم السكر وهو لذلك مختار ملتذ به. وقوله: بلغته البلاغة الجهد بالعفـ ... ــو ونال الإسهاب بالإيجاز الجهد هاهنا: مصدر جهد يجهد إذا تناهى في الطلب وبلوغ الحاجة. والعفو: السهل الذي لا كلفة فيه, ومنه قوله تعالى: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو}؛ أي: السهل من النفقات. وقوله تعالى: {خذ العفو وأمر بالعرف} , أي ما سهل من الأمور وتيسر. والعفو في غير هذا: الكثير. والإسهاب إكثار الكلام. وزعم أصحاب النقل أنه يقال: أسهب الرجل فهو مسهب بالفتح, ولا يمنعون أن يقال: مسهب, ومثله مسهبٍ أحصن فهو محصن. وقد قرئ بالفتح والكسر: محصنين ومحصنين, وألفج فهو ملفج إذا أفلس, قال الراجز: [الرجز]

جارية شبت شبابًا علسجا ... في حجر من لم يك عنها ملفجا وقوله: أيها الواسع الفناء وما فيـ ... ــه مبيت لمالك المجتاز في شعر أبي الطيب أشياء من هذا الجنس, فبعضها يلزم به الضرورة, وبعضها لو تركه لم يكن مضطرًا, ومنها هذا الموضع؛ لأن واجب الكلام أن يقول: لماله المجتاز. وهذا نحو من قول الآخر: [البسيط] إنا إذا اجتمعت يومًا دراهمنا ... ظلت إلى سبل المعروف تستبق لا يألف الدرهم الطازي صرتنا ... لكن يمر عليها وهو منطلق وقوله: بك أضحى شبا الأسنة عندي ... كشبا أسوق الجراد النوازي الشبا: الحد. ويجب أن يكون من ذوات الواو, من قولهم للعقرب: شبوة معرفة, وللجارية الكثيرة الحركة: شبوة نكرة. ويقال: شبا الشيء وشباته. قال الفرزدق: [الطويل] ولو غيرنا نبهت تلتمس القرى ... رماك بسهمٍ أو شباة سنان والنوازي: جمع نازٍ ونازيةٍ, وهو الذي يثب. ويقال في جمع الساق: أسوق وسوق, وحكي سؤوق, وقد قرئ: {بالسؤوق والأعناق} بالهمز. وكذلك همز بعضهم: {وكشفت عن ساقيها} , وإذا همزت الساق حسن أن يقال في جمعها: سؤوق, كما يقال: رأس ورؤوس, وكأس وكؤوس؛ لأن هذا الجمع يكره في ذوات الواو (87/أ) الكائنة على مثال: ساق, ألا تراهم لم يقولون: دؤور في جمع دارٍ, ولا سؤوح في جمع ساحةٍ.

وقوله: وانثنى عني الرديني حتى ... دار دور الحروف في هواز هذه الكلمات الست, التي أولها أبجد وآخرها قريسيات, بعضها موافق لكلام العرب, وبعضها لا معنى له. وقد ذكرت في الأشعار. قال الراجز: [الرجز] تركتهم في مخض وطبٍ حازر وفي أبي جادٍ وفي مرامر وقال آخر: [الطويل] تعلمت باجادٍ وآل مرامرٍ ... وسودت أثوابي ولست بكاتب ويقال: إنهم سموا أبا جادٍ آل مرامرٍ؛ لأن أول من كتبها من العرب ثلاثة من أهل الأنبار يقال لأحدهم: مرامر بن مروة. وقال الراجز: [الرجز] لما رأيت أمرها في حطي ... وفنكت في باطلي ولطي أخذت منها بقرونٍ شمط ... فلز يزل جذبي بها ومعطي حتى علا الرأس دم يغطي وهواز: موافقة لفظ هوز, مثل: فوز. وكلمون قيل: إنها أعجمية ولكنها موافقة للفظةٍ

أخذت من الكلم أو الكلام, وزيدت فيها الواو والنون. وأما صعفص فلا مذهب لها في كلام العرب, وقد ذكرت في الشعر القديم. وأما قريسيات فتوافق من كلام العرب قولهم: فحل قراسية إذا كان مسنًا قويًا, فيقال في جمعه: قراسيات, فإذا صغر هذا الجمع قيل: قريسيات, قال الشاعر: [الوافر] أتيت مهاجرين فعلموني ... ثلاثة أحرفٍ متواليات وخطوا لي أباجادٍ وقالوا ... تعلم صعفصًا وقريسيات وقوله: وبآبائك الكرام التأسي ... والتسلي عمن مضى والتعازي يقال: تأسى بالرجل إذا جعله لنفسه أسوةً, وقالوا: تأسوا من الإسوة أيضًا, ويقال: إن مصعب بن الزبير تمثل بهذا البيت يوم قتل, وهو: [الطويل] فإن الأولى بالطف من آل هاشمٍ ... تآسوا فسنوا للكرام التآسيا والتعازي: جمع تعزيةٍ. وقوله: تركوا الأرض بعدما ذللوها ... ومشت تحتهم بلا مهماز المهماز: مأخوذ من قولهم: همز الشيء إذا غمزه بيده, فهذا أصله, وفي الكتاب العزيز:

{ويل لكل همزةٍ لمزةٍ} , وإنما وصفوا الرجل بذلك؛ لأنه يكون مع القوم في المجلس, فإذا تكلم منهم متكلم, وأراد أن يعيبه همز الذي يليه من القوم بيده, والناس يفعلون ذلك كثيرًا, ثم كثرت هذه الكلمة حتى جعل النظر بالعين والإشارة بها في عيب الرجل من الهمز. وقالوا في جمع المهماز: مهامز, كأنه جمع مهمزٍ, والقياس: مهاميز, ولكنهم يجترئون على حذف هذه الياء كثيرًا, قال الشماخ في صفة القوس: [الطويل] أقام الثقاف والطريدة درأها ... كما قومت درأ الشموس المهامز والطريدة: شيء يستعينون به على بري خشبة القوس, ومثل قولهم: مهامز في جمع مهمازٍ قولهم: مصابح في جمع مصباحٍ, ومفاتح في جمع مفتاحٍ. وقوله: وأطاعتهم الجيوش وهيبوا ... فكلام الورى لهم كالنحاز النحاز: يستعمل في معنى السعال, قال القطامي: [الوافر] ترى منه صدور الخيل زورًا ... كأن بها نحازًا أو دكاعا يقول: الناس من هيبتهم لهم لا يفصحون بالقول لهم, فكأن كلامهم نحاز, ومن تأمل النحاز وحد أصواته متقطعةً, وزن كل صوتٍ منها حرفان, متحرك بعده ساكن؛ وذلك أقل ما يمكن أن ينطق به. وقوله: وهجانٍ على هجانٍ تآيتـ ... ــك عديد الحبوب في الأقواز يقول: رب قومٍ هجانٍ؛ أي: بيضٍ على بيضٍ من الإبل تآيتك؛ أي: تعمدتك, وأصل قولهم: تآياه إذا تعمد آيته؛ أي: شخصه. قال الشاعر: [الرمل]

فتآيا بطريرٍ مرهفٍ ... جفرة المحزم منه فسعل والأقواز: جمع قوزٍ, وهو كثيب من الرمل, قال الرجز: [الرجز] لما رأى الرمل وأقواز الغضا ... والبقر الملمعات بالشوى بكى وقال هل ترون ما أرى وقالوا في جمع أقوازٍ: أقاوز, قال الشاعر: [الكامل] ومخلداتٍ باللجين كأنما ... أعجازهن أقاوز الكثبان المخلدات: المسورات والمخلخلات. ويقال للسوار والخلخال والقرط: خلدة, وإذا نصب عديد الأقواز فيجب أن تكون إضافته منفصلةً على معنى اللام, كأنه قال: عديدًا للأقواز ليصح بهذا التأويل نصبه على الحال, وإن خفض العديد فجائز على أن يجعل صفةً (87/ب) لهجانٍ, ولابد فيه من تقدير الانفصال, ولو جعل بدلًا في حال الخفض لاحتمل. وقوله: صفها السير في العراء فكانت ... فوق مثل الملاء مثل الطراز العراء: المكان المنكشف, كأنه قد عري من أي يكون فيه شيء, وقيل: هو المكان الخالي, وروي أنه ظاهر الأرض. وهذه المعاني متقاربة, وفي الكتاب العزيز: {فنبذناه بالعراء وهو سقيم}. وقال الهذلي: [الكامل] فرفعت رجلًا لا يخاف عثارها ... ونبذت بالبلد العراء ثيابي

والملاء: جمع ملاءةٍ, وهي كلمة عربية. يريد أن هؤلاء القوم فوق هذه الإبل قد صفهم السير فهم كالطراز على هذه الأرض المشبهة بالملاء, وهذا كالمدح للركبان والركائب؛ لأن الطراز يحسن الثوب. وقوله: وحكى في اللحوم فعلك في الوفـ ... ــر فأودى بالعنتريس الكناز الوفر: المال. يقول: أفنى السير لحوم هذه الإبل كإفنائك المال بعطائك, فأودى يعني السير, والعنتريس: الناقة الصلبة العنيفة في السير, وقيل: هي مأخوذة من العترسة, وهي أخذ بعنفٍ وعجلةٍ, وقيل: إن الشيطان يقال له: العتريس. والكناز: المكتنزة اللحم, وهو الذي دخل بعضه في بعضٍ, ومنه قولهم: كنزت المال, وكنزت التمر إذا جمعت بعضه إلى بعضٍ, ثم عملت به عملًا يمنعه من الفرقة. وقوله: ملك منشد القريض لديه ... يضع الثوب في يدي بزاز البز, الذي يراد به الثياب: عربي قديم, ومنه قولهم: بزه إذا أخذ ثيابه, قال الراجز: [الرجز] وليلةٍ صريمها كالخز ... أدلجتها من أجل أم عز وأم عز من عتيق البز أي: إنها كريمة المنصب, ويحتمل أن يعني بها قدم البز كما قال أبو الأسود الذولي: [الطويل] أبى القلب إلا أن عمروٍ وحبها ... عجوزًا ومن يحبب عجوزًا يفند كثوب اليماني قد تقادم عهده ... ورقعته ما شئت في العين واليد وكثر ذلك حتى سموا متاع الرجل وآلته بزًا, فدخل في ذلك الثوب والدرع والسيف, قال متمم: [الطويل] ولا بكهامٍ بزه عن عدوه ... إذا هو لاقى حاسرًا أو مقنعا

يعني السيف. وقال أبو دوادٍ الإيادي وذكر الفرس: [الطويل] كأني إذا عاليت جوزة ظهره ... أعلق بزي عند بيض الأنوق فأما قول أبي خراش: [الوافر] كأني إذا غدوا ضمنت بزي ... من العقبان خايتةً طلوبا فيجوز أن يعني ببزه ما عليه من ثوبٍ, وما معه من سلاحٍ, ولم يستعلموا البزاز في الشعر القديم, ولا ريب أنه من الأسماء العربية. يقول: هذا الممدوح إذا مدحه الشاعر فكأنه وضع الثوب في يدي بزازٍ, يصف أنه عالم بالشعر كعلم البزاز بالثياب. وقوله: ولنا القول وهو أدري بفحوا ... هـ وأهدى فيه إلى الإعجاز فحوى الكلام: معناه, حكي بالقصر والمد. وأهدى هاهنا: يجوز أن يكون مأخوذًا من فعلٍ غير متعد, كقولهم: فلان هادٍ لكذا؛ أي: يهتدي إليه, ولا يمتنع أن يكون مأخوذًا من فعل متعد, فهذا أشد مبالغةً في وصف الممدوح؛ لأنه في المعنى الأول يجعله مهتديًا إلى المعاني الدقيقة, وفي المعنى الثاني يكون حائزًا لفضيلة الاهتداء, ثم هو هادٍ غيره إلى المقال فله فضيلة عظيمة في هدي سواه. وقوله: ومن الناس من تجوز عليه ... شعراء كأنها الخازباز نون شعراء, وذلك جائز بلا اختلافٍ, إلا أن صرف ما كانت فيه ألفا التأنيث يقل في شعر العرب, وإنما يصرفون كثيرًا ما لم تكن فيه ألف التأنيث, كمساجد, وزينب, ونحو ذلك. والخازباز هاهنا: الذباب ويقال لصوته: خازباز أيضًا. قال ابن أحمر: [الوافر] تفقأ فوقه القلع السواري ... وجن الخازباز به جنونا

فيجوز أن يعني بالخازباز الذباب وصوته. وبعض النبت يقال له: الخازباز, قال الراجز: [الرجز] رعيتها أكرم عودٍ عودا ... الصل والصفصل واليعضيدا والصليان السنم المجودا ... بحيث يدعو عامر مسعودا ويقال لهذا الداء الذي يظهر في وجوه الصبيان (88/أ) الخازباز أيضًا. قال الراحز: [الرجز] يا خازباز أرسل اللهازما إني أخاف أن تكون لازما وقوله: كل شعرٍ نظير قابله منـ ... ـك وعقل المجيز مثل المجاز يقول: الشعر إذا كان رديئًا خسيسًا جاز على الأخساء من القوم, وإذا كان جيدًا نفق على الرؤساء السادة. وقوله: وعقل المجيز مثل المجاز. المجاز هاهنا: العطاء الذي يعطاه الشاعر, أي: إن ع قل المجيز إذا كان وافرًا وفر العطية, وإذا كان ناقصًا كان ما يعطيه كذلك, ويحتمل أن يكون المجاز هاهنا: الشعر؛ وذلك أشبه من المعنى الأول, ولا يحسن أن يراد بالمجاز الشاعر؛ لأنه إذا أراد ذلك احتاج إلى أن يكون قد حذف المضاف, كأنه قال: وعقل المجيز مثل عقل المجاز, وفي هذا انتقاص للممدوح لأنه يجعل عقله مثل عقل الشاعر.

قافية السين

قافية السين من بيتين أولهما ألا أذن فما أذكرت ناس ... ولا لينت قلبًا وهو قاس وهما من أول الوافر. قوله: ناسٍ في القافية: ليس مثل أن يأتي في حشو البيت؛ لأن ذلك عند البصريين من الضرورات, وعند الفراء لغة للعرب, وأنشد الكوفيون: [الكامل] فكسوت عارٍ جسمه فتركته ... جذلان جاد قميصه ورداؤه وإنما فرق بين مجيئه في القافية ومجيئه في غيرها؛ أن القوافي أجمعت الشعراء على أن تستعمل فيها أشياء لا تستعمل في حشو البيت, فمن ذلك حذف الإعراب في الشعر المقيدة, وتخفيف المشدد؛ ألا ترى أن قصيدة امرئ القيس التي على الراء قد جاءت فيها أشياء مشددةً خفف فيه التشديد, كقوله في القافية: هر وصر وقر, وأفر. وكذلك جميع ما قيد من قصائد العرب, قلما يخلو من تخفيف المشدد, ولا يستعملون مثل ذلك في غير القافية, وإذا ندر منه شيء لم يجمعوا فيه بين تخفيف المشدد وترك الإعراب, فإن تركوا حركة المعرب لم يضيفوا إليها تخفيف المشدد, ومثل بيت أبي الطيب البيت المنسوب إلى بشر بن أبي خازمٍ: [الوافر] كفى بالبين من أسماء كاف ... وليس لحبها ما عشت شاف

ولولا تغير الوزن لكان الوجه أن يقول: كافيًا. وقوله: ولا شغل الأمير عن المعالي ... ولا عن ذكر خالقه بكاس الكأس, وما كان مثلها من الثلاثي, الذي وسطه همزة تكون له ثلاثة أحوالٍ في القريض إذا جاءت في حشو البيت؛ فالمنشد مخير: إن شاء همز, وإن شاء جعل الهمزة ألفًا, كقول القائل: [الوافر] تصد الكاس عنا أم عمروٍ ... وكان الكاس مجراها اليمينا وإذاجاءت في القافية مع حروفٍ ليست ذات لينٍ فالهمز واجب, ومن تركه فقد أساء, كقول الراجز: [الرجز] قد خطب النوم إلى نفسي ... همسًا وأخفى من مقال الهمس وما بأن أطلبه من بأس فإن لم يهمز بأس في هذا الموضع؛ وإلا فهو عيب لم تجر العادة بمثله, وإذا شبه بعيوب الشعر حسب من السناد, إلا أن العرب ساندت في الواو والياء إذا كانتا ردفين, ولم يساندوا بالألف, لم يجيئوا مع جلس وحلسٍ بمثل ناسٍ, وجاؤوا مع نفسٍ وخمسٍ بقوسٍ, ويجوز

ومن التي أولها

عندهم أن يأتوا مع خمرٍ وأمرٍ بمثل سيرٍ إلا أنه عيب. وإذا كانت كأس ونظائرها مع حروف لين مثل ناسٍ وقاسٍ فهمزها خطأ, وذلك في مثل بيت أبي الطيب. ونحو منه مما لا يجوز فيه همز المهمور قول القائل: [الوافر] يقول لي الأمير بغير جرمٍ ... تقدم حين جد بنا المراس فمالي إن أطعتك من حياةٍ ... ولا لي غير هذا الراس راس فرأس في القافية لا يجوز همزة. ومن التي أولها: أظبية الوحش لولا ظبية الأنس ... لما غدوت بجد في الهوى تعس وهي من البسيط الأول. أكثر ما يقولون: جد تاعس؛ لأنهم يقولون في الماضي: تعس, بفتح العين, ويجوز أن يقال: تعس إذا جعل ذلك له كالخلق اللازم, كما يقولون: فرق وأشر ... ويجب أن يقال في الماضي تعس؛ لأن أسماء الفاعلين إذا كانت على فعل فالأغلب عليها أن يجيء الماضي على فعل كقولهم: حذر فهو حذر, وأمر الشيء فهو أمر إذا كثر. وقوله: ولا وقفت بجسمٍ مسي ثالثةٍ ... ذي أرسمٍ درسٍ في الأرسم الدرس يقال: جئتهم مسي ثالثةٍ, ومسي ثالثةٍ: يعنون الليلة الثالثة. والمسي مؤد عن معنى المساء. وينشد: [الطويل] لقيت ابنة الهندي زينب عن عفر ... ونحن حرام مسي عاشرة العشر

واستعار (88/ب) الأرسم للجسم لما كان يشبهه بالديار, وحسن ذلك أنهم يقولون لشخص الرجل: طلل, كما يقال ذلك للربع إذا كان لأثره شخوص, فإذا درست تلك الصورة فهي رسوم. وقوله: صريع مقلتها سآل دمنتها ... قتيل تكسير ذاك الجفن واللعس خفض قوله: صريع مقلتها لأنه حمله على جسم, فإن أراد به التنوين فهو نكرة جارٍ على نكرةٍ, وإن جعله معرفةً جعله بدلًا من جسم, ولو نصب صريعًا وما بعده من المضافات على أنه حال من التاء في (وقفت) لكان ذلك حسنًا. والدمنة آثار القوم في الديار. واللعس: سمرة في الشفتين. وقوله: ما ضاق قبلك خلخال على رشأ ... ولا سمعت بديباجٍ على كنس يقول: أنت تشبهين الرشأ في بعض الصفات, ولكنه لا يلبس خلخالًا فيضيق عليه, وأنت من شأنك أن تلبسي الحلي, ولا سمعت أن كناس ظبيٍ يجلل بالديباج؛ لأن الظباء إنما تكنس في أصول الشجر, وأنت إذا ركبت في الهودج فكأنه كناس لك؛ لأنك تأوين إليه كما تأوي الظباء إلى الكنس, وهي جمع كناسٍ, وإنما قيل لموضع الوحشي: كناس؛ لأنه يزيل عنه التراب أو الرمل ليتمكن إذا ربض, فكأنه يكنسه, ثم صار ذلك الفعل كأنه غير متعد. فقيل: كنس الظبي إذا حصل في الكناس, ومنه قوله تعالى: {الجوار الكنس} شبهها إذا توارت بالظباء المتوارية في الكنس. وقوله: إن ترمني نكبات الدهر من كثبٍ ... ترم امرأً غير رعديدٍ ولا نكس من كثبٍ: أي: من قربٍ. والمعروف في ذم الرجل ووصفه بالضعف: نكس, وقلما يقولون: نكس, ويجب أن يكون هذا الوصف محمولًا على نكس ينكس كما أن حذرًا محمول على حذر يحذر, وربما اجترؤوا على حذف الياء من فعيل, قال الهذلي: [البسيط]

ولا السماكان إن يستعمل بينهما ... يطر بشدة يومٍ شره أصل أي: أصيل. فإن كان أراد نكيسًا فحذف الياء فقد يمكن ذلك إن كان حمله على نكس؛ لأن فعيلًا إذا كان اسم فاعل فهو أقرب إلى فعلٍ من فعيلٍ إذا كان معدولًا عن مفعولٍ. وقوله: أبا الغطارفة الحامين جارهم ... وتاركي الليث كلبًا غير مفترس الغطارفة: جمع غطريفٍ, وهو من صفات السادة, فقيل: هو السخي, وقيل: الشجاع, وبعض الناس يذهب إلى أنه مأخوذ من السرعة كأنه يسرع إلى المكارم. وقوله: دانٍ بعيدٍ محب مبغضٍ بهجٍ ... أغر حلوٍ ممر لينٍ شرس يحتمل أن يعني بدانٍ أنه يقرب من العافين, أو يدنو إلى كل خلقٍ حميدٍ, وبعيدٍ: أي: يبعد من كل خلقٍ مذمومٍ, وعلى عدوه إذا أراده بكيدٍ, ويدخل تحت قوله: دان بعيدٍ أشياء كثيرة منها أنه يقرب من الجلساء, ولا يعلم بما في ضميره من الأسرار؛ لأن كتمان السر مما يوصف به الممدوح وبذلك أوصى الحكماء. ومن هذا النحو قول الآخر: [الطويل] قريب ثراه لا ينال عدوه ... له نبطًا صدق المقام أريب يريد أن ثراه إذا طلب ما عنده من المعروف موجود, ولا يبعد, وهو مع ذلك لا ينال عدوه نبطه, أي: لا يعلم سره, ولا يظفر منه بالمراد, وهو مأخوذ من نبط البئر, وهو الماء الذي يستنبط منها. وقوله: محب مبغضٍ: أي: يحب أفعال الكرام, ويبغض ما خالفها من الفعل المذموم. ويقال: بهج وبهيج: يراد بهما بهجة الوجه؛ أي: حسنه, وقيل: يراد بالبهج الذي يبين فيه البهجة أي: الفرح بالزوار, وقوله: حلوٍ ممر: أي: يحلو لمن قصده أو حل بداره ويمر على الأعداء؛ وذلك وصف يتردد في الشعر القديم والمحدث. قال الهذلي: [البسيط]

حلو ومر كعطف القدح مرته ... بكل إنيٍ حذاه الليل ينتعل وهم يصفون الرجل باللين, وإنما يريدون أنه يلين للعافين والطالبين, لا أنه يلين للمحارب, وقال بعض العلماء: يقال: هين لين للرجل يمدح بذلك, كما قال الكلابي: [البسيط] هينون لينون أيسار بنو يسرٍ ... سواس مكرمةٍ أبناء أطهار المعروف: أيسار, فإذا قالوا: هين لين فهو ذم, والسماع قد جاء بخلاف ذلك؛ لأنه قد جاء في الحديث المأثور: «المؤمن هين لين كالبعير الآنف إن قدته انقاد, وإن أنخته على صخرةٍ استناخ» , وقال المتنخل الهذلي: [المتقارب] لعمرك ما إن أبو مالكٍ ... بوانٍ ولا بضعيفٍ قواه ولكنه هين لين ... كعالية الرمح عرد نساه فهذا يدل على أن قولهم: هين لين وهين لين لا يفرق بينهما في الصفات إلا في لفظ التشديد وتركه.

وقوله: ندٍ أبي غرٍ وافٍ أخٍ ثقةٍ ... جعدٍ سري نهٍ ندبٍ رضًى ندس ندٍ: من الندى (89/أ) , الذي يراد به السخاء, وأبي: من الإباء, وهو أشد مبالغةً من آبٍ كما أن عليمًا زائد في ذلك على عالم. وقوله: غرٍ: يجوز أن يكون ذهب إلى أنه يغرى بالمكارم فيحمله على غري يغرى إذا لهج بالشيء. وحكى بعض أهل اللغة أنهم يقولون: غري في صفة الرجل يريدون الحسن, والمصدر الغراوة, وينشد: [الكامل] أحثو التراب على محاسن جسمه ... وعلى غراوة وجهه النضر فإن كان أراد غريًا, وخفف الياء فليس ذلك بممتنع. وقوله: أخٍ: أي: إنه إذا صادق صديقًا وفي له, فكأنه أخ في النسب. وقوله: نهٍ أخذه من النهى, وهي جمع نهيةٍ؛ أي: عقلٍ, وإنما قيل للعقل: نهية؛ لأنه ينهى صاحبه عن القبائح. وندب: سريع الإجابة إلى قضاء المآرب, كأنه يعين من ندبه لأمرٍ. ورضى: أي: يرضى به, وهو حرف يستعمل للواحد والاثنين والجميع على لفظٍ واحدٍ. قال زهير: [الطويل] متى يشتجر قوم يقل سرواتهم ... هم بيننا فهم رضًى وهم عدل وندس: أصل الندس من قولهم: ندسه بالرمح إذا طعنه به, قال جرير: [الطويل] ندسنا أبا مندوسة القين بالقنا ... ومار نجيع من دم الجوف ناقع وربما قالوا: الندس الجيد الطعن. ويقوم قوم: الندس العالم بأخبار الناس. ويقال: ندس وندس.

وقوله: لو كان فيض يديه ماء غاديةٍ ... عز القطا في الفيافي موضع اليبس الفيافي: جمع فيفاء, وهو مكان مقفر مأخوذ من الفيف, والقطا تكون في الأماكن البعيدة لتتخذ بها الأفاحيص. وعز: في معنى غلب وأعيا. واليبس: الأرض لا ماء فيها. وقد يقال لها: يبس إذا يبس نبتها. وقالوا: حطب يبس, وكذلك العرق إذا يبس, قال الشاعر وأنشده الفراء: [الطويل] فأبلغ أبا يحيى إذا ما لقيته ... على العيس في أعطافها عرق يبس وقوله: أكارم حسد الأرض السماء بهم ... وقصرت كل مصرٍ عن طرابلس اصطلحت العرب على أن تسمي المدينة العظيمة: مصرًا. وكانت الكوفة والبصرة في صدر الإسلام يقال لهما: المصران. ويجوز أن يكون الراجز عناهما بقوله: [السريع] قد خفت أن يحدرنا للمصرين ... زحف من الجراد بعد الزحفين فأما مصر التي على النيل فاسمها قديم, ويقال: إنها منسوبة إلى مصراييم, وهو من ولد سام بن نوح. وإذا حمل المصر على كلام العرب جاز أن يكون من قولهم للحاجز بين الشيئين: مصر, أي: هذا البلد يحجز بين مكانين غير مسكونين, وذلك موجود في كل الأمصار, إلا أن يكون ما لا يعلم, لأن كل مصرٍ لابد أن يكون حواليه مواضع للزرع والغراس لا يكثر فيها الناس ككثرتهم فيه, وهذا البيت يروى لعدي بن زيدٍ, ولأمية بن أبي الصلت: [البسيط] وجعل الشمس مصرًا لا خفاء به ... بين النهار وبين الليل قد فصلا

والسماء: الغالب عليها التأنيث, وربما جاء بالتذكير, وفي الكتاب العزيز: {السماء منفطر به} , فيروى عن الخليل أنه قال: المعنى ذات انفطارٍ؛ كأنه جعلها من جنس قولهم: امرأة حامل ومرضع؛ أي: ذات حملٍ, وذات إرضاع, وهذا لا يخرجها من حد التأنيث, وقيل: ذكرها على معنى السقف؛ لأن القرآن فيه: {والسقف المرفوع} وإنما المراد: السماء. قال الشاعر: [الطويل] وقالت سماء البيت فوقك مخلق ... فلما نيسر أحبلًا للركائب وقال قوم: يقال سماء وسماءة, فإذا جعل مثل سحابٍ وسحابةٍ جاز أن يقال: سماء ممطر كما يقال: سحاب روي, فيذكر, وجاز أن يقال: سحاب رواء وثقال, ويقال: مطرت السحاب فيؤنث على معنى الجمع, وكل مالا تأنيث له حقيقي فتأنيثه وتذكيره جائزان. وحقيقة التأنيث أن تكون المؤنثة مما يلد أو يبيض, وإذا فصلوا بكلام بين الفعل المؤنث سهل عندهم التذكير كقول العرب: حضر القاضي اليوم امرأة؛ فهذا أيسر عندهم من أن يقال: حضر امرأة اليوم القاضي, وبيت أبي الطيب قد فصل فيه بين الفعل والفاعل, وأشد منه قول القائل: [الوافر] لقد ولد الأخيلط أم سوءٍ ... لدى حوض الحمار على مثال فتأنيث أم حقيقي, وليس كذلك تأنيث السماء. وقوله: وقصرت كل مصرٍ: هو مثل قول العرب: ذهبت بعض أصابعي لما كان بعض يقع على الإصبع حسن أن يجاء بالتاء, ولو كان الكلام في غير الموزون لكان الأحسن أن يقال: وقصر كل مصرٍ, لأن الغالب على المصر التذكير, وإنما يقولون: مصر عظيم, ويجوز تأنيثه إذا أريد به البلدة أو المدينة.

ومن التي أولها

وقوله: أي الملوك وهم قصدي أحاذره ... وأي قرنٍ وهم سيفي وهم ترسي (89/ب) قد مضى القول في أن الثلاثي إذا كان ساكن الأوسط, ولم يكن الحرف المتوسط من حروف اللين جاز تحريكه وإسكانه كقوله: جند وجند وصبح وصبح, فإذا كان المتوسط واواً, مثل قولهم: الموق في المصدر من المائق قبح أن تحرك فيقال: موق, فإن اتفق أن يكون جمًا, مثل سورٍ جمع سوارٍ, وسؤالٍ جمع سؤال جاز تحريكه في الشعر, كما قال الأول: [المتقارب] أغر نقيًا شتيت النبا ... ت تمنحه سوك الإسحل أراد جمع سواكٍ. وقالوا في جمع ترسٍ أتراس في أقل العدد, وتروس في الكثير, قال الراجز: تخال شمسًا ركبت شموسًا ... أسيافنا والبيض والتروسا ومن التي أولها هذي برزت لنا فهجت رسيسا ... ثم انصرفت وما شفيت نسيسا وهو من ثاني الكامل. قوله: هذي أشبه ما يقال فيه أنهأراد: هذي البرزة برزت لنا أو هذي المرة ونحو ذلك. ويكون موضع هذي نصبًا على الظرف؛ لأنها مشار بها إلى ما يحتمل أن ينصب كنصب الظروف. وإذا

وقعت هذا على اسم من أسماء الزمان أو على ظرفٍ من ظروف الأمكنة فموضعها نصب, مثل قولك: جئتني هذا اليوم, أي: في هذا اليوم, وذهب قوم إلى أنه أراد: يا هذي برزت لنا فحذف حرف النداء, والنحويون ينكرون أن يحذف الحرف من الاسم المنادى إذا كان م ما يصلح أن يكون نعتًا للمبهم, فلا يجيزون: هذا الرجل أقبل. وهم يريدون يا هذا؛ لأنها تقع بعد أي في قولك: يا أيهذا الرجل, ويمتنعون من قولهم: رجل أقبل, وهم يريدون يا رجل؛ لأنك تقول: يا أيها الرجل فتنعت به أي, فإن استعمل ذلك فهو ضرورة كأنهم كرهوا أن يحذف حرف النداء من غلم العلم أو المضاف ويحملون على الضرورة قول العجاج: [الرجز] جاري لا تستنكري عذيري كأنه أراد: جارية, ويجعلون قول العرب: افتد مخنوق, وأصبح ليل, جاريًا مجرى المثل, والأمثال يجوز فيها ما يجوز في الشعر؛ لأنها تكثر على الألسن وتستخف, قال بشر بن أبي خازم: [الوافر] فبات يقول أصبح ليل حتى ... تجلى عن صريمته الظلام والرسيس: بقية الحب في القلب كأنه أخذ من قولهم: ماله رسيس؛ أي: حس. قال الأفوه: [السريع] في مهمه ما لأنيس به ... حس ولا فيه له من رسيس ويجوز أن يحمل هذا على البقية. والنسيس: بقية النفس. قال أبو زبيد: [الوافر]

إذا ضمت يداه إليه قرنًا ... فقد أودى إذا بلغ النسيس ويجوز أن يكون تسميتهم لأخر النفس نسيسًا؛ من قولهم: نسست الضأن وغيرها إذا سقتها, كأنه فعيل في معنى مفعول؛ لأنهم يقولون في صفة الميت: ساق إذا حصل في النزاع وهو يسوق نفسه, وينشد لطهمان بن عمرو الكلابي: [الطويل] ولو أن ليلى العامرية سلمت ... علي مسجى في الثياب أسوق إذًا لطننت الموت يتركني لها ... وتفرح عني كربة ومضيق وقوله: خود جنت بيني وبين عواذلي ... حربًا وغادرت الفؤاد وطيسا الوطيس: حفرة تحفر في الأرض ويختبز فيها, ويقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في بعض الأيام: «الآن حمي الوطيس» يريد الحرب. شبه اشتعالها باشتعال النار في التنور, وهذا البيت يروى لتأبط شرًا: [الكامل] إني إذا حمي الوطيس وأوقدت ... للحرب نار منية لم أنكل وقال الأفوه: [السريع] أدين بالصبر إذا ضرمت ... نيرانها الحرب اضطرام الوطيس

وقوله: بيضاء يمنعها تكلم دلها ... تيهًا ويمنعها الحياء تميسا قد مضى الكلام في نحو من هذا؛ وذلك عند قوله: متى ما شئت تبلوه. والبصريون ينكرون إضمار عوامل الأفعال, والكوفيون يتجوزون في ذلك. وقد جمع هاهنا بين شيئين: أحدهما: كالضرورة وهو حذفه أن في الموضع الذي يجب دخولها منه, لأن الوجه أن يقول: يمنعها أن تكلم, والآخر ضرورة وهو نصبه الفعل بالعامل المحذوف, وفعل ذلك في موضعين من هذا البيت. والرواة ينصبون تكلم, وما أجدر أبا الطيب أن يكون على ذلك وضعه ليساوي بينه وبين قوله: تميس. ولو رفع تكلم لم يكن فيه إلا ضرورة واحدة, وذلك أحسن من ضرورتين. والدل ما يظهر للمرأة من حسنطريقة وسكون. وأكثر ما يستعمل الدل للنساء, وربما استعملوه في الرجال, وذلك قليل. قال الراجز: [الرجز] لو أن سلمى شهدت مظلي ... تمتح أو تدلج أو تعلي إذًا لراحت غير ذات دل تدلج: من الدالج, وهو الذي يحمل الدلو من البئر إلى الحوض. والتعلية: تستعمل في (90/أ) موضعين إذا كانت في السقي: أحدهما: أن يكون رد الحبل إلى البكرة إذا خرج منها, وهي الإمراس, والآخر: أن ينزل الماتحان إلى البئر فيمسك أحدهما الدلو, ويغرف الآخر الماء, فيصبه فيها, فالغرف هو التعلية. وقوله: إن حل فارقت الخزائن ماله ... أو سار فارقت الجسوم الروسا يقال: رأس ورؤوس؛ فهذه اللغة الفصيحة. وقد قالوا: روس فحذفوا, فيجوز أن

يكون حذفهم للهمزة إذ كانت مستثقلة, كما قالوا: سواية يريدون: سوائية, حكى ذلك أبو زيد, ويجوز أن يكون خففوا الهمزة فجعلوها بين بين فقربت من الساكن فحذفت لذلك, أو يكون الذين قالوا: {وس حملوا الكلمة على مثل قولهم: لإرس ورد, وخيل ورد, فكأنهم جمعوا راسًا على روسٍ؛ فيكون حذفهم للزائد دون الأصلي؛ لأن الهمزة في رؤوس أصلية, والواو مزيدة, قال الشاعر: [المديد] إنما هند كشمسٍ تجلت ... يوم عيدٍ فوق روس الجبال ومما يجري مجرى قولهم: الروس قولهم: الليم في اللئيم. قال الشاعر: [الكامل] وإذا حبوت الليم منك صنيعةً ... غلب الصنيعة لؤمه فلواكها فإن كان المحذوف من الروس الهمزة؛ فوزن ما بقي منه (فول) لأن الهمزة كانت موضع العين, وإن كان المحذوف الواو فالباقي (فعل) , وكذلك اللئيم إن اعتقد أن المحذوف الهمزة فوزن ليمٍ (فيل) وإن اعتقد أنه الياء فوزن الباقي (فعل). وقوله: ملك إذا عاديت نفسك عاده ... ورضيت أوحش ما كرهت أنيسا هذا الكلام إذا حمل على ما هو مرتب عليه فهو على إرادة (فاءٍ) , كأنه قال: إذا عاديت نفسك فعاده, وحذف الفاء ربما استعملوه في الجزاء وجواب أما, وهو من الضرورات, ومن ذلك قول عبد الرحمن بن حسان: [البسيط] من يفعل الحسنات الله يشكرها ... والشر بالشر عند الله مثلان

كأنه أراد: فالله يشكرها. وقال آخر في حذف الفاء من جواب أما: [الطويل] وأما إذا ما روح الجدب سرحهم ... ولاح لهم من العشيات سملق نفى الذم عن آل المحلق جفنة ... كجابية الشيخ العراقي تفهق وإذا مشبهة بحروف الجزاء, وربما جزموا بها في الشعر, أراد: فنفى الذم. وأحسن من هذا الوجه أن يحمل بيت أبي الطيب على التقديم والتأخير, كأنه قال: عاد نفسك إذا عاديته. ويدلك على أنه أراد هذا الوجه قوله: ورضيت أوحش ما كرهت أنيسا لأنه إذا حمل على الوجه الأول بعد حمله على قولك: عاده, وذلك في الوجه الثاني واضح جيد, كأنه قال: عاد نفسك إذا عاديته, وإذا رضيت أوحش ما كرهت أنيسً, فيعطف ر (رضيت) على (عاديت) , ولم يرد إلا ذلك. وقوله: الخائض الغمرات غير مدافعٍ ... والشمري المطعن الدعيسا الدعيس: فعيل من (دعس) إذا طعن, ويقال للرمح: المدعس؛ لأنه يدعس به؛ أي: يطعن, قال الشاعر: [الطويل] ونحن صبحنا أهل نجران غارة ... صدور المذاكي والرماح المداعسا

وقال الراجز: [الرجز] أنا عمير وأبو المغلس ... وبالقناة شمري مدعس ويقال للأثر الواضح: دعس, كأنه قد دعس بالحوافر والأخفاف؛ أي: طعن. وقوله: كشفت جمهرة العباد فلم أجد ... إلا مسودًا جنبه مرؤوسا جمهرة الشيء: معظمه وخياره, وهو مثل الجمهور, ويقال: كتيبة جمهور؛ أي: هي من خيار الكتائب, قال عمرو بن الأيهم التعلبي: [الخفيف] ولقد كنت يا غني غنيًا ... عن قراع الكتيبة الجمهور وجمهور الرمل معظمه, قال ذو الرمة: [الطويل] خليلي عوجا من صدور الرواحل ... بجمهور حزوى فابكيا في المنازل ومرؤوس: من قولهم: رأسهم الرجل إذا صار لهم رئيسًا, وجنبه: منصوب على الظرف, كأنه قال: كل سيد إذا قيس إلى هذا الممدوح كان مرؤوسًا جنبه؛ أي: في ناحيته, وأكثر ما يقولون للرجل رئيس, كأنهم قصدوا فيه المبالغة. وقالوا: رائس الكلاب للذي هو عظيمها, ولعلهم لما استعملوه في الكلاب ميزه من رئيس الإنس فقالوا: رئيس, وهذا إذا حمل على مذهب النحويين جاز أن يكون على مذهب المبالغة, كما قالوا: عالم وعليم, وشاهد وشهيد, فأما قول العامة: ريس فهو قليل في الكلام الأول. وقد جاء في شعر أنشده ابن السكيت وهو: [الكامل]

تلقى الأمان على حياض محمد ... ثولاء مخرفة وذئب أطلس لا ذي تخاف وذاك ليس يروعها ... تهدى الرعية ما استقام الريس وإذا حمل الريس على أنه من رأس فأصله الهمز, كأنه رئيس, وفيعل في غير المعتل مفقود لا يوجد (90/أ) مثل: صيرف وحيدر؛ فيحتمل أن يكون رئيس خففت فيه الهمزة تخفيفًا لازمًا, فصار يشبه المعتل مثل: هين ولين. وقد حكي أن بعض القراء قرأ: {بعذاب بيئسٍ} , في معنى بئيسٍ, فإن صح ذلك فهو شاذ لا يقاس عليه. واشتقاق ريسٍ إذا لم يهمز يجوز أن يكون من قولهم: راس يريس إذا تبختر في مشيته؛ لأنهم يصفون السادة بذلك, فيكون حينئذ من المعتل الذي جاء على فيعل, وهو كثير. وقوله: بشر تصور غايةً في آيةٍ ... تنفي الظنون وتفسد التقييسا غاية الشيء: نهايته. وقالوا لراية الجيش: غاية؛ لأن من تبعه ينتهي إليها, وحكوا: غييت غايةً إذا اتخذتها, فدل ذلك على أن الألف منقلبة عن ياء. والآية: العلامة تستعمل فيما صغر وكبر فيقال: آية لقائيك صياح العصفور, فهذا فيما صغر, ويقولون فيما عظم: هذه آية من الله, والآية من القرآن يراد أنها علامة للنبوة, قيل: إنما يراد بها جماعة حروف؛ لأنهم يقولون: خرج القوم بآيتهم؛ أي: بجماعتهم, وأنشدوا للبرج بن مسهر الطائي: [الطويل] خرجنا من النقبين لا حي مثلنا ... بآيتنا نزجي العتاق المطافلا والتقييس: مصدر قيست, وفعلت في هذا قليلة, وإنما يقولون: قايست الأمور. والمعنى أن هذا الممدوح ظهرت فيه من الفضائل أشياء تفسد القياس؛ لأنها خارجة عن العادة.

وقوله: وبه يضن على البرية لا بها ... وعليه منها لا عليها يوسى البرية: الخلق, يقال: إن أصلها الهمز؛ لأنها من برأها الله سبحانه؛ أي: خلقها. ولكنهم تركوا همزها تركًا مستمرًا فلم يهمزها إلا أناس قليل, وقيل: هي مأخوذة من البرا؛ أي: التراب, فلذلك لم تهمز. ويوسى: من الأسى, وهو الحزن. وأصل الواو فيها الهمز, ولا يجوز همزها في هذا الموضع؛ لأن ذلك يؤدي إلى فقد اللين. وقوله: لو كان ذو القرنين أعمل رأيه ... لما أتى الظلمات صرن شموسا ذو القرنين: هو المذكور في كتاب الله سبحانه, وقد اختلف في تسميته بهذا الاسم؛ فأشبه ما يقال في ذلك أنه كان له قرنان من شعرٍ؛ أي: ذؤابتان. وبعض أصحاب الكتب المتقدمة يذكر في ذلك شيئًا مستحيلًا, وهو أنه كان قرنا رأسه من نحاسٍ. وقرن الرأس جانبه, وقيل: سمي ذا القرنين؛ لأنه بلغ المشرق والمغرب فكأنهما جعلا قرني الأرض. وقوله: أو كان صادف رأس عازر سيفه ... في يوم معركةٍ لأعيا عيسى عازر: اسم ليس بعربي, إلا أنه يوافق من العربية فاعلًا من العزر والتعزيز, يقال: عزرت الرجل إذا هبته وعظمته. وعزرته إذا ضربته دون الحد. والعزر شجر أيضًا. وهذا البيت يدل على أن أبا الطيب سمع أن عيسى عليه السلام أحيا عزر, وعيسى: كلمة غير عربية أيضًا؛ إلا أنها وافقت فعلى من العيس وهي الإبل البيض التي يعلو بياضها شقرة. يقال: بعير أعيس بين العيس, والعيس أيضًا ماء الفحل, وقالوا: عاس المال يعوسه إذا أحسن القيام عليه, فلو بني من هذا اسم على فعلى لقيل: عيسى, فقلبت الواو ياءًا لانكسار ما قبلها. ومثل ذلك قولهم: قسمة ضيزى, وهي من ضازه يضوزه إذا ظلمه ونقصه من حقه, وقد حكي: ضازه يضيزه.

وقوله: ولحظت أنمله فسلن مواهبًا ... ولمست منصله فسال نفوسًا الأنملة: فيها لغتان معروفتان: فتح الميم وضمها, فإذا فتحت الميم فلها أمثال كثيرة, مثل قولهم: أرملة يريدون به الجماعة الفقراء. فأما قول العامة للمرأة التي قد مات زوجها: أرملة فلا ريب أنها عربية, وهي مأخوذة من أرمل إذا استقى, وإنما قيل للفقير: مرمل؛ لأنه يراد أن ماله ذهب فكأنه بقي على الرمل, ومثل ذلك قولهم: أدقع فهو مدقع؛ أي: ذهب ماله, ولم يبق له ما يحتمل عليه حتى بقي على الدقعاء, وهي التراب الدقيق. وقيل: الدقعاء: ظاهر الأرض, ويدل على أن قولهم للتي مات زوجها: أرملة كلام صحيح عربي قول جريرٍ: [البسيط] هذه الأرامل قد قضيت حاجتها ... فما تقول لهذا الأرمل الذكر فصفته الأرمل بالذكر يشهد بأنهم يقولون للأنثى: أرملة. ومثل الأنملة بفتح الميم قولهم للجماعة: أزفلة. فأما أنملة بضم الميم فمثالها قليل. وقالوا في الجمع: أنمل فجاؤوا به على أفعلٍ. وسيبويه يزعم أنه لم يجئ في الكلام (91/أ) شيء على مثال أفعلٍ من الأحاد, ولا ينكسر قوله بقولهم: أنمل؛ لأن أنملًا جمع, وإن كان جاريًا مجرى الواحد. وهمزة أنملٍ زائدة, كذلك يوجب قياس التصريف؛ لأن الهمزة إذا كان بعدها ثلاثة أحرف من الأصول حكم بأنها زائدة. وحكى بعضهم: رجل مؤنمل إذا كان عظيم الأنامل, وليس ثبات الهمزة في هذا دليلًا على أنها أصلية وإنما يحمل على الشذوذ, كما قالوا: كساء مؤرنب إذا صنع من صوف الأرانب, وقيل: إذا كان لونه لون الأرنب. قالت ليلى الأخيلية: [الطويل] تدلت على حص الرؤوس كأنها ... كرات غلامٍ في كساءٍ مؤرنب

واشتقاق الأنملة من قولهم: رجل نمل, وجارية نملة إذا كانت كثيرة الحركة؛ يراد أن حركتها تكثر في طلاب الأشياء من مأكل وغيره, وحكى بعضهم: أصبع في إصبعٍ فإن صح ذلك فقد شذ عن سيبويه هذا الحرف, فأما اعتراضهم عليه بالأثمد وهو اسم موضعٍ من قول القائل: [المتقارب] تطاول ليلك بالأثمد ... ونام الخلي ولم ترقد فلا يلزمه ذلك؛ لأن الأثمد جمع ثمدٍ, وهو الماء القليل, سمي به هذا الموضع. وقد قالوا: الآنك لهذا الشيء المعروف, وهو أعجمي معرب, وقد استعملوه قديمًا. وفي الحديث المأثور: «صب في أذنيه الآنك». وذهب قوم إلى أن الأشد من قولهم: بلغ أشده اسم موحد على أفعلٍ, والذي عليه الناس أنه جمع, فمنهم من يقول: هو جمع شدة على حذف الهاء, كما قالوا: ضد وأضد, وهذا البيت يروى لأبي دوادٍ: [المديد] نحن قتلنا ببرقة ذي غا ... نٍ على رغم العدو الأضدا وقال بعضهم: أشد لم يستعمل واحده, فيجوز أن يكون جمع شد وشد وشد؛ لأن هذه الثلاثة يجوز أن تجمع على أفعل, فشد وأشد مثل كف وأكف, وإن كان الواحد شدًا

فهو مثل قولهم: ضر, وأضر, وإن كان شدًا فهو مثل: ضد وأضد. ويدل على أنه جمع تأنيثهم إياه فيقولون: بلغت أشد الغلام. قال الراجز: [الرجز] بلغتها فاجتمعت أشدي ... وشذب الباطل عني جدي وحكى ابن السكيت: أرز وأرز؛ فأرز, بفتح الهمزة على مثال: أفعلٍ, ويدل على ذلك قول بعضهم: رز بحذف الهمزة. ويحتمل أن يدعى في همزة أرز أنها أصلية لقولهم: أرز, وأرز في بعض اللغات. فإذا قيس على قولهم: أرز فهو أفعل, وإذا حمل على قولهم: أرز فهو فعل. والمنصل: السيف, يقال: منصل ومنصل؛ فأما منصل, بفتح الصاد, فهو القياس؛ لأنه من قولهم: أنصلته إذا أخرجته من غمده, كما يقال: أنصلت الرجل من ماله إذا أخرجته منه. وأما منصل فشاذ عن القياس, وإنما صمت الصاد لأجل ضمة الميم. ومثل ذلك قولهم: منتن الرائحة, بضم التاء, وإنما القياس كسرها؛ لأنه من أنتن الشيء إذا تغيرت رائحته, وصارت كريهةً, وبيت عنترة ينشد على الضم: [الكامل] إني امرؤ من خير عبسٍ منصبًا ... شطري وأحمي سائري بالمنصل ونفوس هاهنا: جمع نفسٍ, والأحسن أن يراد بها الروح؛ لأنه أشد في المبالغة, وقد يسمى الدم نفسًا, وبعضهم يفسر قول أوس بن حجرٍ: [الكامل] نبئت أن بني سحيمٍ أدخلوا ... أبياتهم تامور نفس المنذر على أن النفس: الدم. والتامور: دم القلب. وأما قول الأول: [الطويل] تسيل على حد الظباة نفوسنا ... وليست على غير السيوف تسيل

فيحتمل الوجهين, إلا أن المحدثين أشد مبالغةً في الصفات من الشعراء المتقدمين, وإنما سمي الدن نفسصا؛ لأنه بقاء للنفس, ومتى ذهب لم يكن لها في الجسم مقام. وقوله: يا من نلوذ من الزمان بظله ... أبدًا ونطرد باسمه إبليسا الظل: أصله الستر, وإذا قالوا: جلس في الظل وفي الشمس فالمراد به ما استتر عنها, أو ما ستر الجاليس فيه. والفيء ما كان فيه فزالت عنه, ومن الظل قولهم: أظله الأمر كأنه أشرف عليه فكان له كالستر, وجمع الظل أظلال في القلة, وظلول في الكثرة. قال الراجز: إذا البخيل لج في بخوله ... وغال شح نفسه بغوله كنت الذي يعاش في ظلوله وقال آخر: [الطويل] وقد صرت في شرق البلاد وغربها ... وقد لوحتني شمسها وظلولها وإذا وصفوا الفرس بالسرعة قالوا: هو يباري ظله, كأنهم يريدون أنه يكاد من سرعته يسبقه. قال لبيد: [الرمل] يطرد الزج يباري ظله ... بطريرٍ كالسنان المنتخل وكثر قولهم: فلان في ظل الشجرة, وفي ظل الجدار, حتى قالوا: هو في ظل فلانٍ؛ أي: في عزه ومنعته. وسموا العزر ظلًا في بعض المواضع, قال الشاعر: [الطويل] فلو كنت مولى الظل أو في ظلاله ... ظلمت ولكن لا يدي لك بالظلم

فأما قولهم لباطن خف البعير: الأظل, فيجوز أن يكون سمي بذلك لاستتاره لما كان غيره من شخص البعير (91/ب) يضحى للشمس. وزعم قوم أنه يجمع على ظل مثل: أصم وصم, وليس ذلك بمعروف؛ وإنما يستعمل فعل في جمع أفعل إذا كان له فعلاء, مثل: أغر وغراء, وأشل وشلاء, والأقيس في جمع أظل أن يقال: أظال, ولا يمكن أن يجيء في شعر إلا أن يقع في قافيةٍ, وإنما يحتمله حشو البيت في موضعٍ واحدٍ, وليس هو بمجمعٍ عليه, كما أنشدوا هذا البيت, ويقال إنه مصنوع: [المتقارب] فرمنا القصاص وكان التقاص ... ص فرضًا وحتمًا على المسلمينا فأما الأظال فما علمته قيل في منظوم ولا منثورٍ, ولكن القياس يجيزه. وضرب من الطير يقال له: ملاعب ظله. ومن لفظ الظل قولهم: ظل يفعل كذا إذا فعله نهارًا, كأنهم يريدون فعله في الوقت الذي يحتاج فيه إلى اظل لليستر من حر الشمس, ولا يقولون: ظل يفعله ليلًا, إنما يقولون: بات يفعل, وقد حكي أن (ظل) يستعمل في الليل؛ فإن صح ذلك فلأنهم قالوا: في ظل أخضر؛ أي: في ستر ليلٍ أخضر, قال ذو الرمة: [البسيط] قد أعسف النازح المجهول معسفه ... في ظل أخضر يدعو هامه البوم وقالوا: ظل ظليل على معنى المبالغة, كما قالوا: شيب شائب, وشغل شاغل. وقوله: نطرد باسمه إبليسا أي: اسمه محمد وهو كاسم النبي, والنبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر فر الشيطان. وإبليس ليس باسمٍ عربي. وقول بعض المفسرين: سمي إبليس من (أبلس) من رحمه الله, إذا يئس؛ إنما هو على المجاز, ولو كان مشتقًا من (أبلس) لوجب أن ينصرف؛ لأنه عربي, وإنما امتنع من الصرف للعجمة والتعريف.

وقوله: صدق المخبر عنك دونك وصفه ... من بالعراق يراك في طرسوسا معنى هذا البيت أن المخبر عنك لا يوجد كاذبًا؛ لأن وصفه لك دون ما أنت عليه من الفضل والكرم؛ لأن واصف الإنسان إذا غلا في صفته حتى يجاوز ما هو عليه فقد كذب؛ مثل أن يقول: هو يعطي السائل ألف دينارٍ, وتكون عادته أن يعطيه مئةً أو دونها, فهذا كذب لا محالة, فإن قال مخبرًا عمن يعطي ألف دينارٍ: هو يعطي مئةً فقد صدق؛ لأن المئة داخلة في جملة الألف, فهذا وجه له. ويجوز أن يحمل على أن المخبر عنه يقول: هو فوق وصفي له, فيكون صادقًا في هذا القول. ونصف البيت الثاني تفسير للنصف الأول؛ كأن الواصف له يقول: رأيته بطرسوس فهذا اقتصاد في الوصف؛ لأنه ادعى أن من بالعراق يراه وهو مقيم بطرسوس, فيراه هاهنا تحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون من رؤية العين فذلك من مبالغة الشعراء وادعائهم ما ليس بكائنٍ, والآخر: أن يكون من رؤية العلم, فهذا جائز أن يكون, وله في حكم الشعر معنى لطيف كأن الواصف قال: رأيته بطرسوس, وهو يريد النظر, فقال السامع: صدقت قد رأيناه بالعراق؛ أي: من رؤية العلم فقد ساويناك في لفظ الرؤية, أي قد صح معنا فضله وجوده. وقوله: بلد أقمت به وذكرك سائر ... يشنى المقيل ويكره التعريسا قد مضى القول في تخفيف الهمزة في مثل يشنأ, وكل ما كان من الهمز في آخر الكلمة وقبله فتحة, وأنه يجوز أن يجعل ألفًا؛ لأن الناطق به في غير الشعر يقف عليه بالسكون, فإذا سكنت الهمزة وقبلها فتحة جاز أن تحول إلى الألف, فإن كان قبلها ضمة مثل قولهم: لؤلؤ جاز أن تجعل واوًا. وقد فعل ذلك بعض القرء؛ إلا أنها إذا جعلت واوًا لم يجز أن تقلب إلى الياء, كما يفعل ذلك في الواو إذا وقعت طرفًا وقبلها ضمة, مثل قولهم في جمع دلوٍ: أدلٍ, وأصله أدلو, فإن كان قبل الهمزة المتطرفة كسرة جاز أن تجعل ياءً, مثل قولهم: مخطئ ومبطئ؛ إلا أنك إذا نصبت الحرف الذي هي فيه حسن أن تجعلها ياءً من غير ضرورةٍ, فتقول: رأيت مبطيًا ومخطيًا فتجريها مجرى ياء معطٍ, فإن خففتها في حال الرفع والخفض, فجعلتها ياءً لم يجز

أن تقول: هذا مخطي إلا في الضرورة, كما لا يجوز أن تقول: هذا معطي إلا في شعرٍ, ولكن تقول: هذا مخطٍ ومبطٍ, ومررت بمخطٍ وموطٍ فرسه القتيل. فإن خففت الهمزة في شنئ ماضي يشنأ جعلتها ياءً خالصةً, فإذا فعلت بها ذلك جاز أن تشبهها بياء بقي ورضي في بعض اللغات؛ وذلك رديء جدًا؛ لأن قولهم: رضي, بسكون الياء لغة رديئة إلا أنها قد حكاها البصريون والكوفيون. والمقيل: المراد به هاهنا الموضع الذي يقال فيه عند الهاجرة, أي يقام به حتى ينكسر الحر. والمقيل يجوز أن يكون مصدرصا, واسم مكانٍ, قال عمر بن أبي ربيعة: [الخفيف] عرجي ساعةً كما عرج الظل ... ل وقيلي هذا أوان المقيل وقالوا: مقيل الهام يريدون الموضع الذي يقيم فيه, قال الراجز: [الرجز] ضرب يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله وقال آخر: [الوافر] بضرب بالسيوف رؤوس قومٍ ... أزلنا هامهن عن المقيل والتعريس: أكثر ما يستعمل في النزول عند آخر الليل لينام الراكب. وأصل التعريس الإقامة في الموضع؛ ولذلك قالوا: عريسة الأسد لغابه. والمثل السائر: «كمبتغي الصيد في عريسة الأسد» وحكى قوم: عرس الصبي بأمه إذا لزمها. ويجوز أن يكون اشتقاق العروس من هذا أو من الإقامة. وقالوا لموضع الجنين في رحم الناقة: معرس؛ لأنه يقيم فيه.

قال أبو وجزة: [الطويل] تجللها غالٍ عتيق وزانها ... معرس مهري به الذيل يلمع يعني أنها علاها شحم غالٍ من الغلو؛ أي: الزيادة. وعتيق: أي: من أعوامٍ متقدمةٍ, ومهري يعني به ولدها. وقوله: به الذيل يلمع؛ أي: إنها قد شالت بذنبها للقاح فعلم أن في بطنها ولدًا, وقال (92/أ) الشاعر في أن التعريس مع الفجر: [الطويل] فلو كانت ماء كنت ماء غمامةٍ ... ولو كنت نومًا كنت تعريسة الفجر وقوله: فإذا طلبت فريسةً فارقته ... وإذا خدرت تخدته عريسا أصل الفرس: دق العنق, والفرسة: قرحة تخرج في أصله, ويجوز أن يكون اشتقاق الفرس من ذلك, وإذا قالوا: هذا جمل فريس أو ناقة فريس جاؤوا بالمؤنث على لفظ المذكر؛ لأن التأنيث قد تبين في الاسم الأول. فإذا حذفوا الاسم المنعوت بما هو منعوت على فعيلٍ المعدول عن فعيلةٍ, مثل قولهم: شاة ذبيح, وناقة عقير أثبتوا الهاء فقالوا: هذه ذبيحة وعقيرة ويساوون بين المذكر والمؤنث, فيجوز أن يقولوا للكبش إذا رأوه: هذه ذبيحة فلانٍ, فإن كان قد ذبح فكأنهم ذهبوا بها إلى الجثة المذبوحة, وإن كان لم يذبح, وهو في نية الذبح جاز أن يريدوا الجثة المعدة لذلك, وقيل: إنما أدخلوا الهاء في المذكر على معنى المبالغة, كما قالوا: رجل نسابة وعلامة, وقال جرير: [الطويل] فلا يضغمن الليث تيمًا بغرةٍ ... وتيم يشمون الفريس المنيبا يقال: إن الذئب إذا فرس شاةً, وطردة عنها الراعي, جعلت الغنم تشمها, وتنفر منها, فهذا أجراه على الأصل, ولم يدخل فيه الهاء. ويروى لعنترة العبسي: [الطويل] فلله عينا من رأى مثل مالكٍ ... عقيرة قومٍ أن جرى فرسان فأدخل الهاء على المذكر.

ويقال: خدر الأسد وأخدر إذا دخل في الغاب, جعلوه له كالخدر, وأسد خادر ومخدر, ومخدره: موضعه من قولهم: أخدر. والعريس: مثل العريسة. وقوله: إني نثرت عليك درًا فانتقد ... كثر المدلس فاحذر التدليسا يعني بالدر كلامه, وتشبيههم الكلام بالدر مسبوق إليه, قد تكلم به في الدهر السالف فقال الحكمي في الأمين: [الطويل] نثرت عليك الدر يادر هاشمٍ ... فيا من رأى دراً على الدر ينثر وأصل النقد: ضرب الشيء بطرف الإصبغ, ومنه قالوا: نقدته الحية, ومن ذلك: نقد الصيرفي المال: إذا اختار جيده, وميز بعضه من بعضٍ؛ لأن ينقده بإصبعه, قال الفرزدق: [البسيط] تنفي يداها الحصى في كل هاجرةٍ ... نفي الدراهيم تنقاد الصياريف وقال امرؤ القيس: [الطويل] كأن صليل المرو بين خفافها ... صليل زيوفٍ ينتقدن بعبقرا ثم كثرت هذه الكلمة حتى قالوا: نقدت الكلام, ونقدت الشعر, وإنما يريدون تمييز الجيد من الرديء بالفكر والغريزة, وليس ثم نقد باليد. والتدليس: من قولهم: دلس عليه في البيع وغيره إذا غشه أو خانه, ويقال: إن أصل الدلس الظلمة. وقوله: خير الطيور على القصور وشرها ... يأوي الخراب ويسكن الناووسا الطيور: جمع طيرٍ, والطير: جمع طائرٍ, مثل ما قالوا: راكب وركب, وهو يقع على كل

ذي جناحٍ من البعوضة فما فوقها من ذوات الريش, وتكلموا في قول الحطيئة: [الطويل] سقوا جارك العيمان لما جفوته ... وقلص عن برد الشراب مشافره سنامًا ومحضًا أنبت اللحم فاكتست ... عظام امرئٍ ما كان يشبع طائره فقيل: أراد أنه قد ذهب لحمه, فلو قتل, وسقط عليه طائر لم يشبع من لحمه لقلته؛ فهذا وجه بين, ويجوز أن يريد أنه الذي كان لا يشبع, وجعل الطائر مثلًا لنفسه, ونحو من هذا قوله تعالى: {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه} , أي عمله وجزاءه الذي يستحقه, ويحتمل أن يكون من قولهم للجائع: «قد صاحت عصافير بطنه»؛ أي: سمع له صوت من فقد الطعام؛ فيعني أن عصافير بطنه لم تكن تصل إلى الشبع, وقلما يقولون للواحد: طير, إلا أنه قد جاء في الشعر الفصيح, قال الشاعر: [الوافر] لقد جعلت بنو الديل بن بكرٍ ... مودتنا التي جئنا قراضا بطيرٍ من طيور الغش يأوي ... صدورهم فعشس ثم باضا فالأشبه أن يكون الطير هاهنا واحدًا ولا يمتنع أن يكون جمعًا, مثل راكبٍ وركبٍ, ثم جمعه جمعًا ثانيًا, وقال: ثم باض فجاء به على لفظ الواحد, كما قالوا: هذا ركب سائر فأجروه مجرى راكبٍ. والناووس: هذا الذي يتخذه النصارى معروف, ويجب أن يكون أصله غير عربي, وقد تكلموا به قديمًا. ومعنى البيت أن أفضل الطير يكون في قصور الملوك كالببغاء والبازي ونحوهما, وشرها, كالبوم وما جرى مجراه, يسكن الخراب والمواضع الخالية من الإنس. وفي هذا البيت تعريض بذم أهل أنطاكية؛ أي: إن دارك من القصور التي ينبغي أن يحمل إليها أفضل الأشياء, ويكون فيها الغالي الثمن من الطير, وضرب ذلك مثلًا لشعره, وجعل شعر غيره كالطير التي تألف (92/ب) النواويس, وما كان مثلها. وقوله: لو جادت الدنيا فدتك بأهلها ... أو جاهدت كتبت عليك حبيسا

ومن أبيات أولها

من شأن الذين يجاهدون في سبيل الله إذا وقفوا شيئًا على الجهاد أن يجعلوه محبسًا على ذلك, لا يد لغيره في إخراجه إلى سواه. واكتفى بذكره الجهاد عن ذكره الوقف, وإذا وسم الفرس أو كتب على السيف حبيس فالأحسن أن يكون مرفوعًا, كأنه قال: هذا الشيء حبيس, فهو خبر مبتدأ محذوفٍ, وقائل البيت جعل حبيسًا مفعولًا؛ لأنه ذهب مذهب كلمةٍ واحدةٍ أخبر عن كتابها, فليس قبلها شيء محذوف, كما يقال للرجل: اكتب عمرًا, فيكتب الكلمة مجردةً من سواها. ومن أبيات أولها ألذ من المدام الخندريس ... وأحلى من معاطاة الكؤوس وهي من الضرب الأول من الوافر في قول الخليل, وفي قول غيره من السحل الرابع. الخندريس: من صفات الخمر, وأصلها رومي, ويقال: إن معناها: القديمة المعتقة, وحكى الأصمعي أن الخندريس الحنطة العتيقة, والمعاطاة المفاعلة من (عطا يعطو) إذا تناول, والظبية تعطو البرير وورق الشجر, أي: تناوله, وقال امرؤ القيس: [الطويل] وتعطو برخصٍ غير شتنٍ كأنه ... أساريع ظبيٍ أو مساويك إسحل والكؤوس: جمع كأس, يقال للإناء: كأس, ولما فيه من الشراب: كأس. وقوله: معاطاة الصفائح والعوالي ... وإقحامي خميسًا في خميس الإقحام: من قولهم: أقحم الشيء في الشيء إذا أدخله فيه, وأقحم نفسه في المهلكة إذا رمى بها فيها. ويقال: اقتحم أيضًا, والمقحم من الإبل الذي يلقي سنين في سن, مثل أن يربع ويسدس في سنة.

ومن بيتين أولهما

وقوله: ولو سقيتها بيدي نديمٍ ... أسر به لكان أبا ضبيس ضبيس: من قولهم: رجل ضبيس, وضبس إذا كان سيئ الخلق حديد النفس. قال الأخرم السنبسي: [المتقارب] لنا باحة ضبس نابها ... وغاب تزاءر فيه الأسود ومن بيتين أولهما يقل له القيام على الرؤوس ... وبذل المكرمات من النفوس وهما في الوزن كالتي قبلهما. والرؤوس: جمع رأس, سمي في كل الحيوان, ثم خرجوا به إلى غير ذلك؛ فقالوا: رأس الجبل, ورأس الأكمة, ورأس الشجرة, ورجل أرأس, ورؤاسي: عظيم الرأس, وجمع رئيس رؤساء, وهو مأخوذ من أنه يكون رأس القوم, وهو فعيل في معنى فاعلٍ, وإذا قالوا: رئيس في معنى مرؤوسٍ؛ أي: قد ضرب رأسه فجمعه رأسى مثل جريحٍ وجرحى. وقوله: إذا خانته في يومٍ ضحوكٍ ... فكيف تكون في يومٍ عبوس

ومن أبيات أولها

يستعار الضحك والعبوس للأيام, وإنما أصله في الآدميين, يراد بالضحوك أنه يضحك فيه للسرور الذي يكون, أو يعبس لأجل الشر الذي يقع, وفي الكتاب العزيز: {يومًا عبوسًا قمطريرًا} وهو من باب قولهم: ليل نائم؛ أي: ينام فيه. ومن أبيات أولها أحب امرئٍ حبت الأنفس ... وأطيب ما شمه معطس وهي من المتقارب الثالث. أفعل, الذي يراد به التفضيل: إنما يبنى من الأفعال الثلاثية, التي لا زوائد فيها, وهي على ثلاثة أضربٍ: صحيح ومعتل, ومضاعف, فالصحيح على ثلاثة أمثلةٍ: فعل مثل ضرب, وفعل مثل حذر, وفعل مثل كرم, والمعتل على ضربين: أحدهما المعتل الأوسط, مثل: قال وباع, وهو يجيء على فعل وفعل كثيرًا, وإنما يكون على هذا الوزن في الأصل, فأما الموجود منه بعد العلة فوزنه فعل. فأما فعل من ذوات الواو فمثل: قال وقام, وفعل, مثل: خاف ونام, وأما ذوات الياء ففعل منها, مثل: باع وزاد, وفعل, مثل قولهم: هاب يهاب, وقد يجيء فعل إلا أنه ليس في الكثرة مثل هذين؛ وذلك مثل قولهم: طال فهو طويل يستدل على أنه فعل في الأصل بقولهم في الاسم: طويل؛ لأن فعيلًا لا يكون اسم فاعل إلا على فعلٍ في وزن فعل, إلا أن يجيء للمبالغة, مثل: عليمٍ ورحيمٍ, وقد أنشد (93/أ) سيبويه بيتًا ظهرت فيه الواو من فعل, يروى بالضم والكسر, وذلك قول نصيبٍ: [الطويل] سودت فلم أملك سوادي وتحته ... قميص من القوهي بيض بنائقه ينشد سودت, وسودت, ولم يجئ نظير لسودت بالضم من ذوات الواو, وأما ذوات الياء فلم يجئ منها شيء على فعل ظاهر الياء؛ إلا أن بعض الناس أجاز أن يكون قولهم: كاس الرجل فهو كيس من الكيس؛ أي: العقل والفطنة على مثال فعل في الأصل, كأنه كيس,

ولم ينطق به, وهذا الوجه يقوى في رأي الفراء؛ لأنه يجعل وزن سيدٍ وطيبٍ فعيلًا. وفعيل يجري على فعل كثيرًا, فأما قول الأول: [الكامل] إن الفرزدق صخرة عادية ... طالت فليس - تنالها - الأوعالا فطالت هاهنا: فعلت؛ لأنها متعدية إلى الأوعال, وليست مثل: طالت المرأة من الطول؛ لأن هذا فعل غير متعد, ولولا ما حكي من قولهم: سودت, بالضم, لكان الأقيس في قولهم: طالت المدة والشجرة أن يحمل على أنه فعلت؛ إذ كان يجوز أن يراد بقولهم: طال الرجل فهو طويل أنه طال غيره من الناس فيكون متعديًا, ويجعل قولهم: طويل على المبالغة, كما قالوا: عليم ورحيم, وقد ظهرت الواو والياء في فعل كثيرًا, فقالوا: حول الرجل وعور وصيد البعير من الصيد, وعلماء خراسان يسمون الثلاثي المعتل الأوسط: الأجوف. وأما الآخر من ضربي المعتل فهو ما اعتلت لامه, وهو يجيء في ذوات الواو والياء, فأما الواو فتجيء على فعل, مثل: غزا, وغدا؛ لأنه من الغزو والغدو, وعلى فعل, مثل: عشي الرجل, فهو أعشى؛ لأنهم يقولون للأنثى: عشواء, فيستدلون على أنه من ذوات الواو. وقالوا: سرو الرجل, فهو سري, وقد حكي سري, وسرا, وأنشد الفراء: [الكامل] تلقى السري من الرجال بنفسه ... وابن السري إذا سرى أسراهما ويحمل سرو على أنه من ذوات الواو لقولهم: سري بين السرو. وتلزم الياء في هذا الباب فعل وفعل, وحكى بعضهم: قضو الرجل, وهو من قضيت, وأما المضاعف فيكثر فيه فعل وفعل؛ ففعل مثل سر يسر وقد يقد, وفعل مثل عض يعض, وصم يصم, ويقل فيه فعل, وحكوا عن يونس: لببت من اللب, ويقوي ذلك قولهم: لبيب؛ لأن اسم الفاعل من فعل يكون على فعيلٍ. والنحويون يقولون: أصل حبذا: حبب ذا, ولم يذكروا أنهم سمعوا حببت إلينا, ويجوز أن يكونوا قاسوا حبب على حبيبٍ. وحكي عن ابن الأعرابي: عززت الشاة, وهي الضيقة

أحاليل الضرع, وهذا أشد من قولهم: لببت؛ لأن قولهم: عززت الشاة قد اجتمع فيه مع الضم إظهار الضعيف في موضعٍ لا يحسن فيه إظهاره, وإنما القياس عزت الشاة. وقوله: أحب امرئ حبت الأنفس: مبني على قولهم: حب إلينا فلان ليكون أفعل الذي للتفضيل مبنيًا على فعل فاعل؛ لأنه يشبه أفعل الذي للتعجب, ولا يجوز أن يبنى على فعل ما لم يسم فاعله, تقول: كد الفرس فلا يحسن أن تقول: ما أكده, فإن جعلت التعجب من كاد الفرس, فقولك: ما أكده كلام صحيح, وكذلك تقول: ما أضربك إذا تعجبت من ضربه الذي يوقعه, فإن أردت أنه ضرب فعجبت من ضربه لم يحسن ذلك؛ إلا أن يحمل على قولهم: فاعل أي ذو فعلٍ, وحكى ابن حبيب - ويقال: إن حبيب اسم أمه, فإن صح ذلك وجب ألا يصرف, وأكثر أهل العلم يصرفونه, لأنهم لم يبلغهم أنه منسوب إلى أمه: «هو أجن من دقة» فهذا من جن الرجل, ويجوز أن يكون من قولهم: رجل جان؛ أي: ذو جنونٍ, كما قالوا: تامر؛ أي: ذو تمر, وإن لم يسمع جان في هذا المعنى, ولكنه مقدر فيه, ويقال: حبت الأنفس وأحبت, وأحبت أكثر. وقوله في أول الأبيات: أحب امرئٍ, يسميه بعض المتكلمين الجملة المقتضبة؛ لأنها خبر مبتدأٍ محذوفٍ, كأنه قال: أنت أحب امرئٍ, أو هذا الشخص أحب امرئٍ. ويقال: شممت أشم وهي اللغة العالية. وقد حكي: شممت. والمعطس: الأنف, وهو مأخوذ من العطاس, لما كان المكان الذي تخرج منه العطسة جاء على مفعلٍ, كما قالوا للمكان الذي يجلس فيه: مجلس, ويكثر في الكلام االقديم: أرغم الله معطسه, ورغمت معاطس القوم, وكانت العرب تكره العطاس وتشاءم به. ولذلك قالوا: مضى لشأنه ولم تحبسه العواطس, فأما قول الشاعر: وخرقٍ إذا وجهت فيه لحاجةٍ ... مضيت ولم تحبسك عنه الكوادس ففيه قولان: أحدهما أن الكوادس: العواطس. يقال: كدس إذا عطس, ويقوي هذا الوجه قوله: كندس لهذا الشيء الذي يعطس؛ لأنه من كدس والنون فيه زائدة.

والأخر أن الكوادس جمع كادسٍ وهو الذي يقابل الرجل من أمامه, وقال المسب بن علس: [الكامل] أرحلت من سلمى بغير متاع ... قبل العطاس ورعتها بوداع (93/ب) أي قبل أن يهب النائم فيعطس, فتسمع عطاسه, فتكره الرحيل, وقيل: إنهم يقولون: عطس الفجر إذا بدا. وقوله: ونشر من الند لكنما ... مجامره الآس والنرجس ما: في قوله: لكنما كافة, وإذا كانت كافةً فهي حرف, وزعم بعض النحويين أنها إذا كانت كافةً فهي اسم نكرة, فإن صح هذا القول فهو مؤد إلى القول الأول؛ لأن المجامر ترتفع بالابتداء, وكذلك رفعها في هذا الوجه كأنه قال: لكن شيئًا مجامره, ولا يجب أن يعدل عن رفع المجامر, ولو نصبها ناصب لم يكن لاحنًا إذا جعل ما زائدةً. وكذلك ما مع أن وجميع أخواتها إذا كان بعدها اسم جاز أن يتأول أن ما زائدة, فلو قيل: إنما أخاك خارج لجاز على أن تجعل ما زائدة, وبيت النابغة ينشد على وجهين: [البسيط] قلت فيا ليتما هذا الحمام لنا ... إلى حمامتنا ونصفه فقد فيرفع الحمام؛ لأنه نعت لهذا, وتجعل ما كافهً, ويحتمل أن تجعل لغوًا, وينصب الحمام. والمجامر: جمع مجمرةٍ, ويذهب قوم إلى أنها سميت مجمرةً بالمجمر الذي هو عود يتبخر به, وإن كانوا سموا العود مجمرًا فاشتقاقه واشتقاق المجمرة واحد؛ لأنهما مأخوذان من جمر النار, فالمجمرة يجعل فيها ذلك, والعود يلقى على الجمر, وأصل الجمر: الجمع؛ ومنه قيل لضفائر الشعر: جمائر, الواحدة جميرة؛ لأنها تجمر؛ أي: تجمع بعضها إلى بعض, وقيل: جمر النار؛ لأنه لا ينتفع بها إلا أن يضاف بعض الجمر إلى بعضٍ, وذلك في الاختبار والاطباخ والاصطلاء, فأما في المجمرة فقد تكفي الجمرة والجمرتان.

والآس: هذا الممشوم, ويقال: إن أصله فارسي, وقد تكلموا به قديمًا. والنرجس أيضًا: ليس بعربي, لكنهم عربوه, وأدخلوا عليه الألف واللام, وإذا فعلوا بالأعجمية ذلك جرت عندهم مجرى العربي, وهو موافق لقولهم: نرجس: إذا أرادوا فعل الجميع إذا أخبروا عن أنفسهم من قولهم: رجس الرعد: إذا سمعت صوته. ولو سمي رجل بنرجسٍ لم يصرفوه؛ لأنه موافق وزن الفعل الذي هو نرجس إلا أن ينكروه, وقد حكي كسر النون في النرجس فإذا سمي به على ذلك صرف؛ لأنه قد فارق وزن الفعل بكسر النون, وقد ذهب ناس إلى أنه لا يصرف؛ لأن النون حدث كسرها لأجل كسر الجيم, مثل ما قالوا: منخر فكسروا الميم لكسرة الخاء, وإنما القياس: منخر بالفتح؛ لأنه الموضع الذي يخرج منه النخير. وقوله: ولسنا نرى لهبًا هاجه ... فهل هاجه عزك الأقعس أصل القعس: خروج الصدر, ودخول الظهر, وهو ضد الحدب, وإذا أراد الرجل أن يدفع قرنه, فربما تقاعس ليمنع ما خلف ظهره, وربما حدب ليمتنع. ومن ذلك قول الجعدي في بعض الروايات: [البسيط] وما نفى عنك قومًا أنت خائفهم ... يومًا كوقمك جهالًا بجهال فاحدب إذا قعسوا واقعس إذا حدبوا ... ووازن الشر مثقالًا بمثقال أي: خالفهم فيما يريدون, ومنه قول أبي الأسود الدؤلي: [الطويل] فإن حدبوا فاقعس وإن هم تقاعسوا ... ليستخرجوا ما خلف ظهرك فاحدب وإذا قالوا: عزة فعساء, وعز أقعس فغنما يريدون أنه يمتنع على من يروم منه ما لا يريد؛

وذلك كثير في كلامهم قال اليشكري: [الخفيف] فنمينا على الشناءة تنميـ ... نا جدود وعزة قعساء وقال الراجز: [الرجز] إن لنا مجدًا وعزًا أقعسا وكثرت هذه الكلمة حتى قالوا: تقاعس عن الأمر إذا تثاقل عنه وتأخر, وتقاعس الرجل إذا أظهر أنه أقعس, وإن لم يكن كذلك. قال الشاعر: [الطويل] تقول ودقت صدرها بيمينها ... أزوجي هذا بالرحى المتقاعس وقوله: وإن الفئام التي حوله ... لتحسد أقدامها الأرؤس الفئام: الجماعة من الناس, وأصله الهمز, وتصيير الهمزة ياء جائز في هذا الموضع؛ لأنها مفتوحة, وقبلها كسرة, قال النابغة: [الوافر] وإن القوم نصرهم جميع ... فئام مجلبون إلى فئام

وقالوا: مفأم في معنى موسعٍ, وهو راجع إلى معنى الجماعة, قال زهير: [الطويل] ظهرن من السوبان ثم جزعنه ... على كل قيني قشيبٍ ومفأم فقيل: أراد بالمفأم هودجًا موسعًا, وقيل: الفئام: شيء يوطأ به في الهودج, وزعم بعضهم أن ما بين عرقوتي الدلو يقال له فأم, والاشتقاق في هذا كله يرجع إلى شيء واحد, وهو: معنى الكثرة والسعة, والرواية: الفئام, بالفاء, ولو رويت بالقاف, لكان ذلك معنى صحيحًا؛ إلا أن قائل البيت اختار الفاء؛ لأن الفئام لا يقع إلا على جماعةٍ كبيرةٍ, والقيام يقع على ثلاثة فما زاد, وهذا المعنى مثل قوله في الأخرى: فإني قد وصلت إلى مكانٍ ... عليه تحسد الحدق القلوب إلا أن المدح في هذا البيت للرجل وفي البيت الآخر للبخور. (94/أ) * * *

قافية الشين

قافية الشين من التي أولها مبيتي من دمشق على فراش ... حشاه لي بحر حشاي حاش وهي عند الخليل من الوافر الأول, وعند غيره من السحل الرابع, وهو الثاني منه. والمبيت هاهنا يجوز أن يكون مصدرًا ومكانًا وزمانًا. ودمشق: اسم أعجمي, وقد جاء في الشعر الجاهلي, قال المتلمس: [البسيط] لم تدر بصرى بما آليت من قسمٍ ... ولا دمشق إذا ديس الكداديس يعني بالكداديس ما يجمع في البيادر من الزروع, وقال بعضهم: دمشقة, فأدخل عليها الهاء, وإنما يجري ذلك مجرى الشذوذ والضرورة. قال رجل في صدر الإسلام كان في الجيش الذي حاصر دمشق: [الطويل] أبلغ أمير المؤمنين بأننا ... على خير حالٍ كان جيش يكونها بأنا على بابي دمشقة نرتمي ... وقد حان من بابي دمشقة حينها ودمشق: موافقة في اللفظ قولهم: ناقة دمشق أي: سريعة, ودمشق عمله إذا أسرع فلم يحكمه؛ إلا أن الدمشق من النوق جاءت على مثال جعفرٍ, ودمشق على مثال درفسٍ: وحشا الفراش: يجوز أن يعنى به ما فيه من الحشو, والحشا: الناحية, وهي مأخوذة من حاشية الثوب, قال الهذلي: [الطويل]

يقول الذي أمسى بحرزٍ عياله ... بأي حشًا أمسى الخليط المباين وأحشاء الإنسان: نواحي بطنه, ويجوز أن يعنى بها ما فيه جوفه, مأخوذةً من حشو الفراش, ويقال في التثنية: حشيان وحشوان. وقوله: لقى ليلٍ كعين الظبي لونًا ... وهم كالحميا في المشاش اللقى: الشيء الملقى, وجمعه ألقاء, قال اليشكري: [الخفيف] فتأوت لهم قراضبة من ... كل حي كأنهم ألقاء وموضع لقى نصب على الحال, والاسم الذي الحال منه إحدى الياءات في: مبيتي أو لي, أو حشاي. والعامل في الحال يجوز أن يكون قوله: حاشٍ كأنه قال: يحشوني بحر حشاي ملقًى, ويحتمل أن يكون العامل معنى الاستقرار, الذي تدل عليه على, كأنه قال: مبيتي مستقر على فراشٍ لقًى. ولو قيل: إن نصب لقًى على أنه خبر لفعلٍ من المبيت كأنه قال: أبيت لقى أو بت لقًى لكان ذلك وجهًا. وهذه القصيدة مدح بها أبو الطيب أبا العشائر, وهو والي أنطاكية, ويمكن أن يكون قال أولها بدمشق؛ لأن الشاعر ربما قال البيت أو الأبيات, وتأخر إظهاره لها حتى يذهب زمن طويل. وجعل سواد الليل كسواد عين الظبي. والحميا سورة الخمر؛ أي: حدتها ونزوانها عند المزج, وهذه اللفظة من الأسماء التي استعملت مصغرة, ولم ينطق منها بالمكبر, ولو استعمل لوجب أن يقال: الحموى على مثال: فعلى, وقد حكي: حمي الشمس وحموها, بالياء والواو. فإن كانت الحميا من الحمو

فكبيرها حموى على الأصل, وليس فيه قلب, وإن كانت من الحمي, كما قال امرؤ القيس: [الطويل] إذا جاش فيه حميه غلي مرجل فإنهم إذا بنوا فعلى اسمًا من ذوات الياء قلبوا ياءه إلى الواو, ومن ذلك قولهم: شروى الشيء؛ أي: مثله, وإنما اشتقاقه من شريت. فإن كانت الحميا مصغرة حميا؛ فالادغام وقع في الياءين لما اجتمعتا. وإن كان أصلها حموى فكأنهم قالوا: حميوى في التصغير؛ فلما جاءت الياء الساكنة, وبعدها واو قلبت الواو إلى الياء كما فعلوا ذلك في سيدٍ وميتٍ وهو فيعل من ساد يسود, ومات يموت, وأصله: سيود وميوت. وإذا وقعت الواو موقع اللام, وقبلها ياء في التصغير قلبت الواو إلى الياء في مذهب البصريين ولا يجيزون غير ذلك. وأهل الكوفة يجيزون إظهار الواو إذا كانت لامًا, كما يجيزون إظهارها إذا كانت عينًا, وكانت متحركةً, فيقولون في تصغير مروان وعدوان: مريوان وعديوان ولا اختلاف في أن القلب جائز, قال زهير: [الوافر] يجرون البرود وقد تمشت ... حميا الكأس فيهم والغناء والمشاش: ما رق من العظام. وقوله: وشوقٍ كالتوقد في فؤادٍ ... كجمرٍ في جوانح كالمحاش الجوانح: الأضلاع, واحدتها جانحة, سميت بذلك؛ لأن فيها اعوجاجًا. يقال: جنح إذا مال, ومنه الجناح في المأثم؛ أي: الميل فيه, ومنه جناح الطائر أيضًا؛ لأنه يميله حيث شاء. والمحاش والمحاش: ما شوي على النار فأصابه احتراق, يقال: أمحشته النار ومحشته, فأما قول النابغة: [الكامل]

جمع محاشك يا يزيد فإنني ... جمعت يربوعًا لكم وتميما فالمحاش فيما ذكروا: أقوام اجتمعوا فنحروا جزورًا وشووا لحمها, واحتلفوا عليه. وقوله: سقى الدم كل نصلٍ غير نابٍ ... وروى كل رمحٍ غير راش النصل: يستعمل في السيف والسنان, ونصل السهم. قال الشاعر في السيف: [الوافر] نقد بهن يوم الروع عنكم ... وإن كانت مثلمة النصال فهذا يعني السيوف, وقال المتنخل الهذلي في أن النصل يستعمل للرمح: [البسيط] أقول لما أتاني الناعيان به ... لا يبعد الرمح ذو النصلين والرجل وقال الفرزدق: [الطويل] فإن كلام المرء في غير كنهه ... لكالنبل تهوي ليس فيها نصالها ويقال: رمح راش؛ أي: ضعيف, ولعله مأخوذ من ريش الطائر لخفة الريش وضعفه, وناقة راشة الظهر؛ أي: ضعيفته, قال الهذلي: [المتقارب] من الحميريات لا كزةً ... لجونًا ولا راشة الظهر نابا ومعنى البيت أنه جعل السيوف القاطعة والرماح القوية كالتي يدعى لها أن تروى من

الدم كأنها يعجبها ذلك. وقد يجوز أن يكون البيت إخبارًا على غير معنى الدعاء. والأحسن أن يكون دعاءً؛ لأن من شأنهم أن يحمدوا ما يبلغهم المآرب من حيوانٍ وغيره. وقوله: فإن الفارس المبغوت خفت ... لمنصله المناصل كالرياش المبغوت من قولهم: بغته إذا لقيه على فجاءةٍ. والرياش: مأخوذ هاهنا من ريش الطائر؛ لأنه نهاية في الخفة, وأكثر ما يستعمل الرياش في ملابس بني آدم, ويعني بالفارس الممدوح. وقوله: فقد أضحى أبا الغمرات يكنى ... كأن أبا العشائر غير فاش الغمرات: الشدائد. وغمرة كل شيءٍ معظمه. يقال: غمرة الماء, وغمرة الحرب, كأنهم يريدون أنها تغمر من يقع فيها, وقالوا في الجمع: غمر على غير قياسٍ, قال القطامي: [الوافر] تعلم أن بعد العي رشدًا ... وأن لهذه الغمر انقشاعًا وإنما القياس: غمار, مثل جفنةٍ وجفانٍ, والغمرات: الجمع القليل. والمثل السائر: الغمرات ثم ينجلينا ... ثمت يذهبن فلا يجينا وفاشٍ: أصله الهمز. يقال: فشا الأمر وتفشأ, وقالت امرأة من العرب تصف الطاعون: [الطويل] تفشأ إخوان الثقات فعمهم ... وأصمت عني المعولات البواكيا وقال عمرو بن كلثوم فخفف: [الوافر]

فإن الضغن بعد الضغن يفشو ... عليك ويخرج الداء الدفينا وقوله: وقد نسي الحسين بما يسمى ... ردى الأبطال أو غيث العطاش هذا البيت جارٍ مجرى الأول؛ لأنه زعم أن الممدوح كناه الناس أبا الغمرات فاستغنى عن كنيته, التي هي أبو العشائر, ونهسي الحسين, وهو اسمه؛ لأنهم سموه ردى الأبطال؛ أي: هلاكهم, وغيث العطاش؛ لأنه يرويهم. والحسين هاهنا لفظة لا تجري مجرى قولهم إذا رأوا الشخص الذي يسمى بهذا الاسم: جاءني الحسين, ورأيت الحسين؛ لأن الاسم في هذا الموضع واقع على شخص, والحسين في البيت لفظة لا تتصل بجسمٍ. وقوله: لقوه حاسرًا في درع ضربٍ ... دقيق النسج ملتهب الحواشي ذكر الدرع, وقد حكي ذلك عن العرب. وقد يجوز أن يجعل قوله: دقيق النسج صفةً للضرب إذ كان الدرع مضافًا إليه, كما يقال: جاء فلان في برد ثناءٍ سابغٍ؛ فيجوز أن يجعل سابغ نعتًا للبرد وللثناء إذ كان أحدهما متصلًا بالآخر. ولا يمتنع أن يوصف الضرب بدقة النسج والتهاب الحاشية؛ لأن هذا اللفظ مخصوص به اللباس, وإنما حسن ذلك؛ لأنه جعل الدرع متخذًا من الضرب فقد جعله مما يمكن نسجه, وأن تكون له حاشية؛ لأن الزرد أصل للدرع, كما أن الغزل عنصر للثوب. وحاشية الثوب: كل ناحيةٍ من نواحيه, وقيل: هي جانب الهدب, وإنما أخذت من الحشى وهي الناحية. وقوله: كأن على الجماجم منه نارًا ... وأيدي القوم أجنحة الفراش الهاء في منه عائدة على الضرب. ومن شأن الفراش أن يطلب النار فيحترق فيها, ومن شأن المضروب على رأسه أن يستره بيده, وإنما يفعل ذلك إذا كان الضرب بغير حديدٍ, وأما عند السيف فإن إشفاقه على يديه قريب من إشفاقه على هامته. والجماجم: جمع جمجمةٍ

(95/أ) وهي معظم الرأس ومجتمعه. وجمع رؤبة جمجمةً على جمجمٍ فقال: [الرجز] وهو إذا الضرب تفرى جمجمه أي: الجمجم الذي يقع فيه, وهذا الجمع قليل إلا أنه قياس, كما قالوا: هامة وهام, وقصرة وقصر لأصل العنق. وقوله: كأن جواري المهجات ماء ... يعاودها المهند من عطاش المهجات: واحدتها مهجة, وهي خالص النفس. وقال قوم: المهجة: دم القلب, وإذا جعل المهجات جمع مهجةٍ فقياسه أن يقال: مهجات بضم الهاء كما قالوا: ظلمة وظلمات. فهذا الوجه الجيد. ومنهم من يفتح الحرف الثاني, فيقول: الظلمات والحجرات. وقرأ ابن القعقاع المدني: {من وراء الحجرات} , بفتح الجيم, ومنهم من يسكن. وذهب قوم إلى أنهم إذا قالوا: مهجات, ففتحوا الهاء, فإنما يريدون جمع مهجٍ لا جمع مهجةٍ. وهذا قول لا يبعد, وأنشدوا بيتًا على وجهين: [الطويل] ولما رأونا باديًا ركباتنا ... لدى موطنٍ لا نخلط الجد بالهزل تضم الكاف في الركبات وتفتح, ولولا أن الوزن يتغير لجاز الإسكان. والعطاش أن يأخذ الإنسان عطش فيعاود شربه للماء, والعطاش داء؛ فلذلك ضموا أوله, كما قالوا: الصداع والزكام. والمعنى أن هذا الممدوح يضرب بالمهند فيرويه من الدم, ثم كأنه يعطش فيعاود الورد؛ لأن الفارس يعاود الضرب به. وقوله: فولوا بين ذي روحٍ مفاتٍ ... وذي رمقٍ وذي عقلٍ مطاش

مفات من قولهم: فات الميت, وأفاته غيره, فيجوز أن يكون وصفًا لذي, ووصفًا للروح, والأحسن أن يكون على ذي. والروح تذكر وتؤنث, فلذلك حسن أن توصف بمفاتٍ. والرمق: بقية النفس. ولما قال: وذي رمق حسن ذلك أن يكون قوله: مفاتٍ وصفًا لذي لتكون المعطوفات متجانساتٍ. ومطاش: من قولهم: طاش إذا خف وتغير عقله, وطاش السهم إذا لم يصب, وأطاشه غيره. وقوله: ومنعفرٍ لنصف السيف فيه ... تواري الضب خاف من احتراش منعفر: أي: رجل قد عفره غيره؛ أي: ألقاه على العفر, وهو التراب, وقيل: هو ظاهره, يقال: عفر وعفر. والاحتراش: صيد الضب, وهو الحرش أيضًا. وقالوا في المثل: «هذا أجل من الحرش». وأصل ذلك أن الضب قال لولده: يا بني اتق الحرش؛ وهو أن يجيء الرجل إلى بيت الضب, فيضرب بيده على بابه, فيظنه الضب حيةً فيخرج ذنبه ليضربها به, فيقبض عليه الحارش. فسمع الحسل يومًا صوت فأسٍ يحفر بها على جحره فقال لأبيه: يا أبة, أهذا الحرش فقال الضب: يا بني, هذا أجل من الحرش؛ أي: أعظم. وشبهوا الحقد بالضب لكمونه في الصدر, فقالوا: في قلبه على ضب؛ أي: حقد, وقالوا: احترش ضب صدره إذا كان عدوًا له فصنع معه جميلًا ليذهب ما حمله من الحقد, قال كثير: [الطويل] ومحترشٍ ضب العداوة منهم ... بحلو الخلا حرش الضباب الخوادع وقال أيضًا: [الوافر] ومازالت رقاك تحل ضغني ... وتخرج من مكامنها ضبابي ويحويني لك الحاوون حتى ... أجابت حية تحت الحجاب

وقالوا في مثلٍ: أخدع من ضب حرشته. ومعنى بيت أبي الطيب أن الضربة قد أمعنت في جسد المضروب, وأن نصف السيف قد انكسر فدخل في جسمه, ونصفه الآخر في يد الضارب. وقوله: يدمي بعض أيدي الخيل بعضًا ... وما بعجايةٍ أثر ارتهاش العجاية: العصب الذي في الوظيف, والارتهاش أن يصك الفرس إحدى يديه الأخرى فتألم بذلك العجاية, وإنما يصف أن الخيل في ضنكٍ فقد أدمى بعض أيديها بعضًا, وليس بها ارتهاش, وإنما هو من التزاحم. وبعض عند قومٍ تقع على ما دون النصف, وقيل: تقع على النصف فما دونه, وأنكر قوم وقوعها على النصف, وكرهوا: جاءني بعض الرجلين, وقالوا: إنما ينبغي أن يقال: جاءني أحدهما. وقوله: كأن تلوي النشاب فيه ... تلوي الخوص في سعف العشاس النشاب: كلمة عربية, وهو مأخوذ من قولهم: نشب في الشيء إذا علق فيه. قال عمر ابن أبي ربيعة (95/ب): [الكامل] فسمعت ما قالت فظلت كأنما ... يرمى الحشى بنوافذ النشاب والخوص: واحدته خوصة من خوص النخل, وقد استعملوا الخوصة في غير النخلة, وقالوا: خوصت العرفجة, وهي الخوصة منها, ويروى لمالك بن الريب: [الطويل] عجبت لعطارٍ أتاني يسومني ... بجبانة الديرين دهن البنفسج فويحك يا عطار هلا أتيتني ... بنور الخزامى أبو بخوصة عرفج

والعشاش: جمع عشةٍ, وهي النخلة إذا يبس أعلاها. يقال: عشش النخل إذا أصابه ذلك, قال ابن هرمة: [الوافر] وما شجرات بيتك في قريشٍ ... بعشات الفروع ولا ضواح وقوله: تشارك في الندام إذا نزلنا ... بطان لا تشارك في الجحاش البطان: جمع بطين, وهو العظيم البطن. والأصل أن يستعمل فيمن تلك خلقته, وهم يحمدون خمص البطن, وربما قالوا: بطين لمن عظم بطنه من الطعام, قال ابن أحمر: [الوافر] وبلي إن بللت بأريحي ... هجان اللون لا يمسي بطينا والمبطنا: الذي لا يزال بطنه عظيمًا من الطعام, قال متمم: [الطويل] لقد غيب المنهال تحت ردائه ... فتًى غير مبطان العشيات أروعا والجحاش: مصدر جاحش إذا دافع. وفي كتاب «الأمثال» للأصمعي: «جاحش عن خيط رقبته» أي: دافع عن نفسه. وقوله: ومن قبل النطاح وقبل يأتي ... تبين لك النعاج من الكباش

حذف أن وهو يريدها على معنى الضرورة. والباب في قبل ألا يليها الفعل, وإنما تليها الأسماء, والتقدير: من قبل أن يأتي, وحذفها جائز, وقد حذفها في قوله: «من قبل يصطحبا» وأعملها مع الحذف فجمع بين ضرورتين, ويجوز كسر اللام من «قبل» على العطف على التي قبلها, ويجوز النصب على الموضع, وذلك مثل قول لبيد: [الطويل] فإن لم تجد من دون عدنان والدًا ... ودون معد فلتزعك العواذل والنعجة: الأنثى من الضأن, ويقال للبقرة الوحشية: نعجة, قال ذو الرمة: [الطويل] إذا ما علاها راكب الجدب لم يزل ... يرى نعجةً في مريضٍ أو يثيرها مولعةً خنساء ليست بنعجةٍ ... يدمن أعطان الحياض وقيرها يكنون بالنعجة عن المرأة, في كتاب الله سبحانه: {إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجةً} وقرأ بعضهم نعجةٍ بتحريك العين, وقد مضى القول في الحرف الحلقي إذا توسط الثلاثي أو مؤنثه. ومثل كنايتهم عن المرأة بالنعجة قول الأعشى: [الكامل] فرميت غفلة عينه عن شاته ... فأصبت حبة قلبها وطحالها والكباش: جمع كبشٍ من الضأن, ويكنون به عن الشجاع, الذي يحامي في الحرب, لما كان الكبش من الضأن ينطح الغنم جعلوا الفارس مثله؛ لأنه ينطح الأقران, وقال الراجز وهو يعني ليلة صفين: [الرجز]

والليل داجٍ والكباش تنتطح ... ومن نجا برأسه فقد ربح وكأنهم يعنون بالنطح الطعن بالرمح؛ لأنهم يسمون الرماح: قرون الخيل, ويقولون: خيل جمإذا لم يكن معها رماح, وفارس أجم إذا لم يكن معه رمح, قال عنترة: [الوافر] ألم تعلم لحاك الله أني ... أجم إذا لقيت ذوي الرماح وقال الأعشى: [المتقارب] متى تدعهم للقاء الحرو ... ب تأتك خيل لهم غير جم والكبش الأجم الذي لا قرني له. والنعجة جماء. وقوله: فيا بحر البحور ولا أوري ... ويا ملك الملوك ولا أحاشي وروى عن الشيء إذا كنى عنه, وأظهر أنه يريد غيره, وهو مأخوذ من المواراة. وفي الحديث: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرًا وروى بغيره» , وقال الشاعر: [الطويل] فلو كنت صلب العود أو كابن معمر ... لوريت عن مولاك والليل مظلم وإذا قالوا للرجل: بحر البحور أو رجل الرجال, أو نحو ذلك فإنما يريدون أنه أعظمهم, وكذلك إذا قالوا للمرأة: هند الهنود فإنما يريدون أنها: كالسيدة لكل امرأةٍ تسمى بهندٍ. وإنما يكثر ذلك في النعوت؛ لأنها أكثر ما يمدح به الإنسان, فيقال: أسد الأسد للشجاع وكريم

الكرماء. فأما الاسم الذي يسمى به الرجل فإن ذلك قليل فيه؛ إلا أنهم قالوا: طلحة الطلحات, كأنهم أرادوا تفضيله على غيره ممن سمي طلحة؛ والمعنى أنه يفضلهم في أخلاقه, فأما التسمية فتستوي فيها الجماعة, قال الشاعر, ويقال: إنه ابن الرقيات: [الخفيف] نصر الله أعظمًا دفنوها ... بسجستان طلحة الطلحات وقوله: (96/أ) كأنك ناظر في كل قلبٍ ... فما يخفى عليك محل غاش بعض الناس يذهب إلى أنه أراد محل غاشٍ من الغش, وتلك ضرورة قبيحة, والمعنى غير مفتقرٍ إلى ذلك. وإنما هو فاعل من غشي يغشى, وهو مؤد معنى الغش؛ لأنه يغشى القلب. وكثيرًا يقولون: على قلبه غشاوة. وفي الكتاب العزيز: {والليل إذا يغشى} وكل شيءٍ حل في موضعٍ فقد غشيه من الناس وغيرهم. وتخفيف المشدد في الشعر المقيد كثير جدًا. ولكن ذلك إذا لم يكن قبله حرف لين, مثل: غاش وراد, ومثل تمود الثوب, وأصيم في تصغير أصم. والمقيد مما قبل رويه حرف لين أقل من المقيد, وقبل رويه حرف مصمت, وإذا جاءت للعرب أرجوزة مثل قول العجاج: [الرجز] يا صاح ما هاجك من ربعٍ خال ... ومنزلٍ تعرفه وأطلال لم يأت فيها تخفيف فاعلٍ من المضاعف, فإن اتفق فهو شاذ. فأما ما قبل رويه واو أو ياء فإن ذلك أبعد فيه منه في فاعلٍ, وما كان مثله من المضاعف؛ لأنه كثير جدًا مثل قولك: فار, ومراد, وهو متردد في الكلام, فأما في قوافي الشعر المطلق فقلما يخففون المشدد, وقد ادعى بعضهم في قول الراجز: [الرجز] دعوت قومي ودعوت معشري ... حتى إذا ما لم أجد غير الشر كنت امرأً من مالك بن جعفر أنه أراد الشر فخفف الراء, وأكثر الرواية: غير السري, والقوافي موضع حذفٍ. والمطلق

يقف عليه بعضهم بسكون الروي فيصيره في حال المقيد, فيقول: [الطويل] قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزل فيسكن اللام, فإذا كانوا ربما خففوا المشدد في حشو البيت فتخفيفه في القافية أيسر, وقد رووا أبي صخرٍ الهذلي: [الوافر] إذا اختصم الصبى والشيب عندي ... فحكمت المشيب فلا أبالي حلول الشيب ما لم أجن أمرًا ... يكون سواه أتي حلٍ حلال أراد: أتي حل فخفف. وقوله: وكيف وأنت في الرؤساء عندي ... عتيق الطير ما بين الخشاش بعد كيف شيء محذوف, كأنه قال: وكيف أصبر عنك, وذلك كثير في الكلام, وإنما يحذفون بعدها لشيء إذا تقدم قبلها ما يدل عليه, مثل أن يقول الرجل: أتروم أن أعطيك مالًا وكيف, وقد سألتك فلم تعطني؛ أي: كيف أعطيك؟ وفي كتاب الله سبحانه: {كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمةً} , كأنه قال: كيف يكون ذلك وإن يظهروا عليكم. وعتيق الطير: يراد به كريمها وأفضلها كالبازي والصقر والجوارح منها, وهم يشبهون الرئيس بعتيق الطير, قال لبيد: [الرمل] فانتضلنا وابن سلمى قاعد ... كعتيق الطير يغضي ويجل وخشاش الطير: ضعافها وما لا يصيد منها, وكذلك خشاش الأرض ما صغر من دوابها

التي يقدر الهر على صيدها, وفي الحديث: «دخلت امرأة النار في هرةٍ ربطتها فلم تطعمها, ولم تسقها, ولم ترسلها فتأكل من خشاش الأرض» وقالوا لرؤوس الحلي: خشاش, ولعلهم يريدون ما صغر من الحلي, مثل قطع الذهب التي تكون في المخانق. وبعض الرواة يروي في قصيدة ابن كلثوم: [الوافر] وساريتي بلاطٍ أو رخامٍ ... يرن خشاش حليهما رنينا وقوله: فما خاشيك للتكذيب راجٍ ... ولا راجيك للتخييب خاش التكذيب: هاهنا يحتمل وجهين: أحدهما, وهو الأشبه, أن يكون التكذيب من فعل الممدوح؛ أي: إنك لا تكذب خشيته, لأنك إذا خشيك ألحقت به ما يخشاه. والآخر: أن يكون التكذيب من فعل الخاشي؛ أي: هو إذا سلم منك فكأنه قد كذب الخشية أو كذب الوعيد. وأصل الكذب في القول, ثم نقلوه منه إلى الفعل, وإن لم يكن ثم كلام, فقالوا: حمل على قرنه فما كذب, أي: ما قصر في الحملة, وقالوا: كذب الوحشي في العدو إذا لم يجتهد فيه. والتكذيب في البيت يجوز أن يكون لفعلٍ لا مقال فيه, وإن حمل على القول الأول فجائز, لأن الخاشي ربما ذكر الخشية بلسانه, ولأن المخشي قد جرت عادته بأن يوعد ويستدل على غضبه بما يقول. وقوله: تطاعن كل خيلٍ كنت فيها ... ولو كانوا النبيط على الجحاش كثر في كلامهم أن ينسبوا (96/ب) أفعال الفرسان إلى الخيل؛ لأن الفارس يستعين على الضربة والطعنة بفرسه, فيقولون: قتلت الخيل فلانًا, وساقت الخيل نعم بني فلانٍ؛ لأن

المعنى مفهوم, ولأن الفرسان يتوصلون إلى ذلك بالخيول. والنبيط: هذا الجيل المعروف, وهم النبط والأنباط, قال الراجز: [الرجز] فهن يلغظن به إلغاطا ... كالترجمان لقي الأنباطا وزعم بعض الناس أنهم سمواة نبيطًا؛ لأنهم يستنبطون ما في الأرض من ماء, ويحرثونها للباذر, فيؤدي ذلك إلى نبت الزرع؛ فكأنهم يستنبطونه منها. ومن ذلك قولهم: حفر فلان بئرًا فأنبط الماء, واسم الماء: النبط؛ لأنه أنبط. وإذا مدحوا الرجل قالوا: لا ينال نبطه؛ أي: لا يعلم ما في نفسه؛ لأن كتمان السر مما يوصف به الإنسان, قال الشاعر: [الطويل] قريب ثراه لا ينال عدوه ... له نبطًا, صدق الفعال أريب يريد بقوله: قريب ثراه: أنه إذا سئل وجده السائل قريب المعروف لا يتعب الطالب. وإنما زعم الزاعم أن النبيط اشتقوا من إنباط الأرض؛ لأنهم يباشرون العمل كثيرًا, ويكون منهم الفلاحون, والذين يعمرون القريات, ولذلك خصهم أبو الطيب لما قال: ولو كانوا النبيط على الجحاش لأنهم لم تجر عادتهم بركوب الخيل, وإنما يركبون الحمر. وقوله: تطاعن كل خيلٍ كنت فيها ثم قال: ولو كانوا؛ لأنه أراد فرسان الخيل, وهذا مما تقدم ذكره؛ أي: إن أصحابك يشجعون إذا رأوا شجاعتك, فيقاتلون تشبهًا بك, وذلك مناسب لقولهم في المثل: «العاشية تهيج الآبية». والجحاش جمع جحشٍ, وهو ولد الحمار, ويقال في الجمع جحشان, قال القطامي: [الطويل]

مقدحةً قبًا خفافًا بطونها ... وقد وازنت جحشانها بالحوالب ويمكن أن يقال له بعد أن يركب: جحش, كما قالوا لولد الفرس: مهر حين ينتج, ثم سموه بعد الركوب مهرًا, قال الأفوه: [الرمل] إن يجل مهري فيكم جولةً ... فعليه الكر فيكم والغوار وقال زيد الخيل: [الرمل] عودوا مهري كما عودته ... دلج الليل وإيطاء القتيل وقالوا لولد الظبية: جحش. قال أبو ذؤيب: [الطويل] بأسفل ذات الدبر قد ضاع جحشها ... فقد ولهت يومين فهي خلوج والجحاش في هذا البيت: مساوية للجحاش, فيما تقدم من الأبيات لفظًا لا معنًى, وإذا تشابهت الكلمتان في اللفظ, واختلفتا في المعنى, وجاءتنا في قوافي الشعر فذلك من الإيطاء عن بعضهم, ويقال: إنه مذهب الخليل, وغيره لا يرى بذلك بأسًا, وإذا توالت القافيتان في البيت فذلك أقبح ما يكون, وكلما بعد ما بينهما كان ذلك أسهل. فإن كانت الكلمة في تشبيبٍ أو معنًى غيره ثم جيء بها في معنًى آخر سهل ذلك عندهم, وهذا البيت يرويه بعضهم لامرئ القيس: [الطويل] كأني غداة البين لما تحملوا ... لدى سمرات الحي ناقف حنظل ثم قال في صفة الفرس: مداك عروسٍ أو صلاية حنظل فهذا يسهل لتباعد ما بين البيتين واختلاف الذي يقصد من المعنيين.

وقوله: أرى الناس الظلام وأنت نور ... وإني فيهم لإليك عاش أدخل اللام على إليك, وإنما حقيقتها أن تدخل على عاشٍ؛ ولكن العرب تفعل ذلك, ولها أحوال أربع: الأولى: أن يقال: إني إليك لعاشٍ, فهذا الوجه؛ وهو أن تدخل اللام على الذي هو الخبر في الحقيقة. والحال الثانية: أن يقال: إني لإليك عاشٍ؛ فتدخل اللام على ما هو متصل بالخبر, وليس ذلك بقبيحٍ, ومثله قول أبي زبيدٍ: [البسيط] إن امرأً خصني عمدًا مودته ... على البعاد لعندي غير مكفور وإنما الكلام: لغير مكفورٍ عندي. والحال الثالثة: أن يقال: إني لإليك لعاشٍ؛ فتدخل اللام على إليك, ثم تدخل على عاشٍ؛ لأنه الذي تقع به الفائدة للسامع, وذلك أشد من الوجه الذي قبله. والحال الرابعة: أن يقال: إني لعاشٍ لإليك فهذا لا يجوز عندهم؛ لأن اللام وقعت في موضعها, فلا حاجة إلى أن تعاد. والعاشي: الذي يسير في ظلمة الليل على ضوءٍ قليل, قال الحطيئة: [الطويل] متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نارٍ عندها خير موقد وقال الهذلي: [الطويل] شهابي الذي أعشو الطريق بضوئه ... ودرعي فليل الناس بعدك أسود

وقوله: (97/أ) بليت بهم بلاء الورد يلقى ... أنوفًا هن أولى بالخشاش الخشاش: عود يجعل في أنف البعير, وجمعه أخشة, قال ذو الرمة: [الطويل] إذا نحن حاذينا الأخشة شبنها ... بأشكل جارٍ من صديدٍ ومن دم ويقال: خششت البعير فهو مخشوش. جعل نفسه كالورد يلقى أنوفًا ينبغي أن تجعل فيها الأخشة. والإبل لا ريب أنها تجد رائحة الورد, فإما الورد فلا يحس ما صنع به, ولا يحفل أين وضع. وقوله: عليك إذا هزلت مع الليالي ... وحولك حين تسمن في هراش يقال: هزلت الدابة, وهزلها صاحبها, فهذه اللغة الفصيحة, وقد حكي: أهزلتها. والمعنى أن هؤلاء الذين ذكرهم إذا رأوا صاحبهم في شدةٍ وضيقٍ من الزمان كانوا عليه, وإذا سمن تهارشوا حوله, وهراشهم حول السمين يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكونوا يريدون أكله فهم أعداء في حال الهزال والسمن. والآخر أنك إذا سمنت؛ أي: استغنيت وحسنت حالك تهارشوا حولك يزدحمون على برك ومنفعتك, كما تهترش الكلاب على الشيء المأكول. وقوله: أتى خبر الأمير فقيل كروا ... فقلت نعم ولو لحقوا بشاش شاش: هذا الموضوع الذي يقال فيه: شاش فرغانة, وهو يوافق في الاشتقاق قول

العامة: شوش عليهم أمرهم, وهذه الكلمة لم أعلم أن أحدًا من الثقات حكاها عن العرب, ولا جاءت في الشعر الفصيح. وقوله: يقودهم إلى الهيجا لجوج ... يسن قتاله والكر ناشي أصل القود في ذوات الأرسان, ثم قالوا: قاد الأمير الجيش؛ أي: كان أمر الجند إليه فاتبعوه فيما يختار, كما تتبع الدابة من يقودها, واستعار السن للقتال, كما استعار قطري ابن الفجاءة, الإجذاع للبصيرة, والقروح للإقدام في قوله: [الكامل] ثم انصرفت وقد أصبت ولم أصب ... جذع البصيرة قارح الإقدام يريد أنه يديم القتال ويطيل فيه كما أن المسن من بني آدم يتقادم الوقت عليه. وأصل ناشي الهمز, وقد مضى القول في تخفيفه. يقول: إنه يحدث الكر في وقتٍ بعد وقتٍ فهو كأنه ناشئ في أول أمره لا يضعف لتقادم القتال. وقوله: وأسرجت الكميت فناقلت بي ... على إعقاقها وعلى غشاشي الكميت: من الخيل معروف, والفرق بينه وبين الأشقر أنه يسود عرفه وذنبه, ويستعمل للذكر والأنثى بلفظ واحدٍ, وقد استعمله امرؤ القيس في المذكر لما قال: [الطويل] كميت يزل اللبد عن حال متنه وقال آخر فاستعمله للأنثى: [الوافر] تسائلني بنو جشم بن بكرٍ ... أغراء العرادة أم بهيم كميت غير محلفةٍ ولكن ... كلون الصرف عل به الأديم

وهذا البيت الذي أوله كميت يروى للكلحبة العرني ولابن الخرشب الأنماري, وحكي في جمع الكميت: كمات, ولم يصح ذلك, وقالوا في صفة التمرة: كميت إذا كانت تضرب إلى السواد في حمرةٍ, قال الأسود بن يعفر: [الطويل] وكنت إذا ما قرب الزاد مولعًا ... بكل كميتٍ جلدةٍ لم توسف أي لم تقشر, ووصفوا الخمر بالكميت أيضًا. والإعقاق مصدر أعقت الفرس إذا عظم بطنها للحمل, فهي عقوق, وأكثر الناس يزعمون أنهم لم يقولون: معق على ما يوجبه القياس, وقد حكاه بعضهم. والمعنى أن بطنها ينشع ويتسع للحمل وكبر الولد. والغشاش: العجلة. قال البعيث: [الطويل] يكون نزول القوم فيها كلا ولا ... غشاشًا ولا يدنون رحلًا إلى رحل وفي النسخ: وعلى غشاشٍ, بلا ياء, ويجب أن يكون الشاعر قاله بالياء, أضاف الغشاش إلى نفسه؛ لأن ذلك أحسن في حكم النظم, ويدل على ثبات الياء قوله: ناقلت بي. وقوله: على إعقاقها فأضاف الإعقاق إليها, فأوجب ذلك أن يكون على إعقاق الفرس, وعجلة الفارس, وإنما يحسن حذف الياء لو كان الإعقاق منكرًا غير مضافٍ, مثل أن تقول في الكلام (97/ب) ناقلت بي على إعقاقٍ وغشاشٍ, فأما إذ جاء بالإعقاق مضافًا؛ فالأحسن أن يكون الغشاش مثله في الإضافة. والنقال: ضرب من عدو الخيل, قال جرير: [الكامل] من كل مشترفٍ وإن بعد المدى ... ضرم الرقاق مناقل الأجرال

وقوله: من المتمردات تذب عنها ... برمحي كل طائرة الرشاش أصل المرود الإعياء, يقال: مرد الشيطان إذا أعيا خبثًا, وكذلك مرد الإنسان, فهو مارد, ومريد, ومنه المثل المحكي عن الزباء: «مرد مارد وعز الأبلق» وهما حصنان أعياها أمرهما, ومنه قولهم: بناء ممرد؛ أي: إنه يعيي من طلبه, وقيل: الممرد: المملس والمطول, وتذب؛ أي: تذود, يستعمل ذلك في ذب العدو وغيره, قال الراجز: [الرجز] من ذب منكم ذب عن صميمه ... أو فر منكم فر عن حريمه ومن ذلك: ذبت الناقة وغيرها البعوض والذباب, وإنما قيل له: ذباب؛ لأنه يذب؛ أي: يطرد, قال الشماخ: [البسيط] تذب ضيفًا من الشعراء منزله ... منها لبان وأقرب زهاليل الشعراء: ضرب من الذباب. وزهاليل: ملس. وكل طائرة: يحتمل «كل» الرفع والنصب. فإذا نصب فتذب للفرس كأنه جعلها تذب برمحه, وهذا مثل قولهم: قتلت الخيل وهزمت الأعداء, وإنما يريدون الفوارس. والمعنى أن هذه الفرس تذب برمحي عن نفسها كل طعنةٍ, إذا أصابت المطعون طار لها رشاش, وهو ما

يفترق من الدم, أخذ من رشاش المطر, وإذا رفعت كل فالفعل لها, وليس للفرس فيه شيء, وإنما هي مذبوب عنها, والحمد في الوجهين للفارس؛ لأنه الذي يحمل الفرس على الطعن ويصرف الرمح. وقوله: إذا ذكرت مواقفه لحافٍ ... وشيك فما ينكس لانتقاش شيك: إذا أصابته شوكه. والانتقاش: إخراج الشوكة من الرجل, وغيرها من الجسد, ومن ذلك قيل: المنقاش, وهو عربي صحيح, قال الشاعر: [الطويل] فواأسفا إن الفراق يروعنا ... بمثل مناقيش الحلي قصار يعني مناقير الغربان؛ لأنها تنعب بالفراق. ومن الأمثال: «لا تنقش الشوكة بالشوكة فإن ضلعها معها» , ويقال ذلك للرجل إذا استعان على عدوه بآخر هو له عدو. والمعنى أن هذا الممدوح يرغب القاصد في لقائه فلو أنه حافٍ, ووقعت في رجله شوكة لمنعته العجلة وإيثار لقائه من أن ينتقشها من قدمه. وقوله: تزيل مخافة المصبور عنه ... وتلهي ذا الفياش عن الفياش الفياش: المفاخرة بالباطل, يقال: فاش الرجل وفايش غيره, والرجل فيوش, قال جرير: [الوافر] فأوعد بالخزير مجاشعيًا ... إذا ما فاش وانتفخ الوريد وقال أيضًا: [الكامل] أيفايشون وقد رأوا حفاثهم ... قد عضه فقضى عليه الأشجع الحفاث: حية عظيمة تنفخ ولا تؤذي. والمصبور: الذي يحبس ليقتل أو يكون

حبسه لغير القتل. وفي الحديث: «أن رجلين أمسك أحدهما رجلًا, وقتله الآخر, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اقتلوا القاتل, واصبروا الصابر» وقال عنترة: [الكامل] فصبرت عارفةً لذلك حرةً ... ترسو إذا نفس الجبان تطلع وقوله: وما وجد اشتياق كاشتياقي ... ولا عرف انكماش كانكماشي الانكماش: السرعة في الأمر, والرغبة في قضائه. وقوله: فسرت إليك في طلب المعالي ... وسار سواي في طلب المعاش المعاش: يستعمله الناس فيما يؤديهم إلى الحياة, فيقولون: معاشه من التجارة, أو خدمة الناس, ونحو ذلك؛ أي: يتوصل به إلى العيش, وأهل اليمن يسمون الطعام عيشًا, ويقولون للرجل: عش في معنى كل, ويقولون: معيشة في معنى المعاش. والمصدر من ذوات الياء, مثل عاش يعيش, وغاب يغيب يجيء على مفعلٍ كثيرًا, مثل: سار مسيرًا, وزاد في الثمن مزيدًا مثل زيادةٍ, قال الشاعر: [الكامل] الله يعلم لو أردت زيادةً ... في الحب عندي ما وجدت مزيدا وربما جاء فيه مفعل, قال الشاعر (98/أ): [الوافر] أنا الرجل الذي قد عبتموه ... وما فيه لخلقٍ من معاب

وقال رؤبة: المعيش, فيجوز أن يكون أراد جمع معيشةٍ أو جعله اسمًا غير مجموعٍ, كما قالوا: المسير والمغيب, وذلك قوله: [الرجز] إليك أشكو شدة المعيش ومر أعوامٍ نتفن ريشي نتف الحبارى عن قرى رهيش * * * ولم يوجد لأبي الطيب على حرف الصاد شيء. * * *

قافية الضاد

قافية الضاد من أبيات أولها فعلت بنا فعل السماء بأرضه ... خلع الأمير وحقه لم نقضه وهي من الكامل الأول على رأي الخليل, ومن السحل الرابع على رأي غيره. ذكر السماء في هذا الموضع, وقد جاء تذكيرها في القرآن في قوله تعالى: {السماء منفطر به} فحكي عن الخليل أن المعنى ذات انفطارٍ, والغرض أن الاسم إذا تؤول فيه مثل هذا التأويل, وهو مؤنث, حذفت منه الهاء, كما قالوا: حائض, وطامث؛ أي: ذات حيضٍ وطمثٍ. والسماء إذا أريد بها التي يتردد ذكرها في القرآن فالغالب عليها التأنيث, فإذا ذكرت جاز أن يذهب بها مذهب السقف, وأن تجعل جمع سماءةٍ, وأن تذكر؛ لأن تأنيثها غير حقيقي, وإذا أريد بالسماء المطر, فهو مذكر, ويجوز أن يكون أبو الطيب إلى هذا الوجه ذهب. والخلع: جمع خلعةٍ, وأصل ذلك أن الرجل كان إذا أراد إكرام الآخر وصلته خلع ثوبه عنه, وكساه إياه, ثم كثر ذلك حتى قالوا: خلع الأمير على الرجل إذا أعطاه من اللباس شيئًا, وإن لم يكن لبس قط. وحقه: يجوز فيه النصب والرفع؛ فالنصب على اضمار فعلٍ, كأنه قال: ولم نقض حقه, أو نحو ذلك, ثم جاء الفعل الثاني مفسرًا للأول المضمر, والرفع على أن يكون حقه مبتدأً, والواو عاطفةٍ جملةً على جملةٍ, وأول الجملة الأولى فعل, وأول الثانية اسم. وقوله: وإذا وكلت إلى كريمٍ رأيه ... في الجود بان مذيقه من محضه أصل المذيق والمذق في اللبن الممزوج, ثم استعمل ذلك في الود إذا لم يخلص, وكنوا الذئب: أبا مذقة؛ لأن اللبن إذا مذق وصف بالورقة, والورقة من ألوان الذئاب. قال الشاعر: [الطويل]

ومن أبيات أولها

يشربه محضًا ويسقي عياله ... سجاجًا كأقراب الثعالب أورقا وقال الراجز: [الرجز] بتنا بحسان ومعزاه تئط ... في لبنٍ منها وسمنٍ وأقط حتى إذا جن الظلام وختلط ... أمهلنا حتى إذا النجم سقط جاء بضيحٍ هل رأيت الذئب قط ومن أبيات أولها إذا اعتل سيف الدولة اعتلت الأرض ... ومن فوقها والبأس والكرم المحض وهي من الطويل الأول على رأي الخليل, ومن الضرب الخامس من السحل الأول على رأي غيره. الاعتلال: ضد الصحة يستعمل ذلك في الآدميين, وغيرهم. وقالوا لما يحدث من صروف الدهر: علل إذ كانت تجري مجرى الأمراض, وأنشد ابن الأعرابي: [الطويل] أرى علل الدنيا علي كثيرةً ... وصاحبها حتى الممات عليل وقالت العامة: اعتل فلان في الحاجة إذا ذكر شيئًا يوجب تأخيره قضاءها, وإنما أصل ذلك أنه يذكر أمرًا يزيل العلة عن مودته, أو عن كرمه؛ أي: المرض؛ فكأن اعتل في هذا الموضع منقول من موضعه الأول. والمتقدمون من المتكلمين يكنون عن البارئ جلت عظمته

ومن أبيات أولها

بعلة العلل؛ كأنهم يريدون الحجة التي تزيل العلة التي تعترض على القلوب بالشك, ثم سموا الشيء باسم ما قرب منه, كما قالوا للعشب: ندًى, وللخمر: كاس. ومن أبيات أولها مضى الليل والفضل الذي لك لا يمضي ... ورؤياك أحلى في العيون من الغمض وهي في الوزن كالتي قبلها. رؤياك: إذا خففت الهمزة فيها جعلت واواً خالصةً, وذلك أفصح اللغات, ومنهم من يقلب الواو ياءً, فيقول: ريا, وذلك على لغة من يألف تخفيف الهمزة حتى يظن أن الواو أصل, فيقلبها إلى الياء؛ لأنها ساكنة, كما قلبوها في قولهم: قرون لي والواحد ألوى, فأصل لي لوي, ومنهم من يكسر اللام لأجل الياء, فيقول: لي, كما كسر الباء في بيضٍ وأصلها الضم, ومن قال ذلك قال: ريا فكسر الراء من أول الكلمة, وينشد: [الطويل] لعرض من الأعراض يضحي حمامه ... ويمسي على أغصانه الخضر يهتف أحب إلى قلبي من الديك ريةً ... وبابٍ إذا ما هز للرد يصرف أراد رؤيةً فخفف الواو, ثم ادغمها في الياء, فلما صارت ياءً كسر أول الحرف. وقوله: (98/ب) على أنني طوقت منك بنعمةٍ ... شهيد بها بعضي لغيري على بعضي يوجد في بعض النسخ الياء محذوفةٍ من بعضي في آخر البيت, والصواب إثباتها؛ لأنها ياء الإضافة ولا ينبغي أن تحذف من الخط؛ لأن المعنى إثباتها, وإنما يحذف بعض العرب في الإنشاد هذه الياءات, وهي في نية الإثبات عنده, فأما في مثل هذا الموضع الذي يوهم القارئ والمبتدئ أن الشاعر لم يقله بالياء فلا يحسن بحالٍ, وإذا كتب كاتب قول قطري بن الفجاءة: [الكامل]

فقلد أراني للرمح دريةً ... من عن يميني مرةً وأمامي لم يحسن حذفه الياء في الخط؛ لأن ذلك يلبس على المتكلم, وإن كان حذفها في الإنشاد جائزًا, كما زعمت الرواة أن العرب تنشد قول النابغة: [الوافر] إذا حاولت في سدٍ فجورًا ... فإني لست منك ولست مني فيحذفون الياء من مني. * * * ولم يوجد لأبي الطيب على الطاء, ولا الظاء شيء. * * *

قافية العين

قافية العين من التي أولها لا عدم المشيع المشيع وهي عند الخليل من رابع الرجز المشطور, وصاحب السحل يجعلها من الرجز أيضًا, إلا أنه يجعلها من الأول, ويسميه المغرق, ويزعم أنه أخذ من إغراق السهم. شيعت المودع: أي: تبعته, ومن ذلك قالوا لشبل الأسد: شيعه؛ لأنه يتبعه, وآتيك غدًا أو شيعه؛ أي: بعده, قال عمر بن أبي ربيعة: [الكامل] قال الخليط غدًا تصدعنا ... أو شيعه أفلا تودعنا وقوله: وسجسج أنت وهن زعزع السجسج: يستعملونه في الشيء بين الشيئين, فيقولون: هواء أهل الجنة سجسج؛ أي: بين الحر والبرد. وإذا وصفوا الأرض بالسجسج فكأنهم يريدون التي بين الغلظ والسهل, وعلى ذلك يحمل قول الحارث بن حلزة: [الكامل] أنى اهتديت وكنت غير رجيلةٍ ... والقوم قد قطعوا متان السجسج

وربما قالوا: السجسج: الأرض الغليظة, فكأنهم يريدون أنها متوسطة بين الجبل وغيره. والزعزع: الريح التي تزعزع الأشياء؛ أي تحركها حركةً عنيفةً, ويقال: رياح زعازع, قال الفرزدق: [الطويل] منا الذي اختير الرجال سماحةً ... وجودًا إذا هب الرياح الزعازع وقوله: وأنت نبع والملوك خروع النبع من الشجر يوصف بالصلابة, والخروع: موصوف بالضعف, ويقال: خرع الرجل إذا ضعف. وفي حديث أبي سعيد الخدري: «لو سمع أحدكم ضغطة القبر لجزع وخرع». وقالوا للمرأة الناعمة: خريع, وقيل: بل الخريع: الفاجرة, وهي تؤدي معنى الضعف أيضًا, والناس يجعلون الخروع نبتًا بعينه. وقد وصف به متمم النبت وصفًا مطلقًا فقال: [الطويل] وآثر أعلى الواديين بديمةٍ ... ترشح وسميًا من البقل خروعا فالواو في خروعٍ زائدة, وليس في الكلام شيء على فعولٍ؛ فيما زعمت الرواة؛ إلا حرفان: خروع وعتود, وهو اسم وادٍ. وأصحاب الحديث يقولون: بروع ابنة واشقٍ, وهي امراة كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم, فيكسرون الباء, وأصحاب اللغة يزعمون أن ذلك خطأ.

ومن التي أولها

ومن التي أولها غيري بأكثر هذا الناس ينخدع ... إن قاتلوا جبنوا أو حدثوا شجعوا وهي من البسيط الأول في رأي الخليل, ومن السحل الثاني في رأي غيره. قال: هذا؛ لأنه ذهب بالناس مذهب الخلق والبشر, وذلك جائز, لا اختلاف فيه, ولو أن الكلام منثور لكان الأولى أن يقول: من هؤلاء الناس لأن أكثر ما تجيء هذه الكلمة, والخبر عنها خبر جمعٍ. وفي كتاب الله سبحانه: {إن الناس قد جمعوا لكم} و {يا أيها الناس اتقوا ربكم}. وقال القطامي: [البسيط] والناس من يلق خيرًا قائلون له ... ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل فإن حمل جبنوا وشجعوا على أكثر فهو أحسن من حمله على هذا الناس؛ لأنهم يقولون: أكثر الناس خرجوا, فيكون أحسن من قولهم: أكثر الناس خرج, وفي كتاب الله عزت كلمته: {وأكثرهم الكافرون}. ولو قال قائل: إن الناس قد خرج إلى موضع كذا لقبح ذلك, وإذا أدخلت الألف واللام على ناس حذفت الهمزة, وأصحاب القياس مجمعون على أنها (99/أ) أناس في الأصل, وأن الألف حذفت لكثرة الاستعمال, وكان أول ذلك أنهم ألقوا حركة الهمزة على اللام, ثم ادغموا اللام في النون, كثر استعمالهم هذه اللفظة فجاؤوا بها في النكرة, قال الشاعر: [الطويل] بلاد بها كنا وكنا نحبها ... إذ الناس ناس والبلاد بلاد وربما قالوا في الشعر: الأنس, وينشد: [مجزوء الكامل] إن المنايا يلطعـ ... ــن على الأناس الآمنينا

ويروى لعمران الخارجي: [البسيط] إما سقيت بكاسٍ دار مشربها ... على الأناس فذاقوا جرعة الكاس وأناس: مأخوذ من الأنس والإنس, وإذا صغروا ناسًا قالوا: نويس, وأجازوا أنيس يردونه إلى الأصل, ومن قال: إن إنسانًا مأخوذ من النسيان جاز أن يدعي في ناسٍ مثل ذلك, وأنهم أرادوا عالمًا ناسيًا أو خلقًا, وكثر الاستعمال حتى حذفت لام فاعلٍ فبقي على فاعٍ, وقرأ بعضهم: {إلا من هو صالو الجحيم} فالوجه أن يكون صالو جمع صالٍ وحذفت النون للإضافة. وأجاز قوم أن يكون صال في معنى صالٍ وقد حذفت ياء فاعل وذلك رديء بعيد في القياس. ومما يشبهه ما روي أن ابن مسعودٍ قرأ: {وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام} , بضم الراء, فهذا يشبه قولهم: صال في معنى صالٍ, وقد رجع أبو الطيب إلى أن خبر عن الناس كما يخبر عن الجماعة؛ لأنه قال: إن قاتلوا جبنوا أوحدثوا شجعوا ولو حمل على قوله هذا الناس؛ لوجب أن يقال: إن قاتل جبن أو حدث شجع؛ لأنه ذهب به مذهب الجيل والجنس. والمعنى أن بعض الناس يدعي الشجاعة إذا لم يكن في حربٍ, فإذا شهد القتال وجد جبانًا, وهذا الخلق موجود في العالم كثير فيه, والأجود إذا وقف على آخر البيت أن يقول: شجعوا بالواو, وذلك مذهب فصحاء العرب. وقد حكى سيبويه وغيره أنهم يحذفون هذه الواو في الوقف إذا كانوا منشدين لا مترنمين, وأنشد سيبويه أبياتًا منها: [البسيط]

لا يبعد الله جيرانًا لنا ظعنوا ... لم أدر بعد غداة البين ما صنعوا فزعم أن بعضهم يقف بغير واوٍ. وقوله: أهل الحفيظة إلا أن تجربهم ... وفي التجارب بعد الغي ما يزع أهل الحفيظة: خبر مبتدأٍ محذوفٍ كأنه قال: هم أهل الحفيظة, والحفيظة: الغضب, وكأن أصلها من حفظ الشيء, فكأنهم يريدون أن الغضبان يحفظ الحقد في صدره أو يفتقر إلى أن يحفظ نفسه ممن أغضبه. والتجربة: تحتمل أن يكون أصلها مأخوذًا من جرب الإبل؛ لأن صاحبها إذا جربت لزمه أن يعرف أدواءها؛ فكأنهم قالوا: جربها إذا قام عليها في الجرب, كما قالوا: مرض العليل إذا ولي أمره في المرض وخدمه, ثم كثر ذلك حتى قالوا: جرب الأمور؛ أي: عرف ما يحتاج إليه من الممارسة والمدارة, وقالوا في المثل إذا وصفوا الرجل بالحكمة ومعرفة الأشياء: «عنيته تشفي من الجرب». والعنية: أشياء تخلط وتجعل فيها أبوال الإبل ويداوى بها الجربى. ويزع: أي: يكف. ومن الكلام القديم: لابد للسلطان من وزعةٍ, وربما قالوا للحكم في مكان السلطان. والوزعة: جمع وازعٍ, وهو الذي يكف الناس, وفي حديث المغيرة بن شعبة مع أبي بكر: «إنما المغيرة وازع»؛ أي: يزع من يراه قد خالف.

وقالوا للذي يرتب الصفوف في الحرب, ويمنع الناس من الاختلاف: وازع. والمعنى أن الإنسان لا ينبغي أن يركن إلى كلام الناس؛ لأنه قد عرف كذبهم, وأنهم يقولون ما لا يفعلون. وقوله: وما الحياة ونفسي بعدما علمت ... أن الحياة كما لا تشتهي طبع الطبع: كثرة الدنس يستعمل ذلك في السيوف وغيرها, ويقال: طبع الرجل إذا فعل أفعالًا ذميمةً, كأنها تستر فضله كما يستر طبع السيف رونقه, قال لبيد: (99/ب) [الكامل] لا يطبعون ولا يبور فعالهم ... بل لا تميل مع الهوى أحلامها وموضع نفسي: رفع في أجود الوجهين, ويجوز النصب على مذهب من أضمر فعلًا؛ كأنه قال: وما تصنع الحياة ونفسي, وقد أنشدوا قول الهذلي نصبًا: [المتقارب] وما أنا والسير في متلفٍ ... يبرح بالذكر الضابط والمتقدمون يمثلون الإضمار ها هنا بكنت وأكون, ولا يمتنع إضمار كل فعلٍ يحسن إضماره في ذلك الموضع فيتأول على أن المعنى: ما أصنع والسير, أو ما أفعل, ونحو ذلك. وقوله: ليس الجمال لوجهٍ صح مارنه ... أنف العزيز بقطع العز يجتدع المارن: ما لا من طرف الأنف, وهو مأخوذ من المرونة, وهي اللين والملاسة, ومنه اشتقاق المران, وهو أصول القنا, قال الشاعر: [الطويل] وألجمه فأس اللجام فعضه ... وأغضى على غضاض أنفٍ ومارن الغضاض: ما حول الأنف. ويجتدع؛ أي: يقتطع, وأصل الجدع القطع, وأكثر ما استعملوا ذلك في الأنف والأذنين, وقد قالوا: منجدع الغلان: يريدون ما قطع من الشجر, قال الشاعر: [الكامل] حتى إذا خفت الصياح وصرعت ... قتلى كمنجدعٍ من الغلان

والغلان: أودية كثيرة الشجر. وقالوا للسنة الصعبة: جداع معدولا, كأنهم أرادوا أنها تجدع أموال الناس؛ أي: تقطعها, أو تحملهم على أن يبخلوا فيدعى عليهم, فيقال: جدعًا لهم, قال أبو حنبل الطائي: [الوافر] لقد آليت أغدر في جداع ... وإن أعطيت أمات الرباع وقوله: أأطرح المجد عن كتفي وأطلبه ... وأترك الغيث في غمدي وأنتجع الكتف: بفتح الكاف وكسر التاء, أكثر في كلامهم من قولهم: الكتف, وهو مثل قولهم: الكبد والكبد. ومن الأمثال: «فلان يعلم من حيث تؤكل الكتف»؛ أي هو عالم بالأشياء عارف بما يأتي, ويذر, قال الشاعر: [المنسرح] إني على ما ترين من كبري ... أعلم من حيث تؤكل الكتف والانتجاع: طلب الكلأ, ثم قيل لكل طالبٍ: منتجع. وجلس أبو جهم بن حذيفة العدوي من عدي قريشٍ مع معاوية على المائدة, فجعل ياكل من بين يدي معاوية, فأنكر عليه فقال أبو جهم: من أجدب انتجع. والمعنى أن الشاعر أنكر على نفسه أن يطلب الشرف بغير الرمح وما جرى مجره, وأن يحاول الرزق بغير السيف؛ فأخبر أن المجد على كتفه محمول؛ لأنه صاحب قناة, وأن الغيث في غمده, فكيف ينتجع والغيث في ملك يمينه, وهذا نحو من قول القائل: [الرجز] واعمد إلى السيف وشفرتيه ... فاستنزل الرزق بمضربيه

ولو أن هذا البيت في قصيدةٍ منصوبة لجاز نصب أنتجع على إضمار أن, كما تقول: أكرم الناس وأدع نفسي؟ ! وأنت منكر لذلك؛ أي: أيكون مني إكرام لهم, وأن أدع نفسي. وقوله: والمشرفية لازالت مشرفةً ... دواء كل كريمٍ أو هي الوجع جمع الوجع: أوجاع ولم يجمع على غير هذا المثال, وهو في الأصل مصدر كان ينبغي ألا يجمع؛ إلا أنه لما اختلفت أنواعه جمع. قال الراجز: [الراجز] داو بها ظهرك من أوجاعه ... من خزراتٍ فيه وانقطاعه الخزرات: جمع خزرة, وهو وجع يأخذ في الظهر. والفعل وجع يوجع, وإذا كان الماضي على فعل, وأوله واو جاء مستقبله على يفعل, وظهرت الواو ساكنةً في يفعل, فقيل: يوجع ويوجل ويوحل, فهذا الأصل, ويجوز فيه بعد ذلك ثلاث لغاتٍ؛ فمنهم من يكسر الياء فتنقلب الواو التي بعدها ياءً لسكونها وانكسار ما قبلها, فيقولون: يبجع, ويبجل, وييحل, ومنهم من إذا كسر الياء فر من كسرة الياء الأولى, ومجيء الثانية بعدها إلى فتح أول الفعل فيقول: يبجع. ويبجع أكثر وأقيس, ومنه قول متممٍ: [الطويل] فقعدك ألا تشعريني ملامةً ... ولا تنكئي قرح الفؤاد فييجعا وبعضهم يقلب واو يوجع ألفًا؛ فيقول: ياجع وياجل, وإنما يقول: ييجع فيكسر من يقول في المضارع: اعلم وإخال, وهي لغة قيسية.

وقوله: وفارس الخيل من خفت فوقرها ... في الدرب والدم في أعطافها دفع يريد: فارس فرسان الخيل, فحذف المضاف لعلم المخاطب بما يريد القائل. وخفت, (100/أ) وإن كان ظاهره للخيل, فالمعني به الفوارس؛ لأن الخفة إذا أريد بها التسرع وضد الحلم, فإنما يستعمل ذلك في الإنس. والتوقير: التفعيل من الوقار, يقال: قر الرجل, ووقر, ووقره غيره, وكذلك وقر الفرس والدابة. قال الراجز: وذكر بعيرًا: [الرجز] يكاد ينسل من التصدير ... على مدالاتي والتوقير والمدالاة: الرفق والمداراة. والدفع: جمع دفعةٍ, وهي دم يخرج بكثرةٍ, وإنما يريد أنها تطعن أو تضرب بالسيف فيندفع منها الدم, ويحتمل أن تكون الدفع التي تصيب أعطافها من دماء من يقتل على معنى الادعاء, والأول أشبه. وقوله: وأوحدته وما في قلبه قلق ... وأغضبته وما في لفظه قذع أوحدته: أي: افترقت عنه وتركته وحيدًا, والقذع: ما لا يبنغي من القول كالشتم وما يجري مجراه؛ كأن هذه الخيل لما انهزمت أغضبت الممدوح, فلم يحمله الغضب على أن يقول كلامًا فيه قذع. يقال: ما بيننا أجل من القذع. والقذع, بسكون الذال, والتحريك أجود, وبيت زهير ينشد على وجهين: [البسيط] ليأتينك مني منطق قذع ... باقٍ كما دنس القبطية الودك ينشد: قذع, بكسر الذال, وقذع, بفتحها. وقوله: بالجيش تمتنع السادات كلهم ... والجيش بابن أبي الهيجاء يمتنع يقال للقوم يجتمعون للحرب: جيش, وهو اسم, أصله مصدر مأخوذ من قولهم: جاش

البحر يجيش جيشًا إذا زخر, أرادوا أن الأرض تجيش بهم إذا كانوا كموج البحر, ويجوز أن يكون من قولهم: جاش الصدر بالحقد؛ أي: هؤلاء القوم غضاب, فصدورهم تجيش كما تجيش المراجل, قال الشاعر: [الكامل] إلا بجيشٍ لا يكت عديده ... سهكين من صدأ الحديد غضاب وقوله: قاد المقانب أقصى شربها نهل ... على الشكيم وأدنى سيرها سرع المقنب: ما بين الثلاثين إلى الأربعين, يزعم قوم أنه لا يقال إلا للفرسان, وقيل: بل يقال للفوارس وللرجل, وكان السليك بن السلكة يقال له: سليك المقانب, يريدون أنه يغزو فيها, أو يقاتلها, قال الشاعر: [الطويل] لزوار ليلى منكم آل برثنٍ ... على الهول أمضى من سليك المقانب والنهل: أول الشرب. والشكيم: جمع شكيمة اللجام, يقال: شكيمة وشكيم, كما يقال: شعيرة وشعير, وشكيمة وشكائم, كما يقال: صحيفة وصحائف, وشكيمة وشكم, كما يقال: صحيفة وصحف. والسرع: كسر السين فيه أفصح, وحكى ابن الأعرابي أنه يقال بالفتح. والمعنى أن الممدوح قاد المقانب وهو لا يمكنها من الشرب؛ لأنه على عجلٍ, فهي تقتصر على أول الجرع, وتشرب واللجم في أفواهها؛ لإيثار التقدم. وقوله: لا يعتقي بلد مسراه عن بلدٍ ... كالموت ليس له ري ولا شبع

يعتقي في معنى يعتاق, يقال: عاقه عن كذا وعقاه, فهو عائق وعاقٍ. وقال الطهوي: [الوافر] فلو أني سمعتك حين تدعو ... لعاقك عن لقاء الحي عاق وقوله: حتى أقام على أرباض خرشنةٍ ... تشقى به الروم والصلبان والبيع الأرباض: جمع ربضٍ, وهو ما حول المدينة, والربض: المدينة نفسها, وقيل: بل هو ما تشمل عليه. والصلبان: جمع صليب, وهو في معنى مصلوبٍ في الأصل؛ لأن الذين يتخذونه يزعمون أن المسيح صلب, فهم يعظمون هذا المتخذ لذلك. والبيع: جمع بيعةٍ, وهي كلمة تشبه كلام العرب؛ فيجوز أن تكون من البيع, والبيع عندهم من الأضداد, فكأنهم يريدون أنهم يبيعون فيها الكفر بالإيمان. والبيع يشتمل على أخذ شيءٍ وإعطاء من يؤخذ منه عوضه. واسم البيعة يحتمل الوجهين, أن تكون من الشراء ومن البيع, أي: كأنهم يشترون الآخرة بالدنيا وتركها. وقالوا: بايع القوم الخليفة, وهم يذهبون إلى هذا الوجه كأنهم باعوه أنفسهم بما يعطيهم, ولايبعد أن البيعة التي هي أخذ العهد لما كان التابع فيها يأخذ يد المتبوع معاقدًا له على الوفاء, شبه ذلك بالمبايعة في التجارة والأسواق. وقوله: للسبى ما نكحوا والقتل ما ولدوا ... والنهب ما جمعوا والنار ما زرعوا لو أن الكلام (100/ب) منثور لكان الوجه أن يقال: للسبي ما نكحوا, وللقتل ما ولدوا؛ فتعاد اللام في الجمل الثلاث التي بعد الجملة الأولى, وحذفها في هذا الموضع يسميه النحويون: العطف على عاملين, وهما اللام والابتداء؛ لأن المعنى: ما نكحو للسبي, ومثله قولهم: أخوك في الدار, والبيت أبوك, يريدون: وفي البيت. وأصحاب سيبويه يختلفون في مذهبه؛ فيذهب قوم إلى أنه كان يجيز العطف على عاملين, وبعضهم ينكر ذلك.

وقوله: للسبي ما نكحوا, والقتل ما ولدوا وأوقع «ما» على الإنس؛ لأنها تقع على صفات الآدمييت, فإذا قال القائل: ما أميركم؟ جاز أن يقول له: طويل أو قصير أو جائر أو عادل, وإذا قال القائل: ما نكح بنو فلان؟ جاز أن يقال له: العجز أو الشواب أو الحسان أو القباح, فتقع «ما» على الصفات, وكذلك إذا قيل: ما ولدوا؟ جاز أن يقال: الجبناء أو الشجعاء, وما هو مجانس هذا اللفظ. وقوله: مخلًى له المرج منصوبًا بصارخةٍ ... له المنابر مشهودًا بها الجمع مخلًى في موضع نصبٍ على الحال, والهاء في له عائدة على الممدوح, والمرج: اسم ما لم يسم فاعله, وهو مأخوذ من قولهم: مرجت الخيل بعضها مع بعض إذا أرسلتها في رعيٍ أو غيره, وكل أمرٍ أهملته فقد مرجته, ومنه قولهم: «أمر مريج»؛ أي: مخلى مختلط. وقيل للموضع الذي تخلى فيه الخيل ونحوها للرعي: مرج, لما كان يمرج فيه. وصارخة اسم قد وافق فاعلةً من الصراخ. والجمع: جمع جمعة, يقال: جمعة وجمعة, وقد قرئ بهما إلا أن أكثر القراء على ضم الميم, ويقال: إن بني عقيلٍ يقولون: جمعة, فيفتحون ميمها, وإنما أخذت من اجتماع الناس فيها للصلاة أو لغيرها, وكانت العرب تسميها عروبة غير مصروفةٍ, قال الشاعر: [الكامل] يوم كيوم عروبة المتطاول وأدخل عليها القطامي الألف واللام فقال: [البسيط] نفسي فداء بني أم هم خلطوا ... يوم العروبة أورادًا بأوراد وكان ينبغي إذا حمل الأمر على القياس أن تكون الجمعة اسمًا حدث في الإسلام,

ولكن الأمر ليس كذلك, وسموا الأيام الخمسة بأسماءٍ مأخوذةٍ من العدد فقالوا: الأحد والاثنان والثلاثاء والأربعاء والخميس, فلو اطردت التسمية لوجب أن تسمى الجمعة باسمٍ مشتق من الستة, ويسمى السبت باسمٍ مشتق من السبعة؛ لأن الجمعة سادسة, والسبت سابع. والله أعلم بحقيقة الأمور. فأما السبت فقيل: إنه مأخوذ من سبت الشيء إذا قطعه؛ لأنه آخر الأيام, فكأنها تنقطع عنده, ثم يبتدأ بغيرها. ولو كان الناس مجمعين على ما يفعله اليهود في يوم السبت من التودع والراحة لجاز أن يكون السبت من ذلك؛ لأنهم سموا النوم سباتًا؛ لأنه يستراح فيه. ويقال: سبتت المرأة شعرها إذا مدته وبسطته؛ لأن ذلك كالراحة له, قال الشاعر وذكر الشعر: [الطويل] وإن سبتته مال جثلًا كأنه ... سدى ناسجاتٍ من نواسج خثعما وقوله: يطمع الطير فيهم طول أكلهم ... حتى تكاد على أحيائهم تقع هذا بيت زاد فيه أبو الطيب على من قبله من الشعراء؛ لأن هذا البيت يروى للأفوه: [الرمل] وترى الطير على آثارنا ... رأي عينٍ ثقةً أن ستمار ثم قال النابغة: [الطويل] إذا ما غزوا بالجيش حلق فوقهم ... عصائب طيرٍ تهتدي بعصائب جوانح قد أيقن أن قبيله ... إذا ما التقى الجمعان أول غالب ثم قال الحكمي في الإسلام: [المديد] تتآيا الطير غدوته ... ثقةً بالشبع من جزره وهؤلاء الشعراء الثلاثة لم يزد أحدهم على الآخر في الصفة, وإنما الفضيلة لمن سبق منهم. وقد جعل علقمة بن عبدة الطير تتبع الحي المحتملين؛ لأنهم يزينون الهوادج بحمر

الثياب فتحسبها الطير محمرةً لأجل الدم؛ وذلك قوله: [البسيط] عقلًا ورقمًا تظل الطير تتبعه ... كأنه من دم الأجواف مدموم وقوله: ولو رآه حواريوهم لبنوا ... على محبته الشرع الذي شرعوا (101/أ) الحواريون: هاهنا مراد بهم أصحاب عيسى - عليه السلام - الذين ذكروا في القرآن في غير موضع, وزعم المفسرون أنهم سموا حواريين؛ لأنهم كانوا قصارين يبيضون الثياب, أو لعلهم كانوا يبيضون لباسهم إيثارًا للطهارة, وإزالة الدنس, كما يفعله المتدينون, أو لأنهم كرهوا أن يلبسوا ما يلبسه المثرون من الثياب الحمر والصفر والموشية. وقيل لهذا الضرب من الخبز حوارى لبياضه, وفي الحديث المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم: «الزبير ابن عمتي وحوايي من أمتي». وأصحاب الحديث يزعمون أن الحواري هاهنا مثل الوزير, فإذا أخذ بهذا القول فيجوز أن يكون قيل له: حواري؛ لأنه يحاور صاحبه, ويشاوره في الأمور, فيكون اشتقاقه من المحاورة التي هي مراجعة الكلام, ولا يمتنع أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم شبه أصحابه بالحواريين الذين كانوا مع المسيح, صلى الله عليه, فأما قول اليشكري: [الطويل] فقل للحواريات يبكين غيرنا ... ولا يبكنا إلا الكلاب النوابح فأصحاب اللغة يزعمون أن الحواريات في هذا البيت نساء الأنصار سمين بذلك لبياضهن, وإذا أريد بهذا المعنى البياض؛ جاز أن تكون الحواريات واقعةً على كل امرأةٍ بيضاء

من أهل الأمصار وغيرهن. ولما مدح ذو الرمة بلال بن أبي بردة جعل جده أبا موسى الأشعري حواريًا للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: [الوافر] حواري النبي ومن أناسٍ ... هم من خير من وطئ النعالا ويقال: شرع النبي شرعًا للأمة: إذا جعل لهم دينًا يتبعونه, وهي الشريعة, ومعنى البيت: أن الحواريين الذين ذكروا في الكتاب العزيز لو رأوا هذا الممدوح لجعلوا شرعهم مبنيًا على محبته؛ أي كانوا يأمرون من تبعهم أن يجعل محبته من الديانة, وهذا غلو يجب أن يستغفر منه. وقوله: ذم الدمستق عينيه وقد طلعت ... سود الغمام فظنوا أنها قزع يقال في المنثور: عينيه, بهاءٍ مكسورةٍ, وهي أفصح اللغات. ويجوز أن تتبع الكسرة بياءٍ لتبين. وضم الهاء جائز, وإن كان قبلها ياء, فيقال: عينيه, ويتبعون الضمة واواً حرصاً على البيان في بعض اللغات. والشعراء يصرفون هذه الهاء على ما يحتمله الوزن, فإن كان يحتاج إلى أن تتبع ياء كراهة زحافٍ أو كسرٍ جاؤوا بالياء, وهذا الموضع جيء بها فيه لأنها لو تركت لحدث في البيت زحاف يكرهه السمع. ولو ضم الهاء منشد لوجب أن يتبعها واواً؛ لأنه إذا لم يفعل حدث ذلك الزحاف. والقزع: سحائب مفترقة, وفي الحديث: «فعندها يضرب يعسوب الدين بذنبه فتجتمع إليه فرق المسلمين كما يجتمع قزع الخريف». ويقال للشعر المفترق في الرأس: قزع. وفي الحديث المأثور: «أنه نهى عن القزع» وذلك أن يحلق الرأس ويترك في نواحيه شيء من الشعر. ومنه اشتقاق القنزعة والنون زائدة, وتستعمل القنزعة في الشعر والريش. قال ذو الرمة: [الطويل]

ينؤن ولم يكسين إلا قنازعًا ... من الريش تنواء القلاص الهزائل والمعنى أن أوائل جيش هذا الممدوح نظر إليها الدمستق فظن أنها خيل قليلة, مثل قزع السحاب ولم يعلم أنها في جيشٍ لجبٍ كأنه الغمائم السود في ألباس السماء, ويجوز أن يعني بالقزع غبارًا قليلًا مفترقًا وبسود الغمام عجاجًا ساترًا. وقوله: فيها الكماة التي مفطومها رجل ... على الجياد التي حوليها جذع أصل الجذع أن يستعمل في أسنان الخيل, وذوات الحافر, وفي الإبل, وغيرها من الضأن والمعز؛ إلا أنها كلمة كثرت حتى قالوا للأمر إذا كان قد أدبر أو خلص منه, ثم فعل فاعل ما يرده: قد رده جذعًا؛ أي: أعاده في أوله, ويقولون في الحرب: ردها جذعةً؛ أي: ردها في أول أمرها, ثم اتسعوا في الحرب, فقالوا: حرب رباعية (101/ب) , فيجوز أن يريدوا تشبيهها بالرباعية من الدواب؛ لأنها أقوى من الجذعة. قال الشاعر: [المديد] إنها حرب رباعية ... مثلها آتى الفتى ذكره وقال آخر: [البسيط] لأصبحن ظالمًا حربًا رباعيةً ... فاقعد لها ودعن عنك الأظانينا وزعم بعض الناس أن أصل قولهم: ردها جذعةً أن رجلًا حذف ذنب فرسه وعرفها, فقيل: ردها جذعةً؛ أي: كأنها لم تسن, ولم يطل شعر ذنبها وعرفها. والجذاع حي من بني تميم بن مر وهم المعنيون في قول الشاعر: [الطويل] أراد حصين أن يسود جذاعه ... فأضحى حصين قد أذل وأقهرا والفطام: يستعمل في الناس, وغيرهم, قال الراجز: [الرجز]

من كل كوماء السنام فاطم تشحى لمستن الذنوب الراذم شدقين في رأسٍ لها صلادم ويقال: فطمت الرجل من كذا إذا كان قد تعود أمرًا فمنعته منه, وكان بعض من رد على أبي الطيب قد ادعى أنه قال: فيه الكماة الذي مفطومها رجل ... على الجياد الذي ... فاستعمل الذي في موضعين؛ وذلك مكذوب لا محالة, ولو صحت الرواية لكان له وجه, وهو أن يجعل الذي مبتدأً ويضمر بعده هو؛ فيكون التقدير: فيها الكماة الذي هو مفطومها رجل, ومثل هذا ما حكاه الخليل عن العرب من قولهم: ما أنا بالذي قائل لك شيئًا؛ أي: بالذي هو قائل لك. وقالوا للذي تذهب عليه سنة من وقت النتاج: حولي ومحول, وقال امرؤ القيس: [الطويل] من الناعمات البيض لو دب محول ... من الذر فوق الإتب منها لأثرا ويروى: من القاصرات الطرف. وقال حسان: [الخفيف] لو يدب الحولي من ولد الذر ... ر عليها لأندبتها الكلوم وكثر استعمال ذلك حتى قالوا: حولي الحصى يعنون صغاره, كذلك زعم بعض الناس, ويجوز أن يكون الذين قالوا: أقلب حولي الحصى إنما أرادوا نسبة الحصى إلى ما حول الإنسان لا إلى حول السنة. وقوله: يذري اللقان غبارًا في مناخرها ... وفي حناجرها من آلسٍ جرع اللقان وآلس موضعان في بلاد الروم, واللقان: موافق من العربية لفظ فعالٍ من

لقن الشيء إذا فهمه, وآلس: موافق لفظ فاعلٍ من ألس إذا خان وغش. وحكي عن علي ابن عيسى الربعي, وكان يذكر أنه قرأ ديوان أبي الطيب عليه في شيراز, وأن عضد الدولة أمره بذلك, أنه كان يروي آلس, بضم اللام, فأما رواية الشاميين فبالكسر. ومعنى البيت أنه يصف الخيل بالسرعة فقد وردت الماء بآلس, وسارت حتى جاءت اللقان فأذرى الغبار في مناخرها ومعها بقية من ورد آلس, وهو في حناجرها, وهذه مبالغة عظيمة في الصفة, لا يجوز أن يكون مثلها, ونحو منها قول الأول: [الطويل] خلطن بباقي ماء نخلة غدوةً ... وقد رحن عنه ماء بطن الأميلح وإن القطا الكدري يطلح دونه ... وإن كن قد وافينه غير طلح ولكن أصحاب النظام يرونها من المحاسن. والحنجرة هذه: الناتئة في الحلق. يقولون في جمعها: حناجر, وحنجر, قال الشاعر: [الكامل] منعت حنفية بالأسنة منكم ... تمر العراق وما يلذ الحنجر ويجوز أن تكون النون في حنجرةٍ زائدةً, واشتقاقها من الحجر؛ لأن فيها صلابةً ليست فيها حولها. وقوله: كأنها تتلقاهم لتسلكهم ... فالطعن يفتح في الأجواف ما يسع هذه من المبالغة التي تستحسن في الشعر, وهي موفية على ما قال قيس بن الخطيم: [الطويل] .................. ... يرى قائم من خلفها ماء وراءها

لأن الإنسان قد ينفذ بصره في الشيء الضيق, وفي (يسع) ضمير, كأنه أراد ما يسعها فحذف المضمر, والمعنى دال عليه, وهو يشبه ما قال الآخر في صفة ضربةٍ وأنها قسمت جسم الرجل قسمين: [السريع] فصار ما بينهما نفنف ... يسلكه الفارس والراجل وقوله: تهدي نواظرها والحرب مظلمة ... من الأسنة نار والقنا شمع تحريك الميم في الشمع أجود اللغتين, وقد حسن المعنى جزالة لفظه, وكونه في وزن تام لأن المعنى إذا حصل في الوزن القصير كان أقل لحسنه, وقد سبق إلى هذا المعنى, وروي لعبدالله بن المعتز: [مجزوء الرجز] وشمعةٍ جاء بها الـ ... ـفراش والليل غهب كأنها وما عليـ ... ــها من شعاعٍ ولهب رمح بكف فارس ... فيه سنان من ذهب ولم يقصر (102/أ) صاحب هذه الأبيات القصار, وهي على ضيق الوزن ليست بالمزدراة. وقوله: دون السهام ودون الفر طافحة ... على نفوسهم المقورة المزع طافحة: من قولهم: طفح المكان بالماء إذا امتلأ حتى يفيض, وطفحت القدر إذا جاشت بالزبد. والمقورة: من الاقورار, وهو مذكور في الأضداد, يجعله بعضهم الضمر, وبعضهم السمن, قال الأفوه: [الرمل] كل قوداء كمرداة الفلا ... وطمر سابحٍ فيه اقورار

فالاقورار: هاهنا الضمر؛ لأن الخيل التي توصف بلقاء الحروب لا يحمد سمنها. وقبل هذا البيت: [الرمل] نحن قدنا الخيل حتى انقطعت ... شدن الأفلاء عنها والمهار فهذا دليل على الضمر. وبيت حميد بن ثور الهلالي يحمل على السمن وهو قوله: [الطويل] وقربن مقورًا كأن وضينه ... بنيقٍ إذا ما رامه الغفر أحجما والمقور: في الحالين مشبه بالقارة, فإذا أريد به الضامر ذهب إلى أنه صلب فهو كالقارة في الصلابة وهي الأكمة الصغيرة, وإذا أريد به السمن فهو مشبه بها في العظم, والصلابة جميعًا. ويجوز أن يحمل المقور إذا أريد به الضمر على قولهم: قرت الأديم إذا قطعته, كأنهم يريدون أن لحمه قطع منه. والمزع: جمع مزوعٍ, يقال: مزع الفرس مزعًا إذا عدا عدوًا سهلًا, وكذلك مزع الظبي. وطافحة يجوز فيها الرفع والنصب, فإذا نصبت فهي حال من الجياد التي تقدم ذكرها, وإذا حمل على هذا الوجه فالمقورة بدل من الضمير الذي في طافحةٍ, ويحتمل أن تكون طافحة حالًا من المقورة, كما يقال: في الدار قائمًا أخوك, وهذا الوجه أحسن من الوجه المتقدم, وترفع المقورة على أنها في تقدير المبتدأ, كأنه قال: دون السهام والفر المقورة طافحةً على نفوسهم. وإذا رفعت طافحة جاز أن تكون المقورة في تقدير المبتدأ, ويكون قوله: دون السهام ودون الفر كالظرف الملغى إذا تقدم فقيل: في الدار قائم أخوك, ومن قال: قائم أخوك وهو يجعل قائمًا مبتدأً وأخوك قد سد مسد الخبر, وهو فاعل جاز أن يرفع المقورة بأنها فاعلة طافحةٍ, وقد سدت مسد خبرها, وطافحة مبتدأ. ويجوز أن يجعل الكلام تامًا عند قوله: طافحة على نفوسهم؛ أي: داهية قد طفحت على النفوس, ثم تجعل المقورة المزع بدلًا منها, والمعنى أن هذه الخيل تدركهم قبل إدراك السهام, وتعجلهم عن الفرار. وقوله: إذا دعا العلج علجًا حال بينهما ... أظمى تفارق منه أختها الضلع أظمى يعنى رمحًا, والظما هاهنا غير مهموزٍ, وهو من قولهم: شفة ظمياء يراد بها

السمرة وقلة اللحم, فإذا قيل للرمح: أظمى أريد به صلابته وسمرته, ويجوز أن يكون قولهم للمرأة ظمياء مأخوذًا من هذا اللفظ, لأنه لو كان من الظمأ الذي هو العطش لوجب أن يقال في المؤنث: ظمأى بالهمز على مثال: سكرى أنثى السكران؛ لأن المذكر: ظمآن, وإذا قيل في صفة الرماح: الظماء احتمل وجهين: أحدهما: أن يكون من هذا الذي تقدم ذكره, والآخر أن يكون من الظمأ الذي هو العطش؛ لأنهم يصفون الرماح بذلك, ويقولون: الأسل الظماء, والأسل النهال, ورويت الرمح, قال الشاعر: [الطويل] رماني ثلاثًا ثم أني طعنته ... فرويت منه صعدتي وسنانيا وقال حسان: [الوافر] ................ ... على أكتافها الأسل الظماء وقال أبو شجرة السلمي: [الطويل] ورويت رمحي من كتيبة خالدٍ ... وإني لأرجو بعدها أن أعمرا ولا يمتنع أن يكون هذا اللفظان أصلهما واحد؛ إلا أنهم فرقوا بينهما بالهمز, كما قالوا: سبأت الخمر وسبيت العدو. والضلع عندهم أفصح من الضلع, والضلع بسكون اللام وهي لغة معروفة, والضلع مؤنثة, قال الشاعر: [الطويل] هي الضلع العوجاء لست مقيمها ... ألا إن تقويم الضلوع انكسارها

واشتقاقها من الضلع, وهو الاعوجاج (102/ب) يقال: رمح ضلع, وكذلك السيف. قال الشاعر: [الطويل] وقد يحمل السيف المهند ربه ... على ضلعٍ في متنه وهو قاطع ولو ذكرت الضلع في الضرورة؛ لأن تأنيثها غير حقيقي لم يبعد ذلك, ومعنى البيت أن العلج إذا دعا العلج الآخر ليغيثه حال بينهما رمح إذا طعن به فرق بين الضلع وأختها, والأخوة بينهما أعظم من الأخوة بين الرجلين اللذين يجمع بينهما أب وأم, لأنهما يخلقان في وقتٍ واحدٍ, ثم لا يفترقان إلا بعد فراق الحياة, وأشد أخوةٍ تكون بين الرجلين أن يكونا توأمين, والتوأم لابد له أن يفارق أخاه, كما يفارق الشخص الشخص للحاجة التي تعرض, والتصرف في شؤون الحياة, والضلع ليست كذلك. وهذا الغرض من أحسن المبالغة. وقوله: أجل من ولد الفقاس منكتف ... إذ فاتهن وأمضى منه منصرع الفقاس: لقب لرجلٍ من الروم بعض ولده المعروف بنقفور, وقد صار إليه ملك الروم, وهو الذي قتلته أم بسيل وقسطنطين, وكانت قد تزوجته وابناها صغيران؛ فخشيت أن يخرجهما من المملكة, فدست عليه وهو نائم ليلًا قومًا, منهم ابن شمشقيق الذي ذكره أبو الطيب فقتلوه. وكان والد نقفور دمستقًا وهو والد قسطنطين الذي أسره سيف الدولة في وقعة الأحيدب, وفي أيامه كانت الوقعة التي قيلت فيها هذه القصيدة, ويقال: إنه كان مع ابنه نقفور, وقد جعل الأمر إليه لما افتتحت حلب سنة إحدى وخمسين وثلاثمئة. وبعض الناس يخبر أن الفقاس كان من آل جفنة الذين دخلوا إلى الروم في أيام عمر بن الخطاب. ويجوز أن يكون الفقاس كلمةً روميةً قد عربتها العرب فأخرجتها إلى مثال فعالٍ من قولهم: فقست البيضة. وفي هذا البيت تسلية للمدوح عن انفلات الدمستق وهو ولد الفقاس. يقول: أجل منه قد أسر وكتف, وأمضى منه قد قتل فهو منصرع.

وقوله: وما نجا من شفار البيض منفلت ... نجا ومنهن في أحشائه فزع ما: في أول البيت نافية, والمعنى: لم ينج, ونجا الثانية في موضع نعتٍ لمنفلتٍ, يقول: ما نجا من السيوف منفلت في أحشائه منهن فزع. وقوله: يباشر الأمن دهرًا وهو مختبل ... ويشرب الخمر حولًا وهو ممتقع يقال: امتقع لون الرجل إذا تغير من فزعٍ أو غيره, والميم هي اللغة الفصيحة, وحكى الفراء: انتقع, بالنون. ويباشر هو من التزاق بشرة الإنسان ببشرة غيره. والبشرة: ظاهر الجلد, ثم كذر ذلك حتى قالوا: فلان يباشر الأمر؛ أي: يمارسه, كما يباشر أحد المباشرين الآخر. والمعنى أن الذي نجا من القتل لم ينج نجاءً كاملًا, إذ كان قد حصل في المأمن وعقله مختبل من الذعر, وهو يشرب الخمر بعد خلاصه حولًا ولونه ممتقع, وهذه مبالغة؛ لأن الخمر شأنها أن تظهر في الوجه لونًا محمرًا, والامتقاع: هو ذهاب الدم من الوجه. وقوله: كم من حشاشة بطريقٍ تضمنها ... للباترات أمين ما له ورع الحشاشة: بقية النفس وأصلها - والله أعلم - مأخوذ من حش الشيء إذا يبس, ومنه قولهم لما يبس من الكلأ: حشيش. فإذا احتش الرجل لدابته حشيشًا, وبقي منه شيء قيل له: حشاشة؛ كما يقال لما فضل من الطعام: فضالة, ولما أغدر من الشيء المأخوذ: غدارة, فأريد أن الحشاشة بقية نفسٍ قد أخذ معظمها. والباترات: السيوف؛ لأنها تبتر؛ أي: تقطع. وأمين هاهنا يعني به القيد الذي يجعل في الأسير؛ أي: إنه إذا أودعه الإنسان فهو مأمون على الوديعة, لأن المقيد به لا يقدر على الهرب. والورع هاهنا: من قولهم: رجل ورع إذا كان يتحرج من المآثم, ولا يقدم على خيانةٍ ولا قبيح؛ أي: هذا القيد أمين, وليس هو من أهل الورع, الذين يحملهم على ذلك الأمانة, وقد جاء في الشعر القديم وصف القيد بأمين إلا أنه يراد به هذا المعنى (103/أ)؛ وذلك في البيت المنسوب إلى ابن الطثرية, وهو في صفة بعيرٍ مقيدٍ: [الطويل]

إذا رام فيها مطلعًا كف غربه ... أمين القوى عض اليدين فأوجعا فالأمين هاهنا: قيد وثيق قد أمن انقطاعه. والأمين الذي ذكره أبو الطيب يراد به الأمين من الأمانة التي هي ضد الخيانة؛ إلا أنه يرجع إلى الأمين الذي هو قوي شديد, لأنه إنما يمنعه من الخيانة ما هو فيه من القوة. وقوله: يقاتل الخطو عنه حين يطلبه ... ويطرد النوم عنه حين يضطجع هذا البيت في صفة القيد, وأنه يمنع المقيد من الخطو, ويطرد النوم عنه إذا اضطجع؛ لأنه يؤلمه, وقد وصف المتقدمون القيد بتقصير الخطو, قال الشاعر: [الوافر] حنتني حانيات الدهر حتى ... كأني خاتل يدنو لصيد قصير الخطو يحسب من رآني ... ولست مقيدًا أني بقيد فهذا جعل قيده من الكبر قاصرًا خطوه, كما قال الآخر: [الكامل] والدهر قيدني بقيدٍ مبرمٍ ... فمشيت فيه فكل يومٍ يقصر وقال الحكمي في صفة مقيد: [الطويل] إذا قام غنته على الساق حلية ... لها خطوه عند القيام قصير وقوله: تغدو المنايا فلا تنفك واقفةً ... حتى يقول لها عودي فتندفع هذا البيت يجب أن يكون في صفة القيد أيضًا؛ لأنه متصل بصفته, ولولا ذلك لكان تصييره للمدوح أشبه, ولكن الكلام طال, واتصل هذا البيت بما قبله اتصالًا يشهد بأنه مشفوع به, والمعنى: أن هذا المقيد تغدو عليه المنية فتنظر: إن كان يقتل حكمت فيه, وإن كان يترك القيد عليه رجعت عنه؛ لأن تركه بقيده يدل على أن قتله لم يؤمر به؛ إذ العادة جارية بأن يؤخذ قيده لينتفع به في تقييد سواه.

وقوله: قل للدمستق إن المسلمين لكم ... خانوا الأمير فجازاهم بما صنعوا المسلمين: أي: الذين أسلموا إليكم فقتلتموهم أو أسرتموهم, وادعى على القوم أنهم خانوا الأمير فجازاهم على خيانتهم بإسلامهم إلى العدو, وهذا من الافتراء الذي يحسن به أمر الممدوح, ويقام به العذر في الهزيمة. ولعل الذين أسلموا للروم كانوا أعظم الجيش نصيحةً, وأشدهم بعدًا من الخيانة. وقوله: وجدتموهم نيامًا في دمائكم ... كأن قتلاكم إياهم فجعوا يذكر من يدعي علمًا بغزوات سيف الدولة بن حمدان أن أصحابه مروا في هذه الغزاة, وهي التي كانت تسمى في ذلك العصر غزاة المصيبة, مروا في هزيمتهم بمقتلةٍ من الروم فظنوا أن أولئك القتلى لا يجاوزهم أحد من العدو, فنزلوا في ذلك الموضع ليستريحوا, فجاءت خيل الروم فوجدتهم على تلك الحال, فنالوا منهم المراد من قتلٍ وأسرٍ. ومعنى البيت: أنكم وجدتم هؤلاء القوم نيامًا بين قتلاكم, كأنهم الذين فجعوا بهم, وذلك أن من شأن من قتل له قتيل أن يكب عليه, ويحمله الجزع على أن يتلطخ بدمه, كما أن المحزون يمترغ على القبر ويقبله لشدة الأسف. وقوله: ضعفى تعف الأعادي عن مثالهم ... من الأعادي وإن هموا بهم نزعوا نزعوا عن الشيء: إذا أقلعوا عنه. والمعنى أن هؤلاء القوم الذين أخذتم كانوا ضعفاء لا قوة لهم بالدفاع, قد جرت عادة الأعداء ألا تقتل مثلهم في الحروب؛ لأن النهي في الإسلام قد جاء عن قتل الشيخ والأسيف والعسيف. وقيل: إن الأسيف هاهنا العبد. والعسيف الأجير, ويفسر الأسيف في غير هذا الموضع بأنه الكثير الأسف والحزن والذي يسرع إليه البكاء. والأعادي جمع أعداءٍ, وأعداء جمع عدًى وعدًى, وهذا البناء اسم للجمع؛ لأنه جمع عدو, ولا يجمع فعول على فعلٍ ولا فعلٍ, وقد استعملوا العدو في الواحد والاثنين والجميع, وقالوا للمرأة: عدو, وعدوة, ولو شددت الياء من الأعادي لكان ذلك قياسًا, ولم يأت في السماع, لأن أعداءً على أفعالٍ (103/ب) فكان ينبغي أن يجيء على مثال أصرامٍ

وأصاريم, وأنعامٍ وأناعيم, ولكنهم ألفوا تخفيف الياء, ولم يفعلوا به ما فعلوا بصحاري لأنهم شددوا الياء, في بعض اللغات, وخففوها, فقالوا: صحارٍ, وأبدلوها فقالوا: صحارى. وقوله: لا تحسبوا من أسرتم كان ذا رمقٍ ... فليس تأكل إلا الميت الضبع الرمق: بقية النفس, والضبع: توصف بأكل القتلى, ونبش القبور, وجاء في الحديث المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن رجلًا جاءه فقال: يا رسول الله, أكلتنا الضبع, وتقطعت عنا الخنف, وأحرق بطوننا التمر» , يعني بالضبع السنة الشديدة. وليس يرى النحويون أن فيها ضميرًا يحجز بينها وبين الفعل, والأشبه أن تكون خاليةً من الضمير, وتكون في معنى ما. وقوله: هلا على عقب الوادي وقد صعدت ... أسد تمر فرادى ليس تجتمع يروى: عقب وعقب, فإذا كسرت القاف فهو مأخوذ من عقب الإنسان وذلك يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون أراد بالعقب آخر الوادي كما أن العقب آخر الجسد. والآخر: أن يكون العقب هاهنا ما كان قريبًا منه, كما يقال: جئت على عقب فلانٍ؛ أي: أثره, والعقب هاهنا: جمع عقبةٍ وهي معروفة. وليس في قوله: «ليس تجتمع» لو أن الكلام منثور لكان دخول التاء فيها أحسن؛ لأن ذكر الأسد قد تقدم. وقوله: تشقكم بفتاها كل سلهبةٍ ... والضرب يأخذ منكم فوق ما يدع تشقكم: أي: تشق صفوفكم وجماعاتكم. وفتاها: أي: الفتى على ظهرها, وهم يتسعون في الإضافة حتى يضيفوا إلى الشيء ما هو بعيد منه, وإن كانوا يردون الإضافة إلى أصلين, وهما: اللام, ومن الخافضتان. وكل: كلمة تعم, ومن العرب من يدخل عليها الهاء

فيقولون: كلة رجلٍ, وإذا أضيفت إلى المؤنث كسبت منه التأنيث, فيقال: جاءتني كل امرأةٍ. ولو قيل: جاءني, لم يبعد, غير أن التأنيث أبين وأحسن. وقوله: وإنما عرض الله الجنود لكم ... لكي يكنونوا بلا فسلٍ إذا رجعوا يقال: عرض السلطان الجند: إذا اختبر أمورهم, وأحضرهم بين يديه, فنظر من يجب أن يسقط منهم, ومن يجب أن يزاد في الرزق, وطالبهم باتخاذ آلات الحرب, وارتباط الخيل السابقة. والفسل: الساقط من الناس, والمصدر: الفسالة, والفسولة. وقد قالوا: فسول الدراهم لما ردؤ منها, ومن ذلك قالوا: فسيل النخل لما صغر منها, قال الشاعر: [المتقارب] بات يروي أصول الفسيل ... فعاش الفسيل ومات الرجل وقوله: الدهر معتذر والسيف منتظر ... وأرضهم لك مصطاف ومرتبع مصطاف: موضع يصاف فيه, وهو مفتعل من صاف يصيف, والطاء مبدلة من تاء الافتعال وكذلك يفعلون بها إذا وقعت بعد حرفٍ من حروف الإطباق, وهي: الصاد والضاد والطاء والظاء, فيقولون: مصطبر ومضطجع ومطلع ومظلم, وفي هذه ثلاث لغاتٍ: مطلم, بطاء مشددة, وبظاءٍ فيها تشديد, وبظاءٍ بعدها طاء, وهذه أردأ اللغات. فأما مصطبر فيجوز فيه مصبر, بتشديد الصاد, وقرأ بعض الناس {أن يصلحا بينهما صلحًا} ويجوز في مضطجعٍ: مضجع, بضادٍ مشددةٍ, فأما ما كان فاء الفعل منه طاءً, مثل: مطلبٍ ومطلع فليس فيه إلا لغة واحدة, والمرتبع: الموضع الذي يحل فيه أيام الربيع. يقال: مرتبع ومتربع ومربع. وقوله: وما الجبال لنصرانٍ بجاميةٍ ... ولو تنصر فيها الأعصم الصدع الأعصم: من صفات الوعل. والعصمة: بياض في أوظفته. والوعول: توصف بإلف الجبال, قال أبو خراشٍ الهذلي: [الطويل]

تراه قصيرًا يحسر الطرف دونه ... ولو كان طودًا فوقه فرق العصم وقال المرقش: [السريع] لو كان حي ناجيًا لنجا ... من يومه المزلم الأعصم في باذخاتٍ من عماية أو ... ترفعه دون السماء خيم والصدع: الوعل بين الوعلين, لا بالعظيم ولا بالشخت, ويوصف به الرجل أيضًا. وقد حكي تسكين الدال, وقيل: إن ذلك إذا استعمل مقصور على الرجل دون الوعل, قال ذو الرمة: [الطويل] عسفت اعتساف الصدع مجهول أرضها ... إذا ظلت الآجال عني تضوع (104/أ) ويروى: حولي تصوع, فهذا البيت في وصف أرضٍ واسعةٍ ليست مما يسلكها الوعل, وقال الأعشى: [البسيط] والدهر يحدث في خلقاء راسيةٍ ... وهيًا وينزل منها الأعصم الصدعا والمعنى أن الأعصم لو تنصر لأنزله من معقله الذي يأمن فيه, فلا يغترن الروم بما شمخ من جبالهم فإنك تنزلهم منها راغمين. وقوله: وما حمدتك في هولٍ ثبت له ... حتى بلوتك والأبطال تمتصع الامتصاع: مثل الاضطراب, يقال: تماصع القوم, وامتصعوا, مثل تخاصموا واختصموا, ومصعه بالسيف إذا ضربه به, وبين القوم مصاع, وأنشد ابن الأعرابي: [الوافر]

سلي عني إذا اختلف العوالي ... وجردت الصوارم للمصاع وبلوتك: أي: اختبرتك. وقوله: إن السلاح جميع الناس تحمله ... وليس كل ذوات المخلب السبع الناس ينشدون هذا البيت برفع كل, ولو نصب لكان ذلك وجهًا قويًا يجعل السبع اسم ليس, وكل ما بعدها في موضع الخبر, وإذا رفعت كل فهو مثل البيت المنسوب إلى هشام أخي ذي الرمة, وهو: [البسيط] هي الشفاء لدائي لو ظفرت بها ... وليس منها شفاء الداء مبذول وقد ذكر سيبويه هذا البيت في موضعين, كلاهما يبين فيه أنه يختار إضمار شيءٍ في ليس, كأنه يريد ليس الأمر ونحو ذلك, إلا أنه ذكر في الموضع الثاني كلامًا معناه: أن بعض العرب يجري (ليس) مجرى (ما) في هذا البيت, وضعف ذلك, واختار الوجه الأول. ومن تأمل مذاهب العرب علم أن من يقول الشعر بالغريزة لا يتصور الإضمار في ليس؛ لأن ذلك تكلف شديد, والذي يوجبه القياس أنهم أجروا (ليس) مجرى (ما) في بعض المواضع, كما أجروا (ما) مجرى (ليس) في اللغة الحجازية. وحكى عن العرب: «ليس الطيب إلا المسك» فهذا على معنى: ما الطيب إلا المسك. وذكر عن سعيد بن مسعدة أنه كان يضمر في (ليس) , ويجعل الكلام محمولًا

ومن التي أولها

على التقديم والتأخير, كأنه قال: ليس إلا الطيب المسك, وهذا قول من تأمله تأمل منصفٍ غير محابٍ, علم أن العرب لا تتعسف إلى هذا النحو؛ لأنهم يؤثرون ما سهل من الكلام, وكذلك قول من قال في بيت حميدٍ الأرقط: [البسيط] فأصبحوا والنوى عالي معرسهم ... وليس كل النوى يلقي المساكين إذا نصب كل أضمر في ليس كيلا يليها شيء انتصب بغيرها, وهذا بعيد جدًا, وإنما (ليس) في معنى (ما) كأنه قال: وما يلقي المساكين كل النوى, فهذا أشبه بمذاهب العرب من الإضمار, وكذلك قول الآخر: [الطويل] قنافذ دراجون حول خبائهم ... بما كان إياهم عطية عودا يزعمون أن في كان ضميرًا, والأمر أيسير من ذلك التأويل, وإذا أضمروا في كان لزمهم أن يرفعوا عطية بالابتداء, وإنما هو مرفوع بكان ومن التي أولها حشاشة نفسٍ ودعت يوم ودعوا ... فلم أدر أي الظاعنين أشيع وهي من ثاني الطويل في قول الخليل, ومن أول السحل الأول في قول غيره. يروى: الظاعنين على الجمع, والظاعنين على التثنية؛ فإذا كان جمعًا فهو على ما يجب من الكلام؛ لأنه جعل الحشاشة مودعةً, وجعل المودعين جمعًا, وإذا روي على التثنية فإنه أجرى المودعين, الذي ذكرهم في قوله: ودعوا جارين مجرى الخليط, وهو نحو من قول

الأسود بن يعفر: [الكامل] إن المنية والحتوف كلاهما ... موفي المخارم يرقبان سوادي جعل الحتوف بمنزلة العدو, والوجه الأول عندي أحسن؛ لأنه لا يفتقر إلى مثل هذا التأويل. وقوله: أشاروا بتسليمٍ فجدنا بأنفسٍ ... تسيل من الآماق والسم أدمع الآماق: جمع موقٍ, وفيه لغات: مؤق, ومأق, ومؤقٍ, وحكى الفراء مأقي في وزن مفعلٍ مثل مأوي الإبل, وهما نادران في هذا الباب, ولم يأت على مفعلٍ غيرهما, وقد حكي في واحد الآماق: أمق وأمق, فإذا قيل مؤق بالهمز فالجمع آماق, مثل سؤرٍ وأسآرٍ؛ أي: بقية. قال الشاعر: [مجزوء الكامل] فارقت هندًا ضلةً ... فأسيت عند فراقها فالعين تسفح عبرةً ... للوجد من أمآقها ومن قال: آسار في جمع سؤر, فقدم الهمزة, فجعلها تلي همزة أفعالٍ, ثم جعلها ألفًا فإنه يقول: آماق, والذين يقولون: موق, فيجعلون الهمزة واواً, لو قالوا: أمواق كما قالوا: عود وأعواد لم يبعد ذلك, إلا أن تركه (104/ب) على الهمز في الجمع أحسن, كما أن الذين قالوا: ذيب فجعلوا الهمزة ياءً لا يقولون: أذياب, كما يقولون: عيد وأعياد, والذين قالوا: مأقٍ على مثال مفعلٍ يقولون في الجمع: مآقٍ, قال الراجز: [الرجز] جارية بيضاء في رتاق ... تدير طرفًا أكحل المآقي وقال ذو الرمة في تثنية مأقٍ: [الوافر]

على وجناء يذرف مأقياها ... من العيدي قد ضمرت كلالا ومن قال: ماقٍ فخفف رده إلى الهمز في الجمع, كما أن الذي يقول: مأكل ثم يخفف الهمزة يقول في الجمع: مآكل, ولا يجريه مجرى خاتمٍ وخواتم, فيقول: مواكل ومن قال: أمق وأمق قال في الجمع: آماق في وزن آمالٍ, وهو على هذا القول أفعال؛ لأن الهمزة الأصلية هي التي صارت ألفًا, ومن قال: مؤق ثم قال: آماق فوزنها على قوله: عفال؛ لأن الهمزة المتوسطة صارت واليةً همزة أفعالٍ, ومن قال: مؤقٍ فجمعه مثل جمع مأقٍ. والمراد بالمؤق مؤخر العين الذي يلي الأنف, ومن قال: ماق فخفف الهمزة لم يبعد أن يقول في الجمع أمواق. والسم فيه لغات, وقد مضى ذكرها, وهذا المعنى يتردد في الشعر كثيرًا. وتدعي الشعراء أن الدمع هو نفس الإنسان, وقد استعمل ذلك أبو الطيب في قوله: [الكامل] أرواحنا انهملت وعشنا بعدها ... من بعد ما قطرت على الأقدام وقوله: حشاي على جمرٍ ذكي من الهوى ... وعيناي في روضٍ من الحسن ترتع لو كان الكلام منثورًا لكان الواجب أن يقول: ترتعان, ولكنه جعل الاثنين جمعًا, وذلك مثل قول الفرزدق: [الوافر] فلو بخلت يداي بها وضنت ... لكان علي للقدر الخيار ومما يجانس هذا قوله تعالى: {قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعضٍ} , وأصل الرتوع: ذهاب الماشية في الرعي ومجيئها فيه, ثم كثر ذلك حتى استعمل للآدميين, وفي كتاب الله سبحانه: {أرسله معنا غدًا يرتع ويلعب} , وقالوا: وحش رتاع ورتوع,

وكذلك قالوا في الإبل, قال القطامي: [الوافر] أكفرًا بعد دفع الموت عني ... وبعد عطائك المائة الرتاعا وقوله: ولو حملت صم الجبال الذي بنا ... غداة افترقنا أوشكت تتصدع أصل الصمم في الأذن, وقالوا للصخرة: صماء وللجبل: أصم, وهم يريدون أنه إذا ضرب بالملطس لم يكسره, وقالوا للفرس الشديد: صمم, قال الشاعر: [البسيط] سميت نفسك فيها سابقًا صممًا ... وكان غيرك فيها السابق الصمم وكأنه أخذ من الصمة, وهي الشدة, وقالوا للأسد: صمة, وكذلك للشجاع. وأوشكت: أي أسرعت. وجاءت أفعال للمقاربة لا تجيء معها (أن) , كقولهم: جعل يفعل, وكرب يقول, وكاد يطير من السرور؛ وكأن أبا الطيب شبه أوشك هاهنا بتلك الأفعال. وتتصدع: في موضع نصبٍ على الحال؛ كأنه قال: أوشكت متصدعةً؛ أي: أسرعت في التصدع, ونحو من ذلك قولهم: أقبل يقول كذا أي: أقبل قائلًا, ولو كان الكلام منثورًا لكان ظهور (أن) هاهنا حسنًا, وإذا ظهرت صارت وما بعدها في موضع مفعولٍ, وبطل معنى الحال؛ لأن (أن) تدل على أن الفعل غير واقعٍ. والتصدع: التفرق, وصدع الإناء إذا شقه؛ لأنه يفرق أجزاءه, وكذلك صدع الرداء. قال عبد يغوث الحارثي: [الطويل] كأني لم أركب جوادًا ولم أقل ... لخيلي كري كرةً من ورائيا ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل ... لأيسار صدقٍ أعظموا ضوء ناريا وأعقر للشرب الكرام مطيتي ... وأصدع بين القينتين ردائيا

وقوله: بما بين جنبي التي خاض طيفها ... إلى الدياجي والخليون هجع هذا مثل قولهم: بنفسي التي؛ لأن قوله: بما بين جنبي مؤد معنى النفس, فيجوز أن تكون «التي» وصلتها في موضع رفعٍ, ويكون التقدير: المفدية بما بين جنبي التي خاض طيفها, ويجوز أن يكون المضمر أفدي, وتكون «التي» في موضع نصبٍ. والدياجي: جمع لا يستعمل واحده, وأشبه الأشياء به أن يكون واحده ديجوًا على مثال فيعولٍ من قولهم: دجا الليل يدجو إذا ألبس الأرض, فلما جمع قلبت الياء واواً؛ لأن كسرة الجمع وقعت قبلها, كما يقال في جمع ديجور: دياجير, ثم خففت الياء, كما فعلوا ذلك (105/أ) في أماني ونحوها, فإن ادعى مدعٍ أن أصل دياجٍ دياجير أو دياجيج, ثم حذفت الراء أو الجيم فقد ذهب مذهبًا, إلا أن الأول أشبه. وقوله: أتت زائرًا ما خامر الطيب ثوبها ... وكالمسك من أردانها يتضوع استعمل زائرًا للمؤنث؛ لأنه ذهب إلى الشخص أو المحبوب, ومن هذا النوع قولهم للمرأة: ظبي وغزال, قال أبو دواد: [مجزوء الكامل] ولقد دخلت الخدر يحـ ... ـفزني إلى الفرش القرام فإذا غزال عاقد ... كالبدر فشغه المنام وقال ابن أبي ربيعة: [السريع] يا من لقلبٍ دنفٍ مغرم ... هام إلى هندٍ ولم يظلم هام إلى ريمٍ لطيف الحشى ... عذب الثنايا حسن المبسم ولكن أبا الطيب قال: أتت زائرًا فجاء بالفعل وفيه علامة التأنيث, وجاء بزائرٍ على لفظ التذكير؛ فكان ذلك أبعد من غيره, ولم يقل كما قال ذو الرمة استعمل زائرًا في المؤنث: [الطويل]

أتت تخبط الظلماء من جانبي قسًا ... وحب بها من خابط الليل زائرا وقولهم: حبذا هند زائرًا, وحبذا هي طارقًا أحسن من قولهم: جاءت زائرًا. وقوله: فيا ليلةً ما كان أطول بتها ... وسم الأفاعي عذب ما أتجرع في هذا الكلام حذف, والمعنى: ما كان أطولها, ولو كان في غير الشعر لجاز (بتك) مكان (بتها) , ويكون المعنى ما كان أطولك, ولما قال: بتها وجب أن يكون التقدير: ما أطولها, وهم يحذفون مفعول التعجب إذا كان المعنى دالًا عليه, كما يقال: لقيت فلانًا فما أعز وأكرم, فلما جئت باسم المتعجب منه في أول كلامك جاز أن تحذف العائد عليه, قال الشاعر: [الطويل] نزلنا بسهمٍ والرياح تلفنا ... فلله سهم ما أدق وألأما وقوله: تذلل لها واخضع على القرب والنوى ... فما عاشق من لا يذل ويخضع إن جعلت (من) معرفةً فعاشق خبر مقدم, كأنه قال: فما من لا يذل ويخضع عاشق, ويجوز أن ترفع عاشقًا بما, وتجعل (من) مرفوعًا بفعله, فإن جعلت (من) نكرةً جعلت عاشقًا اسم ما, ومن وما بعدها خبر. وقوله: فأرحام شعرٍ يتصلن لدنه ... وأرحام مالٍ ما تني تتقطع يقال: لدن, بضم الدال, ولدن بفتحها, وزعموا أن فتحها لا يجوز إلا مع غدوةٍ إذا قلت: جئتك لدن غدوةً, ويقال لدن, بسكون الدال وفتح اللام, ولدن, بضم أوله, ولد, بغير نونٍ, ولد, بضم اللام والدال, ولد ساكنة الدال, والتشديد مع غير النون التي يراد بها الكناية عن الجمع قليل؛ لأنهم يقولون: لدنا, كما يقولون: عندنا, فإن كانت النون شددها بعض الفصحاء في مثل قوله: لدنه, ولدنك فإنما اجترأ على ذلك؛ لأنه سمعها مشددةً في

مثل قوله تعالى: {وعلمناه من لدنا علمًا} , وزعم بعض النحويين أن الفرق بين لدن وعند أن لدن تختص بمن تضاف إليه, فإذا قيل: جئتك من لدن محمدٍ فإنما يراد ما قرب منه, وإذا قيل: لدن فلانٍ مال فإنما يراد ما هو حاضر لديه, ولا يحسن عند صاحب هذا القول أن يقال: لدنه مال وهو بالشام, والمال بالعراق. ويحسن ذلك في عند, وليس هذا القول بشيء, ولا فرق بين معناهما في الحقيقة؛ إلا أن لدن كثرت فيها اللغات, وعند لزمت كسر العين وسكون النون, وقد حكيت عند وعند؛ وذلك قليل مهجور, وإذا قالوا: لدني فإنما شددوا النون ليسلم سكونها في قولك: لدن, كما أنهم قالوا: مني وعني, فجاؤوا بالتشديد كراهة أن يجيئوا بياء أن يكون مصنوعًا, وذلك قوله: [المديد أو الرمل] أيها السائل عنه وعني ... لست من قيسٍ ولا قيس مني وهذا البيت لا يثبت تخفيف النون فيه, إلا أن يكون ما بعده من الأبيات دالًا على ذلك, لأنها لو شددت والبيت فارد لكان الوزن قويمًا, إلا أنه في حال التخفيف (105/ب) يكون من ثالث الرمل, وفي التشديد يكون من أول المديد. وسيبويه يزعم أنهم إذا قالوا: لدن غدوةً فنصبوا الاسم بعدها فإنما شبهوه إذا ضمت الدال بقولك: هذا ضارب خالدًا, وإذا فتحت الدال شبه بقولهم: اضربن فلانًا, وقول الفراء في هذا أقرب؛ لأنه يذهب إلى أن (كان) بعد لدن مضمرة؛ كأنه قال: جئتك لدن كان الوقت غدوةً؛ لأن لدن يقع بعدها الفعل, كما قال القطامي: [الطويل] صريع غوانٍ راقهن ورقنه ... لدن شب حتى شاب الذوائب

وأنشد الفراء: [البسيط] لدن كبيرًا إلى أن مسه الخرف لأن لدن إذا وقعت على الزمان فقد صارت من أسمائه, فجاز أن يقع بعدها الفعل كما يقال: جئتك حين جاء فلان, وآتيك حين يقدم الحاج. واستعار الأرحام للشعر والمال, كما تفعل الشعراء فتخرج الأشياء من أصولها مستعارةً, فيقولون: يد الدهر, وماء الصبابة, وغمام العطاء, ونحو ذلك. وقوله: فتًى ألف جزءٍ رأيه في زمانه ... أقل جزيءٍ بعضه الرأي أجمع هذا بيت لابد فيه من تقدير محذوفٍ, وإلا لم يصح معناه, وقوله: رأيه في زمانه في موضع مبتدأ, كأنه قال: فتًى رأيه في زمانه ألف جزءٍ أقل جزيءٍ منه, فكأن قوله: أقل جزيءٍ متصل بقوله: ألف جزءٍ, وقوله: أقل جزيءٍ: مبتدأ, وهو كالصفة لجزءٍ, ومثل هذا الحذف قليل جدًا, وبعضه: مبتدأ, والرأي أجمع: خبر لبعضٍ, وبعض وما بعدها في موضع وصفٍ لجزيءٍ, والهاء في بعضه عائدة على جزيءٍ. وقوله: غمام علينا ممطر ليس يقشع ... ولا البرق فيه خلبا ليس يلمع الغمام: جمع غمامة, وهو مأخوذ من الم؛ أي: الستر, كأنه يغم الشمس. قال الهذلي: [الطويل] كأن الغلام الحنظلي أجاره ... يمانية قد غم مفرقها القمل ويقال: أقشع السحاب: إذا تجلى, وقشعته الريح إذا سفرته, وهذا أحد ما جاء على أفعل الشيء وفعله غيره, مثل: أكب لوجهه وكبه غيره, وله أمثال كثيرة. وبرق خلب؛ أي: خادع.

وقوله: إذا عرضت حاج إليه فنفسه ... إلى نفسه فيها شفيع مشفع يقال: حاجة وحاج, كما يقال: ساعة وساع, وحاجة وحوج على غير قياسٍ, وحاجة وحوائج كأنهم جمعوا حائجةً, وقالوا: رجل محوج إذا احتاج إلى النفقة, وهذا على غير قياسٍ لأن الأكثر أن يعلوا هذه الواو, فيقولوا: أقام فهو من قام يقوم, وألام إذا أتى ما يلام عليه وهو من اللوم, وربما أصحو في مثل هذه الأفعال, كما قالوا: أحول المنزل, وأحال, إلا أنهم قالوا: أحوج الرجل, ولم يقولوا: أحاج فيعلوا, إلا أن يكون في كلامٍ شاذ. وقوله: خبت نار حربٍ لم يهجها بنانه ... وأسمر عريان من القشر أصلع خبت النار إذا سكن لهيبها, والمصدر الخبو, وقالوا: خبوت النار, قال الشاعر: [الوافر] وتوقد باليفاع الليل ناري ... تشب إذا يحس لها خبوت كأنه أبدل من الواو الآخرة تاءً, وذلك مشابه لقولهم: تخمة من الوخامة, وتكأة من توكأت؛ أبدلوا التاء من الواو المضمومة في أول الكلمة, فيجوز أن يكون الخبوت من هذا الجنس؛ لأن الواو قد أبدلت منها التاء في حال الحركة والسكون, فقالوا في افعتل من الوعد: اتعد, والرجل متعد, وقالوا: أتلج الشيء في الشيء بمعنى أولج, ولا يمتنع أن يكون خبت اللهيب أصلًا في كلامهم, ويكون مأخوذًا من الخبت وهو المطمئن من الأرض مع سهولةٍ, ومنه قالوا: أخبت الرجل إذا تأله وخشع, كأنه ذل حتى لصق بالخبت من الأرض, وقد قالوا: خبت الرجل بمعنى أخبت. وقوله: خبت نار حربٍ؛ الأحسن أن تكون على معنى الدعاء, كما يقال: لا كانت حرب لم يهجها فلان. ويعني بالأسمر العريان من القشر: القلم, (106/أ) وجعله أصلع؛ لأنه لا نبات عليه, ومن ذلك قولهم للرأس: أصلع, وللجبل إذا لم يكن فيه شجر, وقالوا للحجر: صلع؛ لأنه لا ينبت. وقوله: نحيف الشوى يعدو على أم رأسه ... ويحفى فيقوى عدوه حين يقطع

قد مضى الكلام في الشوى, واتفق في هذا البيت أنه أراد بالشوى رأس القلم الذي يكتب به, وجعله نحيفًا؛ لأنه يقلم فيدق, وإنما يستعمل الشوى في القوائم, وقد استعمله هاهنا في الرأس, وإنما حسن ذلك؛ لأن القلم كالذي يمشي على رأسه فشبه رأسه بشوى الفرس, ولا يحسن أن يجعل الشوى هاهنا جمع شواةٍ؛ أي: جلدة الرأس, وإنما قوي استعماله نحيف الشوى في هذا الموضع؛ لأنهم يقولون في صفة الفرس: عبل الشوى. ويحفى من حفي الفرس إذا رق حافره من العدو أو المشي, لما جعل له شوًى جاز أن يصفه بالحفا, وذكر أنه يحفى تارةً ويعدو أخرى, ومثل هذه الأشياء سائغ كثير. وأم الرأس: مجتمعه ومعظمه. وقوله: وليس كبحر الماء يشتق قعره ... إلى حيث يفنى الماء حوت وضفدع يقول: ليس هذا الممدوح كبحر الماء يمكن استقصاؤه ويشتقه إلى منتهاه الحوت والضفدع. وفي الضفدع لغتان: ضفدع, وهي اللغة المعروفة, وقد حكي ضفدع, بفتح الدال. وقعر الشيء: أسفله. وحوت مرفوع بيشتق, كأنه قال: ليس كبحر الماء يشتق حوت وضفدع قعره إلى حيث يفنى ماؤه. وقوله: أبحر يضر المعتفين وطعمه ... زعاق كبحرٍ لا يضر وينفع يقال: ماء زعاق إذا لم يستطع شربه لمرارته وملوحته. يقال: قليب زعاق وأقلبة زعاق, ويقع على الواحد والجمع, قال الشاعر: [الكامل] وكأن حيًا قبلهم لم يشربوا ... منه بأقلبةٍ أجن زعاق وكأنه سمي زعاقًا؛ لأن شاربه يزعق أي يصيح لما يجده في فمه من كراهة الماء. ومن قولهم: زعق إذا صاح, وقالوا لفراخ الحجل: زعاقيق, ويجوز أن يقال ذلك للحجل لكثرة صياحه, قال الشاعر, وهذا البيت يروى لوعوعة بن الطرماح: [المتقارب] كأن الزعاقيق والحيقطان ... يبادرن في المنزل الضيونا

وقالوا: مهر مزعوق إذا كان نشيطًا حديد النفس كأنه زعق به؛ أي: صيح. وقوله: يتيه الدقيق الفكر في بعد غوره ... ويغرق في تياره وهو مصقع التيار: الموج؛ لأنه يجيء تارة, ويذهب أخرى, والمصقع من قولهم: صقع: إذا رفع صوته, وقيل: خطيب مصقع, إذا رفع صوته ليسمع الناس, ويجوز أن يكون أصله السين؛ لأنها إذا كانت في كلمة وبعدها قاف أو خاء أو طاء جاز أن تجعل صادًا فيقولون: سويق وصيوق, وسلخ الغنم وصلخها, وبسط وبصط. وقوله: ألا أيها القيل المقيم بمنبجٍ ... وهمته فوق السماكين توضع يقال: وضع البعير في سيره, وأوضعه صاحبه, وكأن الوضع دون الخبب؛ أي: قد وضع عنه وحطت منزلته. وقوله: أليس عجيبًا أن وصفك معجز ... وأن ظنوني في معاليك تظلع يقال: ظلع البعير وغيره: إذا لحق قوائمه ما ينكر من شدة السير, ثم استعير ذلك لمن أبطأ وقصر, حتى قيل: ظلعت الكواكب: إذا أبطأت في السير, قال طفيل الغنوي: [الطويل] وقد سمنت حتى كأن مخاضها ... تفشغها ظلع وليست بظلع وقالوا في الأمثال: «جاء بعدما نام ظالع الكلاب» , فقيل: أرادوا أنه به ظلعًا, فهو ينتظر أن تنام الكلاب فيعاظل الكلبة؛ لأنه لا يطيق هراشها, وقيل: بل الكلب إذا اشتدت حاجته إلى الغطال أصابه ظلع, قال الحطيئة: [الطويل]

ومن التي أولها

فحياك ود من هداك لفتيةٍ ... وخوصٍ بأعلى ذي طوالة هجد تيممتنا من بعد ما نام ظالع الـ ... ـكلاب وأخبى ناره كل موقد ويقال في المثل: «ارق على ظلعك»؛ أي: تكلف الأمر على ما بك من ضعفٍ, ويقال: ارقأ (106/ب) على ظلعك, بالهمز. قال الأفوه: [الرمل] فارقأن منك على ظلعك قد ... فاتك القوم نجارًا وسعه ومن التي أولها تالحزن يقلق والتجمل يردع ... والدمع بينهما عصي طيع وهي من الكامل الأول على رأي الخليل, ومن السحل الثالث على رأي غيره. عصي: في معنى عاصٍ؛ لأنه جاء على فعيلٍ للمبالغة, كما قالوا: عليم وعالم, ورحيم وراحم, ولا يمتنع أن يكون عصي على وزن فعولٍ في الأصل, كأنه قال: عصوي, كما يقال في ضاربٍ: ضروب, فلما وقعت الواو الساكنة قبل الياء قلبت ياءً, كما فعلوةا ذلك في معصي؛ لأنه على مثال مفعولٍ, وأصله معصوي, ومثل عصي في احتمال الوجهين قولهم للسيل الذي يأتي من غير البلد الذي همى فيه: أتي, فيجوز أن يكون مثل عليمٍ, أو مثل ضروبٍ. وطيع في معنى طائع, وأكثر ما يجيء هذا المثال في معنى فاعلٍ, مثل: هينٍ ولينٍ وسيدٍ, إلا أنهم قالوا: ناقة ريض؛ أي: التي قد بريضت ولم تكمل رياضتها. وقد ذكروا الريض في الأضداد, تكون في معنى التي لم ترض, والتي قد ريضت شيئًا, قال الراعي: [الكامل]

وكأن ريضها إذا ياسرتها ... كانت معاودة الرحيل ذلولا وقوله: أين الذي الهرمان من بناينه ... ما قومه ما يومه ما المصرع الهرمان: قد ذكروا في الكلام القديم, فبعض الناس ينطق بهما على حالهما بالهاء, قال الشاعر وهو يذم امرأةً: [الطويل] وتكشر عن قلحٍ عدمت حديثها ... وعن جبلي طي وعن هرمي مصر كأنهم يريدون أنهم أهرما الدهر لطول بقائهما عليه. وبعض الناس يقول: إرمي مصر. والمعروف في إرمٍ كسر الهمزة, يراد به العلم من الحجارة, وقد حكي أرم, بالفتح, فكأنه يجعل الهاء بدلًا من الهمزة, ويرى أنها كذلك هي في أصل التسمية, وأن العامة غيرتهما إلى الهاء كما جرت عادتهم بتغيير الأشياء. ويزعم أناس أن الذي بناهما ملك يعرف بسنان ابن المشلل؛ وهذا أمر لا يعرف كيف هو؟ ولا سبيل إلى معرفة حقيقته؛ لأنه خطب متقادم. وقوله: ما يومه؟ أي: شيء, وفي أي زمان هلك, وكذلك قوله: ما قومه؟ أي: إنه لا يدري من أي الناس هو؟ ولا أين مصرعه من الأرض. وقوله: لم يرض قلب أبي شجاعٍ مبلغ ... قبل الممات ولم يسعه موضع أبو شجاع: من الكنى التي يجوز أن تدخل فيها الألف واللام؛ لأن شجاعًا وصف توصف به النكرة والمعرفة, فإذا نقل من النكرة إلى التسمية تعرف بغير ألفٍ ولامٍ, مثل ما تعرف محمد وغالب, وإذا نقل من المعرفة فعلامة التعريف موجودة فيه, إلا أنه يصير كالعلم, ولم يستعمله أبو الطيب بالألف واللام, وقد مدح رجلين يكنيان بهذه الكنية:

أحدهما فاتك والآخر عضد الدولة, ومدح أيضًا شجاع بن محمد المنبجي. وإذا نقل شجاع من التسمية إلى قولهم لضرب من الحيات: شجاع؛ فهو من هذا الباب كالنعت؛ لأن ذلك الضرب من الحيات إنما قيل له: شجاع لإقدامه وخفته. وقوله: كما نظن دياره مملوءة ... ذهبًا فمات وكل دارٍ بلقع يريد أنها بلقع من الذهب, ليس فيها شيء منه. وقد دل البيت الذي بعد هذا على أن الصوارم والقنا في دياره, وكذلك المكارم؛ لأنه قال: وإذا المكارم والصوارم والقنا ... وبنات أعوج كل شيءٍ يجمع فأما ما يقع عليه اسم المكرمة فلا يشغل مكانًا, وأما السيوف والرماح فتشغل الأماكن؛ فلا يجوز أن يقال للمكان إذا كانت فيه: بلقع, إلا أن يعنى أنه خالٍ من غيرها. وفي الحديث: «الأيمان الكاذبة تذر الديار بلاقع»؛ أي: تخليها من أهلها. وأعوج: لإحل من فحول الخيل, وهما أعوجان: أعوج الأول, وأعوج الثاني, وبناته تقع على الذكور والإناث؛ لأن ما لا يعقل يجمع بالألف والتاء, فيقال في جمع ابن عرسٍ: بنات عرسٍ, وكذلك في جمع ابن ماءٍ من الطير: بنات ماءٍ, وقالوا لضرب من الكمأة: ابن أوبر, وفي جمعه: بنات أوبر. والمعنى: أن هذا المذكور لم يكن يجمع شيئًا إلا المكارم والصوارم والقنا. والمكارم (107/أ) مرفوعة بالابتداء, وكل خبرها. وقوله: المجد أخسر والمكارم صفقةً ... من أن يعيش لها الكريم الأروع الصفقة من قولهم: صفق المتبايعان إذا فصلا البيع. ومن أمثالهم: «صفقة لم يشهدها حاطب». وحاطب هذا يقال: إنه حاطب بن أبي بلتعة, وكان رجلًا حازمًا, لإباع رجل من أهله شيئًا أو اشتراه فغبن فيه, فقيلت هذه المقالة؛ أي: لو كان حاطب حاضرًا لم يغبن رجل من أهله أو أصحابه, ثم قيل ذلك في كل رجل يغبن في بيعٍ.

وقوله: المجد أخسر والمكارم صفقةً: إن أراد أن المجد أخسر صفقةً والمكارم, فقد فصل بين الاسم المميز وبين أفعل الذي يراد به من كذا بالمعطوف, وذلك قيل إلا أنه يحتمل؛ لأن الغرض معروف, وهو كقولك: فلان أشرف وأخوه أبًا, وأنت تريد: فلان أشرف أبًا وأخوه. فإن تأول متأول أن صفقةً متصلة بالمكارم كأنه قال: والمكارم أخسر صفقةً فهو جائز, إلا أن أخسر الذي بعد المجد يكون المفسر له محذوفًا؛ فإن جعل أخسر في معنى خاسرٍ حسن الكلام؛ لأنه قد تم عند قوله: المجد خاسر, ثم يستأنف المكارم, وهي أول الجملة الثانية, فتكون الجملة الأولى تامةً, والجملة الثانية ناقصةً قلما يجيء مثله؛ لأن المعنى: المجد خاسر والمكارم أخسر منه صفقةً, فكأن القائل قال: خالد فاضل وبكر أبًا, فإن أراد: وبكر أفضل أبًا, ثم حذف أفضل فالكلام رديء, وإن جعل بكرًا معطوفًا على خالد فالكلام مستقيم؛ لأن المعنى: خالد فاضل وبكر فاضل, ثم جاء المفسر بعد ذلك. وقوله: ويد كأن نوالها وقتالها ... فرض يحق عليك وهو تبرع إذا رويت: يحق فهو من قولهم: حق الأمر إذا كان حقًا, وحق عليهم العذاب إذا صح نزوله بهم, ويقال في المضارع: يحق ويحق, ومنه قوله تعالى: {الحاقة * ما الحاقة} , أي: الداهية التي يحق أمرها. وإذا رويت: يحق عليه فهو من حق بكذا, فهو محقوق به, وحقيق؛ أي: كنت أيها الممدوح كأن قتالك ونوةالك شيء يفترض عليك, ولم يكن كذلك وإنما هو تبرع منك, ويقال: فلان حق عليم بكذا؛ أي: علمه به حقيق, قال الشاعر: [الطويل] وإلا أكن كل الشجاع فإنني ... بضرب الطلى والهام حق عليم وقال الأحنف بن قيس: [الرجز]

إن على كل رئيس حقا ... أن يورد الصعدة أو تندقا فهذا جعل القتال يحق على رئيس القوم, ويروى: إن على كل كريمٍ. وقوله: وصلت إليك يد سواء عندها ... الباز الاشهب والغراب الأبقع الناس يختلفون في رواية هذا البيت؛ فمنهم من يضم الزاي في الباز, ومنهم من يكسرها, ومنهم من يشددها, فإذا ضمت الزاي ففي البيت شيئان متضادان: أحدهما: أنه قطع ألف الوصل في نصف البيت, كأنه ألزم نفسه السكوت قبل الألف, وقد ذكر سيبويه ذلك في الضرورات, وهو مثل قول القائل: [الكامل] ودلا تبادر في الشتاء وليدنا ... ألقدر تنزلها بغير جعال والآخر: أنه ألقى حركة الهمزة في الأشهب على اللام, وهذا - على أنه لغة كثيرة - منافٍ لقطعه الألف في قوله: الباز؛ لأن أبا الطيب لم يستعمل مثل ذلك, وإنما اضطره إليه الوزن, وإذا كسرت الزاي من الباز فالمراد: البازي على مثال القاضي, وحذفت الياء لالتقاء الساكنين قبل أن تنقل إلى اللام حركة الهمزة؛ لأنها لو حذفت بعد تحريك اللام لحسب ذلك لمن الضرورة, ولو أن هذا الكلام في منثورٍ, ونقلت حركة الهمزة إلى اللام في الأشهب؛ لجاز أن يقال: البازي لشهب؛ فتثبت الياء وتحرك اللام تحريكًا يغني عن ألف الوصل. ومن روى البازي الاشهب بالتشديد فروايته أسلم الروايات من الضرورة. ونعت الباز بالأشهب, وقابله بالغراب الأبقع لأن البازي محمود, والغراب مذموم. وقوله: ومن اتخذت على الضيوف خليفةً ... ضاعوا فمثلك لا يكاد يضيع استفهم في نصف البيت الأول استفهامًا لا يقتضي إخبارًا؛ لأنه نطق به وهو عالم أنه لم يتخذ خليفةً على الضيوف. وقال في النصف الثاني: ضاعوا, ومثلك لا يكاد يضيع؛ فأعلم

أنه لم يكن استفهامه (107/ب) المتقدم لجهله بالأمر. ويكاد: هاهنا تحتمل وجهين؛ لأنها قد تقدم قبلها حرف نفي, ومن شأنها إذا قدم عليها النفي أن تصير موجبةً, فإذا قيل: كاد فلان يفعل, فالمعنى أنه قارب الفعل, ولم يوقعه, وإذا قيل: ما كاد فلان يفعل, فالمعنى أنه قد فعل بعد بطءٍ؛ فيكون المعنى أن هذا المرثي قد ضيع الضيوف لما قبض, وليس هو بمذمومٍ في ذلك. فهذا وجه. والوجه الآخر أن يكون من جنس قوله تعالى: {لم يكد يراها}؛ أي لم يرها ولم يكد؛ فيكون الغرض أنك كنت في أيام حياتك لا ت ضيع الضيوف ولا تقارب إضاعتهم. وقوله: قبحًا لوجهك يا زمان فإنه ... وجه له من كل قبحٍ برقع يقال: قبحًا له وقبحًا, فإذا فتحت القاف فهو مصدر قبح, وإذا ضمت القاف فهو كالاسم, وقد يجوز أن يكون مصدرًا, فيقال: قبحه الله قبحًا وقبحًا, كما يقال: شغله شغلًا وشغلًا. وإذا فتح أوله فنصبه على أنه مصدر, وإذا ضم جاز فيه مثل ذلك؛ إلا أن إضمار فعلٍ قبله أحسن, كأن التقدير ألزم الله وجهك يا زمان قبحًا, وربما قال المتقدمون: قبحه الله؛ أي: أبعده, وليس أصله إلا من سماجة الوجه, كأنهم يريدون: شوه الله خلقه. والمعنى: أن الزمان على وجهه براقع من أنواع القبح فهو لا يقابل الناس إلا بقبيحٍ وقوله: أيموت مثل أبي شجاعٍ فاتكٍ ... ويعيش حاسده الخصي الأوكع يجوز رفع (يعيش) ونصبه, فرفعه على أنه معطوف على يموت, ونصبه على إضمار أن, كأنه قال: أيجتمع موت أبي شجاعً وأن لا يموت حاسده؛ أي: لا يجب أن يكون ذلك, وهذا استفهام على سبيل الإنكار. والنصب على مثل قول الحطيئة: [الوافر] ألم أك جاركم ويكون بيني ... وبينكم المودة والإخاء والأوكع: الذي تنقلب إبهام رجله على الإصبع التي تليها. فأما قولهم: سقاء وكيع فمعناه جديد قوي, وبه سمي الرجل وكيعًا, وقال الفرزدق: [الطويل]

ووفراء لم تخرز بسيرٍ وكيعةٍ ... غدوت بها طبًا يدي برشائها فقيل: إنه أراد فرسًا, وقال بعضهم: أراد خصيته. وبعد هذا البيت بيت يحتمل الوجهين, وهو: ذعرت بها سربًا نقيًا جلوده ... كنجم الثريا إذ بدت من عمائها العماء: السحاب الرقيق. وقوله: أيدٍ مقطعة حوالي رأسه ... وقفًا يصيح بها ألا من يصفع بعض الناس يقول: إن الصفع كلمة مولدة, وقد ذكره الفراء ذكر من هو عنده من كلام العرب. والقفا: مذكر في أكثر الكلام, وربما أنث. قال الشاعر: [الوافر] وما المولى وإن عرضت قفاه ... بأحمل للملاوم من حمار وهو مأخوذ من: قفوت الشيء إذا اتبعته, ويجوز أن يكون قفوت مأخوذةً منه؛ لأنهما من الاتباع, ومنه قولهم في آخر كلمة من البيت: قافية, وقولهم: قفاه: إذا عابه؛ أصل ذلك أن يتكلم فيه وهو غائب, أو بعدما يولي عنه, والمعروف في القفا: القصر, وقد جاء ممدودًا في بيت وذلك قوله: [الكامل] أخذت سليفة أمه بقفائه وإن صح أن فصيحًا قال ذلك فإنما مده على معنى الضرورة, والمعنى: أن هؤلاء القوم الذين حوالي المذكور كأن أيديهم مقطعة, وهي تدعى إلى أمرٍ لا تقدر عليه. وقوله: وتركت أنتن ريحةٍ مذمومةٍ ... وأخذت أطيب ريحةٍ تتتضوع يقال: نتن الشيء, وأنتن, وقالوا: منتن, على القياس, كما قالوا: أكرم فهو مكرم, وقالوا: منتن فكسروا الميم لكسرة التاء, كما قالوا: منخر, فأتبعوا الميم الخاء, وحكي منتن, بالضم.

والريحة: كلمة قليلة الاستعمال, وهي في معنى ريح الشيء, وإذا قالوا: شممت ريحه فهي مأخوذة من الريح الهابة؛ لأنهم يريدون أن عرف ذلك الشيء تحمله الريح حتى تصل به إلى من يجده, كذلك هو في الأصل, ثم كثر ذلك, حتى استعملوه فيما لا يوجد له ريح, حتى يوضع على الأنف وينتشق. وتضوعت (108/أ) الرائحة: إذا انتشرت, وتحركت, ومنه قولهم: انضاع الفرخ إذا تحرك. وقوله: فاليوم قر لكل وحشٍ نافرٍ ... دمه وكان كأنه يتطلع أصل الوحش أن يكون ضدًا للإنس, والأغلب على الوحش التأنيث, قال تأبط شرًا: [الطويل] يبيت بمغنى الوحش حتى ألفنه ... ويصبح لا يحمي لها الدهر مرتعا وجعله أبو الطيب هاهنا واحدًا؛ وذلك قليل في الاستعمال, إلا أن يراد به فقد الطعام, كما قال حميد بن ثورٍ: [الطويل] وإن بات وحشًا ليلةً لم يضق بها ... ذراعًا ولم يصبح لها وهو خاشع والمعنى: أن هذا المرثي كان مغرى بالصيد, هذه صفة حال, وليست مما يمدح به الملوك؛ لأن اشتغالهم بغير ذلك أجمل؛ إلا أن يعني بالوحش هاهنا عدوًا يستوحش فينفر خوفًا من القتل؛ فحينئذ يكون فيه مدح للمذكور؛ لأنه يصفه بأن مخالفيه كانوا في حياته ليسوا بالآمنين, ويكون ذلك من جنس تشبيههم الهارب بالنعامة, والثعلب, ونحوها. وقوله: وتصالحت ثمر السياط وخيله ... وأوت إليها سوقها والأذرع ثمر السياط: جمع ثمرة, وهي عقدة تكون في طرف السوط. والسوط مأخوذ من قولهم: ساط الشيء بغيره يسوطه: إذا خلطه؛ كأنهم أرادوا أنه يخلط اللحم بالدم, أو يسوط بعض الدم ببعضٍ, وقالوا: ساط فرسه إذا ضربه بالسوط. وقوله: وأوت إليها سوقها والأذرع؛ كأنها كانت ليست معها؛ وهذا على معنى المبالغة؛ كما يقال للرجل الذي قد أتعب يده في عمل: كأن يدك ليست معك؛ أي: قد أتعبتها فصارت لا تحس بشيءٍ, فكأنها منقطعة منك. والسوق: جمع ساق, مثل دارٍ ودورٍ, وقد حكي سؤوق, وهو شاذ, فأما أسوق فالجمع المعروف. وقولهم: ساق الدابة والإنسان, وساق الشجرة من جنسٍ واحد, وأصل الساق فيما

ومن بيتين أولهما

يوصف بالمشي, كأنها تسوقه, ثم قيل: ساق الشجرة؛ لأنها تقوم عليها تشبيهًا بالساق من سوق الحيوان. وأوت إليها: أي: رجعت من: أويت إلى المنزل؛ أي: رجعت. وقوله: ولى وكل مخالمٍ ومنادمٍ ... بعد اللزوم مشيع ومودع قوله: ولى الشيء: إذا أخذ في النقصان, وولى الميت: إذا ذهب؛ مأخوذ من قولهم: ولاهم ظهره: إذا انصرف عنهم, ثم كثر ذلك, حتى قالوا لكل ما ذهب وأخذ في نقصٍ: ولى؛ فيقولون: ولى الربيع: إذا قارب الفراغ, وولى مال فلانٍ: إذا نقص. والمخالم: مثل المصادق, والخلم: الصديق, وربما سموا كناس الظبية خلمًا؛ لأنها تألفه, فكأنه لها صديق. وقوله: قد كان أسرع فارسٍ في طعنةٍ ... فرسًا ولكن المنية أسرع نصب فرسٍ هاهنا على التمييز, والمعنى: كان أسرع فارسٍ فرسًا في طعنةٍ, ولا يحسن أن يكون فرس منصوبًا بالطعنة؛ لأن الرجل إنما يمدح بطعنه الفارس لا فرسه. ومن بيتين أولهما بلا تستوي والورد والورد دونها ... إذا ما جرى فيك الرحيق المشعشع وهما من الطويل الثاني على رأي الخليل, ومن السحل الأول على رأي غيره. هذا البيت متعلق بالذي يروى للأعرج المعني, وكان أبو الطيب رآه في «كتاب الخيل» لأبي عبيدة, وهو قوله: [الطويل] تلوم على أن أمنح الورد لقحةً ... وما تستوي والورد ساعة نفزع

ومن التي أولها

فكأنه أنكر دعواه, وأجابه بحسب ما قال. وبلى تجيء في أول الكلام إذا كان قد سبقها قول من قائلٍ, مثل أن يقول: ألم أعطك مالًا, فيقول السامع: بلى, وربما رد بها القائل على نفسه, كما قال أبو خراشٍ: [الطويل] فوالله لا أنسى قتيلًا رزئته ... بجانب قوسى ما مشيت على الأرض ثم قال منكرًا على نسه ادعاءه ترك النسيان: [الطويل] بلى إنها تعفو الكلوم وإنما ... نوكل بالأدنى وإن جل ما يمضي وإنما يجيئون بهذه الكلمة إذا تقدم نفي يوجب دخولها في الجواب, ويجوز رفع الورد نسقًا على المضمر في تستوي, والعطف على هذا المضمر لا يحسن حتى يؤكد (108/ب) إذا كان في غير الشعر مثل أن يقول: تستوي هي والورد, والرواية بالرفع, ولو نصب على أنه مفعول معه لكان ذلك أقوى في العربية. والرحيق يقال: إنه القديم من الشراب, ولم يستعملوا من الفعل. والمشعشع: الممزوج, واستعارت الشعراء المشي, والدبيب للخمر: وإنما أصلهما في الحيوان, وإنما شبهوا دبيبها بدبيب النمل, كما قال القائل: [الوافر] أعاذل لو شربت الراح حتى ... يظل لكل أنملةٍ دبيب إذًا لعذرتني وعلمت أني ... لما أتلفت من مالي مصيب ومن التي أولها أركائب الأحباب إن الأدمعا ... تطس الخدود كما تطسن اليرمعا وهي من الكامل الأول في رأي الخليل, ومن السحل الثالث في رأي غيره.

وإذا كان البيت مصرعًا, ولم يتم المعنى في النصف الأول, فهو جارٍ مجرى التضمين, وأكثر ما تجيء الأنصاف المصرعة تامة في المعنى, كقوله: [الكامل] أمن آل مية رائح أو مغتد وقول الحادرة: [الكامل] بكرت سمية غدوةً فتمتع وقوله: إن الأدمع لم يتم به الكلام فاحتاج إلى أن يلحق الألف للترنم, والكلام غير تام فدخل ذلك في جملة التضمين. وتطسن من قولهم: وطس الحجر إذا كسرها. واليرمع: حجارة بيض رقاق تنفت باليد, ومن الأمثال القديمة: «كفا مطلقةٍ تفت اليرمعا» يضرب ذلك مثلًا للرجل النادم على الشيء فعله, فهو يعبث بيده, رواه الأصمعني: كفا مطلقةٍ, ورواه أبو عبيدة: يدا مطلقة, قال الشاعر: [الكامل] وكأنهم أجادل وكأنه ... خذروف يرمعةٍ بكف غلام وقوله: فاعرفن من حملت عليكن النوى ... وامشين هونًا في الأزمة خضعا خاطب الركائب, وقد علم أنها لا تفهم, وأمرها بان تعرف أن من فوقها من لظعائن لهن كرم وموضع ليس لغيرهن, فيبنغي أن تقابلنهن بالإكرام, وتمشين هونًا؛ أي: مشيًا رويدًا سهلًا, ومنه قولهم: الهوينى للشيء الهين, ويقولون: فلان يستوطئ الهوينى, أي لا يشق على نفسه في الأمور, وهو عندهم عيب, والهوينى اسم مصغر لا يستعملون تكبيره,

ومكبره: الهونى, ولا يكادون ينطقون به, قال النابغة: [الوافر] يقدن مع امرئٍ يدع الهوينى ... ويعمد للملمات العظام ومخاطبة الركائب والديار شيء اصطلحت عليه الشعراء كما اصطلحت على الكذب والإسراف في الصفات. والركائب: جمع ركوبةٍ, وهو ما ركب, ويقولون: ركوب القوم وركبوتهم, فيجوز أن يقع الركوب على الواحد والجمع, وكذلك الركوبة, وفي كتاب الله سبحانه: {فمنها ركوبهم ومنها يأكلون} وقد قرئ: ركوبتهم. وقوله: حتى كأن لكل عظمٍ رنةً ... في جلده ولكل عرقٍ مدمعا الرنة: كأنها جارية على قولهم في الماضي: رن رنةً, كما يقولون: أنه أنةً, وحن حنةً, وقد حكي: {ن وأرن؛ إلا أن أرن أكثر, وكان بعض أهل اللغة ينكر: رن, والإرنان: صوت شديد, يقال: أرن الحمار على أتنه, وأرن الطائر على الشجرة إذا رفع صوته. والهاء في جلده عائدة على العظم. وقوله: وكفى بمن فضح الجداية فاضحًا ... لمحبه وبمصرعي ذا مصرعا الجداية: ولد الظبي إذا بلغ ستة أشهرٍ, يقع على الذكر والأنثى, ويقال: جداية, بفتح الجيم, وهو أفصح, وجداية, بالكسر, وقال قوم: الجداية: الذكر من أولادها؛ يذهبون إلى أنه في الظباء مثل الجدي في المعز. قال الراجز: [الرجز] لأصبحت حمل بن كوز ... علالةً من وكروى أبوز تريح بعد النفس المحفوز ... إراحة الجداية النفوز

يروى: حمل بن كوز على أن حملًا اسم رجلٍ, ويروى: جمل ابن كوز, بإضافة جملٍ إلى ابنٍ: وقوله: (109/أ) سفرت وبرقعها الفراق بصفرةٍ ... سترت محاجرها ولم تك برقعا يقال: سفرت المرأة إذا ألقت خمارها عن وجهها, وكذلك سفر الرجل إذا ألقى عمامته, وأسفر وجهها إذا أضاء, وكذلك الصبح, وأجاز قوم: أسفرت عن وجهها, وليس بمعروفٍ, وقال توبة بن الحمير: [الطويل] وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت ... فقد رابني منها الغداة سفورها ويقال: سفرت الريح الغيم إذا كشفته, واستعمل أبو الطيب الصفرة عند الفراق؛ لأنه يحدث فزعًا في المفازق. والمحاجر: جمع محجر العين, وهو ما حولها. وقوله: فكأنها والدمع يقطر فوقها ... ذهب بسمطي لؤلؤٍ قد رصعا الهاء في كأنها وفوقها راجعة إلى المحاجر, والسمط خيط ينظم فيه لؤلؤ, ومنه أخذ التسميط في الشعر؛ وهو أن تجيء أبيات على قافيةٍ, ثم يجيء بيت على قافيةٍ أخرى, ثم يردد ذلك, وقد نسبوا مثل هذا إلى امرئ القيس, ولم يره أحد في ديوانه, وافتن المحدثون فيه, وزعم بعض الناس أنه يسمى السمط, ومنه قول القائل: [الطويل] أمن آل هندٍ مربع ومصايف ... يصيح بعافيها الصدى والعوازف عفتها السوافي بعدنا والعواصف ... وكل ملث يكثر الوبل رادف بأسحم من نوء السماكنين هطال وإنما جرت عادتهم أن يستعملوا ذلك في الرجز, فإذا استعملوه في غيره جاؤوةا بالأبيات

مصرعةً, فربما كان البيت الآخر موازنًا لما قبله, أو ناقصًا عنه بشيء يسير, أو زائدًا زيادةً ليست بالمخلة. والمصراع الأخير من الأبيات المتقدمة يزيد على ما قبله بساكنٍ. ومن السمط قولهم: ثوب أسماط, قيل: هو الذي لا بطانة له, وقيل: هو الذي قد تقطع, فكأن كل قطعةٍ منه سمط, قال الراجز: [الرجز] تليح من حادٍ لها شرواط ... محتجرًا بخلقٍ شمطاط على سراويل له أسماط وقوله: كشفت ثلاث ذوائب من شعرها ... في ليلةٍ فأرت ليالي أربعا يقال: شعر وشعر, وتحريك العين أفصح, والجمع القليل: أشعار, والكثير: شعور, وقالوا للزعفران: شعر. وجعل كل ذؤابةٍ من شعرها ليلةً, يصفها بالسواد, وهذا مذهب يستحسنه الشعراء, وإنما يريدون السواد لا غير؛ إلا أنهم قد يسرفون في ذلك فيدعون ما يحيل المعنى. وقوله: واستقبلت قمر السماء بوجهها ... فأرتني القمرين في وقتٍ معا القمران هاهنا: يجوز أن يعني بهما قمرين متساويين؛ لأن الوجه المستحسن يشبه بالقمر, ولم تجر عادة الليل أن يكون فيه إلا قمر واحد, ويجوز أن يعني بالقمر الذي أرته: الشمس؛ لأن الشمس والقمر لا يجتمعان, وإنما جعلوا الشمس قمرًا إذا جعلوا معها القمر الطالع بالليل, فغلبوا المذكر على المؤنث.

وقوله: زجل يريك الجو نارًا والملا ... كالبحر والتلعات روضًا ممرعا الزجل: شدة الصوت, فيجوز أن يعني به صوت الرعد, والأحسن أن يعني به صوت المطر نفسه؛ لأنه يصفه بالكثرة فيسمع له حفيف. وإذا لم يكن في الغيث رواعد, فهو أهنأ له؛ لأن الراعدة تذعر الماشية, وتوقظ النائم, وربما كانت معها الصاعقة. وقوله: «يريك الجو نارًا» يدل على أنه أراد بالزجل: ذا الرواعد, والدليل على ذلك مبالغته في صفة البرق وكثرته. والملا: الأرض الواسعة, قال الشاعر: [الطويل] ألا غنياني وارفعا الصوت بالملا ... فإن الملا عندي يزيد المدى بعدا يقول: ملأ هذا العارض الأرض الواسعة ماء, فصارت كالبحر. وقوله: ألف المروءة مذ نشا فكأنه ... سقي اللبان بها صبيًا مرضعا أصل نشأ: الهمز, وتخفيفه جائز في القياس, وقد جاء في السماع, وهذا البيت يروى لسحيم عبد بني الحسحاس: [الطويل] أخوهم ومولاهم وصاحب سرهم ... ومن قد نشا فيهم وعاشرهم دهرا ويقال: هو أخوه بلبان أمه إذا كانا (109/ب) قد رضعا من ثديٍ واحدٍ, ويجب أن يكون مصدر: لابنه يلابنه لبانًا, قال الأعشى: [الطويل] رضيعي لبانٍ ثدي أم تحالفا ... بأسحم داجٍ عوض لا نتفرق وقوله: نظمت مواهبه عليه تمائمًا ... فاعتدها فإذا سقطن تفزعا هذا البيت متعلق بالبيت الأول؛ لأن التشبيه متقدم, ولولا ذلك لم يصح المعنى؛ لأنه إذا

قال: كأنه صبي حسن أن يقول: نظمت مواهبه عليه. والتمائم: جمع تميمةٍ فيجوز أن يكون هذا الاسم مؤديًا معنى تامةٍ؛ أي: إنها تامة المنفعة, كما قالوا: تميم؛ أي: تام, ويحتمل أنهم أرادوا تمامها في الطول؛ لأنها تكون أطول من غيرها من العوذ, فهم يذكرون التمائم لعلتين: إحداهما أنهم كانوا يدفعون بها الجن, ويخشون على الأطفال, أشد من خشيتهم على الرجال والبالغين. والأخرى أنهم يدفعون بها العين, قال الشاعر: [الطويل] بلاد بها نيطت علي تمائمي ... وأول أرضٍ مس جلدي ترابها وقالوا: تميم في الجمع, قال عبد الله بن قيس الرقيات: [الخفيف] يتقي أهلها النفوس عليها ... فعليها قلائد وتميم وقوله: ترك الصنائع كالقواطع بارقا ... ت والمعالي كالعوالي شرعا الصنائع: جمع صنيعةٍ, وهو ما يسديه الإنسان إلى غيره من الجميل. والمعنى: أنه ظهرت صنائعه كما تظهر السيوف إذا ضرب بها, فهي بارقات ينظر إليها كل ناظرٍ. وجعل المعالي شرعًا كالعوالي: جمع عالية الرمح, كأنها كانت قبله غير مستعملةٍ, فأشرعها هو أي: جعلها شارعةً. وقولهم: رماح شوارع يريدون أنها كالواردة دماء من يطعنون؛ فكأنها شارعة فيها, كما تشرع الواردة في الماء. وقوله: متبسمًا لعفاته عن واضحٍ ... تعشي لوامعه البروق اللمعا استعار العشى للبرق, وإنما أصله في العين الناظرة إذا ضعف بصرها, وقالوةا: عشي عشًى

إذا لم يبصر بالليل. وقال الراجز: [الرجز] يعشى إذا أظلم عن عشائه وكأنه يريد أن البرق يقل نوره, ويخفى إذا تبسم هذا الممدوح؛ لأن لمعان ثغره يزول عنده لمع البرق, ويغيب فيه, فجعل فقد نوره كالعشى في العين؛ لأن بصرها يضعف. وقوله: الحازم اليقظ الأغر العالم الـ ... ـفطن الألد الأريحي الأروعا نصب الحازم على إضمار فعلٍ, كأنه قال: أعني الحازم أو أمدحه, أو نحو ذلك من الأفعال. ويقال: يقظ ويقظ؛ أي: لا يغفل عن الأشياء, وإذا وصفوا الرجل بأنه فطن للأشياء غير مغفلٍ للرأي وصفوه باليقظ واليقظان, وإذا عجبوا من غفلته وإضاعته ما يليه شبهوه بالنائم, قال الشاعر: [الوافر] أقول من التعجب ليت شعري ... أأيقاظ أمية أم نيام ويصفون الرجل بقلة النوم, قال الراجز: [الرجز] أعرف فيه قلة النعاس ... وخفةً من راسه في راسي كيف رأيت عنده مراسي ويقولون للرجل: أغر إذا وصفوه ببياض الوجه, ويسمون الوجه غرةً, يقولون: هو ميمون الغرة, وأصل ذلك في الخيل. وأصل الألد: الشديد الخصومة؛ كأنهم يريدون أنه يلد خصمه بما يكره, أو أنه يميله في لديده, واللديد: صفحة العنق, ويجوز أن يسمى الجنب: لديدًا, ومنه قولهم: تركته يتلدد؛ أي: يميل في جانبيه, وهم يحمدون البلاغة واستظهار الرجل على خصمه, ويذمون العي والانقطاع, قال الشاعر: [الطويل] يكاد يزيل الأرض وقع خطابهم ... إذا وصلوا أيمانهم بالمخاصر

لأنهم كانوا إذا أرادوا الكلام أخذوا شيئًا في أيديهم, كأنهم يستمرون به المنطق. والأريحي: الذي يرتاح للمعروف, ولا ريب أن اشتقاقه من الريح, وهي من ذوات الواو, ولكنهم لما قالوا: ريح, وفي الجمع رياح, أنسوا بالياء, فقالوا: أريحي, وكرهوا أن يعيدوه إلى أصله؛ لأنهم كرهوا أن يقولون: أروحي, فيشتبه بالنسب إلى الأروح الرجلين, كما كرهوا أن يقولون في جمع العيد: أعواد, فيشبه جمع عودٍ. وقوله (110/أ): الكاتب اللبق الخطيب الواهب النـ ... ـدس اللبيب الهبزري المصقعا كانت الكتابة في الجاهلية قليلةً, فكان الرجل إذا كتب صار ذلك فضيلةً له, ثم كثرت الكتابة في الإسلام حتى لم يوصف بها إلا من هو متميز من غيره, يحسن الخط أو البلاغة, أو يكون في خدمة رئيس يكتب بين يديه, فيحسن أن يوصف بذلك. واللبق: الذي يلبق به ما يصنعه يقال: لبق ولبيق, وبيت الحارثي ينشد على وجهين: [الطويل] وإني إذا ما الخيل شمصها القنا ... لبيق بتصريف القناة بنانيا ويروى: رفيق. والهبرزي: صفة محمودة؛ فبعضهم يقول: هو الجميل الوجه. وقال قوم: الهبرزي: الإسوار من أساورة الفرس, وهو عندهم معرب, ولما كان يقال للإسوار من الفرس: هبرزي؛ وصفوا به من هو عندهم ذا غناءٍ وفضلٍ, كما قالوا للرئيس من العرب: بطريق, وإنما هو للروم في الأصل. وقال قوم: الهبرزي: الجيد من كل شيءٍ, حتى قالوا: خف هبرزي, أي: جيد, وقالوا للدينار: هبرزي إذا كان خالص الذهب, قال الشاعر: [الطويل] فما هبرزي من دنانير أيلةٍ ... بأيدي الوشاة مشرقًا يتأكل

وقوله: يهتز للجدى اهتزاز مهندٍ ... يوم الرجاء هززته يوم الوعى يصفون الرجل بالهزة إذا سئل, وهو مثل قولهم: أريحي. قال الشاعر: [الطويل] وتأخذه عند المكارم هزة ... كما اهتز تحت البارح الغصن الرطب والوعى: الصوت, مثل الوغى, وقوله: هززته يوم الوعى في موضع وصفٍ لمهندٍ. وقوله: أقصر ولست بمقصرٍ جزت المدى ... وبلغت حيث النجم تحتك فاربعا يقال: ربع إذا أقام. والنجم: يحتمل أن يكون هاهنا الواحد من النجوم, لا يخص به بعض دون بعضٍ, ويجوز أن يعني الثريا؛ لأنهم إذا قالوا: النجم أوقعوه عليها دون غيرها في كثير من المواضع, قال الشاعر: [الطويل] إذا النجم وافى مغرب الشمس عطلت ... مقاري حيي واشتكى الغدر جارها لأن الثريا في الشتاء تطلع عشاءً, وإذا طلعت مع الصبح فذلك من دلائل الحر. وقوله: أكلت مفاخرك المفاخر وانثنت ... عن شأوهن مطي وصفي ظلعا الِشأو: الطلق, وإنما هو مأخوذ من قولهم: شاءه يشاؤه إذا سبقه, وقالوا: شأوته وشأيته, إلا أنهم ثبتوا على الواو في الشأو. واستعار المطي للوصف, ويجوز أن يجعل القصائد كالمطي؛ لأنها تحمل المديح, وتسير به في البلاد. وقوله: وجرين جري الشمس في أفلاكها ... فقطعن مغربها وجزن المطلعا قوله: جرين: يجوز أن يعني به المفاخر, وأن يعني به مطي وصفه, وكذلك قوله: وخشين ألا تقنعا: يحتمل الوجهين.

ومن التي أولها

ومن التي أولها ملث القطر أعطشها ربوعا ... وإلا فاسقها السم النقيعا وهي من أول الوافر على رأي الخليل, ومن أول السحل الرابع في قول غيره. يقال: ألث القطر: إذا دام, وقد جرت عادة الشعراء أن يستسقوا للربوع, فخالفهم أبو الطيب في هذا الموضع, وذكر العلة في تركه استسقاء الغيث, وسؤاله إياه إن سقاها أن يكون ما يسقيه سمًا نقيعًا؛ وذلك قوله: أسائلها عن المتديريها ... فلا تدري ولا تذري دموعا جعل صمتها عن إجابة السائل, وأنها لا تدري ما فعل أهلها ولا تظهر عليهم البكاء, ذنبًا لها يوجب سؤاله الغيب أن يعطشها أو يسقيها نقيع السمام. وهذا من تكذب الشعراء الذي يستحسن ويسوغ في حكم النظم, وهو مجانس لقول الآخر: [البسيط] إذا سقى الله أرضًا صوب غاديةٍ ... فلا سقاهن إلا النار تضطرم إلا أن هذا القائل ذم هذه (110/ب) البلاد؛ لأنها ليست منازل أحبابٍ فقال: [البسيط] لا حبذا أنت يا صنعاء من بلدٍ ... ولا شعوب هوًى مني ولا نقم ولن أحب بلادًا قد رأيت بها ... عنسًا ولا بلدًا حلت به قدم والهاء في المتديريها, على مذهب بعض النحويين, في موضع نصبٍ, ولا يمتنع أن تكون مخوضةً, وبعضهم يختار الخفض لا غير, وقوم يعادلون بين الوجهين. ويقال: أذرى الدمع يذريه إذا ذرفه من عينيه, وهو من أذرته الريح. وقوله: لحاها الله إلا ماضييها ... زمان اللهو والخود الشموعا

يقال: لحاه: إذا لامه, وهو مأخوذ من لحيت العصا إذا قشرتها, وفيه لغتان: لحيت, ولحوت, فإذا أريد به اللوم لم يستعملون إلا بالياء, والشموع: المزاحة؛ يقال: شمع يشمع, وهي المشمعة, قال الهذلي: [الكامل] فلبثن حينًا يعتلجن بروضةٍ ... فيحد طورًا في العلاج ويشمع ويجوز أن يكون اشتقاق (شمع) في معنى (مزح) من الشمعة الموقدة؛ لأنها تضيء ولا يدوم ضياؤها, وكأنها ليست بجادةٍ في ذلك. وقالوا أشمع السراج: إذا اشتد ضوؤه, فكأنه صار مثل الشمعة في الضياء. وقوله: منعمة ممنعة رداح ... يكلف لفظها الطير الوقوعا هذا معنى يتداوله الشعراء, مثل أن يقولوا: لو نادى فلان الطير لأجبنه, ولو سمعت العصم كلامه لنزلت إليه, ونحو منه قول النابلغة: [الكامل] بتكلمٍ لو تستطيع حواره ... لدنت له أروى الهضاب الركد وقال آخر: [الطويل] ولو سمعت غربان ضرخة لفظها ... لأخرت عليها بين مثنى وموحد وقوله: ترفع ثوبها الأرداف عنها ... فيبقى من وشاحيها شسوعا يقال: وشاح وإشاح, وهو شيء ينظم, وتجعله المرأة على خصرها, فربما كان لؤلؤًا, وربما كان خرزًا أو ودعًا. وقالوا: حمام موشح إذا كان فيه لون مخالف معظم لونه, قال ذو الرمة: [الطويل] قد ارتحلت مي فهاتيك دارها ... بها السحم تردي والحمام الموشح

والردف: العجز, وكل ما تبع شيئًا فهو ردف له, يقال: ردفه وأردفه, والردف واحد كغيره من أعضاء البدن؛ إلا أن الشعراء يقولون: ثقيلة الأرداف يريدون مآخير الجسد. والشسوع من (شسع) إذا بعد, وهذا المعنى مجانس لقول الآخر: [الكامل] أبت الروادف والثدي لقمصها ... مس البطون وأن تمس ظهورا وقوله: إذا ماست رأيت لها ارتجاجًا ... له لولا سواعدها نزوعا ماست المرأة: إذا اضطربت في مشيها وتمايلت, وكذلك ماس الغصن, ومن أمثالهم: إن الغني طويل الذيل مياس» , يراد أنه من الأشر يتمايل. والارتجاج: الاضطراب, وفي كلام يروى عن ابنة الخس لما قيل لها: بم تعرفين لقاح ناقتك؟ قالت: أرى العين هاجا والسنام راجا وأراها تفاج ولا تبول. وقالوا: سمعت رجة الرعد؛ أي: صوته؛ وإنما يعنون أن صوته شديد ترتج له الأرض. والهاء في له عائدة على الثوب. ونزعا: فعول من (نزع الشيء) إذا نحاه عن موضعه, يقول: لولا سواعد هذه المرأة تمنع ثوبها من أن يزول عنها لألقاه عنها ارتجاجها في المشي. وقوله: تألم درزه والدرز لين ... كما تتألم العضب الصنيعا تألم في معنى تتألم, والغالب على تفعل أنه لا يتعدى, وقد يجيء متعديًا كقولهم: تعلمت العلم, وتسديت الأمر؛ أي: ركبته, وعلوته. والمعنى تتألم من درزه, والدرز: أثر الخياطة, وهو قليل التردد في الكلام القديم, وقال بعضهم: إن الدنيا يقال لها أم درزٍ, يراد أنها تحوج إلى أن تخدم, كما يحوج الثوب إلى أن يخاط.

وقوله: (111/أ) ذراعاها عدوا دملجيها ... يظن ضجيعها الزند الضجيعا الدملج: كلمة قديمة, يقال: دملج ودملوج. قال الراجز: [الرجز] كأن بين المرط والدمالج ... نافجةً من أطيب النوافج فهذا جمع دملجٍ, ومن قال: دملوج؛ فقياسه أن يقول في الجمع: دماليج. والدملج يكون في العضد, وليس الذراع موضعًا له؛ لأن الذراع من المرفق إلى الكوع, والعضد من المرفق إلى المنكب, قال الراجز: [الرجز] يا بكر بكرين ويا خلب الكبد ... أصبحت مني كذراعٍ من عضد والمعنى أن دملجيها يثبتان في العضدين, ولا يقدران أن يخرجا إلى الذراع؛ فكأنهما للذراعين عدوان؛ لأن العدو يبعد ممن عاداه. ودملجاها قد غصا بعضديها, ففهما ثابتان, وهم يصفون المرأة بأنها تغص الحلي, ويملأ ساقها الخلخال, وزندها السوار, ومن ذلك قول المرار الأسدي: [الرمل] يضرب السبعون في خلخالها ... فإذا ما أكرهته ينكسر أي: يضيق عن مخدمها, فإذا أكرهته انكسر. والزند: موضع السوار, وقد أفرط في صفتها بالسمن حتى خرج إلى أمرٍ لو كان لأدى إلى الذم. وقوله: غدا بك كل خلوٍ مستهامًا ... واصبح كل مستورٍ خليعا الخلو من قلبه خالٍ من هوى, وكل من فقد شيئًا فهو خلو منه. والمستهام الذي قد حمله الحب على أن يهيم في الأرض؛ أي: يذهب فيها. وأصل الخليع في الرجال هو الذي قد خلعه قومه فصاروا لا ينصرونه, ولا يحملون عنه إذا غرم, فهو فعيل في معنى مفعولٍ؛ أي: قد خلع من قومه, ثم كثرت هذه الكلمة, حتى قيل لمن شهر باللعب واللهو: خليع؛ أي: هو ممن

ينبغي ألا يلتفت إليه أهله. ويجوز أن يكون مأخوذًا من الثوب الخليع؛ أي: الخلق, وكانوةا في الجاهلية يقامرون فربما قمر الرجل ماله وأهله, فيقال له: خليع عند ذلك؛ أي: قد خلع مما كان له. وقالوا للذي يقامر بالميسر: مخالع؛ لأنه إذا أسرف خلع من ماله, قال الطرماح: [الكامل] في تيه مهمهةٍ كأن صويها ... أيدي مخالعةٍ تفيض وتنهد وقوله: أحبك أو يقولوا جر نمل ... ثبيرًا وابن إبراهيم ريعا أو في معنى حتى هاهنا, وثبير: جبل, وهذا كما يقال: لا أكلمك حتى يشيب الغراب ويبيض القار؛ أي: إن ذلك لا يكون أبدًا, ومعنى البيت: أن حبي لك ثابت إلى أن يجر النمل ثبيرًا, أو يقول قائل: ريع ابن إبراهيم, وذلك شيء لا يكون أبدًا. وقوله: بعيد الصيت منبث السرايا ... يشيب ذكره الطفل الرضيعا الصيت: مثل السمع, وهو ما يذهب للإنسان من ذكرٍ بين الناس, ويقال: ذهب صوته في معنى صيته, وأصات الرجل إذا صار له صيت, قال الشاعر: [الوافر] ألا من مبلغ عوف بن كعبٍ ... فكيف أصات بعدكم النقيل والنقيل: الذي ينتقل عن قومه. يقول: كيف صار له صيت لما اغترب؟ والسرية: جماعة يرسلها صاحب الجيش ليلًا, وهي مأخوذة من سرى وأسرى إذا سار الليل. وقوله: يشيب ذكره الطفل الرضيعا: كلام قد اصطلح عليه الناس, وإنما يريدون به المبالغة في الأمر؛ أي: إن هذا الممدوح يشيب من خوفه الطفل, وهذا شيء لا يجوز أن يكون في الدار العاجلة, ولعل الله سبحانه وتعالى يحدثه في القيامة, كما قال تعالى: {يومًا يجعل الولدان شيبًا} , وهم يدعون أن الرأس يشيب من الفرق, حتى زعم بعضهم أنه

شاب في ليلةٍ. قال علي بن الجهم: [الخفيف] إن أمرًا جنى علي مشيب الر ... أس في ليلةٍ لأمر عظيم وقوله: إن استعطيته ما في يديه ... فقدك سألت عن سر مذيعا قدك: في معنى حسبك, وهي مما يستعمل بعده المضمر, فيقال: قدني, وقدك, قال زيد الخيل: [الوافر] ولولا قوله يا زيد قدني ... إذًا قامت نويرة بالمآلي وأدخلوا النون بعد الدال ليسلم لها السكون, كما فعلوا ذلك في عني ومني, وربما قالوا: قدي, قال الراجز (111/ب): [الرجز] قدني من نصر الخبيبين قدي ... ليس الأمير بالشحيح الملحد فقدي في آخر البيت: قيل: إن ياءها هي الياء التي في قدني, وقيل: ياؤها للإطلاق, وزعم قوم أنها إذا وليت الاسم الظاهر جاءت مخفوضةً, ويجوز فيها النصب, وقلما يستعمل بعدها الظاهر, وتم الكلام عند قوله: فقدك, ثم استأنف فقال: كأنك إذا سألته ما في يديه سألت عن سر من جرت عادته أن يذيع الأسرار, فأنت مستغنٍ عن سؤاله.

وقوله: قبولك منه من عليه ... وإلا يبتدئ يره فظيعا في هذا البيت ضمير مصدرٍ قد دل عليه الفعل, والضمير الذي قبل الهاء في قوله: يره راجع إلى الرجل, والهاء تعود على مضمرٍ آخر, كأنه قال: وإلا يبتدئ ير ترك الابتداء فظيعًا؛ أي: قبيحًا. يقال: أفظعني الأمر إذا أفزعني, وأمر مفظع وفظيع, وداهية مفظع, قال طفيل الغنوي: [الطويل] أناس إذا ما الكلب أنكر أهله ... حموا جارهم من كل شنعاء مفظع والمن إذا إذا استعمل في معنى الإحسان والعطية جاء على ضربين: أحدهما: أنه إكرام ليس معه ما يكدره من الاعتداد بالصنيعة. والآخر: أن يكون ثم ذكر, فهذا يعترض عليه التكدير, وكثيرًا تقول العرب: أسر فلان فلانًا فمن عليه؛ إذا لم يطلب منه فداءً, ولم يقتله إن كان له ذحل عنده. وقوله: لهون المال أفرشه أديمًا ... وللتفريق يكره أن يضيعا الهون: الهوان, وأفرشه أديمًا؛ أي: جعله كالفراش له, ومن شأنهم أن يفرغوا المال على نطعٍ, والكلام يتم عند قوله: وللتفريق, ثم قال: يكره أن يضيعا كالمفسر لما سبق من البيت, أي: إنه إنما أفرشه الأديم كراهةً لضياعه. وقوله: إذا مد الأمير رقاب قومٍ ... فما لكرامةٍ مد النطوعا واحد النطوع: نطع في وزن ضلعٍ, وهذه أفصح اللغات, وقد قالوا: نطع, بفتح النون والطاء, ونطع, بفتح النون وسكون الطاء, ونطع على مثال جذعٍ, قال الراجز: [الرجز] يضربن بالأزمة الخدودا ... ضرب الأكف النطع الجديدا

وقوله: فليس بواهب إلا كثيرًا ... وليس بقاتلٍ إلا قريعا القريع: السيد, وقد ذكر في الأضداد؛ فيجيء في معنى الكريم الرئيس, وفي معنى المغلوب الذليل, وكلاهما معدول عن مفعولٍ؛ فإذا كان مدحًا فهو من قولهم: قرعت الشيء, فهو مقروع: إذا أخذت خياره, فيقال: مقروع للمختار, ومقروع للذي بقي بعد أخذ الجيد. يقول: هذا الممدوح لا يقتل إلا سيدًا من القوم؛ لأن ذلك أعظم لخطره. وقوله: وليس مؤدبًا إلا بنصلٍ ... كفى الصمصامة التعب القطيعا الصمصامة: من صفات السيف, وهو الماضي القاطع, يقال: صمصام وصمصامة, ويقولون: صمصامة عمرو بن معدي كرب وصمصامه. وقال عمرو: [الوافر] خليل لم أخنه ولم يخني ... مع الصمصام أو سيفي سلام أراد سلامة ذا فائشٍ الحميري فحذف الهاء, والذين يذهبون إلى أن الحرف المكرر يكون بدلًا من التشديد, كقولهم: رقرق في رقق, وغلغل في غلل, يرون أن الصمصام مأخوذ من صمم السيف إذا قطع في غير مفصلٍ. والقطيع: السوط, وهو فعيل في معنى مفعولٍ, كأنه معدول عن مقطوع. يقول: إن هذا الممدوح لا يعاقب إلا بالسيف, فقد أراح السوط من التعب؛ لأنه لا يعاقب به, وجعل السوط يتعب على معنى الاستعارة؛ لأن الضرب به يتكرر؛ فإذا أقيم به الحد ضرب المحدود مئة سوطٍ أو ثمانين أو أربعين, والسيف طال ما قتل بضربةٍ واحدةٍ.

وقوله: علي ليس يمنع من مجيءٍ ... مبارزه ويمنعه الرجوعا يقول: إذا بارزه مبارز قتله أو أسره فيمنعه من الرجوع إلى أهله أو أصحابه. ويقال: إن أبا دلامة الشاعر بارز رجلًا (112/أ) من الخوارج فلما دنا منه قال الخارجي: [الرجز] فويجر خدعته حتى انخدع ... فر من الموت وفي الموت وقع فقال له أبو دلامة: أظنك لم تنو أهلك, قال الخارجي: أجل, فقال أبو دلامة: لكني أنوي دلامة, ورجع إلى أصحابه. فيقول: إن الممدوح لا يمكن من بارز من أن يرجع من حيث جاء؛ لأنه يعجله عن ذلك. وقوله: ونالت ثأرها الأكباد منه ... فأولته اندقاقًا أو صدوعا جعل الأكباد كأنها تطلب ثأرًا عند الرماح, لأنها تطعن بها فتجازيها بأنها تدقها أو تصدعها, وهذا كله من المستعار, ونحو منه قوله في الأخرى: [الكامل] في كل معتركٍ كلى مفرية ... يذممن منه ما الأسنة تحمد جعل الكلى ذامةً, والأسنة حامدةً, وليسا مما يوصف بذم ولا حمدٍ.

وقوله: فحد في ملتقى الخيلين عنه ... وإن كنت الغضنفرة الشجيعا أدخل الهاء على الغضنفر للمبالغة, والغضنفر من صفات الأسد, وقيل: إنه الغليظ الجلد, وقالوا للبن الخاثر: غضنفر لغلظه. والشجيع: في معنى الشجاع, فالشجيع جارٍ على شجع كما أن كريمًا جارٍ على كرم, ويقال: شجيع وشجاع, وفي الجمع: شجعان وشجعان وشجعة وشجعة. وقوله: غمام ربما مطر انتقامًا ... فأقحط ودقه البلد المريعا يقال: قحط المطر: إذا قل, وأقحطه الله سبحانه, قال الشاعر: [الخفيف] وربيع المجاورين إذا ما ... قحط القطر واستقل الغمام وقوله: رآني بعد ما قطع المطايا ... تيممه وقطعت القطوعا القطوع: جمع قطعٍ, وهي طنفسة تكون على كتفي البعير تحت الراكب, قال الشاعر: [الوافر] أتتك العيس تنفخ في براها ... تكشف عن مناكبها القطوع وقال زهير: [البسيط] مقورة تتبارى لا شوار لها ... إلا القطوع على الأكوار والورك وتيممه: قصده, يقول: قطع المطايا عن السير قصده. والشعراء يعتادون هذه الصفة على سبيل المبالغة وإن كان الممدوح مجاورًا لهم. يقول: صارت المطي رذايا من السير, وقطعت قطوعها لبعد المسافة. وقوله: وجاودني بأن يعطي وأحوي ... فأغرق نيله أخذي سريعا المجاودة تقع من اثنين, مثل المكارمة, وغيرها مما هو على المفاعلة, يقول: جاودني بأن يجود

علي, وأن آخذ منه جوده, وجعل أخذه كالجود على معنى المبالغة, وهذا المعنى مبني على قوله: وأخذك منه من عليه ... ............ وسكن الياء في (يعطي وأحوي) للضرورة, وذلك كثير في الشعر. وقوله: أمنسي السكون وحضرموتا ... ووالدتي وكندة والسبيعا يروى عن أبي عبيدة معمر بن المثنى أنه كان يقول في اسم القبيلة: السكون والسكون بالضم والفتح, فإذا ضم احتمل وجهين: أحدهما: أن يكون جمع سكنٍ, وهو اسم الرجل. والسكن أهل الدار فجمع الاسم؛ لأن كل طائفة منهم جعلت فريقًا, كما يقال لمن أبوهم عمرو: العمور, ولمن أبوهم كعب: الكعاب. والآخر: أن يكون السكون مصدر سكن سكونًا, والأول أقوى. وإذا فتحت السين فهو فعول من (سكن). وكندة: مأخوذة من الغلظ وشدة اللحم, يقال: رجل مكنود إذا كان كذلك, ولا يمتنع أن تكون كندة من: كند النعمة إذا كفرها؛ لأن الكفر وجحد النعمة إنما يكون من غلظٍ في الخلق؛ فكأنه استعير من غلظ الخلقة. يقال: كاند وكنود, وأصحاب النسب ربما قالوا: كندي بمعنى كندة. والسبيع من همدان, وحضرموت قبيلة قديمة, وفي نسبها اختلاف, وبعض الناس يقول: هو حضرموت أخو سبأ ابن يشجب, وكان اسمه عبد النور, فقاتل يومًا قدام أخيه, فقال: حضرموت؛ فزعموا أنه سمي بذلك, وقال رؤبة: [الرجز] أحضرت أهل حضرموتٍ موتا

وهما اسمان جعلا اسمًا واحدًا, فيقال في الرفع: حضرموت, ويجري في النصب والخفض والرفع مجرى ما لا ينصرف, والذي منعه من الصرف أنه معرفة ومركب من شيئين, والناس اليوم يظنون أن حضرموت بلد؛ وذلك سائغ في الكلام, كأنهم يريدون البلد الذي تحله حضرموت؛ وقد جاء ذلك في الشعر الفصيح, قال عبد يغوث الحارثي: [الطويل] فيا راكبًا إما عرضت فبلغن ... نداماي من نجران ألا تلاقيا أبا كربٍ والأيهمين كليهما ... وقيسًا بأعلى حضرموت اليمانيا (112/ب) فقوله: بأعلى حضرموت يدل على أنه جعله مكانًا. وكذلك قول رؤبة: «أهل حضرموتٍ» , وحكي أن بعض العرب يضم الميم, فيقول: حضرموت, وإنما حملهم على ذلك أنهم أرادوا إخراجه إلى وزن يكون للأسماء الآحاد مثل: عقرقوفٍ وعضرفوطٍ, ومنهم من يقول: حضرموتٍ فيجعله كالاسم المضاف, فأما قول الراجر: [الرجز] يا حضرموت بايعي أو فري ... جاءك معن وأبو الأغر فيجوز أن يكون خاطب البلدة وهو يريد أهلها, كما يقال: يا آمد اتقي كذا وكذا, والمراد: يا أهل آمد, ويحتمل أن يريد القبيلة. وقوله: قد استقصيت في سلب الأعادي ... فرد لهم من السلب الهجوعا

يقال: سلبته سلبًا وسلبًا, وهو أحد المصادر التي جاءت على فعلٍ بتحريك العين, لأن الأكثر فيها أن تجيء على فعلٍ بالسكون. وينبغي أن يكون السلب في أول البيت مصدرًا ساكن اللام, ويكون السلب الثاني محرك اللام, يراد به ما سلب, كما يقال: نفضت نفضًا بسكون الفاء, والنفض ما نفض. والمعنى أنك قد سلبت الأعادي جميع ما يملكون, وكل خلةٍ مثل الأمن ونحوه, حتى سلبتهم الهجوع فاردده عليهم؛ لأنهم لا ينامون من خوفك. وقوله: إذا ما لم تسر جيشًا إليهم ... أسرت إلى قلوبهم الهلوعا يقال: سار الجيش وأساره غيره, فهذا القياس. وقد حكي: سرت الدابة وأسرتها, فلا يمتنع على هذا أن يقال: سار الجيش وسرته؛ لأنه مأخوذ من سير الدابة. والهلوع: مثل الهلع, وهو أشد الفزع. وقيل: الهلع أن يذهب العقل من الرعب, ويقال: الهلوع والهلاك بمعنى: كما يقال: الصمات والصموت ورزاح الناقة والرزوح, وقال ذوم الرمة: [الطويل] فمازال عن نفسي هلاع مداخل ... من الهم حتى كاد يبدو ضميرها وقوله: رضوا بك كالرضى بالشيب قسرًا ... وقد وخط النواصي والفروعا يقال: وخطه الشيب في أول ما يبدو به, ووخطه بالرمح إذا طعنه طعنًا خفيفًا, والمعنى: أن أعداءك راضون بأنك قد علوتهم وهم كارهون؛ إلا أنهم لا يقدرون على دفعك كما أن الشيب يعلو المفارق على كرهٍ ممن يشيب. وقوله: فلا عزل وأنت بلا سلاحٍ ... لحاظك ما تكونه به منيعا الأعزل: الذي لا سيف معه, وربما قالوا: الذي لا سلاح معه, وإنما قيل له أعزل لأنه يعتزل عن الحرب, ويقال في المصدر: أعزل بين العزل والعزل, كما يقال: السقم والسقم, والثكل والثكل, قال الهذلي: [الطويل]

ومن بيتين أولهما

وما هو إلا سيفه وثيابه ... وما بكم فقر إليه ولا عزل وقالوا: السماك الأعزل ليضادوا به الرامح؛ فدل ذلك على أنه يحسن أن يقال للذي لا رمح معه: أعزل, قال كعب بن زهيرٍ: [الطويل] فلما استقل الفرقدان زجرتها ... وهب سماك ذو سلاحٍ وأعزل يقول: إذا كنت بلا سلاحٍ فلست بأعزل؛ لأن لحظك يقوم مقام السلاح فإذا نظرت إلى العدو انهزم. وقوله: لو استبدلت ذهنك ما حسامٍ ... قددت به المغافر والدروعا المغافر: جمع مغفرٍ, وهو كمة من الزرد يجعلها الرجل على رأسه في الحرب, مأخوذ من: غفرت الشيء إذا سترته, فأما المغفر في غير هذا فضرب من الصمغ, وهو الذي يقال له: المغفور, بضم الميم وفتحها, ومن أمثالهم: «هذا الجنى لا أن يكد المغفر». ومن بيتين أولهما بأبي من وددته فافترقنا ... وقضى الله بعد ذاك اجتماعا وهما من أول الخفيف في قول الخليل, وفي قول غيره من الطلق السادس. وقد مضى القول في قولهم: بأبي وبنفسي. وقضى الله: في معنى حكم, ويقال: قضى الشيء إذا قطعه, وكأن القضاء فصل للحكم وقطع, ويقال: قضاني الأمر في معنى قتلني. قال الشاعر: [الطويل]

ومن أبيات أولها

فمن يك لم يغرض فإني وناقتي ... بحجرٍ إلى أهل الحمى غرضان تحن فتبدي ما بها من صبابةٍ ... وأخفي الذي لولا الأسي لقضاني ومنه قولهم: قضى الدرع إذا فرغ من عملها, وقال أبو ذؤيب: [الكامل] وعليهما مسرودتان قضاهما ... داوود أو صنع السوابغ تبع ومن أبيات أولها شوقي إليك نفى لذيذ هجوعي ... فارقتني وأقام بين ضلوعي وهي من ثاني الكامل في قول الخليل, ومن ضروب السحل الثالث في قول غيره. قوله: أو ما وجدتم في الصراة ملوحةً ... مما أرقرق في الفرات دموعي أصل الصراة والصرى: الماء المستنقع, وقيل لجمتع الفرات ودجلة ببغداد: الصراة, من ذلك قال الراجز: تشرب ما في جانب المقراة ... ما بقي في الحوض من الصراة وقال آخر: [الرجز] من كل حمراء شروب للصرى ... ما بقي منه في الحياض أكدرا لا يقشعر كشحها من العرا ... ولا تطوف في الجليد الحجرا

ومن قطعة تنسب إلى أبي الطيب وهي ضعيفة جدًا. وقد كان في زمانه قوم يشبهون كلامهم بكلامه, فيجوز أن تكون هذه مما عملوه. وهي من ثاني الطويل على ري الخليل, ومن أول السحل الأول على ري غيره, وألها: قطعت بسيري كل يهماء مفزع ... وجبت بخيلي كل صرماء بلقع (113/أ) اليهماء: الأرض التي لا يهتدى بها, وقيل للجبل الذي لا يقدر على طلوعه: أيهم, ومن ذلك قولهم: الأيهمان, وجاء في الحديث: «نعوذ بالله من شر الأيهمين» وهما في البادية: السيل والفحل الهائج, وفي الحاضرة: السيل والحريق. والمعنى أنهما لا يدرى كيف يدفعان, ولم يستعمل المصدر من هذه الكلمة, لم يقولوا: اليهم, كما قالوا: الفعل في مصدر أفعل مثل الكمه في الأكمه, والعور في الأعور. ويقال: أرض مفزع, فإذا أرادوا المبالغة قالوا: مفزعة, وكثر استعمالهم الهاء إذا أرادوا هذا الوجه, فقالوا: بلاد مذأبة, وأرض مسبعة ومأسدة, ونحو ذلك, قال الراجز: [الرجز] يا معطي الخير الكثير من سعه ... إليك جاوزنا بلادًا مسبعه والصرماء: الأرض المنصرمة من الناس, ويقال: هي التي لا ماء فيها, ومن ذلك قيل للذئب والغراب: الأصرمان, قال الشاعر: [الوافر] على صرماء فيها أصرماها ... وخريت الفلاة بها مليل وقوله: وفارقت مصرًا والأسيود عينه ... حذار مسيري تستهل بأدمع

أصل الاستهلال: في المطر؛ وذلك أن يسمع له وقع, ويقال: استهل السحاب, ثم استعير في الدمع لأنهم إذا وصفوه بالغزارة شبهوه بالمطر. قال النابغة: ولما استهلت بالنسار سحابة ... تشبهها رجل الجراد من النبل وقالوا: استهل الطفل, إذا صاح حين يولد. وقوله: ألم يفهم الخنثى مقالي وأنني ... أفارق من أقلي بقلبٍ مشيع الخنثى: مأخوذ من الانحناث, وهو الضعف والتكسر, وألف الفعلى لا تكون إلا للتأنيث عندهم, وهذه الكلمة في الكلام كصاحبها في الإنس, لأنها تقع على من أمره مشكل؛ فإذا صح أنه امرأة فالألف للتأنيث, وإذا حكم أنه رجل فقد استعملت الفعلى للمذكر, ولو سمي رجل بخنثى أو امرأة وجب ألا تنون في النكرة, وكانت لعمرو بن عمرو ابن عدس فرس منثى لها ما للفحل وللإناث, وعليها نجا في يوم جبلة. * * * ما روي لأبي الطيب شيء على قافية الغين. * * *

قافية الفاء

قافية الفاء من التي أولها لجنيةٍ أما غادةٍ رفع السجف ... لوحشيةٍ لا ما لوحشيةٍ شنف وهي من الطويل الأول على مذهب الخليل, ومن الضرب الخامس من السحل الأول في قول غيره, وأراد ألف الاستفهام فحذفها, وتلك ضرورة, وقد ذهب بعض الناس إلى أن حذف ألف الاستفهام قد جاء في القرآن في مثل قوله تعالى: {وتلك نعمة تمنها علي} قالوا أراد: أو تلك, وهذا قول يضعف. وكانت العرب إذا استحسنت الشيء نسبته إلى الجن, وكذلك إذا تناهو في صفة الرجل بالشجاعة جعلوه جنيًا, قال النابغة: [الكامل] سهكين من صدأ الحديد كأنهم ... تحت السنور جنة البقار وقال زهير: [الطويل] بخيلٍ عليها جنة عبقرية ... جديرون يومًا أن ينالوا ويستعلوا والغادة: الناعمة, ويقال: هي التي فيها انثناء, وقالوا: نبت غاد إذا كان ناعمًا متثنيًا, قال كثير: [الطويل] وبيضاء رعبوبٍ كأن وشاحها ... على ناعمٍ من غاب دجلة غاد والسجف, بكسر السين وفتحها, والكسر أكثر: ما يستعمل في معنى الستر, وقيل: هو أسفل الستر. وكأن الشاعر شك في هذه المذكورة فجعلها جنيةً, ثم توهم أنها غادة من الإنس, ثم انصرف عن ذلك الرأي, فظن أنها وحشية؛ لأنهم يشبهون المرأة بالظبية, والبقرة من الوحش, ثم أنكر أن تكون وحشيةً لما رأى عليها شنفًا, وهو ما علق في أعلى الأذن إذ

كانت الوحوش لا يكون عليها حلي. وقد يجوز أن يحمل البيت على أن ألف الاستفهام غير مرادةٍ فيه, كأنه قال: لوحشيةٍ رفع السجف, وهو لا يشك في ذلك, ثم جاء بأم؛ لأنها تجيء في معنى بل, وليس قبلها استفهام. ومن ذلك قوله تعالى: {الم * تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين} , ثم قال: {أم يقولون افتراه} وهذا الوجه أحسن من الأول؛ لأنه يخلو من الضرورة. وقوله: نفور عرتها نفرة فتجاذبت ... سوالفها والحلي والخصر والردف (113/ب) النساء يوصفن بالنفار, وكأنما ذلك محمول على أنهن ينفرن من الريبة, قال الشاعر: [الطويل] تريع إلى أنس الحديث وإن ترد ... سوى ذاك تذعر منك وهي ذعور ولذلك وصفوا المرأة بالنوار, قال الباهلي: [الوافر] أنورًا سرع ماذا يا فروق ... وحبل الوصل منتكث حذيق وقال العجاج: يخلطن بالتأنس النوارا والسوالف: جمع سالفةٍ, وهي مقدم العنق, وكأنها مأخوذة من قولهم: سلف الشيء إذا

تقدم. يقول: ألمت بهذه المذكورة نفرة, فتجاذب جيدها وحليها؛ يعني بالحلي ما يكون في العنق, والحلي يقع على الذهب والفضة, ويدخل اللؤلؤ وما جرى مجراه مما تتزين به النساء من زبرجدٍ وجزعٍ, وغير ذلك, قال المرقش: [الطويل] تحلين ياقوتًا وشذرًا مفصلًا ... وجزعًا ظفاريًا ودرًا توائما يريد أن المرأة ارتجت للنفرة فوقع التجاذب بين أعضائها. وقوله: وخبل منها مرطها فكأنما ... تثنى لنا خوط ولا حظنا خشف المرط: كساء من صوفٍ, ويمكن أن يقال للكساء من الخز: مرط, وفي الحديث: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في مروط نسائه» وخبل: أي: أحدث فيها خبالًا؛ أي: اضطرابًا, والخبل والخبل والخبال اشتقاقهن واحد, وهن يستعملن في الفساد والاضطراب, وكثر في الكلام القديم استعمالهم الخبل في قطع اليد والرجل, قال متمم: [الطويل] وكل فتى في الناس بعد ابن أمه ... كذاهبة إحدى يديه من الخبل فأما قول الآخر: [الطويل] من الدارميين الذين دماؤهم ... شفاء من الداء المجنة والخبل فالخبل: هاهنا يقع على كل داءٍ يفسد الصحة, وإنما سموا الجن خبلًا؛ لأنهم يذهبون إلى أنهم يخلبون الإنس أي: يفسدون عقولهم وأجسامهم. والخوط: الغصن القومي. والخشف: ولد الظبية, وإنما قيل له: خشف من قولهم: خشف في الشيء إذا دخل فيه؛ يريدون أنه يدخل في الأشياء فيستتر فيها. وقوله: هراقت دمي من بي من الوجد ما بها ... من الوجد بي والشوق لي ولها حلف

أصل الحلف من قولهم: حلف يمينًا, وقالوا: فلان حلف فلانٍ؛ أي قد حالفه على أمرٍ يفعلانه, والقوم أحلاف. ثم كثرت هذه الكلمة حتى قالوا: فلان حلف كذا؛ أي: لازم له, وإن لم تكن ثم يمين, فيقال: هو حلف جودٍ وحلف غدرٍ؛ أي: كأنه قد حالفه. وقوله: ومن كلما جردتها من ثيابها ... كساها ثيابًا غيرها الشعر الوحف يقال: ومن كلما جردتها من ثيابها ... كساها ثيابًا غيرها الشعر الوحف يقال: شعر وحف, أي: كثير النبات بين الوحافة والوحوفة, ومنه قولهم: وحفت البعير إذا أحكمت طلاءه بالقطران؛ كأنهم يريدون أنهم جعلوه في السواد مثل الشعر الوحف. ويقال: إن الوحاف حجارة سود, فيجوز أن يكونوا شبهوها في اللون بالحوف من الشعر, وقال قوم: الوحفة: أرض حمراء, وجمعها وحاف, ومن هذا الاشتقاق قول لبيدٍ: [الكامل] فصوائق إن أيمنت فمظنة ... منها وحاف القهر أو طلخامها والشعراء تغرق في وصف الشعر بالكثرة والخصب حتى تخرج بذلك إلى حالةٍ لا تحمد, كقول النابغة: [الكامل] وبفاحمٍ رجل أثيث نبته ... كالكرم مال على الدعام المسند وقوله: وقابلني رمانتا غصن بانةٍ ... يميل به بدر ويمسكه حقف الشعراء تشبه الثديين بالرمانتين, وكثر لك حتى ألقوا حرف التشبيه, كما طرحوه في كثير من المواضع, قال النابغة: [الطويل] ويخبأن رمان الثدي النواهد

وفي حديث أم زرعٍ: «معها ولدان لها كالفهدين يلعبان من تحت خصرها برمانتين» فذهب قوم إلى أن المراد الثديان ولم ير أبو عبيدة ذلك, وذهب إلى أن المراد رمانتان من هذا الرمان (114/أ) المعروف. وفي هذا البيت من الصنعة أنه جعل الرمانتين في غصن بانٍ, والبان لا يثمر رمانًا, ولكن الشعراء يشبهون القد المستحسن بغصن البان, ويخصونه بذلك دون غير من الشجر, ويقال: إن هذه الكلمة التي هي البان ليست عربيةً في الأصل, وإنها مهموزة, وأما الشعراء فحمولها في العيافة على أنها من البين, وهذا الشعر يروى لسوار بن مضربٍ السعدي: [الوافر] تنادى طائران ببين سعدى ... على غصنين من غربٍ وبان فكان البان أن بانت سليمى ... وفي العرب اغتراب غير دان وكذلك قول الآخر: [الطويل] فقال غراب باغترابٍ من النوى ... وبان ببينٍ من حبيبٍ تجاوره والعرب تسميه الشوع, ويروى لأحيحة بن الجلاح الأوسي: [السريع] إذا جمادى منعت درها ... زان جنابي عطن معصف في مشرفٍ يسمق جباره ... بحافتيه الشوع والغريف

والحقف: كثيب صغير من الرمل, وأصل اشتقاقه من أن يكون فيه اعوجاج وجمعه أحقاف, وقالوا: ظبي حاقف ففسر على وجهين: أحدهما: أنه الذي قد حقف عنقه؛ أي: حناه, والآخر: أنه في حقف رملٍ, وقالوا: احقوقف الشيء إذا انحنى, قال العجاج: [الرجز] ناجٍ طواه الأين مما وجفا ... طي الليالي زلفًا فزلفا سماوة الهلال حتى احقوقفا وقوله: قليل الكرى لو كانت البيض والقنا ... كآرائه ما أغنت البيض والزعف الزعف: من صفات الدروع, فقيل: الزغف: الواسع, وقيل: اللين. والواحدة زغفة, ويجيء في الشعر القديم بالسكون والتحريك؛ فيجوز أن تكون فيه لغتان, كما قالوا: نهر ونهر, وزهر وزهر, ويجوز أن يكون التحريك للضرورة, وأما البيض من الحديد فإنما شبه في الأصل ببيض النعام, وهو من التشبيه الذي حذف منه الحرف, قال الراجز: [الرجز] الدرع والبيضة لا تنجيني ... من قدر الله إذا يأتيني وقوله: أديب رست للعلم في أرض صدره ... جبال, جبال الأرض في جنبها قف القف: غلظ من الأرض, وجمعه: قفاف, قال الشاعر: [الطويل] لحى الله أدنانا من اللؤم زلفةً ... وأيسرنا عن عرض والده ذبا وأجدرنا أن يدخل البيت باسته ... إذا القف أبدى من مخارمه ركبا

ولولا أن الكلام منظوم لكان الأحسن أن يقال: جبال الأرض في جنبها قفاف ليقابل جمعًا بجمعٍ, ولكن يمكن أن يجعل هذا من المبالغة؛ لأنه يجعل الجبال وهي جمع كالقف الواحد. وقوله: ولما فقدنا مثله دام كشفنا ... عليه فدام الفقد وانكشف الكشف الهاء في عليه: راجعة على مثله, ولولا أنه منظوم لكان الأشبه بهذا الموضع أن يقال: عنه في موضع عليه. يقول: لما فقدنا مثله طال كشفنا عن مثله لعلنا نجده, فدام فقدنا مثله, وانكشف كشفنا, أي: زال؛ لأنا يئسنا من وجدان مثله, وهو من قولهم: انكشف القوم إذا ولوا. وقوله: وما حارت الأوهام في عظم شأنه ... بأكثر مما حار في حسنه الطرف يقول: ما حارت الأوهام في عظم شأنه بحيرةٍ أكثر مما حار الطرف في حسن وجهه, وإنما حسن دخول الباء هاهنا لمجيء ما في أول الكلام؛ لأنها تدخل على خبرها كثيرًا, وهذا الكلام محمول على معناه؛ كأنه يريد: وما حيرة الأوهام في عظم شأنه بأكثر من حيرة العيون في وجهه, ولو أن الكلام غير منظومٍ وحذفت الباء لم يخل حذفها بالمراد, ودخولها هاهنا يشبه دخولها في قول الشاعر: [الوافر] فما رجعت بخائبةٍ ركاب ... حكيم بن المسيب منتهاها وقوله: ولا نال من حساده الغيظ والأذى ... بأعظم مما نال من وفره العرف قد جاءت الباء هاهنا كمجيئها في البيت الذي قبله, ومجيئها في البيت الأول أقوى لمجيء «ما» في أوله.

والمعنى: وما الذي نال من حساده الغيظ بأعظم مما نال من وفره العرف؛ أي: إنه قد أهلك ماله بالمعروف, كما أن حساده قد هلكوا بالغيظ. وقوله: تفكره علم ومنطقه حكم ... وباطنه دين وظاهره ظرف الظرف: كلمة قليلة التردد في الكلام القديم, وهي كثيرة في كلام الناس اليوم, وأهل العلم يقولون: إنه (114/ب) يقال: رجل ظريف إذا كان فصيح اللسان, وقيل: رجل ظريف؛ أي: حاذق بالأشياء, والناس في هذا العصر يقولون للحسن المنظر والثياب: ظريف. وفي الحديث: «إذا كان اللص ظريفًا لم يقطع»؛ أي: إذا كان له لسان يحتج به جاز أن يخلص يده من القطع, وأما قول الحكمي: [المنسرح] ..................... ... تيه مغن وظرف زنديق فيقال: إنه أراد رجلًا كان في زمن السفاح من بني العباس, وكان الزنديق من بني الحارث بن كعبٍ, وكان موصوفًا بالظرف. ولم يرد الشاعر أن الزنادقة كلهم ظراف؛ وإنما أراد أن هذه المذكورة لها ظرف رجلٍ من الزنادقة كما يقال للإنسان: فلان له كرم طائي, وهم يعنون حاتمًا دون غيره, ولا يريدون كل رجلٍ من طيءٍ, وحكى النحويون أنه يقال في جمع ظريفٍ: ظروف, فهو عندهم اسم للجمع. وروى السكري بيت أبي ذؤيبٍ:

وإن غلامًا نيل في عهد كاهلٍ ... لظرف كريم الوالدين صريح وغيره يروي: لطرف؛ فإن صحت رواية السكري فقولهم: قوم ظروف جمع رجلٍ ظرفٍ كما يقال: ضيف وضيوف. وقال قوم: الظرف إناء الشيء, وإنما قيل: رجل ظريف, كنحو قولهم: رجل جسيم إذا وصف بالجسامة, فأرادوا بهذه اللفظة أن جسمه أفضل من جسم غيره, وذكر الصاحب بن عبادٍ هذا البيت فيما عابه على أبي الطيب؛ لأنه جاء بحرف ساكنٍ في النصف الأول من البيت ولم تجر العادة بمجيء مثله إلا في التصريع, ومثل ذلك مفقود في شعر العرب, والغريزة تنكره بعض الإنكار, وموقع هذا الساكن هو موقع الكاف من قوله: حكم. وفي بعض ما روي أن أبا الطيب ذكر له ذلك فأجاب السائل عنه بأن أنشده قول النابغة: [الطويل] جزى الله عبسًا عبس آل بغيض ... جزاء الكلاب العاويات وقد فعل فإن صحت هذه الحكاية؛ فإنه أراد أن يخبر أن الشعراء قد جاءت في أنصاف الأبيات بما هو أقبح من هذه الزيادة, وبيت النابغة فيه نقص حرفٍ متحركٍ, وليس هو مردودًا إلى أصلٍ. وبيت أبي الطيب إنما هو إلى أصل الوزن. وهو أقوى من بيت النابغة؛ لأن أصل هذا الوزن أن يكون عدد حروفه ثمانيةً وأربعين حرفًا. وقوله: أمات رياح اللؤم وهي عواصف ... ومغنى العلى يودي ورسم الندى يعفو استعار للريح الموت, كما استعاروا لها المرض, فقالوا: ريح مريضة؛ أي: ضعيفة, وجعل للؤم رياحًا عاصفةً؛ لأن اللؤم مذموم, وكذلك الريح العاصفة ليس فيها فائدة. والواو في قوله: ومغنى في معنى إذ أي أمات رياح اللؤم وهي تعصف فتودي بمغنى العلى وتعفي رسم الندى.

وقوله: فلم نر قبل ابن الحسين أصابعًا ... إذا ما هطلن استحيت الدين الوطف الأصابع: واحدها إصبع, بكسر الهمزة, وفتح الباء في أجود اللغات, وقد حكي: إصبع وأصبع, ويقال: لفلانٍ إصبع على المال إذا كان حسن القيام عليه, قال الشاعر يصف راعيًا: [الكامل] صليب العصا بادي العروق ترى له ... عليها إذا ما أمحل الناس إصبعا والديم: جمع ديمةٍ, وهي مطر يدوم, وليس بالشديد, وقيل: أقل ما يكون يوم وليلة, وأصله من ذوات الواو؛ لأنه من دام يدوم إلا أنهم لما أنسوا بالياء قالوا: ديم المطر, ولم يقولون: دوم, أرادوا أن يفرقوا بين تدييم المطر وتدويم الطائر في الهواء, قال الراجز يصف الفرس: [الرجز] هو الجواد بن الجواد بن سبل ... إن ديموا جاد وإن جادوا وبل وقالوا: كثيب مديم؛ أي: قد أصابته الديم من المطر. ووطف: جمع أوطف ووطفاء, وهي السحابة التي لها هيدب؛ أي: غيمها متدل قريب من الأرض, قال امرؤ القيس: [الرمل] ديمة هطلاء فيه وطف ... طبق الأرض تحرى وتدر ومعنى البيت أن هذا الممدوح إذا هطلت أصابعه استحيت الديم الوطف؛ لأن جودها أغلب وأكثر, وهذا كذب تستحسنه الشعراء. وقوله: فلم نر شيئًا يحمل العبء حمله ... ويستصغر الدنيا ويحمله طرف العبء: الثقل, وهو مأخوذ من قولهم: عبأت الطيب إذا جمعت بعضه إلى بعضٍ, وخلطته, قال أبو زبيد الطائي (115/أ): [الوافر] كأن بنحره وبمنكبيه ... عبيرًا بات تعبؤه عروس

والطرف: الفرس الكريم. يقول: هذا الممدوح يحمل الأعباء, ويستصغر الدنيا الواسعة, وهو مع ذلك يحمله طرف, وقد كانوا يصفون نفوسهم بالخفة على ظهور الخيل, قال الشاعر: [البسيط] لم يركبوا الخيل إلا بعدما كبروا ... فهم ثقال على أكتافها عنف وقال أبو دلف العجلي: [المتقارب] خفيف على حاملي ما ركبت ... ولست على ظالمي بالخفيف وقوله: ولا جلس البحر المحيط لقاصدٍ ... ومن تحته قرش ومن فوقه سقف ذكر أشياء ممتنعةً, وزعم أنها موجودة في الممدوح وشبهه بالبحر المحيط, وقد جلس وتحته فرش, وفوقه سقف, وليس ذلك من عادات البحار. ويقال: سقف وسقف, وسقف في الجمع, والآية تقرأ على وجهين: {سقفًا من فضةٍ} وإنما قيل له: سقف لانحناء قواريه مع ارتفاعه, ومن ذلك قولهم: ظليم أسقف, لانحنائه, وإن كان أسقف النصارى عربيًا فإنما قيل له ذلك؛ لأنه من خشوعه ينحني ظهره. وقوله: ومن كثرة الأخبار عن مكرماته ... يمر له صنف ويأتي له صنف يقال: له صنف وصنف, بفتح الصاد وكسرها, وقالوا: عود صنفي, بفتح أوله, وقيل: صنف التين والعنب إذا تغير لونهما عند النضج, قال عبيد الله بن قيس الرقيات: [المنسرح] سقيًا لحلوان ذي الكروم وما ... صنف من تينه ومن عنبه

وقوله: وتفتر منه عن خصالٍ كأنها ... ثنايا حبيبٍ لا يمل لها الرشف في تفتر ضمير يعود إلى المكرمات, وأصل الافترار فتح الفم, يقال: فررت فم الدابة إذا فرقت بين جحلفتيه لتعرف ما سنه. ويقال في المثل: «عينه فراره»؛ أي إذا نظرت إلى شخصه دلك منظره على مخبره, قال الراجز يصف الذئب: [الرجز] هو الخبيث عينه فراره ... أطلس يخفي شخصه غباره في فمه شفرته وناره ... بهم بني مخارقٍ مزداره يوجد في النسخ القديمة: فراره, بالكسر والضم, وليس في نسخةٍ واحدةٍ؛ بل في نسخةٍ بالضم, وفي نسخةٍ بالكسر. والرشف من قولهم: رشفت الماء: إذا أخذته قليلًا قليلًا, ومن أمثالهم: «الجرع أروى والرشيف أشرب». وقوله: ولا الفضة البيضاء والتبر واحدًا ... نفوعان للمكدي وبينهما صرف إنما قيل لها: فضة؛ لأنها تفض؛ أي: تفرق, وقيل للذهب: تبر؛ لأنه يتبر في النفقة؛ أي: يهلك, وربما خصوا بالتبر ذهب المعدن دون غيره؛ ولذلك قيل له: ذهب؛ لأنه يذهب في مآرب الناس. والمكدي: القليل الخير. ونفوعان: مرفوع؛ لأنه خبر مبتدأٍ محذوفٍ, كأنه قال: هما نفوعان. وقوله: ولست بدونٍ يرتجى الغيث دونه ... ولا منتهى الجود الذي خلفه خلف قد مضى القول في دون, وأنها تستعمل ظرفًا واسمًا, وتجعل مرةً إغراءً؛ فمن كونها ظرفًا قول زهير: [البسيط]

دون السماء وفوق الأرض بينهما ... قيد الذراع فلا فوت ولا درك ومن كونها اسمًا قول الكميت: [الوافر] وجدت الناس إلا ابني نزارٍ ... ولم أذممهم شرطًا ودونا ومن كونها إغراءً قول الراجز: [الرجز] يا أيها الماتح دلوي دونكا ... إني رأيت الناس يحمدونكا يثنون خيرًا ويمجدونكا ذهب الكسائي إلى أن التقدير: دونك دلوي, وأن موضع الدلو نصب بالإغراء, وقال غيره: هو إخبار, وقال آخر: [الرجز] من مبلغ عني يزيد بن الصعق ... دونك ما استحسيته فاحس وذق هذا إغراء لا غير. فأما قول الفرزدق: [الطويل] فلما دنا قلت ادن دونك إنني ... وإياك في زادي لمشتركان أمر الذئب بالدنو, ثم أغراه.

وقوله: ولا منتهى الجود الذي خلفه خلف هذا نحو من قوله: [الطويل] وغربت حتى ليس للغرب مغرب وقوله: ولا واحدًا في ذا الورى من جماعةٍ ... ولا البعض من كل ولكنك الضعف ذهب بعض الناس إلى أن الألف واللام لا تدخل على كل وبعضٍ, وتروى عن الأصمعي حكاية معناها أنه قرأ آداب ابن المقفع فأنكر فيها قوله: العلم أكثر من أن يؤخذ كله فخذوا البعض. والقياس لا يمنع من دخول الألف واللام على كل؛ لأنهما قد يدخلان على المعارف على معنى الإضافة, فصح بذلك أنهما نكرتان, وقد جاء بيت لسحيمٍ عبد بني الحسحاس, وهو قوله: [الطويل] رأيت الغني والفقير كليهما ... إلى الموت يأتي الموت للكل معمدا (115/ب) وضعف الشيء مثله مرتين. وقوله: أقاضينا هذا الذي أنت أهله ... غلطت ولا الثلثان منه ولا النصف أشار بهذا إلى الثناء, فلما تم الكلام استقل ما أثنى به, فقال: غلطت؛ إرادةً للمبالغة, ثم جحد فقال: ولا الثلثان ثنائي مما تستحق ولا النصف. وقافيتها من المتواتر.

ومن أبيات أولها

ومن أبيات أولها موقع الخيل من نداك طفيف ... ولو ان الجياد منها ألوف وزنها من الخفيف الأول, وقافيتها من المتواتر. الطفيف: الشيء القليل, ومنه قولهم: طفف المكيال: إذا نقصه, وفي الكتاب العزيز: {ويل للمطففين} , وأصل ذلك أنه يقال للشيء إذا قرب: قد طف. ومن عادة ما قرب أن يكون أخذه سهلًا, فقيل للشيء القليل: طفيف؛ لأن أمره هين, قال عدي بن زيدٍ: [الوافر] أطف لأنفه الموسى قصير ... وكان بأنفه حجئًا ضنينا وقوله: ومن اللفظ لفظة تجمع الوصـ ... ف وذاك المطهم المعروف المطهم من الخيل والناس: الذي يحسن كل شيء منه. ومن أبيات أولها ومنتسبٍ عندي إلى من أحبه ... وللنبل حولي من يديه حفيف الوزن من الطويل الثالث, والقافية من المتواتر, واللين لازم لها. وقوله: وكل ودادٍ لا يدوم على الأذى ... دوام ودادي للحسين ضعيف الحسين: اسم اصطلحت العامة على استعماله تارة بالألف واللام, وتارة بغيرهما؛ إلا أنهم إذا أرادوا تفخيم الرجل عرفوه بعلامة التعريف, ولم يجعلوه علمًا, وقالوا: الحسين بن علي,

ومن بيتين أولهما

وحذفوا منه الألف واللام في الشعر, قال الشاعر: [الوافر] أترجو أمة قتلت حسينًا ... شفاعة جده يوم الحساب والعامل في اللام في قوله: للحسين, هو قوله: دوام؛ لأنك إذا حملته على ذلك فلابد من دخول اللام, ولو حمل على الود لجاز؛ إلا أن حمله على الدوام أجود. ومن بيتين أولهما به وبمثله شق الصفوف ... وزلت عن مباشرها الحتوف فدعه لقًى فإنك من رجالٍ ... جواشنها الأسنة والسيوف وزنهما من الوافر الأول, والقافية من المتواتر. الهاء في به: عائدة على الجوشن لعلم المخاطب بذلك. والجواشن إذا أريد بها هذه العدة فذكرها في الشعر الأول فقيد؛ إلا أنهم قد سموا الرجل: الشمر بن ذي الجوشن. ويقال: مرجوش من الليل, وجوشن؛ أي: قطعة, وكأنهم سموا هذه العدة: جوشنًا؛ لأنها ت كون على صدر الإنسان, وربما سمي الصدر جوشنًا, قال الشاعر: [الطويل] فإن الفتى الصعلوك رامٍ بنفسه ... جواشن هذا الليل كي يتمولا واللقى: الشيء الملقى, قال الشاعر: [البسيط] أمست أميمة معمورًا بها الرجم ... لقى صعيدٍ عليه الترب مرتكم

ومن أبيات أولها

ومن أبيات أولها أعددت للغادرين أسيافا ... أجدع منهم بهن آنافا الوزن من ثاني المنسرح, لم يذكره الخليل, وقد تردد ذكره في شعر أبي الطيب, والقافية من المتواتر. أصل الجدع: القطع, ثم كثر استعمال ذلك في الأنف والأذن, ولم يقولوا: جدعت رجله, ولا يده, قال الشاعر: [الكامل] حتى إذا خفت الصياح وصرعت ... قتلى كمنجدعٍ من الغلان أي: كشجرٍ قد قطع, والغلان: جمع غال, وهو وادٍ كثير الشجر. وقالوا: عبد مجدع؛ أي: يدعى عليه, فيقال: جدع الله أنفه, وإن لم يكن به جدع, قال الشاعر: [الطويل] فلا تأممن أن تكون نعامةً ... ولا الملك أن يهدى لعبدٍ مجدع فأما قولهم للولد السيئ الغذاء: جدع, فإنهم يريدون أنه كالذي قطع عنه الغذاء, قال أوس بن حجرٍ: [المنسرح] وذات هدمٍ عالٍ نواشرها ... تسكت بالماء تولبًا جدعا وصحف هذا البيت بعض العلماء فقال: جذعا, ومن ذلك قولهم: سقبان مجدعة إذا لم تمكن من اللبن, قال الشنفرى: [الطويل] ولست بمهيافٍ يعشي سوامه ... مجدعةً سقبانها وهي بهل

وقالوا للسنة الشديدة: جداع, معدول مثل حذام وقطام. قال أبو حنبل الطائي: [الوافر] لقد آليت أعذر في جداع ... ولو أعطيت أمات الرباع وقوله: لا يرحم الله أرؤسًا لهم ... أطرن عن هامهن أقحافا يقال لعظم الرأس إذا انقطع: قحف, وجمعه أقحاف, وفي أطرن ضمير يرجع إلى الأسياف. وقوله: ما ينقم السيف غير قلتهم ... وأن تكون المئون آلافا يقال: نقمت الشيء إذا أنكرته, بفتح القاف, وقد كسرت, والفتح أجود, وعلى ذلك ينشد قول الشاعر: [المنسرح] ما نقموا من بني أمية الـ ... لا أنهم يحلمون إن غضبوا ونصف البيت الآخر محمول على النفي, كأنه قال: ما (116/أ) ينقم السيف إلا قلتهم وألا تكون المئون آلافًا, فحذف (لا) لعلم السامع بما يريد, وليس هذا بأبعد من قولهم: والله أفعل, أي: لا أفعل. ويجوز أن يكون الشاعر أراد أن زيادتهم على الآلاف مما ينقم السيف؛ لأنه يريد الكثرة. والمائة: تجيء على جموعٍ مختلفة؛ فيقال: مئات ومئٍ, ومئون, ومئيات في الضرورة, وقالوا: مين في الشعر, وهم يريدون مئين, فحذفوا الهمزة, وأعربوا النون, وهذا البيت يروى لحسان: [الوافر] وذلك أن ألفهم سواء ... بواحدنا نعم أيضًا ومين

وأنشد الفراء: [البسيط] فقلت والمرء قد تخطيه مبنيته ... أدنى عطائهم إياي ميئات وقوله: يا شر لحمٍ فجعته بدمٍ ... وزار للخامعات أجوافا والخامعات: يعني بها الضباع, قال مالك بن نويرة: [الكامل] يا لهف من عرفاء ذات فليلةٍ ... تأتي إلي على ثلاثٍ تخمع وقال آخر: [الوافر] وجاءت جيأل وأبو بنيها ... أحم المأقيين لهم خماع يقول: قتلتهم فأكلتهم الضباع. وقوله: قد كنت أغنيت عن سؤالك بي ... من زجر الطير لي ومن عافا كأنه بلغه أن هؤلاء الهاربين منه سألوا عنه منجمًا ليعطيهم خبره, أو من يجري مجرى المنجم ويتعاطى زجر الطير وعيافتها, فيحكم عليها إذا مرت به, فيتيمن مرةً, ويتطير أخرى, وبعض الناس يروي لذي الرمة بيتين, وليسا في كل الروايات, وهما: [الطويل] رأيت غرابًا واقعًا فوق بانةٍ ... من البان لم ينبت لها ورق خضر فقلت غراب باغترابٍ وبانة ... لبينٍ ألا هذي العيافة والزجر

ومن أبيات أولها

وقوله: وعدت ذا النصل من تعرضه ... وخفت لما اعترضت إخلافا قوله: تعرضه؛ أي: تعرض له, واستعمل الوعد هاهنا في الشر, ثم رجع إلى مخاطبة من خاطبه في أول الأبيات, والأجود أن يكون قوله: لما اعترضت يعني به اللحم الذي فجعه بدمٍ, وقد تقدم ذكره. ومن أبيات أولها أهون بطول الثواء والتلف ... والقيد والسجن يا أبا دلف وزنها من المنسرح الأول, والقافية من المتراكب. يقال: ثوى بالمكان: إذا أقام به, قال اليشكري: [الخفيف] رب ثاوٍ يمل منه الثواء وربما قالوا: ثوى الرجل بمعنى مات, والأغلب أن يكون الثواء طول الإقامة, وربما استعملوا في المقام اليسير, قال الأعشى: [الكامل] أثوى وقصر ليلةً ليزودا ... فمضى وأخلف من قتيلة موعدا ويروى: أثوى, فجعل الثواء لليلة, وقال أيضًا, فجعل الثواء حولًا: [الطويل] لقد كان في حولٍ ثواءٍ ثويته ... تقضي لباناتٍ ويسأم سائم

ودلف على مثال عمر لا ينصرف في المعرفة, وصرفة للضرورة, وهو مأخوذ من قولهم: دلف إذا قارب الخطو. وقوله: غير اختيارٍ قبلت برك بي ... والجوع يرضي الأسود بالجيف نصب غير اختيار, لأنه مفعول له, ومن أجله, كأنه قال: قبلت برك لغير اختيارٍ ومن غيره. والجيف: جمع جيفة, وهي من ذوات الواو, وإنما قيل لها: جيفة؛ لأن جوفها ينشق, ولو صغرت جيفةً لكان الأقيس أن تقول: جويفة بالواو, فتردها إلى الأصل. * * *

حرف القاف

حرف القاف من التي أولها أيدري الربع أي دمٍ أراقا ... وأي قلوب هذا الركب شاقا وهي من الوافر الأول. وما عفت الرياح له محلا ... عفاه من حدا بهم وساقا يقال: عفا المنزل: إذا درس, وعفاه غيره: إذا درسه, ويقال: على آثارهم العفاء؛ أي: الدروس, وقالوا في قول زهير: [الوافر] تحمل أهلها منها فبانوا ... على آثار ما ذهب العفاء قيل: العفاء الدروس, وقيل: التراب, والبيت المتقدم يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون النصف الآخر نعتًا لقوله: محلًا, والوجه الآخر أن يكون الشاعر لما قال: وما عفت الرياح له محلًا, أخبر عن الذي عفاه؛ فيكون المعنى محمولًا على قول أبي الشيص: [مجزوء الرجز] ما فرق الأحباب بعـ ... ــد الله إلا الإبل وما على ظهر غرا ... ب البين تطوى الرحل ولا إذا صاح غرا ... ب في الديار احتملوا وما غراب البين إلـ ... لا ناقة أو جمل (116/ب) فالنصف الآخر مبتدأ به, ولا موضع له من الإعراب؛ لأن الجمل إذا ابتدئ بها لم يحكم على مواضعها بنصبٍ ولا رفعٍ ولا خفضٍ.

وقوله: فليت هوى الأحبة كان عدلًا ... فحمل كل قلبٍ ما أطاقا ذكر أن الحب جائر, وتمنى أن يكون عادلًا في الحكم, فيحمل كل محب على حسب طاقته. وأصل العدل أنه مصدر عدل عدلًا, ثم وصف الواحد والاثنان والجميع, وكان ذلك أكثر اللغتين, قال زهير: [الطويل] متى يشتجر قوم يقل سرواتهم ... هم بيننا فهم رضًى وهم عدل وهذا يحمل على حذف مضافٍ كأنه قال: فهم ذوو عدل. وكذلك المصادر التي ينعت بها. وربما قالوا: قوم عدول, قال الشاعر: [الطويل] طمعت بليلى أن تريع وإنما ... تقطع أعناق الرجال المطامع وبايعت ليلى في الخلاء ولم يكن ... شهود على ليلى عدول مقانع ومن هذا الباب قولهم: رجل ضيف, وكذلك يقال للجميع. وفي الكتاب العزيز: {هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين} فجاء بالضيف موحدًا, ثم جاء بالنعت على الجمع, والقياس يوجب أن يقال: امرأة ضيف؛ إلا أن الشاعر قال: [الطويل] لقى حملته أمه وهي ضيفة ... فجاءت بيتنٍ للضيافة أرشما اليتن: الذي يولد فتخرج رجلاه قبل رأسه. والأرشم: الذي يتشمم الطعام فيتبعه. وأصل قولهم للجماعة: ضيف أنه مصدر ضاف يضيف ضيفًا إذا مال, ثم نقل من المصدر إلى النعت. وقوله: نظرت إليهم والعين شكرى ... فصارت كلها للدمع ماقا

شكرى أي: ممتلئة بالدمع, يقال: شكرت الضرة تشكر شكرًا إذا امتلأت لبنًا, ويقال: شكرت السحابة إذا كثر ماؤها. قال الراجز: [الرجز] جاء الشتاء واربأل القبر ... وطلعت شمس عليها مغفر وجعلت عين الشمال تشكر والماق: جانب العين الذي يلي الأنف, وفيه لغات, يقال: مأق وموق, وحكى الفراء: مأقٍ على مثال مأوٍ, وزعم أنه لم يأت في كلام العرب نحو هذين الحرفين غير مأقي العين ومأوي الإبل, وقالوا: مؤق بالهمز. ومن قال: مأقٍ على مثال مفعل قال في الجمع: مآقٍ, ومن قال: مؤق مثل رؤدٍ فجمعه آماق, قال الشاعر: [مجزوء الكامل] فارقت هندًا ضلةً ... فأسيت عند فراقها فالعين تفسح عبرةً ... تنهل من آماقها والذين قالوا: آبار في أبآر, وآسار في أسآر, جمع سؤر؛ أي: بقية, يقولون: آماق, ويروى لجميل بن معمرٍ: [الكامل] إنا لنضرب جعفرًا بسيوفنا ... ضرب الغريبة تركب الآسارا يريد الأسآرا. والمأق: هو الموضع الذي يخرج منه الدمع, وبالغ الشاعر في هذا البيت فأخبر أن الدمع يخرج من العين كلها إذا كانت محتفلةً. وقوله: وقد أخذ التمام البدر فيهم ... وأعطاني من السقم المحاقا قوله: وقد أخذ التمام البدر فيهم: يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون الذي عنى

جماعةً, كل واحدٍ منها كأنه بدر تام, والآخر أن يكون عنى واحدًا بعينه. ويقال: محاق القمر ومحاقه, وثلاث ليالٍ من آخر الشهر, يقال لهن: ثلاث محاق, قال الشاعر: [الطويل] تزوجتها قبل المحاق بليلةٍ ... فصار محاقًا كله ذلك الشهر وقوله: وبين الفرع والقدمين نور ... يقود بلا أزمتها النياقا هذا البيت يدل على أنه عنى واحدًا في أشبه الوجهين, ولا يمتنع أن يكون عنى جمعًا, وأراد: أن بين فرع كل واحدٍ من أحبته وبين قدميه نورًا يقود النياق بغير أزمةٍ, وهذا مثل قول كثيرٍ: [الطويل] إذا نحن أدلجنا وأنت أمامنا ... كفى لمطايانا بوجهك هاديا إلا أن بيت أبي الطيب أبلغ؛ لأن كثيرًا إنما ادعى أن المطايا تسير على نور وجهها, والقود بغير الأزمة فوق هذه الرتبة بدرجاتٍ. والناقة من ذوات الواو, وأصلها: نوقة, فلما جمعت على فعالٍ انقلبت الواو ياءً لانكسار ما قبلها, ولأنها كانت معتلة في الواحد. وقالوا: استنوق الجمل: إذا صار كالناقة في ذله, قال الكميت: [الطويل] هززتكم لو كان فيكم مهزة ... وذكرت ذا التأنيث فاستنوق الجمل وقوله (117/أ): وطرف إن سقى العشاق كأسًا ... بها نقص سقانيها دهاقا دهاق: أي مملوءة, يقال: دهقت الكأس وأدهقتها, ولا يمتنع أن يكون دهقان القرية مأخوذًا من هذا اللفظ, ويكون وافق لفظ العربية, وتكون الألف والنون زائدتين, ودهقان القرية يكون فيها كالرئيس, وأكثر ما يعنون بذلك النصراني والمجوسي؛ فيريدون أنه إذا نزل به من يكرمه سقاه كأسًا دهاقًا من الخمر.

وقوله: وخصر تثبت الأنظار فيه ... كأن عليه من حدقٍ نطاقا النطاق: ثوب أو نحوه يشد به الإنسان وسطه, وأصل ذلك: أن الإنسان إذا هم بأمر شد له نطاقه؛ فكأنه إذا أراد أن ينطق بخطبةٍ أو يتكلم في جماعةٍ تحزم لذلك, فيكون اشتقاق النطاق من: نطق الإنسان, ويقال: بات فلان شديد النطاق, إذا بات ساهرًا, كأنه خائف من عدو, قال الشاعر: [المتقارب] وليلة نحسٍ تبيت النسا ... ء للخوف وهي شداد النطق ويقولون: حل الرجل نطاقه بالمكان: إذا أقام به, كما يقولون: ألقى عصاه, قال الشاعر: [الكامل] ولقد هبطت الأرض حل بها الندى ... والغيث كل علاقةٍ ونطاق والمعنى أن الشاعر أراد المبالغة في الصفة بالنعمة؛ فزعم أن العين إذا نظرت إلى هذا المحبوب صارت فيه ممثلةً, والعيون تكثر النظر إليه, فقد صار في خصره من الحدق نطاق؛ وهذا كذب يجب أن يستغفر منه, ومن الإصغاء إليه. وقوله: سلي عن سيرتي فرسي وسيفي ... ورمحي والهملعة الدفاقا خرج من تلك الصفة إلى مخاطبة مؤنثٍ. وسيرة الرجل ما هو عليه من طريقةٍ وأخلاقٍ, يقال: سار الرجل سيرةً جميلةً أو قبيحةً, قال الهذلي: [الطويل] فلا تجزعن من خطة أنت سرتها ... فأول راض خطةً من يسيرها والهملعة: الناقة السريعة, والذكر: هملع, قال ذو الرمة: [الطويل] سمام نجت منها المهارى وخلفت ... قراحيبها والماطلي الهملع

والهملع أيضًا: يوصف به الذئب لسرعته, قال الراجز: [الرجز] مثلي لا يحسن قولًا فعفع ... والشاة لا تمشي على الهملع وفعفع من زجر الضأن. ويقال: ناقة دفاق ودفاق؛ أي: غزيرة السير كأن سيرها يتدفق. وقوله: تركنا من وراء العيس نجدًا ... ونكبنا السماوة والعراقا سماوة كلبٍ: معروفة, والنسب إليها: سماوي, قال جرير: [البسيط] إذا علون سماويًا موارده ... من نحو دومة خبتًا قل تعريسي ويقال: أسمى الحمار الوحشي بآتنه إذا أتى بهن السماوة, قال الأخطل: [البسيط] كأنها لاقح الأقراب في لقحٍ ... أسمى بهن وغرته الأناصيل والعراق: يختلف في اشتقاقه, فقيل: إنما سمي عراقًا؛ لأنه متسافل فشبه بعراق القربة, وهو الذي يكون في أسفلها, وقيل: هو أن يثنى أسفل الجلد, ثم يخرز, وقيل: سمي العراق؛ لأنه مستطيل, ولذلك قيل: عرق الشيء لما دخل في الأرض منه. وقيل: العراق: ما بين دجلة والفرات, وهذا راجع إلى معنى الطول. وقال قوم: إنما قيل له: عراق لقربه من البحر, وهذه الأقوال متقاربة؛ لأنه يقال: هذا الشيء على عراقٍ واحدٍ؛ أي: على طريقةٍ واحدةٍ. ويروى عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: كان العراق بالفارسية يقال له: أران شهر فعرب فقيل له: العراق. وقول أبي عمرو: عرب فقيل: العراق ليس هو مجرى قولهم: الحمل بالفارسية البراق, وأصله البره؛ لأن اللفظين متقاربان, وليس أران شهر قريبًا من لفظ العراق, ويجوز أن يكون قوله: عرب؛ أي: سمي اسمًا عربيًا, كما أنا نقول:

بغداد اسم فارسي, فعربت؛ أي: سميت اسمًا عربيًا؛ فقيل: الزوراء, ومدينة السلام. ويجوز أن يكون قولهم: أران شهر معناه بالفارسية كبعض هذه المعاني المتقدم ذكرها, وقال قوم: إنما قيل له: العراق, لكثرة عروق الشجر فيه, وقد جاء في شعر الجاهلية, قال المتلمس: [البسيط] أمي شآميةً إذ لا عراق لنا ... قومًا نحبهم إذ قومنا شوس ونكبنا؛ أي: جعلناها وراء مناكبنا, والمنكب: رأس الكتف, ويقال: نكبت عن الشيء: إذا ملت عنه, والريح النكباء التي بين ريحين. وقوله (117/ب): فمازالت ترى والليل داجٍ ... لسيف الدولة الملك ائتلاقا الائتلاق: الضياء. يقال: ائتلق الشيء يأتلق ائتلاقًا, قال الشاعر: [المنسرح] يأتلق التاج فوق مفرقه ... على جبينٍ كأنه الذهب وهذا معنى حسن؛ إلا أنه لا يجوز أن يكون, وهو نحو من قول حميد بن ثورٍ: [الطويل] هداني لك الله الذي نور الهدى ... ونور وإسلام عليك دليل وقوله: أدلتها رياح المسك منه ... إذا فتحت مناخرها انتشاقا هذا المعنى يتردد في الشعر, وهو من قول الأول: [الطويل] أرادوا ليخفوا قبره عن عدوه ... فطيب تراب القبر دل على القبر

وقال المسيب بن علس: [المتقارب] وكالمسك ريح مقاماتهم ... وريح قبورهم أطيب وقوله: أباح الوحش - يا وحش - الأعادي ... فلم تتعرضين له الرفاقا سكن الياء في الأعادي للضرورة, وزعم الفراء أنها لغة, وتسكين الياء مع الألف واللام أو الإضافة أسهل من حذف الياء مع التنوين, كما قال القائل: [الطويل] ولو أن واشٍ باليمامة داره ... وكنت بأعلى حضرموت اهتدى ليا وأنشد الفراء: [الكامل] فكسوت عارٍ جسمه فتركته ... جذلان لان قميصه ورداؤه وإذا وقع مثل هذا في القافية فهو أحسن منه في حشو البيت؛ لأن القافية موضع حذفٍ يجوز فيها ما لا يجوز في غيرها من ألفاظ الموزون, كقول بشر بن أبي خازمٍ: [الوافر] كفى بالبين من أسماء كافٍ ... وليس لحبها ما عشت شاف أسهل من قوله: فكسوت عارٍ. وتسكينه لم كالضرورة؛ لأن الأصل تحريك الميم؛ لأنهم حذفوا الألف من (ما) في مواضع كثر ترددها في الكلام, مثل قولهم: لم فعلت, وفيم جئت, وحتام تظلم, والأصل إثبات الألف, قال وضاح اليمن: [السريع] يا أمة الواحد جودي أما ... إن تصرميني فلما أو بما

وقال الراجز فجمع بين التحريك والإسكان: [الرجز] يا أسدي لم أكلته لمه ... لو خافك الله عليه حرمه والرفاق في هذا البيت: يحتمل أن تكون مصدر رافقت, ويجوز أن يكون جمع رفقةٍ والمصدر أولى به من الجمع, وإذا جعل جمع رفقةٍ فالمعنى: لم تتعرضين الرفاق التي تصحبه أو هي له كالملك. وقوله: ولو تبعت ما طرحت قناه ... لكفك عن رذايانا وعاقا سبق إلى هذا المعنى الأولون؛ أعني اتباع الطير والوحش؛ فروي للأفوه الأودي: [الرمل] وترى الطير على آثارنا ... رأي عينٍ ثقةً أن ستمار وقد استوفى النابغة الذبياني هذا الغرض فقال: [الطويل] إذا ما غزوا بالجيش حلق فوقهم ... عصائب طيرٍ تهتدي بعصائب جوانح قد أيقن أن قبيله ... إذا ما التقى الجمعان أول غالب لهن عليهم عادة قد عرفنها ... إذا عرض الخطي فوق الكواثب ولم يبالغ أبو الطيب في هذا البيت؛ لأنه جعل الوحش تتبع الجيش لتأكل من رذاياه. والرذايا: جمع رذيةٍ, وهي الناقة التي قد حسرها السير, ولم يقل كما قال الحكمي: [المديد] تتآيا الطير غدوته ... ثقةً بالشبع من جزره وقوله: ولو سرنا إليه في طريقٍ ... من النيران لم نخف احتراقا هذه مبالغة مستقصاة في سلامة القاصد لفضل المقصود, وسعوده الغالبة.

وقوله: إمام للأئمة من قريشٍ ... إلى من يتقون له شقاقا الأئمة: جمع إمامٍ. والأصل أإمة بهمزتين فجعلت الاهمزة الثانية ياءً لانكسارها, والأم: التقدم, يقال: أمهم إذا تقدمهم, وأمهم إذا قصدهم, وإذا قلت: هذا أفعل من هذا في (أم) قلت, على قول أبي الحسن سعيد بن مسعدة: هذا أوم من هذا, وعلى قول المازني: هذا أيم. والشقاق: المعاداة. وقوله: فلا تستنكرن له ابتسامًا ... إذا فهق المكر دمًا وضاقا إذا رويت بكسر الراء في تستنكرن (118/أ) فهو خطاب لمؤنثٍ مبني على قوله: سلي عن سيرتي, وفتح الراء جائز على خروجه إلى خطاب المذكر؛ لأن البيتين متباعدان, وذلك كثير في الشعر وغيره, وفهق أي: امتلأ, يقال: فهو الحوض بالماء إذا امتلأ, وكذلك فهقت الجفنة بالطعام, قال الأعشى: [الطويل] تروح على آل المحلق جفنة ... كجابية الشيخ العراقي تفهق الجابية: الحوض الصغير, ويروى: الشيخ والسيح؛ فالشيخ: أحد الشيوخ, والسيح: الماء الجاري على وجه الأرض. وقوله: إذا أنعلن في آثار قومٍ ... وإن بعدوا جعلنهم طراقا أنعلن: يعني الخيل, يقول: إذا أنعلت خيله في طلب قومٍ أعداءٍ جعلن الأعداء طراقًا للنعال؛ أي: قتلنهم ووطئنهم بالحوافر. وطراق النعل: ما يجعل تحتها لتوقى به, فكل شيءٍ جعل تحت شيءٍ فهو طراق له. قال ذو الرمة: [الطويل] طراق الخوافي واقع فوق ريعةٍ ... سقيط الندى في ريشه يترقرق

وقوله: وإن نقع الصريخ إلى مكانٍ ... نصبن له مؤللةً دقاقا نقع الصريخ إذا ارتفع, قال الراجز: [الرجز] إذا عقيل رفعوا الرايات ... ونقع الصارخ للبيات أبوا فما يعطون شيئًا هات أراد: أبوا فما يعطون شيئًا من يقول هات. ومؤللة: أذن دقيقة الطرف, وذلك محمود في الخيل والإبل, قال الشاعر: [البسيط] يخرجن من مستطير النقع داميةً ... كأن آذانها أطراف أقلام وقال طرفة وذكر الناقة: [الطويل] مؤللتان تعرف العتق فيهما ... كسامعتي شاةٍ بحومل مفرد وإنما أراد أنها تشبه الآلة في دقة طرفها, وهي الحربة. وقوله: فكان الطعن بينهما جوابًا ... وكان اللبث بينهما فواقا الفواق: ما بين الحلبتين, يقال: فوق الرجل فصيله, والمرأة رضيعها: إذا سقته فواقًا بعد فواقٍ. يقال: فواق, وفواق بفتح الفاء وضمها, وجمع الفواق: أفوقة, قال الراجز: [الرجز] أخشى عليها رجلًا ذا معلقه ... معودًا شرب ذوات الأفوقه وقال القطامي: [الوافر]

وصاف غلامنا رجلًا عليها ... مخافة أن يفوقها رضاعا يقال: الولد رجل مع أمه إذا لم يمنع من الرضاع في حالٍ. وقوله: ملاقية نواصيها المنايا ... معاودة فوارسها العناقا يجوز في ملاقيةٍ ومعاودةٍ الرفع والنصب, فالرفع على تقدير قوله: هي ملاقية, والعناق مصدر عانق الفارس الآخر إذا أخذ كل واحد بعنق صاحبه, وذلك أشد ما يكون من القتال, وإنما يفعلون ذلك إذا أرادوا الإسار, وقد أحسن زهير في قوله: [البسيط] يطعنهم ما ارتموا حتى إذا اطعنوا ... ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا وقال الراعي: [الطويل] وكان لها في سالف الدهر فارس ... إذا ما رأى قيد المئين يعانقه يعني إذا رأى رجلًا يفدي نفسه إذا أسر بالمئين من الإبل عانقه, وقال آخر: [المتقارب] تركت النزال لأهل النزال ... وأكرهت نفسي على ابن الصعق جعلت يدي وشاحًا له ... وبعض الفوارس لا يعتنق وقال آخر: [الطويل] أعانق في القوم الكرام وأبتغي ... قيود المئين في الصباح وفي الدهم

وقوله: تبيت رماحه فوق الهوادي ... وقد ضرب العجاج لها رواقا الهوادي: جمع هادٍ, وهو العنق, قال القطامي: [البسيط] إني وإن كان قومي ليس بينهم ... وبين قومك إلا ضربة الهادي مثنٍ عليك بما استبقيت معرفتي ... وقد تعرض مني مقتل باد ويقال للهادي: هادية أيضًا, وفي الحديث: «أن ضباعة, وهي امرأة من بني عبد المطلب, ذبحت شاةً قبعث النبي صلى الله عليه وسلم إليها يسأل إن كان بقي منها شيء فقالت: مابقي منها إلا الرقبة وأنا أكره أن أبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بها, فقال: ابعثيها فإنها هادية الشاة, وهي أبعد الشاة من الأذى» واستعار الرواق هاهنا للغبار؛ لأنهم يركزون الرماح إلى رواق البيت, والهاء في لها يجوز أن تعود على الرماح, وعلى الهوادي. وقوله (118/ب): تميل كأن في الأبطال خمرًا ... عللن به اصطباحًا واغتباقا في (تميل) ضمير يعود إلى الرماح؛ أي: كأنها قد شربت خمرًا بالدم الذي يخرج من الطعن. والاصطباح: الشرب مع الصبح, والاغتباق الشرب ليلًا. وقوله: تعجبت المدام وقد حساها ... فلم يسكر وجاد فما أفاقا يقول: هذا الممدوح لا تسكره الخمر؛ لأن عقله يرتفع عن ذلك, وهو مع أنه لا تلحقه من الراح نشوة كأنه إذا جاد أخو سكرٍ لا يفيق؛ لأنهم يصفون أنفسهم ببذل أموالهم في حال الانتشاء, قال عنترة: [الكامل] وإذا شربت فإنني مستهلك ... مالي, وعرضي وافر لم يكلم

وهم يقرون بتغير العقل عند السكر. قال المنخل اليشكري: [مجزوء الكامل] وإذا شربت فإنني ... رب الخورنق والسدير وإذا صحوت فإنني ... رب الشويهة والبعير وقوله: وزنا قيمة الدهماء منه ... ووفينا القيان به الصداقا الدهماء: فرس كان أعطاها إياه, وقد ذكرها في قوله: [الطويل] وما تنكر الدهماء من رسم منزلٍ ... سقتها ضريب الشول فيه الولائد يريد أنه وهب له الفرس, فكأنه وزن قيمتها من الشعر. وقوله: ووفينا القيان به الصدقا: القيان: جمع قينةٍ, وهي الأمة, وربما خص بها المغنية. يريد أنه وهب له جواري لما مدحه فكأنه أعطاهن الصداق من الشعر, وإنما جاء بالصداق للقافية, والقيان لا يعطين صداقًا, وهذا فن يستحسن من المنظوم؛ لأن القيان إنما يشترين بالأثمان, فأكرمهن عن ذلك, وجعلهن يعطين صداقًا كالحرائر, ويقال: صداق المرأة, وصداقها, وصدقتها, وصدقتها. وقوله: وحاشى لارتياحك أن يبارى ... وللكرم الذي لك أن يباقى يقال: حاشى فلانٍ وحاشى لفلانٍ, وحاشة تتصرف, ولذلك نصبوا بها إذا فقدت اللام, قال النابغة في تصرفها: [البسيط] ولا أرى فاعلًا في الناس يشبهه ... وما أحاشي من الأقوام من أحد

وقد يخفضون بحاشى, ويقال: إن الخفض فيها على معنى اللام, يقولون: فعلوا كذا وكذا وكذا حاشاي فيجيئون بالياء, والقياس يوجب أن يقولوا حاشاني, كما يقال: راعاني, وأنشد الفراء: [الكامل] في عصبةٍ عبدوا الصليب تخشعًا ... حاشاي إني مسلم معذور معذور: أي: مختون. ويباقى: يفاعل من البقاء؛ أي: إنه طويل المدة, تزول الأشياء وهو باقٍ. وقوله: ولكنا نداعب منك قومًا ... تراجعت القروم له حقاقا يقال: لكنا ولكننا, كما يقال: إنا وإننا, وكأنا وكأننا. ونداعب من المداعبة, وهي الممازحة. والقرم: أصله في فحل الإبل, ثم وصف به الرجل الرئيس. والحقاق: جمع حق, وهو الذي قد وفى ثلاث سنين, ودخل في الرابعة, قال الشاعر: [الوافر] وأرسل مهملًا جذعًا وحقًا ... بلا جحد النبات ولا جديب وإنما قيل له: حق؛ لأنه قد استحق أن يحمل عليه, وأن يركب, وقيل للأنثى: حقة؛ لأنها استحقت أن يضربها الفحل, قال الشاعر: [الرمل] قرن الظهر إلى العصر كما ... تقرن الحقة بالحق الذكر ويقال: حقاق في الجمع, فيجوز أن يكون جمع حقةٍ وحق, قال الشاعر: [الوافر] زووها عنكم وغلت عليكم ... وأعطينا بها مائةً حقاقا فإذا قيل: حقق فهي للإناث لا غير. قال المسيب بن علس: [الكامل] قد نالني منه على عدمٍ ... مثل الفسيل صغارها الحقق

وقوله: فأبلغ حاسدي عليك أني ... كبا برق يحاول لي لحاقا كبا: أي: عثر, وإنما ذلك للخيل, وغيرها من الحيوان, فاستعاره للبرق, وزعم أنه لا يلحق, وذلك من المبالغة التي تحيل الصدق إلى الكذب. وقوله: وهل تغني الرسائل في عدو ... إذا ما لم يطن ظبًى رقاقا الظبى: جمع ظبيةٍ, وهي حد السيف, وقيل: ظبة السيف: طرفة, ويقال في الجمع: ظبون وظبين, قال الكميت (119/أ): [الوافر] يرى الراؤون في الشفرات منها ... كنار أبي الحباحب والظبينا وقوله: إذا ما الناس جربهم لبيب ... فإني قد أكلتهم وذاقا هذا البيت في غاية المبالغة, وحسن اللفظ؛ لأن الإنسان إذا أكل الشيء فقد خبر منه ما لا يخبر غيره, فجعل الذين جربوا الناس كأنهم قد ذاقوا طعامًا تفرد بأكله. والذوق: إنما يستعمل في الشيء القليل حتى إنه يقال: ذاقه بطرف لسانه, ويقال: ذاق القوس إذا مدها مدًا يسيرًا, قال الشماخ: [الطويل] وذاق فأعطته من اللين جانبًا ... كفى, ولها أن تغرق السهم حاجز وقوله: يقصر عن يمينك كل بحرٍ ... وعما لم تلقه ما ألاقا يقال: ألاق الشيء إذا أمسكه, وتلقه: يجوز أن تكون عائدةً على اليمين, وعلى الممدح, يقول: البحر يليق ماءه أي: يمسكه, ونوالك يقصر عنه ما ألاقه البحر. وقافية هذه القصيدة من المتواتر, وهو حرف متحرك بعده ساكن, فالقافية هاهنا القاف والألف على هذا القول. وعلى قول الخيل المتحرك الذي قبل الألف, ومعها القاف, والألف الثانية, والألف الأولى.

ومن التي أولها

ومن التي أولها لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي ... وللحب ما لم يبق مني وما بقي وهي من ثاني الطويل. قوله: ما يلقى الفؤاد: في موضع رفع بالابتداء, والتقدير: ما يلقى الفؤاد من أجل عينيك, وهذا الرفع هو الذي يسميه الكوفيون: خبرًا لصفةٍ؛ لأنهم يسمون حروف الخفض: حروف الصفات, ورفعه عند سعيد بن مسعدة بفعلٍ مضمرٍ كأنه قال: لعينيك حدث أو استقر ما يلقى الفؤاد. وقوله: وما كنت ممن يدخل العشق قلبه ... ولكن من يبصر جفونك يعشق من: في موضع رفع, ولكن مقدرة بعدها هاء, كأنه قال: ولكنه, وإذا دخل على من التي يجازى بها عامل لم تعمل شيئًا, فإذا قلت: إن من يأتيني آتيه؛ فجعلت من في موضع نصب لم يقع الشرط والجزاء, فإن أردت ذلك نويت إضمار الهاء, كأنك قلت: إنه من يأتني آته, وعلى ذلك أنشدوا قول الشاعر: [الخفيف] إن من يدخل الكنيسة يومًا ... يلق فيها جآذرًا وظباء كأنه قال: إنه من يدخل الكنيسة, وقال الأعشى: [الخفيف] إن من لام في هوى ابنة حسا ... ن ألمه فأعصه في الخطوب كأنه قال: إنه من لامني. وهذا البيت ينسب إلى أمية بن أبي الصلت: [الطويل] ولكن من لم يلق أمرًا يخافه ... بعدته ينزل وهو أعزل

ويروى: لا يلق, كأنه قال: ولكنه, وفي الكتاب العزيز: {إنه من يأت ربه مجرمًا}. وما يجري في ذلك مجرى من, يقول: ما تفعل أفعل, وفي التنزيل: {وما تفعلوا من خيرٍ يعلمه الله} , فإن قلت: إنما تفعله من خيرٍ تجاز عليه لم يجز الشرط والجزاء إلا على إضمار هاءٍ. وقوله: وبين الرضى والسخط والقرب والنوى ... مجال لدمع المقلة المترقوق يقال: ترقرق الدمع إذا جرى على الخد, ووزن ترقرق عند سيبويه: تفعلل, وعند صاحب كتاب العين: تفعفع, وعند الفراء, وأبي إسحاق الزجاج: تفعفل. ويقال: دمع رقراق, قال امرؤ القيس: [المتقارب] فأسبل دمعي كفيض الجمان ... أو الدر رقراقه المنحدر وقوله: وأحلى الهوى ما شك في الوصل ربه ... وفي الهجر فهو الدهر يرجو ويتقي ادعى أبو الطيب أن أحلى الهوى ما شك في الوصل ربه, وفي الهجر. وليس هذه الصفة صفة حلوٍ؛ بل هذا الفن يجب أن يوصف بالمرارة, وإنما حلاوة الهوى أن يكون سالمًا من الفراق والهجر, وقد وصفت ذلك الشعراء, قال الشاعر: [الطويل] إذ الناس ناس والأحبة جيرة ... جميع وإذ كل الزمان ربيع

وقال كثير: [الطويل] سقى الله أيامًا لنا لسن رجعًا ... إلينا وعصر الحاجبية من عصر ليالي أجررت البطالة مقودي ... تمر الليالي والشهور ولا أدري وقال كثير أيضًا في صفة تمكن المحب من هواه: [الوافر] إلا يا حبذا نفحات نجدٍ ... وريا روضه بعد القطار وأهلك إذ يحل الحي نجدًا ... وأنت على زمانك غير زار شهور ينقضين وما شعرنا ... بأنصافٍ لهن ولا سرار وقال المجنون فيما رووا: [الطويل] تعلقت ليلى وهي ذات موصدٍ ... وليدًا, ولما يبد من ثديها حجم صغيرين نرعى البهم ياليت أننا ... إلى اليوم لم نكبر ولم يكبر البهم المؤصد: مثل الأصدة, ويقال: إنها الصدرة أو نحو منها, قال الشاعر في صفة راعٍ (119/ب): [البسيط]

مثل البرام غدا في أصدةٍ خلقٍ ... لم يستعن وحوامي الموت تغشاه وقوله: وغضبى من الإدلال سكرى من الصبى ... شفعت إليها من شبابي بريق ريق الشباب: أوله, وأصله من ذوات الواو؛ لأنه إن أخذ من الروق؛ أي: الأول, أو من راق يروق إذا أعجب فكأنه من ذوات الواو, وأصله ريوق, كما أن أصل سيدٍ: سيود, فقلبت الواو ياءً. وقوله: وأشنب معسول الثنيات واضحٍ ... سترت فمي عنه فقبل مفرقي وأجياد غزلانٍ كجيدك زرنني ... فلم أتبين عاطلًا من مطوق هذان البيتان من أحسن ما قيل في العفة, وقوله: معسول الثنيات؛ أي: كأن فيه العسل, والبيت الذي أوله: وأشنب: يحتمل وجهين: أحدهما: أن يعني بأشنب شخصًا, والآخر: أن يعني فمًا. والوجه الآخر أحسن؛ لأن الشنب مقصور على الفم والأسنان, ويقال: غزال أجيد أي: طويل الجيد, قال عمر بن أبي ربيعة: [المتقارب] دعاني من بعد شيب القذال ... غزال له عنق أجيد وهذا مما تفق فيه الجيد المراد به العنق, والجيد إذا كان جمع الأجيد؛ فجاءا على لفظٍ واحدٍ, لأنك إذا قلت: هذه غزلان جيد فالجمع مساوٍ للعنق في اللفظ. وقوله: وما كل من يهوى يعف إذا خلا ... عفافي ويرضي الحب والخيل تلتقي كانت نساء العرب تفتخر بشجاعة رجالها, وتذكر أنهم إن لم يقاتلوا لم يسمحن لهم

بالوصال, ومن ذلك قول القائلة, وهو يروى لهند بنت عتبة بن ربيعة, ولا مرأةٍ من إيادٍ لما تلاقوا هم والفرس: نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق المسك في المفارق ... والدر في المخانق إن تقلبوا نعانق ... أو تدبروا نفارق فراق غير وامق وقوله: سقى الله أيام الصبا ما يسرها ... ويفعل فعل البابلي المعتق البابلي: شراب منسوب إلى بابل, وهي كلمة ليست بالعربية, وليس في كلام العرب باءان بعدهما لام, وقد استعملت العرب بابل في أشعارٍ, قال: [الكامل] هذا ورب مسوفين صبحتهم ... من خمر بابل لذةً للشارب أراد بمسوفين قومًا عطاشًا, يقال لهم: سوف تسقمون وسوف تروون. وقد جرت عادة الشعراء أن يثنوا على ما سلف من الزمان, كما يثنون على من يعقل, وقد سلك أبو الطيب في هذا البيت مسلك غيره, فدعا لأيام الصبا أن تسقى ما يسرها, وليست مما يحس, نحو من هذا الفن ذمهم الزمان, وهو لا يعلم ولا يستطيع أن يفعل حسنًا ولا قبيحًا؛ وإنما يفعلون هذه الأشياء على معنى المجاز والاتساع في اللغة, كما قالوا: نام الليل؛ لأنه ينام فيه, ولا علم لليل بنومٍ, ومن ذلك قول الشاعر: [الطويل] فإن تحدث الأيام بيني وبينها ... بذي الأثل صيفًا مثل صيفي ومربعي أسد بأعناق النوى بعد هذه ... مرائر إن جاذبنها لم تقطع إنما أراد أن يحدث في الأسام فجعل الإحداث منسوبًا إليها على السعة.

وقوله: إذا ما لبست الدهر مستمتعًا به ... تخرقت والملبوس لم يتخرق هذا البيت إذا طولب الشاعر بحسن الأدب وجب ألا يقابل الممدوح بمثله, وقد أنكر عبد الملك بن مروان على جريرٍ ما هو دون هذا, وذلك أنه لما أنشده: [الوافر] أتصحو أم فؤادك غير صاح قال له عبد الملك: بل فؤادك, أنكر عليه مخاطبته إياه بالكاف. ولا ريب أن الشاعر لم يرد بهذا إلا نفسه أو غيره من المخاطبين دون الممدوح, ولكن يكره مثل هذ خيفةً من التطير. وقوله: أدرنا عيونًا حائراتٍ كأنها ... مركبة أحداقها فوق زئبق أراد أنهم يبكون؛ فالمدمع يجول في العيون كانه زئبق فشبه به الدمع؛ لأنهم إذا وصفوا الماء بالصفاء قالوا: كأنه دموع, وأراد أن نظرهم لا يثبت لكثرة البكاء. وقوله: نودعهم والبين فينا كأنه ... قنا ابن أبي الهيجاء في قلب فيلق الفيلق: الكتيبة العظيمة كأنها تفلق هام من يحارب؛ ولذلك قيل للداهية: فلق وفلقة؛ (120/أ) لأنها كالتي تفلق الرأس, قال الأعشى: [السريع] في فيلقٍ شهباء ملمومةٍ ... تعصف بالدارع والحاسر

القنا: ليس بين واحده وجمعه فرق إلا الهاء, فإذا كان الجمع كذلك جاز أن يجمع نعته وأن يوحد, فلو قال القائل: قنًا ماضٍ قاضٍ, فوحد الصفة لكان مصيبًا, وكذلك لو قال: قنًا قواضٍ مواضٍ. وقوله: قواضٍ يجوز أن يكون رفعًا على البدل من قنا ابن أبي الهيجاء, أو إضمار هي, فيكون خبر ابتداءٍ محذوفٍ. والدروع: تنسب إلى داود, وقد نسبها بعضهم إلى سليمان على معنى الغلط, قال النابغة الذبياني: [الطويل] وكل صموتٍ نثلةٍ تبعيةٍ ... ونسج سليمٍ كل قضاء ذائل النثلة: الدرع القصيرة, وقال الحطيئة: [البسيط] وما رضيت لهم حتى رفدتهم ... من ائلٍ رهط بسطامٍ بأصرام فيه الرماح وفيه كل سابغةً ... قضاء محكمةٍ من نسج سلام بنى سليمان على فعالٍ, وجعله كالأسماء العربية. وقد نسبوا الدروع إلى فرعون, قال الشاعر: [السريع] وكل فرعونيةٍ لونها ... مثل غدير الديمة الغاديه وقد جعل أبو ذؤيب تبعًا صنعًا للسوابغ, وإنما كانت تصنع له. قال: [الكامل] وعليهما مسرودتان قضاهما ... داوود أو صنع السوابغ تبع وهذا من جنس قولهم: قتل الأمير فلانًا, وهو لم يك قتله بنفسه وإنما أمر غيره بذلك. والخدرنق: ذكر العناكب, وربما قالوا: هو العنكبوت, وفيه لغات: خدرنق وخدرق وخذرق.

وقوله: هوادٍ لأملاك البلاد كأنها ... تخير أرواح وتنتقي اللام في قوله: لأملاك الجيوش (*): في معنى إلى كأنها تهدي الفوارس إلى طعن الأملاك. وقوله: تفك عليهم كل درعٍ وجوشنٍ ... وتفري إليهم كل سورٍ وخندق الجوشن في كلام العرب: الصدر, وقد مر ذكره, وليس في كلامهم الجشن فيكون مشتقًا منه. وإن كان الجوشن من الحديد عربيًا, فاشتقاقه من الجوش, ووزنه فعلن, وتفري إذا ضمت التاء فهو قطع على جهة الإفساد, وقد قالوا: فرى في معنى أفرى, وكثر قولهم: تفري, بفتح التاء في معنى الإصلاح, قال زهير: [الكامل] ولأنت تفري ما خلقت وبعـ ... ــض القوم يخلق ثم لا يفري والسور: إذا أريد به سور المدينة: فهو مأخوذ من السورة؛ أي: الارتفاع, ومن قولهم: سار يسور إذا وثب, وبيت النابغة ينشد على وجهين: [الطويل] ألم تر أن الله أعطاك سورةً ... ترى كل ملكٍ دونها يتذبذب ومنه قولهم: رجل مسور؛ أي: ذو سورة. والخندق ليس له أصل في كلام العرب, إلا أنهم قد تكلموا به قديمًا, واحتفر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خندقًا في المدينة, قال الراجز: [الرجز] فصدهم عن لعلعٍ وبارق ... ضرب يشظيهم عن الخنادق وقال النابغة: [الوافر] فدوخت البلاد فكل قصرٍ ... يجلل خندقًا منه وحامي وليس في كلامهم الخدق, فيشتق منه الخندق, وتكون نونه زائدةً.

وقوله: يغير بها بين اللقان وواسطٍ ... ويركزها بين الفرات وجلق اللقان: اسم أعجمي, وقد وافق من العربية الفعال من: لقنت الشيء إذا فهمته وحفظته, وجلق: اسم لدمشق وبلادها, ويقال: إنه في الأصل اسم صنمٍ. وفعل: بناء قليل في كلام العرب, وقد وافق جلق لفظ قولهم: جلق رأسه: إذا حلقه. والفرات, بالتاء لا غير, وإنما ذكر ذلك, لأن كثيرًا من البادية اليوم يقولون: الفراه, بالهاء؛ وذلك على سبيل الغلط, وقد تردد الفرات في القرآن وغيره, ولم يستعمل منه فعل, ومن الدليل على أن تاءه أصلية قول الأعشى: [السريع] ما يجعل الجد الظنون الذي ... جنب صوب المسبل الماطر مثل الفراتي إذا ما طما ... يقذف بالبوصي والماهر فثبات الياء في النسب يدل على أنها أصلية, لا يجب أن يوقف عليها بالهاء. وقوله: ويرجعها حمرًا كأن صحيحها ... يبكي دمًا من رحمة المتدقق هذا من أحسن ما وصفت به الرماح, ولم يسبق إليه قائله؛ لأنه وصف أن الدماء تجري عليها وهي متدققة, كأن سالمها يبكي على ما هلك منها, وكلاهما قد وصف بجريان الدم. والكلام (*) (20/ب) المشقق: يجوز أن يريد به الذي اشتق بعضه من بعضٍ, فيكون ذلك مدحًا للكلام, وصفةً للممدوح بأن ما صعب لديه هين, فهو كالذي يلعب به, ويحتمل أن يعني بالمشقق: الكلام الذي كأنه مكسر من قولك: شققت العود, وغيره, ويكون هذا الكلام لما ينظمه الشعراء في مدحه؛ لأن ذمه لهم قد تكرر مثل قوله: والشعر تهذي طماطمه

وقوله: رأى ملك الروم ارتياحك للندى ... فقام مقام المجتدي المتملق المتملق: الذي يخضع ويلين كلامه, وهو مأخوذ من الصخرة الملقة, وهي الملساء, قال الهذلي: [الوافر] أتيح لها أقيدر ذو حشيفٍ ... إذا سامت على الملقات ساما ويقال: ملق جلده: إذا غسله, قال الراجز: [الرجز] رأت غلامًا جلده لم يملق ... بماء حمامٍ ولم يخلق وقوله: وخلى الرماح السمهرية صاغرًا ... لأدرب منه بالطعان وأحذق الرماح السمهرية: فيها قولان: بعض الناس يزعم أن ردينة كان لها زوج يقال له: سمهر, فنسبت الرماح إليه. وقال غيرهم: إنما هو من اسمهر الشيء إذا اشتد, وجاء هذا الاسم منسوبًا, كما قالوا للقوي من الإبل: قيسري, كأنه منسوب إلى قيسر, وكما قالوا للشاب: قنسري كأنه منسوب إلى قنسرٍ, قال رؤبة: [الرجز] فازجر بني النجاخة الفشوس ... عن مسمهر ليس بالفيوش وقوله: ولم يثنك الأعداء عن مهجاتهم ... بمثل خضوعٍ في كلامٍ منمق يقال: كلام منمق؛ أي: محسن, ويقال: نمق الكتاب إذا كتبه, ونظر بعض العرب إلى رجل قد كتب شيئًا, ثم محاه فقال: نمنقه ثم لمقه. واللمق عندهم من الأضداد, ويكون في معنى كتب, وفي معنى محا.

وقوله: وكنت إذا كاتبته قبل هذه ... كتبت إليه في قذال الدمستق القذال: معروف, وهو منقطع منبت الشعر في مؤخر الرأس, ويقال: قذله الحجام إذا حجمه في ذلك الموضع. والدمستق: كلمة رومية لم تستعمل في الكلام القديم, وبناؤها لم يأت في أبنية العرب لأنه فعلل, ومن شأن أصحاب التصريف إذا جاء اسم على بناءٍ لم تستعمله العرب, وفيه حرف من حروف الزيادة؛ حكموا عليه بأنه؛ وإن لم يشتق منه ما يدل على زيادة الحرف, مثال ذلك أن يقولوا في الكنهبل, وهو الشجر العظام: نونه زائدة؛ لأنه ليس في كلامهم مثل فرزدق. وقد ذهب بعض الناس إلى أن كنهبلًا بناء كل حروفه أصلية, فوزنه على هذا القول: فعلل, وفي القول الأول: فنعلل؛ فل أن الدمستق عربي وحمل على هذا القياس لكان وزنه على أحد القولين: فعلل, وعلى القول الآخر فعلتل. وقوله: فإن تعطه بعض الأمان فسائل ... وإن تعطه حد الحسام فأخلق أخلق به: في معنى ما أخلقه, أي: أجدره؛ يقال: أخلق بفلانٍ أن يفعل كذا, وهذا لفظ موضوع للتعجب, وقد حذف الباء التي جرت عادتها أن تجيء بعد هذا اللفظ كما جاء في التنزيل: {أسمع بهم وأبصر} , لما جاء بقوله: «بهم» في اللفظ الأول حذفه في الثاني, ومثل ذلك قول الكميت: [الكامل] دار التي تركتك غير ملومةٍ ... كلفًا وأرع بها عليك وأشفق وقد يحذفون الباء, وإن لم تحذف في أول الكلام, قال عروة بن الورد: [الطويل]

فذلك إن يلق المنية يلقها ... حميدًا وإن يستغن يومًا فأجدر أي: ما أجدره بالغنى. وقوله: لقد وردوا ورد القطا شفراتها ... ومروا عليها رزدقًا بعد رزدق (*) الشفرات: جمع شفرةٍ, وهي معروفة, والشفرة هاهنا: حد السيف, وكان أصلها من شفير الشيء, يقال: هو على شفير كذا؛ أي: مشرف عليه؛ كأنه واقف على آخره. والرزدق (*): الصف الممدود, وأصله فارسي معرب. ووصف أنهم وردوا السيوف وردًا متتابعًا كورد القطا الماء, ويجوز أن يكون أراد أنهم سافروا إلى السيوف حتى وردوها, كما أن القطا الوارد يجيء من البلد البعيد ليصل إلى الماء. وقوله: (21/أ) بلغت بسيف الدولة النور رتبةً ... أنرت بها ما بين غربٍ ومشرق جعل النور وصفًا لسيف الدولة على سبيل المبالغة, وذكر أنه بلغ رتبةً أنار بها ما بين الشرق والغرب, وإنما أراد علو الذكر والنباهة الكائنة بعد الخمول. وقوله: إذا شاء أن يلهو بلحية أحمقٍ ... أراه غباري ثم قال له الحق سكن واو يلهو للضرورة, كما قال الشاعر: [الطويل] أترضون أن تغزو تميم بلادكم ... بألفي كمي ذي سلاحٍ مقاتل وقوله: ويمتحن الناس الأمير برأيه ... ويغضي على علمٍ بكل ممخرق

الممخرق: كلمة مولدة, وأصلها من المخراق, وهو ثوب يفتل ويلعب به الصبيان يتضاربون به كالتضارب بالسيوف, ولذلك قال عمرو بن كلثومٍ: [الوافر] كأن سيوفنا فينا وفيهم ... مخاريق بأيدي لاعبينا وقال قيس بن الخطيم: [الطويل] أجالدهم يوم الحديقة معلمًا ... كأن يدي بالسيف مخراق لاعب ووزن مخراقٍ: مفعال, ووزن ممخرقٍ: ممفعل, وقد جاء نحو من هذا في قولهم: تمسكن الرجل, ووزن تمسكن: تمفعل, ومثله: تمدرع إذا لبس المدرعة. وقوله: وإطراق طرف العين ليس بنافعٍ ... إذا كان طرف القلب ليس بمطرق أطرق الرجل: إذا نظر إلى الأرض, واشتقاق ذلك من أنه ينظر إلى الطريق الذي يطؤه, ومن أمثالهم: «أطرق كرى أطرق كرى إن النعام في القرى» يضرب ذلك مثلًا للرجل يتكلم في موضعٍ, وفيه أحق بالكلام منه, والمعنى في ذلك أن النعام أعظم شخوصًا من الكروان, جمع كروانٍ, وكرى في المثل مراد به الكروان, ورخم على قول من قال: يا حار, وقد استعمله الفرزدق بالألف واللام, قال: [الطويل] على حين أن جربت وابيض مسحلي ... وأطرق إطراق الكرى من أحاربه وأطرقا اسم موضع, وقد جاء في شعر أبي ذؤيبٍ, قال: [المتقارب] على «أطرقا» باليات الخيا ... م إلا الثمام وإلا العصي

ومن التي أولها

ويقال: إن هذا الموضع سمي بأطرقا؛ لأن ثلاثةً عبروا فيه فأحس أحدهم نبأةً, فقال لصاحبيه: أطرقا. والله العالم بيقين الأمور. واستعار أبو الطيب الإطراق لطرف القلب, والمستعار كثير في الشعر. وقوله: إذا سعت الأعداء في كيد مجده ... سعى مجده في جده سعي محنق المجد: الشرف. قال قوم: لا يقال ماجد للرجل حتى يكون شريف الآباء, وقال قوم: بل الماجد البين الفضل في نفسه, ومنه قولهم في المثل: «في كل شجرٍ نار واستمجد المرخ والعفار». ويقال: إن المجد مأخوذ من: أمجدت الدابة إذا أكثرت علفها. والجد: الحظ, والمحنق: المغتاظ. والمعنى: أن الأعداء إذا سعت في كيد مجد هذا الممدوح سعى حظه سعي مغضبٍ يجتهد في أن يفعل فيما يستقبل أكثر مما فعل في الزمان الأول. ومن التي أولها تذكرت ما بيت العذيب وبارق ... مجر عوالينا ومجرى السوابق العذيب, وبارق: موضعان بالعراق, ويتردد ذكرهما في الشعر, قال عمرو بن كلثوم: [الطويل]

ليهنئ تراثي تغلب ابنة وائلٍ ... إذا نزلوا بين العذيب وخفان وقال: مجر العوالي؛ لأنه اكتفى بها من ذكر الرماح, وإنما تجر سافلة الرمح؛ إلا أن يطعن بالعالية فيجرها المطعون, يقال: أجررته الرمح إذا طعنه, وترك الرمح فيه, ومنه قول الحادرة: [الكامل] نبني على سنن العدو بيوتنا ... ونجر في الهيجا الرماح وندعي وقوله: وصحبة قومٍ يذبحون قنيصهم ... بفضلات ما قد كسروا في المفارق هذا البيت يستحسن, وهو غير مسبوق إليه؛ يريد أنهم قاتلوا بسيوفهم حتى تحطمت نصالها, ثم ذبحها القنيص بفضلات السيوف, وسكن ضاد فضلاتٍ, وفتحها أحسن, وهي عند الضرورة تسكن, قال الراجز: [الرجز] عل صروف الدهر أو دولاتها ... تديلنا اللمة من لماتها فتستريح النفس من زفراتها (121/ب) وقوله: وليلًا توسدنا الثوية تحته ... كأن ثراها عنبر في المرافق الثوية: موضع قريب من الكوفة, وفيه قبر زياد بن أبي سفيان, وقوله: كأن ثراها

عنبر في المرافق: يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون مدحًا للأرض؛ يريد أنها طيبة كأن ثراها عنبر. والآخر: أن يكون وصف نفسه وأصحابه بأنهم معيون, فهم لإيثارهم النزول والراحة؛ كأن ثرى الأرض عندهم عنبر, وإن كان الأمر على سوى ذلك, وقد تمنت الشعراء مباشرة تراب الأرض التي ينزل بها من يحبون, قال الشاعر: [الوافر] وددت وأبرق العيشوم أنا ... نكون معًا جميعًا في رداء أباشره وقد نديت رباه ... فألصق صحةً منه بدائي وقال آخر: [الطويل] يقر بعيني أن أرى من مكانه ... ذرى عقدات الأجرع المتقاود وأن أرد الماء الذي شربت به ... سليمى إذا ما خف من كل وارد وألصق أحشائي ببرد ترابه ... وإن كان مخلوطًا بسم الأساود وقوله: بلاد إذا زار الحسان بغيرها ... حصى تربها ثقبنه للمخانق في الفرات مواضع يكون فيها حصًى متلون يستحسن, وربما جلبه المسافرون ليتحفوا به ولدانهم؛ فبالغ أبو الطيب في صفته حتى جعل الحسان تتخذه في المخانق. وقوله: سقتني بها القطربلي مليحة ... على كاذبٍ من وعدها ضوء صادق

قطربل: كلمة أعجمية, وليس في كلام العرب لها مشبه, ولا يوجد في الشعر القديم, وإنما ذكرها المحدثون. وقوله: على كاذبٍ من وعدها ضوء صادق, ما وصف الوعد الكاذب قط بأحسن من هذه الصفة. وقوله: وأغيد يهوى نفسه كل عاقلٍ ... عفيفٍ ويهوى جسمع كل فاسق الأغيد: الذي في عنقه طول مع لينٍ وانعطافٍ, ويقال: نبت غاد؛ أي: ناعم منعطف للينه, قال كثير: [الطويل] وصفراء رعبوبٍ كأن وشاحها ... على ناعمٍ من غاب دجلة غاد فوزن غادٍ هاهنا فعل أو فعل, كأنه في الأصل غيد أو غيد, وقد وافق لفظ غادٍ من الغدو وليس منه في شيء, قال ذو الرمة: [الرجز] وفتيةٍ مثل النشاوى غيد ... قد استحلوا قسمة السجود والمسح بالأيدي على الصعيد وأصل الفسق: خروج الشيء من مكانه ومحله, ويقال: فسق السيف إذا خرج من الغمد, وفسق الرطب إذا خرج من قشره, وفسق الصبح إذا ظهر من تحت الليل, ومنه اشتقاق الفاسق من بني آدم؛ لأنه يخرج عن الشرع. وقوله: أديب إذا ما جس أوتار مزهرٍ ... بلا كل سمعٍ عن سواها بعائق وصف هذا الأغيد بأنه مغن, والمزهر: العود, ويجوز أن يكون سمي بذلك؛ لأنه كثير النقوش, فكأن نقشه الزهر, ونعته بالأدب؛ لأنه ادعى له العلم بأخبار الناس لما قال: يحدث عما بين عادٍ وبينه ... وصدغاه في خدي غلامٍ مراهق

أي: هو حديث السن, وعلمه واسع, ومعرفته بسيطة, وتلك من مبالغات الشعراء التي تخرج إلى الكذب. وقوله: وما الحسن في وجه الفتى شرفًا له ... إذا لم يكن في فعله والخلائق هذا بيت قد جمع فيه بين صدقٍ وجودةٍ وسلامة لفظٍ, فقد فضل ما قبله من الأبيات, والبيت الذي بعده, وهو قوله: وما بلد الإنسان غير الموافق ... ولا أهله الأدنون غير الأصادق هذا البيت قد ضعف بالتصريع ضعفًا بينًا, وهو كالمنقطع من معنى ما قبله, ولم تجر عادة أبي الطيب بالتصريع في غير الأوائل؛ فأما العرب فمنهم من يصرع في أول القصيدة, ومنهم من يبتدئها على غير تصريعٍ, فمما لم يصرع قول الأفوه: [الرمل] إن ترى رأسي فيه نزع ... وشواتي خلة فيها دوار وديوانه في الرواية اليمانية أربع قصائدة وقطعة, وكلها غير مصرعٍ, ومن ذلك قوله: (122/أ) [السريع] إما تري رأسي أزرى به ... مأس زمانٍ انتكاسٍ مؤوس وقوله: [البسيط] فينا معاشر لم يبنوا لقومهم ... وإن بنى قومهم ما أفسدوا عادوا وقوله: [الكامل] أضحت فريعة قد تغير بشرها ... وتجهمت بتحية القوم العدى

وقوله: [الرمل] أيها الساعي على آثارنا ... نحن من لست بسعاءٍ معه ومن العرب من صرع في أول القصيدة, وفي غيره, ومنهم امرؤ القيس؛ لأنه قال: [الطويل] قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل وقال فيها: [الطويل] أفاطم مهلًا بعض هذا التدلل وقال: [الطويل] أفاطم مهلًا بعض هذا التدلل وقال: [الطويل] ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي وهم يجيئون بذلك إذا خرجوا من وصفٍ إلى وصفٍ, والرواة تنشد قول امرئ القيس: [المتقارب] لا وأبيك ابنة العامري ... ي لا يدعي القوم أني أفر فجعله أول القصيدة, وفيها ثلاثة أبيات كلها مصرع, وهي قوله: تروح من الحي أم تبتكر ... وماذا يضرك لو تنتظر أمرخ خيامهم أم عشر ... أم القلب في إثرهم منحدر وشاقك بين الخليط الشطر ... وفيمن أقام من الحي هر وبعض الرواة يروي هذه القصيدة لرجلٍ من النمر بن قاسطٍ, وينشد في أولها: [المتقارب] أحار بن عمرو كأني خمر ... ويعدو على المرء ما يأتمر

ويقال: إن اسم الرجل ربيعة بن جشم. وقد ترك أبو زبيدٍ الطائي التصريع في أول القصيدة, فقال: [الخفيف] لمن العيس لابن أروى على طهـ ... ـر المرورى حداتهن عجال وصرع في آخر القصيدة, فقال: [الخفيف] كل شيءٍ تحتال فيه الرجال ... غير أن ليس في المنايا احتيال والمتقدمون يجعلون التصريع جنسًا واحدًا فيما أصله اعتدال النصفين, وما اختلف نصفاه فبعض المتأخرين يجعل ما أصله اعتدال النصفين إذا رددت فيه القافية مقفى, كقول طرفة: [الطويل] لخولة أطلال ببرقة ثهمد ... تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد وقول زهير: [الطويل] أمن أم أوفى دمنة لم تكلم ... بحومانة الدراج فالمتثلم ويجعل ما اختلف نصفاه إذا كررت فيه القافية مصرعًا, كقول امرئ القيس: [الطويل] ألا انعم صباحًا أيها الطلل البالي ... وهل ينعمن من كان في العصر الخالي وقوله: وجائزة دعوى المحبة والهوى ... وإن كان لا يخفى كلام المنافق المراد أن عادة بني آدم أن يظهروا المودة, وفي النفوس غيرها, إلا أن ذلك جائز؛ لأن العادة

جرت به, وادعى أن كلام المنافق ليس بخافٍ؛ وإنما يظهر نفاقه في بعض الأوقات, ورب منافقٍ اتخذه الغر صفيًا, وحسب أن الصديق المخلص. وقوله: برأي من انقادت عقيل إلى الردى ... وإشمات مخلوقٍ وإسخاط خالق لما ذكر كلام المنافق جاز أن يصل به هذا البيت؛ لأنه جعل الذين ذكروا فيه من المنافقين, وذم من أشار عليهم بذلك. وقوله: أرادوا عليا بالذي يعجز الورى ... ويوسع قتل الجحفل المتضايق الجحفل: الجيش العظيم, وقال قوم: إنما قيل له: جحفل لأن فيه خيلًا كثيرةً, والجحفلة من الفرس كالشفة من الإنسان, وقد يجوز هذا الوجه, إلا أنهم قد اتسعوا في هذه اللفظة حتى وصفوا الرجل بالجحفل؛ أي: إنه يقوم مقام الجيش, قال أوس بن حجرٍ: [الطويل] عبيد ذوي المال الكثير يرونه ... وإن كان عبدًا سيد الأمر جحفلا وقوله: ولما سقى الغيث الذي كفروا به ... سقى غيره في غير تلك البوارق يعني بكعبٍ أبا عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. والمعنى: أنه سقاهم غيثًا فأمطرهم به, وكفروا نعمه عندهم, فلما فعلوا ذلك سقاهم غيثًا هو ضد ذلك الأول؛ لأن الغيث الأول محيءٍ, والغيث الآخر مهلك مميت. وبروق الغيث المتقدم كانت البروق الدالة على المطر, وبروق الغيث المتأخر هي السيوف, وما بين الشكلين متباعد. وقوله: أتاهم بها حشو العجاجة والقنا ... سنابكها تحشو بطون الحمالق

واحد الحمالق: حملاق وقد حكي بالضم, والكسر أجود. والأحسن فيما ثبتت الألف قبل آخر حرفٍ فيه أو الواو أو الياء أن تجيء الياء في جمعه, فيقال: حملاق وحماليق, وعصفور وعصافير, وقنديل وقناديل, إلا أنهم تهاونوا بهذه الياء؛ لأنها زائدة, ولأنها في اسمٍ طال, فقالوا: مصابح في جمع مصباحٍ. قال الشاعر: [الطويل] فقد أدخل البيت المحجب تحته ... فتاة كأن الحلي منها المصابح أراد: المصابيح, وقالوا: مسمار, ومسامر, قال قيس بن الخطيم: [الطويل] فلا تجعلوا حرباتكم في صدوركم ... كما شد في عرض الرتاج المسامر وقوله: (122/ب) عوابس حلى يابس الماء حزمها ... فهن على أوساطها كالمناطق يعني بيابس الماء: العرق, وعرق الخيل يوصف بالبياض, فأما قول بشر بن أبي خازمٍ: [الوافر] تراها من يبيس الماء شهبًا ... مخالط درةٍ منها غرار فإنه عنى بيبيس الماء: الصقيع الذي يقع بالليل. وبيت أبي الطيب في غاية الصنعة؛ لأنه جعل حزم الخيل كالمناطق لها, وجعل العرق محليًا لها, وهو أبيض, فكأن الحزق مناطق حلبت بفضةٍ. وقوله: فليت أبا الهيجا يرى خلف تدمرٍ ... طوال العوالي في طوال السمالق السمالق: جمع سملقٍ, وهي الأرض البعيدة الواسعة. قال الأعشى: [الطويل] وإن امرأً أسرى إليك ودونه ... من الأرض أعلام وبيداء سملق لمحقوقة أن تستجيبي لصوته ... وأن تعلمي أن المعان موفق

وأبو الهيجاء: هو عبد الله بن حمدان والد سيف الدولة, تمنى له أن يكون حيًا فيرى ما فعل ولده بهذه القبائل وغلبه إياها. وقوله: قشير وبلعجلان فيها خفية ... كراءين في ألفاظ ألثغ ناطق البصريون يخفضون بلعجلان, وكذلك يوجب القياس, إلا أن المراد بنو العجلان, فحذفت النون, كما حذفت نون من في قول الشاعر: [المنسرح] أبلغ أبا دختنوس مألكةً ... غير الذي قد يقال ملكذب ويقال: إن أهل الكوفة يجيزون رفع العجلان في مثل هذا الموضع, يجعلونه مع ما قبله كالشيء الواحد, والراءان إذا اجتمعتا في ألفاظ من يلثغ بالراء كانتا خفيتين. وقوله: تخليهم النسوان غير فواركٍ ... وهم خلوا النسوان غير طوالق يقال: امرأة فارك إذا أبغضت زوجها, قال ذو الرمة: [الطويل] إذا الليل عن نشزٍ تجلى رمينه ... بأمثال أبصار النساء الفوارك ويقال: فركت المرأة زوجها إذا لم ترضه, وصلف الرجل امرأته إذا لم تحظ عنده, قال الشاعر: [الوافر] وقد خبرت أنك تفركيني ... وأصلفك الغداة ولا أبالي وقد جاء الفارك في صفات الرجل شاذًا, قال الراجز: [الرجز] إن العجوز فارك ضجيعها ... تنهل من غير أسى دموعها والمعنى أن نساءهم فارقنهم وهن رواغب فيهم. وخلوهن غير طوالق؛ لأنهم لم يزهدوا في صحبتهن, وهذا المعنى متردد في الشعر القديم, قال الشاعر: [الطويل]

وأرملةٍ تسعى بنعلين طلقت ... وأرماحنا آذنها بطلاق يريد أنهم فرقوا بينها وبين زوجها فكأن أرماحهم حكمت عليها بطلاقٍ. وقال آخر: [الطويل] وكلبيةٍ قط طلقتها رماحنا ... تلفت كالصيداء أودى جنينها وقوله: أتى الظعن حتى ما يطير رشاشه ... من الخيل إلا في نحور العواتق يقال: ظعن وظعن, بضم الظاء وفتحها؛ فإذا قيل: ظعن فهو جمع ظعينةٍ, مثل: سفينةٍ وسفنٍ, وإذا قيل للنساء الظاعنات: ظعن, فهو مصدر نعت به, والمعنى: ذوات ظعنٍ, كما يقال: نسوة زور؛ أي ذوات زيارةٍ, قال الراجز: [الرجز] كأنهن فتيات زور ... أو بقرات بينهن ثور والهاء في رشاشه عائدة على الظعن, ورشاشه ما تطاير منه, شبه برشاش المطر, وهذا نحو قوله في الأخرى: ظعائن طال ما سارت هوادجها ... منيعةً بين مطعونٍ ومضروب وهذا, وإن شابه المعنى الأول, فهو ضد له, لأن الأول ذم, وهذا مدح. والعاتق: جمع عاتقٍ وهي الجارية قد آن أن تزوج, شبهت بالفرخ العاتق الذي قد نبت ريشه, وآن له أن يطير, وقيل: العاتق: التي تقيم في بيت أبيها بعد بلوغها, أخذت من عتق الشيء إذا تقدم, قال أوس بن حجرٍ: [الطويل] علي ألية عتقت قديمًا ... فليس لها وإن سلفت غرام وقوله: بكل فلاةٍ تنكر الإنس أرضها ... ظعائن حمر الحلي حمر الأيانق

هذا مثل قوله: حمر الحلى والمطايا والجلابيب وأيانق: جمع؛ لأنهم قالوا: ناقة وأنوق, فكان الواجب أن يقولوا: أناوق فمالوا إلى الياء؛ لأنها أخف, وقال قوم: قلبوا أنوقًا فقالوا: أنقٍ؛ لأن الواو وقعت طرفًا وكان الأصل (أنقو) فقلبت إلى الياء, كما قالوا في جمع دلو: أدلٍ, والأصل أدلو, ثم قدموا الياء التي في آخر الكلمة إلى أولها فجعلوها بعد الهمزة؛ فوزن (123/أ) أيانق على هذا القياس: أعافل. وظعائن: مرفوعة بالابتداء على رأي البصريين, والخبر مقدم, كأنه قال: ظعائن في كل أرضٍ, ومذهب سعيد بن مسعدة أن ظعائن مرفوع بفعل مضمرٍ؛ لأنه كذلك يقول في مثل قولهم: عندك رجل, فالمعنى: عندك حل رجل أو استقر أو نحو ذلك, والكوفيون يسمون هذا الفن خبر الصفة؛ لأنهم يسمون حروف الخفض الصفات. وقوله: وملمومة سيفية ربعية ... تصيح الحصى فيها صياح اللقالق ملمومة: أي: كتيبة قد لم بعضها إلى بعض, وسيفية: نسبها إلى سيف الدولة, وربعية منسبوبة إلى ربيعة الفرس, وسيف الدولة من تغلب ابنة وائلٍ, وهي ترجع إلى ربيعة. واللقالق: جمع لقلقٍ, وهو طائر. وقيل: إنه الذي يقال له: أبو حديجٍ. واللقلقة: كل صوتٍ رفع. وفي الحديث: «من وقي شر لقلقه وقبقبه وذبذبه فقد وقي». يعني باللقلق اللسان, وبالقبقب البطن, وبالذبذب الفرج, وقيل: إن أعرابية قالت لبعلها: [مجزوء الرجز] يا حبذا ذباذبك ... إذ الشباب غالبك

فقال: يا حبذا مقرنفطك ... إذ أنا لا أفرطك والمقرنفط: المجتمع المتقبض. وقوله: بعيدة أطراف القنا من أصوله ... قريبة بين البيض غبر اليلامق اليلامق: جمع يلمقٍ, وأصله فارسي معرب, وهو القباء المحشو, وقيل: أصله بالفارسية يلمه, وقد استعملته العرب, قال جرير: [الكامل] سائل بني بكرٍ إذا لاقيتهم ... والأسد إذ ندبوا لنا مسعودا فأتاهم عشرون ألف مدججٍ ... متسربلين يلامقًا وسرودا وقوله: قريبة بين البيض: يعني بيضة الحديد أي: الفوارس تتقارب رؤوسهم لعظم الكتيبة وضيق ما تسلك فيه, وإن كان فضاءً رحبًا. ووصف القنا بالطول وتباعد أطرافه من أسافله؛ لأن الفارس إذا طالت قناته كان حملها أصعب من حمل ما قصر من الرماح, وهم يفتخرون بالرمح الطويل, قال الشاعر: [الوافر] لعمرك ما رماح بني قشيرٍ ... بطائشة الصدور ولا قصار والأجود خفض بين بإضافة قريبة إليه, ويجوز النصب على تقدير ما, والآية تقرأ على وجهين: {لقد تقطع بينكم} , بالرفع, و «بينكم» بالنصب, فإذانصبت فهي ظرف, ويجب أن يكون ما على هذا الوجه نكرةً كثر استعمالهم في هذا الموضع. وهذا البيت ينشد رفعًا ونصبًا: [الطويل] يديرونني عن سالمٍ وأديرهم ... وجلدة بين العين والأنف سالم

وإنما قيل لبيضة الحديد: بيضة؛ لأنها شبهت ببيضة النعامة, قال أوس بن حجرٍ: [الطويل] كأن نعام السي باض عليهم ... وقد جعجعوا بين الإناخة والحبس وقال النابغة: [الوافر] فصبحهم بها صهباء صرفًا ... كأن رؤوسهم بيض النعام وقوله: نهاها وأعناها عن النهب جوده ... فما تبتغي إلا حماة الحقائق الحقائق: جمع حقيقةٍ, وهي ما يحق على الرجل أن يحميه من الأشياء, وقال قوم: الحقائق: جمع حقيقةٍ, وهي الراية؛ لأنها إذا لم تحم فالجيش هزيم. وفي هذا شبه من قول عنترة: [الكامل] يخبرك من شهد الوقائع أنني ... أغشى الوغى وأعف عند المغنم إلا أن العبسي وصف نفسه بالقتال, ونزهها عن الرغبة في الغنيمة, وأبو الطيب لم يصف الجنود بالعفة عن المغنم, وإنما ذكر أن صاحب الجيش أغناهم بالجود عن النهاب. وقوله: توهمها الأعراب سورة مترفٍ ... تذكره البيداء ظل السرادق السورة: الوثبة. والمترف: المتنعم. أراد أنهم ظنوا أن سيف الدولة إذا سار في البيداء, وظهر للشمس تذكر ظل السرادق, والسرادق: ما حول الفسطاط, ويقال لما حول البناء: سرادق. وليس أصله بعربي, وقد يقال للغبار: سرادق, وإذا قيل للغبار ذلك جاز أن يجعل السرادق الدخان في قوله تعالى: {أحاط بهم سرادقها} ومن أبيات المعاني: [الطويل] ولما ركبنا صعبها وذلولها ... إلى أن توارت تحت ظل السرادق رمتنا بفلذٍ من سرارة قلبها ... فطفنا به من بين حاسٍ وذائق

توارت: يعني الشمس, وذكروا أن السرادق هاهنا: الغبار. والهاء في صعبها وذلولها (123/ب) راجعة على أرض سلكوها. وعنى بالفلذ شيئًا من ماءٍ قليلًا. والسرارة أكرم موضعٍ في الوادي, فطافوا بهذا الماء القليل؛ فمنهم من حسا حسوةً, ومنهم من لم يصل إلى الحسوة فذاقه باللسان. وقوله: فذكرتهم بالماء ساعة غبرت ... سماوة كلبٍ في أنوف الحزائق يعني أنه ذكر البادية بالماء؛ وذلك أنه طردهم حتى حصلوا بالسماوة, وهي قليلة الماء فاشتد بهم الظمأ. والحزائق: جمع حزيقةٍ, وهي الجماعة من الناس. وقوله: وكانوا يروعون الملوك بأن بدوا ... وأن نبتت في الماء نبت الغلافق الغلافق: جمع غلفقٍ, وربما عبروا عنه بأنه الطحلب, وقيل: الغلفق: ما سقط في الماء من ورق الشجر, ومنه قول أبي كبيرٍ الهذلي: [الكامل] فصدت عنه ظامئًا وتركته ... يهتز غلفقه كأن لم يكشف وقوله: فهاجوك أهدى في الفلا من نجومه ... وأبدى بيوتًا من أداحي النقانق هاجوك: أي: حملوك على أن طردتهم, فوجدوك أهدى في الفلا من النجوم؛ لأن الذين يسرون بالليل إنما يهتدون بالنجم في المفاوز البعيدة, ويذكرون الهداية بالفرقد والجدي وسهيلٍ وغيرهن من النجوم, قال الراجز: [الرجز] قلت له والجدي تحت الفرقد ... إنك إن لم تزجها بالفدفد لا ترد الأمواه إلا من غد وقال آخر: [الرجز]

لوح خليك الأداوى والنجم ... وطول تخويد المطي والسعم أراد أنهم يهتدون بالنجم فقد غير جسومهم ذلك. والسعم: ضرب من سير الإبل, وهذا الرجز ينشد على وجهين: منهم من يسكن الجيم في النجم, والعين في السعم, ومنهم من يحرك الحرفين. وأبدى: أفعل من قولهم: بدا القوم إذا صاروا باديةً, والأداحي: جمع أدحي, وهو حيث يبيض النعام. وإذا كانت هذه الياء مشددةً في الجمع كقولك: أمنية وأماني, وأوقية وأواقي, ولا اختلاف في أن التخفيف جائز في الشعر, قال مالك بن الريب: [الطويل] فيا زيد عللنا بمن يسكن الغضا ... وإن لم يكن يا زيد إلا أمانيا ويقال: إن يزيد بن القعقاع قرأ: {ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني} , بتخفيف الياء, قال كثير: [الطويل] فمازلت أبغي الظعن حتى كأنهم ... أواقي سدى تغتالهن الحوائك فخفف ياء الأواقي. والبصريون يروون بيت زهير بتخفيف ياء الأثافي: [الطويل] أثافي سفعًا في معرس مرجلٍ ... ونؤيًا كجذم الحوض لم يتثلم والكوفيون يروونها بالتشديد. وبيت عدي بن زيدٍ ينشد على وجهين: [الخفيف] لم يعبه إلا الأداحي وقد وبـ ... بر بعض الرئال في الأفلاق ومنهم من يروى: إلا الأداحي قد وبر. والنقانق: جمع نقنقٍ ونقنقةٍ, وهو الظليم, والنعامة, وإنما قيل لهما ذلك؛ لأن النقنقة من أصواتهما. ولا يبيض النعام إلا في بلد بعيدٍ من الأنيس؛ فجعل بيوت هذا الممدوح أبدى من أداحي النعام, التي تختار لبيضعها ورئالها ما أقفر من البلاد.

وقوله: وأصبر عن أمواهه من ضبابه ... وآلف منها مقلةً للودائق الضب: يوصف بأنه لا يشرب الماء. ومما تذكره العرب على معنى الأمثال أنهم يقولون: «قال النون للضب: رد, فقال الضب: [مجزوء الرجز] أصبح قلبي صردا ... لا يشتهي أن يردا إلا عرادًا عردا ... وصليانًا بردا وعنكثًا ملتبدا» الصرد: البارد, والعراد: ضرب من الحمض, والصليان نبت تأكله الإبل وحمير الوحش. ومن أمثالهم في اليمين يحلفها الرجل مسارعًا: «جذها جذ العير الصليانة» والعنكث: قيل: هو عروق نبتٍ؛ ولذلك وصفوا الضب بأنه يألف قفار الأرض إذ كان غنيًا عن الماء, وحكى بعض من يصيد الضباب أنهم يجدون في بطن الضب شيئًا على نحو الشكية لا يزال فيه شيء مثل الماء, وقال الشاعر: [البسيط] وليس يألف شكلي شكلها أبدًا ... حتى يؤلف بين الضب والحوت الحوت في اللجة الخضراء مسكنه ... والضب يسكن في البيد الأماليت (24/أ) والودائق: جمع وديقةٍ, وهي حين تدنو الشمس من الأرض, يقال: ودق الشيء من الشيء إذا دنا, قال ذو الرمة: [البسيط] كانت إذا ودقت أمثالهن لها ... فبعضهن عن الألاف مشتعب ويجوز أن يكون سمي المطر ودقًا؛ لأن قطره يدنو من الأرض؛ لأن الاشتقاق يدل على ذلك.

وقوله: وكان هديرًا من فحولٍ تركتها ... مهلبة الأذناب خرس الشقاشق قوله: وكان هديرًا؛ أي: كان العصيان الذي أجروا إليه هديرًا من فحول إبلٍ. والفحل إنما يهدر إذا صال أو أراد الصيال, ومن شأنه إذا هم بذلك أن يرفع ذنبه ويظهر شقشقته. فهذا الممدوح قد جعل الأذناب مهلبةً؛ أي: قد أخذ هلب أذنابها, وهو شعرها, وأخرس شقاشقها, والشقاشق: جمع شقشقةٍ, وهي شيء يخرجه البعير العربي من فمه, قال الراجز: [الرجز] وهو إذا جرجر بعد الهب ... جرجر في شقشقةٍ كالحب وهامةٍ كالمرجل المنكب وقال الآخر: [الرجز] أرسل فيها قطمًا لم يقفر ... يخرج بين مشفرٍ ومشفر شقشقةً مثل الجراب الأوفر ... في جنبها وهي كعين الأعور وقوله: فما حرموا بالركض خيلك راحةً ... ولكن كفاها البر قطع الشواهق يقول: هؤلاء القوم لم يحرموا بالركض خيلك راحةً؛ لأنك ركضتها في السهول, وكنت إذا غزوت الروم ركضتها في الجبال الشاهقة, وركضها فيما سهل من الأرض أقل مشقةً من ذلك, ويقال: جبل شاهق؛ أي مرتفع في السماء, ومنه شهيق الإنسان؛ لأنه نفس متعالٍ. وقوله: ولاشغلوا صم القنا بقلوبهم ... عن الذكر لكن عن قلوب الدماسق الدماسق: جمع دمستقٍ, وقد مضى القول: إنه لا مثال له في العربية, ولما قال النحويون في تصغير فرزدقٍ: فريزد, وأجازوا فريزقًا بحذف الدال, واحتجوا بأن حذفها حسن؛ لأن الدال

تشبه التاء, والتاء من حروف الزوائد, كان حذف التاء في دمستقٍ واجبًا لا يجوز غيره. وقوله: ألم يحذروا مسخ الذي يمسخ العدى ... ويجعل أيدي الأسد أيدي الخرانق يقول: ألم يخش هؤلاء العرب مسخ هذا الممدوح؛ الذي إذا حارب مسخ الأسد خرانق, وهي جمع خرنقٍ, وهي الصغيرة من أولاد الأرانب. والأرنب توصف بلين المس, وفي كلام بعض النساء المذكورات في حديث أم زرعٍ: [الرجز] المس مس أرنب ... والريح ريح زرنب أغلبه والناس يغب تصف زوجها بذلك. والزرنب: طيب من طيب البادية, وينشد لأعرابي يخاطب ابنه: [الرجز] يا بأبي أنت وفوك الأشنب ... كأنما ذر عليه زرنب أو زنجبيل عاتق مطيب وسكن أبو الطيب ياء أيدي في موضعين, وذلك جائز في الضرورة, وقلما يجتمع تسكين هذه الياء مرتين في بيتٍ واحدٍ, قال الراجز: [الرجز] كأن أيديهن بالقاع القرق ... أيدي جوارٍ يتعاطين الورق يريد أن هؤلاء الجواري بنات قومٍ أغنياء, فهن يلعبن بالفضة وأيديهن مخضبات؛ يريد أن أيدي العيس قد دميت من السير فشبه أيديها بأيدي جوارٍ مختضباتٍ. وقوله: تعود ألا تقضم الحب خيله ... إذا الهام لم ترفع جنوب العلائق زعم أن هذا الممدوح لا تقضم خيله الحب؛ أي: الشعير - والقضم أكل الشيء اليابس -

إلا أن ترفع الهام جنوب العلائق: جمع عليقةٍ وعليقٍ, وهو ما يعلق على الفرس من العلف. وذكر أنه يجعل الهام كالمعالف؛ لأن المعالف يكون فوقه عليق الفرس. ويجوز: يرفع وترفع, وقد مضى القول في الجمع الذي بينه وبين واحده الهاء, وأن تذكيره وتأنيثه جائزان, وفي التنزيل: {أعجاز نخلٍ خاويةٍ} , {أعجاز نخلٍ منقعرٍ}. وقوله: ولا ترد الغدران إلا وماؤها ... من الدم كالريحن تحت الشقائق الماء يوصف بالسواد, ومن أسمائه: سويد, وبالزرقة. وإنما يوصف بالخضرة ماء البحر, فيقال: البحر الأخضر. والناس يخصون بالريحان ضربًا من النبت, وهو معروف؛ فأما أهل العلم فيجيزون أن يقع الريحان على كل نبتٍ طيب الرائحة, حتى اجازوا أني قال لولد الرجل: ريحان, وكذلك لامرأته, والحسن والحسين - صلى الله عليهما - ريحانتا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي كلام لخالد بن صفوان, يقوله للسفاح: عندك ريحانة من ريحان بني مخزومٍ, يعني امرأته. وينبغي أنيحمل بيت أبي الطيب على أنه أراد بالريحان أزهارًا بيضًا تشابه الماء في بعض الأحوال. وقد يجوز أن يقال للورد (124/ب) الأبيض: ريحان. وقوله: لوفد نميرٍ كان أرشد منهم ... وقد طردوا الأظعان طرد الوسائق

يعني بالأظعان: النساء في الهوادج, والوسائق: جمع وسيقةٍ, وهي الطريدة, قال عوف ابن الأحوص: [الوافر] ألم أظلف عن الشعراء عرضي ... كما ظلف الوسيقة بالكراع الوسيقة: ما طرد, ويقال: إن الطريد من الوحش يختار السلوك في الغلظ من الأرض لئلا يؤخذ أثره. وأصل الظعينة: الهودج, وبه سميت المرأة ظعينةً لركوبها فيه. وقد سمى طفيل الغنوي سرير الميت ظعنًا, فقال: [البسيط] حتى يقال وقد عوليت في ظعنٍ ... أين ابن عوفٍ أبو قران مجعول وقوله: تصيب المجانيق العظام بكفه ... دقائق قد أعيت قسي البنادق المجانيق: جمع منجنيقٍ, قال جرير في استعمال العرب المنجنيق: [البسيط] يلقى الزلازل أقوام دلفت لهم ... بالمنجنيق وصكًا بالملاطيس وعند قوم أن ميم منجنيق أصلية, وأن نونها زائدة, يدل على زيادتها حذفها في الجمع, والقياس لا يمنع أن تكون الميم زائدةً؛ لأنك إذا حذفت النون رجع الأصل إلى مجنقٍ, والميم كثيرة الزيادة في مفعلٍ حتى أوجب ذلك أن يحكم عليها بالزيادة كما يحكم على همزة أفعل, وقد روي في بعض كلام العرب ما يدل على أن الميم زائدة؛ لأن بعضهم قال: «كانت بيننا حروب عون, تفقأ فيها العيون, تجنق تارةً, وترشق أخرى». ووصف الشاعر الممدوح بأنه لطيف الحيلة يصيب بحجر المنجنيق, للطف رأيه, ما لا تصيبه

ومن التي أولها

البندقة التي تخرج من قوس البندق, وإنما سميت قوس البندق؛ لأن ما يرمى عنها في مقدار البندق من الثمر, وهو كلمة لا أصل لها في العربية, ولم ينطقوا بالبدق فيحكم على أن النون زائدة. وحكى ابن سعدٍ, رواية أبي الطيب, أنه سئل عن أي القصيدتين أفضل: أهذه أم التي على الراء, وهي قوله في هذه الوقعة: [الوافر] طوال قنًا تطاعنها قصار ... ...................... فقال - يعني القافية -: هذه اختياري, وتلك اختيار سيف الدولة. وقافية هذه القصيدة من المتدارك, وهو حرفان متحركات بعدهما ساكن, كأنه رقي, من بارق, والقافية على رأي الخليل في هذا البيت, وفي القصيدة كلها من آخر ساكن في البيت إلى أول ساكنٍ يليه مع المتحرك قبل الساكن؛ فالقافية عنده: بارقي, وابقي, من السوابق؛ مرةً تكون الكلمة تامةً, ومرةً منقطعةً, وعند سعيد بن مسعدة أن القافية الكلمة بأسرها. ومن التي أولها أتراها لكثرة العشاق ... تحسب الدمع خلقةً في المآقي وزنها من أول الخفيف. والعشاق: جمع عاشقٍ, وقال بعضهم: اشتقاق العاشق من العشقة, وهي نبت يصفر فشبهوا العاشق بها لصفرته. والمآقي: جمع مأقٍ على مثال مأوٍ, وهو على ذا القول مفعل, وقد مر ذكره. وقوله: كيف ترثي التي ترى كل جفنٍ ... راءها غير جفنها غير راق يقال: رأى وراء على القلب, كما قالوا: ناء ونأى إذا بعد, قال الشاعر: [الوافر] عليل راء رؤيا فهو يهذي ... بما قد راء منها في المنام ووزن رأى: فعل, ووزن راء في الأصل: فلع, والموجود منه فلع؛ لأن همزة رأى عين,

وكثر استعمال رأى في الكلام حتى قالوا: أريت يا رجل؟ وهم يريدون همزة الاستفهام, قال الشاعر: [الخفيف] صاح هل ريت أو سمعت براعٍ ... رد في الضرع ما قرى في الحلاب وقالوا: را, فجاؤوا بها على حرفين, وزنهما فل؛ لأنها فاء الفعل ولامه, قال الشاعر: [الوافر] ومن را مثل معدان بن ليلى ... إذا ما النسع جال على المطيه وقالت هند بنة عتبة: [مجزوء الكامل] من عاين الأخوين كالـ ... ـغصنين أم من راهما وأصل رقأ الدم الهمز, ولزمه تخفيفه في هذا البيت, وإذا كان التخفيف والحذف في القافية فهو أحسن منه في حشو البيت؛ لأن القوافي مواضع الحذف؛ ألا ترى أنهم يخففون المشدد في القوافي المقيدة ولا يتهيبون ذلك, وهو كثير جدًا, وتخفيفه على ثلاثة (125/أ) أضربٍ: منه ما يحدف منه حرف متحرك لا غير, كما قال الشاعر: [الرمل] سألتني جارتي عن أمتي ... وكذا من عي بالأمر سأل سألتني عن أناسٍ هلكوا ... شرب الدهر عليهم وأكل أنشد الناس ولا أنشدهم ... إنما ينشد من كان أضل فهذا حذف لام أضل الآخرة. ومنه ما يحذف منه حرف متحرك وتنوين, كقول امرئ القيس: [المتقارب]

إذا ركبوا الخيل واستلأموا ... تحرقت الأرض واليوم قر ومنه ما يحذف منه حرف متحرك وياء, كقول لبيدٍ: [الرمل] يلمس الأحلاس في منزله ... بيديه كاليهودي المصل أراد المصلي. وقد جاء حذف رابع هو أشد من هذه الضروب, وهو أن يحذف المتحرك وألف بعده, كما قال: [الرمل] وقبيل من لكيزٍ حاضر ... رهط مرجومٍ ورهط ابن المعل وقال جرير في همز رقأ الدمع: [الطويل] بكى دوبل لا أرقأ الله دمعه ... ألا إنما يبكي من الذل دوبل وإنما سهل عليهم التخفيف أنهم يقفون على آخر الكلمة فيسكنونه, فإذا كان ما قبل الهمزة مفتوحًا جعلوها ألفًا, فقالوا في رقأ: رقا, وإذا كان ما قبلها مكسورًا جعلوها ياءً, فقالوا في يرقئ, يرقي, وفي راقئٍ: راقٍ. والمعنى أن هذه المرأة ترى كل جفنٍ رآها باكيًا غير جفنها فهي لا ترثي لأحدٍ. وقوله: أنت منا فتنت نفسك لكنـ ... نك عوفيت من ضنى واشتياق قوله: أنت منا؛ أي: أنت عاشقة نفسك, فقد ساويت غيرك في محبتك؛ إلا أنك معافاة من ضنى المحبين, وشوقهم إليك, وفتنت نفسك؛ أي: أحللت بها فتنةً, وأصل الفتن: قلب الشيء عما هو عليه.

وقوله: لو عدا عنك غير هجرك بعد ... لأرار الرسيم مخ المناقي يقال: مخ رار ورير ورير, وهو مخ الهزيل, ويدعى على الرجل فيقال: أرار الله مخه؛ أي: أذابه. قال الشاعر يخاطب ناقةً: [الوافر] أرار الله مخك في السلامى ... على من بالحنين تعولينا والسلامى: عظام الرجل, وآخر ما يبقى المخ في السلامى, وفي العين. قال الراجز: [السريع] لا يشتكين عملًا ما أنقين ... مادام مخ في سلامى أو عين والمعنى: لو أن الذي يبعدك منا شيء غير الهجر؛ يعني الأرض البعيدة؛ لأعملنا العيس إليك حتى يصير السير مخها ريرًا. والمناقي: جمع منقيةٍ, وهي السمينة, وربما قالوا: المنقية ذات النقي وهو المخ, والمعنى متقارب؛ لأن السمين لا يعدم نقيًا, والمنقي لا يعدم سمنًا. وقوله: ولسرنا ولو وصلنا عليها ... مثل أنفاسنا على الأرماق فهذا معنى يجوز أن يكون قائله لم يسبق إليه. والرمق: بقية النفس. يقول: لو أن المسير إليك ينفعنا عندك لسرنا ونحن على ظهور إبلنا, ولو صرنا كالأنفاس على الأرماق. والنفس يصعب إذا كان الإنسان في الرمق. وقوله: ما بنا من هوى العيون اللواتي ... لون أشفارهن لون الحداق الحداق: جمع حدقةٍ, وإنما قيل لها: حدقة؛ لأن ما حولها يحدق بها, يقال: حدقوا بالرجل, وأحدقوا إذا أطافوا به, قال الشاعر: [الوافر] ولما أحدقوا بي واستكفوا ... وإن ناديت ثم فلن أجابا

وقال الأخطل: [البسيط] المنعمون بنو حربٍ وقد حدقت ... بي المنية واستبطأت أنصاري هذا استفهام معناه معنى التعجب, كأنه قال: أي شيء بنا من هوى العيون, أي ما أعظمه وأكثره! ولو أنه استفهام خالص لبطل المعنى المقصود؛ لأن الإنسان لا يستفهم عما هو به عارف, ولو كانت (ما) في معنى الذي لكان المعنى صحيحًا, ولم يكن في البيت مبالغة. والأشفار: جمع شفرٍ, وهو الذي عليه هدب الأجفان, وكأن شفر الشيء آخره وطرفه, ومن ذلك قولهم: شفرة السيف؛ لأنها منتهى صفحه, وهو على شفيرٍ؛ أي: على آخر مكانٍ عالٍ, والمراد: أن هذه العيون أشفارها سود كسواد حداقها. وقوله: قصرت مدة الليالي المواضي ... فأطالت بها الليالي البواقي يقول: كانت ليالينا في زمان قربها قصارًا, فلما كان البعد طالت الليالي التي كانت في قربها قصيرةً, وهذا معنى كثير التردد (125/ب) , إلا أن لفظ أبي الطيب له مزية على سواه, وليس بخافٍ أن بيت أبي الطيب أشرف من قول الآخر: [السريع] ليلي كما شاءت فإن لم تزر ... طال وإن زارت فليلي قصير وفي قصرت ضمير يعود إلى الموصوفة, وكذلك في قوله: أطالت. وقوله: كاثرت نائل الأمير من الما ... ل بما نولت من الإيراق الإيراق: هاهنا يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون من قولهم: أورق الصائد إذا لم يصد شيئًا, وأورق طالب الحاجة إذا

لم يصل إليها, وأصل ذلك أن الصائد إذا خاب جمع ورق شجرٍ في مخلاته كأنه يريده لبهيمةٍ يملكها أو لغير ذلك مما يحتاج إليه بنو آدم. فيكون المعنى أن هذه المذكورة كاثرت نائل الأمير بضده؛ لأنه جواد, وهي بخيلة, فعطاؤه يعم وعطاؤها لا يوصل إليه. والآخر أن يكون من قولهم: أرق الرجل وأرقه غيره إذا أسهره؛ فيكون المعنى أن إيراقها للناس؛ أي: منعها إياهم من النوم كثير جدًا تكاثر به نائل الأمير, وكلا الوجهين حسن. وقوله: طاعن الطعنة التي تطعن الفيـ ... ـلق بالذعر والدم المهراق الأجود تحريك الهاء في المهراق. يقال: أرقت الماء وهرقته, والأصل الهمز فأبدلوا من الهمزة هاءً لقتارب المجريين, قال امرؤ القيس: [الطويل] وإن شفائي عبرة مهراقة ووزن مهراقٍ مهفعل في الأصل وموجوده مهفعل, والذين قالوا: مهراق, بسكون الهاء, يزعم النحويون أنهم جعلوا الهاء عوضًا من اعتلال العين, وقالوا للفاعل: مهريق, قال الشاعر, وهو العديل بن الفرخ العجلي: [الطويل] فكنت كمهريق الذي في سقائه ... لرقراق آلٍ فوق رابيةٍ صلد والمعنى: أن هذا المذكور يطعن الطعنة فتهول من يراها لسعتها وما تهريقه من الدم, وهذا الغرض يشاكه غرضه في قوله: [الخفيف] ما مضوا لم يقاتلوك ولكن ... ن القتال الذي كفاك القتالا

وقوله: ذات فرغٍ كأنها في حشى المخـ ... ـبر عنها من شدة الإطراق المراد أن هذه الطعنة إذا سمع بها المخبر عنها ظن أنها في حشاه؛ فاتصل إطراقه إلى الأرض, ويجوز أن يكون الإطراق هاهنا ليس من إطراق العين, ولكنه إلقاء نفسه في الطريق كأنه قد غشي عليه. وقوله: فوق شقاء للأشق مجال ... بين أرساغها وبين الصفاف الأشق: هاهنا فرس متباعد ما بين القوائم, وهم يحمدون ذلك في الخيل. وروى أصحاب الأخبار أن جيشًا من العرب غزا, فهزم, فجاء شيخ من الفل, فاجتمع إليه جواري الحي يسألنه عن أخبار آبائهن, فقال: أخبرنني عن خيل آبائكن أخبركن عنهم, فقالت إحداهن: كان أبي على شقاء مقاء طويلة الأنقاء, تمطق أنثياها بالعرق تمطق الشيخ بالمرق, فقال: سلم أبوك. تعني بالأنثيين: الأذنين. تريد أن العرق يخرج منهما قليلًا قليلًا؛ لأن العرق إذا كثر لم يحمد, وكذلك إذا أفرط في القلة. وقد مضى ذكر ذلك مع تمام الخبر فيما تقدم. وقد أسرف أبو الطيب في هذا البيت؛ لأنه جعل الأشف من الخيل له بين أرساغ هذه الفرس وصفاقها مجال, والصفاق جلد تحت الجلد الأعلى, أو لحم رقيق, وإنما جاء به للقافية, وهذا كذب لا يجوز أن يكون مثله ولا فائدة فيه. وقوله: همه في ذوي الأسنة لا فيـ ... ـها وأطرافها له كالنطاق يقول: هذا الفارس همه في قتل ذوي الأسنة, ولا يحفل بأن أطرافها مطيفة بخصره, فقد صارت كالنطاق. وقوله: ثاقب العقل ثابت الحلم لا يقـ ... ـدر أمر له على إقلاق ثاقب العقل: أي: إذا أبهمت الأمور, ولم يكن منفذ؛ فعقله يجعل لها منافذ. والثاقب: في القرآن يفسر على وجهين: قيل: المضيء, وقيل: المرتفع, وإنما قيل

للمضيء: ثاقب؛ لأنه كالذي يثقب في الظلمة ثقبًا, وكذلك ثقبت النار إذا ظهر ضوؤها؛ لأنهم كانوا يوقدونها في الظلام, ثم قالوا: حسب ثاقب؛ أي: مضيء. وقوله (126/أ): بعثوا الرعب في قلوب الأعادي ... فكأن القتال قبل التلاقي هذا مقارب قول أبي تمام: [البسيط] لم يرم قومًا ولم ينهد إلى بلدٍ ... إلا تقدمه جيش من الرعب وقوله: وإذا أشفق الفوارس من وقـ ... ـع القنا أشفقوا من الإشفاق هذه مبالغة لطيفة, وهو يشبه قولهم: فلان قد تاب من التوبة, وكذلك هؤلاء القوم إذا أشفق الفوارس من لقاء الرماح أشفقوا من أن يكونوا مشفقين من وقع القنا كغيرهم من الناس. وقوله: كل ذمرٍ يزيد في الموت حسنًا ... كبدورٍ تمامها في المحاق الذمر: الشجاع, وهو من قولهم: ذمر نفسه إذا حضها على الشيء, والقوم يتذامرون إذا حث بعضهم بعضًا على القتال, قال عنترة: [الكامل] لما رأيت القوم أقبل جمعهم ... يتذامرون كررت غير مذمم ادعى أن هؤلاء القوم يحسنون في الموت فكأنهم بدور, تمامها في ليالي المحاق. والمعنى يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكونوا في الوقت الذي يحذر فيه الموت أحسن ما يكونون في أيام الحياة, لأن وجوههم تحسن وتشرق إذا اصفرت وجوه الشجعاء. والآخر: أنهم إذا لقوا الموت في الحرب حسن ذكرهم بين الناس, وحمدوهم على الصبر ولقاء الحمام.

وقوله: جاعلٍ درعه منيته إن ... لم يكن دونها من العار واق هذا معنى لطيف, والغرض فيه أن هذا الذمر لا يلبس درعًا, لأن العرب تفضل الذي يشهد الحرب حاسرًا على الذي شهدها دارعًا, قال الشاعر: [الطويل] فلم أر يومًا كان أكثر سالبًا ... ومستلبًا سرباله لا يناكر وأكثر منا ناشئًا يطلب العلى ... يجالد قرنًا دارعًا وهو حاسر ويقال: إن كثيرًا لما أنشد عبد الملك قوله في مدحه: [الطويل] على ابن أبي العاصي دلاص حصينة ... أجاد المسدي سردها وأذالها قال له عبد الملك: ما قال الأعشى أحسن مما قلت؛ يعني قوله: [الكامل] وإذا تجيء كتيبة ملمومة ... شهباء يخشى الدارعون نكالها كنت المقدم غير لابس جنةٍ ... بالسيف تضرب معلمًا أبطالها والذي أراد أبو الطيب أن هذا الفارس جعل منيته مثل الدرع يتقي بها الذم. وقوله: كرم خشن الجوانب منهم ... فهو كالماء في الشفار الرقاق يريد أنهم كرام وكرمهم خشن جوانبهم فهو محمود في التخشين, كما أن الماء يخشن شفار السيوف فلها به فخر, وقد وصفت الشعراء الكريم, وشبهته بالسيف في خشونته ولينه, قال الشاعر: [الطويل] كريم يغض الطرف فضل حيائه ... ويدنو وأطراف الرماح دوان وكالسيف إن لاينته لان مسه ... وحداه إن خاشنته خشنان

وقوله: يابن من كلما بدوت بدا لي ... غائب الشخص حاضر الأخلاق شبهه بأبيه, وهذا يشبه قوله: [الطويل] وأنت أبو الهيجا ابن حمدان يا بنه ... تشابه مولود كريم ووالد يقول: أنت تشبه أباك في الخلق والخلق, فكلما بدوت فكأنه لي بادٍ, إلا أن شخصك؛ وإن كان مثل شخصه, فليس هو شخص الأب, وإنما هو مشابه له؛ لأن أباك غائب, وأخلاقك مثل أخلاقه. وقوله: لو تنكرت في المكر لقومٍ ... حلفوا أنك ابنه بالطلاق يقول: لو تنكرت في المكر لئلا يعرفك من جرت عادته بعرفانك لحلفوا أنك ابن المكر, لا ابن والدك المشهور, وإنما حملهم على ذلك أنهم يجدونك فيه سالمًا, فكأنه أب لك يشفق عليك من أن يصيبك جرح من سيفٍ أو طعنةٍ. وإن حمل على أنهم يريدون أنه ابن أبيه لشبهه به فهو يحتمل ذلك. وقوله: كيف يقوى بكفك الزند وإلآ ... فاق فيها كالكف في الآفاق هذه مبالغة ليست بالخافية, فهي مع إسرافها مستحسنة لا يلحقها ما لحق مبالغته في ذكر الفرس؛ لأن من يمدح يجتهد في وصفه بما لا يقدر عليه من سعة النفس والشجاعة والكرم. وقوله (126/ب): قل نفع الحديد فيك فما يلـ ... ـقاك إلا من سيفه من نفاق اللقاء على ضربين: لقاء مسالمٍ, ولقاء محاربٍ, فلقاء المسالم يجوز أن يكون فيه صادقًا فيما يظهره ويخفيه, ولا يمتنع أن يكون يتقي بالنفاق. والمحارب لا يمكنه أن يلقى هذا الممدوح إلا بسيفٍ من منافقةٍ, كأنه يستأمن إليه, ويقول: أنا وليك وعبدك, وإنما يريد بذلك سلامة نفسه.

وقوله: إلف هذا الهواء أوقع في الأنـ ... ـفس أن الحمام مر المذاق هذا البيت, والذي بعده يفضلان كتابًا من كتب الفلاسفة؛ لأنهما متناهيان في الصدق, وحسن النظام, ولو لم يقل شاعرهما سواهما, لكان فيهما له جمال وشرف. وقوله: والأسى قبل فرقة الروح عجز ... والأسى لا يكون بعد الفراق يقول: ينبغي للإنسان أن يسهل أمر العاجلة على نفسه, فإذا كان حيًا فما ينبغي أن يحزن؛ لعلمه أن فراق نفسه يكون؛ لأنه لم يكن بعد, وإذا فارقته نفسه فقد أمن من الأسف, ورجع إلى حال العدم, وفراق الحس. وقوله: كم ثراءٍ فرجت بالرمح عنه ... كان من بخل أهله في وثاق جعل ثراء البخل كأنه في وثاقٍ عنده, وذكر أن هذا الممدوح طعن ذلك المثري فقتله, وخلص ماله من الوثاق؛ لأن هذا الممدوح فرقه على العفاة. وقوله: والغنى في يد اللئيم قبيح ... قدر قبح الكريم في الإملاق يقول: غنى اللئيم يستقبح بمقدار ما يسمج إملاق الكريم, وقد أحسن الحكمي كل الإحسان في قوله: [الطويل] كفى حزنًا أن الجواد مقتر ... عليه ولا معروف عند بخيل وقوله: ليس قولي في شمس فعلك كالشمـ ... ـس ولكن في الشمس كالإشراق جعل لفعل الممدوح شمسًا, وفضل نورها على نور ما يقول, أي: إن شمس فعلك لا يحسنها قولي, وهي تحسنه, كما أن الإشراق يحسن الشمس.

وقوله: شاعر المجد خدنه شاعر اللفـ ... ظ كلانا رب المعاني الدقاق إنما قيل للشاعر: شاعر؛ لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره؛ أي: يعلم. وقول الناس: ليت شعري؛ أي: ليت علمي, فجعل القائل الممدوح يشعر من المجد بما لا يشعر به سواه من الأمجاد. وقوله: لم تزل تسمع المديح ولكن ... ن صهال الجياد غير النهاق يقال: صهيل وصهال, ونهيق ونهاق. وفعيل وفعال يشتركان كثيرًا, كما قالوا: طويل وطوال, وسريع وسراع, وإذا كان فعيل نعتًا جاء فيه فعال وفعال بالتشديد, وأنشد الفراء: [الرجز] جاؤوا بصيدٍ عجبٍ من العجب ... أزيرق العينين طوال الذنب وكان يعتقد أن سيدًا وطيبًا أصله فعيل, كأن أصل سيدٍ سويد, واحتج بانهم قالوا: طيب وطياب, كما قالوا: طوال, وأنشد: [الرجز] إنا بذلنا دونها الضرابا ... لما وجدنا ماءها طيابا وقوله: ليت لي مثل جد ذا الدهر في الأد ... هر أو رزقه من الأرزاق أنت فيه وكان كل زمانٍ ... يشتهي بعض ذا على الخلاق هذا معنى لم يسبق إليه أحد من الشعراء؛ لأنه جعل الدهر الذي فيه الممدوح له جد؛ أي: حظ لم يرزقه سواه, وجعل الأزمنة كلها تشتهي بعض ذلك على الخلاق جلت عظمته. وقافية هذه القصيدة من المتواتر, وهي القاف والياء التي بعدها, وهي على رأي الخليل من آخر ساكنٍ في البيت إلى أول ساكنٍ يليه مثل قوله: شاقي, من العشاق, وهاقي, من النهاق ونحو ذلك (127/أ).

ومن قطعة أولها

ومن قطعة أولها لام أناس أبا العشائر في ... جود يديه بالعين والورق وهي من أول المنسرح. أراد بالعين: الذهب, وقد يعبر بالعين عن الفضة الخالصة. والورق: الفضة, يقال: ورق وورق وقد قرئ بالوجهين, وقال بعضهم: ورق كما قالوا في كبد: كبد. ويقال للورق: رقة, حذفوا منه الواو, كما حذفوها من عدة؛ فلو صغرت رقة لقلت: وريقة, فرددت الواو. وقوله: قالوا ألم تكفه سماحته ... حتى بنه بيته على الطرق يقول: جاد أبو العشائر بالذهب والورق, وكان ذلك كافيًا للناس, وقال لائموه: ألم يكفه بذله ما يغني به العلم فينالون به الكسوة والطعام وغيرهما من المرادات؛ حتى بنى بيته على الطرق؛ ليطعم من يرد عليه ويضيفه. والعرب تفتخر بكون بيوتها على الطرق, قال الشاعر: [الكامل] أغشى الطريق بغبتي ورواقها ... وأحل في نشز الربى فأقيم إن امرأ جعل الطريق لبيته ... طنبًا وأنكر حقه للئيم وقوله: فقلت إن الفتى شجاعته ... تريه في الشح صورة الفرق الفتى هاهنا معنى به أبو العشائر؛ وذلك أبلغ من أن يكون الفتى شائعًا في الفتيان؛ لأنه إذا شاع فيهم كان أبو العشائر كواحدٍ منهم, وإذا خص بالفتوة فهو مميز من كل الفتيان. ووصفه بالشجاعة, وادعى أن شجاعته توهمه أنه يفرق من الشح فتريه صورة الفرق, فكأنه يقتل تلك الصورة. وقوله: بضرب هام الكماة تم له ... كسب الذي يكسبون بالملق يريد أنه, على ما يلحق بالأعداء, محبوب كأنه يتملقهم؛ أي: يلين لهم الكلام.

ومن التي أولها

وقوله: كن لجة أيها السماح فقد ... آمنه سيفه من الغرق يقول: كن أيها السماح كلجة البحر, فسيف هذا الممدوح يؤمنه من أن يغرق؛ فادعى أن سيفه يؤمنه من كل الحوادث, وهذا إفراط في المبالغة ومضاء الحد. وقافية هذه الأبيات من المتراكب, وهي ثلاثة أحرف متحركة بعدها ساكن كقوله: غريق وفرقي, والقافية عند الخليل قوله: نلغرقيي وتلفرقي. ومن التي أولها ما للمروج الخضر والحدائق وهي من رابع الرجز الذي يسمى المشطور. المروج: جمع مرجٍ يراد به الأرض الواسعة, التي تمرج فيها الخيل بعضها مع بعضٍ, وهي من قولهم: أمر مريج؛ أي: مختلط؛ أي: مختلط, ومن قوله تعالى: {مرج البحرين يلتقيان} , وقال الشاعر: [الطويل] وقد شهد الصفين عمرو بن مالكٍ ... فضاق عليه المرج والمرج واسع وقالوا: مرج الدين إذا اضطرب واختلط. وقوله: يشكو خلاها كثرة العوائق الخلا: ما تنبته الأرض من النبات قبل أن يأخذ في الجفوف, يقال: خليته أخليه خليًا. يريد أن الشتاء اشتد برده فلم يطل هذا النبت؛ لأن القر منعه من ذلك, ويقال: عاقني عن الأمر وعاقني عنه إذا منعني منه, وأنشد أبو زيدٍ: [الوافر]

فلو أني شهدتك حين تدعو ... لعاقك عن لقاء الحي عاق يقال: عاقني, وهي اللغة المعروفة, وعقاني, وقد يستعمل (عقا) في معنى ارتفع. وقوله: أقام فيها الثلج كالمرافق يعقد فوق السن ريق الباصق ذكر ما عاق النبت عن الظهور, وأخبر أن الثلج أقام فوق الأرض. ويقال: بصاق, بالصاد, وهو أفصح (27/ب) اللغات, وقد حكي بالسين والزاي, ويروى: يعقد بفتح الياء, ومنهم من يضم, يأخذه من: أعقدت العسل, ومن فتح الياء أخذه من عقد العقدة, وكلا القولين جائز في القياس. وقوله: ثم مضى لا عاد من مفارق بقائد من ذوبه وسائق في (مضى) مضمر يعود إلى الثلج, ووصف أنه ذاب؛ فكأن الذوب كان سبب فراقه, وجعله قائدًا وسائقًا؛ لأن الثلج إذا أخذ في الذوب جعل يذوب من خلفٍ وأمامٍ. وقوله: كأنما الطخرور باغي آبق يأكل من نبتٍ قصيرٍ لاصق كقشرك الحبرمن المهارق الخرور: اسم مهرٍ كان له, وإنما سماه بالطخرور من قولهم: بالسماء طخرور؛ أي: شيء من غيم, والغيم إذا كان رقيقًا قليلًا فهو أسرع لسيره, وإذا كان بطيء السير فهو مثقل بماء السحاب, وقال قوم: إنما يقال: ما في السماء طخرور في حال النفي, وقد جمعوه على طخارير, وجاؤوا به غير منفي, قال الراجز: [الرجز]

إنا إذا قلت طخارير القزع ... وصدر الشارب منها عن جرع ويقال: إن أبا الطيب كان له فرسان: الجهامة, وهي أثنى, والطخرور. والجهامة: السحابة التي قد أراقت ماءها, فذلك أسرع لمسيرها, وقد رويت له أبيات لم تثبت في ديوانه, وفيها: [البسيط] إن الجهامة والطخرور ما اجتمعا ... إلا لأمرٍ عظيمٍ سوف ينكشف وشبه الطخرور بباغي آبقٍ؛ أي: هاربٍ؛ لأنه ينظر إلى الأرض ليصيب نبتًا يرعاه, ومن شأن باغي الآبق أن يديم النظر ليتبين الآثار. وزعم أنه يأكل من نبتٍ قصيرٍ, وبالغ في الصفة فجعل رعي الطخرور كقشرك الحبر من المهارق, وهي القراطيس, وأصلها فارسي معرب. ويقال: المهاريق, بالياء, وقال بعضهم: المهاريق خرق كانت تصقل ويكتب فيها. وقوله: أروده منه بكالسوذانق ... بمطلق اليمنى طويل الفائق أروده: يعني الكلأ؛ أي: يطلب مرعى لفرسه, وهو من قولهم: بعث القوم رائدًا؛ إذا بعثوا من يعرف لهم مواضع الكلأ, وأصله من: راد يرود إذا ذهب وجاء, كأنه يمشي بين الأماكن المعشبة لينظر أيها أولى بالرعي, ثم قالوا: ردت الكلأ إذا كنت له رائدًا. وقوله: بكالسوذانق أي بمثلٍ؛ أدخل الباء على الكاف, كما أدخل رؤبة عليها مثل في قوله: [السريع] فصيروا مثل كعصفٍ مأكول والسوذانق: الشاهين الذي يصاد به, وهو السوذق والسوذنيق, وأصله فارسي معرب. والفائق: عظم بين الرأس والعنق, يقال: فئق الرجل إذا اشتكى فائقه.

ومطلق اليمنى: أراد أن قوائمه الثلاث فيها تحجيل, وليس في اليمنى كما في غيرها من الثلاث, فكأنها مطلقة؛ لأن التحجيل مأخذ من الحجل, وهو القيد, والفرس يحتاج إلى أن يقيد؛ فكأن تشبيه تحجيله بالقيود أوجب من أن يشبه بالخلاخيل؛ لأن الخلخال يسمى حجلًا. وقوله: عبل الشوى مقارب المرافق ... رخو اللبان نائه الطرائق العبل: ضد الشخت, ومقارب المرافق: مثل قول الآخر: [المنسرح] في مرفقيه تقارب وله ... بركة زورٍ كجبأة الخزم والجبأة: خشبة يحذو عليها الحذاء, والخزم: ضرب من الشجر تتخذ منه الحبال. واللبان: مجرى اللبب من الفرس. ونائه: من قولهم هو نائه الذكر؛ أي: خبره شائع. والطرائق هاهنا: تحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون من الطريقة التي هي الشيمة والخلة, والآخر: أن يكون من الطريقة؛ أي: اللحمة المستطيلة. وقوله: ذي منخرٍ رحبٍ وإطلٍ لاحق (128/أ) يقال: منخر الأنف ومنخر, وحكي: منخر, بكسر الميم, وفتح الخاء, ويقال للدواب: نخرة ونخرة, والجمع نخر ونخر, وأنشد أبو عمرو الشيباني: [الطويل] كأن رداءيه إذا قام علقا ... على جعلٍ يغشى المآزف بالنخر المآزف: المواضع التي يقضي فيها الناس حوائجهم, وهي نحو من المزابل. ويحمد في الفرس سعة المنخر؛ لأنه إذا ضاق منخره حدث به الربو, ولذلك قال امرؤ القيس: [المتقارب] لها منخر كوجار الضباع ... فمنه تريح إذا تنبهر وقال بشر بن أبي خازم: [الوافر]

كأن خفيف منخره إذا ما ... كتمنا الربو كير مستعار والإطل: الخاصرة, يقال: إطل, وإطل, وأيطل. وقوله: محجلٍ نهدٍ كميتٍ زاهق ... شادخة غرته كالشارق زاهق: أي: يتقدم الخيل, ويحتمل أن يكون هاهنا في معنى الذي كأنه قد أخذ في السمن, ويقال: غرة شادخة إذا انتشرت في الوجه. والشارق: يعني الشمس في أول طلوعها. وقوله: كأنها من لونه في بارق ... باقٍ على البوغاء والشقائق شبه لون الفرس بلون البارق, والبوغاء: تراب دقيق, قال الشاعر: [الطويل] لعمرك لولا حاجة ما تعفرت ... ببغدان في بوغائها القدمان يقول: لون هذا الفرس كلون بارق, فكأنه برق قد تخلف على الأرض. والشقائق: جمع شقيقة, وهي أرض صلبة بين رملين, ومن أمثالهم: «قد كان بين الأميلين شقيقة» , وقال بعض العرب يخاطب بنته: [الطويل] رزقتك بعد الأربعين وبعدما ... بدا شامل في الرأس بين المفارق أحبك والرحمان يعلم أنني ... بموتك مسرور حذار البوائق فليتك قد قدمت قبلي وليتني ... دفنتك قبل الموت بين الشقائق فالشقائق في هذا البيت: يحتمل وجوهًا: يجوز أن يعني الشقيقة التي بين الرملتين, والشقائق من النبت الذي يسمى شقائق النعمان, والشقائق جمع شقيقةٍ, وهي الأخت, أي: ليتني دفنتك بين أخواتك, ويجوز أن يعني أخوات نفسه.

وقوله: والأبردين والهجير الماحق يعني بالأبردين: الغداة والعشي, قال الشماخ: [الوافر] إذا الأرطى توسد أبرديه ... خدود جوازئٍ بالرمل عين أراد بالأبردين الظل في أول النهار والفيء في آخره. وزعم أن البارق الذي شبه به الفرس طال مكثه في الأرض, وليس ذلك من عادة البرق, فهو باقٍ على الأبردين, وفي الهجير الماحق: أي: الشديد, كأنه يمحق ما تحته من النبات ونحوه. قال ساعدة بن جؤية: [البسيط] ظلت صوافن بالأرزان صاويةً ... في ماحقٍ من نهار الصيف محتدم صوافن: أي: قد ثنت سنابكها, والأرزان: جمع رزنٍ, وهو مكان غليظ, ويقال: هو ما يجتمع في غلظٍ من الأرض, والصاوية: العطاش, يقال: احتدم الحر إذا اشتد. وقوله: للفارس الراكض منه الواثق ... خوف الجبان في فؤاد العاشق يصف هذا الفرس بأنه عظيم السرعة, غزير الجري؛ فالفارس الذي يركضه لا يأمن أن يسقط عنه, فهو يخاف من ذلك مثل خوف الجبان, على أنه يحب هذا الفرس حب العاشق. وقوله: كأنه في ريد طودٍ شاهق ... يشأى إلى المسمع صوت الناطق الريد: حرف ناتئ من الجبل, قال أبو ذؤيب: [الطويل] تهال العقاب أن تمر بريده ... وترمي دروء دونه بالأجادل يريد أن الفارس كأنه على ريد جبلٍ فهو يخالف أن يسقط فيهلك. ويشأى أي: يسبق

يقال: شآه يشآه إذا سبقه, ومنه اشتقاق الشأو؛ أي: الطلق, قال امرؤ القيس: [الطويل] إذا ما جرى شأوين وابتل عطفه ... تقول: هزيز الريح مرت بأثأب الأثأب: ضرب من الشجر. وقوله: يشأى إلى المسمع صوت الناطق: مبالغة لم يوصف بمثلها الفرس؛ وذلك (128/ب) يؤدي إلى أن الصائح إذا كان على بعدٍ من السامع فصاح سبقه هذا الفرس إلى سمع السامع. وقوله: يترك في حجارة الأبارق ... آثار قلع الحلي في المناطق الحجارة, بالهاء: أفصح من الحجار, والأبارق: جمع أبرق, وهي أرض فيها حجارة وطين. وقوله: مشيًا وإن يعد فكالخنادق يقول: آثاره إذا مشى كآثار قلع الحلي في المناطق, وإذا عدا كان الذي يغادر من الأثر أوسع من ذلك. وقوله: لو أوردت غب سحابٍ صادق ... لأحسبت خوامس الأيانق أي: هذه الخنادق لو أوردت غب مطرٍ قد ملأها ماءً لأحسبت أي: كفت خوامس الأيانق؛ أي: التي ترد خمسًا وهي توصف بكثرة الشرب. وقد بالغ القائل في صفة ما تغادره من الآثار حوافر فرسه؛ لأن الحافر يوصف بأنه وأب, ليس بالواسع ولا الضيق, وإنما ينبغي للمبالغ في صفة الفرس بالخفة أن يدعي لحوافره أنها لا تقع على الأرض من خفته؛ إذ كانوا يشبهون الفرس بالبازي والصقر وغيرهما من الطيور. وقوله: إذا اللجام جاءه لطارق ... شحا له شحو الغراب الناغق

أي: لطارقٍ يوجب ركوب الخيل من خوف عدو أو نحوه. يصف الفرس بحسن الأدب, وأنه قد عرف ما يراد منه فإذا جاءه الملجم فتح له فاه, يقال: شحا فاه إذا فتحه, وشحا فوه إذا انفتح, قال الراجز: [الراجز] كأن فاها واللجام شاحيه ... شرخا غبيطٍ فرجت نواحيه وهم يصفون الخيل والإبل بمعرفة ما يحتاج إليه الفارس أو الراكب, ومن ذلك قول الراعي في صفة الناقة: [المتقارب] ولا تعجل المرء قبل الركو ... ب وهي بركبته أبصر والناغق: من قولهم نغق الغراب إذا صاح, وقال قوم: النغيق: يتيمن به, والنعيب يكره, وقد حكوا: نعق الغراب, بالعين, ولكن الغين أكثر, والنغيق: خاص للغربان, والنعيق مستعمل للإنسان وغيره. وقوله: كأنما الجلد لعري الناهق ... منحدر عن سيتي جلاهق الفرس يوصف بأن نواهقه عارية من اللحم, وهي عظام في رأسه, وقيل: هي عروق, ويجب أن يكون أصل النواهق في حمار الوحش, ثم استعير للخيل. وسيتا القوس: طرفاه. والجلاهق: قوس الرجل, وليس أصل الكلمة عربيًا. وقوله: بذ المذاكي وهو في العقائق ... وزاد في الساق على النقانق بذ: سبق, قال زهير: [البسيط] يطلب شأو امرأين قدما حسنًا ... نالا الملوك وبذا هذه السوقا والمذاكي من الخيل: جمع مذك, وهو الذي قد تمت سنه وذكاؤه وقوته, ومن أمثالهم:

«جري المذكيات غلاب» , وسكن الياء من المذاكي ضرورةً. والعقائق: جمع عقيقةٍ, وهي الشعر الذي يخرج على المولود. والمعنى: أن أمه سبقت الجياد وهو في بطنها, وذلك لغزارة جريها؛ لأنها إذا سبقت وهي حامل فكيف بها إذا كانت مضمرةً, وهذا مثل قول الآخر في صفة فرسٍ: [الرجز] قد سبق الجياد وهو رائض ... فكيف لا يسبق وهو راكض أي: يرتكض في بطن أمه, وهم يشبهون ساقي الفرس بساقي النعامة, قال امرؤ القيس: [الطويل] له أيطلا ظبيٍ وساقا نعامةٍ ... وإرخاء سرحانٍ وتقريب تتفل وقوله: وزاد في الأذن على الخرانق ... وزاد في الحذر على العقاعق أذن الفرس توصف بالصغر, والتأليل, واللين, ولذلك قال الأنماري في صفة الفرس: (129/أ) [الوافر] كأن مسيحتي ورقٍ عليها ... نمت قرطيهما أذن خذيم أي كأنها مقطوعة قد خذمت. والعقاعق: جمع عقعقٍ, وهو هذا الطائر المعروف, ويقال: «أحذر من عقعقٍ». وقوله: يميز الهزل من الحقائق ... وينذر الركب بكل سارق لم يوصف الفرس بمثل هذه الصفة؛ لأنه ادعى له فهمًا كفهم الإنسان, وهذا يشابه قوله: [الطويل] وأدبها طول القتال فطرفه ... يشير إليها من بعيدٍ فتفهم وقوله: وينذر الركب بكل سارق: هذه صفات ما علمت أحدًا سبق إليها أبا الطيب, فرحمه الله, لقد كان عوامًا في بحار الفكر على جواهر القول.

وقوله: يريك خرقًا وهو عين الحاذق أصل الخرق أن يكون الرجل غير صنعٍ, والمرأة ليست بالصناع, فيقال: رجل أخرق وامرأة خرقاء, قال ابن علبة الحارثي: [الطويل] ولا أن قلبي يزدهيه وعيدهم ... ولا أنني بالمشي في القيد أخرق وقال آخر: [الطويل] فما شنتا خرقاء واهيتا الكلى ... سقى بهما ساقٍ ولم يتبللا والمعنى أن هذا الفرس إذا رأيت خلقه ذلك على أنه بهيمة, وإذا نظرت إلى معرفته بالأشياء علمت أنه صاحب معرفةٍ وحذاقةٍ. ويقال: فلان عين الكريم, أي: هو كريم حقيقي. وقوله: يحك أنى شاء حك الباشق ... قوبل من آققةٍ وآفق ادعى له أن عدوه يجري مجرى طيران الباشق؛ فهو يحك أي موضع شاء, والباشق معروف عند العامة, وغير مذكور في الشعر القديم, ولم يصرفوا منه الفعل فيقولون: بشق, وقوبل, أي: نتج بين فرسين كريمين, والآفق من الرجال والخيل الذي هو غاية في الفضل, ويجوز أن يكون مأخوذًا من قولهم: أفق السماء ناحية منها؛ فيكون معنى الآفق أنه قد ارتفع في المكارم حتى كأنه في أفق, قال زهير: [البسيط] لو نال قوم ذوو مجدٍ ومكرمةٍ ... أفق السماء لنات كفه الأفقا

وقالوا للأنثى: أفق, قال الشاعر: [الوافر] أمشي في بني عدس بن زيدٍ ... وتحمل شكتي أفق كميت وقوله: فعنقه يربي على البواسق يقال: عنق وعنق, وقال قوم: إذا سكنت النون ذكر, وإذا ضمت أنث, قال الشاعر: [الوافر] فلولا طول عنقي سدت قومي ... ولكن طال عنقي فاستمالا يقال: إنه أراد أن عنقي يتطاول ويميل لينظر إلى النساء. والبواسق: جمع باسقٍ يقال: بسق الجبل إذا طال, وكذلك بسق الشجر. ويربي, أي: يزيد. وقوله: وحلقه يمكن فتر الخانق وصفه بأن الفتر يجمع حلقه, يقال: خنق يخنق خنقًا, وبلغ منه الأمر المخنق؛ أي: الموضع الذي يخنق فيه الإنسان. وقوله: يحملني والنصل ذو السفاسق السفاسق الطرائق في صفح السيف, وتستعمل السفاسق في القسي, قال الشاعر: [الكامل] مأطورة السيتين رابٍ عجسها ... صفراء ذات أسرةٍ وسفاسق

ومن التي أولها

وقوله: أي كبت كل حاسدٍ منافق أي: حرف ينادى به, فيقال: أي فلان أقبل, قال الشاعر: [الطويل] ألم تسمعي أي عبد في رونق الضحى ... بكاء حماماتٍ لهن هدير خاطب الفرس فقال: يا كبت كل حاسدٍ, والكبت من قولهم: كبت العدو يكبته كبتًا إذا رده وهو كئيب مغلوب, وقال بعضهم: التاء في الكبت بدل من دال؛ لأنه يقال كبده الغيظ إذا آلم كبده فهو مكبود, وقد يجوز ذلك, وأنشد أبو زيد للأسود بن يعفر: [الطويل] فغظناهم حتى أتى الغيظ منهم ... قلوبًا وأكبادًا لهم وئينا يعني جمع رئةٍ. وقافية هذه القصية من المتدارك, وهو حرفان متحركان بعدهما ساكن كقوله: فقي من منافق, ولقي من الخالق, وهو عند الخليل: نافقي من منافقي وخالقي من الخالق. ومن التي أولها (129/ب) هو البين حتى ما تأنى الحزائق ... ويا قلب حتى أنت ممن أفارق وهي من الطويل الثاني. وقوله: هو البين: أي هذا الذي تكرهه وتشكوه هو البين, والتأني في الأمور التلبث فيها؛ وإنما يريدون بقولهم: تأنى أنه تمكث حتى بلغ إني الشيء؛ أي: وقته وإدراكه, ومنه قولهم: قد أنى له, أي: قد حان, قال الراجز: [الرجز] تقول بنتي قد أنى إناكا ... يا أبتا علك أو عساكا

وقوله: وقد صارت الأجفان قرحى من البكا ... وصار بهارًا في الخدود الشقائق ذكر أبو الفتح بن جني - رحمه الله - في أول «كتاب الفسر» هذا البيت في حكاية معناها: أنه سأل أبا الطيب: أينشد هذا البيت قرحى في وزن جرحى: جمع قريحٍ, أم قرحًا جمع قرحةٍ بالتنوين؟ فقال أبو الطيب: قرحًا منونًا أما ترى إلى قولي: بهارًا؛ فكان أبو الفتح يستحسن هذا القول؛ لأن قرحًا إذا كان جمع قرحةٍ فليس بينه وبين واحده إلا الهاء, وبهار كذلك, والأحسن أن يكون الجمعان من جنسٍ واحدٍ. وقوله: سل البيد أين الجن منا بجوزها ... وعن ذي المهارى أين منها النقانق البيداء: الأرض المقفرة, وكأنها سميت بذلك لأنها تبيد من يسلكها, أو تبيد زاده وماءه. وجوزها: أي: وسطها, وهذا كلام يستحسن في المنظوم, والمراد به: سل البيداء أين الجن منا إذا سلكناها, فإنا أخبر منهم بالطرق, وأصبر على السير. وسلي عن ذي المهارى: أي: عن هذه العيس التي هي من إبل مهرة بن حيدان. وروي أن يونس بن حبيبٍ كان يعجبه قول ذي الرمة: [الطويل] وليلٍ كجلباب العروس ادرعته ... بأربعةٍ والشخص في العين واحد أحم علافي وأبيض صارم ... وأعيس مهري وأروع ماجد أراد أن الإبل التي يركبونها في البيداء أسرع من النقانق التي هي النعام. وقوله: وليل دجوجي كأنا جلت لنا ... محياك فيه فاهتدينا السمالق ينشد بكسر الكاف في محياك وفتحها. والمحيا: الوجه, وإنما قيل له: محيا؛ لأنه يلقى بالتحية, والتحية تختلف فتكون كلامًا, وتكون غيره؛ فإذا قيل للرجل: سلام عليك أو

نحوه فهو تحية. ولم يقصر أبو عبادة في قوله: [الطويل] سلام وإن كان السلام تحيةً ... فوجهك دون الرد يكفي المسلما والتحية في كتاب الله سبحانه كلام؛ لأنه قال: {وإذا حييتم بتحيةٍ فحيوا بأحسن منها أو ردوها}. ويقال: حياه بالريحان وبالورد, وبغير ذلك, فأما قول النابغة: [الطويل] تحييهم بيض الولائد بينهم ... وأكسية الإضريج فوق المشاجب فإنما يريد أن الولائد يحيينهم بالأزهار, ويجب أن يكون أصل التحية أن يدعى للرجل بالحياة, ثم استعمل ذلك في أشياء مختلفة, حتى سموا الملك تحيةً, قال زهير بن جنابٍ الكلبي: [مجزوء الكامل] من كل ما نال الفتى ... قد نلته إلا التحيه وقال عمرو بن معد يكرب: [الوافر] أسير بها إلى النعمان حتى ... أنيخ على تحيته بجند وخص الوجه بأن سمي محيًا؛ لأنه أجل شخص الإنسان, وهو الذي يلقى بالتحية من الكلام أو غيره؛ وإذا روي محياك, بكسر الكاف قوي ذلك أن يكون قوله: سلي بالياء, كأنه يخاطب مؤنثًا, وإذا كان سل مخاطبةً لمذكرٍ فهو خروج لم تجر عادة أبي الطيب بمثله؛ لأنه ترك النسيب, وخرج إلى ذكر الممدوح. وقوله: وهز أطار النوم حتى كأنني ... من السكر في الغرزين ثوب شبارق

الهز: من هزه يهزه؛ يعني هز السير إياه, والغرزان: تثنية غرزٍ, وهو ركاب الرحل, قال ذو الرمة: [البسيط] تصغي إذا شدها بالكور جانحةً ... حتى إذا ما استوى في غرزها تثب وثوب (130/أ) شبارق: أي: خلق, يروى بضم الشين وفتحها, فإذا ضمت فهو نعت لواحدٍ, وإذا فتحت الشين فهو جمع, كأن واحده شبرقة أو شبرقة, وأنشد أبو زيد للأسود بن يعفر: [الطويل] غنينا بسربال الشباب ملاوةً ... فأصبح سربال الشباب شبارقا وقوله: شدوا بابن إسحاق الحسين فصافحت ... ذفاريها كيرانها والنمارق شدوا أي: رفعوا أصواتهم بمدحه, والشدو: يستعمل في الغناء, وهو ما كان يسيرًا منه, وهو من قولهم: شدا شيئًا من علمٍ, أي: قليلًا, وبينه وبين فلان شدًى من خصومةٍ, أي: بقية, قال الشاعر: [الطويل] فلو كان في ليلى شدى من خصومةٍ ... للويت أعناق الخصوم الملاويا والذفاري: جمع ذفرى, وهي الناتئ خلف أذن البعير, وهي من الفرس معقد العذار, ويقال في الجمع: ذفاري وذفارٍ, وأكثر ما تستعمل الذفرى في الإبل والخيل, وقد جاءت في الإنس, قال ذو الرمة: [البسيط] والقرط في حرة الذفرى معلقه ... تباعد الحبل منه فهو مضطرب واشتقاق الذفرى من الذفر؛ لأنها تعرق من البعير, فتكون لها رائحة. والكيران: جمع كورٍ, وهو رحل البعير, وجمعه القليل: أكوار, والكثير: كيران. والمراد أن هؤلاء الركبان شدوا بابن إسحاق؛ فلما سعت الإبل ذكره ثنت رؤوسها إلى الركب لتسمع ثناءهم عليه, فقدمت ذفاريها من الكيران. والنمارق: التي تحت القوم. وفي هذا البيت أصناف من الدعاوي التي تستحسن وهي مختلقة. وقد بدأ الحكمي بوصف التفات الناقة؛ إلا أنه لم يستكمل هذه

الصفة في قوله: [الكامل] وكأنها مصغٍ لتسمعه ... بعض الحديث بأذنه وقر وقوله: فتى كالسحاب الجون تخشى وترتجى ... يرجى الحيا منها وتخشى الصواعق الأحسن في تخشى وترتجى أن تروى بالياء, يعني الممدوح, وقد تردد القول في أن الجمع إذا كان بينه وبين واحده الهاء جاز تذكيره وتأنيثه وحلمه على الواحد وعلى الجمع, وفي الكتاب العزيز: {وينشئ السحاب الثقال} , فهذا على التأنيث, وحمل الكلمة على الجمع, ولو أنه في غير القرآن لجاز: وينشئ السحاب الثقيل, وإذا رويت الجون, بضم الجيم, فهو جمع جونٍ, والجون هاهنا السود, ويدل على ضم الجيم قوله: يرجى الحيا منها, والحيا المطر العام, والجون يقع على الألوان كلها, فأما قول الراجز: [الرجز] غير يا بنت الحليس لوني ... كر الليالي واختلاف الجون وسفر كان قليل الأون فيجوز أن يكون الجون هاهنا الليل, ويجوز أن يكون النهار, ولعل الراجز أرادهما جميعًا. وقوله: إذا الهندوانيات بالهام والطلى ... فهن مداريها وهن المخانق يقال: سيف هندي على القياس؛ لأنه نسب إلى الهند, وسيف هنداوني, وهندكي على غير قياس. والطلى: جمع طليةٍ, وهي صفحة العنق ويقال لها: طلاة أيضًا, قال الأعشى: [الطويل] متى تسق من أنيابها بعد هجعةٍ ... من الليل شربًا حين مالت طلاتها والمداري: جمع مدرى, وأصله شيء تتخذه المرأة تستعين به على تسريح شعرها, ومنه قول سحيمٍ: [الطويل]

أشارت بمدراها وقالت لتربها ... أعبد بني الحسحاس يزجي القوافيا وإذا كان مع الرجل سلاح دقيق شبهه بالمدرى, قال الراجز: [الرجز] أنا سحيم ومعي مدرايه ... أعددته لفيك ذي الدوايه والحجر الأخشن والثنايه والمعنى: أن هذا الممدوح جعل الهندوانيات مغذاة بالطلى والهام؛ أي: أقامها لها مقام الغذاء, فهي تقع في الرؤوس كأنها مدارٍ, وفي الأعناق كأنها مخانق. وقوله: يجنبها من حتفه عنه غافل ... ويصلى بها من نفسه منه طالق يجنبها - يعني (130/ب) الهندوانيات - من غفل حتفه عنه, ويصلى بها من قولك: صلي بالنار إذا أصابه حرها. وقوله: من نفسه منه طالق: استعار الطلاق للنفس, وإنما هو للمرأة, وقد استعملت الشعراء الطلاق في غير النساء, قال الشاعر: [الطويل] مراجع نجدٍ بعد فركٍ وبغضةٍ ... يرى ساكتًا والسيف عن فيه ناطق الهاء في به راجعة إلى الممدوح, والمحاجاة: أصلها أن يسأل الرجل صاحبه عن شيءٍ يعميه عليه لينظر: أحجاه أفضل أم حجى الآخر, والحجى: العقل. يقال للكلام الذي يسأل عنه: أحجية وأحجوه. ومما يتحاجون به قولهم: أحاجيك: ما ذو ثلاث آذانٍ ... يسبق الخيل بالرديان

يعنون السهم. وقال الشاعر: [الطويل] أحاجيك: ما مستصحبات على السرى ... حسان وما آثارها بحسان يعني السيوف. وما: في قوله: ما ناطق, في معنى: أي شيءٍ هو ناطق, وإذا أجاب المسؤول عن هذه الأحجية فجوابه: الحسين بن إسحاق. وقوله: سيحيي بك السمار ما لاح كوكب ... ويحدو بك السفار ما ذو شارق السمار: جعل سامرٍ وهم الذين يتحدثون في ظل القمر, وزعموا أن الليل يسمى سمرًا, ومثل ذلك لا يجوز؛ لأن السمر يكون فيه, وكثر ذلك حتى صار الحديث بالليل سمرًا, وإن لم يكن في القمر, ويقولون: أحيا فلان ليله إذا بات ساهرًا؛ لأن النوم عندهم ضرب من الموت, وفي الكتاب العزيز: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها}. فكأن الذي يبيت ساهرًا قد بات حيًا لم تصبه بالنوم وفاة. وقوله: هي الغرض الأقصى ورؤيتك المنى ... ومنزلك الدنيا وأنت الخلائق اصطلحت الشعراء على أن يقولوا: فلان الناس كلهم, ونحو ذلك من العبارات, وإنما يريدون خيار الناس؛ لأن الرجل لو كان مثل الناس كلهم لكانت فيه عيوب كثيرة؛ لأن فيهم من هو مجنون وصاحب عاهةٍ, ومن ذلك قول الشاعر: [السريع] إنما أراد العالم الذي له فضيلة, ولو لم يرد ذلك لكان هذا المدح كالهجاء, وقد شرح أبو الطيب الغرض في ذلك في غير هذا الموضع, وخص الفضلاء من الناس دن من هو مذموم الشيم قبيح الأخلاق, فقال: [الكامل]

ومن التي أولها

ولقيت كل الفاضلين كأنما ... رد الإله نفوسهم والأعصرا نسقوا لنا نسق الحساب مقدمًا ... وأتى فذلك إذ أتيت مؤخرا وقافية هذه القصيدة من المتدارك وهي حرفان متحركان بعدهما ساكن كقوله: «ئقو» من: الحزائق و «رقوا» من: أفارق, والقافية عند الخليل أولها الزاي من: حزائق وآخرها الواو التي للترنم, وكذلك هي من الفاء في أفارق إلى الواو التي بعد القاف. ومن التي أولها أرق على أرقٍ ومثلي يأرق ... وجوى يزيد وعبرة تترقرق وهي من أول الكامل. الأرق: فقد النوم, يقال: أرقه تأريقًا, وأرقه إراقًا كما قالوا: كذبه كذابًا, وبيت تأبط يروى على وجهين, وهو قوله: [البسيط] يا عيد مالك من هم وإيراق فهذا مصدر: آرق يؤرق, ويروى: وإراق بتشديد الراء, ومثله قول الشاعر: [الطويل] لعمري لقد خلفتني عن صحابتي ... وعن حوجٍ قضاؤها من شفائيا يريد: مصدر قضيت. والجوى: الحزن (131/أ) الذي يستبطن الإنسان, فيكون في حشاه. ويقال لفساد الجوف: جوى, والعبرة: تردد الدمع في العين. وقوله: جربت من نار الهوى ما تنطقي ... نار الغضى وتكل عما تحرق الغضى يوصف بأن جمره يبقى كثيرًا حتى يدعي له بعض الناس ما ينكره المعقول, قال سحيم: [الطويل]

كأن الثريا علقت فوق نحرها ... وجمر غضى هبت له الريح ذاكيا فإن كان سحيم أراد أن حليها ثابت عليها فكأنه جمر غضى؛ لأنه يلبث أكثر من جمر سواه؛ فقد أجاد في ذلك, وأما غيره فيشبه الحلي بالجمر, وقد سبق سحيمًا امرؤ القيس فقال: [الطويل] كأن على لباتها جمر مصطلٍ ... أصاب غضى جزلًا وكف بأجذال وقوله: وتفوج من طيب الثناء روائح ... لهم بكل مكانةٍ تستنشق يقال: مكان ومكانة, واشتقاقه من كان يكون مثل قولك: مقام ومقامه, وأصل مكانٍ: مكون, فألقيت حركة الواو على الكاف, وقلبت ألفًا, وكذلك يفعلون بالواو والياء في المصدر واسم الزمان والمكان إذا جرين على الفعل. وقالوا في جمع مكانٍ: أمكنة, وهذا يدل على أن الميم أصلية؛ فيجوز أن يكون ذلك من نحو قولهم: تمسكن الرجل, فأثبتوا ميم مسكينٍ, وإنما القياس أن يقولوا: تسكن, وإذا حمل مكان على أنه من الكون وجب أن يقال في جمعه: مكاون, كما قالوا في جمع مقامٍ: مقاوم, قال الشاعر: [الطويل] وإني لقوام مقاوم لم يكن ... جرير ولا مولى جريرٍ يقومها وقالوا: تمكن فلان في الموضع, فإن كان مكان من الكون فوزن أمكنةٍ: أمفلة؛ لأن عين الفعل سقط, ويجوز أن يكون مكان مشتقًا من مكن الضباب؛ أي: بيضها, قال الشاعر: [المتقارب] ومكن الضباب طعام العريـ ... ـب لا تشتهيه نفوس العجم والأشبه أن يكون قولهم: أمكنة على سبيل الغلط, وظنهم أن الميم أصلية, وإذا أخذ المكان من المكن؛ فالمراد أن المكان يقام فيه مقامًا دائمًا, كما أن مكن الضب يدوم في موضعه؛ فأما قول الشاعر: [الكامل]

بمجر منتحر الطلي تعفرت ... فيه الظباء بكل جو ممكن باض النعام به فنفر سكنه ... إلا المقيم على الدوى المتأفن أراد بالطلي الحمل من النجوم, شبهه بالحمل من الضأن؛ لأنهم يقولون: طليت الحمل إذا شددت رجله بالطلاء, وهو خيط, ويقال للطلاء: طلية, قال الرجز: [الرجز] ما زال مذ قرف عنه جلبه ... له من اللؤم طلاء يجذبه يريد أن الحمل من النجوم مطر في هذا الموضع فتعفرت فيه الظباء؛ أي: تمرغت فالتصقت بالعفر, وهو التراب. والجو: البطن من الأرض, والممكن يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون من مكن الضباب؛ أي: قد باضت فيه, والآخر أن يكون من المكنان, والمكنان: هو ضرب من النبت؛ أي: إنه قد نبت في هذا الموضع. وقوله: باض النعام, أي: مطر بنوء النعائم من النجوم, فجعل مطرها كبيض النعام على معنى الاستعارة, وسكنه؛ أي: أهله, قال أبو ذؤيب: [الطويل] أساءلت رسم الدار أم لم تسائل ... عن السكن أم عن عهده بالأوائل يقول: مطر النعام بذلك الموضع, ونوؤها وخم وبيل فاعتل المقيمون به, ونفر الأصحاء, ولم يتخلف فيه إلا من أقام على مريضٍ. والدوى في هذا الموضع: الذي به داء, والمتأفن: الذي قد ذهبت قوته, وهو مأخوذ من قولهم: أفنت الناقة إذا استقصيت حلبها, قال الشاعر: [الطويل] إذا أفنت أروى عيالك أفنها ... وإن حينت أوفى على الوطب حينها حينت: أي: خليت في حينٍ بعد حينٍ.

ومن بيتين أولهما

وقوله: (131/ب) أمطر على سحاب جودك ثرةً ... وانظر إلي برحمةٍ لا أغرق يقال: أمطر ومطر, وكان أبو عبيدة يقول: إن أمطر لا يستعمل إلا في إمطار العقوبة, وقال غيره: يقال: مطر وأمطر بمعنى واحد, ويقال: سحابة ثرة؛ أي: كثيرة الماء بينة الثرارة والثرورة, وكذلك عين ثرة إذا كانت كثيرة الدمع, قال الراجز: [الرجز] يا من لعينٍ ثرة المدامع ... يحفشها الشوق بماءٍ هامع ويقال: فرس ثر؛ أي: كثير الجري, قال الشاعر: [الهزج] وقد أغدو إلى الهيجا ... ء بالمحتبك الثر ومن بيتين أولهما سقاني الخمر قولك لي بحقي ... وود لم تشبه لي بمذق وهما من أول الوافر. قوله: يمينًا لو حلفت وأنت ناءٍ ... على قتلي بها لضربت عنقي نصب يمينًا على تقدير قوله: حلفت يمينًا, أو أعني يمينًا, ونحو ذلك, وكثر تردد اليمين في كلامهم حتى سموا قول الإنسان «والله» يمينًا, قال الشاعر: [الوافر] فلا والله لا أولي عليها ... لتمنع سائلًا منها يمين وأصل ذلك أن أحدهم كان لا يحلف للآخر حتى يبسط اليد اليمنى من يديه إليه فيصافحه بها, ثم كثر ذلك حتى سموا الحلف يمينًا, وإن لم تبسط فيه اليد.

ومن أبيات أولها

والوجه فتح التاء في قوله: حلفت؛ لأن الممدوح هو الذي حلف, وضم التاء له معنى, ولكن الشاعر لم يرده؛ لأنه يجعل نفسه الحالفة, وليس الأمر كذلك. وقافيتها من المتواتر. ومن أبيات أولها وذات غدائر لا عيب فيها ... سوى أن ليس تصلح للعناق وهي من أول الوافر. وهي في صفة لعبةٍ, وخبرها مذكور في ديوان أبي الطيب. والغدائر: جمع غديرةٍ, وهو مأخوذ من أغدرت الشيء إذا تركته؛ وذلك أن شأن الناس أن يحلقوا شعورهم, فإذا ترك الشعر حتى يصير ذؤابةً, فقد أغدره صاحبه؛ أي: تركه. وقد جرت عادة النساء بتوفير الشعر, فقيل لذوائبهن: الغدائر. وقوله: أمرت بأن تشال ففارقتنا ... وما ألمت لحادثة الفراق تشال من قولهم: أشلت الشيء إذا رفعته, وشال هو إذا ارتفع, قال الشاعر: [الكامل] فإذا وضعت أباك في ميزانهم ... رجحوا وشال أبوك في الميزان وإنما قيل للشهر: شوال؛ لأنه سمي بذلك حين تشول الإبل بأذنابها, وهو من باب قولهم: ليل نائم؛ أي: ينام فيه, وكذلك ليس الشهر بشائلٍ, وإنما تشول الإبل, قال امرؤ القيس: [السريع] حتى تركناهم لدى معركٍ ... أرجلهم كالخشب الشائل أراد أن القتيل إذا ترك لم يدفن انتفخ فشالت رجله. وقافية هذه الأبيات من المتواتر.

ومن قطعة أولها

ومن قطعة أولها قالوا لنا مات إسحق فقلت لهم ... هذا الدواء الذي يشفي من الحمق ووزنها من البسيط الأول. والمعنى أن الحمق لا دواء له إلا الموت, وروى بعضهم أن المسيح - عليه السلام - لما أبرأ الأكمه والأبرص جاؤوه بأحمق فقالوا: أبرئ لنا هذا, فقال: هو من عمل الأب, فإذا صح أنه كان يعبر عن الله جلت عظمته بالأب, فإنما أراد أنه يفعل أشياء لا يفعلها غيره, ومن شأنهم إذا ظهر من الإنسان خلق كالسماحة والشجاعة جعلوه أبًا لذلك الخلق, كما قالوا للذي يضيف الناس: هو أب الأضياف, فجعله أباهم وإن كانوا غربا لم يروه قط, ولم يرهم, وقد أبان ذلك القائل في صفة الأضياف: [البسيط] أدعى أباهم ولم أقرف بأمهم ... وقد عمرت ولم أعرف لهم نسبا وجعل امرأته أما لهم, فقال: [البسيط] وقلت لما غدوا أوصي قعيدتنا ... غدي بنيك فلن تلقيهم حقبا وقوله (132/أ): تستغرق الكف فوديه ومنكبه ... وتكتسي منه ريح الجورب العرق تستغرق: تستفعل من الغرق في الماء, ثم قيل: استغرق الرجل كذا إذا أخذه أجمع فصار المأخوذ كأنه غريق في الماء باحتواء الآخذ عليه, والفودان جانبا الرأس, وأسرف القائل في صفة هذا المذكور بصغر الرأس وضؤولة الخلق. والجورب يوصف بكراهة الرائحة, وأنشد ابن السكيت: [الكامل] ومؤولقٍ داويت نخوة رأسه ... وتركته ذفرًا كريح الجورب ومؤولقٍ: أي: به أولق, وهو الجنون. وقافية هذه الأبيات من المتراكب وهو ثلاثة أحرف

ومن قطعة أولها

متحركة بعدها ساكن, كقوله: خرقي, ونحو ذلك. واللام في الخرق من القافية عند الخليل وأول حرف فيها الفاء من في. ومن قطعة أولها وجدت المدامة غلابةً ... تهيج للمرء أشواقه ووزنها من المتقارب الثالث. قوله: وأنفس مال الفتى لبه ... وذو اللب يكره إنفاقه هذا البيت حث على الإنسان بترك الخمر؛ لأنه ذكر أن أفضل ما في المرء لبه, ومن له لب يكره أن ينفقه. وقوله: وقد مت أمس بها موتةً ... ولا يشتهي الموت من ذاقه جعل السكر موتًا, واحتج بأن الموت إذا ذاقه الإنسان ثم عاش لم يشته أن يذوقه ثانيةً, وكان بعض الأدباء الرؤساء يرفع الموت في هذا البيت؛ فيجوز أن يكون على معنى السهو, فإن كان قاله عامدًا فله معنى صحيح؛ وذلك أن الموت إذا ذاق الإنسان مرةً لم يعد إليه. وقافية هذه الأبيات من المتدارك, وهي القاف والهاء والواو وعند الخليل: ذاقه. ومن أبيات أولها أي محل أرتقي ... أي عظيمٍ أتقي وزنها من ثالث الرجز. قوله: وكل ما قد خلق الـ ... ـله وما لم يخلق محتقر في همتي ... كشعرةٍ في مفرقي وقافيتها من المتدارك, وهي رقي من مفرقي, والقافية عند الخليل مفرقي بكليتها. * * *

ذكر ما جاء على قافية الكاف

ذكر ما جاء على قافية الكاف من قطعة أولها رب نجيعٍ بسيف الدولة انسفكا ... ورب قافيةٍ غاظت به ملكا وهي من البسيط الأول. ولم يزاحف أبو الطيب زحافًا تنكره الغريزة إلا في هذا الموضع, ولا ريب أنه قاله على البديه, ولو أن لي حكمًا في البيت لجعلت أوله: كم من نجيع؛ لأن رب تدل على القلة, وإنما يجب أن يصف كثرة سفكه دماء الأعداء, ويحسن ذلك أن رب جاءت في النصف الثاني, وهي ضد كم. وقوله: من يعرف الشمس لا ينكر مطالعها ... أو يبصر الخيل لا يستكرم الرمكا يقال: استكرم الشيء إذا قال: هو كريم, واستعظمه إذا شهد له بالعظمة, والرمكة: أنثى البرذون, والبرذون: أصله أعجمي, وقد استعملته العرب, قال الراجز: [الرجز] إن ابراذين إذا جرينه ... مع الجياد مرةً أعيينه وقالوا: برذونة للأنثى, قال الشاعر: [الطويل] برذونة بل البراذين ثفرها ... وقد شربت من آخر الصيف إيلا والرمكة: لم تجئ في الشعر إلا أن تكون شاذةً؛ لأنها إذا جات في حشو البيت اجتمعت فيها أربعة أحرفٍ متحركة, وذلك مستثقل, وقد جاء جمعها في قول الراجز: [الرجز]

ومن أبيات أولها

ضخم المقذين كبرذون الرمك ويجوز أن تكون سميت رمكةً؛ لأنها ليس لها سرعة الجياد, فتكون مأخوذةً من قولهم: رمك بالموضع إذا أقام به, أرادوا أنها بطيئة الانتقال, وقافيتها من المتراكب, وهي قوله: ملكا, ويلزم الخليل أن يكون أول القافية الهاء من قوله: به إلى آخر البيت. ومن أبيات أولها إن هذا الشعر في الشعر ملك ... سار فهو الشمس والدنيا فلك وزنها من ثالث الرمل. قوله: ملك يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون فعلًا ماضيًا من قولهم: ملك يملك إذا غلب, وصار ملكًا, والآخر أن يدعى له (132/ب) أنه ملك من الملائكة. وقافيتها يشترك فيها جنسان: المتراكب والمتدارك, فالمتراكب مثل قوله: في الشعر ملك, فالقافية من الراء إلى آخر البيت, ويلزم الخليل أن تكون القافية من شين الشعر إلى آخر البيت. والمتدارك كقوله: والحمد لك فالقافية قوله: «دلك» , ويلزم الخليل أن تكون القافية أولها الحاء من الحمد وآخرها الكاف. ومن قطعة أولها لئن كان أحسن في وصفها ... لقد ترك الحسن في الوصف لك وزنها من ثالث المتقارب. قوله: كأنك سيفك لا ما ملكـ ... ت يبقى لديك ولا ما ملك

ومن بيتين أولهما

وصفه بالجود, ووصف سيفه بكثرة القتل؛ فجعله إذا ملك شيئًا يصلح أن يوهب وهبه, وجعل سيفه كالذي يملك الناس إذا قدر على قتلهم, فهو لا يبقي على من ملكه, وإنما المعنى صاحب السيف. وذهب بعض أهل اللغة إلى أن اشتقاق السيف من السواف؛ أي: الهلاك, يقال: أساف الرجل إذا ذهب ماله, قال حميد بن ثور: [الطويل] فما لهما من مرسلين لحاجةٍ ... أسافا من المال التلاد وأعدما فكأنهم ذهبوا إلى أن أصل السيف: سيف, وهو من ذوات الواو, فلما خفف قيل: سيف, كما قالوا في ميت: ميت, وهو من: مات يموت. والبركة يجوز أن يكون اشتقاقها من البركة؛ لأنها لا تتخذ إلا في أرضٍ مأمولة النفع, وقيل: إنما قيل لها بركة؛ لأن الإبل تبرك حولها, وقد أنشد بعضهم قول زهيرٍ: [البسيط] حتى استغاثت بماءٍ لا رشاء له ... من ذي الأباطح في حافاته البرك بكسر الباء يريد جمع بركة, ومن ضم الباء ذهب إلى أن البرك جنس من البط. وقافيتها من المتدارك, وهي ملك, وعلى رأي الخليل هي: ما ملك. ومن بيتين أولهما قد بلغت الذي أردت من البر ... ر ومن حق ذا الشريف عليكا وزنهما من الخفيف الأول. وكان أبو الطيب يردد ذا في شعره كثيرًا حتى عابه عليه بعض الناس. وقوله: ذا الشريف أي هذا, والشريف من الناس: الذي له آباء شراف, ويقال: إن أهل اليمن يخاطبون من كان من أهل المملكة في حمير بالشريف. والقافية من المتواتر, وعند الخليل: أن أول القافية من إليك.

ومن قطعة أولها

ومن قطعة أولها بكيت يا ربع حتى كدت أبكيكا ... وجدت بي وبدمعي في مغانيكا الوزن من ثاني البسيط. قوله: فعم صباحًا لقد هيجت لي شجنًا ... واردد تحيتنا إنا محيوكا الذين قالوا: عم يريدون الأمر من وعم يعم, ودعوا للربع بذلك, يقال: وعم الإنسان إذا كان في خيرٍ. وقد ذهب قوم إلى أن: عم صباحًا من قولهم: نعم ينعم, فحذفوا النون من ينعم, والقول الأول أشبه. وقوله: ولو نقصت كما قد زدت من كرمٍ ... على الورى لرأوني مثل قاليكا ولو نقصت نقصًا مثل زيادتك في كرمك لرآني الناس مثل مبغضك, والقلى البغض. يقال: قلى بكسر القاف مقصورًا, فإذا فتحوا القاف مدوا فقالوا: قلاء, قال الشاعر: [الطويل] لك الله عندي لاجفيت ظعينةً ... ومالك مني إن قليت قلاء وقوله: مازلت تتبع ما تولي يدًا بيدٍ ... حتى ظننت حياتيمن أياديكا يقال ليد الإنسان: يد, وجمعها في القلة: أيدٍ, وجمعو الجمع فقالوا: أيادٍ. واستعاروا اليد في النعمة فقالوا: لفلانٍ عندي يد؛ أي: قد أحسن إلي, وأصل ذلك أن الرجل إذا أعطى الفقير شيئًا أعطاه إياه بيده, وإذا قال الإنسان للآخر: لك عندي يد احتمل وجهين: أحدهما: أنك أعطيتني ملء يدك.

والآخر: أن يعني الموهوب له يد نفسه؛ أي: أعطيتني يدي. وفي حكايةٍ معناها أن أبا الخطاب الأخفش كان عند أبي عمرو بن العلاء, فقال أبو عمروٍ كلامًا يدل على أن الأيادي لا تستعمل إلا في النعم. وأنكر أن تكون جمع أيدٍ من الأيدي التي هي الأكف, فلم يقل له أبو الخطاب شيئًا, فلما انصرف أبو الخطاب قال لأصحابه: والله إنها لفي حفظه, ولكنه نسي, وأنشدهم: [الخفيف] ساءها ما تأملت في أياديـ ... ـنا وأشناقها إلى الأعناق يعني: جمع شنقٍ, وهو ما يشد به الشيء إذا قرن بغيره, أخذ من شناق القربة. وقالوا في جمع يدٍ: يدي, وأنشد أبو زيدٍ (133/أ): [الطويل] فلن أذكر النعمان إلا بصالحٍ ... فإن له عندي يديًا وأنعما فقالوا: جمع يدًا على يدي, كما يقال: كلب وكليب, وعبد وعبيدٍ, وققيل: جمعها على مثال: ثدي وثدي واستثقل الضمة على الياء ففتحها, وقيل: هو فعيل في معنى مفعولٍ, كما قالوا: مرمي ورمي؛ وذلك أنهم قالوا: يديت إليه يدًا, قال الشاعر: [الوافر] يديت على ابن حسحاس بن وهبٍ ... بأسفل ذي الجذاة يد الكريم وحكى أبو زيد: اليدى في وزن الرحى, وأنشد [الكامل] قد أقسموا لا يمنحونك نقرةً ... حتى تمد إليهم كف اليدا

ومن بيتين أولهما

وقالوا في التثنية: يديان, قال الشاعر: [الكامل] يديان بيضاوان عند محجرٍ ... قد يمنعانك أن تضام وتضهدا والقافية من المتواتر وهي كا, وعلى رأي الخليل: لوكا من: يعلوكا. ومن بيتين أولهما أما ترى ما أراه إليها الملك ... كأننا في سماءٍ ما لها حبك وزنهما من البسيط الأول. الحبك: أثر الصنعة في السماء وغيرهما, ويقال: لهذا الماء حبك إذا كانت فيه طرائق, قال زهير وذكر ماءً: [البسيط] مكللٍ بأصول النبت تحفزه ... ريح حريق لصافي مائه حبك ويقال في صفة القوم: هم يضربون حبيك البيض؛ أي: الذي فيه أثر الصنعة, قال زهير: [البسيط] هم يضربون حبيك البيض عن عرضٍ ... تحت العجاج إذا ما استلحموا وحموا وقوله: الفرقد ابنك والمصباح صاحبه ... وأنت بدر الدجى والمجلس الفلك جعل ابنه كالفرقد, والمصباح كالفرقد الآخر. والهاء في صاحبه يجوز أن تعود على الابن, والأجود أن تكون عائدةً على الفرقد. وقافيتهما من المتراكب, وهي حبك, وأول القافية على رأي الخليل: الهاء من لها إلى آخر البيت.

ومن التي أولها

ومن التي أولها فدى لك من يقصر عن مداكا ... فلا ملك إذًا إلا فداكا الوزن من أول الوافر. يقال: فدى لك وفدى لك, ويمدون إذا كسروا الفاء, ويقصرون, والمراد الذي قصده الشاعر أن الخلق كلهم فداء للممدوح؛ لأنهم يقصرون عن مداه. وقوله: ولو قلنا فدى لك من يساوي ... دعوانا بالبقاء لمن قلاكا يقول: لو قلنا فدى لك من يساويك لكان ذلك دعاء لأعدائك بطول البقاء إذ كنت ليس لك مساوٍ في الخلق. وقوله: وآمنا فداءك كل نفس ... وإن كانت لمملكة ملاكا يقال: هو ملاك الشيء؛ أي: قوامه, وكسر الميم أفصح, وقد تفتح, وهو مأخوذ من قولهم: ملكت العجين إذا شددته, وملك فلان كفه بالطعنة إذا طعن طعنةً منكرةً, قال قيس ابن الخطيم: [الطويل] ملكت بها كفي فأنهرت فتقها ... يرى قائم من دنها ماء وراءها وهذا البيت معطوف على ما قبله؛ أي: لو قلنا: فدى لك من يساويك؛ لآمنا كل نفس أن تفديك وإن كانت نفس ملك. وقوله: ومن يظن نثر الحب جودا ... وينصب تحت ما نثر الشباكا يقال: يطن بطاءٍ مشددةٍ, وبظاءٍ فيها تشديد, وبظاءٍ وطاءٍ, وكل تاء افتعالٍ وما تصرف منه مثل: افتعل ويفتعل ومفتعل إذا كان قبلها ظاء أو طاء قلبت طاءً, وجاز فيها ثلاثة أوجه, وهي التي تقدم ذكرها وبيت زهير ينشد على ذلك, وهو قوله: [البسيط]

هو الجواد الذي يعطيك نائله ... عفوًا ويظلم أحيانًا فيظلم ينشد بطاءٍ مشددةٍ فيقال: يطلم, وبظاء مع تشديد, فيقال: يظلم, وبظاء بعدها طاء, فيقال: يظطلم. وقوله: ومن في أول البيت موضعها نصب لأنها معطوفة على قوله: كل نفسٍ, ويجوز أن تكون مخفوضةً معطوفةً على نفسٍ كأنه يومئ بهذا القول إلى الذي قال فيه: [السريع] لو كان ذا الآكل أزوادنا ... ضيفًا لأوليناه إحسانا لكننا في العين أضيافه ... يوسعنا زورًا وبهتانا فليته خلى لنا طر قنا ... أعانه الله وإيانا والمعنى: أن بعض الملوك مثله مثل من ينثر الحب للطير كي يوقعها في الشبكة, ويظن أن ذلك جود, وإنما هو احتيال ومكر. وقوله: ومن بلغ التراب به كراه ... وقد بلغت به الحال السكاكا من: هاهنا في موضعها مثل من في البيت الذي تقدم, والأجود أن تكونا جميعًا في موضع نصبٍ. والسكاك: الهواء بين السماء والأرض, يقول: لو قلنا: فدى لك من يساوي لأمنت هذه الجماعة أن تفديك, وفيهم من ك أنه (133/ب) في كرى من غلفته فقد خفض ذلك منزلته, وإن كانت حاله قد رفعته في الهواء. وقوله: فلو كانت قلوبهم صديقًا ... لقد كانت خلائقهم عداكا الصديق: يستعمل للواحد والاثنين والجمع, والمذكرو المؤنث, وجمعه صدقان وصدقان, ويقال: إن رؤبة كان جالسًا وحوله جماعة يوم الجمعة بعد انصرافهم من الصلاة, والجماعة كثيرة قد سدت الطريق, وأقبلت عجوز ومعها شيء قد اشترته, فقال رؤبة: [الرجز] تنح للعجوز عن طريقها ... قد أقبلت رائحةً من سوقها دعها فما النحوي من صديقها

فيجوز أن يكون أراد من أصدقائها فاستعمل الواحد مكان الجمع, ويجوز أن يكون أراد مضافًا فحذفه كأنه قال: من جنس صديقها أو من صحب صديقها, وقال جميل: [الطويل] كأن لم نحارب يا بثين لو انها ... تكشف غماها وأنت صديق يقول: لو كانت قلوب هؤلاء القوم صادقةً في محبك وموالاتك لكانت أخلاقهم أعداء لك؛ لأنك شجاع, وهم جبناء, وجواد وفيهم بخل, ونحو ذلك. وقوله: لأنك مبغض حسبًا نحيفًا ... إذا أبصرت دنياه ضناكا الحسب: من يعده الرجل من آبائه, وما يحسبه من مكارمه, واستعار النحافة للحسب, وقد سبقت الشعراء إلى نحو ذلك, فقالوا: بنو فلان أدقاء؛ أي: ليس لهم شرف. وفلان مهزول الحسب, قال الشاعر: [الرمل] رب مهزولٍ سمينٍ عرضه ... وسمين الجسم مهزول الحسب والضناك: قد مر ذكرها, وهي المرأة التي يكثر لحمها حتى يرجم بعضه بعضًا, قال جميل: [الطويل] ضناك على نيرين أمست لداتها ... بلين بلا الريطات وهي جديد ويقال: نخلة مضانك إذا زاحمت النخلة التي إلى جانبها, قال غالب بن الحر الجعفي: [الطويل] يقول لها الزوار أين خيارها ... أهاتيك أم هاتي التي لم تضانك ومن ذلك قيل: رجل مضنوك: إذا أصابه زكام كأنه يضيق أنفه.

وقوله: أحاذر أن يشق على المطايا ... فلا تمشي بنا إلا سواكا السواك: مشي ضعيف, وربما قالوا: هو مشي الجائع, وقال بعض الخوارج: [الطويل] إلى الله أشكو ما أرى من جيادنا ... تساوك هزلى مخهن قليل وحدث أبو الحسين علي بن الحسين المغربي - رحمه الله - أن عضد الدولة كان فيما حمله إلى أبي الطيب خمسون ألف درهمٍ, وزن كل درهمٍ درهم ونصف, جعلها في شقة ديباجٍ, وأعطاه سوى ذلك من البخاتي, وغيرها. وقوله: أتتركني وعين الشمس نعلي ... فتقطع مشيتي فيها الشراكا هذا استفهام ليس عن جهلٍ, وإنما هو تقرير وإعلام أن ما يفعله خطأ, ولكنه مضطر إلى فعله, كما تقول للرجل: أتكرمني هذه الكرامة وأفارقك؛ أي: إن ذلك لا يجب, ولا يحسن؛ لأنك قد رفعتني حتى جعلت عين الشمس نعلي فأمشي فيها مشيًا يقطع الشراك؛ أي: لا ينبغي أن أفعل ذلك. ويجوز نصب تقطع ورفعها؛ فالرفع عطف على تتركني, والنصب على إضمار أن؛ لأنه جواب استفهام بالفاء. وقوله: أرى أسفي وما سرنا شديدًا ... فكيف إذا غدا السير ابتراكا الابتراك: أن يعتمد في أحد جانبيه إذا عدا, قال زهير: [البسيط] مرًا كفيتًا إذا ما الماء أسهلها ... حتى إذا ضربت بالسوط تبترك وهذا المعنى يتردد كثيرًا. ومن أحسن ما قيل فيه بيت ينسب إلى جميلٍ, وهو: [الطويل]

أشوقًا ولما تمض لي بعد ليلة ... رويد الهوى حتى تغب لياليا وقوله: وهذا الشوق قبل البين سيف ... وها أنا ما ضربت وقد أحاكا يقول: شوقي كأنه سيف ولم أرتحل بعد, ولم أضرب بذلك السيف, وقد أحاك في؛ أي: أثر, وهذه مبالغة في صفة الشوق. وقوله (134/أ): إذا التوديع أعرض قال قلبي ... عليك الصمت لا صاحبت فاكا يقول: إذا هممت بالتوديع أمرني قلبي بالصمت, ودعا علي فقال: لا صاحبت فاك؛ أي: ليتك لا فم لك تنطق به فتودع. وقوله: ولولا أن أكثر ما تمنى ... معاودة لقلت ولا مناكا مناك: في موضع نصب؛ لأنها كالمعطوفة على قوله: فاك؛ أي: لا صاحبت فمك, ولا أمانيك, وإنما يريد مناه التي تخطر بقلبه لا الأماني التي تبلغ؛ لأنه بخل عليه بأن يتمنى شيئًا لم يكن بعد؛ لأن الأماني ربما تعلل بها أخو الهم, ومن ذلك قول القائل: [البسيط] إذا تمنيت بت الليل مغتبطًا ... إن المنى رأس أموال المفاليس ومنه قول مالك بن الريب: [الطويل] فيا زيد عللنا بمن يسكن الغضا ... وإن لم يكن يا زيد إلا أمانيا

وقوله: قد استشفيت من داءٍ بداءٍ ... وأقتل ما أعلك ما شفاكا يقول قلبه: قد استشفيت من داءٍ, وهو فراق هذه الحضرة, بداءٍ, وهو الوداع, وأقتل ما أعلك الذي يشفيك فيما تظن, وهو وداعك. وقوله: فأستر منك نجوانا وأخفي ... همومًا قد أطلت لها العراكا هذه الأبيات كلها حكاية عن القلب. نجوانا: أي: سرارنا؛ يعني القلب مناجاته للهموم. وقوله: إذا عاصيتها كانت شدادًا ... وإن طاوعتها كانت ركاكا الركاك: جمع ركيكٍ, وهو الضعيف, وكل ضعيفٍ ركيك, ومنه قولهم: مطر رك إذا كان ضعيفًا, قال الشاعر: [الرجز] كأن فاها عبقر بارد ... أو ريح روضٍ مسه تنفاح رك العبقر: البرد. وقوله: وكم دون الثوية من حزين ... يقول له قدومي ذا بذاكا ومن عذب الرضاب إذا أنخنا ... يقبل رحل تروك والوراكا تروك: اسم بختيةٍ كان وهبها له عضد الدولة, والوراك: ما يتورك عليه الراكب من أديمٍ أو غيره, والثوية: أرض قريب من الكوفة. وقوله: يحرم أن يمس الطيب بعدي ... وقد عبق العبير به وصاكا العبير: الزعفران, ويقال: بل هو أخلاط من الطيب تجمع. وصاك به الطيب إذا علق. وكأن (عبق) مستعمل في الرائحة. وصاك الطيب بالجسد إذا تبين أثره عليه.

وقوله: ويمنع ثغره من كل صب ... ويمنحه البشامة والأراكا يقال: يمنح ويمنح, وكسر النون أفصح, وأصل المنيحة العارية, ثم سموا العطية منحةً ومنيحةً, والبشام والأراك والضرو والنعض والعتم كل ذلك يستعمل في السواك. والضرو: البطم, والعتم: زيتون البر. وحدث بعض التجار أنه كان بطبرية فجاءت بدوية تشتري لابنةٍ لها كفنًا فرأوا فيها شيئًا من فصاحةٍ, فقالوا: أرثيت ابنتك بشيءٍ؟ فأنشدتهم: ألا حبذا أنياب مرضية العلى ... إذا ظل يجري بينهن قضيب قضيب بشامٍ لا قضيب أراكةٍ ... تخيره الجانون وهو رطيب وقوله: يحدث مقلتيه النوم غني ... فليت النوم حدث عن نداكا وإن البخت لا يعرقن إلا ... وقد أنضى العذافرة اللكاكا خبر عن الذي وصفه بعذوبة الرضاب يحدثه النوم عنه؛ فتمنى أنه النوم يحدث عن ندرى الممدوح, ويعلم المشتاق أن العيس لا يعرقن, أي: يصلن إلى العراق إلا وقد أنضاها ما هي حاملة من المال, وغيره؛ أي: جعلها أنضاءً. والعذافرة, بفتح العين: جمع عذافرةٍ, واللكاك: كأنه جمع لكيكةٍ. واللكيك: اللحم, ويقال: ناقة لكية؛ أي كثيرة اللك وهم اللحم. قال المثقب العبدي: [السريع] حتى تلافيت بلكيةٍ ... مشرفة الحارك والمقحد يعني بالمقحد: أصل السنام, وهي القحدة, يقال: ناقة مقحاد, والجمع: مقاحيد.

وقوله: وما أرضى لمقلته بحلمٍ ... إذا انتبهت توهمه ابتشاكا توهمه: يعني العذب الرضاب. والابتشاك: الكذب. وقوله: فلا إلا بأن يصغي وأحكي ... فليتك لا يتيمه هواكا بعد (لا) كلام (134/ب) محذوف, كأنه قال: ولا أرضى بما يراه في المنام, إلا بأن أحكي ويصغي؛ أي يميل أذنه إلى الاستماع, ويتيمه؛ أي: يستعبده. وقوله: وذاك النشر عرضك كان أولى ... وذاك الشعر فهري والمداكا النشر: الرائحة الطيبة. والفهر: مؤنث, وتصغيره فهيرة, والعطار يستعمل الفهر في سهك الطيب, والمداك: صلاءة الطيب, وهي مفعل من داك الشيء يدوكه إذا دلكه, وعركه. وقوله: فلا تحمدهما واحمد همامًا ... إذا لم يسم حامده عناكا يعني بالهمام: البعيد الهمة؛ أي: فلا تحمد فهري والمداك, واحمد نفسك فأنت الذي إذالم يسمه حامده فإنما عناك. يقال: أسميت الرجل وسميته. وقوله: أغر له شمائل من أبيه ... غدًا يلقى بنوك بها أباكا أغر: نعت لهمامٍ, والمعني به الممدوح, وذكر أن لهذا الأغر شمائل من أبيه؛ أي: أخلاقا. وقوله: غدًا يلقى بنوك بها أباك؛ أي: عن قربٍ يكون بنوك يشابهون أباك فيلقون شمائله بمثلها. وقوله: أذمت مكرمات أبي شجاعٍ ... لعيني من نواي على ألاكا نواي: أي: بعدي, وأذمت من الذمام؛ أي: إنه أعطاني ذماما على ألاك - يعني أهله - فزال بعدي عنهم.

وقوله: فلو سرنا وفي تسرين خمس ... رأوني قبل أن يروا السماكا السماك يطلع في أول تسرين, وفي كتاب أبي حنيفة الدينوري الموضوع في الأنواء أنه يطلع لتسع يمضين من تسرين الأول, وقال غيره: يطلع لأربع مضين من تسرين. وبيت أبي الطيب يصح إذاحمل على حكاية الدينوري ويستحيل في القول الآخر؛ لأنه ذكر أنه إذا سار بعد خمس رأوه قبل أن يرى السماك, وهو يطلع لأربع, فهذا يتناقض. قوله: وألبس من رضاه في طريقي ... سلاحًا يذعر الأبطال شاكا السلاح: اسم يجمع السيف والرمح والسهام, والغالب على السلاح التذكير, وربما أنث, وينشد قول الطرماح في صفة ثورٍ وحشي كر على كلاب الصيد: [الطويل] يهز سلاحًا لم يرثها كلالةً ... يشك بها منها أصول المغابن والشاك: سلاح ذو شوكةٍ؛ أي: حد, يقال: سلاح شائك, وهو فاعل من شاك يشوك, وشاكٍ في وزن قاضٍ, وشاك على حذف الهمزة؛ فيجوز أن يكون أصله على فعلٍ مثل شوكٍ, أو على فعلٍ مثل شوكٍ. والواو إذا كانت متحركةً, وقبلها فتحة قلبت ألفًا. وقالوا: اشتكى الرجل في لأمة الحرب إذا لبسها, وهذا مأخوذ من قولهم: هو شاكٍ في السلاح, قال حميد بن ثور: [الطويل] فلما اشتكى في بزة الحرب واستوى ... على ظهر محبوك القرا عتدٍ عبل وقوله: حيي من إلهي أن يراني ... وقد فارقت دارك واصطفاكا

ومن قطعة أولها

ذكر محمد بن سعدٍ راوية أبي الطيب أنه رأى هذا البيت بخط أبي الفتح بن جني بكسر الطاء في اصطفاكا على قصر الممدود. والأشبه بأبي الطيب أن يكون قال: واصطفاك, وهو يريد فعلًا ماضيًا, كأنه قال: وقد فارقت دارك وقد اصطفاك الله سبحانه, وكان يذكر أنه سمعه يقول: ليس في شعري قصر ممدودٍ إلا قولي: خذ من ثناي عليك ما أسطيعه ... لا تلزمني في الثناء الواجبا وقافية هذه القصيدة من المتواتر, وهي الكاف وما بعدها, والقافية على رأي الخليل: من فاء اصطفاك إلى آخر البيت. ومن قطعة أولها نهني بصورٍ أم نهنئها بكا ... وقل الذي صور وأنت له لكا وهي من ثاني الطويل. خفف الهمز وهمز في مصراعٍ, ويجوز أن يكون اعتقد حذف همزة الاستفهام, كأنه قال: أنهنئ بصورٍ. وقد تجيء أم تخرج كلامًا من كلامٍ, وإن لم تسبقها همزة الاستفهام, مثل قوله تعالى: {الم * تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين * أم يقولون}. والمعنى: وقل الذي صور وأنت له أي من أصحابه, وكان بدر بن عمارٍ واليًا بصور من قبل محمد بن رائقٍ. وقوله (135/أ): وما صغر الأردن والساحل الذي ... حبيت به إلا إلى جنب قدركا الأردن: الإقليم الرابع من أقاليم الشام, وهي خمسة أجنادٍ: جند قنسرين, وجند حمص, وجند جلق, وجند الأردن, وجند فلسطين. والأردن في اللغة: نعاس غالب, قال الراجز, أنشده ابن السكيت: [الرجز] قد أخذتني نعسة أردن ... وموهب مبزٍ بها مصن

ومن بيتين أولهما

أي: لازم لها. وقافية هذه الأبيات من المتدارك, وهي بكا, وما جرى مجراها, ومذهب الخليل يوجب أن تكون القافية ميم فمٍ ثم إلى آخر البيت. ومن بيتين أولهما لم تر من نادمت إلاكا ... لا لسوى ودك لي ذاكا وزنهما من ثالث السريع. وعاب الصاحب بن عبادٍ على أبي الطيب قوله: إلاك؛ لأن الصواب عنده: إلا إياك, وكلا الوجهين جائز, وأنشد النحويون: [البسيط] فما نبالي إذا ما كنت جارتنا ... ألا يجاورنا إلاك ديار ولا ريب أن هذين البيتين قيلا بديهًا, وقائل البديه معذور. وقافيتهما من المتواتر, وهي الكاف والألف, والقافية على رأي الخليل: لاكا. ومن أبيات أولها أنا عاتب لتعتبك ... متعجب لتعجبك وزنها من ثامن الكامل, ورويها لكاف على مذهب الخليل, وسعيد بن مسعدة, وغيرهما من المتقدمين, ولأبي العباس محمد بن يزيد كتابان في القوافي, دل كلامه في أحدهما على أن الروي عنده في مثل هذه الأبيات الباء, والكاف صلة, وقافيتها من المتدارك. يقال: تعتب الإنسان اجتلب عتابًا في غير موضعه, كما يقال: تكرم إذا أظهر كرمًا وليس بكريمٍ.

والعتاب مأخوذ من قولهم لما ارتفع من الأرض: عتبة, يراد أنه قد نبا عن المودة, قال أبو دوادٍ الإيادي: [المتقارب] فلم ينفع الوحش منه النجاء ... ولا وثبهن عراض العتب ويجوز أن يكون مأخوذًا من عتبة الوادي, وهي منقطعه, يقال: عتب القوم إذا نزلوا في العتبة, فيكون العتاب كالانعطاف عن الود. * * *

ذكر ما جاء على حرف اللام

ذكر ما جاء على حرف اللام من التي أولها رويدك أيها الملك الجليل ... تأي وعده مما تنيل وزنها من أول الوافر. ورويد عند البصريين قد رخمت ترخيم التصغير, وأصلها الإرواد, وهو ضد الإسراع, يقال: فرس حثيث المرود, وهذا البيت ينسب إلى امرئ القيس بن حجرٍ, وإلى امرئ القيس بن عابسٍ الكندي, وهو: [المتقارب] وأعددت للحرب وثابةً ... جواد المحثة والمرود أنشده الفراء بضم الميم من المرود وفتحها, وكذلك مذهبه فيما عدده أربعة أحرفٍ فيقول: الممسى والمصبح والممسى والمصبح. ورويد: ينتصب الاسم بعدها على تقدير قولك: أرود زيدًا؛ أي: لا تعجله, قال الهذلي: [الطويل] رويد عليًا جد ما ثدي أمهم ... إلينا ولكن ودهم متماين متماين من المين, وهو الكذب, ويروى: متيامن؛ أي: يميل إلى اليمن. وقد يخفض ما بعد رويد في مثل قولك: رويدك ورويد كما, وقال قوم: تكبير رويدٍ: رود, وأنشدوا هذا البيت: [البسيط] يكاد لا يثلم البطحء مشيته ... كأنه ثمل يمشي على رود ويجوز أن يكون اشتقاق رويد من: راد الرائد إذا طلب الكلأ للقوم؛ لأنه يتأنى في مشيته ليعرف مكان الإخصاب. وقوله: تأي: من قولهم: تأيا في أمره, إذا تمكث ولم يستعجل

فيه, وقوله: عده: الهاء راجعة إلى التأيي, ومثل ذلك كثير, يقال: من كذب كان شرًا له؛ أي: كان الكذب, وقال جرير: [الطويل] إذا اكتلحت عيني بعينك لم تزل ... بخير وجلى غمرةً عن فؤاديا أراد: وجلى الاكتحال. ونصب جودك في قوله: وجودك بالمقام؛ لأنه عطفه على ما قبله كأنه قال: أرود وأعطنا جودك. وقوله: لأكبت حاسدًا وأري عدوا ... كأنهما وداعك والرحيل أراد جد بالمقام لأكبت حاسدًا, وأري عدوًا من الوري, يقال: وراه وريًا, وهو داء في الجوف, قال الراجز: [الرجز] قد اذلغفت وهي لا تراني ... إلى البيوت مشية السكران وحبها في الصدر قد وراني اذلغفت: أي: أسرعت. وسكن الياء من أري ضرورةً. وقوله: كأنهما وداعك والرحيل: يعني: العدو والحاسد؛ أي: أنا (135/ب) أبغضهما كما أكره وداعك ورحيلك. وقوله: ويهدأ ذا السحاب فقد شككنا ... أتغلب أم حياه لكم قبيل وصف قوم الممدوح بالجود, فزعم أنه قد شك: أتغلب ابنة وائلٍ لكم قبيل أم هذا السحاب. وأصحاب اللغة يقولون: القبيلة من بني أبٍ واحدٍ, والقبيل: جماعة من الناس, يجوز أن يكونوا من ولد رجلٍ واحدٍ, أو من أبناء قومٍ مختلفين, ولما كان القبيل يجري مجرى الجماعة جاز أن يقع في هذا الموضع, كما يقال: صحب الرجل؛ فيجوز أن يكونوا من بني أبيه, ومن غيرهم, وكذلك القبيل في هذا البيت يجوز أن يستعمل في معنى القبيلة, وفي معنى الجمع الذين يكونون مع صاحب الجيش.

وقوله: وكنت أعيب عذلًا في سماحٍ ... فها أنا في السماح له عذول الهاء في له عائدة على السحاب, والمعنى: أني كنت أعيب عذلًا في السماح, فلما دام هذا المطر عذلته في الدوام؛ لأنه منعنا من السير, وهذا اللفظ على أن سيف الدولة أراد المسير فسأله الشاعر أن يتلبث. وقوله: وما أخشى نبوك عن طريقٍ ... وسيف الدولة الماضي الصقيل لما أخبر عن السحاب بالهاء, فقال: فها أنا في السماح له عذول, رجع إلى خطاب سيف الدولة؛ لأنه ابتدأ في أول الأبيات بخطابه, ولو أمكنه أن يقول: وأنت سيف الدولة لكان ذلك أبين, ولكنه لم يمكنه الوزن من المراد, وهذا كقولك لرجل اسمه علي أو غيره: قد فعلت حميلًا, وعلي أهل لذلك. فاستغنى بعلم المخاطب بالمراد عن أن يقول: وأنت من أمرك. وقوله: وكل شواة غطريفٍ تمنى ... لسيرك أن مفرقها السبيل الشواة: جلدة الرأس, واختلف أبو عمرو بن العلاء وأبو الخطاب الأخفش في بيت الأعشى, فرواه أبو عمروٍ: [مجزوء الكامل] قالت قتيلة ما له ... قد جللت شيبًا شواته وروى أبو الخطاب: سراته؛ أي: أعلى رأسه, والمعنى واحد. ويقال لجلد جميع الجسد: شواة, ومنه قوله تعالى: {نزاعةً للشوى} , وقال أمية بن أبي الصلت, وكان قد قرأ الكتب التي في أيدي أهل الملل فنظم شيئًا منها في شعره: [الطويل] سينزع في النار التي هو داخل ... شوى كان في الدنيا به يتزين وتمنى يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون تتمنى بتاءين, ويكون متمنيه الشواة, والآخر أن يكون تمنى فعلًا ماضيًا, وفيه ضمير يعود إلى الغطريف.

ومن أبيات أولها

وقوله: ومثل العمق مملوءٍ دماءً ... مشت بك في مجاريه الخيول خفض مثل بواو رب, ومثل لا تتعرف بإضافتها إلى المعرفة, قال الشاعر: [الكامل] يا رب مثلك في النساء غريرةٍ ... بيضاء قد متعتها بطلاق خفض مملوءًا؛ لأنه نعت لمثلٍ. وقافية هذه القصيدة من المتواتر, وهي اللام والواو, والقافية عند الخليل: ليلو من قوله: الخليل, [و] وصولو من قوله: الوصول. ومن أبيات أولها نعد المشرفية والعوالي ... وتقتلنا المنون بلا قتال وزنها من أول الوافر. وسكن الياء من العوالي للضرورة, وذلك من أسهل الضرورات؛ لأنهم قد سكنوا هذه الياء في حشو البيت, والقافية أحمل لما يحذف من جميع ألفاظ الموزون. وقوله: ونرتبط السوابق مقرباتٍ ... فما ينجين من خبب الليالي مقربات: جمع مقربةٍ وهي الفرس الأنثى تكون قريبةً من البيت, ويقال: إنهم كانوا يفعلون ذلك خيفة أن ينزو عليها فحل ليس بكريمٍ, والشعر يدل على أنهم كانوا يدنون الخيل من بيوتهم ليتيسير ركوبها عليهم إذا أغار مغير أو صرخ صارخ, فالذكر والأنثى فيه سواء, قال المقنع الكندي: [الطويل] يعاتبني في الدين قومي وإنما ... ديوني في أشياء تكسبهم حمدا (136/أ) فمن فرسٍ نهدٍ عتيقٍ جعلته ... حجابًا لبيتي ثم أخدمته عبدا

وقالت أم تأبط شرًا وهي ترثيه: وابناه ... وابن الليل ... ليس بزميل ... شروبٍ للقيل ... يضرب بالذيل ... كمقرب الخيل وابناه ... ليس بعلفوف ... تلفه هوف ... حشي من صوف فقولها: كمقرب الخيل: يدل على أنهم كانوا يقربون الذكور كما يقربون الإناث, والزميل: الضعيف الذي يتزمل في ثيابه وينام. والعلفوف: الجافي, والهوف: ريح حارة تأتي من قبل اليمن, والقيل: شرب نصف النهار. يقول: إن الخيل وإن كانت سوابق نواجي فإن الليالي تدركها وتدرك فوارسها بالسير الذي ليس بشديدٍ؛ لأن الخبب عندهم أول العدو وأخفه. وقوله: وهان فما أبالي بالرزايا ... لأني ما انتفعت بأن أبالي سكن الياء في أبالي, وقد مضى القول في ذلك. وأصل المبالاة: أن تستعمل في النفي, كما قال الأعشى: [الخفيف] إن يعاقب يكن غرامًا وإن يعـ ... ـط جزيلًا فإنه لا يبالي وربما استعملوه باليت في غير النفي؛ وذلك إذا جاء في آخر الكلام نفي, كما قال زهير: [الوافر] لقد باليت مظعن أم أوفى ... ولكن أم أوفى لا تبالي ولا يمتنع أن يكون قولهم: باليت مأخوذًا من بال الإنسان, وهو خلده, وما يجري فيه, ويكون محمولًا على القلب, كأن أصله باولته أي جرى على بالي, ثم قلبوا كما قالوا: لائث بالمكان أي مطيف به, ثم قالوا: لاثٍ وهي من باب قولهم: سلاح شائك وشاكٍ, قال العجاج: [الرجز] لاثٍ به الأشاء والعبري الأشاء: صغار النخل, والعبري: ما نبت من السدر على الأنهار.

وقوله: وهذا أول الناعين طرًا ... لأول ميتةٍ في ذا الجلال الناعين: جمع ناعٍ, وأصل النعي: رفع الصوت بالشيء وإظهاره, ويقولون: نعاء على مثال حذار, قال الفرزدق: [الطويل] نعاء ابن ليلى للسماحة والندى ... وأضياف ليلٍ مقفعلي الأنامل مقفعلي: جمع مقفعل, وهو الذي قد تقبضت يده من البرد. ونصب طر في مذهب قومٍ على الحال, وعلى مذهب آخرين على المصدر. واستعملوا قولهم: طرًا في معنى قولهم: جميعًا, وهو من قولهم: طر الإبل يطرها إذا جمعها من أطرارها؛ أي: نواحيها, وكذلك طررت النصل إذا أحددته. وقوله: صلاة الله خالقنا حنوط ... على الوجه المكفن بالجمال حنوط الميت: ما حنط به, ويقال: إنه من قولهم: حنط الرمث إذا ظهر ورقه, كأنهم يريدون أن الحنوط يشبه لونه لون الرمث إذا حنط, وقد يجوز أن يكون اشتقاق الحنوط من الحنطة وألوانها تختلف. وقوله: وزلت ولم تري يومًا كريهًا ... تسر الروح فيه بالزوال معنى هذا البيت أن الإنسان تمر به شدائد يتمنى معها الموت, ومن كلام العامة: شر من الموت ما يتمنى منه الموت؛ فكأن هذه المرثاة لو مات ولدها لكان ذلك عليها أشد من موتها. والروح تذكر وتؤنث. وقوله: رواق العز فوقك مسبطر ... وملك علي ابنك في كمال الرواق مأخوذ من رواق البيت, وهو ما قدامه, والمسبطر: الممتد, وهو مشتق من السبطر,

يقال: رجل سبطر؛ أي: طويل, ويقال: اسبطرت الخيل إذا امتدت في الجري, وكذلك غيرها, قال عمرو بن معدي كرب: [الطويل] ولما رأيت الخيل زورًا كأنها ... جداول زرعٍ أرسلت فاسبطرت وقال عمر بن أبي ربيعة: [المنسرح] قالت لها قد غمزته فأبى ... ثم اسبطرت تمشي على إثري وقوله (136/ب): لساحيه على الأجداث حفش ... كأيدي الخيل أبصرت المخالي الساحي: الذي يسحى الأرض؛ أي: يقشرها, ويقال: حفش الغيث الأرض إذا استخرج ما فيها من ترابٍ أو نبتٍ, وحفش الفرس جريه إذا استخرج أقصى ما عنده, وقال زهير: [الطويل] فأدبر آثار الشبام وليدنا ... كشؤبوب غيثٍ يحفش الأكم وابله والمخالي: جمع مخلاةٍ, مفعلةٍ من الخلا, وهو الرطب المرعي, وأصلها مخلية, فقلبت الياء ألفًا. وقوله: أسائل عنك بعدك كل مجدٍ ... وما عهدي بمجدٍ منك خال جعل المجد كأنه ربع للمفقودة فهو يسأل عنها. وخالٍ في القافية يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون في موضع خفضٍ؛ لأنه نعت لمجد, ويكون المعنى ليس لي عهد بمجدٍ خالٍ منك, والآخر أن يكون خالٍ في موضع نصبٍ على الحال, كأنه قال: وما عهدت مجدًا منك خاليًا. وقوله: نزلت على الكراهة في مكانٍ ... بعدت على النعامى والشمال قد حذف من هذا البيت ضمير, والتقدير بعدت على النعامى والشمال فيه لأنهما لا تصلان إليك, والنعامى: الجنوب, وقيل: الصبا, قال أبو ذؤيبٍ الهذلي: [المتقارب]

مرته النعامى فلم يعترف ... خلاف النعامى من الشام ريحا وقوله: تحجب عنك رائحة الخزامى ... وتمنع منك أنداء الطلال الطلال: جمع طل, وهو المطر الضعيف, ويقال: خزامى طلة, أي: قد بلها الطل أو الندى, قال جميل: [الطويل] كأن الخزامى طلةً في ثيابها ... بعيد الكرى أو فأر مسكٍ يذبح ويقال لامرأة الرجل: طلته؛ لأنه ينتفع بها كما ينتفع النبت بالطل, ويجوز أن تكون مأخوذةً من قولهم: طل على الشيء إذا أشرف عليه, كأنها تطل على زوجها, ويطل عليها, قال الشاعر: [الوافر] ألا يا أم عمرو لا تلومي ... إذا اجتمع الندامى والمدام أفي بكرين نالهما سواف ... تأوه طلتي ما إن تنام وقوله: يعللها نطاسي الشكايا ... وواحدها نطاسي المعالي النطاسي: الطبيب, وإنما قيل له: نطاسي؛ لأنه يتنطس في الأشياء, أي: يجتهد في معرفتها ودوائها. قال الشاعر: [الطويل] إذا آسها الآسي النطاسي أرعشت ... أنامل آسيها وجاشت كلومها

ويقال: رجل نطيس في معنى نطاسي, قال الراجز: [الرجز] وقد أكون مرةً نقريسا طبًا بأدواء الصبى نطيسا ويقال: عللت المريض: إذا قمت عليه في مرضه. والمعنى: أن المرأة يعللها النطاسي الذي يداوي المرضى, وابنها نطاسي المعالي؛ أي: إذا خاف عليها المرض فدواؤها عنده, ثم شرح الشاعر كيف تداوى المكارم بقوله: إذا وصفوا له داءً بثغرٍ ... سقاه أسنة الأسل الطوال لما كان الطبيب يسقي المريض الأشربة استعار الشاعر السقيا للأسنة, فجعل مداوي الثغر يطلب شفاءه بالأسنة كطلب النطاسي شفاء العليل بالأدوية. وقوله: وليست كالإناث ولا اللواتي ... تعد لها القبور من الحجال الحجال: جمع حجلةٍ, وهو بيت صغير في البيت الكبير من أبيات البادية, وقيل: هو الخدر, قال الراجز: [الرجز] يارب بيضاء ألوف للحجل ... تسأل عن جيش سبيع ما فعل جيش سبيعٍ سالم وقد قفل وقال ذو الرمة: [الوافر] كأن الناس حين تمر حتى ... عواتق لم تكن تدع الحجالا قيامًا ينظرون إلى بلالٍ ... رفاق الحج تنتظر الهلالا وقوله: ولا من في جنازتها تجار ... يكون وداعها نفض النعال

يقال: جنازة وجنازة, قال الكميت: [الخفيف] كان ميتًا جنازةً خير ميتٍ ... غيبته حفائر الأقوام وقال قوم: الجنازة الميت, والجنازة النعش. وقوله: (137/أ): مشى الأمراء حوليها حفاةً ... كأن المرو من زف الرئال المرو: حجارة محددة, ويقدح منها النار, والزف صغار الريش, والرئال: جمع رألٍ, وهو ولد النعامة, وخصها؛ لأن الرأل أنعم ريشًا من النعامة. وقوله: وأبرزت الخدور مخبآتٍ ... يضعن النقس أمكنة الغوالي أي: جواري هذه المفقودة أبرزتهن الخدور, وكن يضعن الغالية على وجوههن فصرن يضعن النقس, وهو المداد, في مواضع الغالية. وقوله: أتتهن المصيبة غافلاتٍ ... فدمع الحزن في دمع الدلال أراد أن هؤلاء الجواري كن في غفلة عما جاءهن, وكن يتدللن فيبكين؛ فوردهن الحزن آمناتٍ منه فبكين حزنًا لا دلالًا, فاختلط منهن الدمعان. وقوله: ولو كان النساء كمن فقدنا ... لفضلت النساء على الرجال إذا رويت على ما لم يسم فاعله فهو أبلغ في المدح, وأقوى في السمع؛ لأن التفضيل عام, وإذا قال: لفضلت, بفتح الفاء, فقد جعل التفضيل إنما يقع من نفسه خاصةً, وليس لفضلت في المسمع قوة فضلت, وإنما حاد أبو الطيب عن الضم؛ لأنه إذا فعل ذلك فقد فضل أم سيف الدولة عليه. وقوله: وما التأنيث في اسم الشمس عيب ... ولا التذكير فخر للهلال

احتج لتفضيل المرأة على الرجل بحجةٍ ما سبقه إليها شاعر؛ لأنه زعم أن الشمس مؤنثة, وهي النور الذي يزعم بعض الناس أنها تنير في السماء كما تنير في الأرض, ووصف الهلال بالتذكير, وهو كثير التنقل, يستسر, ويصيبه المحاق, فجعل ذلك كالنقص فيه. وقوله: يدفن بعضنا بعضًا وتمشي ... أواخرنا على هام الأوالي أراد الأوائل, فقلب, كما قالوا: الليايل, والليالي, قال الشاعر: [الطويل] ولدنك والبدر بن عائشة التي ... أضاء ابنها مسحنككات الليايل وحكى أبو عبيدة: التراقي والترائق, وأنشد: [الطويل] هم زودوني يوم قو حرارةً ... مكان الشجا تجول بين الترائق وقوله: وأنت تعلم الناس التعزي ... وخوض الموت في الحرب السجال يقال: حرب سجال؛ أي: تكون مرةً لهؤلاء ومرةً لغيرهم, وهي مأخوذة من قولهم: ساجل المستقي غيره إذا استقى كل واحد منهما لينظر أيهما أكثر استخراجًا للماء, قال الشاعر: [الرمل] من يساجلني يساجل ماجدًا ... يملأ الدلو إلى عقد الكرب والسجل: مذكر, وهو الدلو الملأى ماءً. وقوله: فلا غيضت بحارك يا جمومًا ... على علل الغرائب والدخال غيضت: أي: نقصت. يقال: غاض الشيء وغاضه غيره, قال الأسود بن يعفر: [الكامل]

إما تريني قد كبرت وغاضني ... ما نيل من بصري ومن أجلادي والجموم: الذي يجم ماؤه؛ أي: يكثر. والغرائب: جمع غريبةٍ من الإبل, وهي التي ترد الحوض وليست من إبل صاحبه, يقولون في المثل: «ضربه ضرب غريبة الإبل». قال المثقب العبدي: [الوافر] كأن نفي ما ترمي يداها ... قذاف غريبةٍ بيدي معين والدخال: من قولهم: ناقة مداخل, وذلك أن الرجل إذا أورد إبله الماء فظن أن بعضها لم يستكمل الشرب أخذه فجعله بين بعيرين لم يشربا فيقال: أورد إبله دخالًا. قال لبيد (137/ب): [الوافر] فأوردها العراك ولم يذذها ... ولم يشفق على بعض الدخال ويروى نغض الدخال, والنغض من تنغيض الشرب, والنغض من كثرة الحركة, وقال آخر: [الطويل] ولا عيب في إيرادها غير أنها ... إذا أوردت كانت قليل دخالها وقوله: رأيتك في الذين أرى ملوكًا ... كأنك مستقيم في محال فإن تفق الأنام وأنت منه ... فإن المسك بعض دم الغزال أصل المستقيم والمحال في الكلام؛ فمستقيمه كقولك: اليوم الجمعة, وفلان كريم, والمحال

ومن التي أولها

يحتمل وجهين: أحدهما: ما كان غير صادق؛ وذلك يقع على مكذوبٍ, وإن كان يجوز مثله؛ لأنك إذا قلت: قدم فلان من سفره فمثل هذا لا ينكر أن يكون, فإن كان كذبًا فهو محال. والآخر: مثل قولهم: أكلت غدًا عنبًا, فهذا مستحيل من وجهين؛ لأنه لم يأكل العنب, ولأنه زعم أنه فعل شيئًا ماضيًا في زمانٍ مستقبلٍ, وكذلك قول الرجل للآخر: سوف أزورك أمس قد جمع جمع تناقضًا من وجهين. وحديث المسك وأخذه من الظباء مشهور. وبعض الفقهاء لا يرى أن يطيب به الميت لأن أصل الدم النجاسة, ولذلك مالوا إلى الكافور؛ لأنه يؤخذ من شجرٍ, وقد روي أن بعض من هلك في الإسلام قد طيب بالمسك ولكن الميل إلى الكافور. والقافية من المتواتر, وهي اللام والياء, وعلى رأي الخليل: زالي من الغزال. ومن التي أولها إلام طماعية العاذل ... ولا رأي في الحب للعاقل الوزن من ثالث المتقارب. كثرت (ما) مع الحروف فحذفت منها الألف, وذلك كله في الاستفهام؛ نحو قولك: لم فعلت؟ وفيم جئت؟ وعلام صنعت؟ وإلا تسافر؟ وحتام تشار الناس؟ وربما أثبتوها في الضرورة. قال الشاعر: [الوافر] علام أقام يشتمني علاما ... كخنزيرٍ تمرغ في دمان

الدمان هاهنا: الرماد, والاشتقاق يدل على أنه للبعر وما جرى مجراه. والطماعية مصدر طمع, والياء تجيء مزيدةً في هذا المثال, كقولهم: الرفاهية والعلانية والطواعية. ويقال: عذلت الرجل أعذله, بالضم, وهو أعلى اللغتين, وقد حكي: يعذل, والمصدر: العذل والعذل, ويجوز أن يكون اسمًا, ويجوز أن يكون مصدرًا, وتقول: عاذل وعذال, كما تقول: شواهد وشهاد, وعاذل وعذل, كما تقول: شاهد وشهد, ويقال للأنثى: عاذلة وعواذل, ويجوز عذل في النساء, يشترك المذكر والمؤنث في فعل, ولا يجوز أن يجمع فاعل من الرجال على فواعل إلا في ضرورة, وكذلك لا يجوز أن يجمع فاعلة من المؤنث على فعال إلا في ضرورة الشعر, قال القطامي: [البسيط] أبصارهن إلى الشبان مائلة ... وقد أراهن عني غير صداد وإنما الأصل: غير صواد, وقال رؤبة: [الرجز] وقد أراني أصل القعادا أي: القاعد من النساء. ويقال لعرقٍ في الرحم: العاذل, وفي الحديث: «ذلك العاذل يغذو» ويجوز أن يكون سمي عاذلًا؛ لأنه كالذي يعذل الرجل إذا أراد أن يطأ المستحاضة. وقوله: أينكر خدي دموعي وقد ... جرت منه في مسلكٍ سابل لأول دمعٍ جرى فوقه ... وأول حزنٍ على راحل

قوله: أينكر: استفهام على معنى التقرير والإثبات؛ كأنه أنكر أن يكون خده منكرًا لدموعه, وقد يجوز أن يكون الإنكار هاهنا من العاذل, وهو يقول: إلام تبكي, وعلام أسفك؟ كأنه يدعي أن هذا الدمع الذي في خده ليس هو له إلف وصاحب؛ لأن هذا الدمع ليس بأول دمعٍ أجراه, وهذا الحزن ليس بأول أحزانه؛ أي: لو أنه أول دمعٍ, وأول حزنٍ لوجب أن ينكره الخد أو العاذل. وقوله: (138/أ): كأن الجفون على مقلتي ... ثياب شققن على ثاكل أراد أن عينه دائمة البكاء, فهي كالثاكل التي لا يرقأ لها دمع, وكأن جفونها ثياب ثاكلٍ شقتهن, فهن لا يخطن؛ يعني أنه يسهر فجفنه لا يطبق على الآخر. وقوله: ولو كنت في غير أسر الهوى ... ضمنت ضمان أبي وائل يقول: لو أني مأسور في غير يد الهوى لخدعت آسري, كما خدع أبو وائلٍ من أسره, فمناه المال والخيل, فجاءته السوابح, وعليها الفرسان, فأهلكت الخارجي. وقوله: فدى نفسه بضمان النضار ... وأعطى صدور القنا الذابل قوله: فدى نفسه: يعني بالقول لا بالفعل. والنضار: الخالص من الذهب وغيره, ويقال للخلنج: نضار. وقوله: ومناهم الخيل مجنونةً ... فجئن بكل فتى باسل مجنوبة: أي أوقع هذا في أمانيهم, والخيل المجنوبة لا يكون عليها فرسان, وكانت العرب في غزواتها وغاراتها تركب الإبل, وتجنب الخيل فلا تركبها إلا في وقت الغارة والقتال؛ ولذلك قال الحطيئة: [البسيط]

مستحقباتٍ رواياها جحافلها ... يسمو بها أشعري طرفه سام والروايا: جمع راويةٍ, وهي إبل تحمل الماء؛ يريد أنهم قد جنبوا إليها الخيل؛ فجحافلها مستحقبة رواياها, ويحتمل أن تكون الروايا الإبل بعينها, والروايا أي: المزاد التي عليها, قال النابغة: [الطويل] ........................ ... تتلغ في أعناقها بالجحافل يريد أنها إذا قرنت إلى الإبل رفعت جحافلها؛ لأن الإبل أعلى شخوصًا من الخيل. والباسل: الشديد, ويقال للشجاع: باسل, والبسالة: كراهة الوجه أيضًا. وقوله: كأن خلاص أبي وائلٍ ... معاودة القمر الآفل ينبغي لمنشد هذا البيت أن ينون أبا وائلٍ حتى لا يظن السامع أنه مصرع, فإن كونه مصرعًا يضعفه؛ لأنه يصير كالإيطاء, إذ كان أبو وائلٍ قد تقدم ذكره, ووائل مشتق من وأل إذا نجا, ومنه قول الأعشى: [البسيط] وقد أخالس رب البيت غفلته ... وقد يحاذر مني ثم لا يئل وقوله: دعا فسمعت وكم ساكتٍ ... على البعد عندك كالقائل يقول: إذا علمت بأن الإنسان مفتقر إلى نصرك سارعت إلى ما يأمله عندك, فهو ساكت لم يدعك, وكأنه قد دعاك. وقوله: خرجن من النقع في عارضٍ ... ومن عرق الركض في وابل

النقع: الغبار, شبهه بالعارض من السحاب, وجعل عرق الخيل كالوابل إذ كان قد شبه النقع بالسحاب. وقوله: فلما نشفن لقين السياط ... بمثل صفا البلد الماحل يقول: إن عرق الخيل أبيض, فلما يبس على ظهور لقيت السياط بمثل صفا البلد الماحل؛ أي: إنها مبيضة بالعرق, فكأن السياط تقع منها بأرضٍ بيضاء لم يصبها مطر. يقال: بلد ماحل وممحل بمعنى. وقوله: شفن لخمسٍ إلى من طلبـ ... ن قبل الشفون إلى نازل يقال: شفن فهو شافن إذا نظر نظرًا حادًا, وقيل: الشفن أن ينظر بعرض عينه. والمعنى أنهن سرن خمسًا وعليهن الفرسان لم ينزلوا عن ظهورهن, فكان النظر إلى أعدئهن قبل أن ينزل عنها الفرسان. وقوله: فدانت مرافقهن البرى ... على ثقةٍ بالدم الغاسل دانت, أي: قاربت, ومرافقهن: يعني مرافق الخيل, والبرى: التراب, يريد أنهن مددن أيديهن في الجرحى (138/ب) حتى دنت مرافقهن من التراب, وادعى أنهن فعلن ذلك لعلمهن أن الدم يغسله عنهن. وقوله: وما بين كاذتي المستغير ... كما بين كاذتي البائل الكاذتان: أعالي الفخذين, وشبه العرق ونزوله بنزول البول. وقد ذهب بعض من فسر هذا البيت إلى أن الفرس إذا أعيا باعد ما بين فخذيه كأنه قد فرجها ليبول, والأول أشبه. وقوله: فلقين كل ردينيةٍ ... ومصبوحةٍ لبن الشائل

أراد بالشائل: القليلة اللبن, وأكثر ما يقولون: ناقة شائلة إذا قل لبنها, والجمع شول, والمراد: أن هذه الخيل لكرمها على أصحابها تؤثر باللبن ويترك العيال, والعرب تفتخر بذلك, قال الأخطل: [الوافر] إذا ما الخيل ضيعها أناس ... ربطناها فشاركت العيالا نهين لها الطعام إذا شتونا ... ونكسوها البراقع والجلالا وهذا الشعر يروى لعنترة, وغيره: [الكامل] لا تذكري فرسي وما أطعمته ... فيكون جلدك مثل جلد الأجرب كذب العتيق وماء شن بارد ... إن كنت سائلتي غبوقًا فاذهبي أي: إني أريد أن أغبق فرسي اللبن, وكذب: كلمة يغرون بها, وقد مضى ذكرها. والعتيق يعني به التمر؛ أي: كليه, ودعي اللبن للفرس. وقوله: وجيش إمامٍ على ناقةٍ ... صحيح الإمامة في الباطل الذي أسر أبا وائلٍ رجل يقال: إنه من القرامطة, ويجوز أن يكون خارجيًا من غيرهم. وقيل: إنه كان يركب جملًا, ويشير بكمه إلى أصحابه يحثهم على القتال, وقد ذكر ذلك أبو الطيب. وقوله: فأقبلن ينجزن قدامه ... نوافر كالنحل والعاسل ينحزن قدامه من الانحياز, شبهه بالعاسل الذي يجيء إلى النحل ليشتار العسل فينفر منه.

وقوله: فلما بدوت لأصحابه ... رأت أسدها آكل الآكل الهاء في أسدها راجعة إلى الأصحاب, ويجوز أن تكون راجعةً إلى الخيل؛ أي لما بدوت لأصحاب الخارجي رأت أسد أصحابه أسدًا يأكلها, كما كانت تأكل غيرها. وقوله: بضرب يعمهم جائرٍ ... له فيهم قسمة العادل وصف الضرب بالجور, أي إنه يسرف فيكون كمن يجور, وقوله: له فيهم قسمة العادل؛ أي يقد الرجل فيجعله كالذي قسم جسمه, وهذا كما يروى عن علي عليه السلام أنه كان إذا اعتلى قد وإذا اعترض قط. وقوله: وطعنٍ يجمع شذانهم ... كما اجتمعت درة الحافل الشذان: ما شذ من الشيء, والهاء والميم في شذانهم راجعة إلى أصحاب الخارجي؛ أي يجمع من شذ منهم إلى معظمهم, كما اجتمعت درة الحافل؛ أي هذا الطعن يجمعهم ليستأصل أخذهم, كما أن الحالب يوفر اللبن ليحتلبه أجمع, وإنما يعني أن الطعن يجمعهم ليصيبهم القتل عن آخرهم, وهذا نحو من قول الأول: [البسيط] من الجعافر يا قومي فقد صريت ... وقد يتاح لذات الصرية الحلب يقال: صرى اللبن إذا جمعه في الضرع. وقوله: إذا ما نظرت إلى فارس ... تحير عن مذهب الراجل يقول للممدوح: إذا نظرت إلى الفارس, وهو أقدر على الفرار من الراجل, تحير فلم يطق أن يذهب ذهاب الواحد من الرجالة.

وقوله: فظل يخضب منها اللحى ... فتى لا يعيد على الناصل يعني بالفتى: سيف الدولة, وجعل قتل أصحابه إياهم كأنه فعل له, إذ كان من إرادته واختياره فخصبت لحاهم بالدم (139/أ) كما يخضب الشيب بالحناء والكتم؛ إلا أن عادة من يخضب شيبه إذا نصل أن يعيد الخضاب, وهذا الخاضب لا يفعل ذلك, ويقال: نصل الخضاب إذا انجلى عن المخضوب. قال الشاعر: [الوافر] وخاضبةٍ لأوبتنا يديها ... سينصل قبل أوبتنا الخضاب وقوله: ولا يزع الطرف عن مقدمٍ ... ولا يرجع الطرف عن هائل يزع: يكف, والطرف: الفرس الكريم, ويقال للرجل: طرف تشبيهًا بالفرس, قال ابن أحمر: [الطويل] عليهن أطراف من القوم لم يكن ... طعامهم حبًا بزغبة أسمرا وبيت الطرماح يفسر على وجهين: [الطويل] فكيف بأطرافي إذا ما شتمتني ... وما بعد شتم الوالدين صلوح قيل: أراد بأطرافه أجداده من قبل أبيه وقبل أمه, وهم جمع طرفٍ, وقيل: أراد جمع طرفٍ وهو الرجل الكريم. وقوله: إذا طلب التبل لم يشأه ... وإن كان دينًا على ماطل التبل أن يكون في قلب الرجل حقد على من قتل قريبًا له, ثم استعير التبل في كل ما يغلب على القلب, فيقال للحب: تبل, وكذلك الشوق, قال الشاعر: [البسيط]

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم إثرها لم يجز مكبول ولم يشأه؛ أي لم يسبقه. وإن كا ن عند رجل عظيم الشأن لم تجر العادة بأن يطلب عنده تبل؛ فهو عزيز ممتنع كالذي يماطل بالدين. وقوله: أمام الكتيبة تزهى به ... مكان السنان من العامل يعني أن سيف الدولة يتقدم أصحابه فيكون أمامهم وعليه معولهم, كما أن الغرض في حمل الرمح إنما هو السنان, فالكتيبة تزهى به أي يداخلها الزهو. وقوله: وإني لأعجب من آملٍ ... قتالًا بكم على بازل أقال له الله لا تلقهم ... بماضٍ على فرسٍ حائل إذا ما ضربت به هامةً ... براها وغناك في الكاهل العرب تحمد الحائل من الخيل والإبل لأنها أقوى على السير والركض, قال امرؤ القيس: [مخلع البسيط] تحملني نهدة سبوح ... صلبها العض والحيال العض: علف الأمصار. يقول: حتى المحارب إذا كان بطلًا أن يلقى عدوه على أجود ما يجد من الخيل, ويكون معه سيف إذا ضرب به هامةً براها كما يبرى القلم, ونزل حتى تسمع صوته في الكاهل, وهو مركب العنق في الظهر, وعجب الشاعر مما فعله الخارجي لما ركب بازلًا من الإبل, وجعل يشير إلى أصحابه بكمه؛ لأن ذلك سفه من الرأي. وقوله: يشمر للحج عن ساقه ... ويغمره الموج في الساحل وصف الخارجي بجهلٍ وإقدامٍ على غير خبرة, فمثله مثل من يشمر عن ساقه ليخوض في اللج, وذكره التشمير يدل على أنه طمع في خوض اللوج, وقد غمره الموج في الساحل

الذي لم تجر عادة الموج أن يصل إليه. وساحل البحر: قيل: هو في معنى مسحولٍ, لأن الماء يسحل عنه التراب, ويجوز أن يعني بساحل الماء الذي يقرب من شاطئه؛ لأنه الذي يسحل ترب الشاطئ, ثم سميت الأرض التي تقرب منه ساحلًا كما يسمى الشيء بما قاربه من الأشياء. وقوله: تركت جماجمهم في النقا ... وما يتحصلن للناخل هذا إسراف في الصفة؛ لأن الجمجمة يجوز أن تبقى دهرًا قبل أن تصير رميمًا, وإنما هذه دعوى يستحسن مثلها قالة النظم, وغيرها أحسن وأشبه. وقوله: وأنبت منهم ربيع السباع ... فأثنت بإحسانك الشامل جعل قتل الممدوح إياهم كإنباته ربيعًا للسباع, وهذا المعنى يتردد كثيرًا, ونحو منه قول الطائي: (139/ب) [الطويل] فإن ذمت الأعداء سوء صباحها ... فليس يؤدي شكرها الذيب والنسر وقوله: وكم لك من خبرٍ شائعٍ ... له شية الأبلق الجائل شية الأبلق: لونه, وأصل ذلك من وشيت الثوب, وينبغي أن تكون شية الفرس شيئًا يخالف لونه, قال الشاعر: [الطويل] عطفت عليهم وردة اللون لا ترى ... بها شيةً إلا حجول القوائم والأبلق يوصف بالاشتهار, قال الشاعر: [الطويل] ترى الأبلق الشمراخ ينشد وسطنا ... ليالي عشرًا وهو في الجيش غابر

وقالوا في المثل: «أعز من الأبلق العقوق» يريدون ما يمنع من الأشياء, وقالوا في تفسيره بأن الأبلق ذكر, والعقوق من صفات الإناث؛ فكأن ذلك معنى لا يوجد, لأن الذكر لا يكون عقوقًا, يقال: أعقت الحامل إذا عظم بطنها للحمل, وأنشد ابن حبيب: [الخفيف] طلب الأبلق العقوق فلما ... لم ينله أراد بيض الأنوق وقال ابن الأعرابي: إنما أرادوا بقولهم: أشهر من الأبلق العقوق: الصبح؛ لأنه يعق الليل؛ أي يشقه, وهذا أشبه من القول الأول. وقوله: ويوم شراب بنيه الردى ... بغيض الحضور إلى الواغل يقول: وكم لك من خبرٍ ومن يومٍ شراب بنيه الموت, فهو بغيض الحضور إلى الواغل, وهو الذي يدخل على القوم في شرابهم ولم يدع إليه, واسم الشراب: الوغل, قال عمرو بن قميئة: [السريع] إن أك مسكرًا فلا أشرب الـ ... ـوغل ولا يسلم مني البعير وقوله: تفك العناة وتغني العفاة ... وتغفر للمذنب الجاهل العناة: جمع عناةٍ, وهو الأسير, والمرأة عانية في يد الرجل, وفي الحديث المأثور: «اتقوا الله في النساء فإنهن عوانٍ في أيديكم». ويقال للخمر: عانية؛ لأنها كالأسيرة في الدن, وإنما قيل: عانية بالتشديد, وإذا قيل لها: عانية؛ فهي منسوبة إلى عانة هذا الموضع الذي يقرب من رحبة مالك بن طوقٍ.

وقوله: فهنأك النصر معطيكه ... وأرضاه سعيك في الأجل الكاف والهاء في قوله: معطيكه مفعولان, ويجوز في غير الشعر: معطيك إياه, والآجل: وقت له أجل محدود. والآجل في غير هذا من قولهم: أجل الشيء؛ إذا أخره كالقتل ونحوه, وهذا البيت ينسب إلى خوات بن جبيرٍ الأنصاري: [الطويل] وأهل خباءٍ صالحٍ ذات بينهم ... قد احتربوا في عاجلٍ أنا آجله أي: جانيه. فأقبلت في الساعين أسأل مالهم ... سؤالك بالأمر الذي أنت جاهله ويقال: إنه مر بصبيةٍ يتضاربون؛ فاستغاثه بعضهم على بعض, فضربه فمات الصبي, فجاء إلى أهل المقتول فسألهم عن الخبر: ما هو. وقوله: فذي الدار أخون من مومسٍ ... وأخدع من كفة الحابل

ومن التي أولها

المومس: المرأة الفاجرة, ويقال إن اشتقاقها من الومس وهو حك الشيء, قال جرير: [الكامل] لعن الإله مجاشعًا وقراهم ... والمومسات إذا وردن زرودا وقافيتها من المتدارك وهي قوله: دلي من العادل, وهي عند الخليل من عين عاذل إلى آخر البيت. ومن التي أولها أعلى الممالك ما يبنى على الأسل ... والطعن عند محبيهن كالقبل الوزن من البسيط الأول. والأسل: الرماح, والأسل أيضًا نبت تعمل منه الحصر, وواحد الأسل أسلة, قال الأفوه: [الكامل] وكأنما أسلاتهم مطلية ... بالمهل من عرق الكلوم إذا جرى وإنما أخذ الأسل من الأسل, ويقال: وجه مأسول إذا كان ناعمًا غير كثير اللحم, ومن ذلك قيل لخد الفرس: أسيل, وإنما هو في معنى مأسولٍ. وقال: والطعن عند محبيهن؛ لأنه جعل الطعن جمع طعنةٍ, والأشبه به أن يكون مصدر طعن, ولو أنه في غير الشعر لكان الوجه أن يقول: والطعن عند محبيه, ومثل ذلك: الضرب (140/أ) حمله على أن يكون مصدر ضرب أوجه من حمله على أن يكون جمع ضربة, مثل: تمرة وتمر. وقوله: وما تقر سيوف في ممالكها ... حتى تقلقل دهرًا قبل في القلل تقلقل من القلقلة وهي الحركة العنيفة, ويقال: رجل قلقل وهو الكثير الحركة, والقلل جمع قلةٍ وهو أعلى الرأس, ويقال لقبيعة السيف: قلة, وسيف مقلل, قال أبو كبير الهذلي: [الكامل]

ولقد شهدت الحي بعد هدوهم ... تعلى جماجمهم بكل مقلل وقوله: على الفرات أعاصير وفي حلبٍ ... توحش لملقى النصر مقتبل أعاصير: جمع إعصارٍ, وهو غبار تلفه ريح شديدة, وفي الكتاب العزيز: {إعصار فيه نار فاحترقت} , وينشد لحسان بن ثابتٍ: [البسيط] كأنهم قصب جفت أسافله ... مجوف نفخت فيه الأعاصير ويقال في المثل: «إن كنت ريحًا فقد لاقيت إعصارا» يقال للرجل الذي يلقاه أشد منه. وقوله: يلقى الملوك فلا يلقى سوى جزرٍ ... وما أعدوا فلا يلقى سوى نفل الجزر أصله في الشاء, الواحدة جزرة, ثم شبهت القتلى بالجزر من الشاء, قال عنترة: [الكامل] إن يفعلا فلقد تركت أباهما ... جزر السباع وكل نسر قشعم وخصت الجزور بهذا الاسم فلم يقال لها جزرة كما أن الشاة لا يقال لها جزور. وقوله: صان الخليفة بالأبطال مهجته ... صيانة الذكر الهندي بالخلل الخلل: ضرب من الثياب تبطن بها غمود السيوف وتغشى بها, قال الشاعر: [مجزوء الوافر]

لخولة موحشًا طلل ... يلوح كأنه خلل يقول: الخليفة قد صان مهجته بالأبطال؛ فهم كالخلل للسيف, وهذا البيت مدح للخليفة وانتقاص بالأبطال, والأشبه أن تكون الهاء في مهجته عائدةً إلى سيف الدولة؛ لأنها إن عادت إلى الخليفة كان ذلك كالإزراء بالممدوح لأنه بعض الأبطال. وقوله: الفاعل الفعل لم يفعل لشدته ... والقائل القول لم يترك ولم يقل يقول: أفعال سيف الدولة يتركها الناس لأنها مستصعبة, وقوله: القائل القول لم يترك ولم يقل؛ أي إنه ينطق بالحكمة التي لم يصل إليها سواه. وقوله: لم يترك؛ أي لم يترك القائلون طلبه, ولما لم يصلوا إليه كان كأنه لم يقل. وقوله: والباعث الجيش قد غالت عجاجته ... ضوء النهار فصار الظهار كالطفل غالت: أي أهلكت, والعجاجة: الغبار؛ أي هذه العجاجة قد سترت الشمس, فالظهر كآخر النهار الذي قد دنا منه الليل. وقوله: الجو أضيق ما لاقاه ساطعها ... ومقلة الشمس فيه أحير المقل الجو: ما بين السماء والأرض, وهذا إسراف في المبالغة, وقد خرج إلى الإحالة؛ لأنه جعل ما بين السماء والأرض أضيق ما لا قاه هذا الساطع, وما الشيء الذي يكون أوسع من الجو؛ فاستعار المقلة اللشمس لما كانوا يقولون: طلعت عينها ونحو ذلك. وقوله: قد عرض السيف دون النازلات به ... وظاهر الحزم بين النفس والغيل

ظاهر الحزم؛ أي جعل بعضه فوق بعضٍ [كما] (*) يظاهر الرجل بين درعين, قال علقمة: [الطويل] مظاهر سربالي حديدٍ عليهما ... عقيلا حروبٍ مخذم ورسوب والغيل: جمع غيلةٍ, وهي ما يغول الإنسان؛ أي يهلكه, والحزم: جودة الرأي وقوته, وهو من قولهم: حزم الرحل إذا أحكم شده. وقوله: ووكل الظن بالأسرار وانكشفت ... له ضمائر أهل السهل والجبل أي وكل ظنه بأسرار الناس, فظنه كعلم غيره, فالأسرار ليست بالخافية عليه. وقوله: هو الشجاع يعد البخل من جبنٍ ... وهو الجواد يعد الجبن من بخل (140/ب) وصفه بالشجاعة, وزعم أنه يرى البخل جبنًا من قلة المال؛ فهو يتركه لأنه شجاع يرى البخل جبنًا, ويعد الجبن من بخل؛ أي إنه إذا جبن فقد بخل بنفسه عن الحمام. وقوله: يعود من كل فتحٍ غير مفتخرٍ ... وقد أغذ إليه غير محتفل أراد بالفتح ما يفتحه من البلاد, والفتح مصدر؛ فيجوز أن يقع على البلد, كما يقع اسم الشيء على ما قاربه, والإغذاذ من قولهم: أغذ السير إذا جد فيه وأسرع, قال الراجز: [الرجز] لما رأيت السير في إغذاذ ... جئت مسلمًا على معاذ تسليم طرماذٍ على طرماذ

وقوله: بذي الغباوة من إنشادها ضرر ... كما تضر رياح الورد بالجعل يقال إن الجعل يألف المواضع الكريهة الرائحة, وتشق عليه الرائحة الطيبة, قال جرير: [البسيط] يا مرفقي إن الجعل يألف المواضع الكريهة الرائحة, وتشق عليه الرائحة الطيبة, قال جرير: [البسيط] يا مرفقي جعلٍ يدعى لشر أبٍ ... في الصيف يدخل بيتًا غير مكنوس وقوله: يا من يسير وحكم الناظرين له ... فيما يراه وحكم القلب في الجذل يعني بالناظرين: ناظري الممدوح, أي له فيما يراه حكم ناظريه [كما له] (*) حكم القلب في الجذل أي الفرح, فإذا تمنى قلبه شيئًا وصل إليه. ومن روى: الناظرين في معنى المنجمين فله معنى, ولا يبنغي أن يعدل عن الوجه الأول, لأن قوله: حكم القلب في الجذل يشهد بأن الناظرين عينا الممدوح. وقوله: ينظرن من مقلٍ أدمى أحجتها ... قرع الفوارس بالعسالة الذبل الأحجة: جمع حجاجٍ وحجاجٍ, وهو عظم الحاجب, قال الراجز: [الرجز] تغدو إذا ما لحمها تفرجا ... إذا حجاجا مقلتيها هججا يقال: هجت العين إذا غارت, وأراد إذا حجاجا مقلتيها غارت المقلتان اللتان فيهما الحجاج لا يهجج, فحمله على حذف المضاف. والعسالة: الرماح لأنها تعسل, أي تضطرب كما يضطرب متن الذئب والثعلب. قال ساعدة بن جؤية في صفة الرمح: [الكامل] لدنٍ بهز الكف يعسل متنه ... فيه كما عسل الطريق الثعلب والقافية من المتراكب وهي أسل من قوله: والأسل, والقافية عند الخليل أولها.

ومن التي أولها

ومن التي أولها بنا منك فوق الرمل ما بك في الرمل ... وهذا الذي يضني كذاك الذي يبلي الوزن من الطويل الأول. يخاطب ميتًا ويقول: إن بنا منك, وإن كنا فوق الأرض, مثل ما بك وأنت تحتها؛ أي إنك تبلى في قبرك ونحن نفنى في بيوتنا. وقوله: تركت خدود الغانيات وفوقها ... دموع تذيب الحسن في الأعين النجل تبل الثرى سودًا من المسك وحده ... وقد قطرت حمرًا على الشعر الجثل النجل: الواسعة؛ يستعمل ذلك في العين والطعنة والمزادة, يقال: عين نجلاء, وكذلك الطعنة والمزادة. وسنان منجل إذا كان واسع الطعنة, وقد قالوا: نجال في جمع أنجلٍ, وجمع أفعلٍ على فعالٍ قليل, وقد جاء في حروف مثل قولهم: أبطح وبطاح, وأعجف وعجاف, وقال بعضهم في كلامه: أيدٍ طوال وأعين نجال. وفي قوله: تبل الثرى سودًا من المسك وحده: شبه من قوله: يضعن النقس أمكنة الغوالي, وذلك أن الدموع توصف بالصفاء؛ فيقال: ماء صافٍ مثل الدموع؛ فأراد أنهن يتطلين بالمسك ويجعلنه في شعورههن, وقد حملهن الحزن على أن قلبن ذوائبهن فصرن قدام رؤوسهن؛ فيمر بالمسك الذي في الذوائب فيسودها بلونه, ولو كانت الذوائب خلفهن لم يكن للدموع إليها سبيل. ويقال: شعر جثل؛ أي كثير الأصول أثيثها, وليس هو مع ذلك بطويل. وقوله: فإن تك في قبر فإنك في الحشى ... وإن تك طفلًا فالأسى ليس بالطفل (141/أ) حدث رجل ثقة أن أبا الطيب لما أنشد هذا البيت قيل له: هذا من قول الأول: [مجزوء الرمل] إن تكن مت صغيرًا ... فالأسى غير صغير

فقال: الشعر طريق وربما وقع الحافر على الحافر. ويقال للصغير: طفل, وربما بقي هذا الاسم عليه فاستعمل له بعد أن يصير رجلًا؛ فجائز أن يقال للفوارس إذا رؤوا وهم شباب أو كهول: هؤلاء أطفال فلانٍ؛ أي أولاده الذين كانوا أطفالًا. فأما قول زهير: [الطويل] لأتحلن في الصبح ثم لأدأبن ... إلى الليل إلا أن يعرجني طفل أي: إلا أن تلقي ناقتي ولدًا فيمنعني من السير. وقوله: ألست من القوم الذي من رماحهم ... نداهم ومن قتلاهم مهجة البخل الاستفهام هاهنا تحقيق, وقوله: ألست من القوم؛ أي أنت منهم, كما يقول الرجل لصاحبه: ألم أعطك دينارًا؛ أي قد أعطيت إياه. وقوله: الذي, يجوز أن يريد به: الذين؛ فيحذف النون, كما قال الأشهب بن رميلة: [الطويل] إن الذي حانت بفلجٍ دماؤهم ... هم القوم كل القوم يا أم خالد فإذا حمل هذا على الوجه؛ فالذي وما بعده موضع خفضٍ لأنه نعت للقوم. وفيه وجه آخر وهو أن يكون الذي مبتدأ, وقوله: من رماحهم صلته, ونداهم: خبر الذي, وتكون الجملة في موضع حالٍ؛ لأن الجملة تنعت بها النكرة, وتكون حالًا للمعرفة. وقوله: بمولودهم صمت اللسان كغيره ... ولكن في أعطافه منطق الفضل

يقول: طفل هؤلاء القوم لا يقدر على النطق, لأنه كغيره من الأطفال؛ إلا أن من نظر إليه دلته المخيلة في أعطافه على أنه يكون منطيقًا, وقد يجوز أن يكون المراد: أن هذا المولود كأن فضله ينطق وإن كان صامتًا. وقوله: تسليهم علياؤهم عن مصابهم ... ويشغلهم كسب الثناء عن الشغل المصاب في هذا البيت يحتمل أن يكون الطفل الذي أصيب, ويحتمل أن يكون المصيبة نفسها؛ إلا أن الفعل الماضي إذا كان على أربعة أحرف استوى فيه لفظ المفعول والمصدر والزمان والمكان, وكذلك جميع الأفعال الرباعية بزوائد كانت أو غير زوائد. وقوله: أقل بلاءً بالرزايا من القنا ... وأقدم بين الجحفلين من النبل البلاء مصدر باليت, وهذا اللفظ مطرد في مصدر فاعلت؛ إلا أن مصدر باليت غير مترددٍ في الشعر. يقول: هؤلاء القوم لا يبالون برزايا الحرب. وجعلهم أصبر على ما يلقون من الرماح؛ لأنها لا تحس بانحطامٍ ولا كسرٍ ولا تحفل بذلك, وجعلهم أسرع إلى حرب العدو من النبل وهو من أسرع ما يكون. وقوله: عزاءك سيف الدولة المقتدى به ... فإنك نصل والشدائد للنصل نصب عزاءك على الإغراء, كأنه قال: عليك عزاءك؛ أي استعمله, وخبره أنه نصل, والشدائد إنما تلقاها النصال؛ وذلك أن السيف هو الذي يضرب به؛ فيلقى شدة الدرع والجوشن, وطال ما نحطم وانفل كما قال القائل: [الطويل] وإنا لنعطي المشرفية حقها ... فتقطع في أيماننا وتقطع وكذلك السنان ربما طعن به فانحطم أو نصل, قال أبو دوادٍ: [المتقاربٍ] ووالى ثلاثًا فخر السنا ... ن إما نصولا وإما انكسارا

وقوله: ولم أر أعصى منك للحزن عبرةً ... وأثبت عقلًا والقلوب بلا عقل تخون المنايا عهده في سليله ... وتنصره بين الفوارس والرجل قوله: أعصى منك وصف لموصوف قد حذف, كأنه قال: ولم أر رجلًا أعصى منك؛ فلذلك جاء (141/ب) مجيء الهاء في سليله وهي عائدة على المحذوف. وقوله: ويبقى على مر الحوادث صبره ... ويبدو كما يبدو الفرند على الصقل الفرند: جوهر السيف وماؤه, يقال فرند وبرند وهو معرب, وليس له في كلام العرب نظائر؛ لأن نونه إن جعلت أصلية فوزنه: فعل؛ وإنما جاء فعل بالتشديد مثل قولهم: فرس طمر, وحمر في اسم موضع؛ فإن جعلت النون زائدة فوزنه فعنل وليس في كلامهم مثل ذلك؛ إلا أن يكون شاذًا. ولقائل أن يقول: إن النون في فرند زائدة, وإنه مأخوذ من انفراد؛ أي إن هذا الشيء مما ينفرد به السيف, وقد قالوا: فرنداد في اسم موضعٍ, قال ذو الرمة: [البسيط] تنفي الطوارف عنه دعصتا بقرٍ ... ويافع من فرندادين ملموم وقوله: يرد أبو الشبل الخميس عن ابنه ... ويسلمه عند الولادة للنمل هذا البيت مثل في أن العظيم القدر يجوز أن تجيئه الرزية من الحقير الذليل, كما أن الأسد تهابه الوحوش والأنعام وبنو آدم, وربما قتلت ولده النمل, وربما تجتمع عليه حين يولد فلا يقدر الأسد على دفعهن. وكأنه أراد أن الموت كالسارق ليس له شخص يدرك, وكذلك عبر المفسرون اللص إذا رئي في المنام بأنه ملك الموت, ولو ظهر الموت في صورة شخص لجاز أن يدفعه هذا الممدوح. وقوله: بنفسي وليد عاد من بعد حمله ... إلى بطن أم لا تحرق بالحمل

الناس يقولون: بنفسي فلان؛ فيرفعون. وهو كلام فيه حذف, وقد يجوز أن يكون على تقدير قولهم: المفدى بنفسي وليد؛ فيرتفع بأنه اسم ما لم يسم فاعله, وهذا إخبار, وكأن فيه معنى التمني؛ أي: ليتني فديته بنفسي. وأراد بالأم: الأرض؛ أي إنها وإن كانت أمًا فهي لا تطرق بالحمل؛ يقال: طرقت الوالدة إذا تعسر عليها خروج الولد, وكذلك القطاة إذا صعب عليها خروج البيضة, قال الشاعر: [الطويل] وقد جعلت رجلي إلى جنب غرزها ... نسيفًا كأفخوص القطاة المطرق وقال النابغة الجعدي ووصف أسدًا: [الطويل] كأن زفير القوم من خوف شره ... وقد بلغت نفس الجبان التراقيا زفير المتم بالمشيأ طرقت ... بكاهله فما يريم الملاقيا المشيأ: المختلف الخلق, والملاقي: جوانب الرحم, وهي جمع ملقى. وقوله: بدا وله وعد السحابة بالروى ... وصد وفينا غلة البلد المحل يقال: ماء روي: أي مروٍ بكسر أوله والقصر, وإذا فتح أوله مد, قال الراجز: [الرجز] يا إبلي ما ذنبه فتأبيه ... ماء رواء ونصي حوليه وقوله: وقد مدت الخيل العتاق عيونها ... إلى وقت تبديل الركاب من النعل

يقول: بدا هذا المولود وهو يعدنا أن يروينا بالجود. وصد: أي مال عنا, وبنا غلة البلد الماحل؛ أي: عطشه, وكان ذلك والخيل قد مدت عيونها تنتظر أن يضع هذا المولود رجله في الركاب فتفتخر بذلك, وجعل الركاب يبدل من النعل؛ لأن الطفل أول مشيه إنما يكون بنعلٍ خفيفةٍ, وادعى للخيل ذلك على سبيل المبالغة. وقوله: وعد السحابة بالروى: جاء بالباء مع الوعد؛ وإنما تجيء مع الوعيد, ولا يقولون: وعدثه بكذا؛ إنما يقال: وعدته خيرًا وشرًا, فإذا قالوا: أوعدت جاؤوا بالباء, قال الراجز: [الرجز] أوعدني بالسجن والأداهم ... رجلي ورجلي شثنة المناسم ويجوز أن يحمل قوله: بالروى على تقدير: له في الروى وعد السحابة, ولا يكون الوعد موصولًا بالباء, وتكون الباء مؤديةً معنى «في». وقوله: وريع له جيش العدو وما مشى ... وجاشت له الحرب الضروس وما تغلي (142/أ) الضروس توصف به الحرب, وأصل ذلك قولهم: ضرسه إذا عضه بضرسه, يقال: فرس ضروس, وكذلك ناقة. وقوله: أيفطمه التوراب قبل فطامه ... ويأكله قبل البلوغ إلى الأكل هذا استفهام لا يحتاج إلى جواب؛ لأن فيه معنى الإنكار, كما تقول للرجل يفعل فعلًا تنكره: ويحك أفعلت كذا؛ أي: لم يجب أن تفعله, والفطم يستعمل في قطع الرضاع عن الولد, وقد استعمل ذلك في الناس وغيرهم, قال الراجز: [الرجز] من كل كوماء السنام فاطم ... تشحى لمستن الذنوب الرادم شدقين في رأسٍ لها صلادم والتوراب من أسماء التراب.

وقوله: وقبل يرى من جوده ما رأيته ... ويسمع فيه ما سمعت من العذل الصواب أن يقول: وقبل أن يرى فحذف أن, ولابد من تقديرها ليصير الكلام في معنى المصدر. و «أن» تحذف في مواضع كثيرة, وحذفها في موضع النصب أيسر من حذفها في موضع الرفع والخفض, على أنه مكروه في كل المواضع. ومما حذفت فيه والموضع موضع نصبٍ قول طرفة: [الطويل] ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغا ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي سيبويه يرفع أحضر, وأجاز غيره النصب بإضمار أن, ومما حذفت فيه أن والموضع موضع رفعٍ قول ذي الرمة: [الوافر] وحق لمن أبو موسى أبوه ... يوفقه الذي رفع الجبالا كأنه أراد: حق له أن يوفقه؛ فأن وما بعدها في محل رفع بما لم يسم فاعله. ومما حذفت فيه أن وهي في موضع خفضٍ بيت ينسبه بعض الناس إلى مدرج الريح وهو: [الرمل] انظرا قبل تلوماني إلى ... طللٍ بين النقا والمنحنى ومن نصب أحضر الوغي جاز أن ينصب يسمع في قوله: ويسمع فيه ما سمعت من العذل. وقوله: هل الولد المحبوب إلا تعلةً ... وهل خلوة الحسناء إلا أذى البعل

ومن التي أولها

التعلة مصدر عللت, كأنه قال: عللته تعللةً ثم ادغم, وهذا مطرد في المضاعف من هذا الجنس؛ يقال: رببت المرأة ولدها تربة أي تربية, وحلل الرجل يمينه تحلة إذا فعل ما يخرجه من الحنث. وقوله: وقد ذقت حلواء البنين على الصبى ... فلا تحسبني قلت ما قلت عن جهل يقال: حلوى وحلواء بالمد والقصر, وهي مأخوذة من الشيء الحلو. وقد يجوز أن تكون الحلاوة في المطعم مأخوذةً من قولهم: حلوته الشيء إذا أعطيته إياه, قال الشاعر: [الطويل] فهل راكب أحلوه كوري وناقتي ... يبلغ عني الشعر إذ مات قائله وقافيتها من المتواتر وهي اللام والياء, والقافية عند الخليل من راء رمل إلى آخر المصراع. ومن التي أولها لا الحلم جاد به ولا بمثاله ... لولا ادكار وداعه وزياله وزنها من الكامل الأول. لا هاهنا في معنى ليس كما قال الشاعر: [الطويل] قضت وطرًا من أرضها ثم آذنت ... ركائبها ألا إلينا رجوعها أي: ليس إلينا رجوعها, وكذلك أراد: ليس الحلم جاد به, وقد يجوز أن يريد: لا جاد به الحلم, وهم يستعملون لا فعل في معنى: لم يفعل, والوجه الأول أجود. قال الراجز: [الرجز]

لا هم إن عامر بن جبله ... زنا على والده وقتله وركب الشادخة المحجله ... وكان في جارته لا عهد له وأي شيء سمج لا فعله أي لم يفعله. زنا على والده؛ أي ضيق عليه, وأصله الهمز, والهاء في: مثاله وبه عائدة إلى المحبوب, وأضمره قبل الذكر لأن المراد بين للسامع. وقوله: لولا ادكار وداعه وزياله, يقول: لولا ادكارنا الوداع والزيال لم نره في النوم لأن الحلم لا يجود به ولا بمثله. وقوله: إن المعيد لنا المنام خياله ... كانت إعادته خيال خياله رفع المنام بفعله؛ لأن المراد: الذي أعاد لنا المنام خياله, وقوله: كانت إعادته خيال خياله: هذه مبالغة في هجران (142/ب) الخيال الأول؛ أي إن النوم لا يجود بخياله الأول؛ وإنما هذا الذي نراه خيال ذلك الخيال الذي كنا نعهده. وقوله: نجني الكواكب من قلائد جيده ... وننال عين الشمس من خلخاله ذكر أن النوم يريه أنه قد وصل إلى أشياء ليس يصلها في اليقظة؛ فكأنه إذا رأى في الرقاد أنه قد مس قلائد من يحب؛ فكأنه قد جنى الكوكب كما تجنى الثمرة, وكأنه ينال من خلخاله عين الشمس, وهذا ما لا يجوز أن يكون بحال الانتباه.

وقوله: بنتم عن العين القريحة فيكم ... وسكنتم ظن الفؤاد الواله يقول: بنتم عن العين التي هي قريحة من البكاء عليكم, وسكنتم الفؤاد الواله؛ فكأنه جاء بالضدين في المصراعين, فجعل العين التي تبكيهم لا تصل إلى رؤيتهم, وهم مع ذلك قد سكنوا ظن الفؤاد الذي به الولد من فقدهم. والوله: ذهاب العقل والحيرة. وجاء بالهاء الأصلية وصلًا مع الهاء التي هي للضمير, وقد جاء ذلك في شعره مرارًا, وربما استعملت الشعراء ذلك, قال الشاعر: [مجزوء الكامل] أبلغ أبا عمرو أحيـ ... ـحة والخطوب لها تشابه أني أنا الليث الذي ... تخشى مخالبه ونابه وقوله: فدنوتم ودنوكم من عنده ... وسمحتم وسماحكم من ماله الهاء في عنده وماله راجعة إلى الفؤاد؛ أي إنه تخطر به الأماني فيراكم في النوم, وأنه قد نال منكم ما لم يكن راجيًا؛ فالفؤاد كأنه يسمح بسماحتكم؛ إذ كانت أمانيه تجلب وصالكم إليه, وإذا منحتموه عطيةً فكأنها مال سمح به. وقوله: إني لأبغض طيف من أحببته ... إذ كان يهجرنا زمان وصاله قال في أول القصيدة: لا الحلم جاد به ولا بمثاله؛ فزعم أن الحلم لا يصل إلى أن يريه الخيال, ثم ذكر بعد ذلك أنه يبغض طيف من أحبه, وهذا يشبه أقوال الشعراء الشيء ثم رجوعهم عنه, وهو الذي يسمى الإكذاب, ومنه قول زهير: [البسيط] قف بالديار التي لم يعفها القدم ثم قال: بلى وغيرها الأرواح والديم ونحو منه قول كثير: [الطويل]

ألم تسأل الربع القواء فينطق ... وهل تخبرنك اليوم بيداء سملق وذكر أبو الطيب ما أوجب بغضه الطيف, وهو أنه يهجره أيام الوصال, وشبهه بالصبابة والكآبة والأسى الكائنات عند الفراق, فقال: مثل الصبابة والكآبة والأسى ... فارقنه فحدثن من ترحاله وقوله: وقد استقدت من الهوى وأذقته ... من عفتي ما ذقت من بلباله استقدت: استفعلت من القود, وأصل ذلك أن الرجل يقتل الآخر؛ فيقاد قاتله إلى أهله؛ فربما قتلوه وربما عفوا عنه. يقول: إن كان الهوى قد لحقتني منه بلابل فقد استقدت منه, وأذقته من عفتي ما هو جزاء له. والهوى في البيت يحتمل وجهين: أحدهما: أن يريد به الهوى الذي هو عرض؛ فيكون هذا من مبالغة الشعراء التي ليس لها حقيقة, لأن القول لا يصح من شيء يخطر في القلب. والآخر: يريد بالهوى المرأة التي شبب بها؛ لأنهم يقولون: فلانهة هواي؛ أي التي أهواها وهذا على حذف المضاف؛ كأنهم يريدون ذات هواي. والبلبال ما يجده الرجل في قلبه من حب أو حزنٍ, وأصل البلبلة: الحركة السريعة, وربما كان معها عنف, ويقال: قوم بلابل أي أصحاب سرعة وحركة, قال الشاعر: [الطويل] سيمنع ما تحوي الحمارة وابنها ... قلائص رسلات وشعث بلابل والحمارة اسم حرةٍ. وقوله: ولقد ذخرت لكل أرضٍ ساعةً ... تستجعل الضرغام عن أشباله

يقول: ذخرت لكل أرضٍ مخوفةٍ ساعةً أكون فيها شجاعًا أفزع من أمر به؛ حتى إني لأفزع الليث فيفر عن الأشبال. وأستجفله أي: أحمله على أن يجفل. يقال: جفل الرجل وغيره وأجفل إذا هرب فزعٍ, قال أبو كبير الهذلي: [الكامل] ومعي لبوس للبئيس كأنه ... روق بجبهة ذي نعاجٍ مجفل وقوله: تلقى الوجوه بها الوجوه وبينها ... ضرب يجول الموت في أجواله (143/أ) الهاء في بها عائدة على الأرض, ولا يمتنع أن تكون عائدةً على الساعة المذخورة, واستعار الجولان للضرب, وإنما هو للحيوان كالخيل وغيرها. وأجوال الشيء جمع جولٍ وهو ناحيته, وكذلك جاله, يقال: جول البئر والقبر وجاله, وقالوا: ليس لفلانٍ جول ولا جال؛ أي ليس له عقل يعتمد عليه؛ لأن البئر إذا كان لها جول؛ أي طي بحجارةٍ كان ذلك آمن لها. قال طرفة: [الطويل] وكائن ترى من ألمعي محظربٍ ... وليس له عند العزائم جول أي ليس له عقل يرجع إليه. وقالوا: رماه فلان من جول الطوي؛ إذا كاده فرجع كيده عليه, وهذا الشعر ينسب إلى ابن أحمر: [الطويل] ولما رأى سفيان أن قد منعته ... من الماء مرأى الحائم الوحدان رماني بأمر كنت منه ووالدي ... بريًا ومن جول الطوي رماني

وقوله: ولقد خبأت من الكلام سلافه ... وسقيت من نادمت من جرياله سلاف الخمر أول ما يسيل منها عند العصار, ويقال: هو ما سال من غير عصارٍ وإنما أخذ من: سلف الشيء إذا تقدم. وسلاف الجيش الذين يتقدمونه, وكذلك السلف, قال أبو دواد: [الخفيف] عين ماءٍ يبين من سلف أر ... عن جلسٍ لرعنه قدام والجريال يختلف في العبارة عنه, وربما قالوا: هو ماء الذهب, وقيل: هو صبغ أحمر يلقى في الخمر. وقيل: الجريال لون الخمر شبه بغيره؛ إما من ماء الذهب, وإما من الصبغ الأحمر. ويقال: جريال باللام وجريان بالنون؛ فأما قول الأعشى: [الكامل] وسبيةٍ مما تعتق بابل ... كدم الذبيح سلبتها جريالها فمعناه أنه شربها حمراء وبال بولًا أبيض فكأنه سلبها لونها. وقوله: وحكمت في البلد العراء بناعجٍ ... معتاده مجتابه مغتاله الناعج من النعجان وهو ضرب من السير, وقيل: إن أصل الناعج أنه الذي يصطاد عليه نعاج الوحش لسرعته, ثم سمي بعض السير نعجانًا. والعراء: ظهر الأرض, ويقال: هو المكان الواسع, والمعنيان متقاربان, ويجوز أن يكون قيل له: عراء لأنه لا شجر فيه كأنه عري منه. وفي الكتاب العزيز: {لنبذ بالعراء وهو مذموم} , فأما العرى بالقصر فهو فناء الدار. معتاده: من العادة, ومجتابه: من جاب البلد إذا قطعه, ومغتاله: أي يغوله ويفنيه, والهاءات الثلث في النصف الثاني راجعات إلى العراء, وقال الشاعر في العراء بالمد: [الكامل] فرفعت رجلًا لا أخاف عثارها ... ونبذت بالبلد العراء ثيابي

وقوله: وتراع غير معقلاتٍ حوله ... فيفوتها متجفلًا بعقاله ادعى لبعيره أنه يسبق الأباعر المطلقة, وهو معقول, وهذا من المبالغة المقدم ذكرها, وأكثرها كذب. وقوله: وشركت دولة هاشم في سيفها ... وشققت خيس الملك عن ريباله أصل الخيس: الشجر المتلف, يقال لغابة الأسد: خيس؛ لأنه لا يكون إلا في موضع فيه قصباء وما هو جارٍ مجراها, فيكون ذلك سترًا له. قال الأفوه: [السريع] ويحضرون الناس يغشونه ... غشيان أسد الخيس آساد خيس وقال آخر: [المنسرح] تغدو المنايا على الغضنفر في الـ ... ـخيس وفيه الطرفاء والأسل والريبال: أصله الأسد, يقال: رئبال بالهمز ويخفف؛ فيقال: ريبال, ويختلف في العبارة عنه؛ فيقال: الرئبال الكثير اللحم الشديده, وهو من قولهم: جسد ربل إذا كان كثير اللحم, قال القطامي: [البسيط] وقد أبيت إذا ما شئت مال معي ... على الفراش الضجيع الأغيد الربل وقيل: الريبال الذي يولد وحده لأن التوأم يضعف أخاه؛ ويقال: الرئبال في الأسد مثل القارح في الخيل, وإنما يريدون أنه قد أسن فكملت قوته؛ إلا أنه يلقي سنًا بعد سن, وكانوا يسمون تأبط شرًا والشنفرى ومن جرى مجراهما مثل السليك بن السلكة: رآبيل العرب؛ يريدون جمع ريبال, قال جرير: [الوافر]

رآبيل البلاد تخاف مني ... وحية أريحاء لي استجابا يقول: شققت خيس الملك عن الملك الذي كأنه رئبال. وقوله: عن ذا الذي حرم الليوث كماله ... ينسي الفريسة خوفه بجماله أصل الفرس: دق العنق, ثم سمي كل قتلٍ فرسًا, وأتى بعن في أول البيت؛ لقوله في آخر الذي قبله: عن ريباله (143/ب) وهم يفعلون ذلك كثيرًا, وفي الكتاب العزيز: {قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم} , فجاء باللام مع من لما جاء بها في قوله: {للذين استضعفوا} , ويفعلون ذلك في حروف الخفض لأنها تتصل بما بعدها كاتصال ما هو منه. وادعى للممدوح أنه ينسي الفريسة خوفه لماتشاهده من جمال وجهه, وهذا ادعاء لا يجوز أن يكون مثله. وقوله: وتواضع الأمراء حول سريره ... وتري المحبة وهي من آكاله وتواضع: أراد تتواضع فحذف إحدى التاءين؛ وجاء بالمستقبل في أل البيت لأنه عطفه على قوله: ينسي الفريسة, وذكر أن الأمراء تريه المحبة وهي من آكاله, يعني: جمع أكلٍ, وهو ما يأكله الإنسان, ويقال: لفلان أكل من السلطان إذا كان له رزق يأكل منه, وفلان ذو أكل إذا كان له حظ من دنياه, قال الأعشى: [السريع] حولي ذوو الآكال من وائل ... كالليل من بادٍ ومن حاضر وقوله: وتري المحبة يحتمل وجهين: أحدهما: أنها تري المحبة ولا تعلم ما يحدث من الأقضية, وجائز أن يسخط عليها فيكون كالذي أكلها إلا أنها لم تعلم بذلك.

والآخر: أن تكون تظهر محبةً وهي عالمة بأنه لها مهلك؛ فيكون هذا المعنى مثل قوله في الأخرى: ومن شرف الإقدام أنك فيهم ... على القتل موموق كأنك شاكل وقوله: إن الرياح إذا عمدن لناظرٍ ... أغناه مقبلها عن استعجاله يقول: الرياح إذا عمدن للناظر لم يحتج إلى أن يستعجلها, وإنما ضرب هذا مثلًا لأن الممدوح ينيل قبل أن يسأل. وقوله: والله يسعد كل يومٍ جده ... ويزيد من أعدائه في آله قوله: ويزيد من أعدائه في آله: آل الرجل في الأصل هم أهله الذين يؤول إليهم؛ أي يرجع, ويجوز بعد ذلك أن يقال لمن التجأ إلى الرجل, أو كان من محبيه وأصدقائه: هذا من آل فلان. وقال عبد المطلب بن هاشم: [الرمل] نحن آل الله في كعبته ... لم يزل ذاك على عهد ابرهم أي نحن عبيده والمختصون بخدمته. وأجاز بعض النحويين أن يقال في تصغير آل الرجل: أويل وأهيل؛ لأن آلا عنده في معنى أهل؛ فجعلت الهاء الثانية همزةً, فلما اجتمعت الهمزتان جعلت الثانية ألفًا, وهذا قول قد يجوز مثله, ولكنه بعيد؛ لأنهم لا يجمعون في أول كلمة بين حرفين من جنس واحد إلا في ألفاظ نادرة, كقولهم للهو: ددن, وقولهم: ققت الدجاجة إذا صاحت. وإذا كان يفعلون ذلك في الحروف سوي الهمزة, فهم من الهمزة أشد نفارًا. وكان بعض النحويين المتأخرين ينكر قول الناس: صلى الله على النبي وعلى آله؛ لأنه يرى أن «آلاً» ينبغي أن يضاف إلى اسم ظاهرٍ كقولك: آل محمدٍ وآل النبي وآل الرسول, ويكره

أن يضيفه إلى المضمر, وهذا قول يضعف. والذي أراد الشاعر بقوله: ويزيد من أعدائه في آله أنه دعاء للممدوح؛ أي ترغب أعداؤه في أن تصير من حزبه, أو يأسرهم فيصبحوا آله كالعبيد, وهذا موجود في الملوك؛ لأن سيف الدولة له غلمان أمراء كلهم روم ممن سباه أو اشتراه بماله. وقوله: فلمثله جمع العرموم نفسه ... وبمثله انفصمت عرى أقتاله العرموم: الجيش العظيم, فعلعل من العرام وهو الشدة, ويقال للصبي إذا كانت فيه جرأة: هو عارم, قال الشاعر: [الخفيف] فيهم للملاينين أناة ... وعرام إذا يرام العرام ويقال: نظر فلان عارم إذا كان ينظر إلى من لا يحسن أن ينظر إليه, قال ابن أبي ربيعة: [الطويل] نظرت إليها بالمحصب من منى ... ولي نظر لولا التحرج عارم وانفصمت العروة إذا انقطعت, والأقتال: الأعداء واحدهم قتل, وهو فعل من القتل؛ لأن المتعاديين يود كل واحدٍ منهما قتل الآخر, قال عبيد الله بن قيس الرقيات: [الخفيف] واغترابي عن عامر بن لؤي ... في بلاد كثيرة الأقتال (144/أ) وقوله: وهب الذي ورث الجدود وما رأى ... أفعالهم لابن بلا أفعاله هذا مأخوذ من قول اللهبي: [الكامل] إنا وإن أحسابنا كرمت ... لسنا على الأحساب نتكل نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا

والهاء في أفعاله راجعة على الابن, و "لا" في معنى غير, ورأى هاهنا تؤدي معنى رضي واختار, كما يقال: فلان يرى أن يكون كذا؛ أي يشير به ويرضاه. وقوله: وبأرعنٍ لبس العجاج إليهم ... فوق الحديد وجر من أذياله الأرعن: الجيش الذي له مقدمة كرعن الجبل, والهاء في أذياله تحتمل أن تكون عائدةً إلى الجيش وإلى العجاج. وقوله: كل يريد رجاله لحياته ... يا من يريد حياته لرجاله هذا البيت مبني على حكايةٍ تذكر عن سيف الدولة مع الإخشيد؛ وذلك أنه أراد أن يغلب على هذه البلاد, وجاء في جيش عظيم فطرد سيف الدولة ثم انصرف؛ فيقال: إن سيف الدولة وجه إليه بكلام مراده فيه: ابرز إلي ولا تقتل الناس بيني وبينك؛ فأينا غلب ملك. فوجه إليه الإخشيد: ما رأيت أعجب منك! إنما جمعت هذا الجيش العظيم لأقي به نفسي, أفتريد أن أبارزك؛ فهذا جهل. ويقال للسيف: منصل ومنصل, وضم الصاد شاذ في القياس, وهو أكثر من منصلٍ, والقياس يدل على فتح الصاد, وأما منصل فهو على مثال: مدهنٍ ومسعطٍ, وهما على غير قياس. وقافية هذه القصيدة من المتدارك وهي: اللام والهاء والياء, والقافية عند الخليل: واو واله من أهواله, وكذلك: تاله من أقتاله.

ومن أبيات أولها

ومن أبيات أولها يؤمم ذا السيف آماله ... ولا يفعل السيف أفعاله وزنها من ثالث المتقارب. قوله: إذا سار في مهمه عمه ... وإن سار في جبل طاله يصفه بكثرة الجنود؛ أي يملأ بالجيش المهمه. وقوله: وإن سار في جبل طاله, أي شرفه أعظم من شرف الجبل, ويجوز أن يعني عجاج الجيش وأنه يرتفع على الجبال فيطولها, والفضل في ذلك للممدوح؛ لأنه سبب ارتفاع العجاج. وقوله: وأنت بما نلتنا مالك ... يثمر من ماله ماله نلتنا في معنى أنلتنا, ويقال ما كان من نولك أن تفعل كذا؛ أي لم يكن يجب أن تفعله, وقد كان نولك أن تنهى عن الباطل؛ أي قد كنت تنال ذلك. قال جرير يخاطب بشر ابن مروان بن الحكم: [الكامل] يا بشر حق لوجهك التبشير ... هل لا عصيت لنا وأنت أمير قد كان نولك أن تقول لبارقٍ ... يا آل بتارق فيم سب جرير ويقال: ثمر الرجل ماله إذا أحسن القيام عليه, وأصل ذلك في الشجر الذي يثمر, واستعير ذلك في جميع الأموال. وقوله: كأنك ما بيننا ضيغم ... يرشح للفرس أشباله

ومن التي أولها

يقال: رشح الضيغم شبله إذا علمه الفرس, ورشحت الوحشية ولدها إذا علمته المشي, وأرشحت الأم إذا مشى ولدها, وهو راشح, قال الشاعر: [البسيط] كأن في جانبيه جلةً نتجًا ... من آخر الصيف قد همت بإرشاح والقافية من المتدارك وهي اللام والهاء والواو, وقافيتها على مذهب الخليل: «باله» من أشباله. ومن التي أولها أينفع في الخيمة العذل ... وتشمل من دهرها يشمل الوزن من المتقارب الثالث. الخيمة التي تذكرها العرب في الشعر إنما هي عيدان تنصب وتظلل وتظلل بالثمام, ولم يكونوا يعرفون هذه الخيم, ويجوز أن يكون اسمها مولدًا, وهي مأخوذة من الاسم الأول على التشبيه, ويدلك على ذلك قول امرئ القيس: [المتقارب] أمرج خيامهم أم عشر ... أم القلب في إثرهم منحدر فدد ذلك على أن خيامهم شجرية. ويجوز أن يكون اشتقاق الخيمة أنها تخيم الحر عن المستظل بها أو البرد, من قولهم: خام الجبان عن الشيء إذا حاد, ثم اشتقوا من الخيمة اسمًا للإقامة, وقالوا: خيم بالمكان إذا أقام به, وأصل ذلك أن يبني به خيامًا, ثم قالوا: خيم إذا أقام وإن لم تكن له خيمة. والعذل هاهنا جمع عاذل. وقد يقال عذل في جمع عاذلةٍ, ولم يرد هاهنا إلا الرجال

(144/ب) , وتشمل أي تضم, وتشتمل بمن يشمل دهرها يعني الممدوح, ويجوز رفع وتشمل على العطف ونصبها على إضمار أن؛ لأن الاستفهام قد تقدم في أول البيت, ويكون التقدير: أيجتمع عذل العذل واشتمال هذه الخيمة على الذي يشمل دهرها. والمراد أنه لا ينبغي أن تعذل لأنها قد بنيت لأمرٍ عظيم لم تطقه. وقوله: فلم لا تلوم الذي لامها ... وما فص خاتمه يذبل يذبل جبل معروف, ويقال: فص الخاتم بالفتح وهو أفصح, ويقال بالكسر. يقول: لم لا تلوم هذه الخيمة من لامها على السقوط, والذي لامها ليس فص خاتمه يذبل, وهذه مبالغة عظيمة؛ لأنه جعل الذي يجترئ على لوم هذه الخيمة يجب أن يكون فص خاتمه مثل هذا الجبل المستعظم, وكيف يلومها وهو حقير, إنما شخصه كشخص غيره من الناس. وقوله: رأت لون نورك في لونها ... كلون الغزالة لا يغسل يقال: إن أصل الغزالة ارتفاع الشمس وهو وقت, ثم سميت الشمس غزالةً, قال ذو الرمة: [الوافر] فأشرفت الغزالة رأس حوضى ... لرامتهم فما أغني قبالا وقال الراجز: [الرجز] قالت له وارتفقت ألا فتى ... يسوق بالقوم غزالات الضحى وقيل: إنما سميت الشمس غزالةً لأنهم جعلوا حبالها كالغزل الذي تغزله المرأة. وأراد أن لون هذا الممدوح لا يلحقه التغير كلون الشمس الذي لا يزول عنها بالغسل.

وقوله: وأن لها شرفًا باذخًا ... وأن الخيام بها تخجل الخجل في بني آدم استرخاء يلحق من الحياء فاستعاره للخيام؛ أي هذه الخيمة إذا نظرت الخيام إلى عظيم شرفها خجلت, وعلمت أنها مفتضحة إذا قيست بهذه الخيمة, وإنما أخذ خجل بني آدم من قولهم: خجل الوادي إذا كثر نبته وطال, ومن شأن النبت إذا طال أن ينعطف ويضعف. وذكر ابن السكيت في كتاب «الأضداد» أن الخجل يكون النشاط ويكون الكسل, وأنشد في الخجل إذا أريد به النشاط, عن أبي تمام الباهلي: [الرجز] إذا دعا الصارخ غير المتصل ... جاءك منهم كل ذيالٍ خجل وجاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للنساء: «إذا جعتن دقعتن, وإذا شبعتن خجلتن» , وقال أصحاب اللغة: الدقع سوء احتمال الفقر, والخجل سوء احتمال الغنى, وينشد قول الكميت: [المتقارب] ألم يدقعوا عندما نابهم ... لعض زمانٍ ولم يخجلوا وقوله: ولما أمرت بتطنيبها ... أشيع بأنك لا ترحل تطنيبها مد أطنابها, وأشيع الشيء إذا ظهر؛ يقال: شاع الخبر وأشاعه الناس, وقولهم: أشاع الخبر بغير باء أحسن من قولهم: أشاع بالخبر.

وقوله: فما العاندون وما أثلوا ... وما الحاسدون وما قولوا يقال: أثل الرجل الشيء إذا جعل له أصلًا, وبناء أثيل إذا أحكم؛ وإنما أخذ ذلك من الأثلة. والأثل شجر عظيم؛ فشبه ما يؤثله الرجل ويسعى له في الزيادة بالأثلة لأنها شجرة قوية. وقولوا: من كثرة القول, ومنه قولهم: تقول فلان كلامًا إذا اختلقه. وقوله: وملمومة زرد ثوبها ... ولكنه بالقنا مخمل جعل الزرد ثوبًا وجعل القنا خمله, وتشبيههم الدرع بالثوب قديم. قال قيس بن الخطيم: [الطويل] ولما رأيت الحرب حربًا تجردت ... لبست مع البردين ثوب المحارب مضاعفةً يغشى الأنامل ريعها ... كأن قتيريها عيون الجنادب وقال القطامي: [البسيط] نقريهم لهذمياتٍ نقد بها ... ما كان خاط عليهم كل زراد فجعل الزراد خياطًا للدروع, وصير الشاعر القنا خملًا للزرد, استعاره من خمل القطيعة وغيرها, وهو ما يظهر من الهدب. وهذا البيت يقارب معنى البيت الآخر: [الوافر] فلو أنا شهدناكم نصرنا ... بذي لجبٍ أزب من العوالي (145/أ) فقال: أزب أي كثير الشعر. وزعم أن الزرد والقنا كالثوب الذي يكون له خمل. وقوله: يفاجئ جيشًا بها حينه ... وينذر جيشًا بها القسطل يفاجئ أي يلاقي لقاءً على غفلة, وينذر جيشًا بها قسطلها؛ أي غبارها. يقول: مرة يفجأ الجيش فيكون حينه قد حضر, ومرة ينذر أعداءه بالقسطل المثار؛ أي الغبار.

وقوله: جعلتك بالقلب لي عدة ... لأنك باليد لا تجعل يقول: جعلتك في قلب الجيش لي عادة؛ لأنك لا تجعل في شمال الجيش ولا يمناه؛ إذ كان عميد الجيش إنما يكون في القلب, فهذا وجه. ووجه آخر, وهو أجود, أن يريد الشاعر قلب نفسه؛ أي جعلتك عدتي بقلبي لأنك أجل من أن تجعل بايد؛ لأنها إنما تتصرف فيما صغر من الأشياء, والقلب يتسع في الضمير حتىإنه يضمر ما لا يدرك. وقوله: فإن طبعت قبلك المرهفات ... فإنك من قبلها المقصل يقال: أرهف السيف إذا حدد وأرق, والمقصل من: قصل الشيء إذا قطعه. وقوله: وكيف تقصر عن غايةٍ ... وأمك من ليثها مشبل يقال: أسد مشبل إذا كان له أولاد, وكذلك لبؤة مشبل, يستوي في ذلك الذكر والأنثى, وقال تأبط شرًا: [الطويل] كأن الذي يأوي إلى بنفسه ... يلوذ بصنعاء الذراعين مشبل والأضبط الذي يعمل بكلتي يديه؛ وإنما أخذ ذلك من قولهم: ضبطت الشيء إذا أمسكته فلم يقع من يدك, ويقال في المثل: " هو أضبط من عائشة بن عثمٍ ", وهو رجل أورد إبله ماءً فوقعت منها بكرة في البئر, فأدرك ذنبها فأخذه ومنعها من الوقوع. والأسد يوصف بالضبط, ويقال إن نادبة روح بن حاتمٍ المهلبي قالت: [مجزوء الرمل]

أسد أضبط يمشي ... بين طرفاء وغيل لبسه من نسج داو ... د كضحضاح المسيل وقوله: وقد ولدتك فقال الورى ... ألم تكن الشمس لا تنجل يقال: نجل الرجل ولده, وكذلك المرأة إذا ولداه, قال الأعشى: [المنسرح] أنجب أزمان والداه به ... إذ نجلاه فنعم ما نجلا يفسر هذا البيت على التقديم والتأخير؛ كأنه قال: أنجب والده به أزمان إذ نجلا. وقوله: فتبًا لدين عبيد النجوم ... ومن يدعي أنها تعقل تبًا: أي خسرانا لقوم يعبدون النجوم ويزعمون أنها تعقل, وقد ادعت الصائبة ذلك وغيرها؛ فكان في الجاهلية من يعبد الشعرى. وقوله: تأمل في آخر القصيدة لا يجوز ترك همزة؛ لأنه يصير سنادًا, وكذلك همز مأسلٍ في قول امرئ القيس: [الطويل] وجارتها أم الرباب بمأسل والقافية من المتدارك.

ومن التي أولها

ومن التي أولها أجاب دمعي وما الداعي سوى طلل ... دعا فلباه قبل الركب والإبل وزنها من البسيط الأول. يقول: دعا دمعي الطلل, وهو ما شخص من آثار الديار؛ فأجابه قبل أن يجيبه الركب والإبل؛ يريد أن دمعه سبق قبل أن يقف به الركب. وقوله: ظللت بين أصيحابي أكفكفه ... وظل يسفح بين العذر والعذل يقال: ظللت أفعل كذا إذا فعله بالنهار, وكفكف الرجل دمعه وغيره إذا حبسه, ويقال: سفح الدمع وسفحه غيره إذا أساله, قال كثير: [الطويل] لعزة هاج القلب فالدمع سافح ... مغانٍ عفت منها مبين وماصح ويقال: سفح الرجل الدم إذا سفكه, وكذلك سفح الماء من المزادة, وقيل: إنما سمي السفاح سفاحًا لأنه أراق ما كان معه من الماء, وقال لأصحابه: إن لم تردوا ماء الكلاب وإلا متم عطشًا؛ فسمي السفاح, وافتخر به الأخطل فقال: [الكامل] فأخوهما السفاح ظمأ خيله ... حتى وردن جبا الكلاب نهالا وأبو العباس السفاح من بني العباس: سمي بذلك لأن أصحابه سفحوا الدماء. وقوله: أشكو النوى ولهم من عبرتي عجب ... كذاك كانت وما أشكو سوى الكلل

(145/ب) يقول: أشكو النوى وأصحابي يعجبون من عبرتي, وليس ينبغي أن يعجبوا لذلك؛ لأنها كانت على ما شهدوه الآن. والذين أحب قريب ليس بيني وبينهم سوى الكلل: جمع كلةٍ وهي الستر, فكيف بي إذا اجتمعت الكلل مع البعد. وقوله: متى تزر قوم من تهوى زيارتها ... لا يتحفوك بغير البيض والأسل يقول: متى تزر قوم هذه المرأة جعلوا ما يتحفونك به سلهم السيوف ليقتلوك, وإشراعهم الرماح إليك, وهذا كقول الآخر: [الخفيف] ليس بيني وبين قيسٍ عتاب ... غير طعن الكلى وضرب الرقاب وقوله: ما بال كل فؤادٍ في عشيرتها ... به الذي بي وما بي غير منتقل أجود ما يتأول في هذا المعنى أن يجعل الذي يجده من الشوق كأنه شخص, والشخص إذا حصل في مكان شغله ولم يشغل غيره, فإذا اعتقد ذلك صح إنكاره لثبات وجده؛ لأنه في أماكن كثيرةٍ, والشخص لا يشغل مكانين, وأما العرض فلا يشغل مكانًا؛ فإذا كان في قلبٍ واحدٍ جاز أن يكون في قلوب عالمٍ كثيرٍ. وقوله: مطاعة اللحظ في الألحاظ مالكة ... لمقلتيها عظيم الملك في المقل جعل هذه المذكورة مطاعة اللحظ في الألحاظ؛ كأن مقلتيها ملكتان في المقل, وإنما يراد بذلك تفضيل مقلتيها على غيرها, كفضل الملك على السوقة, فأما المقلة فلا يصح كونها ملكةً في المقل إلا على مذهب الشعراء وادعاء الباطل. وقوله: وقد أراني الشباب الروح في بدني ... وقد أراني المشيب الروح في بدلي

معنى هذا البيت: أني كنت في حال شبيبتي على حالٍ فغيرها تقادم الدهر؛ لأني شبت, وكان شعري حالكًا, وقل ماء وجهي, وكان كثيرًا, وضعفت أعضائي بعد قوةٍ, فكأن جسمي قد بدل, وهذا معنى يتردد في الشعر كثيرًا, ومنه قول النمر بن تولبٍ: [الطويل] لعمري لقد أنكرت نفسي ورابني ... مع الشيب أبدالي الذي أتبدل فضول أراها في أديمي بعدما ... تكون كفاف اللحم أو هو أجمل كأن محطا في يدي حارثيةٍ ... صناعٍ علت مني به الجلد من عل وقال كثير: [الطويل] وقد زعمت أني تغيرت بعدها ... ومن ذا الذي يا عز لا يتغير وقال آخر: [الكامل] الدهر أبلاني وما أبليته ... والدهر غيرني وما يتغير والدهر قيدني بحبلٍ مبرمٍ ... ومشيت فيه فكل يومٍ يقصر وقد ذهب قوم إلى أن معنى بيت أبي الطيب: أنه كان شابًا, فلما ذهب الشباب عنه رآه في غيره من الناس. والقول الأول أجود. وقوله: وقد طرقت فتاة الحي مرتديًا ... بصاحبٍ غير عزهاةٍ ولا غزل يعني بالصاحب هاهنا: السيف. وذكر أنه مرتديه لأن العرب تسمي السيف رداءً, والعزهاة: الذي يحب حديث النساء, يقال: رجل عزهاة وعزهى على وزن فعلى, والغزل الذي يحب حديث النساء, يقول: صاحبي هذا لا يوصف بهذين الوصفين.

وقوله: فبات بين تراقينا ندفعه ... وليس يعلم بالشكوى ولا القبل هذا من نحو معنى بيتٍ يروى لامرئ القيس وغيره, وهو: [الطويل] تجافى عن المأثور بيني وبينها ... وتدني علينا السابري المضلعا وقوله: ثم اغتدى وبه من ردعها أثر ... على ذؤابته والجفن والخلل الردع من قولهم: ردعت المرأة نفسها بالزعفران إذا اطلت به, وكذلك ارتدع الرجل بالدم والطيب. والمعنى: أنه دنا من هذه المرأة حتى لصق الطيب الذي تطيبت به بسيفه؛ فصار بذلك له فضيلة عند الصاحب. وقوله: لا أكسب الذكر إلا من مضاربه ... أو من سنانٍ أصم الكعب معتدل (146/أ) كان كالملغز في صفة السيف, ثم أبان مراده بقوله: لا أكسب الذكر إلا من مضاربه. وينبغي أن يضاف سنان إلى أصم فذلك أجود من التنوين؛ لأن في السنان نونين؛ فإذا لحقه التنوين صار في الكلمة ثلاث نونات, ومع هذا فإن السنان لو نون لكان معناه: ومن سنان أصم كعبه, والكعب ليس للسنان وإنما هو للرمح, فإن كان ذلك جائزًا على الاستعارة كان كونه للرمح أشبه وأليق. وقوله: والمدح لابن أبي الهيجاء تنجده ... بالجاهلية عين العي والخطل تنجده أي تعينه, وتنجده في موضع نصب على الحال. والمعنى: والمدح لابن أبي الهيجاء إذا أنجدته بذكر الجاهلية والرؤساء الذين كانوا فيها عين العي أي حقيقته. والخطل: اضطراب الكلام وكثرته, ومنه قيل: رمح خطل أي يهتز, والمعنى: أن المادح له لا يحتاج إلى غيره من قديمي الآباء ولا حديثهم.

وقوله: ليت المدائح تستوفي مناقبه ... فما كليب وأهل الأعصر الأول المناقب: جمع منقبةٍ, وأصل ذلك أن الملك كان إذا استولى على الأمور حفر الأنهار وفتح العيون؛ يعد ذلك من عظيم أفعاله ومما يحمد عليه, فقيل: قد فعل منقبةً؛ أي أظهر شيئًا نقب عنه, ثم كثر ذلك حتى سميت المكرمة منقبةً وإن لم يكن ثم حفر. وقوله: فما كليب يريد: فأي شيءٍ, ودخلت ما على الإنس؛ لأن المراد السؤال عن صفة كليبٍ مع الاحتقار لشأنه, أي فأي وصفٍ ما يوصف به كليب؟ ! يريد أنه قليل محتقر. وقوله: وقد وجدت مكان القول ذا سعةٍ ... فإن وجدت لسانًا قائلًا فقل قوله: وجدت يجوز أن يكون خطابًا لغيره, لأنه قال: والمدح لابن أبي الهيجاء تنجده, ويحتمل أن يكون خطابًا لنفسه؛ لأن ذلك كثير في الشعر؛ يكون الشاعر في الظاهر مخاطبًا لغيره, وإنمان يعني نفسه, ومن ذلك قول سحيمٍ: [الطويل] تريك غداة البين كفًا ومعصمًا ... ووجهًا كدينار الأعزة صافيا يريد أنها أرته كفها ومعصمها لا لغيره. قال آخر: [البسيط] تامت فؤادك لم تقض الذي وعدت ... إحدى نساء بني ذهل بن شيبانا إنما أراد أنها تامت فؤاده لا فؤاد غيره. وقوله: إن الهمام الذي فخر الأنام به ... خير السيوف بكفي خيرة الدول قوله: فقل يحتمل أن يكون موصولًا بالبيت الذي بعده, وأن يكون منقطعًا منه. وإذا كان غير موصولٍ به؛ فالمراد: قد وجدت القول متسعًا؛ فإن وجدت لسانًا يسعدك فانطق بما تقدر عليه, ويكون أول البيت الثاني في موضع رفعٍ على الابتداء. وإذا جعل قل متصلًا بما بعده؛ فأول البيت الثاني في موضع نصب.

وقوله: بكفي خيرة الدول, والخيرة كلمة كالشاذة؛ لأنهم قالوا: فلان خير من فلانٍ, وهم يريدون أخير منه, ثم حذفوا الهمزة لكثرة الاستعمال, وإذا قالوا: هذا أخير من فلان وجب أن يقولوا: هذه الخورى, كما أنهم إذا قالوا: هذا أطيب من هذا وجب أن يقولوا في الأنثى: الطوبى, ولما كثر استعمالهم خيرًا في معنى أخير أدخلوا الهاء عليه, وكذلك قالوا: هذا شر من هذا؛ فلما كثر طرح الهمزة أدخلوا الهاء على شر فقالوا: هذه اشرة الدور, وأنشد السيرافي: [الخفيف] لعن الله شرة الدور كوثى ... وبلاها بالذل والإمعار لست أعني كوث العراق ولكن ... شرة الدور دار عبد الدار وقوله: انظر إذا اجتمع السيفان في رهجٍ ... إلى اختلافهما في الخلق والعمل يعني بالسيفين: سيف الدولة والسيف الذي يقاتل به, وهما مختلفان في الخلق والعمل؛ لأن بني آدم لا يشبهون السيوف في الخلق, والسيف في الحقيقة لا يعمل شيئًا, وإنما تعمل به الأشياء. وقوله: هذا المعد لريب الدهر منصلتًا ... أعد هذا لرأس الفارس البطل

(146/ب) يقول: سيف الدولة هو المعد لريب الدهر منصلتا؛ أي ماضيًا, وقيل: السيف المنصلت: المجرد, ويقال للماضي السريع: منصلت. وأعد هذا؛ يعني السيف الذي يضرب به؛ أي أعده سيف الدولة للقتال. وقوله: فالعرب منه مع الكدري طائرة ... والروم طائرة منه مع الحجل الكدري: ضرب من القطا كدر الألوان, يقال قطا كدر وكدري, والحجل هذا الطائر المعروف, الذكر يعقوب والأنثى حجلة, قال الراجز: [الرجز] قد علمت يا قفي التتفله ... ومرسن العجل وساق الحجله وقال امرؤ القيس: [المنسرح] قوم يحاجون بالبهام ونسـ ... ـوان صغار كأفرخ الحجل وقالوا: الحجلى بكسر الحاء: صغار الحجل. قال الشاعر: [الكامل] وارحم أصيبتي الذين كأنهم ... حجلى بأكناف الشربة وقع ومن شأن الحجل أن تكون في الجبال.

وقوله: وما الفرار إلى الأجبال من أسدٍ ... تمشي النعام به في معقل الوعل النعام يكون في السهول, والأوعال تكون في الجبال, ومن أمثالهم: «لا يجتمع الأروي والنعام» , يريدون بالأروي جمع أرويةٍ وهي أنثى الوعل. يقول: إن النعام والأوعال لا يجتمعان لأن موضعيهما متضادان. والمراد أن الخيل أو الإبل التي يعملها هذا الممدوح تمشي في معاقل الأوعال. وقوله: جاز الدروب إلى ما خلف خرشنةٍ ... وزال عنها وذاك الروع لم يزل فكلما حلمت عذراء عندهم ... فإنما حلمت بالسبي والجمل الدروب: الأبواب, ويقال للموضع الضيق الذي يؤدي إلى غيره: درب, قال امرؤ القيس: [الطويل] بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ... وأيقن أنا لاحقان بقيصرا وخرشنة: اسم أعجمي وليس لها اشتقاق يشبه اشتقاق العربية, وقوله: فكلما حلمت عذراء؛ أي إذا أبصرت في النوم شيئًا فإنما تبصر أنها قد سبيت وحملت على جمل. وقوله: إن كنت ترضى بأن يعطوا الجزى بذلوا ... منها رضاك ومن للعور بالحول الجزى: جمع جزيةٍ, وهو ما يأخذه السلطان من عدو الإسلام, وما يجبيه من أهل الذمة الذين بين المسلمين, وفي الكتاب العزيز: {حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون} , وهو مأخوذ من قولهم: جزيته بفعله؛ فكأن هذه الجزية جزاء للسلطان إذا كف عن غزوهم, أو رضي بأخذ القليل من الذين في بلاده.

ومن للعور بالحول؛ أي: من للأعور أن يكون أحول؛ لأن الحولاء من العيون قد تنظر. فأما قولهم في المثل: «أشأم من الحولاء وأشأم من رغيف الحولاء» , فإنها امرأة كان بها حول خبزت خبزًا وحملته بين قوم؛ فأخذ بعضهم منه رغيفًا, فهاج بينهم شر عظيم قتل فيه جماعة من الناس. وقوله: ناديت مجدك في شعري وقد صدرا ... يا غير منتحل في غير منتحل يقول: مجدك يا سيف الدولة غير منتحلٍ, وكذلك شعري؛ أي كلانا مهذب فيما هو فيه. وقوله: وعرفاهم بأني في مكارمه ... أقلب الطرف بين الخيل والخول عرفاهم: يعني مجد سيف الدولة وشعره, والخيل اسم لا واحد له من لفظه, وهي مأخوذة من الخيلاء؛ لأنها كالتي تختال في مشيها, والخول: ما يملكه الرجل من الخيل والعبيد وغير ذلك. وكل ما خوله الله عبيده, فهو خول, من الذهب والفضة وجميع الأشياء؛ إلا أن الأصل في ذلك ما يحتاج إلى خائلٍ؛ أي داعٍ, وفي الحديث: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة»؛ أي ينتظر بنا الأوقات التي تصلح لذلك. وقولهم: للمرأة: خولة: زعم بعضهم أن الظبية يقال لها: خولة. وقوله: ما كان نومي إلا فوق معرفتي ... بأن رأيك لا يؤتى من الزلل يقول ما نمت إلا (147/أ) وتحتي فراش وطيء من معرفتي بأن رأيك لا يقدح فيه كلام الواشين ولا أخاف من زلله في. وقوله: أقل أنل أقطع احمل على سل أعد ... زد هش بش تفضل أدن سر صل

أقل من إقالة العثرة, وأنل من النيل, وأقطع من إقطاع الضياع والأرضين, احمل من الحمل على الخيل, عل من التعلية, وسل من السلوان أي سل فؤادي مما كان فيه, أعد أي أعد علي أفضالك وعطاءك, زد من الزيادة, وهش من الهشاشة وهي البشر, وبش نحو منها, تفضل من الفضل, وأدن أي أدنني منك, وسر من السرور, وصل من الصلة. فلما أنشد هذا البيت رأى من حضر المجلس يعد حروفه فقال: أقل أنل أن صن احمل عل سل أعد ... زد هش بش هب اغفر أدن سر صل أن من الأون وهو الرفق, وصن من الصيانة, وهب من الهبة؛ وإنما أراد أبو الطيب أن يزيد في عدد ألفاظ البيت, وقد وضع بعد ذلك بيتًا لم يسبقه إلى مثله أحد من كثرة الألفاظ, وهي يجيء بعد هذه القصيدة. وقوله: أنت الجواد بلا من ولا كدرٍ ... ولا مطالٍ ولا وعدٍ ولا مذل أصل المذل أن يقلق الرجل على فراشه فلا يستقر, قال الراعي: [الكامل] ما بال دف بالفراش مذيلا ... أقذى بعينك أم أردت رحيلا يقال: فلان مذل بشره أي لا يكتمه, ومذل بماله إذا كان سخيا, قال الأسود بن يعفر: [الكامل] ولقد أروح على البجاد مرجلًا ... مذلًا بمالي لينًا أجيادي والذي أراد أبو الطيب بالمذل أنه لا يقلق لما يلقاه من الشدائد كما يقلق غيره. وقوله: أنت الشجاع إذا ما لم يطأ فرس ... غير السنور والأشلاء والقلل

السنور يقال إنها الدروع, وقيل: كل سلاح يتقى به فهو سنور, قال الراجر: [الرجز] كأنهم إذ خرجوا من عرعر ... مستلئمين لابسي السنور نشء سحابٍ ناشئ كنهور الكنهور سحاب متراكب, ويجب أن يكون السنور معربًا. وإذا قيل إن السنور السيئ الخلق لم يمتنع أن يكون السنور منه؛ لأنه شدة لا يفتقر إليه إلا في الحرب, وقيل للمهر: سنور من ذلك, والسنور من الفرس عظم بين كاهله وعنقه. قال الراجز: [الرجز] كأن جذعًا خارجًا من صوره ... مقذيه إلى سنوره والأشلاء: جمع شلو وهي البقية من اللحم, والقلل: جمع قلة وهي أعلى الرأس. وقافية هذه القصيدة من المتراكب. وقال - وقد جرى ذكر بيت يتضمن أكثر ما يمكن من الحروف - بيتين وهما: عش, ابق, اسم, سد, جد, قد, مر, انه, ر, ف, اسر, نل غظ, ارم, صب, احم, اغز, سب, رع, زع, د, ل, اثن, بل وهذا دعاء لو سكت كفيته ... لأني سألت الله فيك وقد فعل البيت الأول والذي يليه من الطويل الثاني, ولم يعلم أن من قبل أبي الطيب جاء بمثل هذا البيت. والطويل من الشعر إنما سمي طويلًا لأنه أطول الأوزان, وإذا صرع ضربه الأول كان ثمانيةً وأربعين حرفًا, وإذا لم يصرع, فهو سبعة وأربعون حرفًا.

الضرب الثاني من الطويل متساوي النصفين, وأجزاؤه ثمانية, وكذلك الأول؛ فإذا سلمت من الثاني أجزاؤه الستة التي ليس فيها العروض ولا الضرب؛ فعدده ستة وأربعون حرفًا, وهو الذي قبله في هذا النوع الذي قصد له أبو الطيب؛ سواء كان الأول مصرعًا أو غير مصرعٍ, وأكثر ما يمكن أن يجمع في كل واحد منهما ثلاث وعشرون كلمة, وذلك أن في الأول إذا كان مصرعًا ثانية أوتادٍ واثني عشر سببًا, وكل وتدٍ تجتمع فيه كلمتان, والسبب لا يمكن (147/ب) أن يكون إلا من كلمة واحدة. مثال ذلك: أنك إذا أردت أن تجيء بكلمتين في الوتد جئت بكلمة أصلها ثلاثة أحرف وتصير في الأمر إلى حرف واحد. مثال ذلك قولك: ولي يلي؛ فإذا أمرت حذفت الواو, والياء التي في آخر الفعل فبقيت اللام مفردة, وتضيف إليها فعلًا أصله ثلاثي يكون على أحد نوعين: إما أن يكون معتل الأوسط مثل قولهم: قام يقوم, وباع يبيع؛ فيصير في الأمر على حرفين كقولك: قم وبع, وإما أن يكون معتل الثاني مثل قولك: يعد كان أصله: يوعد؛ فحذفت الواو في قولك: عد فيمكنك أن تقول في كل وتدٍ في البيت: عد, أو: ل, أو: قد, في الأمر من الولاية والقود. فإذا صرت إلى السبب جئت به من كلمتين؛ إما معتلة الأوسط: جد وسر, وإما معتلة الواو مثل: وعد ووجد؛ فتقول في الأمر: عد وجد. فالضرب الأول إذا صرع دخلت فيه كلمتان في العدة المتقدم ذكرها, وهي ثمان وعشرون, وإذا لم يصرع صارت عروضه مفاعلن فيها وتد أصلي يركب فيه كلمتان, وسببا الجزء قد صارا في وزن الوتد؛ فيركب منهما كلمتان, ويتساوى في البنية المصرع وغيره. والضرب الثاني عروضه مفاعلن وكذلك ضربه, ولم ينقص عدة ما يضمه من الكلم لأنه قد سقط منه حرفان؛ إذا كان السبب أن الذي حذف ثاني الأول منهما قد صار حكمهما في الجمع بين كلمتين. عش أمر من العيش. ابق أمر بالبقاء. اسم من السمو أي ارتفع. سد دعاء بالسيادة. جد دعاء بالجود. قد دعاء: أمر بقود العساكر. مر دعاء بأن يأمر فينفذ أمره؛ لأنهم يقولون: مر

غلامك فيحذفون, وأمر عبدك, وإثبات الهمزة هي اللغة التي جاء بها القرآن في قوله: {وأمر أهلك بالصلاة}. انه دعاء بأن يكون نهيه مقبولًا. والحرف المصور براءٍ هو دعاء بأن يري عدوه من قوله: وأري عدوًا, والوري داء يصيب في الجوف وقد مر. والفاء المقصورة دعاء من وفى يفي؛ كأنه أراد: ليف لك العمر, ويجوز أن يكون من الوفاء الذي هو ضد الغدر. واسر دعاء بالتوفيق في السرى من سرى الليل. ونل: إن فتحت النون فهو: نال الأمور ينالها, وإن ضمت النون فهو ناله بالخير ينوله مثل أناله. غظ أي غظ عدوك. ارم من الرمي. صب من قولهم: صاب السهم يصيب في معنى أصاب وهو حرف نادر, وإنما القياس صاب يصوب. واحم من الحماية. واغز من الغزو. واسب من سبيت العدو. ورع من الروع أي الفزع. وزع من وزع يزع, إذا كف, والدال المصورة دالة على أمر من: ودى القتلى يديهم, واللام بعدها من قولهم: ولي يلي إذا تولى الأمور, ويجوز أن يكون: ولى يلي إذا جاد بعطاءٍ بعد عطاءٍ كالمطر الذي يلي الأرض كما قال الشاعر: [الطويل] لني ولية تمرع جنابي فإنني ... لما نلت من معروف كفك شاكر واثن من ثنى يثني إذا كرر العطاء. بل: إذا كسرت الباء فهو من وبل المطر, وإذا فتحت الباء احتمل وجهين: أحدهما: أن يكون من بللت بالشيء إذا ظفرت به. والآخر: أن يكون من بل من المرض يبل. وإذا كسرت الباء ففي البيتين سناد على رأي الخليل, وغيره لا يجعل ذلك سنادًا. وإذا فتحت الباء فلا سناد فيهما. وقافية هذين البيتين من المتدارك.

ومن أبيات أولها

ومن أبيات أولها شديد البعد منه شرب الشمول ... ترنج الهند أو طلع النخيل وزنها من الوافر الأول. يقال أترج وهي اللغة الفصيحة والواحدة أترجة, قال علقمة: [البسيط] يحملن أترجة نضخ العبير بها ... كأن تطيابها في الأنف مشموم وحكى بعض العلماء: ترج وترنج, ويجوز أن يكون اشتقاق الأترج من قولهم للموضع الذي فيه الأسد: ترج؛ لأن شجر الأترج كثير الشوك يمتنع من يد جانبيه حتى يدخن تحته بالكبريت فيقع, ولا يبعد أن يكونوا شبهوه بموضع الأسد؛ لأن شجره ملتف, وهي مخشية المخالب والأنياب؛ فهذا أشبه به من أن يكون مأخوذًا من الأرج, وهو طيب الرائحة (148/أ)؛ لأنه إذا أخذ من هذا الوجه فأصله أروج فجعلت الواو تاءً, ووزنه على هذا القول: فعلل, وعلى القول الآخر: أفعل. وقدم الخبر في قوله: شديد البعد, ولو جعل النصف الآخر مكان الأول كان حسنًا, وكلا الوجهين سائع. وقوله: وميدان الفصاحة والقوافي ... وممتحن الفوارس والخيول يقال إن الميدان ليس أصله بعربي, وقد وافق من العربية فعلان من: ماد يميد إذا مال, وماد يميد إذا مار, فيكون على الوجه الأول إذا اشتق من العربية مأخوذًا من: ماد الفارس يميد إذا مال؛ لأنه يحتاج إلى ذلك إذا لعب بالرمح أو غيره. وإذا كان من ماد إذا مار؛ أريد أنه كالذي يمير الفارس؛ أي يقويه على الحرب, كما أن الميرة تقوية لمن يمار, ومنه سميت المائدة مائدة لأنها تمير من عليها بالطعام؛ أي: عندك أيها الممدوح ميدان الفوارس والقوافي من

ومن التي أولها

الشعر. وممتحن الفوارس: يحتمل أن يراد به المصدر, ووقت الامتحان, ومكانه. وقد مضى القول في هذا النحو, ويوافق الأفعال التي عدد ماضيها على أربعة أحرف في لفظ المصدر, والزمان, والمكان, والمفعول. وقافيتها من المتواتر. ومن التي أولها أتيت بمنطق العرب الأصيل ... وكان بقدر على ما عينت قيلي وزنها كوزن التي قبلها, وكذلك قافيتها. وقوله: وهذا الدر مأمور التشظي ... وأنت السيف مأمون الفلول قوله: وهذا ابتداء, والدر نعت للمبهم, والمبهمات تنعت بما فيه الألف واللام. ومأمون التشظي خبر هذا, والمعنى: وهذا الدر الذي أقوله مأمون التشظي؛ أي يبقى على ممر الدهر, والدر إذا طال الأمر عليه فلابد من التغير, ولو جعل هذا مبتدأً والدر خبرًا لكان الوجه نصب مأمون على الحال. ومن قطعة أولها لقيت العفاة بآمالها ... وزرت العداة بآجالها وزنها من المتقارب الثالث.

ومن قطعة أولها

وقوله: وأقبلت الروم تمشي إليـ ... ـك بين الليوث وأشبالها يقال: إن رسول الروم ورد على سيف الدولة فوافق ذلك مجيء قوم بأسد قد قتلوه؛ فأوجب ذلك أن قال أبو الطيب هذه الأبيات. وقافيتها من المتدارك. ومن قطعة أولها وصفت لنا ولم نره سلاحًا ... كأنك واصف وقت النزال الوزن من أول الوافر. قوله: وصفته لنا ولم نره: قدم المضمر لعلم السامع, والمراد: وصفت لنا سلاحًا ولم نره. وقوله: تا في معنى هذه, وقياس قول النحويين أن تكون "تا" نعتًا للنار؛ لأنهم يقولون: ضربت زيدًا هذا؛ فيجعلون هذا نعتًا لزيد؛ لأن المعنى: ضربت زيدًا هذا المشار إليه, ولو جعل هذا بدلًا جاز, وقافيتها من المتواتر. ومن التي أولها ليالي بعد الظاعنين شكول ... طوال وليل العاشقين طويل وزنها من الطويل الثالث. قوله: شكول أي ضروب مختلفة.

قوله: وإن رحيلًا واحدًا حال بيننا ... وفي الموت من بعد الرحيل رحيل إذا كان شم الروح أدنى إليكم ... فلا برحتني روضة وقبول دل كلام أبي الفتح بن جني رحمه الله على أن المتنبي أراد: فلا برحت روضةً, فقدم الخبر كأنه دعا لنفسه بأن يكون بعض الرياض. وقال غيره: ليس الخبر مقدمًا؛ وإنما أراد: لازايلتني روضة وقبول. والقبول هي ريح الصبا, ومهبها من مطلع الشمس. ولم يكشف معنى هذا البيت إلا رجل يعرف بالمخزومي له تصنيف في شعر أبي الطيب, وذلك (148/ب) أن الشاعر قال: إن رحيلًا واحدًا حال بيننا, وهو الرحيل في الدنيا, وبعده رحيل ثانٍ وهو الموت, فأن يكون بيننا رحيل واحد أقرب من أن يكون بيننا رحيلان, فدعا لنفسه بالحياة, لأنه ما دام يشم الروح فهو أقرب إليهم منه إذا صار تحت الأرض. وقوله: وما شرقي بالماء إلا تذكرا ... لماء به أهل الحبيب نزول الرواية بنصب تذكر مصدر تذكرت تذكرا, وأشبه ما يقال فيه: إنه مفعول له أو مفعول من أجله, كأنه قال: وما شرقي بالماء إلا لتذكر أو لأجل تذكرٍ, ولو رفع تذكرًا لم يبعد. وقوله: يحرمه لمع الأسنة فوقه ... فليس لظمآن إليه وصول قد ذكرت الشعراء حاجتها إلى الورد وامتناعهم منه للمخافة كقول القائل: [الطويل] رأى برد ماءٍ ذيد عنه وروضةً ... برود الضحى فينانةً بالأصايل وقال آخر: [الطويل] وإني وتهيامي بزينب كالذي ... يحاول من أحواض صداء مشربا يرى دون برد الماء هولاً وزادةً ... إذا شد صاحوا قبل أن يتحببا التحبب: أول الري.

وقوله: ألم ير هذا الليل عينيك رؤيتي ... فتظهر فيه رقة ونحول الاستفهام في هذا البيت يجوز أن يكون عن شيء قد وقع, كما تقول للرجل: ألم أفعل معك جميلًا؛ أي قد فعلته, وهذا الذي يسمى التقرير, ولا يمتنع أن يكون عن شيء لم يقع بعد, وإذا دخل الاستفهام على حرف النفي قلبه في بعض المواضع إلي الإيجاب, وفي الكتاب العزيز: {أولم ننهك عن العالمين} , أي قد نهاك, واختلف في قوله: {أليس منكم رجل رشيد} , فذهب منهم قوم إلى أن معناه: أما فيكم رجل رشيد, وذهب قوم إلى أنه أراد: أليس منكم نبيكم وهو رشيد, وقول امرئ القيس يحتمل وجهين: [الطويل] فقالت سباك الله إنك فاضحي ... ألست ترى السمار والناس أحوالي يحتمل أن تريد: أأنت لا بصر لك فأنت لا ترى من حولي, وهي لا تعلم أيبصر أم لا يبصر, ويجوز أن تريد أنه قد رأى الناس فلم ينته, ويجوز أن يكون الاستفهام في بيت أبي الطيب على هذين الوجهين, ويكون الليل في أحدهما لم ير عيني المرأة, وفي الآخر قد رآهما؛ فوجب عليه أن يرق وينحل. وقوله: لقيت بدرب القلة الفجر لقيةً ... شفت كمدي والليل فيه قتيل يريد أنه أصبح فزال عنه الليل, فكان كأنه قد شفى كمده منه بقتله, ويحسن ذلك أن الفجر يشبه بالسيف؛ فكأنه قتل الليل. وزعم قوم أن سيف الدولة أوقد نيرانًا عظيمةً بدرب القلة فكأنه أزال بها الليل, وقد يجوز مثل هذه الحكاية.

وقوله: ويومًا كأن الحسن فيه علامة ... بعثت بها والشمس منك رسول عطف يومًا على قوله: لقيت الفجر, وهذا معنى لطيف. أراد أن الحسن في هذا اليوم كأنه علامة بعثت بها هذا المذكورة إليه, وأن الغبار ثار وستر الشمس؛ فكأنها رسول من حبيبه مستخفٍ. وقوله: وما قبل سيف الدولة اتار عاشق ... ولا طلبت عند الظلام ذخول هذا البيت يقوي حكاية من زعم أن سيف الدولة أوقد نيرانًا في درب القلة؛ إذ كان كأنه قد قتل الليل وجلاه بإيقاد النار. واتار: افتعل من قولهم: فعل كذا تارةً بعد تارةٍ؛ أي مرة بعد مرة, فكأنهم يقولون: اتار فلان إذا كانت الغلبة له تارة أي مرة. ويجوز أن يكون اتار من قولهم: اتار إذا أخذ ثأره, ويكون الأصل: اثأر فادغمت الثاء في التاء؛ إلا أنه إذا حمل على هذا الوجه كانت الهمزة قد جعلت فيه ألفًا كما قال بعضهم: (149/أ) سال في معنى سأل, وأكثر ما يقال في افتعل من الثأر: اتأر بالهمز. قال لبيد: [البسيط] والنيب إن تعرمني رمةً خلقًا ... بعد الممات فإني كنت أتئر يقول: إن بليت عظامي فاتفق أن تأكلها الإبل فإني كنت أتئر في حياتي, أي أنحرها؛ فكأني أخذت ثأري منها من قبل أن تسدي إلى شرًا. وقوله: شوائل تشوال العقارب بالقنا ... لها مرح من تحته وصهيل يقال: شالت العقرب بذنبها تشول شولًا؛ فشبه القناة بشولة العقرب, وقد سبقه إلى هذا المعنى بشار بن برد فقال في صفة الخيل: [الكامل] مثل العقارب شولت أذنابها والهاء في تحته راجعة إلى القنا, ولا يمتنع أن ترد إلى الممدوح.

وقوله: وخيل براها الركض في كل بلدةٍ ... إذا عرست فيها فليس تقيل التعريس أكثر ما يستعمل في نزول الراكب آخر الليل, قال الشاعر: [الطويل] فلو كانت ماءً كنت ماء غمامةٍ ... ولو كنت نومًا كنت تعريسة الفجر وتقيل؛ أي تقيم في الهاجرة, وكان الواجب أن يقول: فليست تقيل فيؤنث, ويجعل الضمير راجعًا إلى الخيل, ولكنه جعل ليس في معنى ما؛ فلم يحتج إلى ضمير, وقد حكى سيبويه ذلك في أحد قوليه لما ذكر قول هشام بن عقبة أخي ذي الرمة: [البسيط] وليس منها شفاء الداء مبذول وقوله: على طرقٍ فيها على الطرق رفعة ... وفي ذكرها عند الأنيس خمول يريد أنها طرق في جبالٍ فهي مرتفعة؛ إلا أنها مع رفعتها خاملة عند الأنيس؛ أي إنهم لا يسلكونها. وقوله: فما شعروا حتى رأوها مغيرةً ... قباحًا وأما خلقها فجميل يريد أنهم رأوها قباحًا لأنها جاءتهم بالقتل والأسر, وأما خلقها فمستحسن, وهذا المعنى ضد قوله في الأخرى: [الكامل] ينسي الفريسة خوفه بجماله وقوله: سحائب يمطرن الحديد عليهم ... فكل مكانٍ بالسيوف غسيل الأشبه بالسحائب أن يريد بها هاهنا الخيل, وشبهها بالسحائب لسرعة سيرها, وصير

ضرب الفوارس إياهم بالسيوف كالأمطار, فقد غسلت كل مكان؛ أي قتلت من فيه وسبتهم؛ فكأنما قد غسلته من أهله. ويجوز أن يعني بالسحائب الغبار الثائر, ويكون في الكلام حذف؛ أي رأوا سحائب, وكل ذلك جائز. وقوله: وأمسى السبايا ينتحبن بعرقةٍ ... كأن جيوب الثاكلات ذيول أي قد شققن جيوبهن فصرن كالذيول, ويجوز ضم جيم الجيوب وكسرها, وكذلك في ذال الذيول, وذلك مطرد في جميع ذوات الياء مثل: بيتٍ وشيخٍ وعيبٍ. وقوله: وعادت فظنوها بموزار قفلًا ... وليس لها إلا الدخول قفول موزار لا شك أنها كلمة أعجمية, وقد وافقت من كلام العرب: فوعالًا من المزارة, يقال: رجل مزير إذا كان ذا حلمٍ ورزانةٍ, قال الشاعر: [الوافر] ترى الرجل الضعيف فتزدريه ... وفي أثوابه أسد مزير والقفول يستعمل للجيش إذا رجع من الغزو, وكذلك للمسافر إذا رجع من سفره. وأهل العلم باللغة يعيبون قول العامة للرفقة العازمة على السفر: قافلة؛ لأن القافلة عندهم هي العائدة إلى المحل والوطن. ولكلام العامة وجه حسن؛ وذلك أنهم يسمونها قافلة على سبيل الفأل بالقفول, أي هي تقفل على السلامة, ولا يمتنع في الكلام أن يقال: هذه قافلة أي إنها تقفل بعد مدة, كما يقال فلان مدرك كذا, وهو لم يدركه بعد, وذلك مطرد في اسم الفاعل (149/ب) إذا أريد به الاستقبال, وكلام العرب يتسع ويتردد فيه المجاز, ونحون من قول العامة للرفقة قافلة قوله: وليس لها إلا الدخول قفول قد جعل الدخول قفولًا كما قالوا: تحيته الضرب وعتابه السيف.

وقوله: فخاضت نجيع القوم خوضًا كأنه ... بكل نجيعٍ لم تخضه كفيل النجيع هو الخالص من الدم, وربما قالوا: هو دم الجوف, وتكثر عبارتهم بأن يقولوا: النجيع الدم فلا يخصون شيئًا, وقال الشاعر: [الوافر] وتخضب لحية كذبت وخانت ... بأحمر من نجيع الجوف آن والمراد أن هذاا لنجيع الذي قد خاضته كفيل لها بكل نجيعٍ لم تخضه؛ أي إنها تقتل الأعداء الباقين فتخوض دماءهم. وقوله: وأضعفن ما كلفنه منا قباقبٍ ... فأضحى كأن الماء فيه عليل قباقب: اسم نهر جاوزته هذه الخيل بفرسانها, وأضعفن يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون من الضعف, ويكون المعنى أن هذه الخيل أضعفت هذا الماء وكدرته, فكأنه عليل؛ أي به علة. والآخر: أن يكون من ضعف الشيء إذا قلت أضعفت له العطية إذا زدتها ضعفها؛ فيكون عليل هاهنا فعليلًا في معنى مفعولٍ من قولك: عللت الشرب إذا كررته؛ أي جاءت هذه الخيل فعبرت هذا الماء؛ فكأنها سيل من كثرتها وسرعتها؛ فصار النهر مثله. ويقوي ذلك قوله: ورعن بنا قلوب الفرات كأنما ... تخر عليه بالرجال سيول استعار للفرات قلبًا, وإنما يريد معظم مائه وخالصه. وقوله: تراه كأن الماء مر بجسمه ... وأقبل رأس وحده وتليل يقول: إن الفرس يغيب شخصه في الماء فلا يبين منه إلا رأسه وعنقه, وهذه صفة قلما فعلتها الملوك ولا يسمع بمثلها في الأخبار؛ إلا أن الكميت قال يفتخر في بعض أشعاره: [الوافر]

وخضنا بالقرات إلى تميمٍ ... وقد ظنت بنا مضر الظنونا بحورًا يغرق السبحاء فيها ... ترى الجرد بها سفينا القرات اسم ماء أو موضع فيه ماء, وبعض الناس يصحف فيقول: الفرات. وقد روي أن بعض جيوش المسلمين عبرت إلى جموع فارس دجلة أو الفرات مثل هذا المعنى الذي ذكره الكميت؛ فلم يصب منهم فارس ولا فرس, فلما عبروا الماء قال قائل منهم: كان معي قعب فذهب, فقال له بعض أصحابه: هذا قعبك وجدته فخذه. وقوله: وفي بطن هنزيطٍ وسمنين للظبى ... وصم القنا ممن أبدن بديل هنزيط اسم بعربي ولا يوافق العربية في الاشتقاق؛ لأن النون إن جعلت زائدة فاشتقاقه من الهزط, ولم يحكه أصحاب اللغة. وأما سمنين فهي موافقة لفعلين من السمن أو السمن, والمراد أن السيوف والقنا كانت قد أبادت من لقيته, فلها منه بديل في هذين الموضعين؛ أي سوف تجد فيهما من تقتله. وقوله: بتن بحصن الران رزحى من الوجا ... وكل عزيزٍ للأمير ذليل رزحى جمع رازح, وهو الذي لا يقدر على القيام من الهزال والضعف, وفعلى إنما هو جمع فعيل مثل: مريض ومرضى, وجريح وجرحى, فجرى رازخًا على هذا المثال, لأن فعيلًا وفاعلًا يشتركان؛ كقولك: عالم وعليم, وسالم وسليم, والرازح هو الذي أصابه الرزاح؛ فكأنه مفعول مثل جريحٍ في معنى مجروح. وقوله: ودون سميساط المطامير والملا ... وأودية مجهولة وهجول (150/أ) المطامير جمع مطمورةٍ, وهو ما حفر تحت الأرض ليستتر فيه, أو يعتصم به

من العدو, والملا الأرض الواسعة. قال الشاعر: [الطويل] ألا غنياني وارفعا الصوت بالملا ... فإن الملا عندي يزيد المدى بعدا والهجول جمع هجلٍ وهي أرض واسعة مطمئة وربما كان فيها غلظ, قال ابن ميادة: [الطويل] ألا ليت شعري هل أبيتن ليلةً ... بحرة ليلى حيث ربتني أهلي وهل أسمعن الدهر أصوات هجمةٍ ... تطلع من هجلٍ خصيب إلى هجل وقوله: فودع قتلاهم وشيع فلهم ... بضربٍ حزون البيض فيه سهول الفل المنهزمون, وشيع من قولهم: شيعت المسافر إذا تبعته للوداع؛ وإنما هذه الكلمة مأخوذة من قولهم: آتيك غدًا أو شيعه؛ أي اليوم الذي يأتي بعده. ويقال لشبل الأسد: شيعه لأنه يتبعه؛ ومن ذلك قولهم: شيعة الرجل أي الذين يتبعونه, قال ابن أبي ربيعة: [الكامل] قال الخليط غدًا تصدعنا ... أو شيعه أفلا تودعنا والجزيل: الكثير؛ وإنما يستعمل في العطاء؛ فجعل البأس هاهنا جزلًا. وحزون البيض؛ أي صليها الذي يجري مجرى الحزون من الأرض. والمعنى: أن السيوف تشق البيض فكأنها حزون تجعلها سهولًا. وقوله: على قلب قسطنطين منه تعجب ... وإن كان في ساقيه منه كبول قسطنطين بن الدمستق, وكان سيف الدولة أسره في وقعة الأحيدب وأكرمه, وأقام عنده بحلب فاتفق أنه مات, فاغتم لذلك, فلما بلغ موته أباه دخلت الروم الحبوس التي فيها

المسلمون فقتلوا منهم جماعةً, وكان سيف الدولة يعيب عليهم ذلك؛ لأنهم ظنوا أنه قد سقاه سقيةٍ, ولم يكن الأمر كذلك. والكبول جمع كبلٍ وهو القيد, ويقال للمقيد: مكبل. وقوله: لعلك يومًا يا دمستق عائد ... فكم هاربٍ مما إليه يؤول نجوت بإحدى مهجتيك جريحةً ... وخلفت إحدى مهجتيك تسيل كان الدمستق ضرب في وجهه في الغزاة التي أسر فيها ابنه, فجعل له الشاعر مهجتين: إحداهما نفسه وهي التي نجا بها جريحة, والمهجة خالص النفس وقيل: هي دم القلب, والأخرى ولده قسطنطين, وجعلها تسيل فكأن ذلك كالطيرة بموته. وقوله: بوحهك ما أنساكه من مرشةٍ ... نصيبك منها رنة وعويل يقال: إنه استتر في قناة, وإن بعض غلمان سيف الدولة ضربه في وجهه ولم يعرفه. والرنة الواحدة من الرنين, وهو رفع الصوت عند فزعٍ أو مصيبة, هذا أصل ذلك, ثم استعمل في كل صوت شديد؛ فقيل: أرن الحمار الوحشي إذا نهق في آثار الأتن. قال الراجز: [الرجز] ترعى الخزامى هنةً وهنه في روضةٍ معشبةٍ مغنه فهي إذا راحت عشيهنه شممت من بين البيوت البنه وللجبال بينهن رنه البنة: الرائحة الطيبة في هذا الموضع, وقد جعلوا صوت الحمام رنينًا, قال الشاعر: [الوافر] إذا سعدانة الجبلين ناجت ... عزاهلها سمعت لها رنينا السعدانة: الحمامة, والعزاهل: الفراخ. والمرشة: الضربة التي يخرج منها رشاش الدم مثل رشاش المطر.

وقوله: إذا لم تكن لليث إلا فريسةً ... غذاه ولم ينفعك أنك فيل غذاه أي صار غذاءً له, والهاء عائدة إلى الليث, وأنك فيل فاعل غدا, وفي البيت تقديم وتأخير؛ كأنه قال: غذاه أنك فيل ولم ينفعك عظم خلقك. وقوله: إذا الطعن لم تدخلك فيه شجاعة ... هي الطعن لم يدخلك فيه عذول يقول: إذا لم تكن فيك شجاعة تدخلك في الطعن, أي تحملك على أن تطاعن فتصيب وتصاب؛ لم يحملك فيه من يعذلك, (150/ب) فيقول: هلا تطاعن, ولم لا تفعل فعل غيرك من الشجعان, وهذا كما قال الآخر: [الطويل] فقلت ذريني إنما تلك عادة ... لكل كريمٍ عادة يستعيدها وقوله: إذا كان بعض الناس سيفًا لدولةٍ ... ففي الناس بوقات لها وطبول البوق عربي وهو من قولهم: باقتهم الداهية إذا عمتهم, وقيل إذا فجئتهم, قال الراجز: [الرجز] داهية فيها شفاء العر صملت قران بها في الحر فبقته وقومه بشر وقال مالك بن زغبة الباهلي: [الوافر]

تراها حول قبتنا قصيرًا ... ونبذلها إذا باقت بؤوق وقيل لهذا الذي ينفخ فيه: بوق لأنهم كانوا لا يستعملونه إلا عند أمرٍ مهم. قال الشاعر: [الطويل] سحيف رحى طحانةٍ صاح بوقها والطبل معروف وقد تكلموا به قديمًا, وقالوا لمال الخراج: الطبلي لأنهم كانوا يجعلونه في شيء مثل الطبل, قال الشاعر: [الوافر] نفتكم دونها أفناء فهرٍ ... كما تنفى عن الطبل الفلوس والطبل ضرب من الثياب, ويقال: ما أدري أي الطبل هو أي: أي الناس هو, قال الراجز: [الرجز] ثم انصرفت بانطلاقٍ رسل ... قد علموةا أنا خيار الطبل وقال الشاعر في الطبل الذي يضرب به: [الطويل] ورملٍ عزيف الجن في حجراته ... هدوا كتضراب المغنين بالطبل وقوله: فتيهًا وفخرًا تغلب ابنه وائلٍ ... فأنت لخير الفاخرين قبيل يقولون في بعض القبائل: ابنة فلان وبنت فلان, ولا يقولونه في بعضها, والقياس يجيز ذلك في كل قبيلة, ولم تجر العادة أن يقولوا: كلاب بنت ربيعة ولا عقيل ابنة كعب, قال الفرزدق: [الكامل] لولا فوارس تغلب ابنة وائلٍ ... أخذ العدو عليك كل مكان

وقوله: شريك المنايا والنفوس غنيمة ... فكل مماتٍ لم يمته غلول ادعى أن الممدح للمنايا شريك, فإن مات ميت ليس في موته شرك فكأنه غلول. يقال: غل فلان من الغنيمة شيئًا إذا ستره عن أصحابه, وهو راجع إلى معنى الخيانة, يقال: أغل الجازر في الجلد إذا خبأ فيه شيئًا من اللحم, قال النمر بن تولب: [الطويل] جزى الله عنا جمرة ابن نوفلٍ ... جزاء مغل في الأمانة كاذب وقوله: فإن تكن الدولات قسمًا فإنها ... لمن ورد الموت الزؤام تدول الدولات جمع دولةٍ, وهي كالمملكة ينالها الرجل؛ يقال: دال الرجل يدول, ودالت الدولة, وإذا كان الاسم على فعلةٍ وثانيه ياء أو واو فجمع بالألف والتاء؛ فالوجه تسكين الواو والياء, وفي الكتاب العزيز: {على عورات النساء} , وقد قرئت بفتح الواو, ويقال إنها لغة هذلية وأنهم يقولون: بيضات في جمع بيضة, قال الشعر: [الطويل] أبو بيضاتٍ رائح متأوب ... رفيق بمسح المنكبين أريب وأكثر العرب على التسكين, قال سعد بن مالك بن ضبيعة: [مجزوء الكامل] فالهم بيضات الخدو ... ر هناك لا النعم المراح

ومن أبيات أولها

وكذلك ينبغي أن ينشد بيت ابن أحمر: [المتقارب] فما بيضات ذي لبدٍ هجف ... سقين بزاجلٍ حتى روينا الزاجل: ماء الظليم. ينشد بتسكين الياء, وفتحها لا يخل بالوزن؛ لأن لغة ابن أحمر التسكين. والزؤام: الموت الشديد, ولم يصرفوا منه الفعل. وقوله: لمن هون الدنيا على النفس ساعةً ... وللبيض في هام الكماة صليل أعام اللام في أول البيت الآخر؛ لأن البيت الذي قبله فيه: لمن ورد الموت, وقد مضى مثل ذلك. وأصل الصليل في صوت الحديد وقد استعملوه في غيره, وقالوا للذي يرد الماء وهو عطشان: سمع صليله, قال الشاعر في صفة قطاةٍ (151/أ): [الطويل] غدت من عليه بعدما تم ظمؤها ... تصل وعن قيضٍ بزيزاء مجهل وقافية هذه القصيدة من المتواتر. ومن أبيات أولها إن كنت عن خير الأنام سائلا وزنها مشطور الرجز وهو الرابع منه. قوله: الطاعنين في الوغا أوائلا نصب أوائل على الحال, وأوائل: جمع أوله, وأصله أواول, وإنما همزت الواو لوقوعها بعد واو وألف.

ومن التي أولها

وكذلك رأي النحويين فيما كان كذلك. ولو سميت رجلًا عود أو سود لقلت في الجمع: سوائد وعوائد, فإن جمعت سيدًا جمع التكسير همزت ما بعد الألف في رأي البصريين؛ إلا سعيد بن مسعدة فإنه لا يرى الهمز إلا في أول, ومائة. وقافية هذه الأبيات من المتدارك. ومن التي أولها دروع لملك الروم هذي الرسائل ... يرد بها عن نفسه ويشاغل وزنها من ثاني الطويل. وقوله: ومن أي ماءٍ كان يسقي جياده ... ولم تصف من مزج الدماء المناهل المناهل: جمع منهلٍ, والنهل: الشرب الأول, والنهل: الموضع الذي يشرب منه أو فيه, قال الشاعر: [المديد] يورد الصعدة حتى إذا ما ... نهلت كان لها منه عل العل والعلل: الشرب الثاني, ويقال للظمآن: ناهل؛ لأنه محتاج إلى النهل, قال النابغة الذبياني: [السريع] والطاعن الطعنة يوم الوغى ... ينهل منها الأسل الناهل أي يشرب منها الأسل الظمآن. والأسل لا يشرب, وإنما ذلك على المجاز والتوسع.

وقوله: يقوم تقويم السماطين مشيه ... إليك إذا ما عوجته الأفاكل السماط: صف ممدود مشبه بالسمط الذي هو اللؤلؤ؛ لأنه متصل كاتصاله؛ يعني أن الناس قيام للممدوح وهم سماطان. يأخذه الأفكل أي الرعدة, ولم يتصرف من الأفكل فعل, ولا جمع على فكلٍ؛ وإنما استدلوا على أن همزته زائدة؛ لأن هذا المثال تكثر الهمزة في أوله زائدةً. وقوله: فقاسمك العينين منه ولحظه ... سميك والخل الذي لا يزايل يصف الرسول, وأنه ينظر إلى سيفك نصف نظرة, ويجعل نصفه الآخر إليك. وسميك يعني السيف, والخل مثل الخليل, والسيف يجعل خلا وخليلًا, قال الفرزدق: [الطويل] وإني كما قالت نوار إذا اجتلت ... على رجلٍ ما سد كفي خليلها أي سيفي, وكل ما قرب من الإنسان جاز أن يجعل خليلًا له, وقد سموا الأنف خليلًا, وينشد لأبي حية النميري: [الطويل] إذا نفخت من اجانبٍ نفخت له ... أتاه برياها خليل يواصله وقوله: وأكبر منه همةً بعثت به ... إليك العدى واستنظرته الجحافل الواو في قوله: وأكبر في معنى رب, ورفع أكبر على الإخبار أحسن ويكون مبتدأ. وقوله: بعثت به وما بعده خبر عنه, واستنظرته في معنى انتظرته.

وقوله: وما لونه مما تحصل مقلة ... ولا حده مما تجس الأنامل يقول: تحير هذا الرسول في سيفٍ, ربيعة أصله؛ يعني الممدوح, وطابعه الرحمن؛ أي خالقه وهذا كقوله في الأخرى: سرى السيف مما تطبع الهند صاحبي ... إلى السيف مما يطبع الله لا الهند ولون هذا السيف, الذي هو الممدوح, ليس كلون اليسف؛ لأن السيوف تعرف ألوانها. ولون هذا الممدوح لا يحصل؛ لأنه من هيبته لا يستطاع أن ينظر إليه, كما قال في الأخرى: كأن شعاع عين الشمس فيه ... ففي أبصارنا عنه انكسار ولا حده مما تجس الأنامل؛ أي هذا المسمى باليسف لا يمكن أن تجسه الأنامل؛ لأنه إذا كان النظر لا يصل إليه فبعد الأنامل أشد, والسيف المضروب يمكن أن تجس حده الأنامل. وقوله: رجا الروم من ترجي النوافل كلها ... لديه ولا ترجى لديه الطوائل (151/ب) النوافل: العطايا التي لا تجب على المعطي. والطوائل: جمع طائلةٍ وطائلٍ. يقال لفلان عند فلان طائلة؛ أي أمر يطالبه به من قتل أو غيره. واشتقاق الطائلة فيه وجهان: أحدهما أن يكون من قوله: طال مكثه في الصدر, والآخر يكون من: طال غيره من الأمور أي ارتفع عنها, وهذا فعل معتل في الأصل. والأول لا تتعدى الأفعال منه, ومن الوجه الثاني قول الأول: [الكامل] إن الفرزدق صخرة عادية ... طالت فليس تنالها الأوعالا أي طالت الأوعال فليس تنالها. وقوله: فإن كان خوف القتل والأسر ساقهم ... فقد فعلوا ما القتل والأسر فاعل فخافوك حتى ما لقتلٍ زيادة ... وجاؤوك حتى ما تراد السلاسل

يقول: إن كان ساقهم إليك خوف أسرٍ وقتلٍ؛ فقد فعلوا ما كان يفعل القتل والأسر الواقعان بهم, وربما كان انتظار الشيء أشد من مباشرته. ومن أمثال الأصمعي الموضوعة في كتاب الأمثال: «الحذر أشد من الوقعية». وقوله: فخافوك حتى ما لقتل زيادة؛ أي خافوك خوفًا لا يزيد خوفهم القتل عليه, وجاؤوك حتى لا حاجة إلى السلاسل التي تجعل في أعناق الأسرى. وهذا البيت كالتفسير للبيت الأول. وقوله: كريم متى استوهبت ما أنت راكب ... وقد لقحت حرب فإنك باذل رفع كريمًا على تقدير قوله: أنت كريم, ووصفه أنه لو سئل ما هو راكب على ظهره في الحرب لوهبه للسائل. ولقحت الحرب إذا كان أمر يهيجها, وإنما شبهت بالناقة اللاقح. وكانت العرب تضن في الحروب بأن يردف الرجل على الفرس خوفًا أن تقصر عن حمل رجلين, ومن ذلك قول الفرار السلمي: [الطويل] عدمت أناسًا بالجليل كأنما ... رئيسهم ليث ببيشة أفدع كأن ابنة الشقراء لما ابتذلتها ... بذي الرمث ظبي في تبالة أخضع غداة يقول القين هل أنت مردفي ... وما بين ظهر القين والرمح إصبع فقلت له يابن الخبيثة إنها ... برب خفيفٍ واحدٍ هي أسرع فإن يك عارًا يوم ذاك أتيته ... فراري فذاك الجيش قد فر أجمع

الجليل يجوز أن يكون موضعًا ينبت الثمام؛ لأن الثمام يقال له الجليل. وبيشة موضع يوصف بكثرة الأسد. وظبي أخضع؛ أي في عنقه اطمئنان, وتبالة موضع يوصف بالخصب. قال لبيد: [الكامل] فالضيف والجار الغريب كأنما ... هبطا تبالة مخصبًا أهضامها ومن أمثالهام: «ما هبطت بطن تبالة لتحرم الأضياف» يقال ذلك لمن يجب عليه أن يفعل جميلًا فيضن به. وقوله: أذا الجود أعط الناس ما أنت مالك ... ولا تعطين الناس ما أنا قائل ناداه بهمزة النداء؛ أي ياذا الجود أعط الناس مالك ولا تعطهم شعري؛ أي لا تجعلهم في طبقتي؛ فتقول للشاعر: أنت مثل فلان, أو شعرك مثل شعره. وقوله: أفي كل يومٍ تحت ضبني شويعر ... ضعيف يقاويني قصير يطاول الضبن: ما تحت الإبط إلى الخاصرة, ويقال: هو مثل الكشح. قال أوس بن حجر: [المتقارب] وأبيض بض عليه النسور ... وفي ضبنه ثعلب منكسر ويقاويني: يفاعلني من القوة. وقوله: وما التيه طبي فيهم غير أنني ... بغيض إلي الجاهل المتعاقل

أصل الطب: العلم بالشيء, يقال: فلان طب بكذا وطبيب به. قال عنترة: [الكامل] إن تغدفي دوني القناع فإنني ... طب بأخذ الفارس المستلئم وقال علقمة: [الطويل] فإن تسألوني بالنساء فإنني ... بصير بأدواء النساء طبيب ثم اتسعوا في هذه (152/أ) الكلمة حتى سموا الداء طبًا؛ لأنه يفتقر إلى طب؛ أي دواء, وطبيب أي مداو. والطب في بيت أبي الطيب في معنى الداء, قال الشاعر: [الوافر] ألا من مبلغ حسان عني ... أسحر كان طبك أم جنون وقوله: لعل لسيف الدولة القرم هبةً ... يعيش بها حق ويهلك باطل يقال: هب السيف هبةً إذا اهتز في الضريبة, قال امرؤ القيس: [الطويل] وأبيض كالمخراق بليت حده ... وهبته في السوق والقصرات يجوز رفع هبةٍ على الابتداء, ونصبها معطوفةً على قوله: بليت حده؛ يعني سوق الإبل وقصراتها؛ لأنه كان يعقرها. والقصرات جمع قصرةٍ وهي أصل العنق, ويجوز أن تجعل القصرات هاهنا قصرات الناس؛ فيكون قد وصف نفسه بعقر الإبل للأضياف, وقتل الرجال في الحرب. والشاعر يشتكي في هذا البيت أنه لا ينصف في الرتبة, وهو ينتظر نظرًا من سيف الدولة يعيش به حقه, ويموت باطل سواه. وقوله: رميت عداه بالقوافي وفضله ... وهن الغوازي السالمات القواتل

القوافي هاهنا مراد بها الأبيات التي فيها القوافي, وقد جعلوا البيت قافيةً, وكذلك القصيدة. قال حسان بن ثابت: [الوافر] فنحكم بالقوافي من هجانا ... ونضرب حين تختلط الدماء فسروا القوافي في هذا البيت: الأبيات, ولا يبعد أن يراد بها القصائد. وقال كعب بن زهير: [الطويل] فمن للقوافي بعد كعبٍ يحوكها ... إذا ما ثوى كعب وفوز جرول وإذا جاء في شعر العرب ذكر القافية أو القوافي؛ فالمراد الأبيات التي فيها القوافي, ومذهب سعيد بن مسعدة: أن القافية الكلمة التي في آخر البيت, ويحتج أن قائلًا لو قال لغيره: اجمع لي قوافي على اللام؛ لقال له: منزل, وحومل, ونحو ذلك, فالقافية على مذهبه تزيد وتنقص, فمن قوافي: «قفا نبك»: حومل وشمأل والقرنفل والتدلل, ومن قوافي كلمة زهير التي على الميم في قوله: أمن أم أوفى دمنة لم تكلم: معصم والدم ونحو ذلك. وقد ذهب قوم إلى أن القافية النصف الآخر من البيت, وسئل بعض العرب عن القافية في قول الراجز: [الرجز] بنات وطاءٍ علي خد الليل فقال: خد الليل؛ فجعل الكلمة وما أضيف إليها قافيةً. وقال قطرب: القافية حرف الروي, وإلى هذا ذهب أبو العباس أحمد بن يحيى المعروف بثعلب, وقال قوم: القافية ما لزم الشاعر إعادته من الحروف والحركات وهذا أشبه أقوالهم بالقياس. وقوله: وهن الغوازي السالمات القواتل, يريد أنها تسير في البلاد ولا تخاف الهلكة, وهي مع ذلك قواتل: أي يذم

بهن الإنسان؛ فيكون ذلك كالقتل له, ولذلك قال القائل: [المتقارب] وجرح اللسان كجرح اليد بل جرح اللسان أبقى على ممر الأيام, والجرح باليد قد يندمل في كثير من الأوقات. وقوله: قريب عليه كل ناءٍ على الورى ... إذا لثمته بالغبار القنابل القنابل: جمع قنبلةٍ وهي الجماعة من الفرسان. قال النابغة الذبياني: [الطويل] يحث الجياد جالزًا بردائه ... يقي صاحبيه ما تثير القنابل جالزًا بردائه؛ أي قد عصب به رأسه, وأصل الجلز: العقد الشديد المحكم. وقوله: إذا العرب العرباء رازت نفوسها ... فأنت فتاها والمليك الحلاحل العرباء صفة للعرب؛ أي: الخالصة, وهو من جنس قولهم: داهية دهياء, فأما قولهم: العرب العاربة؛ فأصحاب النسب يفسرون هذا اللفظ بأن المراد به قبائل من العرب درجت فلم يبق منها أحد يعرف؛ كعاد وثمود وجرهم وطسم وجديس وأميم, ويقال: أميم. وقولهم: العاربة توكيد لهم؛ كما يقال: شيب شائب, وموت مائت, وكذلك شغل شاغل, قال امرؤ القيس: [السريع] حلت لي الخمر وكنت امرأً ... عن شربها في شغلٍ شاغل وقال الراجز: [الرجز] يخضبن بالحناء شيبًا شائبا ... يقلن كنا مرةً شبائبا وقوله (152/ب): أطاعتك في أرواحها وتصرفت ... بأمرك والتفت عليك القبائل وكل أنابيب القنا مدد له ... وما تنكت الفرسان إلا العوامل

القبائل في آخر البيت مرفوعة بقوله: التفت, والهاء في أرواحها راجعة إلى العرب العرباء, وفي تصرفت ضمير يرجع إلى العرب أيضًا, وضرب أنابيب القنا مثلًا, وجعل العوامل هي التي تنكت الفرسان؛ أي تلقيهم, يقال: انتكت الرجل إذا وقع على رأسه, وأنشد ابن السكيت: [المنسرح] منتكت الرأس فيه دامية ... جائشة لا تردها الفتل أراد أن العرب كلها مدد لسيف الدولة؛ إلا أنه كعامل القناة, وما تنكت الفرسان إلا عوامل الرماح. وقوله: رأيتك لو لم يقتض الطعن في الوغى ... إليك انقيادًا لاقتضته الشمائل يقال: فلان حسن الشمائل والشمال؛ يريدون حسن السجية والأخلاق. والأصل في ذلك أن الإنسان يشتمل على ما فيه مما يحمد, ويجوز أن تجعل الأخلاق مشتلمةً عليه, والناس يستعملون الشمائل في حسن الخلقة والقد, وهذا البيت ينسب إلى امرئ القيس: [الكامل] فلئن كبرت لقد علمت بأنني ... حلو الشمائل ماجد الأصل وقال النحويون: الشمائل واحدها شمال, ويجوز أن يكون شمال جمعًا؛ لأنهم يقولون دلاص للواحد والجمع؛ إذ كان فعيل وفعال يتقاربان, فإذا قيل: دلاص جاز أن يكون واحدًا وجمعًا لدلاصٍ مثل لفظه, وإذا صح قول امرئ القيس: [الطويل] كنائن يجري فوقهن دليص فيجوز أن يكون الدلاص جمع دليصٍ. وقال صخر بن معاوية بن الشريد: [الطويل] ألم تعلما أن الملامة نفعها ... قليل وما لومي أخي من شماليا وقافيتها من المتقارب.

ومن بيتين أولهما

ومن بيتين أولهما فديت بماذا يسر الرسول ... وأنت الصحيح بذا لا العليل وزنهما إن أطلقا من أول المتقارب, وإذا قيدا فهما من ثانيه, وقافيتهما إن أطلقا من المتواتر وإن قيدا فقافيتهما من المترادف لاجتماع الساكنين. ومن التي أولها إن يكن صبر ذي الرزية فضلا ... تكن الأفضل الأعز الأجلا وزنها من أول الخفيف. قوله: أنت يا فوق أن تعزى عن الأحـ ... ـباب فوق الذي يعزيك عقلا قوله: يا فوق يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون قد حذف المنادى لعلم السامع بما يريد؛ كأنه قال: أنت يا سيف الدولة, أو يا ملك, أو يا أمير, أو نحو ذلك. وحذف المنادى يكثر في شعر العرب, قال الشاعر: [الطويل] ألا يا اسلمي ثم اسلمي ثمت اسلمي ... ثلاث تحياتٍ وإن لم تكلمي والآخر: أن يكون جعل فوق نعتًا لسيف الدولة؛ فكأنه أخرجه من باب الظروف إلى باب الأسماء, وهذا القول أحسن في نقد الشعر, لأن فوق الأولى والثانية في الوجه الأول: ظرفان, وفي الوجه الآخر: الأول منهما اسم, والثاني ظرف. ولو كان فوق في موضع رفع على هذا الوجه لرفع فقيل: أنت فوق أن تعزى, وقد أدخلوا الباء على فوق وأنشدوا بيتًا ينسبونه إلى

سحيمٍ عبد بني الحسحاس وليس في ديوانه: [الطويل] لقيت النساء الحارثيات غدوةً ... بوجه براه الله غير جميل فشبهنني كلبًا ولست بفوقه ... ولا دونه إن كان غير بخيل وقوله: وبألفاظك اهتدى فإذا عز ... زاك قد الذي له قلت قبلا العرب تستعمل قبل مضافةً, فإذا فعلوا ذلك نصبوها على الظرف, فإذا حذفوا المضاف إليه فأكثر ما يستعملونها مضمومةً يجعلونها غايةً, وفي الكتاب العزيز: {لله الأمر من قبل ومن بعد} , وقل ما يستعملونها غير ظرف إذا انفكت من الإضافة, قال الشاعر: [الوافر] فلذ لي الشراب وكنت قبلًا ... أكاد أغص بالماء الحميم أراد بالحميم هاهنا: البارد, وإنما شبهه بحميم الإنسان الذي يحتم له أي يهتم, والاحتمام مثل الاهتمام, وقيل: إنه يكون مع سهرٍ, وقد جاؤوا ببعد مضمومة منونة وذلك قليل شاذ, وأنشد الفراء: [الطويل] ونحن قتلنا الأزد أزد شنوءةٍ ... فما شربت بعد على لذاةٍ خمرا وقوله: وقتلت الزمان علما فما يغـ ... رب قولًا ولا يجدد فعلا (153/أ) ادعى للممدوح أنه قد قتل الزمان علمًا, فالزمان لا يغرب عليه قولًا, ولا

يجدد فعلًا لم يمرر به, وهذه الدعوى توجب الاستغفار, ولا يحل أن يوصف بها مخلوق, ولكن الشعراء مصطلحون علي هذه المبالغات. وقوله: إن خير الدموع عينًا لدمع ... بعثته رعاية فاستهلا يقال: استهل الدمع إذا تهيأ لأن ينهل, وانهلاله انصبابه بالمطر, واستفعل يستعمل على هذا الوجه, يقال: استسر الهلال إذا حصل في السرار, واستجد الرجل صديقًا إذا أخذه جديدًا, وربما قال المفسرون: الاستهلال رفع الصوت؛ وإنما قالوا ذلك لأن السحاب إذا استهل طال ما سمع معه رعد, وقالوا: أهل الرجل إذا رفع صوته بدعاءٍ أو تسبيح, قال ابن أحمر: [السريع] يهل بالفرقد ركبانها ... كما يهل الراكب المعتمر وإنما قيل لرافع الصوت مهل؛ لأن الهلال إذا طلع فمن شأن من رآه أن يذكر الله؛ فيرفع لسانه بذلك, وقالوا: استهل الصبي إذا بكى بعد ولاده, وأصله ما تقدم. وقال الشاعر: [الطويل] أهل به لما استهل بصوته ... حسان الوجوه ناعمات الأنامل وقوله: قاسمتك المنون شخصين جورًا ... جعل القسم نفسه فيه عدلا كان لسيف الدولة أختان؛ إحداهما التي رثاها أبو الطيب بالقصيدة التي أولها: يا أخت خير أخٍ يا بنت خير أب وكانت الكبرى من أختيه فماتت الصغرى قبلها, وهي المرثية بهذه القصيدة, وفضل أبو الطيب الباقية على الذاهبة في هذه القصيدة وفي الأخرى فقال: قد كان قاسمك الشخصين دهرهما ... وعاش درهما المفدي بالذهب وقوله: فإذا قست ما أخذن بما أغـ ... ـدرن سرى عن الفؤاد وسلى

يقال: أغدر بالشيء وغادره إذا تركه. ويقال: أخذ فلان كذا وترك منه غدارة, قال الأفوه الأودي: [السريع] في مضر الحمراء لم يترك ... غدارةً غير النساء الجلوس وقال الراجز: [الرجز] هل لك والعائض منك عائض ... في مائةٍ يغدر منها القابض وقوله: وكم انتشت بالسيوف من الدهـ ... ـر أسيرًا وبالنوال مقلا يقال: انتشت الشيء أنوشه إذا تناولته, وربما قيل: نوش الشيء أخذه بعد طلبٍ, قال الراجز: [الرجز] فهي تنوش الحوض نوشًا من علا ... نوشًا به تقطع أجواز الفلا والسباع تنوش القتيل؛ أي تأخذ لحمه, قال عنترة: [الكامل] فتركته جزر السباع ينشنه ... مما بين قلة رأسه والمعصم ويقال: انتاش فلان الرجل من الهلكة إذا خلصه منها, قال القطامي: [البسيط] فانتاشني لك من غبراء مظلمةٍ ... حبل تضمن إصداري وإيرادي وقوله: عدها نصرةً عليه فلما ... صال ختلًا رآه أدرك تبلا

في عدها ضمير يعود على الدهر, والهاء والألف في عدها عائدة على أفعال سيف الدولة التي هي تخليص الأسرى بالسيوف, وإراحة المقلين من العدم بالنوال؛ فكأن الدهر رأى ذلك نصرةً عليه, فلما ختل الممدوح, فأخذ بعض أهله, ظن أنه قد أدرك ثأرًا. وقوله: قارعت رمحك الرماح ولكن ... ترك الرامحين رمحك عزلا يقول: قارعت الرماح رمحك فترك الرامحين عزلًا؛ أي لا سلاح معهم, والواحد أعزل, وإنما قيل له ذلك لأنه إذا فقد السلاح انعزل عن الحرب, وأكثر ما يستعمل فيمن فقد الرمح, [و] يقال له: أجم, والأجم الذي لا قرن له, والرماح يقال لها: قرون الخيل, قال عنترة: [الوافر] ألم تعلم لحاك الله أني ... أجم إذا لقيت ذوي الرماح ويقال: فرس جماء إذا لم يكن مع فارسها رمح, وكذلك خيل جم, قال الأعشى: [المتقارب] متى تدعهم للقاء الصباح ... تأتك خيل لهم غير جم ويقال في جمع الأعزل: عزل, وكذلك في المصدر, وهو مثل قولهم: أحمق للواحد, والجمع: حمق, وقالوا: هو بين الحمق, قال الهذلي: [الطويل] فما هو إلا بزه وسلاحه ... وما بكم فقر إليه ولا عزل والعزل هاهنا مصدر أعزل, قال النابغة في الجمع: [الوافر] فوارس من منولة غير ميلٍ ... ولا عزل إذا هفت العقاب وقوله (153/ب): لو يكون الذي وردت من الفجـ ... ـعة طعنًا أوردته الخيل قبلا

توصف الخيل بالقبل؛ فيقول قوم: القبل حول خفي. وقال آخرون: القبل ضد الحول, لأن الحول أن تخالف إحدى العينين الأخرى, والقبل أن تقبل إحداهما على الأخرى, وقيل: القبل أن يقبل أعلى العين على أسفلها. قال الهذلي: [الطويل] فلو سمعوا منه دعاءً يروعهم ... إذًا لأتته الخيل أعينها قبل وقوله: خطبة للحمام ليس لها رد ... وإن كانت المسماة ثكلا ذكر أن خطبة الحمام نفوس بني آدم وغيرها لا يمكن ردها؛ إذ كانت الخطبة طال ما ردها المخطوب إليه. وأصل الخطبة في التزوج, ويجوز أن يقال لكل من طلب شيئًا قد خطبه. قال الراجز: [الرجز] قد خطب النوم إلي نفسي ... همسًا وأدنى من خفي الهمس وما بأن أطلبه من بأس وحسن ذكر الخطبة هاهنا لأن المرثاة امرأة, وبين ذلك الشاعر بقوله: وإذا لم تجد من الناس كفوًا ... ذات خدرٍ أرادت الموت بعلا أبدًا تسترد ما تهب الدنـ .. ـيا فياليت جودها كان بخلا فكفت كون فرحةٍ تورث الغمـ ... ـم وخل يغادر الوجد خلا وهذ يشبه قول أبي الطيب في موضعٍ آخر: ولولا أيادي الدهر في الجمع بيننا ... غفلنا فلم نشعر له بذنوب وللترك للإحسان خير لمحسنٍ ... إذا جعل الإحسان غير ربيب يقول: لولا أيادي الدهر, أي نعمه, في الجمع بيننا لم ن شعر بذنوبه التي هي فراق وغيره من حوادث الدهر, ثم قال: ترك الإحسان أجمل بالمحسن إذا جعل إحسانه غير مربوبٍ؛ أي

ومن التي أولها

غير مرهون, بما ينقضه؛ فإنما مثل الدهر فيما فعل مثل رجلٍ وهب لآخر شيئًا فرح به, ثم أخذه منه, فكان أسفه عليه أضعاف فرحه به إذ أعطي. وقوله: وهو الضارب الكتيبة والطعـ ... ـنة تغلو والضرب أغلى وأغلى يقول: الطعن وإن كان صعبًا على الطاعن فهو أيسر من الضرب؛ لأن بعد الطاعن من عدوه أكثر من بعد الضارب منه, كما أن الرامي أبعد من الطاعن, وقد رتب هذا الغرض زهير في قوله: [البسيط] يطعنهم ما ارتموا حتى إذا اطعنوا ... ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا وقافية هذه القصيدة من المتواتر, ولو لم يكن للمتنبي غير هذه القصيدة في سيف الدولة لكان كثيرًا, وأين منها قصيدة البحتري التي أولها: [الخفيف] إن سير الخليط لما استقلا ومن التي أولها ذي المعالي فليعلون من تعالى ... هكذا هكذا وإلا فلا لا وزنها كالتي قبلها. ذي في موضع نصب, والأجود أن تكون منصوبةً بفعلٍ مضمرٍ يفسره قوله: فليعلون. وذهب قوم إلى أنك إذا قلت: فلانًا فاضرب؛ فالعامل في المفعول الفعل الذي بعد الفاء, والقول الأول أشبه. وقوله: هكذا هكذا أي ليعلو الناس مثل هذا العلو. وحسن ترديده "لا" لما ردد هكذا.

وقوله: شرف ينطح النجوم بروقيـ ... ـه وعز يقلقل الأجبالا استعار للشرف روقين, ولما استعارهما حسن أن يذكر النطح لأنه يكون بالروق, وقد سبقت الشعراء إلى هذا المعنى, وصفتهم المجد أنه قد بلغ السماء والنجوم ونحو ذلك. والقلقلة: الحركة العنيفة. وقوله: ولتمضن حيث لا يجد الرمـ ... ـح مدارًا ولا الحصان مجالا لما قال: حالفته صدورها, يعني صدور الخيل, جاء بحكاية اليمين فقال: لتخوضن فجاء بالتاء وقال: ولتمضن يكون معطوفًا على قوله: لتخوضن, وإنما يجب أن يقول: وليمضين؛ فيظهر الياء, كما يقال: حلفت الجماعة لتدخلن الدار, ولتمضين في الحاجة, ولو قال في غير الشعر: لتخضن دونه الأهوال لحسن أن يقول: وليمضن فيحذف الياء. وقوله: وتوافيهم بما في القنا السمـ ... ـر كما وافت العطاش الصلالا (154/أ) وتوافيهم بما في القنا السمـ ... ـر كما وافت العطاش الصلالا (154/أ) الصلال جمع صلةٍ. يقال: أرض صلة إذا أصابها المطر ولم يصب ما حولها, ومن ذلك قول الراعي: [الوافر] سيكفيك الإله ومسنمات ... كجندل لبن تطرد الصلالا ويجوز أن تسمى الأمطار صلالًا أيضًا. ومعنى البيت: توافي العدو بالخيل تسير في القنا السمر وهي عطاش إلى دماء الأعداء, فهي توافيهم كما يوافي الظمآن الأرض الممطورة, فيجد بها الماء الذي يزيل العطش. وقوله: وقسي رميت عنها فردت ... في قلوب الرماة عنك النصالا

القسي: جمع قوسٍ على القلب, وجمعها في غير المقلوب: قياس في الأكثر, وأقوس في الجمع القليل. قال الراجز: [الرجز] ووتر الأساور القياسا صغديه تنتزع الأنفاسا وقال آخر في الجمع القليل: [البسيط] طرن انقطاعة أوتار محظربة ... في أقوس نازعتها أيمن شملا محظربة أي محكمة الأوتار. وأصل قسي: قسو, وإذا جمعوا ذوات الواو والياء على فعولٍ قالوا: دلو ودلي فأجازوا ضم الدال وكسرها, وكذلك ثدي وثدي, ولم يحكوا في قسي إلا كسر القاف. وقوله: أخذوا الطرق يقطعون بها الرسـ ... ـل فكان انقطاعها إرسالا يقول: قطعوا الطرق كي تخفى أخبارهم؛ فأنكر الممدوح ذلك, وعلم أنهم في مكرٍ؛ فكان انقطاع الطرق كأنه إرسال إلى الممدوح بأخبارهم. وقوله: وهم البحر ذو الغوارب إلا ... أنه صار عند بحرك آلا غوارب البحر: ما ارتفع منه إذا زخر. وعظم أمر الروم لما جعلهم كالبحر, ثم صغرهم وذكر أن بحرهم صار آلًا عند بحر سيف الدولة, والآل: أول السراب في أول النهار؛ لأنه يرفع الشخوص. قال الجعدي: [البسيط] حتى لحقنا بهم تعدي فوارسنا ... كأننا رعن قف يرفع الآلا أراد: يرفعه الآل فقلب.

وقوله: والثبات الذي أجادوا قديمًا ... علم الثابتين ذا الإجفالا يقول: أجادوا الثبات فيما سلف من الدهر؛ فأداهم ذلك إلى القتل؛ فكأنه علم الثابتين السالمين أن يجفلوا حذار أن يصيبهم كما أصاب من تقدم. وقوله: تحمل الريح بينهم شعر الها ... م وتذري عليهم الأوصالا يقول: نزل هذا الجيش في موضع جيشٍ أولٍ أوقع به, وكان في الجيش الهالك أقارب هؤلاء القوم؛ فجعلوا يندبونهم, والريح تحمل بينهم شعر الهام وتذري الأوصال, وهي جمع وصلٍ أي عضوٍ, وإنما قيل للعضو: وصل لأنه يوصل بغيره. وقوله: أبصروا الطعن في القلوب دراكًا ... قبل أن يبصروا الرماح خيالا يقول: اعتبر المتأخرون منهم بالمتقدمين؛ فكأنهم أبصروا الطعن دراكًا بقلوبهم, وبينهم وبين من يطلبهم مسافة بعيدة, ففروا قبل أن ينظروا إلى خيال الرماح. وقوله: بسط الرعب في اليمين يمينًا ... فتولوا وفي الشمال شمالا المعنى: أنهم رعبوا وخافوا أن يصيبهم كما أصاب من قبلهم؛ فكأن الرعب بسط في اليمين من جيشهم؛ أي ميمنته؛ ميمنةً تقاتلهم, وفي الشمال شمالًا, أي في ميسرته ميسرةً. وقوله: أقسموا لا رأوك إلا بقلبٍ ... طال ما غرت العيون الرجالا أي حلفوا أنهم لا يروك إلا بقلوبهم, وقد علموا أن الغلبة لك, فهم لا يثبتون للقاء, فينظرون إليك بعيونهم؛ لأن العين طال ما غرت الناظر, فيتوهم ما لاح له شيئًا غيره. وقوله: أي عينٍ تأملتك فلا قتـ ... ـك وطرفٍ رنا إليك فآلا

الرنو: إدامة النظر في سكونٍ, ومن أبيات المعاني: [الطويل] إذا نظر الرائي إليها بطرفه ... غروب ثناياها أهل وأظلما (154/ب) أهل يجوز أن يكون من قولهم: أهل إذا رفع صوته بالدعاء والتسبيح, ويحتمل أن يكون من: أهل الرجل إذا رأى الهلال, قال الشاعر: [الطويل] إذا ما سلخت الشهر أهللت غيره ... كفى حزنًا سلخي الشهور وإهلالي وقيل: أهل من قولهم: ما جاء بهلةٍ ولا بلةٍ؛ أي بشيء قليل, ويكون أهل في البيت أنه رأى ريقها. وأحسن هذه الوجوه أن يكون أهل من رؤية الهلال؛ لأن وجهها يشبهه, وأظلم أي نظر إلى ظلم الأسنان وهو حسنها وشدة بياضها, ألغز به عن الظلام لما قال: أهل. وقوله: ما لمن ينصب الحبائل في الأر ... ض ومرجاه أن يصيد الهلالا يروى مرجاه بإضافة مرجى إلى الهاء, ومرجاة على أن الهاء للتأنيث, وكونه بالإضافة أحسن؛ لأن الهاء ترجع إلى من, وهذا أقوى في اللفظ من أن تكون من لا عائد إليها. وقوله: إن دون التي على الدرب والأحـ ... ـدب والنهر مخلطأ مزيالا يقال: فلان مخلط مزيل, ومخلاط مزيال؛ إذا وصف بالشجاعة وجودة الرأي في الزيال. ووصفوا الفرس فقالوا: مخلط مزيل: أي إنه طلب الخيل الفارة خالطها, وإذا طلبته الخيل وجدته مزيلًا؛ أي لا تلحقه, وهذا البيت يروى لأبي دوادٍ الإيادي: [الخفيف] مخلط مزيل معن مفن ... أجولي ذو ميعةٍ إضريج

معن؛ أي يعرض الجري, ومفن؛ أي يفتن فيه. ويجوز أن يكون مفن من قولهم: فن الوحش إذا طردها؛ أي هذا الفرس يصطاد عليه الوحش. والأجولي الذي يجول, وهو الذي يميل في أحد شقيه من النشاط. والميعة: النشاط أيضًا, وإضريج [الذي] ينضرج في أحد جانبيه, وهو نحو الأجولي. وقوله: في خميس من الأسود بئيس ... يفترسن النفوس والأموالا الخميس: الجيش العظيم, وقد تكلمت به العرب قديمًا, وأما قولهم للجيش: خميس في الإسلام؛ فقد وافق قولهم: خمس الإمام الغنيمة؛ إذا أخذ خمسها؛ لأن في الكتاب العزيز: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} , فكأن خميسًا في معنى مخموسٍ. وكانوا في الجاهلية يعطون صاحب الجيش المرباع؛ أي ربع الغنيمة, قال الشاعر: [الوافر] لك المرباع منها والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول أراد بالصفايا: ما يصطفيه لنفسه؛ أي يختاره. وحكمك أي تحتكم عليه بما اخترت. والنشيطة: ما يصيبه الجيش في طريقه مما لم يكن في ظنه أنه يصيبه. والفضول: جمع فضل, وهو ما فضل فلم ينقسم بين الجيش لتعذر القسمة؛ كالفرس الرائع والمرأة المسبية ونحو ذلك. ويحتمل أن يكون في الدهر الأول حكم للرؤساء أن يأخذوا خمس الغنيمة, ثم تغيرت تلك السيرة بالمرباع, وبقي اسم الخميس على حاله. وقوله: كل غادٍ لحاجةٍ يتمنى ... أن يكون الغضنفر الرئبالا الغضنفر: من صفات الأسد وهو الغليظ الجلد, ووصف بعضهم اللبن الخاثر بالغضنفر, وهو من طريف الكلام. وقافية هذه القصيدة من المتواتر.

ومن التي أولها

ومن التي أولها ما لنا كلنا جوٍ يا رسول ... أنا أهوى وقلبك المتبول وزنها من الخفيف الأول. والأجود أن ترفع كلنا على الابتداء, ويكون جوٍ خبره. وكان بعض الناس يخفض كلنا ويجعله تأكيدًا للضمير في لنا, وهذا وجه رديء؛ لأنه يوجب نصب جوٍ على الحال, فيقال: ما لنا كلنا جويًا؛ فإن لم يفعل ذلك فهو ضرورة. وقوله: أفسدت بيننا الأمانات عينا ... ها وخانت قلوبهن العقول زعم أنه أرسل رسولًا يثق به, فلما نظر إلى عينينها تغير عن حال الأمانة. والهاء في قلوبهن تحتمل وجهين: أحدهما: أن تكون راجعةً إلى الأمانات, ويكون قد استعار للأمانات قلوبًا؛ وإنما يعني قلوب المؤتمنين. والآخر: أن (155/أ) تكون الهاء والنون راجعتين إلى القلوب, كما يقدم المضمر الذي في المفعول فيقال: لبس ثوبه فلان, والمعنى متقارب. والعقول في هذا القول فاعلة, وكذلك في القول الأول؛ إلا أن الضمير هاهنا للعقول. وقوله: تشتكي ما اشتكيت من طرب الشو ... ق إليها والشوق حيث النحول تشتكي تحتمل وجهين: أحدهما خطابًا للرسول الذي ناداه في أول القصيدة؛ أي تشتكي ما اشتكيت وأنت كاذب لأنك لست ناحلًا, وإنما الشوق حيث النحول. ومثل هذه القصة التي ذكرها أبو الطيب جرى لأبي ذؤيبٍ الهذلي مع خالد بن زهير؛ فقال أبو ذؤيب: [الطويل] ما حمل البختي يوم غياره ... عليه الوسوق برها وشعيرها بأثقل مما كنت حملت خالدًا ... وبعض أمانات الرجال غرورها

وكان أبو ذؤيب قد أفسد هذه المرة على سواه فقال له خالد بن زهير أبياتًا منها: [الطويل] فلا تجزعن من خطةٍ أنت سرتها ... فأول راضٍ خطةً من يسيرها وكان خالد إذا عاد إلى أبي ذؤيب يشم عطفه ويمس ثوبه لينظر أعلق به منها طيب. وخالد الذي يقول: [الرجز] يا قوم مالي وأبا ذؤيب ... كنت إذا أتيته من غيب يشم عطفي ويمس ثوبي ... كأنما أربته بريب وقال أبو ذؤيب: [الطويل] تريدين كيما تجمعيني وخالدًا ... وهل يجمع السيفان ويحك في غمد دعاك إليها مقلتاها وجيدها ... فملت كما مال المحب على عمد فآليت لا أنفك أحدو قصيدةً ... تكون وإياها بها مثلًا بعدي والوجه الآخر أن يكون قوله: تشتكي إخبارًا عن المرأة, والأول أشبه.

وقوله: من رآها بعينها شاقه القطا ... ن فيها كما تشوق الحمول يقول: من رأى الدنيا بالعين التي يجب أن ينظر إليها بها فإنه يراها زرية, فالعين في هذا الوجه للإنسان, ويجوز أن تكون العين الدنيا من قولهم: هذا عين الشيء؛ أي حقيقته, فيكون المعنى: من رأى الدنيا بحقيقة نفسها شاقه القطان, وهم جمع قاطن أي مقيم, كما تشوق الحمول؛ أي القوم المتحملون, وأكثر ما تستعمل الحمول في الأحمال, ثم يصير ذلك أمرًا عامًا للأحمال وغيرها من المتحملين. يقول: يجب أن يشوق القطان من هو معهم؛ لأنه يعلم أنهم مفارقوه لا محالة؛ فيحق له أن يأسف لذلك. وقوله: إن تريني أدمت بعد بياضٍ ... فحميد من القناة الذبول يقال: أدم الرجل وأدم إذا تغير لونه فاسمر من بعد بياض, ولذلك قالوا: لاحته الشمس أي غيرت لونه. يقول: إن كان لوني تغير؛ فالقناة يحمد سمرتها وذبولها. وقوله: صحبتني على الفلاة فتاة ... عادة اللون عندها التبديل يعني بالفتاة الشمس, وهي قديمة كأنها فتاة لم يغيرها القدم, ويجوز أن يجعلها فتاة؛ لأنها تطلع كل يوم فكأنها شيء محدث. وقوله: عادة اللون عندها التبديل أي تغيره. وقوله: سترتك الحجال عنها ولكن ... بك منها من اللمى تقبيل اللمى: سمرة الشفتين وسوادهما, ومنه قولهم: ظل ألمى وشجرة لمياء إذا كانت ذات ظل, قال حميد بن ثورٍ: [الطويل] إلى شجرٍ ألمى الظلال كأنه ... رواهب أحرمن الشراب عذوب يريد أنك مستورة عن هذه الفتاة, لا تغيرك فكأنها قبلتك فصيرت اللمى في شفتيك.

وقوله: مثلها أنت لوحتني وأسقمـ ... ـت وزادت أبهاكما العطبول لوحتني: أي غيرت لوني كما تغير النار ما لوح عليها, قال الشاعر: [الطويل] رأيتكما يا بني أخي قد سمنتما ... ولا يدرك الأوتار إلا الملوح يقول للمرأة: أنت مثل الشمس لوحتني أي فعلت بي فعلًا يسيرًا وأسقمتني, والسقم أشد من التلويح, وزادت أبهاكما العطبول, أي زدت أنت؛ لأنك أبهى من الشمس, والعطبول الطويلة العنق, ويقال في الجمع: عطابيل وعطابل, قال أبو ذؤيبٍ: [الطويل] رآها الفؤاد فاستضل ضلاله ... نياف من البيض الحسان العطابل نياف أي طويلة. وقوله: نحن أدرى وقد سألنا بنجدٍ ... أقصير طريقنا أم يطول يقول (155/ب) نحن أدرى وقد سألنا عن الطريق لما هو عليه: أطويل هو أم قصير, قد طال علينا لشدة شوقنا إلى من نحن إليه سائرون. وقوله: وكثير من السؤال اشتياق ... وكثير من رده تعليل أي إن الإنسان إذا اشتاق إلى الشيء سأل عنه علم أنه بعيد منه. وكثير من أجابة المسؤول تعليل للسائل ولا حقيقة له؛ لأنه ربما وعده وعدًا لم يصح يريد به التعليل وتفريج الهم. وقوله: لا أقمنا على مكانٍ وإن طا ... ب ولا يمكن المكان الرحيل

لا أقمنا في معنى لم نقم, ومنه قول الشاعر: [الوافر] وأية ليلةٍ لا كنت فيها ... كحادي النجم يحرق ما يلاقي أي لم يكن فيها. ويجوز أن يكون قوله: لا أقمنا على معنى القسم, كأنه قال: والله لا أقمنا, والمكان لا يمكنه أن يرحل معنا, وقد أبان هذا المعنى فيما بعده فقال: كلما رحبت بنا الروض قلنا ... حلب قصدنا وأنت السبيل كأنهم يعتذرون إلى الأماكن والروض إذا رحب بهم؛ لأنه مسرور بنزولهم, وهم لا يقدرون على الإقامة وهو لا يمكنه الرحيل. وقوله: فيك مرعى جيادنا والمطايا ... وإليها وجيفنا والذميل أي إنا لا نقصدك وإنما نستعين بما فيك من المراتع لنصل إلى حيث نريد. والوجيف والذميل ضربان من السير كلاهما سريع. وقوله: الذي زلت عنه شرقًا وغربًا ... ونداه مقابلي ما يزول ومعي أينما سلكت كأني ... كل وجهٍ له بوجهي كفيل يقول: هذا الأمير زلت عنه مسافرًا في المشرق والمغرب ولم يزايلني معروفه ونداه؛ فهو معي أينما سلكت كأن كل وجهٍ له بوجهي كفيل. الهاء في له تحتمل وجهين: أن يعودا إلى الندى وإلى الممدوح. وقوله: كل وجه؛ يريد: كل وجه أتوجه إليه من البلاد كأنه كفيل بوجهي للندى أو للممدوح, ويجوز أن يكون قوله: كل وجهٍ؛ يعني وجوه من يلقاه من الناس. والوجه كلمة عامة يجوز أن يدخل فيها الوجه من الأرض والوجه من وجوه الأنيس. وقوله: فإذا العذل في الندى زار سمعًا ... ففداه العذول والمعذول المعنى: أن هذا الممدوح لا يجسر أحد أن يعذله في نداه لأنه يرهب أن يعاقبه على ذلك. يقول: فإذا العذل زار سمعك في الجود ففداه العذول والمعذول؛ لأن المعذول يجوز أن يقبل

العذل, ولم تزل الشعراء تذكر أن الجواد يعذل على الجود, قال زهير: [الطويل] غدوت عليه غدوة فوجدته ... قعودًا لديه بالصريم عواذله يفدينه طورًا وطورًا يلمنه ... وأعيا فما يدرين أين مخالته جعلهن يفدينه؛ [أي] يتقربن إليه بالتفدية ثم يجئن باللوم في أثر ما قلن. وأبو الطيب أوجب أن العذل في الجود لا يجسر أحد أن يجريه للممدوح. وقوله: وموالٍ تحييهم من يديه ... نعم غيرهم بها مقتول الموالي في هذا البيت في معنى العبيد. يقول: وينعم على العبيد, وغيرهم بتلك النعم مقتول, وقد فسر الشاعر ما النعم فقال: فرس سابق ورمح طويل ... ودلاص زغف وسيف صقيل الفرس اسم يقع على الأنثى والذكر, قال زيد الخيل: [الرمل] يا بني الصيداء ردوا فرسي ... إنما يفعل هذا بالذليل عودوا مهري كما عودته ... دلج الليل وإيطاء القتيل وتقول العرب: خير المال فرس في بطنها فرس تتبعها (156/أ) فرس, والفرس هاهنا الأنثى. والدلاص الدرع يقع على الواحد والجمع, والدلاص البراق وقيل الأملس, قال الراجز: [الرجز] لأصبحن العاصي ابن العاصي سبعين ألفًا عاقدي النواصي مستلئمين حلق الدلاص آساد غيلٍ حين لا مناص والزغف: الواسعة, وقيل: اللينة.

وقوله: كلما صبحت ديار عدو ... قال تلك الغيوث هذي السيول يقول: هذه النعم إذا صبحت ديار العدو قال: تلك الغيوث التي هي نعم على قوم حدثت منها سيول هي نقم على آخرين؛ لأن السيل يغرق. وقوله: دهمته تطاير الزرد المحـ ... ـكم عنه كما يطير النسيل العدو يقع على الواحد والجميع, وقد أوقعه على الواحد في هذا البيت, ودهمته؛ أي جاءته بغتة, وتطاير في معنى تطير؛ كما قالوا: باعد في معنى بعد, وعالى رحله في معنى علاه, قال الشاعر: [الطويل] رأيت غرابًا واقعًا فوق بانةٍ ... ينتف أعلى ريشه ويطايره والنسيل والنسال: ما سقط من ريش الطائرة أو وبر البعير أو نحو ذلك. وقوله: وإذا الحرب أعرضت زعم الهو ... ل لعينيه أنه تهويل الهول كل ما يهول الإنسان. والتهويل يستعملونه في الشيء الذي يعظم وليس هو كذلك؛ وإنما هو على سبيل المكر والخديعة؛ يقال: هول عليه بالسيفس؛ أي أوهمه أنه يريد ضربه به, وليس في نيته أن يفعل. والرواية الصحيحة: أنه تهويل, والهاء راجعة إلى الهول, ومن روى أنها على التأنيث فالهاء راجعة إلى الحرب, والمعنى صحيح. ويقوي التذكير أن زعم للهول؛ فوجب أن يرجع الضمير إليه, ويقوي الرواية الأخرى أن أعرضت للحرب؛ فحسن أن يؤنث الضمير لأنه إلى الحرب يعود. وقوله: وإذا غاب وجهه عن مكانٍ ... فبه من نثاه وجه جميل

النثا: اسم يقع على ما يذكر به الرجل من خير وشر, وهو هاهنا من الخير. والمعنى: أن هذا الممدوح إذا غاب عن مكان فإنه يذكر فيه بذكرٍ حسنٍ فكأنه شاهد. وقوله: كيف لا تأمن العراق ومصر ... وسراياك دونها والخيول السرايا جمع سريةٍ, وأصل ذلك لقومٍ يبعثون ليلًا فيسرون فيه, ثم كثر ذلك حتى قيل للجماعة التي يرسلها الجيش إلى العدو: سرية, وإن كان سيرها بالنهار. وأنث العراق على معنى البلدة والأرض, وهذا البيت يجوز فيه وجهان: التذكير والتأنيث وهو: [البسيط] إن العراق لأهلي لم يكن وطنًا ... والباب دون أبي غسان مسدود وكذلك الشام يجوز فيه التذكير والتأنيث, قال الأعشى: [الخفيف] وصحبنا من آل جفنة أملا ... كًا كرامًا بالشام ذات الرفيف وأنشد الفراء في تذكير الشام: [الطويل] يقولون إن الشام يقتل أهله ... ومن لي إن لم آته بخلود تغرب آبائي فهلا صراهم ... من الموت أن لم يشئموا وجدودي وقوله: لو تحرفت عن طريق الأعادي ... ربط السدر خيلهم والنخيل يقول: لو ملت عن طريق الأعداء لساروا حتى يربطوا خيلهم في السدر والنخيل, وكأنه قلب المعنى فجعل السدر والنخيل يربط خيول الأعداء, كما تقول: سآني أمر كذا أي وقع السوء فيه, فهذا وجه. وفيه معنى آخر وهو أن يكون يصف الممدوح بالسعادة؛ فلو تحرف عن طريق من يعاديه؛ لكان السدر والنخيل يربط خيولهم أن تنفسخ في البلاد, وهذا نحو من قول الآخر: [الرمل] تركوا جارهم يأكله ... ضبع الوادي وترميه الشجر

وقوله: وسوى الروم خلف ظهرك روم ... فعلى أي جانبيك تميل يقول: أعداؤك كثير, وليس الروم أعداءك دون غيرهم فلأيهم تقاتل. وقوله (156/ب): قعد الناس كلهم عن مساعيـ ... ـك وقامت بها القنا والنصول أصل القعود ضد القيام, ثم قيل لكل من تخلف عن أمرٍ: قد قعد عنه. يقول: تخلف كل أحد عن مساعيك؛ فكأنهم قعود عنها؛ فيجوز أن يكون قعودهم باختيارهم, أو أنهم قعدوا لعجزهم عن بلوغ ما أرادوه, وقامت بها القنا والنصول؛ أي التي معك لأنك تعملها في الحرب, وغيرك لإعمالها مطرح. وقوله: ما الذي عنده تدار المنايا ... كالذي عنده تدار الشمول يقول: أنت مشغول بالحرب والملوك شغلهم بالراح. والشمول من صفات الخمر لأنها تشمل برائحتها, وقيل لأنها تعصف بالعقل كعصف الشمال, ويقال: رجل مشمول الخلائق إذا حمد, ويستعمل الشمول في معنى الذم, قال زهير: [الوافر] جرت سنحًا فقلت لها أجيزي ... نوى مشمولة فمتى اللقاء وقوله: نغص البعد عنك قرب العطايا ... مرتعي مخصب وجسمي هزيل يقول: مرتعي مخصب بعطاياك, وقد نغصها علي أني بعيد منك, فجسمي هزيل لذلك. وقوله: إن تبوأت غير دنياي دارًا ... وأتاني نيل فأنت المنيل

تبوأت المنزل إذا نزلت به, والمنزل مباءة, ويقال: بوأ إليه الرمح إذا هيأه للطعنة. وأصل باء أن يكون في معنى رجع. وقيل للمنزل: مباءة؛ لأن الرجل يرجع إليه, قال أبو ذؤيب في صفة النحل: [الطويل] تنمى بها اليعسوب حتى أقرها ... إلى عطنٍ رحب المباءة عاسل وقوله: من عبيدي إن عشت لي ألف كافو ... رٍ ولي من يديك ريف ونيل جمع الثلاثة في هذا البيت: كافورًا والريف والنيل, وزعم أن الممدوح إن عاش له فمن عبيده ألف مثل كافور, وله من نداه ريف ك ريف مصر, ونيل كنيلها الذي يسقي تلك البلاد ويغني عن المطر في مواضع كثيرة. ويقال لكل ما دنا من الأمصار: ريف؛ وكأنه مأخوذ من اللين والسهولة؛ لأن المواضع البعيدة من المياه والمدن تشتد بها المعيشة. وفي بابل نهر يقال له: النيل كأنه مشبه بنيل مصر. وقوله: ما أبالي إذا اتقتك المنايا ... من دهته حبولها والخبول الخبول: جمع خبلٍ وهو يستعمل في أشياء كثيرة, وليس يخرج عن معنى الفساد والنقصان. يقال: بنو فلان يطالبون غيرهم بخبلٍ؛ أي بقطع أيد وأرجلٍ, وقال متمم بن نويرة: [الطويل] وكل فتى في الناس بعد ابن أمه ... كذاهبة إحدى يديه من الخبل وأصل الخبل والخبال من هذا اللفظ, والحبول: جمع حبلٍ وهي الداهية, وبيت كثيرٍ ينشد على وجهين, وهو: [الطويل] فلا تعجلي يا عز أن تتبيني ... بنصحٍ أتى الواشون أم بحبول ويروى بالخاء, والقافية من المتواتر.

ومن التي أولها

ومن التي أولها لا تحسبوا ربعكم ولا طلله ... أول حي فراقكم قتله وزنها من أول المنسرح. يقول: لا تحسبوا ربعكم أول قتيلٍ قتله فراقكم؛ فإنكم قد قتلتم نفوسًا كثيرة وأطلالًا متقدمة؛ أي إنكم إذا سرتم عن الربع فقد خلا منكم وزال جماله وبهجته, فكأنه قد مات أو قتل. وقوله: خلا وفيه أهل وأوحشنا ... وفيه صرم مروح إبله يقول: خلا منكم وفيه أهل سواكم؛ فلا فضيلة له ولا بهجة. وأوحشنا إذ رحلتمت عنه. وفيه صرم؛ أي بيوت من بيوت الأعراب ليست بالكثيرة, وهذا الصرم يروح إبله. وجمع الصرم: أصرام, قال النابغة الذبياني: [البسيط] لا ترجروا مكفهرًا لا كفاء له ... كالليل يخلط أصرامًا بأصرام وقوله: لو سار ذاك الحبيب عن فلكٍ ... ما رضي الشمس برجه بدله يقول: هذا الحبيب لو سار عن فلكٍ لم يرض البرج الذي سار عنه الشمس بدلًا به. والبروج التي في السماء وافقت أسماء البروج التي في (157/أ) أولها الحمل وآخرها الحوت؛ كما وافق اسم الحمل, الذي هو البرج, اسم الحمل الذي هو ولد الضائنة, والأسد من النجوم اسم الأسد الذي يفترس في الأرض. يقول: لو سار هذا الحبيب عن برجٍ من بروج السماء لم يرض برجه بالشمس بدلًا منه؛ لأن الشمس برجها الأسد, وليس ذلك لغيرها من الطالعات. وقوله: أحبه والهى وأدؤره ... وكل حب صبابة ووله

قوله: والهوى يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون معطوفًا على الهاء في أحبه؛ كأنه قال: وأحب الهوى, والآخر أن تكون الواو للقسم؛ كأنه قال: أحبه وحق الهوى, والوجه الأول أشبه. وأدؤره نسق على الهاء في أحبه, وهي جمع دارٍ, وهمزت الواو لأجل الضمة. وكان المازني يختار الهمز, وكان أبو حاتم يختار الواو. وقوله: ينصرها الغيث وهي ظامئة ... إلى سواه وسحبها هطله يقال: نصرها الغيث إذا سقاها, قال الشاعر: [الخفيف] نصر الله أعظما دفنوها ... بسجستان طلحة الطلحات يقول: هذه الدار ينصرها الغيث, وهي ظائمة إلى أهلها الذين رحلوا عنها, والسحب الهطلة ليست ترويها. وقوله: واحربا منك يا جدايتها ... مقيمةً فاعلمي ومرتحله الجداية: ولد الظبية إذا أتت عليه ستة أشهر ونحوها, يقع على الذكر والأنثى, وقال قوم: الجداية من الظباء مثل الجدي من المعز, قال عنترة: [الكامل] وكأنما التفتت بجيد جدايةٍ ... رشأٍ من الغزلان حر أرثم ونصب مقيمةً على الحال.

وقوله: لو خلط المسك والعبير بها ... ولست فيها لخلتها تفله التفلة ضد العطرة. يقول: لو خلط المسك والعبير بمنازلك بعد أن تفارقيها لخلت أنها تفلة لم تقرب من طيبٍ. وقوله: أنا ابن من بعضه يفوق أبا الـ ... ـباحث والنجل بعض من نجله خرج من التشبيب إلى الافتخار, ولم يتصنع لذلك؛ لأن عادته جرت أن يتصنع لخروجه من النسيب إلى سواه. والنجل: الولد, ومن نجله أي ولده. والمعنى: أنا ابن من بعضه يفوق أبا الباحث؛ أي الذي يبحث عن نسبي وأصلي. وبعضي (*) يفوق أباه وأنا بعض أبي. وقوله: وإنما يذكر الجدود لهم ... من نفروه وأنفدوا حيله يقول: أنا افتخر بنفسي؛ وإنما يفتخر بجدودٍ من القوم من ليس له فضيلة في نفسه؛ فهو مفتقر إلى فضيلة آبائه. وأصل المنافرة أن الرجلين كانا يحتكمان إلى من عرف بالرئاسة والصدق؛ فيقولان له: أي نفرينا أفضل؟ فإذا فضل أحدهما على الآخر فالمغلوب منفور, قال الأعشى لما ذكر منافرة عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة إلى هرم بن سنان: [السريع] بان الذي فيه تماريتما ... واعترف المنفور للنافر

وقوله: فخرًا لعضبٍ أروح مشتمله ... وسمهري أروح معتقله صرع في غير أول القصيدة, وذلك كثير في الأشعار القديمة والمحدثة, ونصب فخرًا بإضمار فعلٍ؛ كأنه قال: اذكر فخرًا أو نحو ذلك من الأفعال, ويجوز أن يعني: افخر فخرًا؛ أي إن سيفي إن لم ينطق فأنا أفخر عنه بلساني. ومشتمله أخذه من الشمال؛ لأن السيف يتقلد من ناحيتها. ويقال: اعتقل الرجل الرمح إذا ضمه إليه وربما جعله تحت فخذه, وإنما هو مأخوذ من عقلت الشيء إذا حبسته. وقوله: وليفخر الفخرإذ غدوت له ... مرتديًا خيره ومنتعله يقول: الفخر فوقي وتحتي فكأني مرتديه ومنتعل. وقوله: جوهرة تفرخ الشراف بها ... وغصة لا يسيغها السفله جوهرة بدل من الذي إذا تمت صلته في قوله: أنا الذي بين الإله به الـ ... أقدار [والمرء حيثما جعله] ويجوز أن ترفع جوهرة بإضمار أنا. والجوهرة التي تقع على (157/ب) الدرة والياقوتة, يقول أهل العلم: إنها ليست بعربية؛ فأما اشتقاقها فموجود في العربية؛ لأنها من قولك: جهر الشيء إذا ظهر كأن ضوءها بان للعيون. والجواهر في مذهب المتقدمين هي الأجسام, والمتكلمون يجعلون الجوهر في صناعة الكلام الجزء الذي لا يتجزأ, وربما قالوا: الجوهر ما استبد بصفة التحيز. والسفلة أصلها في أسافل الأشياء؛ يقال: سلفة البعير لما هو أسفل خلقه, ثم شبهوا بذلك سقاط العالم؛ فكثرت هذه الكلمة حتى كسر كثير من الناس السين وسكنوا الفاء؛ كما قالو في كبدٍ: كبد, وفي معدة: معدة. فأما قولهم للواحد: سفلة فهو كلام صحيح؛ لأنه شبه بالشيء المتسافل؛ فجاز أن يقع ذلك على الواحد وعلى الجميع.

وقوله: إن الكذاب الذي أكاد به ... أهون عندي من الذي نقله الكذاب, في الحقيقة, مصدر كاذب يكاذب كذابًا, وأصله أن يقع من اثنين. يقال: كاذب فلان فلانًا إذا تباريا في الكذب, وهذا يصح في بيت أبي الطيب إذا حمل على أن القوم يتبارون في الكذب عليه ليزيد بعضهم على بعضٍ. وقوله: فلا مبالٍ ولا مداجٍ ولا ... فانٍ ولا عاجز ولا تكله فلا مبال؛ أي فلا أنا مبالٍ, ولا مداجٍ وهو من المداجاة؛ أي المساترة والمنافقة, وهو مأخوذ من دجا الليل يدجو, وأصل الدجى إذا أريد به الليل أن يكون من ذوات الواو, فأما بيت الصائد فيقال له: دجية, ويقال للصادة: بنو الدجى, قال الهذلي: [المتقارب] فصادفن إذا عرمضٍ طاميًا ... به ابن الدجى لاصقًا كالطحال وقوله: لا فان؛ أي لست بعالي السن قد أفناني الكبر. ومن روى: ولا وانٍ فهو من ونى في الشيء إذا قصر فيه. والتكلة الذي يتكل على الناس في أموره, وأصل هذه التاء: واو, وهو وكلة فجعلت الواو تاءً, كما قالوا: تخمة وهي من الوخامة. وقوله: وداعٍ سفته فخر لقى ... في الملتقى والعجاج والعجله دارع: رجل عليه درع, والواو تدل على رب, وسفته أي ضربته بالسيف فخر أي سقط, ولقى أي ملقى وجمعه ألقاء. قال الشاعر: [الخفيف] فتأوت له قراضبة من ... كل حي كأنهم ألقاء

وقوله: وسامع رعته بقافيةٍ ... يحار فيها المنقح القوله المنقح الذي يخلص الشيء من غيره. ومن كلام العرب القديم: خير الشعر الحولي المنقح, ويستعمل بالخاء أيضًا, والتنقيخ يعبرون عنه بالتصفية والتنقية, ومن قولهم: ماء نقاخ؛ أي صافٍ, قال الشاعر: [الطويل] فإن شئت حرمت النساء سواكم ... وإن شئت لم أطعم نقاخًا ولا بردًا وقيل: النقاخ: البارد. وقيل: إنه أراد بالبرد النوم. والقولة: الذي يكثر القول. وقوله: مستحييًا من أبي العشائر أن ... أسحب في غير أرضه حلله يقال: استحييت بياءين واستحيت بياء واحدة, وقد مر تفسير ذلك في حرف الراء. وقوله: أسحبها عنده لدى ملكٍ ... ثيابه من جليسه وجله الحلة لا تكون إلا من ثوبين, وقيل لأعرابي: تمن, فقال: خضله ونعلين وحله؛ يعني بالخضلة: المرأة, وقيل: الخضلة: النعمة, وأنشدوا: [الطويل] إذا قلت إن اليوم يوم خضلةٍ ... ولا شرز لاقيت الأمور البجاريا الشرز: الشر, والبجاري: الدواهي. وادعى أن ثياب هذا الممدوح وجلة من جليسه؛ لأنها تخاف أن يخلعها عليه؛ فينتقص بذلك شرفها؛ لأنها إذا كانت على الممدوح فهي أشرف منها إذا كانت على غيره. وقوله: وبيض غلمانه كنائله ... أول محمولٍ سيبه الحمله يقول: بيض غلمان هذا الرجل كنائله؛ لأنه يهبهم فيحملون المال وغيره إلى الجليس, والحملة: جمع حامل, وهم الغلمان الذين يحملون المواهب.

وقوله: ما لي لا أمدح الحسين ولا ... أبذل مثل الود الذي بذله (*) (158/أ) في هذا البيت جزء إذا تم ثقل في الذوق, وإنما يزاد فيه حرف ساكن, وكونه فيه هو الأصل عند الخليل, وكان سعيد بن مسعدة يذهب إلى أن الأصل سقوطه, وهو واقع موقع الدال الأولى من الود, ولو خففت الدال لزال ما ثقل في الطبع. وقوله: أأخفت العين عنده خبرًا ... أم بلغ الكيذبان ما أمله هذا الاستفهام هو الذي يقلب الكلام حتى يجعله كالنفي؛ فكأن الشاعر قال: مالي لا أمدح الحسين ولم تخف العين عنده خبرًا, ولم يبلغ الكيذبان ما أمله لديه؛ أي إني إذا نظرت إلى الممدوح علمت أنه راضٍ عني؛ فتبينت عيني ما هو عليه. ويجوز أن تكون العين عين الممدح, وكلا المعنيين قد جاء في الشعر, قال الشاعر: [الطويل] تبين لي عيناك ما القلب كاتم ... ولاجن بالبغضاء والنظر الشزر وقال آخر: [البسيط] العين تعرف في عيني محدثها ... من كان من حزبها أو من أعاديها والكيذبان في معنى الكذاب؛ يقال بفتح الدال وضمها. وقوله: أم ليس ضراب كل جمجمةٍ ... منخوةٍ ساعة الوغى زعله الاستفهام في هذا البيت يؤدي إلى غير النفي, مثل الاستفهام الذي تقدم؛ كأنه قال: ولم يبلغ الكيذبان ما أمله, وهذا الممدوح ضراب كل جمجمة منخوةٍ؛ أي ذات نخوة وهي الكبر. والزعلة المفرطة في النشاط.

وقوله: وراكب الهول ما يفتره ... لو كان للهول محزم هزله جعل الممدوح يركب الهول, وركوبه إياه هو إقدامه عليه, ولو كان للهول محزم كمحزم الفرس لهزله هذا الراكب. وقوله: وفارس الأحمر المكلل في ... طيئٍ المشرع القنا قبله يعني بالأحمر المكلل: فرس الممدوح, والمكلل الذي عليه إكليل, والمشرع نعت للمكلل, والقنا في موضع خفضٍ بإضافة المشرع إليه, ويجوز أن تجعل القنا في موضع رفعٍ, كما تقول: مررت بالرجل المكرم الأب, كما تقول: مررت بالرجل الحسن الوجه, ويجوز أن يكون الأب في موضع رفعٍ, ويكون التقدير على مذهب البصريين إضمار منه, وعلى مذهب الكوفيين: المكرم أبوه, وإنما تحسن منه هاهنا إذا حملت على المعنى, فكأنه الأب القريب منه. ونصب الأب يجوز على التشبيه بالمفعول به؛ لأنه معرفة لا يجوز حمله على التمييز؛ وإنما جاز أن يكون المشرع نعتًا للمشرع المكلل لرجوع الهاء إليه. وقوله: لما رأت وجهه خيولهم ... أقسم بالله لا رأت كفله هذا المعنى يتردد في الشعر القديم؛ وإنما يريد القائل أن الفارس لا ينهزم فيولي ظهره العدو. وقد عبر الشاعر عنه في هذا البيت بعبارة مستحسنة مأخوذة من قول كعب بن زهير: [البسيط] لا يقع الطعن إلا في نحورهم ... ومالهم عن حياض الموت تهليل ومن قول القطامي: [البسيط] ليست تجرح فرارًا ظهورهم ... وبالنحور كلوم ذات أبلاد وطيئ يزعم أصحاب النسب أنه سمي بذلك لأنه أول من طوى المناهل, وهذه العبارة

تحتمل وجهين: أحدهما: أن تكون المناهل مرادًا بها الآبار؛ أي هو أول من طوى الآبار بالحجارة. وقد زعم بعض الرواة أن هذا البيت من شعر طيئ واسمه جلهمة, والبيت: [الوافر] فإن الماء ماء أبي وجدي ... وبئري ذو حفرت وذو طويب وقد ذكر هذا البيت حبيب بن أوس في اختياراته ونسبه إلى رجل يقال له: سنا. والآخر: أن تكون المناهل الموارد التي ينهل فيها أي يشرب, ويكون معنى طواها: أي جاوز بعضها إلى بعض كما يقال: طوى فلان البلاد إذا سار مرحلتين أو ثلاثًا ولمينزل. ويفسد هذا القول أن: طويت لا همز فيه وطيئ مهمو. ولقائل أن يقول: لما اجتمعت ثلاث ياءاتٍ في أصل الكلمة همزت إحداهن وهي الآخرة. ويروى عن الخليل أنه قال: طيئ من (158/ب) قولهم: طاء في الأرض إذا ذهب فيها على وزن جاء, فإن صح هذا القول فقد وضح أن اشتقاق طيئ من فعل مهموز. وقوله: فأكبروا فعله وأصغره ... أكبر من فعله الذي فعله أصغره: فعل ماض, والهاء فيه راجعة إلى الفعل الذي فعله الممدوح, والنصف الأول يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون في أصغر ضمير عائد إلى الممدوح؛ فيكون الكلام قد تم, ويكون أكبر خبر مبتدأٍ مقدمٍ؛ كأنه قال لما تم الكلام في النصف الأول: الذي فعله أكبر من فعله. والوجه الآخر: أن يكون أكبر فاعلًا, وتقديره: احتقر الفعل رجل أكبر من فعله, ويكون قوله: الذي نعتًا لفعله.

وقوله: القاتل الاصل الكميل فلا ... بعض جميلٍ عن بعضه شغله القاتل: أي يقتل أعداءه, والواصل: الذي يصل عفاته وسائله وأقربيه, والكميل في معنى الكامل, وينشد للعباس بن مرداس: [المتقارب] على أنني بعد ما قد مضى ... ثلاثون للهجر حولًا كميلا يذكرنيك حنين العجول ... وصوت الحمامة تدعو هديلا العجول: الناقة التي قد فقدت ولدها بمتٍ أو ذبحٍ. وقوله: فواهب والرماح تشجره ... وطاعن والهبات متصله فواهب على تقدير قوله: فهو واهب, والرماح تشجره أي تطعنه, وإنما يريد أصحاب الرماح؛ يقال: شجره الرجل بالرمح, ثم جعلوا الرمح شاجرًا على المجاز أي يشجر به, كما قيل: ليل نائم أي ينام فيه. وطاعن مؤد معنى: وهو طاعن, والمراد أنه لا تشغله الحرب عن الجود, ولا تشغله الهبات عن القتال. وقوله: فكلما آمن البلاد سرى ... وكلما خيف منزل نزله يقول: هذا الممدوح إذا آمن البلاد لم يمنعه ذلك من سرى الليل طلب المكارم, وغيره إذا آمن بلده أقام. والنصف الأول ضد النصف الثاني, والمعنيان صحيحان؛ لأنه جعل الممدوح إذا آمن البلاد فهو غير تاركٍ للسرى, وزعم أنه كلما خيف منزل نزل فيه. وقوله: وكلما جاهر العدو ضحى ... أمكن حتى كأنه ختله

وصفه بأنه لا يغتر العدو كما قال الحارث بن حلزة: [الخفيف] لم يغروكم غرورًا ولكن ... يرفع الآل جمعهم والضحاء وصفه بالبأس وحسن الظفر, وأنه إذا جاهر عدوه أمكنه العدو من نفسه حتى كأنه خلته, وليس ثم ختل, وهذا ضد قولهم في المثل: الحرب خدعة. وقوله: يحتقر البيض واللدان إذا ... سن عليه الدلاص أو نثله ذكر الدلاص هاهنا, وربما ذكرت الدرع, قال الراجز: [الرجز] كأنه في الدرع ذي التغصن وإذا كان المؤنث ليس حقيقي التأنيث اجترأت العرب على تذكيره. والتأنيث الحقيقي هو الذي يكون معه الولاد والنص, والتأنيث الذي لا حقيقة له كتأنيث الأرض والسماء والنار. ويقال: نثل عليه درعه إذا لبسها, وقيل: إن النثلة والنثرة هي الدرع القصيرة. وقوله: قد هذبت فهمه الفقاهة لي ... وهذبت شعري الفصاحة له الفقاهة: مصدر الفقيه وهو العالم بالشيء الحاذق به, ويروى عن العرب أنهم يقولون: فحل فقيه؛ أي حاذق بالضراب. وقوله: فصرت كالسيف حامدًا يده ... ما يحمد السيف كل من حمله المعنى: أن يد الممدوح يد شجاعٍ, وأنا سيف ماضٍ, فهي تحمدني وأنا أحمدها. واستعار الحمد للسيف الذي يضرب به وإنما يعني شعره. والقافية من المتراكب.

ومن بيتين أولهما قوله

ومن بيتين أولهما قوله: يا أكرم الناس في الفعال ... وأفصح الناس في المقال إن قلت في ذا البخور سوقًا ... فهكذا قلت في النوال وزنهما من البسيط السادس. وقوله: البخور (159/أ) بفتح الباء من قولهم: بخر العود وغيره في النار؛ إذا فاحت رائحته وطلع له دخان. والقافية من المتواتر. ومن التي أولها لك يا منازل في الفؤاد منازل ... أقفرت أنت وهن منك أواهل وزنها من أول الكامل. قوله: يعلمن ذاك وما علمت وإنما ... أولاكما ببكى عليه العاقل يعلمن ذاك؛ أي منازلك التي في الفؤاد يعلمن بحالك وحالهن؛ فهن أواهل بذكرك وأنت مقفرة من ذكر أهلك, ولست تذكرين منازلك التي في الفؤاد. وأولاكما بأن يبكى عليه العاقل؛ يعني المنازل التي في الفؤاد. وقوله: تخلو الديار من الظباء وعنده ... من كل تابعةٍ خيال خاذل الهاء في قوله: عنده عائدة على الذي, والذي وصلته مراد بها الشاعر. يقول: تخلو الديار من الظباء وعندي من كل ظبيةٍ, تابعةٍ من ظعن, خيال خاذل من قولهم: ظبية خاذلة إذا تخلفت عن صواحبها لأجل ولدٍ معها. وقوله: اللاء أفتكها الجبان بمهجتي ... وأحبها قربًا إلي الباخل

يقال: اللاء واللائي بإثبات الياء وحذفها, ويقال للرجال: اللاؤون, وأنشد الفراء: [الوافر] هم اللاؤون فكوا الغل عني ... بمرو الشاهجان وهم جناحي وقوله: اللاء يجوز أن يكون نعتًا للظباء, ولا يمتنع أن يكون محمولًا على قوله: من كل تابعةٍ؛ لأن كل قد دلت على معنى الجمع, فإذا حمله على الظباء فاللاء في موضع خفضٍ لأنه نعت, وإذا حمله على كل تابعةٍ؛ فهو بدل معرفةٍ من نكرةٍ. وقوله: أفتكها الجبان بمهجتي؛ أي أفتكها بمهجتي الجبان. يعني أنه مغرم بامرأة وليس للنساء شجاعة الرجال. ولو أمكنه أن يقدم الباء في بمهجتي على الجبان لكان ذلك أوجه؛ ولكنه لم يستقم له الوزن, وأفعل إذا كان للتضعيف لم يعمل. والباء متصلة بأفتك اتصالًا بينًا, وكذلك إذا قلت: مررت بالذين أحبهم فلان إلي؛ فالوجه تقديم إلي على فلان لئلا يفصل بينه وبين أحب. وقوله: الراميات لنا وهن نوافر ... والخاتلات لنا وهن غوافل من عادة الرامي أن يرمي وهو مقابل للمرمي, وهؤلاء النوافر إذا نظرنا إليهن في حال النفار فهن كالرماة الذين يقصدوننا بالرمي وهن مع ذلك نوافر. ووصفهن بالختل وهن غوافل؛ وإنما يعني أنهن يكن سبب الختل ولا ذنب لهن في ذلك؛ وإنما الذنب للمختول الذي جاءه الختل من قبل نفسه. وقوله: كافأتنا عن شبههن من المها ... فلهن في غير التراب حبائل كافأننا: فاعللنا من الكفء وهو من قولهم: فلان كفؤ لفلان وكفيء له, قال الشاعر: [الطويل] أما كان عباد كفيئًا لدارمٍ؟ ... بلا ولأبياتٍ بها الحجرات يقول: هؤلاء النساء المشبهات بالظباء كافأننا عن شبههن من بقر الوحش؛ لأن الصادة منا يقتنصوهن؛ فقد كافأننا عنهن؛ إلا أنهن لا ينصبن الحبائل للصيد كما يفعل القناص من بني آدم.

وقوله: من طاعني ثغر الرجال جآذر ... ومن الرماح دمالج وخلاخل الثغر جمع ثغرة النحر, وهي الهزمة التي فيه. يقول: من طاعني فيجيء بجمع طاعنٍ على قول من قال: طاعنون وطاعنين؛ لأنه جعل الجآذر من الطاعنين, وهو يريد مؤنثاتٍ؛ فغلب المذكر على المؤنث, وما يعقل على ما لا يعقل. ثم قال: ومن الرماح دمالج وخلاخل؛ أي هن يطعننا بحليهن كما تطعن الفوارس برماحها. وقوله: ولذا اسم أغطية العيون جفونها ... من أنها عمل السيوف عوامل (159/ب) قوله: ولذا يشير به؛ أي لذا الشأن ولذا الأمر سميت أغطية العيون جفونًا, لأنها تعمل عمل السيوف؛ وإنما قيل لغمد السيف: جفن من قولهم: جفن نفسه عن كذا إذا منعها منه, قال الراجز: [الرجز] جمع مال الله فينا وجفن ... نفسًا عن الدنيا وللدين فطن وإنما قيل: جفنة الطعام لأنها تجمعه, قال الشاعر: [الطويل] نجا سالم والنفس منه بشدقه ... ولم ينج إلا جفن سيفٍ ومئزراً وقال الفرزدق: [الطويل] وغمد سلاحٍ قد رزئت فلم أبل ... لذاك ولم أبعث عليه البواكيا وفي جفنه من دارمٍ ذو حفيظةٍ ... لو ان المنايا أنسأته لياليا وكانت امرأة له ماتت وهي حامل.

وقوله: كم وقفةٍ سجرتك شوقًا بعدما ... غري الرقيب بنا ولج العاذل سجرتك: أي ملأتك من قولهم: بحر مسجور, وذهب إلى حرارة الشوق تشبيهًا بسجار التنور. وقوله: دون التعانق ناحلين كشكلتي ... نصب أدقهما وضم الشاكل نصب ناحلين على الحال من النون والألف في قوله: بنا؛ لأنه يعني نفسه والتي ذكرها في النسيب. والشكلة الواقعة في الإعراب هي من: شكلت الدابة بالشكال لأنه يضبط الدابة, وكذلك الشكلة تضبط الحرف وتبين حاله. وضم هاهنا لا يريد به الضم الذي هو شكل؛ وإنما أراد ضم شكلة النصب إلى مثلها. يريد أنه والمذكورة قد دنا أحدهما من الآخر؛ إلا أنهما دون التعانق لم يصلا إليه. وقوله: جمح الزمان فما لذيذ خالص ... مما يشوب ولا سرور كامل جمح الفرس إذا غلب فارسه على رأسه, وفي الكتاب العزيز: {وهم يجمحون} , فسروه: يسرعون, وهو راجع إلى المعنى الأول, فكأن الجماح إسراع في عصيانٍ لما يريده الراكب أو غيره. وقوله: حتى أبو الفضل بن عبد الله رؤ ... يته المنى وهي المقام الهائل كان بعض أهل العلم يجعل تمام نصف البيت الأول قبل أن تتم الكلمة كالعيب في المنظوم, وإنما يقل ذلك في الأوزان الطوال؛ فأما في الأوزان الخفيفة فهو كثير كقول الأعشى: [الخفيف] حل أهلي ما بين درنا فبادو ... لى وحلت علويةً بالسخال

وكقوله: [الخفيف] إن يعاقب يكن غرامًا وإن يعـ ... ـط جزيلًا فإنه لا يبالي وقد تقدم ذكر هذا في أول الكتاب. والمعنى: أن الزمان جمح فما تخلص اللذة من أذى يشوبها به الدهر, ولا يكمل للإنسان سرور. وزعم أن ذلك في كل الأشياء حتى أبو الفضل, وهو الممدوح, رؤيته أماني الناس, وإذا وصلوا إليها نغصتها عليهم الهيبة, وما يشاهدون من هول المنظر. وقوله: ممطورة طرقي إليها دونها ... من جوده في كل فج وابل الهاء في إليها راجعة إلى رؤيته, وكذلك الهاء في قوله: دونها, والفج: الطريق الواسع. وقوله: ولديه ملعقيان والأدب المفا ... د وملحياة وملممات مناهل ما علمت بيتًا حذفت منه نون مع لام المعرفة ثلاث مرات إلا في هذا البيت. والعقيان: الذهب الخاص, ويقال: هو الذهب الذي يخرج من المعدن, قال الشاعر: [الرمل] كل قومٍ خلقوا من آنكٍ ... وبنو العباس عقيان الذهب وقوله: لو لم يهب لجب الوفود حواله ... لسرى إليه قطا الفلاة الناهل يقال: هم حوله وحوليه وحواليه, وهم أحواله, ونصب ذلك كله على الظرف, والعامل فيه فعل مضمر كأنه قال: حضروا حواله أو نحو ذلك, والعرب تنشد رجزًا تنسبه إلى الضب, وقد أنشده سيبويه في كتابه وهو: [الرجز]

أهدموا دارك لا أبا لكا وزعموا أنك لا أخا لكا وأنا أمشي الدألى حوالكا الدألى: مشي سريع, وقال كعب بن زهير في تثنية حوالٍ: [البسيط] يسعى الوشاة حواليها وقيلهم ... إنك يا بن أبي سلمى لمقتول وقال امرؤ القيس في جمع حول: [الطويل] فقالت سباك الله إنك فاضحي ... ألست ترى السمار والناس أحوالي وقال النابغة: [الكامل] حولي بنو دودان لا يعصونني ... وبنو بغيضٍ كلهم أنصاري وليس في الظروف الجارية مجرى حول مثل: أمام وفوق وتحت ما جاء مثنى ومجموعًا في الشعر الفصيح إلا حولك وحوال. ويعني بلجب الوفود ارتفاع أصواتهم واختلاطها؛ يقول: لو لم يفزع القطا الناهل؛ أي العطشان؛ لجب الوفود فيذعره لسرى إلى جود الممدوح لكي يرده. وقوله: (160/أ) يدري بما بك قبل تظهره له ... من ذهنه ويجيب قبل تسائل حذف أن في قوله: قبل تظهره وقبل تسائل, وحذفها رديء, وهو في الشعر جائز. وقوله: وتراه معترضًا لها وموليًا ... أحداقنا وتحار حين يقابل

معنى البيت أن الممدوح إذا اعترض لعيوننا أو كان موليًا عنها رأته, فإذا قابلها مواجهةً حارت من نوره فلم تره. وقوله: كلماته قضب وهن فواصل ... كل الضرائب تحتهن مفاصل فواصل أي يفصلن الضريبة, وهن في معنى فواصل؛ أي قواطع, والمفاصل جمع مفصلٍ, وكل موصل عظمين في بدن الإنسان فهو مفصل, فأما المفاصل في قول الهذلي: [الطويل] وإن حديثًا منك لو تعلمينه ... جنى النحل في ألبان عوذٍ مطافل مطافيل أبكارٍ حديثٍ نتاجها ... تشاب بماءٍ مثل ماء المفاصل فالمفاصل هاهنا: مواضع تفصل بين الصخور, فيكون فيها ماء بارد. وإذا صادف السيف مفصلًا كان أمضى منه إذا لم يصادفه؛ فإذا أصاب المفصل قيل: طبق, وإذا أصاب العظم قيل: صمم. وقوله: هزمت مكارمه المكارم كلها ... حتى كأن المكرمات قبائل وقتلن دفرًا والدهيم فما ترى ... أم الدهيم وأم دفرٍ هابل يقول: مكارم الممدوح هزمت مكارم الناس؛ فكأنها قبيلة غلبت القبائل. وقتلن دفرًا؛ يعني: قتلن دفرًا الذي تكنى به الدنيا؛ فيقال لها: أم دفرٍ, وهو يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون من الدفر الذي هو كراهة الرائحة. والآخر: أن يكون من الدفر الذي هو دفع؛ يقال: دفرت الرجل إذا دفعته, أي هي تدفع الناس فتخرجهم منها. والدهيم من أسماء الداهية, ويقال: إن أصل ذلك من أن ناقةً كانت تسمى الدهيم, وهي ناقة عمرو بن الزبان, وكان له بنون جماعةً فقتلوا وحملت رؤوسهم على الدهيم, وخليت الناقة فذهبت إلى البيت الذي كانت قد اعتادت الرواح إليه, وعمرو بن الزبان

جالس فيه, فرأت الناقة أمه له, وجست الرؤوس من ظاهرٍ وهي لا تعلم ما هي, فقالت: لقد جنى بنوك الليلة بيض نعام, فضربت العرب بها المثل في النكد والشؤم؛ فقالوا: صبحتهم الدهيم وصبحهم حمل الدهيم قال الكميت: [الطويل] أهمدان مهلًا لا يصبح بيوتكم ... بأفعالكم حمل الدهيم وما تزبي تزبي: أي تحمل؛ يقال: زباه إذا حمله. وكان أبو الفتح بن جني, رحمه الله, يذهب إلى أن نصف البيت الأول يتم فيه الكلام, ويجعل قوله: أم الدهيم ابتداءً, ويجعل هابلًا خبرًا لأم دفر أو لأم الدهيم؛ فكأنه قال: أم الدهيم هابل وأم دفرٍ كذلك, فاكتفي بأحد الخبرين. وأوجه من هذا, والله أعلم, أن يكون النصف الآخر متعلقًا بالنصف الأول, وترفع أم الدهيم لأنها اسم ما لم يسم فاعله, وتكون الواو في قوله: وأم دفرٍ عاطفةً جملةً على جملةٍ, وأم دفرٍ مرفوعة بالابتداء. وهابل أي ثاكل, ومعروف في كلام العرب أنهم يسمون الداهية: الدهيم مرةً وأم الدهيم أخرى. وقوله: علامة العلماء واللج الذي ... لا ينتهي ولكل لج ساحل يقال: رجل علامة ونسابة أدخلوا الهاء للمبالغة, وليس قولهم العلامة كقولهم: شفرة هذامة؛ لأن الشفرة مونثة, قال الراجز: [الرجز] ويل لأحمال بني نعامه ... منك ومن شفرتك الهذامه أي القاطعة. إذا ابتركت وحفرت قامه ... ثمطرحت الفرث والعظامه

أدخل الهاء في العظام كما قالوا: بكارة في جمع بكرٍ. يقول الشاعر: علامة العلماء أي هو أعلمهم, وكأنه في الجود لج, واللج معظم الماء, ولا ساحل لهذا اللج؛ أي ليس له منتهى, ولكل لج ساحل ينتهي إليه. وقوله: لو طاب مولد كل حي مثله ... ولد النساء وما لهن قوابل نصب مثله على تقدير قوله: لو طاب مولد كل حي مثل طيب مولد هذا الرجل؛ لولد النساء ولا قوابل لهن, لأن أمرهن كان يتيسر. وهذا الكلام يؤدي إلى أن الممدوح ادعى له الشاعر أنه لما ولد لم يحتج إلى قابلةٍ, وهي التي تقبل المرأة عند الولادة أي تكون قدامها, قال الشاعر وهو حاتم الطائي: [الطويل] هلموا إلى العزى فإن كنت ربكم ... أنبتم وإلا لم يقل فيك قائل وإن كانت الأخرى فبوؤوا بصرخةٍ ... كصرخة حبلى أسلمتها القوابل وقوله: (160/ب): أو بان بالكرم الجنين بيانه ... لدرت به ذكر أم انثى الحامل الجنين هاهنا الذي في بطن أمه, وهو فعيل بمعنى مفعولٍ؛ لأنه من جننت الشيء إذا سترته, فأما قول عمرو بن كلثوم: [الوافر] ولا شمطاء لم يترك شقاها ... لها من تسعةٍ إلا جنينا فالجنين يحتمل أن يكون الدفين والذي في بطن أمه. وقوله: ذكر: أراد همزة الاستفهام

فحذفها للضرورة؛ كأنه قال: أذكر أم أنثى. وألقى حركة أنثى على ميم أم فحذف همزة الاستفهام ضرورةً وهمزة أنثى؛ لأنه نقل حركتها إلى ميم وليس ذلك بضرورةٍ؛ لأن بعض القراء قد استعمل ذلك في الكتاب العزيز استعمالًا كثر؛ إلا أن ترك النقل أكثر في الشعر. وقوله: ليزد بنو الحسن الشراف تواضعًا ... هيهات تكتم في الظلام مشاعل كان لهذا الممدوح, فيما قيل, نسب في ولد الحسن بن علي عليهما السلام, فقال الشاعر: ليزد بنو الحسن الشراف تواضعًا؛ يأمرهم بالزيادة في التواضع؛ لأنهم كلما زادوا فيه ظهر شرفهم؛ فهم يتواضعون لإخفاء نسبهم وهو لاينكتم, كما أن المشاعل لا تنكتم في الظلام. وحذف أن في قوله: تكتم, ولو أن الكلام غير منظومٍ لكان الوجه أن يقول: هيهات أن تكتم. وقوله: ستروا الندى ستر الغراب سفاده ... فبدا وهل يخفى الرباب الهاطل فتح السين في «سترٍ» الوجه, لأنه المصدر وهو أولى بالعمل فيما بعده, وإن كسرت السين لم يكن إلى النصب سبيل إلا بإضمار فعلٍ يدل عليه لفظ الستر. وفتح السين أيسر وأسهل. ويقال: إن الغراب يكتم سفاده. وحدث رجل يوثق به في مثل هذا الحديث, أنه رآه يسفد, وأن الأنثى تنفرش له على ظهرها, ولا يسفد كما تسفد الطير. وقوله: جفخت وهم لا يجفخون بها بهم ... شيم على الحسب الأغر دلائل جخفت: أي تكبرت وفخرت, وفي الكلام تقديم وتأخير؛ كأنه قال: جفخت بهم شيم وهم لا يجفخون بها. وذكر الصاحب ابن عبادٍ هذه الكلمة في الرسالة التي عاب فيها أبا الطيب, وإنما أنكر لفظ الكلمة. وقوله: يا افخر فإن الناس فيك ثلاثة ... مستعظم أو حاسد أو جاهل يا افخر أراد: يا ممدوح افخر, والعرب تحذف المنادى بعد يا كثيرًا, قال العجاج: [الرجز]

يا دار سلمى يا اسلمي ثم اسلمي ... بسمسمٍ وعن يمين سمسم والنحويون ينشدون هذا البيت: [البسيط] يا لعنة الله والأقوام كلهم ... والطيبين على سمعان من جار أراد: يا قوم لعنة الله. وقوله: أثني عليك ولو تشاء لقلت لي ... قصرت فالإمساك عني نائل بالغ أبو الطيب في هذه القصيدة وأكثر من تفضيل الممدوح, ولو أن الموصوف قال لأبي الطيب: قصرت لكان مبطلًا لا محالة. وادعى الشاعر أن إمساك الممدوح عن قوله: قصرت نائل على سبيل المبالغة. وقوله: ما نال أهل الجاهلية كلهم ... شعري ولا سمعت بسحري بابل ذكر أن الجاهلية لم ينالوا مثل شعره, وادعى السحر وأن بابل لم تسمع بمثل سحره. ولما ذكر هاروت وماروت في الكتاب العزيز وذكرت معهما بابل, صارت يضرب بها المثل في السحر. وليس لبابل اشتقاق في العربية لأنها من البيل وهو مهمل. وأصحاب الكتب القديمة كاليهود ومن ابتعهم يذكرون أن قومًا اجتمعوا البناء صرحٍ يبلغون به إلى السماء؛ فأصبحوا وقد تبلبلت ألسنتهم؛ أي افترقت, وكانوا قبل ذلك

يتكلمون بلسانٍ واحد, وأن سبب اختلاف الأسن هو هذا الحديث. والمعقول يشهد بأنه كذب, وبابل ليس من لفظه البلبلة فيشتق منه. وقوله: من لي بفهم أهيل عصرٍ يدعي ... أن يحسب الهندي فيهم باقل تردد في شعر أبي الطيب لفظ التصغير, ولم يكثر ذلك في شعر غيره مثل كثرته في ديوانه. وحديث باقل مشهور ويجب أن يذكر هاهنا. ويقال: إنه اشترى ظبيًا فقيل له: بكم اشتريته, وكان حاملًا للظبي, فبسط يديه للسائل وأخرج لسانه؛ أراد أن يعلمه أنه اشتراه بعشرة دراهم بعدد أنامله وبدرهمٍ دل عليه بإخراج لسانه, وكان يغنيه عن ذلك أن يقول: بأحد عشر درهمًا. وزعموا أن الظبي انفلت منه. وقد عاب بعض الناس أبا الطيب لما جعل باقلًا ينسب إلى حساب الهند؛ لأنه لا يوصف بذلك؛ وإنما يوصف بالعي, وقد ذكرت ذلك الشعراء. وكان حميد الأرقط الراجز معروفًا بهجاء الأضياف, رويت له هذه الأبيات في صفة ضيفٍ: [الطويل] أتى يخبط الأطناب والليل دامس ... يسائل عن غير الذي هو آمل فقلت لها قومي إليه فيسري ... طعامًا فإن الضيف لا بد نازل يقول وقد ألقى المراسي للقرى ... أبن لي ما الحجاج بالناس فاعل فقلت لعمري ما لهذا طرقتني ... فكل ودع الحجاج ما أنت آكل أتانا وما داناه سحبان وائلٍ ... بيانًا وعلمًا بالذي هو قائل فما زال عنه اللقم حتى كأنه ... من العي لما أن تكلم باقل

ومن التي أولها

(161/أ) وقوله: الطيب أنت إذا أصابك طيبه ... والماء أنت إذا اغتسلت الغاسل الطيب مبتدأ, وأنت مبتدأ ثانٍ, وطيبه خبر أنت, والتقدير: الطيب أنت طيبه إذا أصابك, والماء معطوف على الطيب, وأنت مبتدأ والغاسل خبر أنت, وهو على تقدير الهاء كأنه قال: والماء أنت الغاسله إذا اغتسلت. والقافية من المتدارك. ومن التي أولها أبعد نأي المليحة البخل ... في البعد ما لا تكلف الإبل وزنها من أول المنسرح. يقول: أبعد نأي المليحة بخلها؛ لأنها إذا بخلت وهي الدانية فكأنها بعيدة الدار, وقد بين ذلك بقوله: في البعد ما لا تكلف الإبل؛ أي إن البعد قد يكون بالهجر كما يكون بالفراق. وقوله: كأنما قدها إذا انفتلت ... سكران من خمر طرفها ثمل يجذبها تحت خصرها عجز ... كأنه من فراقها وجل يقول: ردفها ثقيل فإذا انفتلت اضطرب قدها فكأنه سكران من خمر طرفها, وقد بان الغرض في البيت الثاني لأنه قال: يجذبها عجز, ووصفه بالاضطراب؛ لأن خصرها يضعف عن حمله؛ فكأنه وجل من فراقها فهو يرعد لشدة الوجل. وقوله: بصارمي مرتدٍ بمخبرتي ... مجتزيء بالظلام مشتمل السيف عند العرب رداء وقد مر. قال الشاعر: [المتقارب] وداهيةٍ جرها جارم ... جعلت رداءك فيها خمارا

أي ضربت به وجه قرنك فجعلته كالخمار له. ويقال: فلان جيد المخبرة إذا كان خبيرًا بالشيء. والاشتمال في هذا البيت هو من شمله الشيء إذا عمه. فأما الشملة فكساء صغير لا يعم الجسد والجمع شمال, قال الراعي النميري: [الوافر] من يك شاتيًا ويكن أخاه ... أبو الضحاك يتسج الشمالا وقوله: في سعة الخافقين مضطرب ... وفي بلادٍ من أختها بدل الخافقان جانبا الهواء سميا بذلك لأن الريح تخفق فيهما؛ فكل واحد منهما مخفوق فيه, وهو مثل قولهم: ليل نائم؛ أي ينام فيه. وإذا أظهرت النون في قوله: من أختها تبينت الغريزة شيئًا في وزن البيت؛ وهو ساكن في موضع نون من, وثبات هذا الساكن هو الأصل عند الخليل, وعند سعيد بن مسعدة أن سقوطه أصل وأن ثباته فرع. وإذا ألقيت حركة الهمزة على النون ذهب ما في البيت مما ينكره الطبع, وكانت النون كأنها ساقطة؛ لأنك لو قلت: م أختها بدل؛ فحذفت النون لاستقام الوزن. ونقل حركة الهمزة إلى ما قبلها لغة فصيحة حجازية, وقد رواها روش عن نافعٍ في مواضع كثيرة من الكتاب العزيز. وقوله: وفي اعتماد الأمير بدر بن عما ... رٍ عن الشغل بالورى شغل في هذا البيت حرف ساكن يذهب الخليل إلى أن ثباته هو الأصل, ويزعم سعيد بن مسعدة أن أصله السقوط, وهو الباء من ابن؛ فإذا حذفت كان حذفها أقوم لوزن البيت في

الغريزة, ومثل هذا من شعر العرب قوله: وفتيةٍ كالنجوم نادمتهم ... ما فيهم عاجز ولا وكل وقولهك أصبح مالًا كماله لذوي الـ ... حاجة لا يبتدي ولا يسل خفف همزة يبتدي, وتخفيفها ضرورة عند قوم, وترك الهمز في مثل هذا الموضع عند آخرين قياس مطر. والمعنى: أن هذا الرجل أصبح مالًا للعفاة كما أن ماله لهم, فهم يأخذون ماله متى أرادوه لا يسألونه فيه ولا هو يبتدئهم بالعطاء؛ لأن أمره إليهم, وإذا عرضت لهم حاجة نهض فيها؛ فكأنه مال لهم يصرفونه على ما يريدون. وقوله: تعرف في عينه حقائقه ... كأنه بالذكاء مكتحل يقول: هذا الممدوح إذا نظر الإنسان إلى عينه عرف حقائق أمره؛ فكأن الناظر إليه يستفيد الذكاء من عينه فيعرف خفيات أموره. وقوله: أشفق عند اتقاد فكرته ... عليه منها أخاف يشتعل قد تكرر في شعر أبي الطيب مواضع تحذف فيها أن, ومنها قوله: أخاف يشتعل؛ أي أن يشتعل, وأكثر العرب يفتحون همزة أخاف, و "قيس" إذا كان الفعل الماضي على فعلت كسروا أول المضارع مع الهمزة والنون والتاء, وفتحوها مع الياء. وحكى الفراء أن بعض كلبٍ تكسر في الياء, فقيس تقول: إخاف ونخاف وتخاف ويفتحون يخاف, والكلبيون يكسرون في الحروف الأربعة. وقد قرئ بهذه اللغة في الكتاب العزيز, قرأ يحيى بن وثاب (161/ب): {إن تكونوا تيلمون فإنهم يألمون كما تيلمون} , وكذلك قرأ: {فتمسكم النار} ,

وإذا جاوز الفعل الأربعة كسروا أول مستقبل إلا في الياء, وقرأ بعضهم: {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه}. وقوله: يقبلهم وجه كل سابحةٍ ... أربعها قبل طرفها تصل هذا إسراف في المبالغة يخرج إلى الكذب الذي لا يجوز أن يكون مثله؛ ومع هذا فإن القوائم إذا وصلت قبل الطرف فقد وصف النظر بالضعف. وقوله: جرداء ملء الحزام مجفرةٍ ... تكون مثلي عسيبها الخصل الجرداء: القليلة الشعر القصيرته, وذلك مما توصف به الخيل. ومجفرة: عظيمة الجنبين. والعسيب: أصل الذنب, ويحمد في الفرس قصير العسيب وطول شعر الذنب, فلذلك قال: تكون مثلي عسيبها الخصل؛ أي خصل الشعر. واستعملوا العسيب في الخيل والإبل وربما استعمل في الإنس. وقوله: إن أدبرت قلت لا تليل لها ... أو أقبلت قلت مالها كفل هذا يحمد من صفات الخيل؛ لأن الفرس إذا أقبلت فرئيت مرتفعة العنق فذلك أحمد لها, وإذا ولت حمد كفلها أن يكون مشرفًا. وفي كلام ينسب إلى ابن أقيصر, وكان من أعرف العرب بالخيل, في صفة فرس: «إذا أقبل ربا وإذا أدبر حبى» , أي كأنه ينكب لارتفاع كفله. وقوله: سارٍ ولا قفر من مواكبه ... كأنما كل سبسبٍ جبل يقول: قد ملأ الأرض بجيوشه فكأن السباسب جبال. والموكب: يقال للجماعة الركبان من الثلاثين إلى الأربعين ونحو ذلك, ويدل قول القطامي: [الطويل] وقمت إلى مهريةٍ قد تعودت ... يداها ورجلاها خبيب المواكب

على أن الموكب يستعمل في ركبان الإبل. وزعم بعضهم أن الوكب كثرة الوسخ, ويجوز أن يكون الموكب من هذا؛ لأنه يثير الغبار فيؤدي ذلك إلى وسخ الجسد واللباس. وقوله: يا بدر يا بحر يا غمامة يا ... ليث الشرى يا حمام يا رجل كان بعض أهل الأدب ينكر قوله: يا رجل في هذا البيت ويستضعفه, وليس كما زعم, وإنما وصف الشاعر أنه بدر وبحر وغمامة وليث شرى وجعله حمامًا, وهو مع ذلك كله, وهذه الخلائق المجتمعة فيه, رجل واحد. وكثير من العرب يخفف جيم الرجل فيقال: فلان نعم الرجل, وهذا قياس مطرد فيما ثانيه مضموم أو مكسور, قال الراجز: [الرجز] رجلان من ضبة أخبرانا ... أنا رأينا رجلًا عريانا وقوله: قلوبهم في مضاء ما امتشقوا ... قاماتهم في تمام ما اعتقلوا يقال: امتشق السيف إذا استله بسرعةٍ, والمشق: الطعن السريع, قال ذو الرمة: [البسيط] فكر يطعن مشقًا في جواشنها ... كأنه الأجر في الأقتال يحتسب ويروى: في الإقبال. وشبه قاماتهم بالرماح؛ لأن العرب تصف بالطول وتذم القصر, قال الشاعر: [الطويل] تبين لي أن القماءة ذلة ... وأن أشداء الرجال طوالها ويروى طيالها. وقال آخر: [المتقارب] نشدتك بالله هل تعلميـ ... ـن أني طويل وأني حسن

وقال آخر في ذم القصر: [الوافر] كأنهم كلى بقر الأضاحي ... إذا قاموا حسبتهم قعودا وقوله: أنت نقيض اسمه إذا اختلفت ... قواضب الهند والقنا الذبل أنت لعمري البدر المنير ... ولكنك في حومة الوغى زحل كأن البدر من شأنه أن يوصف بالنور ويهتدي به الناس في الأسفار؛ فزعم أن هذا الرجل في الحرب يصير نقيض اسمه؛ لأنه يقتل الناس ويثير الغبار بالخيل, فتظلم عليهم الأرض, ويكون فعله في الحرب نقيض فعل البدر في الظلم. ثم ذكر في البيت أنه البدر المنير, ولكنه زحل في موقف الحرب؛ لأنه زحل يزعم المنجمون أنه في صورة الأسود وهو بطيء السير؛ فكأن هذا الرجل الذي هو كالبدر المنير في الحرب زحل؛ لأنه لا يسير سيرًا سريعًا (162/أ) إذ كان القمر يوصف بسرعة السير. وهو كوكب نحسٍ يكثر الهلكة, وبعض الناس يذهب إلى أن زحل ملك الموت. وزحل مثل عمر لا ينصرف إلا عند ضرورة وقد مر ذكره. وقوله: قصدت من شرفها ومغربها ... حتى اشتكتك الركاب والسبل في هذا البيت مبالغتان: أحداهما: يجوز أن يكون مثلها, وهي ادعاؤه أن الركاب تشتكي الممدوح من كثرة ما تركب إليه؛ فهذا يجوز مثله؛ لأنها إذا صارت أنضاءً وأخذ منها السير فكأنها تشتكيه. والأخرى: ادعاؤه أن السبل تشتكيه, أي الطرق, فهذا لا يمكن أن يكون. وقوله: لم تبق إلا قليل عافيةٍ ... قد وفدت تجتديكها العلل عذر الملومين فيك أنهما ... آسٍ جبان ومبضع بطل يقول: وهبت مالك وغيره حتى كأنك وهبت أكثر صحتك, فلم يبق إلا عافية قليلة,

ومن التي أولها

قد وردت تسألك أن تهبها لعل العلل. وقول الناس العافية من قولهم: عفا الشيء, إذا كثر, كأن الجسم يكثر بها, وتحسن حاله, ويجوز أن تكون من قولهم: أعطاه عطاءً عفوًا أي سهلًا؛ أي عيشها عيش سهل؛ فيكون المعنى أن هذه الحالة يسهل العيش فيها. وكان بدر بن عمار احتاج إلى الفصد فأحضر آسيًا, أي طبيبًا, فلحق الطبيب جبن لهيبته الممدوح فغرق المبضع في اللحم؛ فأدى ذلك إلى شكاة بدر بن عمار. واعتذر أبو الطيب للآسي والمبضع؛ فذكر أن الآسي جبن لفرط الهيبة, وأن المبضع لما عجز الطبيب عن تدبيره كان كالبطل؛ أي الشجاع فوصل إلى موضعٍ لا يجب أن يصل إليه. والمبضع مأخوذ من قولك: بضع الشيء إذا شقه, ويجوز أن يكون مبضع الفصاد سمي مبضعًا لأنه يدخل في بضيع الإنسان أي لحمه. وقوله: خامره إذ مددتها جزع ... كأنه من حذاقةٍ عجل خامره أي خالطه, وأصل الخمر في اللغة تغطية الشيء, ويقال للذي يساتر وينافق: مخامر؛ كأنه يساتر صاحبه. وقيل: خامره أي خالطه؛ لأن كل واحد من الخليطين يستتر بالآخر. وقوله: أبلغ ما يطلب النجاح به الطبع وعند التعمق الزلل أصل التعمق من قولهم: بئر عميقة أي بعيدة القعر, وهي بينة العمق والعمق. وقيل: تعمق في الشيء إذا بالغ في طلبه؛ كأنه من اجتهاده نزل في بئرٍ عميقة. وقافية هذه القصيدة من المتراكب. ومن التي أولها بقائي شاء ليس هم ارتحالا ... وحسن الصبر زموا لا الجمالا وزنها من أول الوافر. بقائي شاء أي أراد أن يرتحل عني وهم لم يشاؤوا الرحيل, وهذه دعوى لأنهم قد شاؤوا الرحيل لا محالة. وادعى أنهم زموا حسن الصبر, واستعار لهم الزم وأصله للإبل, وقد جاء في

الحديث عن بعض الصحابة: «ما تكلمت بكلمةٍ منذ كذا حتى أزمها وأخطمها»؛ فاستعار الزمام للكلمة. وكل شيء منعته من التصرف فقد زممته. وزعم أنهم لم يزموا الإبل, وتلك دعوى ليست بالصحيحة؛ لأن أصحاب الإبل إذا ارتحلوا فلابد لهم من الأزمة. وقوله: تولوا بغتةً فكأن بينًا ... تهيبني ففاجأني اغتيالا يقال: بغته إذا جاءه فجاءةً, وذكر أن البين كأنه تهيبه ففجأه مغتالًا. ومجيئه بهذا الكلام بعد كأن قد خلص لفظه من أن يكون كذبًا. وقوله: فكان مسير عيرهم ذميلًا ... وسير الدمع إثرهم انهمالا العير: الإبل الحاملة, وقد يكون عليها ناس أو غيرهم, قال النابغة: [البسيط] ودع أمامة والتوديع تعذير ... وما وداعك من قفت به العير أي من ذهبت به, وقفت فعلت من قفوت, ومعنى قفت العير: أي تبعت آثار غيرها. وقوله: كأن العيس كانت فوق جفني ... مناخاتٍ فلما ثرن سالا يقول: كأن العيس كانت مناخاتٍ فوق جفن عيني فهي مانعة له أن يسيل, فلما ثرن فاض بالدمع. ودخول (162/ب) كاف التشبيه قد خلص اللفظ من الكذب. وقوله: وحجبت النوى الظبيات عني ... فساعدت البراقع والجلالا النوى: نية القوم, ثم سمي البعد نوى؛ لأن الظاعنين ينوونه, والبراقع جمع برقعٍ, وفيه ثلاث لغات: برقع وبرقع وبرقوع, وبرقع بفتح القاف بناء لم يذكره سيبويه. وقال الشاعر: [الطويل] وخد كبرقوع الفتاة ملمعٍ ... وروقين لما يعدوا أن تقشرا

ويجوز أن يكون الذي زاد الواو في البرقع جاء بها ضرورةً لإقامة الوزن, ولو لم يجئ بالواو لكان في البيت زحاف. وهذا الضرب من الزحاف يتساوى في حذف حرفٍ ساكنٍ, ويكون في بعض الأبيات أحسن منه في غيره, ويجب أن يكون ذلك لأجل حروف الكلمة, وإذا حذفت الواو من برقوعٍ في البيت المتقدم ذكره نفر منه الطبع أكثر من نفاره من قول امرئ القيس: [الطويل] إذا قامتا تضوع المسك منهما ... نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل وكلا الزحافين فيما سقط واحد. والجلال ما جلل به الهودج وغيره, وهو هاهنا اسم واحد يجري مجرى الغطاء والوقاء, وهو في غير هذا الموضع: جمع جل يراد به جل الدابة, وهذا البيت يروى لطليحة بن خويلد الأسدي: [الطويل] فيومًا تراها في الجلال مصونةً ... ويومًا تراها غير ذات جلال وقوله: وضفرن الغدائر لا لحسنٍ ... ولكن خفن في الشعر الضلالا وصفهن بكثرة الشعر وأنهن ضفرن الغدائر لا ليتحسن بذلك, ولكن خفن أن يضللن في الشعر, أي يغبن, من قوله تعالى: {أئذا ضللنا في الأرض} , أي غبنا, وهذه مبالغة في الصفة إذا صحت للمرأة كانت عيبًا مكروهًا, وقد وصفت الشعراء الشعر بالكثرة؛ ولكنها لم تفرط في ذلك مثل هذا الإفراط, وهذا البيت يروى لابن المعتز: [المنسرح]

دعت خلاخيلها ذوائبها ... فجئن من قرنها إلى القدم وقوله: بجسمي من برته فلو أصارت ... وشاحي ثقب لؤلؤةٍ لجالا لأبي الطيب مبالغة في وصف النحول لم يسبقه إليها شاعر فيما أعلم ومن أحسنها قوله: أراك ظننت السلك جسمي فعقته ... عليك بدر عن لقاء الترائب وقوله: ولولا أنني في غير نومٍ ... لبت أظنني مني خيالا تقول العرب: ظننتني وعلمتني وخلتني, ولم يرو عنهم: ضربتني؛ كأنهم لما كان الفعل يتعدى إلى مفعولين اتسعوا في أحدهما لقوة تعديه, وقالوا: عدمتني فكانت هذه الكلمة من الشواذ, قال جران العود النميري: [الطويل] لقد كان لي في ضرتين عدمتني ... وما أنا لاقٍ منهما متزحزح وقوله: أظنني مني خيالًا لا يناسب قوله في الأخرى: كانت إعادته خيال خياله وقوله: بدت قمرًا ومالت غصن بانٍ ... وفاحت عنبرًا ورنت غزالا المنصوبات في هذا البيت نصبها على الحال, والخوط: القضيب, وجمعه: خيطان, كما يقال: كور وكيران, وحوت وحيتان. وقوله: أشد الغم عندي في سرور ... تيقن عنه صاحبه انتقالا

هذا البيت حث على الزهر في الدنيا الخادعة, ونهي لمن رزق شيئًا منها عن السرور بما رزق؛ لأنه يعلم علم ضرورة أنه مأخوذ منه. وقوله: ألفت ترحلي وجعلت أرضي ... قتودي والغريري الجلالا زعم أنه قد ألف ترحله, وجعل أرضه التي يألفها ويرقد عليها قتود رحله؛ أي أعواده وهي جمع قتد. والغريري: جمل منسوب إلى بني غرير, وهم قوم من العرب توصف إبلهم بالنجابة, قال ذو الرمة: [الوافر] نجائب من نتاج بني غريرٍ ... من العيدي قد ضمرت كلالا ضمرت أي قد أمسكت الجرر في أفواهها. وفي شعر حبيب بن أوس بيت يدل على أن غريرًا فحل من فحول الإبل وهو قوله: [مخلع البسيط] قد ضج من فعلهم جديل ... لنسله واشتكى غرير والذي دل عليه شعر ذي الرمة أن بني غريرٍ قوم من العرب يقال إنهم من بني الحارث بن كعب. (163/أ) والجلال: الخيار من الشيء. وقوله: فما حاولت في أرضٍ مقامًا ... ولا أزمعت عن أرضٍ زوالا يقول: أنا سائر طول دهري, فلم أحاول مقامًا في أرض. وأصل المحاولة أن تكون من اثنين؛ فكأنه نفى عن نفسه محاولة أرضٍ على المقام فيها, أو محاولة أهلها على ذلك. والمحاولة يجوز أن تكون مأخوذةً من الحول وهو القوة, ومن قولهم: حوله وحواليه, وأزمعت الشيء: إذا أردته وعزمت عليه, قال عنترة: [الكامل] إن كنت أزمعت الفراق فإنما ... زمت ركابكم بليلٍ مظلم والاسم من أزمعت: الزماع بفتح الزاي, وقد حكيت بالكسر.

وقوله: على قلقٍ كأن الريح تحتي ... أوجهها جنوبًا أو شمالا إذا استقبل الرجل مطلع الشمس؛ فالجنوب من الرياح تجيء عن يمينه, والشمال تهب عن شماله. وقوله: إلى البدر بن عمار الذي لم ... يكن في غرة الشمس الهلالا حذف التنوين من عمارٍ على معنى الضرورة, وقد مر مثله. وزعم أن هذا المسمى بدرًا لم يكن قط هلالًا بل خلق كاملًا لا انتقاص فيه. والهلال عندهم في الثلاث الأولى من الشهر, ثم يسمى قمرًا إلى أن يبدر, فإذا أخذ في النقصان وتبين ذلك فيه عبرت عنه العرب بقميرٍ, قال ابن أبي ربيعة: [الطويل] وغاب قمير كنت أرجو غيوبه ... وروح رعيان ونوم سمر ولا يمتنع أن يسمى الهلال إذا زاد عن الأهلة: قميرًا؛ إلا أن الذي سمع أنهم يجعلونه قميرًا في آخر الشهر, قال ابن أبي ربيعة: [الخفيف] وقمير بدا ابن خمسٍ وعشرين له قالت الفتاتان قوما وفي هذا البيت زحاف لا تنكره الغريزة وهو سقوط أربع حركات في أربعة مواضع, ومثله قول القائل: [الوافر] تصد الكأس عنا أم عمروٍ ... وكان الكأس مجراها اليمينا وكذلك قوله: [الوافر] أبا هندٍ فلا تعجل علينا ... وأنظرنا نخبرك اليقينا

وقوله: بلا مثلٍ وإن أبصرت فيه ... لكل مغيبٍ حسنٍ مثالا يقول: إن هذا الممدوح ليس له في العالم نظير, لأنه قد أعطي من حسن الخلق والخلائق ما لم يعط سواه, وهو مع ذلك فيه لكل مغيبٍ حسنٍ مثال. وقوله: حسام لابن رائق المرجى ... حسام المتقي أيام صالا كان بدر بن عمار واليًا من قبل محمد بن رائق, وكان ابن رائق من أصحاب الخليفة الملقب بالمتقي. وكان ابن رائق قد اجتاز بهذه البلاد ليقاتل الأخشيد, فلم يطقه, وقتلته بنو حمدان في أيام ناصر الدولة وسيف الدولة قبل أن تصير حلب في ملك علي بن عبد الله بن حمدان. والحسام: السيف الماضي, يقال: حسم إذا قطع, وربما قالوا: حسامه بالهاء وهي قليلة, ويجوز أن يكونوا أنثوه إذا أرادوا به الصفيحة وهو ما عرض من السيوف. وقوله: سنان في قناة بني معد ... بني أسدٍ إذا دعوا النزالا يقول: بدر سنان في قناة بني معد, نسبه إلى معد بن عدنان. وأصحاب اللغة يزعمون أن الميم في معد أصلية, ويستدلون على ذلك بقولهم: تمعدد الرجل إذا تشبه بمعد. وفي الحديث: «اخشوشنوا وتمعددوا» أي تشبهوا بمعد بن عدنان في صبرهم على الشدائد, ولو كانت الميم زائدةً لوجب عندهم أن يقال: تعددوا, وقد قالوا: تمسكن الرجل فأثبتوا الميم والقياس: تسكن, وقالوا: تمدرع إذا لبس المدرعة, والقياس يوجب: تدرع, وقالوا: تمعدد الغلام إذا اشتد وقوي, قال الراجز: [الرجز]

ربيته حتى إذا تمعددا ... وآض نهدًا كالحصان أجردا كان جزائي بالعصا أن أجلدا والمعد من الفرس ما وقعت عليه دفة السرج, قال ابن أحمر: [الوافر] فإما زال سرج عن معد ... فأجدر بالحوادث أن تكونا ويستعمل المعد للإنسان. وقال أبو خراش الهذلي: [الطويل] رأت رجلًا قد لوحته مخامص ... وطافت بريان المعدين ذي شحم وقوله: بني أسد يجوز أن يكون بدلًا من بني معد وهو بدل تبعيض؛ لأن بني أسد يرجعون في النسب إلى معد, وهذا كما تقول: فلان من بني العباس بني علي بن عبد الله. ويجوز أن تنصب بني أسد بإضمار فعل كأنك قلت: أعني أو أريد أو نحو (163/ب) ذلك. وحرك الواو في قوله: دعوا النزالا بالضم لالتقاء الساكنين وهما الواو ولام التعريف التي في النزالا, وكذلك يفعلون بالواو المفتوح ما قبلها إذا لقيها ساكن, يقولون: اخشوا الله, ولا تنسوا الموت. وقوله: أعز مغالبٍ كفًا وسيفًا ... ومقدرةً ومحميةً وآلا يقال: مقدرة ومقدرة ومقدرة. وآلا: أي أهلًا وأسرةً, والمنصوبات في هذا البيت تنصب على التمييز وهو يسمى التفسير والتبيين. وقوله: يكون أحق إثناءٍ عليه ... على الدنيا وأهليها محالا يقول: كل ما يوصف به من المكارم والأفعال الجميلة يكون حقًا, وإذا وصف به أهل

الدنيا كان محالًا. فإذا قيل: هو كريم فالقائل صادق ومحق, وإن قيل: إن غيره كريم فالقائل كاذب محيل أي قد أتي بالمحال, وكذلك إن أثني عليه بالشجاعة, والحلم وغيرهما مما يحمد. وقوله: ويبقى ضعف ما قد قيل فيه ... إذا لم يترك أحد مقالا يقول: إذا جهد الناس في مدحه فلم يتركوا مقالًا يصلون إليه؛ فقد بقي ضعف ما فيه من المحاسن المذكورة لم يهتد لوصفها الواصفون. وقوله: ويابن الضاربين بكل عضبٍ ... من العرب الأسافل والقلالا القلال: جمع قلةٍ وهي أعلى الرأس, وجعلهم يضربون الأسافل؛ لأنهم إذا ضربوا الفارس في قلة رأسه نزل السيف إلى أسفل جسده. وقوله: أرى المتشاعرين غروا بذمي ... ومن ذا يحمد الداء العضالا المتشاعرون الذين يتشبهون بالشعراء وليسوا كذلك. والداء العضال الذي لا يبرأ, وغروا من قولهم: غري بالشيء إذا أولع به. وقوله: ومن يك ذا فمٍ مر مريضٍ ... يجد مرًا به الماء الزلالا يقول: المتشاعرون يذمونني وليس العيب في وإنما هو فيهم؛ لأنهم يجهلون مقداري. وكيف يحمدونني؛ وإنما أنا كالماء العذب؟ ومن يك ذا فم فيه مرارة لمرض به فإنه إذا شرب الماء العذب ظنه مرًا. وقوله: وقائدها مسومةً خفافًا ... على حي تصبحه ثقالًا الهاء في قائدها ترجع إلى الخيل, والمسومة يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون من السيمة؛ أي العلامة؛ أي لهذه الخيل علامات.

والآخر: أن تكون مسومةً في معنى مسرحةٍ من قولك: سومت السوام إذا سرحهت في مرعى, وجعله يقود الخيل على مذهب العرب. قال الأفوه: [الرمل] نحن قدنا الخيل حتى انقطعت ... شدن الأفلاء عنها والمهار وكانوا يركبون الإبل في الغزو, ويجنبون إليها الخيل فلا يركبونها إلا في وقت الحاجة إليها. وقوله: وقائدها يجوز أن يعني أنه يقود الجيش الذي فوارسه على الخيل. وقوله: إنها خفاف في الركض ثقال على الأعداء فيه شبه بقول زهير لما ذكر اليوم الذي أوقع فيه الممدوح بأعدائه: [المتقارب] فظل قصيرًا لأصحابه ... وكان على القوم يومًا طويلا وقوله: جوائل بالقني مثقفاتٍ ... كأن على عواملها الذبالا القني: جمع قناةٍ. والقنا من ذوات الواو فقلبت إلى الياء؛ كما قالوا: عصي في جمع عصى, وتثنيتها: عصوان؛ فقلبت الواو في الجمع. والعوامل جمع عامل وهو ما قرب من السنان, والثعلب فوقه. قال الراجز: [الرجز] قد أطعن النجلاء تعوي وتهر لها رشاش من نجيعٍ منهمر وثعلب العامل فيها منكسر والذبال: جمع ذبالة وهي الفتيلة, ويقال: ذبالة بتشديد الباء.

وقوله: إذا وطئت بأيديها صخورًا ... بقين لوطء أرجلها رمالا هذه مبالغة في شدة الحافر وصلابة الوطء, وهي مبالغة لا يمكن أن يكون مثلها. وقوله: جواب مسائلي: أله نظير؟ ... ولا لك في سؤالك لا ألا لا يقول للسائل عن الممدوح: أله نظير: لا؛ أي لا نظير له, ويقول للسائل: ولا لك نظير أيضًا؛ لأنك جاهل في ظنك أن له نظيرًا. وقد كرر أبو الطيب لا في قوله: هكذا هكذا وإلا فلا لا والكلام قد تم عند قوله: ولا لك في سؤالك؛ فجاء بلا ثانية توكيدًا, ثم لم يرض بذلك حتى قال: ألا يا سائلي لا, فإن كان أراد هذا الغرض فليس بالحسن, وأسهل منه أن يصرف إلى معنى آخر؛ وذلك أنهم يقولون: ما بفلان من الضلال والألال, فيجعلون الألال كالإتباع, وتابع الشيء كائن في معناه, (164/أ) أو قريبًا منه؛ فكأنه على هذا الوجه قال: ولا لك في سؤالك, فتم الكلام أي لا ضلال, فإما أن يكون أراد: لا تضل أيها السائل ضلالًا, أو يكون نفى الضلال عن الناس أن يظنوا بمن مدح هذا الظن. وقوله: وأسعد من رأينا مستميح ... ينيل المستماح بأن ينالا المستميح: الذي يطلب ما عند الناس من العطاء, وهو من قولهم: ماح البئر إذا نزل إلى مائها فاستخرجه, وإنما ذلك لقلته, فكأن مستميح القوم أصله أنهم يعطونه شيئًا قليلًا كما تعطي البئر من نزل من المائحين؛ لأنهم إنما ينزلون إليها إذا قل فيها الماء؛ يقال: ماح البئر ميحًا, قال الراجز: [الرجز] امتحضا وسقياني ضيحا ... وقد كفيت صاحبي الميحا امتحضا: أي شربا المحض من اللبن, والضيح: اللبن الكثير الماء.

ومن التي أولها

وقوله: يفارق سهمك الرجل الملاقي ... فراق القوس ما لاقى الرجالا يقول: إذا لقي سهمك رجلًا نفذ فيه وفارقه سريعًا كفراقه القوس؛ أي إنه لا يثبت في الرجل, ولكنه يعبر الرجال شيئًا فشيئًا ما لقي رجلًا. وقوله: فما تقف السهام على قرارٍ ... كأن الريش يطلب النصالا يقول: سهامك لا تستقر لأنها تخلص من رجل إلى رجل؛ فكأن ريشها يطلب نصالها كي يلحقها, ونصالها تفر منه. وقوله: وأعجب منك كيف قدرت تنشا ... وقد أعطيت في المهد الكمالا تنشا: أصله الهمز, والتخفيف جائز. يقول: أعجب منك أيها الرجل أنك نشأت كما ينشأ وقد أعطيت الكمال في مهدك. وقافيتها من المتواتر. ومن التي أولها في الخد أن عزم الخليط رحيلا ... مطر تزيد به الخدود محولا الوزن من ثاني الكامل. الخد: أصله من خددت في الأرض إذا حفرت فيها موضعًا, ومنه اشتقاق الأخدود لأنه حفرة مستطيلة, ويجوز أن يكون خد ابن آدم سمي خدًا لأن الذي تحت لحمه مطمئن, ويجوز أن يكون قيل له: خد من قولهم: تخدد لحمه إذا صارت فيه طرائق تدل على الهزال. وإذا هزل الرجل ظهر في خده نحو من ذلك, والقول الأول أشبه. قال جرير في صفة الخيل: [الكامل] أفنى عرائكها وخدد لحمها ... ألا تذوق مع الشكائم عودا

يقول: إذا عزم الخليط رحيلًا بكي المحب بكاءً مثل المطر؛ إلا أنه لا ينبت العشب كغيره من الأمطار؛ فالخدود يزيد محلها به. وقد قال بعض الشعراء, ويقال إنه ليموت بن المزرع: [مخلع البسيط] كم زفرات وكم دموع ... يا عين هذا هو الفظيع لو نبت العشب من دموعٍ ... لكان في خدي الربيع يا قمرًا غاب عن عياني ... بالله قل لي متى الرجوع وقوله: كانت من الكحلاء سولي إنما ... أجلي تمثل في فؤادي سولا أصل السول: الهمز لأنه من سألت؛ فإذا كان في حشو البيت فأنت في الهمز وتركه مخير, وإذا كان في قافية هذه القصيدة لم يجز إلا كون الهمزة واوًا لأنها مردفة, ولو وقع في قوافٍ مثل جملٍ ونجلٍ لم يجز إلا الهمز. وفي كانت ضمير يعود على النظرة في قوله: يا نظرة نفت الرقاد, وفي الكلام حذف وهو معلوم عند السامع؛ كأنه قال: يا نظرةً نفت الرقاد ما أضرك وأبعد نفعك؛ كأنك تمثلت من أجلي. والأصل في الأجل هو المدة التي يؤخر موت الإنسان حتى تنفد. وقوله: تشكو روادفك المطية فوقها ... شكوى التي وجدت هواك دخيلا روادفها: ردفها وما والاه كأنه جعلها جمع رادفةٍ أو رادفٍ وهي مآخير خلقها. يقول: هي عظيمة الجسم فالمطية تشكو ثقلها على ظهرها, وكان أبو الطيب يصف المرأة بالسمن وكثرة اللحم حتى يفرط, ومن ذلك قوله: يظن ضجيعها الزند الضجيعا

يقول: تشكو المطية حملك كأنها تشكو دخيلًا في قلبها من حبك. وقوله: (164/ب): ويغيرني جذب الزمام لقلبها ... فمها إليك كطالبٍ تقبيلا هذا من أحسن ما قيل في الغيرة؛ لأنه زعم أن زمام هذه الناقة إذا جذب فقلبت فمها نحو الراكبة غار من ذلك؛ لأنه يظن قلبها الفم طلب تقبيلٍ, ومثل ذلك لا يظن بالنوق. وقوله: حدق يذم من القواتل غيرها ... بدر بن عمار بن إسماعيلا زعم أن الممدوح يذم؛ أي يعطي الذمة من كل القواتل إلا من هذه العيون, فقد أفرط في صفة العيون بتمكنها من القتل؛ إلا أنه جعل الممدوح لا يستطيع أن يمنعهن من القتل. وقوله: محك إذا مطل الغريم بدينه ... جعل الحسام بما أراد كفيلا المحك: الذي يلج في المطل, ومطالبة الشيء, ومنه قول زهير: [البسيط] اردد يسارًا ولا تعنف عليه ولا ... تمحك بعرضك إن الغادر المحك ويروى: ولا تمعل بعرضك إن الغادر المحك, والمعنى واحد. يقول: هذا الرجل إذا مطل الغريم بدينه جعل الحسام كفيله بقضاء الدين. وإنما يعني بالغريم من جنى جناية يجب أن يعاقب عليها؛ فجعل تأديب الجانين كالدين للممدوح يتقاضاه بالسيف, فكأن السيوف كفلاء له بما يريد. وقوله: نطق إذا حط الكلام لثامه ... أعطى بمنطقه القلوب عقولا يقال: رجل نطق ونطق إذا كان بليغ المنطق حسنه. يقول: إذا هذا الممدوح حط لثامه ليتكلم للأمر والنهي؛ فإنه يعطي من يسمع كلامه عقلًا؛ لأنه ينطق بالحكمة, وما يهتدي به الضالون. وقوله: أعدى الزمان سخاؤه فسخا به ... ولقد يكون به الزمان بخيلا

ادعى أن الممدوح أعدى بسخائه الزمان فسخا به على البشر؛ وإنما حمله على السخاء أنه أعداه, ولولا ذلك لكان بخيلًا به. وقوله: وكأن برقًا في متون غمامةٍ ... هنديه في كفه مسلولًا شبه سيفه بالبرق ويده بالغمامة. وهنديه أي سيفه, وجعل اسم كأن نكرةً وخبرها معرفةً وذلك حسن لأن كون الاسم نكرةً والخبر من المعارف, إنما ينكر إذا تغير بذلك الإعراب كقولك: كان الأمير شابًا فهذا وجه الكلام. فإن قلت: كان الأمير شاب لم يجز مثل ذلك إلا في ضرورة, وكونه في كان وأخواتها ينكر لأنه يؤدي إلى تغيير الإعراب, وهو في إن وأخواتها غير نكيرٍ؛ لأنك إذا قلت: إن قائمًا أبوك فالإعراب على حاله؛ وإنما جاء الاسم نكرةً وليس الخبر كذلك, ومما جاء الاسم فيه نكرةً والخبر معرفةً في باب: إن قول الفرزدق: [الوافر] وإن حرامًا أن أسب مقاعسًا ... بآبائي الغر الكرام الخضارم فقوله: حرامًا نكرة, والجملة التي هي قوله: أن أسب مقاعسًا في موضع معرفةٍ؛ لأنها تؤدي معنى قوله: وإن حرامًا سبي مقاعسًا. وقوله: ومحل قائمه يسيل مواهبًا ... لو كن سيلًا ما وجدن مسيلا الهاء في قائمه عائدة على سيف الممدوح. والمحل حيث يحله الشيء, وإنما يعني يد الممدوح؛ أي إن يده التي يحلها قائم سيفه أي يكون فيها من قولهم: حللت بالدار. ومواهبًا منصوبة لأنها مفعول, ولما كان قائم السيف لا يعقل جمعوه على قوائم, قال الشاعر في صفة السيوف: [الطويل] إذا هي شيمت فالقوائم تحتها ... وإن لم تشم يومًا علتها القوائم زعم أن ما يسيل من كف هذا الرجل لو كان سيلًا لم يصب موضعًا يسيل فيه.

وقوله: رقت مضاربه فهن كأنما ... يبيدن من عشق الرقاب نحولا يقول: رقت مضاربه أي مضارب السيف؛ فكأنهن يعشقن الرقاب؛ فكأن العشق أنحلهن. وقوله: أمعفر الليث الهزبر بسوطه ... لمن ادخرت الصارم المصقولا (165/أ) عفره إذا ألقاه في العفر أي التراب. يقول: إذا كنت تعفر الليث بسوطك فلمن ادخرت سيفك؟ والليث موصوف بالشجاعة وعظم البأس. وقوله: وقعت على الأردن منه بلية ... نضدت لها هام الرفاق تلولا يقول: هذا الأسد بلية على البلاد التي هو فيها لأنه إذا مرت به الرفاق افترس بعضهم, فيأكل الجسد ويترك الرأس؛ لأنه عظم, فعنده من هام الرفاق تلول, جمع تل, وهو ما ارتفع من الأرض. وقولهم في الجمع: تلال أكثر من قولهم تلول, قال النابغة: [الوافر] مضر بالقصور يذود عنها ... قراقير النبيط إلى التلال وقوله: ورد إذا ورد البحيرة شاربًا ... ورد الفرات زئيره والنيلا الورد: الذي يضرب لونه إلى الحمرة, وبالغ في تعظيم الأسد وعلو زئيره, فزعم أنه إذا ورد البحيرة سمع زئيره في الأرض التي فيها الفرات والتي فيها النيل. وقوله: متخضب بدم الفوارس لابس ... في غيله من لبدتيه غيلا يقول: هذا الأسد يفرس الفوارس فهو متخضب بدمائهم. والغيل: شجر ملتف,

وتضاف الأسد إليه؛ فيقال: أسد الغيل, قال طرفة: [الرمل] أسد غيلٍ فإذا ما شربوا ... وهبوا كل نجاةٍ وطمر ولبدة الأسد ولبدتاه: ما علا كتفيه من الشعر, وجعله الشاعر كالغيل, وهو إفراط في المبالغة. وقوله: ما قوبلت عيناه إلا ظنتا ... تحت الدجى نار الفريق حلولا يصف عيني الأسد بالحمرة, ولم يمكنه أن يجعلهما نارين لأجل الوزن, فشبههما بنار الفريق وهم الجماعة من الناس يفارقون غيرهم, ونحو من ذلك قول الآخر في صفة الأسد وهو يخاطبه: [الوافر] تدل بمخلبٍ وبحد نابٍ ... وباللحظات تحسبهن جمرا وقوله: في وحدة الرهبان إلا أنه ... لا يعرف التحريم والتحليلا يقول: هذا الأسد متوحد كوحدة الرهبان إلا أنه لا يفرق بين الحلال والحرام, والأسد يوصف بالتوحد لأنه يهاب فلا يأنس إليه غيره. وإذا وصفوه بعظم الشأن ذكروا أن الأسد تفر منه. قال الهذلي: [الكامل] أسد تفر الأسد من عروائه ... بمدافع الرجاز أو بعيون

العرواء: الرعدة, ويجوز أن يكون المعنى: أن الأسد تفر منه لأن العرواء تأخذها من خوفه, ويحتمل أن يكون المراد أنه إذا غضب أخذته العرواء, وهي في الأصل رعدة تأخذ المحموم, والناس يقولون إن الأسد أبدًا محمومة, وقد زعم قوم أن الأسد ربما فرس غيره من الأسد, قال الشاعر: [الوافر] كذاك الأسد تفرسها الأسود وقوله: يطأ البرا مترفقًا من تيهه ... فكأنه آسٍ يجس عليلا البرا: التراب. يقول: هذا الأسد كأن به تيهًا؛ فهو يطأ الأرض وطئًا مترفقًا؛ فكأنه طبيب يأخذ مجسه عليلٍ. وقوله: ويرد غفرته إلى يافوخه ... حتى تصير لرأسه إكليلا الغفرة: ما على عنقه وقذاله من الشعر؛ وإنما قيل لها: غفرة لأنها تغطي ما تحتها, واليافوح: وسط الرأس وأصله الهمز, يقال: أفخه إذا ضرب يافوخه, وجمع اليافوخ: يآفيخ, قال الراجز: [الرجز] ضربًا إذا وافى اليآفيخ احتفر وقوله: وتظنه مما يزمجر نفسه ... عنها بشدة غيظه مشغولا الزمجرة: صوت يسمع في الجوف, وكذلك: زمجر السحاب. والأجود أن ترفع نفسه لأنها فاعلة تظن؛ أي الأسد تظنه نفسه مشغولًا عنها باتصال الزمجرة. وهذا أوجه من نصب النفس لأن الزمجرة لم تجر عادتها أن تتعدى إلى مفعول.

وقوله: قصرت مخافته الخطى فكأنما ... ركب الكمي جواده مشكولا يقول: قصرت مخافة هذا الأسد الخطى؛ وإنما يعني خطى الخيل؛ لأنها لا تقدم عليه, وكان بعض الملوك يصور صورة أسدٍ ويجعله بين دوابه لتأنس به؛ فإذا رأت أسدًا حقيقيًا لم تهبه. يقول: كأن الفارس ركب الجواد مشكولًا فهو لا يقدم على الأسد. وقوله (165/ب): ألقى فريسته وبربر دونها ... وقربت قربًا خاله تطفيلا يقول: ألقى الأسد فريسته وبربر دونها, والبربرة كلام غليظ, وقد استعير لغير الإنس, قال الشاعر: [البسيط] لا أرض أكثر منك بيض نعامةٍ ... ومذانبًا تندى وروضًا أخضرا ومعينًا يحمي الصوار كأنه ... متخمط قطم إذا ما بربرا يعني بالمعين ثورًا وحشيًا. ويقال: تخمط الفحل إذا هاج وصال, وجعل بعضهم صوت الدف بربرة؛ فقال: [المتقارب] يغرد في الصبح ذا بحةٍ ... كبربرة الدف يوم النياح والتطفيل اسم حدث في الإسلام؛ وذلك أن الكوفة كان فيها رجل يقال له: طفيل إذا أحس بوليمةٍ مضى إليها وإن لم يدع؛ فكان يقال له: طفيل الأعراس, فقيل لكل من دخل إلى قوم ليأكل من طعامهم ولم يدعوه إليه: طفيلي, واشتقوا له فعلًا فقالوا: طفل تطفيلصا. يقول: هذا الأسد ظنك قد طفلت عليه فغضب من ذلك. وقوله: فتشابه الخلقان في إقدامه ... وتخالفا في بذلك المأكولا يقول: أشبه خلقك خلق الأسد في الإقدام, وخالفته في بذلك المأكول؛ لأنك جواد وهو بخيل.

وقوله: أسد يرى عضويه فيك كليهما ... متنًا أزل وساعدًا مفتولا يقول: رأى الأسد عضويه فيك: ساعدًا مفتولًا ومتنًا أزل. فإن كان أراد: يرى من رؤية القلب؛ فالمعنى محتمل, وإن كان أراد رؤية العين فالأسد لا يرى متن الرجل إلا وهو مول عنه. والزلل محمود في الرجال مذموم في النساء, وإنما حمد في الرجل لأنه من صفات السباع, ولأن الرجل إذا قل لحم عجزه كان أخف لجسمه, قال الشاعر: [المديد] مسبل في الحي أحوى رفل ... وإذا يغدو فسمع أزل فأما الزلل في النساء فمذموم, قال نصيب: [الوافر] بنفسي كل مهضومٍ حشاها ... إذا ظلمت فليس لها انتصار إذا ما الزل ضاعفن الحشايا ... كفاها أن يلاث بها إزار وقال ذو الرمة: [الطويل] ترى الزل يكرهن الرياح إذا جرت ... ومية إن هبت لها الريح تفرح وقوله: في سرج ظامئة الفصوص طمرةٍ ... يأبى تفردها لها التمثيلا الفرس يوصف بظمأ الفصوص؛ أي قلة اللحم فيهن, وكل رأس مفصلٍ فص, والطمرة: الوثابة, وزعم أن هذها لفرس يأبى تفردها أن يمثل بغيرها.

وقوله: نيالة الطلبات لولا أنها ... تعطي مكان لجامها ما نيلا يقول: هذه الفرس إذا طلبت عدوًا أو وحشًا نالته؛ وهي مع ذلك عزيزة النفس لولا أنها تذل للراكب وتغطيه مكان لجامها لما قدر عليه؛ لأنها سابقة لو شردت عن محاول إلجامها لما وصل إليه. وقوله: تندى سوالفها إذا استحضرتها ... ويظن عقد عنانها محلولا السوالف: جمع سالفة وهي صفحة العنق, والفرس لا يحمد لها كثرة العرق ولا قلته؛ لأنه إذا كثر أضعف, وإذا قل حدث عنه البهر؛ فلذلك جعل سوالفها تندى بالعرق, أي تخرجه قليلًا قليلًا. وتظن عقد عنانها محلولًا؛ أي كأنها وإن كانت ذات عنانٍ لا عنان لها. وعقد عنانها: اسم ما لم يسم فاعله. وقوله: مازال يجمع نفسه في زوره ... حتى حسبت العرض منه الطولا مازال: يعني الأسد, وزوره: صدره. يقول: جمع نفسه في زوره حتى حسبت عرضه طوله. وقوله: ويدق بالصدر الحجار كأنه ... يبغي إلى ما في الحضيض سبيلا الحجارة بالهاء أفصح من الحجار, وكذلك هي في القرآن, وفي الشعر الفصيح, قال امرؤ القيس: [الطويل] ويخطو على صم صلابٍ كأنها ... حجارة غيلٍ وارسات بطحلب وقال الأعشى: [مجزوء الكامل] لسنا نقاتل بالعصي ... ي ولا نرامي بالحجاره والحضيض: أسفل الجبل. وقوله: وكأنه غرته عين فادنى ... لا يبصر الخطب الجليل جليلا

ادنى: افتعل من الدنو. يقول: كأن هذا الأسد غرته عينه فلم يبصر ما قدامه, ولو تصور الأمر بصورته لفر من هيبة الممدوح؛ ولكنه مغرور ظن ما جل من الخطوب ليس بالجليل. وقوله: أنف الكريم من الدنية تارك ... في عينه العدد الكثير قليلا هذا البيت عذر للاسد في إقدمه؛ لأنه جعل أنف الكريم من الدنية يغره, فيجعل ما كثر من العدد قليلًا عنده؛ أي هذا الأسد (166/أ) أنف أنف الكرام فاستصغر ما عظم. وقوله: والعار مضاض وليس بخائفٍ ... من حتفه من خاف مما قيلا يقال: أمضني الشيء, وهي اللغة الفصيحة, وقد حكي: مضني, وكأن مضاضًا محمول على مض, وربما جاء أفعل فاشتق منه فعال كما قالوا: أدرك النار؛ وهو دراك. يقول: الرجل إذا خاف من كلام الناس فيه ونسبتهم إياه إلى الجبن أو البخل؛ لم يخف من لقاء الموت؛ لأنه يرى ذلك أحسن من أن يوصف بخلةٍ ذميمة. وقوله: سبق التقاءكه بوثبة هاجمٍ ... لو لم تصادمه لجازك ميلا جاء بالهاء بعد الالتقاء, ولو كان في غير الشعر لكانت إياه أولى من الهاء. والهاجم: الذي يهجم على الشيء بغرته من غير تلبثٍ ولا انتظار. والميل من الأرض: معروف, وقيل: إنما سمي ميلًا لأن الإنسان إذا بلغه مال إلى العلامة التي تدل عليه, وقيل: إنما سمي ميلًا لأنهم كانوا يجعلون عند آخره صخرةً مستطيلةً ليعرف مكانه بها. وشبهوا الصخرة بالميل الذي يكتحل به. يقول: لو لم تصادم الأسد لجازك مقدار ميل, وهذا مدح للأسد ووصف له بالقوة. وقوله: خذلته قوته وقد كافحته ... فاستنصر التسليم والتجديلا كافحته: أي لقيته بشخصك ولقيك بشخصه, وكل شيء لقي شيئًا فقد كافحه, والتسليم من قولهم: سلم الأمر إلى الله, والأسد لا يعرف ذلك ولكنه ادعاه له. والتجديل: مصدر جدله؛ أي ألقاه على الجدالة وهي الأرض, قال الراجز: [الرجز]

قد أركب الآلة بعد الآله وأترك العاجز بالجداله منعفرًا ليست له محاله ويجوز أن يكون التجديل من قولهم: ألقاه على جدوله وهي مثل أعضائه, كما يقال: قطره إذا ألقاه على قطره أي جانبه. وقوله: سمع ابن عمته بن وبحاله ... فنجا يهرول منك أمس مهولا إنما قال الشاعر: ابن عمته لأنه سمع قول أبي زبيدٍ في صفة الأسد: [البسيط] أفر عنه بني العمات جرأته ... فكلها خاشع من ذاك مكتنع وليس لابن العمة هاهنا فضل على ابن الخالة. والهرولة فوق المشي ودون العدو, ولم يستعملوا منها فعلًا بغير زيادة. ويجوز أن يكون امتناعهم من ذلك لكراهة اجتماع اللام والراء في كلمة واحدة؛ لأن ذلك مفقود في لغة العرب, ولو لم يزيدوا الواو في الهرولة لقالوا: الهرل والهرل؛ فثقل اجتماع الراء واللام. ومهول أي قد هيل لما شاهد وسمع. وقوله: وأمر مما فر منه فراره ... وكقلته ألا يموت قتيلا هذا الكلام فيه تقديم وتأخير, والتقدير: وفراره أمر مما فر منه. وأمر في أول البيت خبر مقدم, ومثل قتله موته غير قتيل؛ أي إن ذلك خطة صعبة, وإنما يحمل ذلك على التشبيه ببني آدم لأن الشجعان يكرهون الموت على الفرش, قال الحطيئة: [الطويل] وشر المنايا هالك بين أهله ... كهلك الفتى لم يشهد الحي حاضره

وقوله: تلف الذي اتخذ الجراءة خلةً ... وعظ الذي اتخذ الفرار خليلا يقول: تلف الأسد الذي جعل الجرأة خلةً, أي مثل الخليل, وعظ قرينه من الأسد فاتخذ الفرار خليلًا. وقوله: لو كان لفظك فيهم ما أنزل الـ .... ـقرآن والتوراة والإنجيلا (*) حدث رجل من أهل الأدب أنه كان وكيلًا في ضيعةٍ فقدم رجل يزعم أنه المتنبي, وأحمد بن الحسين يومئذٍ في أول أمره لم ينتشر خبره في الأرض, وكان الرجل يحفظ كثيرًا من شعره, فاجتمع أهل القرية حوله, وجعل ينشدهم من أشعار أبي الطيب وهو لا يلحن ولا يصحف, وكان هذا الرجل [أي: الوكيل] حاضرًا فلم يبن له أمره حتى أنشد هذه القصيدة التي في بدر بن عمار فأنشد: لو كان لفظك فيهم ما أنزل الـ ... ـقرآن والتوراة والإنجيلا فضم الهمزة في أنزل ونصب ما بعدها, فعلم الرجل أنه كاذب؛ قال: فخلوت به فقلت له: ويحك أما تستحي من هذا الفعل, فاعتذر بالحاجة والاختلال إلى أهل الضيعة. قال: ثم إن قومًا من أهل الضيعة مضوا يسرقون زيتونًا فمضى معهم؛ فانحل ناموسه عندهم. وقوله: لو كان ما تعطيهم من قبل أن ... تعطيهم لم يعرفوا التأميلا (166/ب) سكن الياء بعد أن في: تعطيهم وتلك ضرورة, وقد استعملها الشعراء المتقدمون والمحدثون. يقول: [لو وصلت] أعطيتك من قبل أن تعطيهم, لما جرت الآمال في قلوبهم؛ لأن العطايا كانت تأتيهم من غير أملٍ.

ومن قطعة أولها

وقوله: فلقد عرفتوما عرفت حقيقةً ... ولقد جهلت وما جهلت خمولا يقول: قد عرفك الناس ولكن شأنك عظيم؛ فلم يعرفوا حقيقتك, وإنهم لجاهلون بك, وما جهلوك لأنك خامل؛ ولكن لعجزهم أن يدركوا ما عندك من الفضل. وقافيتها من المتواتر. ومن قطعة أولها عذلت منادمة الأمير عواذلي ... في شربها وكفت جواب السائل وزنها من أول الكامل. يقول: منادمة الأمير عذلت عواذلي في شرب الخمر, والهاء في شربها عائدة على الراح, وإنما أضمرها لأن المنادمة دلت عليها. يقول: منادمة الأمير إذا وصل إليها الإنسان فقد وصل إلى رتبةٍ عظيمةٍ؛ فلما نادمته عذلت منادمته العواذل وأمرتهم بالكف, وكفتني جواب السائل الذي يقول: لم شربت المسكر. وقوله: مطرت سحاب يديك ري جوانحي ... وحملت شكرك واصطناعك حاملي يقول: كانت جوانحي ظامئةً فأروتها سحاب يديك. والجوانح: جمع جانحةٍ وهي الضلع, وجنوحها: انعطافها. وحملت شكرك, واصطناعك حاملي؛ أي إن شكرك عظيم ثقيل فقد حملته, واصطناعك قد حملني مع شكرك؛ فدل ذلك على أن اصطناعك يزيد في القوة علي لأنه حملني وحمل شكرك. وقوله: فمتى أقوم بشكر ما أوليتني ... والقول فيك علو قدر القائل يقول: متى أقوم بشكر ما أوليتني من الجميل, وإذا شكرتك فإنما أرفع قدري بذلك. وقافية هذه الأبيات من المتدارك.

ومن أبيات أولها

ومن أبيات أولها بدر فتى لو كان من سؤاله ... يومًا توفر حظه من ماله وزنها من أول الكامل. يقول: سائل هذا الممدح يأخذ من ماله أكثر مما يأخذه صاحب المال؛ فلو أنه من سؤاله لكان حظه وافرًا؛ لأن السائل يصيب منه أكثر مما يخصه في نفسه. وقوله: سفك الدماء بجوده لا بأسه ... كرمًا لأن الطير بعض عياله إن أراد أنه قتل الناس وغرضه أن تأكلهم الطير, وحمله على ذلك الجود؛ فالمعنى يحتمل ذلك, وأبلغ منه في صفة الممدوح أن يدعي له أنه ينحر ويذبح لتأكل الطير ما تجده من اللحم؛ فكأنه يسفك الدماء بجوده لا ببأسه. وقافيتهما من المتدارك. ومن بيتين أولهما قد أبت بالحاجة مقضيةً ... وعفت في الجلسة تطويلها وزنهما من ثاني السريع, وقافيتهما من المتدارك. ومن أبيات أولها أرى حللًا مطواةً حسانًا ... عداني أن أراد بها اعتلالي وزنها من أول الوافر. قوله: وهبك طويتها وخرجت عنها ... أتطوي ما عليك من الجمال

ومن التي أولها

العرب تستعمل هبها وهبني في معنى اعددها واعددني, قال عقيبة الأسدي: [مخروم الوافر] هبها أمةً ذهبت ضياعًا ... يزيد يسوسهم وأبو يزيدا وقال آخر: [الطويل] هبوني امرأً منكم أضل بعيره ... له ذمة إن الذمام كبير وقافيتها من المتواتر. ومن التي أولها ومنزلٍ ليس لنا بمنزل ... ولا لغير الغاديات الهطل وهي من مشطور الرجز وهو رابعه. الغاديات: السحائب التي تجيء بالنهار. وقوله: ندي الخزامى ذفر القرنفل ... محللٍ ملوحش لم يحلل يقول: هذا المنزل ندي الخزامي؛ أي عهده بالمطر قريب فخزاماه ندية. والذفر: شدة الرائحة من الطيب وضده؛ بتحريك الذال وفتح الفاء؛ يقال: ذفر الشيء ذفرًا فهو ذفر. محلل ملوحش: أي تحله الوحش لم يحلل بالإنسز وقوله (167/أ): عن لنا فيه مراعي مغزل ... محين النفس بعيد الموئل

مراعي مغزل: يعني ظبيًا مع ظبية لها غزال أي ولد. ومراعي يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون يرعى معها. والآخر: أن يكون يراعيها من المراعاة من قولك: فلان يراعي فلانًا؛ أي ينظر إلى أموره ويتعدها, وأصل ذلك من مراعاة الكلأ. ومحين: من الحين. والموئل: الملجأ. وقوله: وعادة العري عن التفضل يقول: هذا الظبي قد استغنى بعادة العري عن لبس الثياب. والتفضل من قولهم: تفضلت المرأة والرجل إذا كان عليهما ثوب واحد, قال امرؤ القيس: [الطويل] فجئت وقد نضت لنومٍ ثيابها ... لدى الخدر إلا لبسة المتفضل ويقال: امرأة فضل أي عليها ثوب واحد, قال المتنخل الهذلي: [البسيط] السالك الثغرة المرهوب جانبها ... مشي الهلوك عليها درعها الفضل رفع الفضل لأنه جعله نعتًا للهلوك على الموضع؛ لأن معنى قوله: مشي الهلوك؛ أي: تمشي مشي الهلوك. وقولهك معترضًا بمثل قرن الإيل يصف الظبي بطول القرن فيقال: إيل بكسر الهمزة وفتح الياء, وأيل بضم الهمزة أيضًا. وقوله: يحول بين الكلب والتأمل ... فحل كلابي وثاق الأحبل يريد أن هذا الظبي يسبق لحظ الكلب ويعجله أن يتأمله. وأصل التأمل أن ينظر الإنسان إلى شيء له فيه أمل فيردد النظر فيه, قال الشاعر: [الطويل]

تأملتها معترةً فكأنما ... رأيت بها من سنة البدر مطلعا ثم استعمل التأمل في كل شيء ينظر فيه, وإن لم يكن للإنسان فيه أمل, قال أوس بن حجرٍ: [الطويل] صحا قلبه من سكره وتأملا ... وكان بذكرى أم عمروٍ موكلا والكلاب: الذي يمارس أمر الكلاب؛ إما لنفسه وأما لغيره, وهو المكلب أيضًا. وقوله: عن أشدق مسوجرٍ مسلسل ... أقب ساطٍ شرسٍ شمردل الأشدق: الواسع الشدق, مسوجر: أي في رقبته ساجور, ومسلسل: أي في رقبته سلسلة, وكل شيء اتصل فهو مسلسل حتى إنهم يقولون: سلاسل البرق؛ يعنون اتصال بعضه ببعض, قال الراجز: [الرجز] تربعت والدهر عنها غافل آثار أحوى برقه سلاسل والأقب: الضامر, وساطٍ: الاشتقاق فيه يدل على أنه من السطوة, وربما فسر الرواة ساطيًا بقولهم: هو الرافع ذنبه, ولعله إنما يفعل ذلك إذا عزم أن يسطو واجتهد في أمر. والشرس: السيئ الخلق, وشمردل: طويل. وقوله: منها إذا يثغ له لا يغزل يثغ له: مجزوم بإذا وإنما يجزم بها في الضرورة, يقال: إن الكلب إذا أدرك الظبي فربما ثغا في وجهه ففزع منه الكلب فعجز عن صيده؛ فيقال عند ذلك: غزل عجز عن صيد الغزال, وكأنهم قالوا: غزل يريدون أنه أصابه ذلك من أجل الغزال فاشتقوا له وصفًا من لفظه.

وقوله: مؤجد الفقرة رخو المفصل المؤجد: المقوى, يقال: بناء مؤجد؛ أي محكم, ومنه قيل: ناقة أجد إذا كانت مؤثقة الخلق, قال المتلمس: [الطويل] إن الهوان حمار الأهل يعرفه ... والطرف ينكره والعرمس الأجد والفقرة: الواحدة من فقر الظهر, ووصفه برخاوة المفصل لأنه نعته بسرعة بسط المفاصل وقبضها. وقوله: له إذا أدبر لحظ المقبل ... يعدو إذا أحزن عدو المسهل بعض الكلاب إذا عدا التفت في عدوه, وقد ذكر ذلك الحكمي في صفة الكلب فقال: [الرجز] لفت المشير موهنًا بناره وأحزن: إذا أخذ في الحزن من الأرض وهو الصلب؛ أي إنه لا يعجز في الحزون أن يعدو كعدوه في السهول. وقوله: إذا تلا جاء المدى وقد تلي ... يقعي جلوس البدوي المصطلي الإقعاء: أن يعتمد على ذبنه. ونهي عن الإقعاء في الصلاة, وهو أن ينصب الرجل ركبتيه. ويقال: أقعى فهو مقعٍ, وحكى أبو عبيدة: قاعٍ في معنى مقعٍ, وأنشد في شواذ الغريب: [الطويل] وأنكرت من زبان خضرة وجهه ... وأنفًا له مثل التؤيليل قاعيا والأفصح ما قال الآخر: [الطويل]

فأقع كما أقعى أبوك على استه ... رأى أن ريمًا فوقه لا يطاوله وإذا تلا: أي إذا تبع جاء المدى, وهو متلو: أي قد سبق. وقوله: بأربعٍ مجدولةٍ لم تجدل ... فتل الأيادي ربذات الأرجل مجدولة: أي مفتولة بخلق الله سبحانه لم يجدلها الآدميون, وفتل الأيادي: جمع أفتل والمصدر: الفتل, قال الأعشى: [البسيط] جاوزته بطليحٍ حرةٍ سرحٍ ... في مرفقيها إذا استعرضتها فتل وقال: فتل الأيادي وإنما هي (176/ب) يدان؛ فجمع لأن التثنية جمع, وفي الكتاب العزيز: {قالوا لا تخف خصمان} , فكذلك قال: ربذات الأرجل وإنما هي رجلان, والربذات واحدتها ربذة وهي السريعة الخفيفة, قال عنترة: [الكامل] ربذٍ يداه بالقداح إذا شتا ... هتاك رايات التجار ملوم وقوله: آثارها أمثالها في الجندل ... يكاد في الوثب من التفتل يجمع بين متنه والكلكل ... وبين أعلاه وبين الأسفل آثارها: الهاء عائدة على يدي الكلب ورجليه؛ أي إنه يؤثر في الجندل صورًا كصور يديه ورجليه, وجعله يكاد من تفتله في الوثب بجمع بين متنه والكلكل. والمتن: أسفل العجز, والكلكل: الصدر, وهذا يجانس قوله في صفة الأسد: حتى حسبت العرض منه الطولا وبين أعلاه وبين الأسفل؛ أي بين أعلى خلقه وأسفله.

وقوله: شبيه وسمي الحضار بالولي ... كأنه مضبر من جرول الوسمي: أول المطر, والولي الذي يليه, والحضار يريد الفعال من المحاضرة, وهي المفاعلة من الحضر, والحضر: شدة العدو. يريد أن أول عدوه كآخره. ومضبر: أي قد جمع بعضه إلى بعض, ومن ذلك إضبارة الكتب. والجرول: الحجر. وقوله: موثق على رماح ذبل ... ذي ذنبٍ أجرد غير أعزل شبه قوائمه بالرماح, ووصف ذنبه بأنه غير أعزل, وهو من الأذناب الذي يميل إلى أحد الجانبين؛ فكأنه ينعزل عن موضعه, وذلك مذموم في الكلب وفي الفرس, قال امرؤ القيس: [الطويل] بضافٍ فويق الأرض ليس بأعزل وقوله: لو كان يبلي السوط تحريك بلي ... نيل المنى وحكم نفس المرسل يقول: هذا الكلب من فرط نشاطه يحرك ذنبه, فلو كان السوط يبليه التحريك لبلي هذا الذنب. يقول: هذا الكلب نيل المنى؛ أي تنال به الأمنية, ومرسله في الصيد له حكم نفسه. وقوله: وعقلة الظبي وحتف التتفل ... فانبريا فذين تحت القسطل عقلة الظبي: أي كأنه يعقله بعقالٍ. والتتفل: ولد الثعلب, وفذين: أي فردين. وقوله: قد ضمن الآخر قتل الأول ... في هبوةٍ كلاهما لم يذهل هبوة: أي غبار, ولم يذهل: أي لم يذهب عقله بل هو مجتهد؛ فالكلب يجتهد في لحاق الصيد, والظبي لم يذهل عن طلب الخلاص. وقوله: لا يأتلي في ترك ألا يأتلي ... مقتحمًا على المكان الأهول قوله: لا يأتلي أي لا يقصر من قولهم: ألا فهو آلٍ إذا قصر. يقول: المطارد والمطرود

كلاهما لا يأتلي في ترك ألا يأتلي؛ أي لا يقصر في ترك ألا يقصر, والاقتحام: الدخول في الشيء بسرعة. وقوله: حتى إذا قيل له نلت افعل ... افتر عن مذروبةٍ كالأنصل حتى إذا قيل له: الهاء عائدة على الكب, أي قد نلت ما تريد فافعل ما في نفسك. افتر: أي فتح فاه فبدت أسنانه وأنيابه, ومذروبة: أي كأنها محددة وإن كانت لم تحدد. وقوله: كأنها من سعةٍ في هوجل الهوجل: الأرض الواسعة. وقوله: فحال ما للقفز للتجدل ... وصار ما في جلده في المرجل أي كانت قوائمه تقفز وصارت بعد القفز للتجدل. والتجدل: الوقوع على الأرض, وقد مر ذكره. وصار ما في جلده في المرجل؛ أي أخذوا لحمه فجعلوه في قدرٍ. وقوله: فلم يضرنا معه فقد الأجدل سكن العين في معه وذاك جائز؛ إلا أنه ليس باللغة العالية, وأنشد سيبويه: [الوافر] [و] ريشي منكم وهواي معكم ... وإن كانت زيارتكم لماما وأنشد الفراء: [الوافر] ومن يتق فإن الله معه ... ورزق الله مؤتاب وغاد الأجدل: الصقر. يقول: لم يضرنا مع هذا الكلب فقد الأجدل لأنه أغنانا عنه. وقافيتها من المتدارك.

ومن التي أولها

ومن التي أولها عزيز أسى من داؤه الحدق النجل ... عياء به مات المحبون من قبل الوزن من أول الطويل. عزيز: خبر متقدم إذا جعلت «من» معرفةً. وإن جعلتها نكرةً جاز أن يكون عزيز ابتداءً. وذهب بعض النحويين إلى أن المبتدأ والخبر إذا كان نكرتين فالمبتدأ هو الأول لا غير, وقد يكون المبتدأ والخبر نكرتين, وأحدهما أخص من الآخر؛ كقولك: ذهب خاتم في إصبعك. فخاتم هاهنا أخص من ذهب, وهو بأن يكون مبتدأ أولى من ذهب. ويعاء: أي معيٍ لا يعرف دواؤه, ويجوز أن يكون عياء بدلًا من الحدق والنجل, ولا يمتنع أن يكون على إضمار هو. والأسى من قولك: أسوت الجرح إذا أصلحته وداويته. يقال: أسي الجرح أسوًا وأسى, قال الأعشى: [الخفيف] عنده البر والتقى وأسى الشق ... ق وحمل لمضلع الأثقال وقوله: إذا عذلوا فيها أجبت بأنةٍ ... حبيبتا قلبي فؤادي هيا جمل أنه: من أن المريض إذا اشتكى مرضه بصوت ضعيف. وقوله: حبيبتا يجوز أن يكون على معنى النداء: يا حبيبتا أراد حبيبتي فقلب (168/أ) الياء ألفًا. وقوله: قلبي منقطع من قوله حبيبتا؛ كأنه قال: أشكو قلبي, كما يقول القائل إذا أصاب يده شيء: يدي. وقوله: فؤادي مؤد معنى قوله: قلبي, وهو كما يقول من أصابه مؤذٍ في يده: آهٍ يدي كفي؛ أي إني قد أصبت في ذلك الموضع. والنصف الآخر من هذا البيت تفسير لقوله: أجبت بأنةٍ, وقوله: هيا جمل؛ أي أيا جمل على معنى النداء؛ كأنه ناداها واسمها جمل. وقوله: إلى واحد الدنيا إلى ابن محمدٍ ... شجاع الذي لله ثم له الفضل

قال: إلى واحد الدنيا وأراد أن يقول: ابن محمد, فلم يستقم له الوزن فجاء بإلى ثانية, وهم يفعلون ذلك في حروف الخفض كثيرًا, فيقولون: مررت بأخيك بأبي عبد الله, وجلست عند فلان عند كاتب الأمير. وحذف التنوين من شجاع لما كان ساكنًا ولقيته لام التعريف. وقوله: إلى الثمر الحلو الذي طيئ له ... فروع وقحطان بن هودٍ له أصل النسابون يقولون: قحطان بن هود, واسم هود - فيما يزعمون - عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نح, وهذه أسماء أعجمية, وهم يزعمون أن هودًا كان من العرب, فإن كان الأمر على ما ذكر فهو مأخوذ من الهوادة وهي بقية الصلح. يقولون: لا هوادة بينهم؛ أي لم يبق بينهم رجوع إلى صلحٍ ومساومةٍ, وهي من: هاد يهود إذا رجع, ويقال: هود الرجل إذا مشي مشيًا ضعيفًا, وهود في غنائه إذا خفضه, قال الشاعر: [الطويل] أمون من اللاتي تسمعن بالضحى ... قريض الردافى بالغناء المهود الردافى: جمع رديف وهو الذي يردفه الإنسان خلفه. والأخبار متناقضة لأن أصحاب الأخبار يقولون: إن عادًا من العرب, ويدعي بعض الناس أن أول من تكلم بالعربية: يعرب بن قحطان بن هودٍ, والأسماء التي بين قحطان وبين نوح كلها أعجمية, إلا أنهم يدعون أن هودًا اسم عربي. وقوله: إلى القابض الأرواح والضيغم الذي ... تحدث عن وقفاته الخيل والرجل ردد إلى مع المخفوض وقد تقدم القول فيه. وسكن القاف من وقفاته, وتحريكها أحسن, وقد مر مثل ذلك, وإنما يستعمل في الضرورة, قال ذو الرمة: [الطويل] أبت ذكر في الصدر عودن قلبه ... خفوقًا ورقصات الهوى في المفاصل

وقوله: رأيت ابن أم الموت لو أن بأسه ... فشا بين أهل الأرض لانقطع النسل أصل فشا: الهمز, وقد استعملت غير مهموزة, قال الشاعر: [الطويل] تفشأ إخوان الصفاء فعمهم ... وأسكت عني المعولات البواكيا وقوله: على سابحٍ موج المنايا بنحره ... غداة كأن النبل في صدره وبل السابح: الفرس الذي كأنه يسبح في جريه, وهذا البيت يروى للنعمان بن بشير ولغيره, وهو قوله: [البسيط] اليد سابحة والرجل ضارحة ... والعين قادحة والمتن مقبوب يصف فرسًا أنثى ضارحة أي تضرح الحجارة, والضرح: الدفع, والعين قادحة أي غائرة. وقوله: ولولا تولي نفسه حمل حلمه ... عن الأرض لانهدت وناء بها الحمل

يقول: لولا أنا هذا الممدوح تولت نفسه النهضة بحلمه فنابت عن الأرض في ذلك؛ لعجزت الأرض أن تحمله فأصابها هد. وناء بها الحمل أي أسقطها إلى الأرض. يقال: ناء إذا نهض, وناء إذا سقط. والنوء عند العرب سقوط النجم, وهو من الأضداد يكون هبوطًا وطلوعًا. وقوله: ونادى الندى بالنائمين عن السرى ... فأسمعهم هبوا فقد هلك البخل يقال: هب النائم إذا انتبه, قال الشاعر: [الطويل] ألا أيها النوام ويحكم هبوا ... نسائلكم هل يقتل الرجل الحب وكل هاء وباء مشددة فإنما يستعملان في قوة الشيء ونشاطه, يقال: هب النائم لأنه يفارق السكون ويعمد لما يختار, وهبت الريح إذا جاءت بسكونٍ (*) , وهب التيس إذا نشط للسفاد, وهب السيف إذا اهتز للقطع. وقوله: وما تنقم الأيام ممن وجوهها ... لأخمصه في كل نائبةٍ نعل أخمص الرجل: باطنها, شبه بالبطن الخميص, يقال: رجل خمصان, وامرأة خمصانة إذا وصف بانضمام البطن وخموصه, ويقال للجائع: خميص؛ لأن البطن يفقد الطعام فيضمر. وقوله: وما عزه فيها مراد أراده ... وإن عز إلا أن يكون له مثل وما عزه: أي ما غلبه, وعز هاهنا متعد. والأحسن أن يكون في قوله: وإن عز غير متعد, ويقال في الأول: عزه يعزه بضم العين وفي (168/ب) الثاني: عز يعز بالكسر. يقول: ما عزه في هذه الدنيا مراد إلا أن يطلب له مثلًا فذلك متعذر لا يوجد. وقوله: كفى ثعلًا فخرًا بأنك منهم ... ودهرًا لأن أمسيت من أهله أهل

ثعل من طيئ, قال حاتم: [البسيط] يا ليت شعري وليت غير نافعةٍ ... بأي حالٍ بها أمست بنو ثعلا وثعل: من أسماء الثعلب وكذلك ثعالة. وقوله: بأنك منهم: الباء زائدة, وقوله: إنك منهم مع الباء في موضع رفع كالفاعل لكفى, ودهرًا معطوف على ثعل. يقول: كفى ثعلًا فخرًا أنك منهم, وكفى دهرًا فخرًا أنه أهل لأنك من أهله؛ وكأنه رفع أهلًا في آخر البيت على تقدير قوله: ودهرًا هو لأن أمسيت من أهله أهل. وبعض الناس يرفع دهرًا ولا ينبغي أن يلتفت إلى ذلك. وقوله: وويل لنفسٍ حاولت منك غرةً ... وطوبى لعينٍ ساعةً منك لا تخلو طوبى: كلمة مأخوذة من طاب يطيب, ويقال: إن مكوزة الأعرابي قرأ: {طيبى لهم وحسن مئاب}. وزعم سيبويه أن الفعلى إذا كانت أنثى الأفعل لم تستعمل إلا بالألف واللام أو مضافةً, وإنما قال ذلك يريد بها الأكثر من الكلام, وقد جاءت الفعلى, وهي أنثى الأفعل, على غير ما ذكر إلا أنها قليلة, منها قولهم: طوبى. وكان بعض النحويين ينكر قراءة من قرأ: {وقولوا للناس حسنى} , بغير تنوين؛ لأنه يرى أن الصواب: الحسنى. وقد جاءت أشياء نحو هذا كقولك: هم في دنيا صالحة, وإنما هي الدنيا أنثى الأدنى. وقالوا: هذه امرأة أخرى وخلة أخرى؛ وإنما هي أنثى الآخر, قال ابن أبي ربيعة: [الطويل] وأخرى أتت من دون نعم ومثلها ... نهى ذا النهى لو يرعوي أو يفكر وقافيتها من المتواتر.

ومن التي أولها

ومن التي أولها صلة الهجر لي وهجر الوصال ... نكساني في السقم نكس الهلال الوزن من أول الخفيف. يقول: مواصلة الهجر وهجر المواصلة نكساني في السقم نكس الهلال؛ أي كنت صحيح الجسم كامل الخلق فنكسني هذان الشيئان نكس الهلال؛ وذلك أني زدت كما يزيد في أول الشهر, ثم نقصت كما ينقص إلى أن لحقه السرار. وقد شببت الشعراء بالقمر وزيادته ونقصه, وينشد لبعض العرب: [الطويل] ومهما يكن ريب الزمان فإنني ... أرى قمر الليل المعلل كالفتى يكون هلالًا ثم يزداد نوره ... وبهجته حتى إذا تم واستوى تقارب يخبو ضوؤه وبهاؤه ... وينقص حتى يستسر فلا يرى كذلك زيد المرء ثم انتقاصه ... وعودته في عمره بعد ما مضى وقوله: قف على الدمنتين بالدو من ريا كخالٍ في وجنةٍ جنب خال الدمنتان: تثنية دنة, وهي أثر الدار وجمعها دمن, قال الشاعر: [البسيط] يا صاحبي سلا الأطلال والدمنا ... متى يعود إلى عسفان من ظعنا

والدو: الأرض الواسعة المقفرة. والخال: الشامة. يقول: هاتان دمنتان مخالفتان للون الأرض التي هما فيها, كما أن الشامة تخالف الخد في لونه. وقوله: بطلولٍ كأنهن نجوم ... في عراصٍ كأنهن ليال شبه الطلول بالنجوم لأنها عنده مستحسنة لأجل من كان يحلها ممن يحب. والعراص: جمع عرصةٍ, وهي الموضع الواسع من الدار. وجعل العراص كالليالي لأن المرتحلين عنها كانوا فيها كضياء النهار, فلما فارقوها ذهب نورها: فكأن كل عرصةٍ منها ليلة في الإظلام. وقوله: ونؤي كأنهن عليهن ... ن خذام خرس بسوقٍ خدال نؤي: جمع نؤي لأن فعلا يجمع على فعولٍ, ومثل: جند وجنود. وحقيقة جمعه: نؤي فجعلت الواو ياء كما فعل بها في ثدي. واشتقاق النؤي من النأي وهو البعد؛ وذلك أنهم أرادوا أن ينؤوا به الماء عن البيت كيلا يدخل السيل إلى رحالهم. والهاء والنون في عيلهن يجوز أن ترجع إلى الطلول وإلى العراص, ورجوعها إلى الطلول أشبه. وشبه النؤي بالخدام وهي الخلاخيل؛ لأن النؤي يكون مطيفًا بالبيت كما يطيف الخلخال بالساق, ويقال للخلخال: خدمة وخدم وخدام في الجمع, قال الشاعر: [المنسرح] والضاربو الهام في الحروب إذا ... أبدى العذارى مواضع الخدم يريد: إذا فزع النساء فشمرن ذيولهن للهرب فانكشفت خلاخيلهن. وقال آخر: [الخفيف] كيف نومي على الفراش ولما ... تشمل الشام غارة شعواء تذهل الشيخ عن بنيه وتبدي ... عن خدامٍ عقيلة عذراء

وبعضهم ينشد: عن خدام العقيلة العذراء؛ كأنه أراد التنوين فحذف. والخدال: جمع خدلةٍ وهي الساق الكثيرة اللحم, ويقال: امرأة خدلة وساق خدلة, قال ذو الرمة (169/أ) / [الطويل] مليحات الوجوه مبطنات ... جواعل في البرى قصبًا خدالا يعني بالقصب: عظام الأسوق. وقوله: ما تريد النوى من الحية الذو ... واق حر الفلا وبرد الظلال شبهت الشعراء المتقدمة الرجل بالحية وهم يريدون المدح, وإنما يذهبون إلى أنه مهيب لا يجترأ عليه, قال الشاعر: [البسيط] إذا رأيت بوادٍ حيةً ذكرًا ... فاذهب ودعني أمارس حية الوادي ويقولون: حية جبلية إذا وصفوها بالشر, قال الشاعر: [الكامل] ما تزدري من حيةٍ جبليةٍ ... سكاتٍ إذا ما عض ليس بأدردا وقوله: الذواق حر الفلا وبرد الظلال, يصف نفسه بأنه كالحية الذكر لا يستقر في موضع؛ فهو يذوق برد الزمان وحره؛ أي إني قد جربت الأمور ولقيت الشدائد على اختلافها. وقوله: فهو أمضى في الروع من ملك المو ... ت وأسرى في ظلمةٍ من خيال أصل الملك: ملأك فخففت الهمزة, قال الشاعر: [الطويل]

فلست لإنسي ولكن لملأكٍ ... تنزل من جو السماء يصوب وقالوا في الجمع: ملائكة فجاؤوا بالهمزة, وقالوا للرسالة: مألكة. وقولهم: الملائكة على أن مألكةً كالمقلوبة من ملؤكةٍ. يقال: مألكة ومألك؛ فقيل: مألك جمع وقيل واحدة, وقالوا في الجمع مآلك, فدل ذلك على أن الأصل ألك, وقالوا في الأمر: ألكني إلى القوم رسالةً وكأنهم يريدون: ألئك لي؛ فألقوا حركة الهمزة على اللام, قال الشاعر: [الطويل] ألكني إلى قومي السلام رسالةً ... بآية ما كانوا ضعافًا ولا عزلا وقوله: ولحتفٍ في العز يدنو محب ... ولعمرٍ يطول في الذل قال يريد: وهو لحتف في العز محب, ولعمرٍ في الذل قال, عطف هو المضمرة على قوله: فهو أمضى, وكذلك في قوله: ولعمرٍ, أي: وهو لعمر في الذل قالٍ, والقلى: البغض. وقوله: نحن ركب ملجن في زي ناسٍ ... فوق طيرٍ لها شخوص الجمال العرب إذا أرادوا المبالغة في صفة الإنس شبهوهم بالجن, قال الشاعر: [الوافر] خيلٍ كالقداح مضمراتٍ ... عليها معشر أشباه جن يقول: نحن ركب من الجن في زي ناسٍ, وركبانا طير لها شخوص جمالٍ. وقوله: من بنات الجديل تمشي بنا في الـ ... بيد مشي الأيام في الآجال الجديل: فحل من فحول الإبل تنسب إليه, فيقال: فحل جدلي, ويقال إنه كان لمهرة

ابن حيدان, قال الراعي: [الكامل] صهبًا تناسب شدقمًا وجديلا فأما قول ذي الرمة: [الطويل] نجائب مما ذمرت في نتاجها ... بناحية الشحر الجديل وشدقم فإنه أراد مما ذمرت أصحاب الجديل وشدقم. والتذمير: أن يجس الناتج أصل العنق من النتيج؛ فإن كان صلبًا علم أنه ذكر, وإن كان لينًا علم أنه أنثى. وقوله: كل هوجاء للدياميم فيها ... أثر النار في سليط الذبال الهوجاء: الناقة التي تركب رأسها في السير. ولا يقولون: بعير أهوج. ويقولون: ريح هوجاء إذا وصفوها بشدة الهبوب, قال ابن أحمر: [الكامل] ولهت عليه كل معصفةٍ ... هوجاء ليس للبها زبر والدياميم: جمع ديمومةٍ, ويقال: إنها التي يدوم فيها السراب, وهي من دام يدوم. والبصريون يذهبون إلى أن أصلها ديمومة؛ فخففت الياء, وقالوا في ميتٍ: ميت, وفي هينٍ: هين, وإذا أخذ بهذا القول فأصلها: فيعلولة, والموجود منها قيلولة؛ لأن العين ذهبت وهي الياء المتحركة وأصلها الواو. ويقولون: ديموم؛ فيجوز أن يكون جمع ديمومة كما يقولون: رملة ورمل, قال الراجز: [الرجز]

قد جعلت نفسي في أديمي ... ثم رمت بي عرض الديموم في بارحٍ مطرد السموم ... عند طلوع وغرة النجوم الوغرة: شدة الحر. يريد عند طلوع النجم الذي يشتد الحر عند طلوعه؛ وكأنه أراد أن يقول: عند وغرة طلوع النجم, فلم يستقم له الشعر. يقول: هذه الإبل قد أثرت فيها الدياميم تأثير النار في السليط؛ أي الزيت الذي يجعل في الذبال وهي الفتل. وقوله: من يزره يزر سليمان في الملـ ... ـك جلالًا ويوسفًا في الجمال وربيعًا يضاحك الغيث فيه ... زهر الشكر من رياض المعالي نفحتنا منه الصبا بنسيمٍ ... رد روحًا في ميت الآمال شبه الممدوح بسليمان (169/ب) في الملك, والممدوح يعلم أن ذلك كذب؛ ولو كان الشعر في مدح ملكٍ لكان أليق منه إذا كان في قاضٍ, أو تانئٍ. ونسق ربيعًا على سليمان, ونعت الربيع بقوله: يضاحك الغيث فيه زهر الشكر؛ أي إنه إذا جاد روضت معاليه فظهر فيها زهر الشكر. ونفحتنا الصبا من قولهم: ريح نافحة إذا كانت لينةً طيبةً وهي ضد اللافحة؛ لأن اللافحة تستعمل في الحارة. ونسيم الريح أول هبوبها وما ضعف منها. يقول: كانت آمالنا ميتةً فلما نفحتنا منه الصبا بالنسيم رد روحًا في الأمل الميت.

وقوله: والجراحات عنده نغمات ... سبقت قبل سيبه بسؤال زعم أن الجراحات عند الممدوح نغمات تسبق من السؤال سيبه؛ أي يشق عليه ألا يكون سبق إلى المعروف قبل أن يطلب. وقوله: فخذا ماء رجله وانضحا في الـ ... ـمدان تأمن بوائق الزلزال وامسحا ثوبه البقير على دا ... ثكما تشفيا من الأعلال يقول: خذا الماء الذي يغسل به رجله وانضحاه في المدن. والنضح: إصابة بماء يكون قليلًا وكثيرًا, وهو هاهنا القليل. وجمع مدينةً على مدنٍ, وهذا يدل على أن الميم أصلية في المدينة, وأنها من مدن بالمكان إذا أقام به, ولو كانت زائدة لم يجز معها حذف الياء كما لا يجوز في معيشةٍ: معش. والزلزال إذا كسر أوله فهو مصدر, وإذا فتح فهو اسم. والبوائق: الدواهي. وامسحا ثوبه البقير؛ أي هو مبارك يستسعد بان يمسح ثوبه, وأن يصيب الإنسان شيء من ماء طهوره. والثوب البقير: يقال: إنه الذي لم تكمل خياطته, ويقال: البقير ثوب يشق ويلبس. وقوله: وله في جماجم المال ضرب ... وقعه في جماجم الأبطال فهم لاتقائه الدهر في يو ... م نزالٍ وليس يوم نزال استعار الجماجم للمال, وجعل هباته كضرب جماجمه, وحسن أن يستعير الجماجم للمال؛ لأن في آخر البيت جماجم الأبطال. يقول: يهب المال فيعلم الأبطال أنهم إذا أجروا إلى خطأ أو تعدوا على ضعيف كان قادرًا على معاقبتهم؛ وكف أيديهم بالقوم الذين يعطيهم ماله؛ فالأبطال معه طول زمنهم في نزالٍ وإن لم يكن ثم حرب ولا منازلة. وقوله: رجل طينه من العنبر الور ... د وطين العباد من صلصال فبقيات طينه لاقت الما ... ء فصارت عذوبةً في الزلال

ادعى للممدوح أنه خلق من العنبر الورد, والعباد خلقوا من صلصال مسنونٍ, وهو كريه الرائحة. وزعم أن بقايا طيبه لاقت الماء فصارت عذوبةً فيه. والطيب ليس للعذوبة, وكان تشبيهه بغير ذلك أحسن في هذا الموضع؛ فلو قال: بقايا طيبه وافى زهر الربيع أو نحو ذلك؛ لكان أشبه من عذوبة الماء. وقوله: وبقايا وقاره عافت النا ... س فصارت ركانةً في الجبال زعم أن بقايا وقار الممدوح عافت الناس؛ من قولهم: عفت الشيء إذا كرهته, وأكثر ما يستعمل ذلك في الطعام والشراب. قال الشاعر: [الوافر] نزعت ثيابكم والقر مودٍ ... ومالي غير ما جلدي قميص وعفتكم وفي بطني خماص ... وشر الزاد ما عاف الخميص والركانة: مصدر قولهم: رجل ركين إذا كان حليمًا ثابتًا. وقوله: لست ممن يغره حبكم السلـ ... ـم وأن لا ترى شهود القتال ذاك شيء كفاكه عيش شانيـ ... ـك ذليلًا وقلة الأشكال يقول: لست أنا ممن يغره حبك السلم وأن لا ترى أن تشهد القتال؛ فيقول: ليس هو بشجاع؛ وإنما تركت شهود القتال (170/أ) لأنك لا تحتاج إليه, وقد فسر البيت بالذي بعده فقال: ذاك - أمر يعني تركه شهودالقتال - كفاكه ذل شانيك؛ أي مبغضك. وأصل شانيك الهمز. وأغناك عن ذلك أيضًا قلة أشكالك ونظرائك, وإنما يحارب الإنسان من يدانيه في العز والشجاعة.

وقوله: واغتفار لو غير السخط منه ... جعلت هامهم نعال النعال عطف اغتفارًا على قوله: قلة الأشكال وما قبله. والاغتفار: الافتعال من غفر الذنب؛ أي لو غير السخط اغتفارك لجعلت هام أعاديك نعالًا لنعال خيلك. وقوله: لجيادٍ يدخلن في الحرب أعرا ... ءً ويخرجن من دمٍ في جلال أعراء جمع عريٍ. وقوله: يدخلن في الحرب أعراء؛ أي إنك لا توقي خيلك كما يفعل مشاهد الحروب؛ لأنهم يلبسون الخيل التجافيف, ويجتهدون في حمايتها من الرماح والسيوف والنبل. وقد استعملت العرب التجافيف في الشعر القديم, قال المسيب بن علس: [الطويل] خلوا سبيل بكرنا إن بكرنا ... يجب سنام الأكلف المتماحل هو الفيل يمشي خارجًا وسط عرعرٍ ... بتجفافه كأنه في سراول ويقال: فرس مجفف إذا جعل عليه التجفاف, قال عبيد الله بن قيس الرقيات: [الوافر] كأن مجففات الخيل فيه ... إذا مرت برازيقًا فيول البرازيق: الجماعات من الناس, وهي في غير هذا الموضع من الفرسان. وقوله: واستعار الحديد لونًا وألقى ... لونه في ذوائب الأطفال يقول: احمر الحديد بالدم فكأنه استعار لونًا غير لونه, وكأنه ألقى لونه في ذوائب الأطفال أي الشيب؛ لأن السيوف توصف بالبياض, وكذلك الشيب, ولهذا الوجه قال أبو عبادة: [الطويل] وددت بياض السيف يوم لقينني ... مكان بياض الشيب لاح بمفرقي وقافيتها من المتواتر.

ومن أبيات أولها

ومن أبيات أولها أماتكم من قبل موتكم الجهل ... وجركم من خفةٍ بكم النمل الوزن من أول الطويل وقافيتها من المتواتر. ومن التي أولها أحيا وأيسر ما قاسيت ما قتلا ... والبين جار على ضعفي وما عدلا الوزن من أول البسيط. أحيا يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون الشاعر أخبر عن نفسه فقال: أحيا أي أعيش وأيسر ما قاسيت ما قتل. والآخر: أن يكون أحيا في معنى أفعل الذي يراد به التفضيل؛ أي أشد ما يكون في إحياء الإنسان, وأيسر ما لاقيت شيء قاتل؛ فكأن الكلام على التقديم والتأخير, كأنه قال: ما قتل أي الشيء الذي يقتل أحيا وأيسر ما ألقاه. وإذا حمل على هذا الوجه فقد حذف المضاف إليه في قوله: أحيا؛ لأنه أراد أحيا ما لاقيت, وإنما يستعمل ذلك في الشعر, ولو قلت في الكلام المنثور: أكرم وأفضل الناس زيد, تريد: أكرم الناس زيد وأفضلهم, لقبح ذلك, وفيه شبه من قول الفرزدق: [المنسرح] يا من رأى عارضًا أرقت له ز .. بين ذراعي وجبهة الأسد أراد بين ذراعي الأسد وجبهته. وقوله: إلا يشب فلقد شابت له كبد ... شيبًا إذا خضبته سلوة نصلا ادعى أن كبده قد شابت لأن عادتها ألا تبيض؛ وإنما جرت العادة أن يصفوا الرأس بالشيب, وكذلك يستعيرونه للفؤاد, وإنما استحسنوا ذلك لأنهم يقولون: سواد القلب وسويداؤه وسوداؤه؛ فلما وصفوه بالسواد كما يصفون الشباب وصفوه بالمشيب, قال الطائي: [الخفيف]

شاب رأسي وما رأيت مشيب الر ... رأس إلا من فضل شيب الفؤاد وقال الشاعر: [الكامل] نبئت سوداء القلوب مريضةً ... فأقبلت من ضر إليها أعودها يريد بسوداء القلب (170/ب) امرأةً يشبهها بسواد القلب. وإذا وصفوا العدو بشدة العداوة قالوا: هو أسود الكبد, قال الشاعر: [البسيط] لقد طرقت سليمى في منازلها ... وكم عدو لديها أسود الكبد فلما وصفت الكبد بالسواد لم يبعد أن يدعى لها الشيب. وقوله: قيل بمنبج مثواه ونائله ... في الأفق يسأل عن من غيره سألا منبج إن كان اسمًا عربيًا فهو مأخوذ من قولهم: نبج إذا رفع صوته. ويوم النباج يوم من أيام العرب, ويقال: إن النباج مواضع مرتفعة. والقيل: ملك دون الملك الأعظم. وقوله: يسأل عن من غيره سألا؛ كأنه يسأل عنه ليغنيه عن سؤال غيره, أو ليعاتبه إذا لم يسأل هذا الممدوح. وقوله: ترابه في كلابٍ كحل أعينها ... وسيفه في جنابٍ يسبق العذلا كلاب بن ربيعة من بني عامر بن صعصعة, وهم من قيس عيلان. وبنو جنابٍ من كلب ابنوبرة ومرجعهم إلى قضاعة.

ويقال: «سبق السيف العذل» يضرب ذلك مثلًا للأمر إذا فات. ويزعمون أن أصل ذلك أن ضبة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر كان له ولدان يقال لهما: سعد وسعيد؛ فأما سعد فإليه انتهى نسب ضبة, وأما سعيد فسافر ولم يعد. وعمر ضبة إلى أن كبر فكان كلما رأى شخصًا مقبلًا قال: أسعد أم سعيد؛ فصار ذلك مثلًا للخير والشر؛ لأن سعيدًا سافر ولم يعد, وسعدًا أعقب وكثر ولده وكان فيهم سادة. ويقال: إن ضبة بن أد حج فصحب رجلًا في الطريق, وهو - فيما زعموا - الحارث بن كعب, فتحدثا وهما سائران, فمرا بموضع, فقال الحارث بن كعب: لقيت في هذا الموضع غلامًا فقتلته وأخذت سيفه, وهذا هو معي, فقال له ضبة: أرنيه؛ فلما أراه إياه عرفه وقال: الحديث ذو شجون وضرب بالسيف الحارث فقتله, فقيل له: أقتلت رجلًا في الحرم؟ فقال: سبق السيف العذل فصارت مثلًا. وقد روى النسابون ما هو لهذا نقيض والله العالم بيقين الأمور. وقوله: وضاقت الأرض حتى كان هاربهم ... إذا رأى غير شيءٍ ظنه رجلا قد طافت الشعراء حول هذا المعنى إلا أنهم جعلوا المرئي شيئًا, قال الشاعر: [الكامل] مازلت تحسب كل شيءٍ بعدهم ... خيلًا تكر عليهم ورجالا وقال آخر: [الطويل] ولو أنها عصفورة لحسبتها ... مسومةً تدعو عبيدًا وأزنما فجعل أبو الطيب خيال الشيء شيئًا.

وقوله: كم مهمهٍ قذفٍ قلب الدليل به ... قلب المحب قضاني بعدما مطلا يقول: كم مهمهٍ بعيدٍ لا يأمن السائر فيه؛ فقلب دليل القوم يخفق مثل قلب المحب. قضاني فيه ضمير عائد إلى المهمه. يقول: هذا المهمه قضاني ما وعدني بعد أن مطل لبعده. وقوله: عقدت بالنجم طرفي في مفاوزه ... وحر وجهي بحر الشمس إذ أفلا يريد: أنه لم يزل ينظر إلى النجم حتى كأنه قد عقد طرفه به, وقال قال ابن المعتز: [الكامل] فعقدت ناظره مع النجم يقول: عقدت حر وجهي بحر الشمس إذ أفل النجم؛ يريد: أنه سرى ليلًا وسار نهارًا حتى بلغ ما يريد. وقوله: أنكحت صم حصاها خف يعملةٍ ... تغشمرت بي إليك السهل والجبلا الهاء في حصاها عائدة إلى المفاوز. وقوله: أنكحت صم حصاها خف يعملةٍ, من قوله في الأخرى: أنساعها ممغوطة وخفافها ... منكوحة وطريقها عذراء وتغشمرت الناقة وغيرها إذا ركبت رأسها في السير. واليعملة: الناقة التي تعمل في السير, وقلما يخرجون هذا اللفظ عن التأنيث, وقد جاء في بعض الشعر: يعمل في صفة الظليم؛ يريدون أنه يعمل نفسه في البيداء. وقوله: لو كنت حشو قميصي فوق نمرقها ... سمعت للجن في غيطانها زجلا (171/أ) النمرق: الوسادة. يقال: نمرقة ونمرقة. والغيطان: جمع غائط وهو المطمئن من الأرض. وقافيتها من المتراكب.

ومن التي أولها

ومن التي أولها قفا تريا ودقي فهاتا المخايل ... ولا تخشيا خلفًا لما أنا قائل وزنها من الطويل الثاني. الودق هاهنا المطر, وقيل: هو خروج القطر من الغيم بكثرة, وفيهما روى عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس: أن الودق مثل الدخان يخرج مع القطر من الغيم. والذي يدل عليه الاشتقاق أن الودق القطر, سمي ودقًا لأنه يدق من الأرض أي يقرب منها. والمخايل: جمع مخيلة وهي السحابة التي يخال فيها المطر. وفي الحديث: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى مخيلةً أقبل وأدبر كان يخاف أن يكون فيها عذاب». والمعنى: قفا تريا ما أفعل فقد رأيتما دلائله. وقوله: وآخر قطن من يديه الجنادل أي: إني لا أحفل به ولا يقدر لي على مضرة؛ فكأن الجنادل إذا رماني بها قطن من لينها. يقال: قطن وقطن وقطن, قال الراجز: [الرجز] كأن مجرى دمعها المستن قطنة من أجود القطن

ويروى: قطننة, ويجوز أن يكون التشديد استعمله الراجز للضرورة؛ فأما قول لبيد: [الكامل] شاقتك ظعن الحي يوم تحملوا ... فتكنسوا قطنًا تصر خيامها فيقال: أراد تكنسوا قطنًا, أي جعلوا ثيابًا من قطنٍ لهم مثل الكنس جمع كناسٍ, وهو حيث تكون الظبية والبقرة الوحشية. وقيل القطن: جمع قطينٍ وهم أهل الدار. وقيل القطن: جمع قطانٍ وهو جانب الهودج. وقوله: ويجهل أني مالك الأرض معسر ... وأني على ظهر السماكين راجل نصب مالك الأرض على الحال؛ كأنه قال: يجهل هذا الرجل أني في حال ملكي الأرض معسر؛ لأن همتي وعظمها توهمني أني إذا ملكت الأرض فقير. والأحسن أن يكون العامل في مالك الأرض فعلًا مضمرًا هو كنت التي تكتفي باسم واحد, وكذلك يقولون في قول الشاعر: [الطويل] ألم تر أني واردًا بعد سبعةٍ ... لأعمى وأني صادرًا لبصير أراد: أني إذا كنت واردًا أي في حال ورودي. وكنت في معنى وقعت وحصلت. ومالك الأرض نكرة لأنه في معنى الحال. واسم الفاعل إذا كان نكرةً لم يتعرف بالإضافة إلى المعرفة لأن معناه التنوين كأنه قال: أني مالكًا للأرض. ويجوز أن يكون العامل في مالك الأرض قوله: معسر لأن معسرًا اسم فاعل, واسم الفاعل يعمل عمل الفعل إذا كان في معنى الحال أو الاستقبال. وقوله: ومازلت طودًا لا تزول مناكبي ... إلى أن بدت للضيم في زلازل الطود: الجبل. يقال: طود في الأرض إذا جول فيها, وكأنه مأخوذ من الأطواد أي الجبال؛ لأنه إذا سار في الأرض مر بأطوادها, وبعضهم ينشد هذا البيت: [الوافر]

أطود ما أطود ثم آوي ... إلى بيتٍ قعيدته لكاع وأكثر الروايات: أطوف. وقال الراجز: [الرجز] لا هم إن الأسود بن مقصود ... قد أخذ الهجمة ذات التطويد والزلازل: جمع زلزلةٍ وهي الحركة الشديدة. وقوله: فقلقلت بالهم الذي قلقل الحشى ... قلاقل عيسٍ كلهن قلاقل القلقلة: الحركة العنيفة. والأحسن أن يكون في القافية قلاقل بضم القاف لأنه يقال: بعير قلقل وقلاقل؛ فضم القاف أحسن لأن لفظ الفتح قد جاء في قوله: قلاقل عيسٍ. وقولك: كل القوم صالح أقيس من قولك: كل القوم صالحون, وكلا الوجهين حسن. وقوله (171/ب): إذا الليل وارانا أرتنا خفافها ... بقدح الحصى ما لا ترينا المشاعل وهذا المعنى قد سبق إليه الشعراء, قال الشنفرى: [الطويل] إذا الأمعز الصوان لاقى مناسمي ... تطاير منه قادح ومفلل

يعني بالقادح: الذي يطير منه الشرر. وقال هميان في صفة الإبل: [الرجز] توقد سرجًا بالحصى سوارجا وقوله: كأني من الوجناء في متن موجةٍ ... رمت بي بحارًا ما لهن سواحل الوجناء: ناقة صلبة غليظة يقال إنها شبهت بالوجين من الأرض وهو غلظ منقاد, قال المثقب العبدي: [الوافر] كأن مناخها ملقى لجامٍ ... على معزائه وعلى الوجين وقيل: الوجناء العظيمة الوجنة وهي عظم الخد, وشبه الناقة بالموجة ترمي به بحارًا؛ يجوز أن يعني بها الليل أو الأرض الواسعة, أو يريد أن الأمرين قد اجتمعا له. وقوله: يخيل لي أن البلاد مسامعي ... وأني فيها ما تقول العواذل يقول: لا أستقر في مكانٍ فكأن البلاد مسامعي وأنا فيها ما يقوله عاذلي وعاذلتي, فلا يستقر فيها منه شيء. وقوله: ومن يبغ ما أبغي من المجد والعلا ... تساوى المحايا عنده والمقاتل المحايا: جمع محيا من قولهم: حييت محيًا وهو ضد الممات. والأقيس أن يقال: المحايي بياءين كما يقال في المسقى: المساقي, وفي المرمى: المرامي. ويجوز أن تقلب الياء الآخرة ألفًا لاستثقالهم الجمع بين ياءين كما قالوا: نوق معايا جمع معييةٍ.

ومن أبيات أولها

وقوله: غثاثة عيشي أن تغث كرامتي ... وليس بغث أن تغث المآكل يقال: طعام غث بين الغثاثة والغثوثة إذا لم يكن طيبًا, وإنما أخذ من اللحم الغث وهو الذي لا دسم فيه. يقال: ناقة غثة والجمع غثاث, قال كثير: [المتقارب] فغمرت منها ذوات السديف ... وأرويت ما كان منها غثاثا ومن كلام العرب: تركنا بني فلانٍ يتكنفون بالغثاث؛ أي يجعلونها حول بيوتهم. والغثاث: المهازيل؛ أي قد ماتت إبلهم من الهزل فهي حول البيوت. وقال ابن الزبير لقوم من الأعراب: «والله إن كلامكم لغث, وإن سلاحكم لرث, وإنكم لعيال في الجدب, وأعداء في الخصب». ويقال: عرفت غث فلان من سمينه؛ أي رديء علمه من جيده, قال الشاعر: [الوافر] فإنما أن تكون أخي بحق ... فأعرف منك غثي من سميني ويقال: أغث الحديث إذا صار غثًا, قال قيس بن الخطيم: [المنسرح] ولا يغث الحديث ما نطقت ... وهو بفيها ذو لذةٍ أنف وقافيتها من المتدارك. ومن أبيات أولها محبي قيامي ما لذلكم النصل ... بريئًا من الجرحى سليمًا من القتل الوزن من أول الطويل.

محبي: نصب على النداء؛ أي يا محبي قيامي, ويعني بقيامه نهوضه في التماس ما يريد؛ يقال: قام الملك في أمر كذا, ومن ذلك قولهم: كان كذا من قبل أن يقوم النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي من قبل أن يظهر الدعوة إلى الإسلام, قال الشاعر: [الطويل] تبغ ابن كوزٍ في سوانا فإننا ... غذا الناس مذ قام النبي الجواريا وقال الشاعر: [الطويل] إذا مات منا سيد قام سيد ... قؤول لما قال الكرام فعول ويعني بالنصل سيفه؛ كأنه يسألهم: ما له بريئًا من الجرحى سليمًا من القتل؛ كأنه يقول لمحبي قيامه: ما لكم لا تجتمعون إلي تنصروني فأقتل وأجرح ويختضب سيفي بالدم. وقوله: وخضرة ثوب العيش في الخضرة التي ... أرتك احمرار الموت في مدرج النمل السيف يوصف بالخضرة, وأنشد بعض الأعراب: [الطويل] وأشعث يا أم الوليد فليته ... وأشعث يا أم الوليد فلانيا بأخضر يا أم الوليد فليته ... بأخضر يا أم الوليد فلانيا بكفي يا أم الوليد فليته ... بكفيه يا أم الوليد فلانيا السيوف توصف بأن في صفاحها آثار الذر وآثار النمل, قال الشاعر: [الكامل] ومهندًا عضبًا مضاربه ... في صفحه كمدبة النمل

وقال الراجز: [الرجز] كأن فوق متنه مسرى دبا ... فردٍ سرى فوق نقًا غب صبا كأنه عني مدب جرادةٍ صغيرة أول ما تخرج من السر أي بيض الجراد. يقول: سيفي يريك احمرار الموت في مدرج النمل. ويجوز أن يقول: إنك إذا نظرت إلى مدرج النمل فيه أراك احمرار الموت وإن لم تكن ثم حمرة. ويحتمل أن يعني أنه قد جرح فصار الدم في مدرج النمل. أمط عنك تشبيهي بما وكأنه ... فما أحد فوقي ولا أحد مثلي أمط في معنى: أزل, يقول: أمط عنك تشبيهي بأن يقول: كأنه الأسد, وكأنما هو الليث؛ أي إني فرد لا يشابهني شيء من الأشياء. وقوله: وذرني وإياه وطرفي وذابلي ... نكن واحدًا يلقى الردى وانظرن فعلي (172/أ) الهاء في إياه راجعة إلى النصل المذكور في البيت الأول. يقول: ذرني وسيفي وطرفي ورمحي نتعاون على ما أريد؛ فنكون كالواحد؛ أي إن الطرف أصرفه كيف شئت لاقتداري على ذلك, والسيف والرمح لا يخالفاني فيما أريد؛ فكأنني وهذه الأشياء واحد. وقله: ذرني كلمة شاذة استعملت في الأمر والمستقبل فقيل: هو يذر كذا وكذا. وقالوا في الأمر: ذرني للواحد, وذراني للاثنين, وذروني للجميع, وذريني للمرأة, قال ابن الدمينة: [الطويل] خليلي كفا الألسن العوج واعلما ... من العلم ألا هل بي فذراني

ومن أبيات أولها

وقال حاتم الطائي: [الطويل] ذريني ومالي إن مالك وافر ... وكل امرئٍ جارٍ على ما تعودا وأصحاب الرواية يقولون: إن العرب لم تقل: واذر, وقد روي في كلام قديم: تراك وذار. فأما ودع في معنى ترك؛ فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: {ما ودعك ربك وما قلى} أي ما تركك ربك. قال أبو الأسود الدؤلي: [الرمل] ليت شعري عن خليلي ما الذي ... غاله في الود حتى ودعه وقافيتها من المتواتر. ومن أبيات أولها قد شغل الناس كثرة الأمل ... وأنت بالمكرمات في شغل الوزن من المنسرح الأول. قوله: أهلًا وسهلًا بما بعثت به ... إيها أبا قاسمٍ وبالرسل أهلًا وسهلًا كلمة تقال للداخل على الإنسان إذا أراد إكرامه, كأنه يريد: أتيت أهلًا ومكانًا سهلًا, قال طفيل الغني: [الطويل] وبالحزن ميمون النقيبة قوله ... لملتمس المعروف: أهل ومرحب

وقولهم: مرحبًا بالنصب يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون منصوبًا بفعلٍ مضمرٍ ليس من لفظ مرحبٍ. والآخر: أن يكون في معنى: رحبت بلادك مرحبصا. وحكى بعض أهل اللغة: مرحبك الله ومسهلك؛ كأنه دعا له أن يقول له الناس: مرحبًا فجاء بالميم, كما جاؤوا بها في قولهم: تمسكن الرجل, ولما جاء بها في مرحبًا جاء بها في قوله: مسهلك كأنه بناها على أنهم قالوةا: مرحبًا ومسهلًا. ولو لم يتبع أبو الطيب النصف الأول بقوله: إيهًا أبا قاسمٍ وبالرسل لكان قد جعل الترحيب بالهدية دون غيرها. وإيهًا تقال للإنسان إذا أمر بالتقصير عن الشيء والكف, وإيه تقال إذا أردت الزيادة, وكثرت هذه الكلمة حتى صار التنوين كأنه أكمل, وكان الأصمعي يعيب قول ذي الرمة: [الطويل] وقفنا فقلنا إيه عن أم سالمٍ ... وما بال تكليم الرسوم البلاقع والقياس يوجب أن يكون قولهم إيه بغير تنوين مرادًا به المعرفة كأن قال: الزيادة, وإذا نون فكأنه نكرة, كأنه قال: زدني زيادةً, وقد أنشدوا بيتًا فيه إيهًا في معنى الأمر بالكف, وقد جعلت نونه ألفًا في القافية, قال الراجز: [الرجز] إيهًا بني تغلب إيهًا إيها ... نحن بنو الحرب ربينا فيها ويجوز أن يكون حذف النون للضرورة, وقال آخر فحذف الياء من إيها: [الطويل] إهًا عد عن ذكر الشباب فإنما ... يقحمك الأهوال قلب متيم وقال في هذه الأبيات: أبا قاسمٍ فحذف الألف واللام ولم تجر عادته بذلك؛ وقد مدح سيف الدولة وكنيته أبو الحسن فلم يخاطبه بحذف الألف واللام. ومن نظر في القصيدة التي أولها: أنا لائمي إن كنت وقت اللوائم

ومن بيتين أولهما

أجاز أن يكون زاد وسمها بقاسم؛ لأنها مدح في القاسم بن عبيد الله؛ ولعله ترك ذلك مخافة أن يحذف الألف واللام من الاسم لأن ثباتهما فيه أشد إكرامًا للممدوح. وقولك للرجل: يا أبا الحسين أجمل عند العامة من قولك: يا أبا حسينٍ. وقافيتها من المتراكب. ومن بيتين أولهما لا تحسن الشعرة حتى ترى ... منشورة الضفرين يوم القتال وزنهما من أول السريع. يقال: شعرة وشعرة وشعر وشعر. ولو رويت الوفرة لكان أفصح, ويجوز أن يكون قالها على الرواية الأولى. وعلى الثانية؛ فالوفر ذكر الأصمعي أنه من أسماء الشعر؛ حتى ادعى بعض الناس أن قول الأشتر النخعي: [الكامل] بقيت وفري وانحرفت عن العلى ... ولقيت أضيافي بوجه عبوس مراد به الشعر, وليس الأمر كذلك وإنما أراد المال. وقوله: على فتًى معتقلٍ صعدةً ... يعلها من كل وافي السبال الصعدة: قناة (172/ب) تنبت مستويةً ولا تحتاج إلى ثقافٍ, وهي غير مفرطة الطول. ويقال: امرأة صعدة إذا كانت حسنة القوام, قال الشاعر: [الطويل] وثديان كالحقين في صدر صعدةٍ ... تمكن فيها الحسن فاعتم واعتدل

ومن أبيات أولها

وقافيتهما من المترادف. ويقال: عل المسقي إذا سقاه مرةً بعد مرة, وقد جاء معل في معنى عال, وفي أبيات تروى لفروة بن مسيكٍ المرادي: [الوافر] فمنهل صعدةٍ ومعل أخرى ... فما أجلى ظلام الموت حينا ومن أبيات أولها أتاني كلام الجاهل ابن كيغلغٍ ... يجوب حزونًا بيننا وسهولا الوزن من ثالث الطويل. كيغلغ: اسم أعجمي, والعرب تجترئ على الأسماء الأعجمية فتغيرها كما اتفق. والأشبه بأبي الطيب أن يكون قال كيغلغ بالياء لأنه قال في الأخرى: يحمي ابن كيغلغ الطريق فمجيئه بالياء يدل على كونها في هذا الموضع كذلك؛ لأن كيغلغ إلى كيغلغ أقرب منه إلى كلغلغ, وهي في بعض النسخ بلامين على مثال فعلعل مثل: عرمرمٍ وسمعمعٍ. والعرمرم: الجيش الكبير, والسمعمع: الصغير الرأس. وقافيتها من المتواتر. والعرب لم تستعمل هذا الوزن إلا بلينٍ؛ وبان في كلام سيبويه أن هذا الوزن يجب أن يكون قبل الواو التي في قافيته ضمة وقبل يائها كسرة, وأكثر ما يرد الشعر على ذلك, وربما جاء شيء منه بفتح ما قبل حرف اللين كالأبيات التي ترى

لجابر بن رألان السنبسي, وأولها: [الطويل] لعمرك ما أخزى إذا ما سببتني ... إذا لم تقل بطلًا علي ومينا وروى بعضهم لعمرو بن سعد بن أبي وقاص: [الطويل] يقولون ملك الري ما فيه شركة ... لغيرك مبذولًا ولا بقتل حسين وفي قتله النار التي ليس مثلها ... شقاء وملك الري قرة عين فأما المولدون فقد يجيء في شعرهم نحو من هذا؛ لأن الرواية كثرت عنهم فكان شعر الواحد منهم كأِعار جماعة من العرب. وهذان البيتان يرويان لابن المعتز, ولابن الرومي: [الطويل] قضوا ما قضوا من أمره ثم قدموا ... إمامًا إمام الناس بين يديه وقاموا صفوفًا للصلاة كأنما ... أقيموا صفوفًا للسلام عليه وصفراء اسم أم المهجو.

ومن التي أولها

ومن التي أولها لا خيل عندك تهديها ولا مال ... فليسعد النطق إن لم تسعد الحال الوزن من البسيط الثاني. خاطب نفسه وكأنه يخاطب غيره, وذلك كثير في أشعار المتقدمين والمحدثين, قال النابغة: [الطويل] أهاجك من سعداك ربع المنازل ... ببرقة نعمي فروض الأجادل فقال: سعداك وإنما يخاطب نفسه, وكذلك قول الراعي: [الكامل] ما بال دفك بالفراش مذيلا ... أقذًى بعينك أم أردت رحيلا يقول: فإن لم يكن لك مال ولا خيل فليسعد نطقك إذ لم تسعد حالك. وقوله: واجز الأمير الذي نعماه فاجئة ... بغير قولٍ ونعمى الناس أقوال إذا ضمت النون من النعمى فهي مقصورة, وهي ممدودة مع الفتح. يقول: هذا الأمير نعماه تفجأ؛ أي تجيء بغير وعد يتقدمها, ونعمى الناس غيره وعود لا يحصل منها إلا قول لا يتبعه فعل. وقوله: فربما جزت الإحسان موليه ... خريدة من عذارى الحي مكسال

يحث نفسه على جزاء الأمير. يقول: إذا كانت الخريدة وهي الحيية من النساء ربما جزت الإحسان موليه إياها, وهي مع ذلك مكسال أي كثيرة الكسل, فأنت لا عذر لك في جزاء ما أهدي إليك. وقوله: فإن لم تكن محكمات الشكل تمنعني ... ظهور جريٍ فلي فيهن تصهال يقول: إن كنت لا أقدر علي المكافأة من قود الخيل وحمل الأموال؛ لأن شكلي محكمة فهي تمنعني من ظهور الجري - والشكل: جمع شكالٍ وهو ما يشكل به الفرس - فلي ثناء يظهر. وجعل التصهال مثلًا لثنائه على الممدوح. وقوله (173/أ): وما شكرت لأن المال فرحني ... سيان عندي إكثار وإقلال يدعي أن شكره ليس لأنه فرح بالمال, وهذه دعوى لا تصح. وقوله: لكن رأيت قبيحًا أن يجاد لنا ... وأننا بقضاء الحق بخال يقول: ما شكري لأني فرحت بالصلة, لكني رأيت قبيحًا أن يجاد لي وأكرم, وأنا باخل بالجزاء. وبخال: جمع باخل, وجمع بخيل بخلاء. وقال في البيت الذي قبله: ما فرحت, وقال في هذا البيت: أن يجاد لنا وأخبر عن جماعة؛ ولو أمكنه الوزن لكان الإحراء على التوحيد أشبه. وقوله: فكنت منبت روض الحزن باكره ... غيث لغير سباخ الأرض هطال قال في البيت الأول: وما فرحت وما شكرت, وقال في البيت الذي بعده: أن يجاد لنا, واحتاج في هذا البيت إلى أن يقول: فكنت منبت روض الحزن: شبه نفسه به. ويقال: إن الروضة بالحزن أحسن منها بالسهل؛ وذلك أن رعيها يتعذر فلا تطؤها الماشية. والروضة إذا كانت بالسهل كان السوام على رعيها أقدر منه على الروضة إذا كانت بالحزن, وذلك يتردد في الشعر, قال الأعشى: [البسيط]

ما روضة من رياض الحزن معشبة ... خضراء جاد عليها واكف هطل وقيل: إن الحزن في بيت الأعشى موضع بعينه وليس ذلك بممتنع, قال كثير: [الطويل] فما روضة بالحزن طيبة الثرى ... يمج الندى جثجاثها وعرارها فقال الشاعر: أنا كمنبت روض الحزن بكر علي الغيث فهطل بأرضٍ غير سبخةٍ؛ لأن السبخة أرض فيها ملوحة فهي لا تنبت إذا جادها الغيث. وسئل بعض الأعراب عن الأرض السبخة فقال: هي التي لا ييبس ثراها, ولا ينبت مراعاها, أي: إن الغيث وإن كثر جوده لها فإنها لا تنبت؛ إلا أن ثراها لا يزال نديًا فلا منفعة فيه. وقوله: غيث يبين للنظار موقعه ... أن الغيوث بما تأتيه جهال يعني بالغيث: الممدوح وعطاءه. أي: إنه قد وضع الصنيعة في موضعها فبين للناس موقعه أن الغيوث جهال لا تشعر بما تفعل. وإنما ضرب الغيوث مثلًا للملوك؛ أي هذا الرجل علم أني مستحق للعطية فوضعها عندي وجهل ذلك سواه. وقوله: لا يدرك المجد إلا سيد فطن ... لما يشق على السادات فعال يقول: هذا الممدوح له فطنة في الكرم ليست لسواه؛ وكل ذلك تعريض بمن يمكنه أن يعطيه شيئًا وهو لا يفعل. يقال: فطنة وفطنة, والمثل السائر: «البطنة تذهب الفطنة». وقوله: لا وارث جهلت يمناه ما وهبت ... ولا كسوب بغير السيف سئال يقول: لا يدرك المجد إلا سيد يشق على الناس أن يفعلوا فعله؛ لا وارث ورث ماله فهو لم يتعب في جمعه, ولا صاحب مالٍ كسبه بغير السيف.

وقوله: قال الزمان له قولًا فأفهمه ... إن الزمان على الإمساك عذال الهاء في أفهمه وله عائدة على الكسوب بالسيف. والمراد: أن أكرم الناس هو الذي يتعب في جمع المال, ويطلبه باليسف ثم يهبه بعد ذلك. وقوله: تدري القناة إذا اهتزت براحته ... أن الشقي بها خيل وأبطال ادعى للقناة الدراية بما يفعله الفارس الذي هو معه, وهذا مدح للقناة وليس للفارس به فضيلة, ولكن من المبالغة التي تستحسنها الشعراء. وقوله: كفاتكٍ ودخول الكاف منقصة ... كالشمس قلت وما للشمس أمثال يقول: لا يدرك المجد إلا رجل صفاته هذه التي ذكرت, ثم شبهه بفاتك, ثم استدرك ذلك فقال: ودخول الكاف منقصة؛ لأني إذا قلت: مثل فلان فقد جعلت له مثلًا؛ وإنما ذلك مجاز وتوسع, كما أني أقول إذا شبهت الشيء المستحسن على الظاهر: هو كالشمس وليس للشمس أمثال. وقوله: القائد الأسد غذتها براثنه ... بمثلها من عداه وهي أشبال يقول: هذا الممدوح يقود الأسود التي غذتها براثنه بأسدٍ مثلها من أعاديه وهي أطفال, وإنما يعني (173/ب) عبيدًا للممدوح غذاهم في حال صغرهم إلى أن صاروا بعد حال الأشبال إلى حال الأسد فحاربوا معه الأعداء. وبراثن الأسد له مثل الأظفار لابن آدم. وقوله: القاتل السيف في جسم القتيل به ... وللسيوف كما للناس آجال يقول: هذا الممدوح إذا ضرب الفارس قتله, وحطم السيف في جسده؛ فكأن السيف مقتول, وقد مضى نحو من ذلك.

وقوله: تغير منه على الغارات هيبته ... وماله في أقاصي البر أهمال الأهمال: جمع هملٍ, وهو المال الذي لا راعي له. وقوله: تغير منه على الغارات هيبته يحتمل وجهين: أحدهما أن هيبته تغير على غارات عدوه على ماله فتمنعهم من أن يغيروا فماله همل, والآخر أن يريد أن هيبته تغير على غاراته, فهو لا يحتاج إلى أن يغير. وقوله: له من الوحش ما اختارت أسنته ... عير وهيق وخنساء وذيال العير هاهنا: العير الوحشي, وقد ذكر في الأمثال كقولهم: «لا تكن أدنى العيرين إلى السهم» , و «العير أوقى لدمه» , و «الجحش إذا فاتك الأعيار»؛ فهذه الأمثال لعير الوحش. فأما قولهم: «إن هلك عير فعير في الرباط» , فالمراد به عير الأهل؛ أي إن هلك عير لك فعندك عير يقوم مقامه. وقالوا: «كالعير عاره وتده»؛ يعنون الحمار الأهلي؛ والمعنى يراد به أن بعض أصحاب الرجل جنى عليه, فأما قول اليشكري: [الخفيف] زعموةا أن كل من ضرب العيـ ... ـر موالٍ لنا وأنى الولاء فقد اختلفت فيه؛ فقيل معناه: كل من ساق حمارًا, وقيل: إنما عنى إيادًا لأنهم كانوا أصحاب حمير. وقيل: العير اسم جبلٍ, وقيل إن النبي صلى الله عليه وسلم «حرم من عير إلى ثور» , ولا يحتمل أن يكون الشاعر أراده لأن هذه لا تدل عليه وهو في الحديث نكرة, وفي البيت بالألف واللام.

وقيل: أراد بالعير عير الوتد وهو ما نتأ في وسطه, ويجوز أن يحمل هذا القول على أنه أراد الوتد فكنى عنه بالعير لما لم يستقم له الشعر. وقيل: أراد بالعير عير الكتف وهو الناتئ في وسطها؛ أي كل من حمل على كتفه شيئًا أو ضرب كتف غيره في الهزيمة. وقيل: أراد بالعير السيد لأن السادة طال ما أصيبوا بالقتل. وقيل: أراد بالعير كليب وائلٍ لأنه كان سيدًا؛ وإنما حمله على هذا القول أنهم سمعوا هذا البيت: [الوافر] كليت العير كان أقل ذنبًا ... غداة يسومنا بالفتكرين الفتكرين: الداهية. وقيل: أراد بالعير الناتئ من عين الإنسان؛ أي كل من مسح عينه وأمسكها بيده. وقولهم: فعله قبل عيرٍ وما جرى, يجوز أن يعني حمار الوحش, وجريه عدوه. ويحتمل أن يعني عير العين ويكون جريه سيلانه بالدمع, وقد مضى القول في قول امرئ القيس: وواد كجوف العير أنه أراد رجلًا يقال له: حمار فلم يستقم له الشعر فعدل إلى العير. والهيق: ذكر النعام والأنثى هيقة. والخنساء: بقرة الوحش؛ سميت بذلك لصغر أنفها وخنوسه في وجهها. وصرفها في هذا الموضع, وصرف فعلاء قليل جدًا, ولو لم يصرف لدخل البيت زحاف قبيح في الغريزة. وذيال: ثور وحشي سمي ذيالًا لطول ذنبه. وقوله: تمسي الضيوف مشهاةً بعقوته ... كأن أوقاتها في الطيب آصال مشهاةً أي يقال لهم: ما تشتهون؟ وعقوة الدار: فناؤها. وآصال: جمع أصيل مثل قولهم: يتيم وأيتام. والأصيل: آخر النهار وإنما يستطاب في شدة الحر؛ لأن الهواء يصلح في آخر النهار, وهذا نحو من قول الطائي: [الكامل] أيامنا مصقولة أطرافها ... بك والليالي كلها أسحار وقوله: لو اشتهت لحم قاريها لبادرها ... خراذل منه في الشيزي وأوصال

قاريها: الذي يقريها من قرى الضيف. والخراذل: بالذال والدال: قطع اللحم, وينشد لأيوب بن عبيد العنبري وكان أحد اللصوص: [الطويل] وإني وهجري الإنس من بعد حبهم ... وتركي من قد كنت ما إن أزايله لكالصقر جلى بعدما صاد فتيةً ... قديرًا ومشويًا عبيطًا خراذله يقال: صاد القوم وصاد لهم. والشيزى: خشب تعمل منه الجفان, والأوصال: جمع وصلٍ وهو العضو. وقوله: لا يعرف الرزء في مالٍ ولا ولدٍ ... إلا إذا حفز الأضياف ترحال يقال: حفزه إذا دفعه, وإذا أعجله. والمعنى أن هذا الممدح يعد رحيل الضيف رزيةً, وهذه مبالغة تخرج إلى غير الحق؛ لأن رحيل الضيف منفعة له إذا كان مسافرًا, وإنما يعبر بالمضيف كالمجتاز, واجتيازه ألا يتلبث عن طريقه (174/أ) فزعم أن هذا المذكور لا يعرف الرزء في المال ولا الوالد إلا إذا الضيف حفزه الرحيل. وفي الأخبار التي رواها بعض الناس, وهي جديرة بالكذب, أن معد بن عدنان نزل به أضياف في سنةٍ مجدبةٍ فذبح لها ولدًا كان له وقال: [الرجز] نعم إدام الجار والرفيق ... لحم غلامٍ ماجدٍ عريق يلت بالأحساب لا السويق وقوله: يروي صدى الأرض من فضلات ما شربواة ... محض اللقاح وصافي اللون سلسال

سكن الضاد في فلات وتحريكها أجود, وتلك ضرورة. وادعى أن الأرض العطشى يرويها من فضلات ضيوفه محض اللقاح أي لبنها الخالص. واللقاح: جمع لقوح, ويجوز أن يكون جمع لقحةٍ وهي التي تنتج فهي لقوح شهرين أو ثلاثة, ثم هي بعد ذلك لبون. وصافي اللون سلسال أي: خمر, ويروي فعل محض اللقاح. وقوله: تقري صوارمه الساعات عبط دم ... كأنما الساع نزال وقفال يقول: كلما أتته ساعة عبط فيها دمًا في حرب أو قرى ضيف. ويقال: عبط الدم إذا نحر أو ذبح من غير علة, ومات الشاب عبطةً أي لم يئن له أن يموت, قال قطري بن الفجاءة: [الوافر] ومن لا يعتبط يهرم ويسأم ... وتفض به المنون إلى انقطاع والساع: جمع ساعة, كما قالوا: نخلة ونخل, وتمرة وتمر, قال القطامي: [الوافر] وكنا كالحريق أصاب غابًا ... فيخبو ساعةً ويهب ساعا وقوله: تجري النفوس حواليه مخلطةً ... منها عداة وأغنام وأبآل يقول: الدماء حوالي هذا الرجل؛ لأنه يقتل الأعداء, والإبل تنحر لضيوفه, والغنم تذبح فيختلط دم بدمٍ. وقوله: أمضى الفريقين في أقرانه ظبةً ... والبيض هادية والسمر ضلال ظبة السيف: حده. والبيض هادية؛ أي يهتدى بها في ظلمة النقع لأن النهار قد استتر بالغبار, وهذا نحو من قول البحتري: [الخفيف] مد ليلًا على الكماة فما يمـ ... ـشون فيه إلا بضوء السيوف

واستعار الضلال للرماح, وهو يحتمل أنها قد تغيبت في النقع؛ فهي كالضالة فيه من قوله تعالى: {أئذا ضللنا في الأرض} , ويمكن أن يعني بقوله: ضلال أي إنها لا يطعن بها؛ أي إن القوم قد دنا بعضهم من بعضٍ فهم يتضاربون بالسيوف فكأن الرماح ضالة طريقها. وقوله: يريك مخبره أضعاف منظره ... بين الرجال وفيها الماء والآل يقول: هذا الرجل إذا نظرت إليه هالك منظره, فإذا خبرته علمت أن مخبره أضعاف لمنظره, والرجال غيره فيها الماء اولآل؛ أي فيهم من له نفع وفيهم من لا نفع له؛ فمنهم من يرى كالماء, فيكون فيه خير, ومنهم من يظن ماء فيكون آلًا أي سرابًا. وقوله: وقد يلقبه المجنون حاسده ... إذا اختلطن وبعض العقل عقال اختلطن: يجوز أن يعني بها الخيل أو السيوف أو الرماح, والعقال: داء يصيب الخيل فلا تجري في أول الأمر ثم تجري بعد ذلك. يقول: بعض العقل عقال؛ أي يمنع صاحبه التهجم على الحرب. وقوله: إذا العدى نشبت فيهم مخالبه ... لم يجتمع لهم حلم وريبال يقول: إذا نشبت مخالبه [في] العدى لم يجتمع لهم حلم وريبال. وقد مضى القول في الريبال وأنه الأسد؛ أي إنه لا يحلم عنهم في ذلك الوقت لأن الأسد لا يحلم عن الفريسة. وقوله: يروعهم منه دهر صرفه أبدًا ... مجاهر وصروف الدهر تغتال جعل الممدوح دهرًا يغول الأعداء جهارًا. وصروف الدهر تغتال؛ أي تجيئهم وهم لا يعلمون بها وهذا يطرقهم وهم يعلمون. وقوله: أناله الشرف الأعلى تقدمه ... فما الذي بتوقي ما أتى نالوا

يقول: أناله الشرف تقدمه في الحرب, فما الذي نال أعداؤه بتوقي الإقدام, إذ كان لا ينيلهم زيادة مالٍ ولا عمر. وقوله: إذا الملوك تحلت كان حليته ... مهند وأصم الكعب عسال في كان ضمير يعود إلى الممدوح, وحليته ابتداء ومهند خبر. ولا ينبغي أن تنصب حليته لأنها خبر مقدم, فيرفع مهند لأنه اسم كان؛ لأن ذلك يؤدي إلى ضرورةٍ إن صار الخبر معرفةً والاسم نكرةً. وقوله (174/): تملك الحمد حتى ما لمفتخرٍ ... في الحمد حاء ولا ميم ولا دال يريد أن الحمد كله منصرف إليه فليس لأحد جزء منه. وقوله: عليه منه سرابيل مضاعفة ... وقد كفاه من الماذي سربال يقول: على هذا الممدوح سرابيل من الحمد كثيرة, وقد كفاه سربال واحد من الماذي؛ يقال: درع ماذية؛ قيل: هي البيضاء, وقيل: هي اللينة. وقوله: وكيف أستر ما أوليت من حسنٍ ... وقد غمرت نوالًا أيها النال يقال: رجلنال أي كثير النوال, كما يقال: طائر راش أي كثير الريش, ويوم طان أي كثير الطين, وحمار صات أي كثير الصوت, قال النظار الأسدي: [الرجز] كأنني فوق أقب سهوقٍ ... جأبٍ إذا عشر صات الإرنان وقوله: وقد أطال ثنائي طول لابسه ... إن الثناء على التنبال تنبال

العرب تصف الرجل بالطول, ولذلك قال الأعشى: [المتقارب] وإن معاوية الأكرمين ... حسان الوجوه طوال الأمم أي القامات. وصف الممدوح بالطول وزعم أن الثناء على التنبال, وهو القصير, تنبال مثله, وأن ثناءه طال لطول من أثنى عليه. وقوله: إن كنت تكبر أن تختال في بشرٍ ... فإن قدرك في الأقدار يختال يقال: اختال الرجل إذا بانت الخيلاء في مشيه. يقول: إن كنت لتواضعك وفضلك لا تختال في البشر؛ فإن قدرك يختال في أقدارهم من حيث لا تعلم. وقوله: لولا المشقة ساد الناس كلهم ... الجود يفقر والإقدام قتال يقول: لولا أن المجد والسيادة يصعبان لساد الناس أجمعون. ثم ذكر ما يمنع من السيادة وهو الجبن والبخل, فقال: الجود يفقر والإقدام قتال, وقد وصفت الشعراء أن الأخلاق الشريفة تتعذر على الناس, قال الشاعر: [البسيط] يا أيها المتمني أن يكون فتًى ... مثل ابن زيدٍ لقد خلى لك السبلا اعدد نظائر أخلاقٍ عددن له ... هل سب من أحدٍ أو سب أو بخلا وبيت أبي الطيب مثل بيت الطائي وهو قوله: [الخفيف] فعلمنا أن ليس إلا بشق النفـ ... ـس صار الكريم يدعى كريما وقوله: وإنما يبلغ الإنسان طاقته ... ما كل ماشيةٍ بالرجل شملال

ومن أبيات أولها

يقال: ناقة شملال أي حسنة المشي سريعة, وأكثر ما يستعمل في النوق, قال الراجز: [الرجز] وقد أقود بالكرام الأزوال ... مشمرًا بذات لوثٍ شملال وبعض الناس يروي قول امرئ القيس: [الطويل] كأني بفتخاء الجناحين لقوةٍ ... على عجلٍ منها أطأطئ شملالي وقافيتها من المتواتر. ومن أبيات أولها أتحلف لا تكلفني مسيرًا ... إلى بلدٍ أحاول فيه مالا وزنها من أول الوافر. قوله: وأنت مكلفي أنبا مكانًا ... وأبعد شقةً وأشد حالا يقال: نبا المكان بالرجل إذا لم يوافقه فأوجب رحيله عنه, ومنه قولهم: نبا السيف إذا لم يقطع, وذكر الأصمعي في الأمثال قولهم: «الصدق ينبي عنك لا الوعيد» وزعم أنه: من نبا ينبو غير مهموز؛ أي الصدق ينبي عنك أعداءك لا أن توعدهم بالشر. ولو جعلت الياء

ومن التي أولها

في ينبي مخففةً من الهمزة وأخذت الكلمة من قولهم: أنبا الرجل بكذا إذا خبر به لكان ذلك وجهًا؛ إلا أن بعض الناس يرى تخفيف هذه الهمزة ضرورةً, والشقة: البعد. وقوله: إذا سرنا عن الفسطاط يومًا ... فلقني الفوارس والرجالا في الفسطاط لغات يقال: فستاط وفستاط, وتجعل الطاء مكان التاء, فيقال: فسطاط وفسطاط, وحكي: فساط بتشديد السين وضم الفاء وكسرها. وقيل: إنما سميت مصر الفسطاط لأن أول جيش للمسلمين ضرب لرئيسه فسطاط هناك, فحدث من ذلك تسمية الموضع بهذا الاسم. ويقال: إن عمرو بن العاص لما عزل عن مصر ضرب فسطاطه قريبًا من فسطاط معاوية؛ فجعل يتزبع له تزبع التغيظ, ومعنى يتزبع: يقول ما لا يجمل مقال غضبان حقودٍ. والقافية من المتواتر. ومن التي أولها كدعواك كل يدعي صحة العقل ... ومن ذا الذي يدري بما فيه من جهل الوزن من الطويل الأول. يقول: كل الناس يدعي أنه عاقل؛ لأن الإنسان لا يعلم بما فيه من جهل. وقوله (175/أ): لهنك: ذهب قوم إلى أن هذه الهاء بدل من همزة إنك لأن أصل هذه اللام أن تكون في أول الكلام, وهي لام توكيد, فكرهوا الجمع بينها وبين أن لأنهما توكيدان, فلما جعلوا الهمزة هاءً استحسنوا مجيء اللام. ويدل على أنها بدل من همزة إن مجيء اللام في الخبر, قال الشاعر: [الطويل] لهنك من عبسيةٍ لوسيمة ... على هنواتٍ كاذبٍ من يقولها

وأنشد أبو زيد: [الكامل] وأما لهنك من تذكر وصلها ... لعلى شفا يأسٍ وإن لم تيأس وقال قوم: إنما أراد لله إنك, وحذف الهمزة لكثرة الاستعمال, ولأنهم حذفوا من هذا الاسم في قولهم: لاه ابن عمك يريدون: لله, وهذا أقوى من القول الأول, قال الشاعر: [الطويل] لهن هوانا آل ليلي قديم ... وأفضل أهواء الرجال قديمها ولم يجئ باللام في الخبر. وقال آخر: [الطويل] ألا يا سنا برقٍ علي قلل الحمى ... لهنك من برقٍ علي كريم ولما كثر اسم الله جلت عظمته على الألسن حذفوا منه الألف في الوقف فقالوا: [الرجز] أقبل سيل جاء من عند الله ... يحرد حرد الجنة المغله وقال آخر فحذف الألف في الوصل: [الوافر] عليكم لعنة الله من رعاءٍ ... فقد ضاعت رعية ما رعيت أتوني يضحكون ويهلكوها ... كأن وجوههم طليت بزيت

يقول الشاعر للعاذلة: أنت أولى لائمٍ بملامة, وأحوج إلى العذل ممن تعذلين. وضم الذال في يعذل أكثر, وقد حكيت بالكسر. وقوله: تقولين ما في الناس مثلك عاشق ... جدي مثل من أحببته تجدي مثلي نصب مثلك لأنها نكرة, والتقدير: ما في الناس عاشق مثلك فلما قدمت مثلك على عشاق, وهي وصف له, نصبت على الحال كما قال القائل: [الطويل] وتحت العوالي والظبى مستظلةً ... ظباء أعارتها العيون الجآذر نصب مستظلة لأنه نعت لظباءٍ مقدم؛ كأنه قال: وتحت العوالي ظباء مستظلة. ويدلك على أن مثلك نكرة وأن مثل ليست تتعرف بالإضافة إلى المعرفة قول أبي محجن الثقفي: [الكامل] يارب مثلك في النساء غريرةٍ ... بيضاء قد متعتها بطلاق يقول: إذا وجدت مثل من أحببته وجدت مثلي فإذا تعذر وجوده تعذر وجود من يشبهني. وقوله: محب كنى بالبيض عن مرهفاته ... وبالحسن في أجسامهن عن الصقل أراد أنا محب فحذف لعلم السامع, ووصف نفسه بأن أحبابه السيوف, وأنه كنى بالبيض عن المرهفات التي هي الصوارم لا عن المرهفات التي عني بها النساء, وكنى عن الصقل بالحسن.

وقوله: فما حرمت حسناء بالهجرٍ غبطةً ... ولا بلغتها من شكا الهجر بالوصل الغبطة ما يسر الإنسان ويغبط عليه أي يحسد. وأصل الغبط أن يحسد الرجل غيره ويؤثر أن يكون له مثل ماله, ولا يكون له غرض في زوال نعمة المغبوط. والحسد أن يكون الحاسد مشتهيًا لزوال ما أعطيته المحسود, قال لبيد: [المنسرح] كل بني حرةٍ مصيرهم ... قل وإن أكثرت من العدد إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا ... يومًا يصيروا للبؤس والنكد فقال الشاعر على سبيل الادعاء: فما حرمت حسناء غبطةً بالهجر, ولا بلغتها من شكا الهجر بالوصل. الهاء في بلغتها راجعة إلى الغبطة. وقوله: تريدين لقيان المعالي رخيصةً ... ولا بد دون الشهد من إبر النحل يقولون: لقيان ولقيان بضم اللام وكسرها. يقول لعاذلته: تريدين أن تأخذي المعالي رخيصةً ولابد دونها من لقيان الشدائد, كما أن مشتار الشهد يصبر على إبر النحل ليبلغ إلى ما يريد. وجبال السراة يلاقي فيها مشتار العسل شدةً؛ لأنها تكون في مواضع يتعذر إليها الوصول؛ وذلك أن بعضها يعسل في عرض الجبل, فلا يمكن صعود المشتار إليها من أسفل الجبل؛ فيتدلى عليها من أعلاه بحبالٍ. قال أبو ذؤيب يصف المشتار: [الطويل] تدلى عليها بالحبال موثق ... شديد الوصاة نابل وابن نابل فحط عليها والضلوغ كأنها ... من الرعب أشباه السهام النواصل إذا لسعته النحل لم يرج لسعها ... وخالفها في بيت نوبٍ عوامل لم يرج في معنى: لم يخف.

وقوله (175/ب): حذرت علينا الموت والخيل تدعي ... ولم تعلمي عن أي عاقبةٍ تجلي جعل الادعاء الخيل وإنما الادعاء للفوارس, ومثل هذا كثير في كلامهم؛ يستعيرون الشيء من الاسم إلى مقاربه كما يقولون: قامت الحرب, وإنما يريدون قام الذين يتحاربون, وقد علم أن الحرب لا تقوم؛ لأن القيام من أفعال الحيوان. وقوله: ولست غبينًا لو شريت منيتي ... بإكرام دلار بن لشكروزٍ لي البغداديون يفتحون دال دلار وهم أخبر بكلام فارس؛ لأنهم نشأوا مع الديلم وغيرهم من الفرس. والعرب تجري على تغيير الأسماء الأعجمية. ودلار على وزن فعال وليس له اشتقاق في كلام العرب؛ لأن الدلر كلمة لم تستعمل. وقوله: تمر الأنابيب الخواطر بيننا ... ونذكر إقبال الأمير فتحلولي تحلولي: تفعوعل من الحلاوة. يقال: احلولى الشيء فهو محلولٍ, وأصل هذه الكلمة ألا تكون متعدية إلى مفعولٍ, وقد جاءت متعديةً في بعض المواضع, قال حميد بن ثور: [الطويل] فلما مضى عامان بعد انفصاله ... عن الضرع واحلولى دماثًا يرودها وقال تأبط شرًا: [الطويل] يظل بموماةٍ ويمسي بغيرها ... جحيشًا ويعروري ظهور المهالك عدى يعروري إلى جحيشٍ. وفي هذا البيت سناد وهو مجيء الواو قبل اللام التي هي الروي, وسهله بعض التسهيل أن الواو إذا انفتح ما قبلها لم يكمل لينها وكذلك الياء. والسناد خمسة أضربٍ: سناد التأسيس: وهو أن يكون بيت مؤسسًا وبيت غير مؤسس. والتأسيس: ألف بينها وبين حرف الروي حرف يسمى الدخيل, وذلك مثل قول العجاج: [الرجز]

يا دار سلمى يا اسلمي ثم اسلمي ثم قال فيها: فخندف هامة هذا العالم فألف العالم تأسيس. وقيل إن رؤبة كان يعيب هذا من كلام أبيه. وحكي عن يونس بن حبيبٍ أن لغة العجاج كانت أن يهمز ألف العالم, ورؤبة أعلم بكلام العجاج, وفتحة اللام في العالم تسهل السناد بعض التسهيل؛ لأن العادة فيما بعد ألف التأسيس أن يكون مكسورًا في أكثر القصائد, والناس يروون في هذه الأرجوزة: مكرمٍ للأنبياء خاتم فتح التاء في خاتم أقل عيبًا من كسرها, فهذا ضرب من ضروب السناد. والضرب الثاني: سناد الردف؛ وهو أن يجيء بيت مردف وبيت غير مردفٍ كبيت أبي الطيب. فإن كان ما قبل الردف مفتوحًا فهو أحسن من الضم والكسر, ومثل بيت أبي الطيب قول الحطيئة: [الطويل] إلى الروم والأحبوش حتى تناولا ... بأيديهما مال المرازبة الغلف وبالطوف نالا خير ما ناله الفتى ... وما المرء إلا بالتقلب والطوف ومثل ذلك شعر ينسب إلى الكسعي الذي يضرب به المثل في الندامة فيقال: «ندم ندامة الكسعي» وهو: [الوافر]

ندمت ندامةً لو أن نفسي ... تطاوعني إذًا لبتكت خمسي تبين لي سفاه الرأي مني ... لعمر الله حين كسرت قوسي والضرب الثالث من ضروب السناد: سناد الإشباع. والإشباع حركة الحرف الدخيل, وهو الحرف الذي بين حرف التأسيس وحرف الروي في الشعر المطلق, فإذا جاء مفتوحًا مع مكسور فذلك سناد؛ كقول الراجز: [الرجز] يا نخل ذات السدر والجراول ... تطاولي ما شئت أن تطاولي فإن جاءت الضمة مع الكسرة فهو أسهل من مجيء الفتحة معها؛ لأن الكسرة والضمة متواخيتان, قال قيس بن الخطيم: [الطويل] إذا ما فررنا كان أسوا فرارنا ... صدود الخدود وازورار المناكب صدود خدودٍ والقنا متشاجر ... ولم تبرح الأقدام عند التضارب والضرب الرابع من السناد: سناد الحذو وهو أن يكون ما قبل الردف مكسورًا, ثم يجيء مفتوحًا, أو تجيء الفتحة مع الضمة, قال عمرو بن معدي كرب فجاء بياءٍ مكسورٍ ما قبلها مع ياءٍ قبلها فتحة, وفي القصيدة واو ما قبلها مفتوح, قال: [الوافر] تقول ظعينتي لما رأته ... شريجًا بين مبيض وجون تراه كالثغام يعل مسكًا ... يسر الفاليات إذا فليني وفي القصيدة: لصلصلة اللجام برأس طرفٍ ... أحب إلي من أن تنكحيني فأقسم لو جعلت علي دينًا ... بطعة فارسٍ لقضيت ديني

وقال عبيد بن الأبرص: [الوافر] فإن يك فاتني ومضى شبابي ... وأصبح عارضي مثل اللجين فقد ألج الخباء على عذارى ... كأن عيونهن عيون عين (176/أ) والضرب الخامس من السناد هو: سناد التوجيه, وهي حركة ما قبل الروي في الشعر المقيد كان الخليل يرى اختلافها سنادًا كقول امرئ القيس: [المتقارب] لا وأبيك ابنة العامر ... ي لا يدعي القوم أني أفر تميم بن مر وأشياعها ... وكندة حولي جميعًا صبر إذا ركبوا الخيل واستلأموا ... تحرقت الأرض واليوم قر جاء بالفتحة مع الضمة والكسرة, وكان سعيد بن مسعدة لا يرى ذلك عيبًا لأنه كثير في أشعار الفحول. وقوله: فلا عدمت أرض العراقين فتنةً ... دعتك إليها كاشف الخوف والمحل العراقان يراد بهما الكوفة والبصرة, وهما المصران والبصرتان, وقالوا للجزيرة وللموصل: الموصلان, وهو من جنس قولهم: العمران. وكاشف الخوف والمحل يحتمل أن يكون منصوبًا على النداء والحال.

وقوله: ونرمي نواصيها من اسمك في الوغى ... بأنفذ من نشابنا ومن النبل ونرمي نواصيها: أي نواصي خيل الأعداء نرميها إذا سميناك بما هو أقتل لها من نشابنا ومن النبل. والنشاب: كلمة عربية, وهي مأخوذة من قولهم: نشب في الشيء إذا علق به, قال ابن أبي ربيعة: [الكامل] فسمعت ما قالت فبت كأنما ... يرمى الحشى بنوافذ النشاب وقوله: فإن تك من بعد القتال أتيتنا ... فقد هزم الأعداء ذكرك من قبل قبل هاهنا نكرة, ولو كانت معرفةً لضمت وجعلت غايةً, وكذلك إذا جاءت منصوبةً؛ فهي ف يحال التنكير إذا قلت: جئت قبلا. وقوله: ومازلت أطوي القلب قبل اجتماعنا ... على حاجةٍ بين السنابك والسبل السنابك: مقاديم الحوافر, ويقال للأرض الغليظة: سنبك. وجاء في الحديث: «تخرجكم الروم منها كفرًا كفرًا كما أخرجتموهم منها طفرًا طفرًا إلى سنبكٍ من الأرض» قيل: وما ذاك السنبك, قال: «حسمى جذام». يريد الشاعر أنه كان يطوي في نفسه حاجة بين السنابك والسبل؛ أي إني كنت أريد المسير إليك وتلك حاجة بين السبل وبين السنابك؛ يعني سنابك الخيل. وقوله: وخيلٍ إذا مرت بوحشٍ وروضةٍ ... أبت رعيها إلا ومرجلنا يغلي

وصف أن خيلهم سوابق يصطاد عليها الوحش؛ فإذا مرت بروضة ووحش أبت رعيها إلا إذا غلت مراجلنا بلحم الصيد؛ وإنما المراد بهذا الوصف أصحابها وفرسانها؛ لأن الخيل لا يمكن أن تعتقد ذلك, وإنما هذا اللفظ كقولهم: صرعت الخيل فلانًا؛ وإنما صرعه الفارس بطعنةٍ أو ضربةٍ. قال الشاعر: [الطويل] فكان صريع الخيل أول وهلةٍ ... فأهون به مختار جهلٍ على علم وقوله: ولكن رأيت الفضل في القصد شركةً ... وكان لك الفضلان بالقصد والفضل يقول: كان عزمنا أن نقصدك, والقصد مقترن بفضل القاصد؛ فلما اتفق ورودك كان الفضلان لك لأنك جئتنا فلم نحتج أن نسير إليك. وقد شرح هذا البيت بما بعده وهو قوله: وليس الذي يتبع الوبل رائدًا ... كمن جاءه في داره رائد الوبل يقول: ليس الذي يسير فيرد مواقع الغيث كآخر مقيم جاءه المطر في بلاده؛ أي كنت أيها الرجال كالسحاب الذي جاءنا مطره ولم يحوجنا إلى المسير لنرعى ما أنبته فيما بعد من الأماكن. وقوله: وقاد لها دلار كل طمرةٍ ... تنيف بخديها سحوق من النخل هذا المعنى قد سبق إليه الشعراء, قال امرؤ القيس: [المتقارب] وسالفةٍ كسحوق الليا ... ن أضرم فيها الغوي السعر يريد أنها شقراء فكأن غويًا أضرم في رأس نخلة نارًا, وهذا نحو من قول طفيل الغنوي: [الطويل] كأن على أعرافه ولجامه ... سنا ضرمٍ من عرفجٍ متلهب والليان: جمع لينه وهو ضرب من النخل وقال قوم: كل نخلة لينة. وقافيتها من المتواتر.

ومن القصيدة التي أولها

ومن القصيدة التي أولها أثلث فإن أيها الطلل ... نبكي وترزم تحتنا الإبل وزنها من رابع الكامل. قوله: أثلث من ثلثت الاثنين إذا كنت لهم ثالثًا. يقول: نحن نبكي والإبل ترزم؛ أي نحن فابك أيها الطلل أو افعل ما يدل على أسفك. ويقال: أرزمت الناقة إذا حنت. قال أبو ذؤيب: [الطويل] فتلك التي لا يبرح القلب حبها ... ولا ذكرها ما أرزمت أم حائل وقوله: أو لا فلا عتب على طللٍ ... إن الطلول لمثلها فعل يقول: افعل أيها الطلل كما تفعل أو لا تفعل شيئًا, فإن الطلول عادتها ألا تظهر أسفًا على الظاعن. وقوله: لو كنت تنطق قلت معتذرًا ... بي غير ما بك أيها الرجل أبكاك أنك بعض من شغفوا ... ولم ابك أني بعض من قتلوا يقول: لو أنك (176/ب) تقدر على النطق لاعتذرت من تركك البكاء ونحوه؛ فقلت: أبكاك أيها القائل أنهم شغفوك؛ أي غلبوا على قلبك فبكيت إذ فارقوك, ولم أبك لأنهم قتلوني برحيلهم, وليس عند المقتول بكاء ولا غيره مما يفعله الأحياء. وألقى حركة الهمزة من أبك على ميم "لم" وحذفها. وقوله: إن الذين أقمت واحتملوا ... أيامهم لديارهم دول هذا البيت يجوز أن يكون متصلًا بالكلام المحكي على الطلل ولا يمتنع أن يكون من خطاب الشاعر إياه. والبيت يحتمل ضم التاء من أقمت وفتحها.

وقوله: الحسن يرحل كلما رحلوا ... معهم وينزل حيثما نزلوا في مقلتي رشأٍ تديرهما ... بدوية فتنت بها الحلل تشكو المطاعم طول هجرتها ... وصدودها ومن الذي تصل ما أسأرت في القعب من لبنٍ ... تركته وهو المسك والعسل أسأرت: في معنى أبقت, ولم يزل الكلام يحتمل أن يكون حكايةً عن الطلل, وعن الشاعر حتى جاء هذا البيت وهو قوله: قالت ألا تصحو فعلم أنه من كلام الشاعر. وقوله: ملك إذا ما الرمح أدركه ... أود ذكرناه فيعتدل الأود: الاعوجاج, وهذه دعوى مفرطة ولكن الشعراء يفعلون ذلك. يقول: هذا الملك قد عدل في رعاياه حتى إن الرمح إذا اتأذ, أي اعوج, ذكر له فاعتدل. وقوله: حتى أتى الدنيا ابن بجدتها ... فشكا إليه السهل والجبل يقال: هو ابن بجدة الأمر والأرض إذا كان عالمًا بها وبما يشكل من الأمور. يقال: بجد في المكان إذا أقام به, لأن من أقام بالأرض علم كيف تكون أحوال أهلها, وكيف يجب أن يدبرها من وليها, فلما جاء هذا الممدوح إلى الدنيا وهي محتاجة إلى العدل شكا سهلها وجبلها إليه. وقوله: شكوى العليل إلى الكفيل به ... ألا تمر بجسمه العلل يقول: شكا إليه السهل والجبل شكوى العليل إلى الكفيل به, والهاء في به راجعة إلى العليل. والكفيل الذي يكفل أي يضمن, والمضمون أن هذا العليل لا تمر العلل بجسمه.

وقوله: قالت, فلا كذبت, شجاعته ... أقدم فنفسك ما لها أجل ادعى الشاعر أن شجاعة هذا الممدوح قالت له: أقدم فما لنفسك أجل تخشاه كآجال الناس. وقوله: عدد الوفود العامدين له ... دون السلاح الشكل والعقل فلشكلهم في خيله عمل ... ولعقلهم في بخته شغل الوفود تجيء معها بالشكل والعقل, فالشكل تعدها لخيله الموهوبة لهم, والعقل تريدها لإبله التي تصير إليهم. وقوله: تمسي على أيدي مواهبه ... هي أو بقيتها أو البدل يقول: الذي تأخذه الوفود من خيله وإبله على ثلاثة أصنافٍ: فإما أن تكون موفورةً قد كان قبلها غيرها فهي تسلم إليهم, وإما أن تكون قد بقيت منها بقية فهم المحكمون فيها, أو قد وهبها كلها واستبدل غيرها فهم يأخذون البدل. وقوله: نشتاق من يده إلى سبلٍ ... شوقًا إليه ينبت الأسل السبل: المطر. يقول: نشتاق من يده إلى مطرٍ ينبت الأسل, أي الرماح, شوقًا إلى يديه لأنه يطعن به الأعداء. وقوله: سبل تطول المكرمات به ... والمجد لا الحوذان والنفل الحوذان والنفل ضربان من النبت. أي: جودهذا الممدوح تطول به المكارم, وليس هو كغيره من الأمطار ينبت به الحوذان والنفل وغيرهما من النبات. وقوله: وإلىحصى أرضٍ أقام بها ... بالناس من تقبيلها يلل

يقول: ينبت الأسل (177/أ) شوقًا إلى يده وإلى حصى أرضٍ هو نازل بها يقبلها الناس حتى بهم يلل من تقبيلها. واليلل: انقلاب الأسنان إلى داخل. يقال: رجل أيل وامرأة يلاء. قال لبيد: [الرمل] رقميات عليها ناهض ... تكلح الأروق منهم والأيل وقوله: إن لم تخالطه ضواحكهم ... فلمن تصان وتذخر القبل يقول: الناس يشتاقون إلى تقبيل حصى هذه الأرض, وإن لم تخالط ضواحكهم, وهي ما ظهر من أسنان الإنسان إذا ضحك, هذا الحصى المذكور فلأي شيء تذخر القبل؟ وقوله: وإذا الخميس أبى السجود له ... سجدت له فيه القنا الذبل يقول: إذا لم يسجد له الخميس, وإنما أراد بالسجود انحناءهم لتقبيل الأرض, سجدت له فيه - أي في الخميس - القنا الذبل, أي خفضت للطعن فكأنها ساجدة. وقوله: وإذا القلوب أبت حكومته ... رضيت بحكم سيوفه القلل يقول: إذا أبت قلوب الأعداء ما يحكم رضيت القلل بأن تصيبها سيوفه, والقلل أعالي الرؤوس. وقوله: أرضيت وهسوذان ما حكمت ... أم تستزيد, لأمك الهبل وهسوذان: الخارجي الذي خرج على بني بويه, وفي حكمت ضمير عائد إلى سيوف الممدوح وقناه. وقوله: وردت بلادك غير مغمدةٍ ... وكأنها بين القنا شعل يقول: وردت هذه السيوف بلادك يا أيها الخارجي وكأنها شعل بين الرماح.

وقوله: والقوم في أعيانهم خزر ... والخيل في أعيانها قبل الأعيان: جمع عينٍ وهو جمع القلة, وأعين أكثر في الكلام, قال الشاعر: [الطويل] ولكنما أغدو علي مفاضة ... دلاص كأعيان الجراد المنظم وأنشد أبو زيد: [البسيط] إما تري شمطًا في الرأس حل به ... من بعد أسود داجي اللون فينان فقد أروع قلوب الغانيات به ... حتى يملن بأجيادٍ وأعيان وقال آخر في الأعين: [الكامل] ونظرن من خلل السجوف بأعينٍ ... مرضى مخالطها السقام صحاح والخزر أن ينظر الإنسان بجانب عينه الذي يلي الأنف. وقوله: فأتوك ليس لمن أتوا قبل ... بهم وليس لمن نأوا خلل قد تردد في شعره مثل قوله: ليس لمن أتوا قبل, والأحسن أن يكون الفعل موحدًا في خبر من إذا أمكن ذلك. تقول: جاءني من أكرمك؛ فيكون أحسن من قولك: من أكرموك. فأما قوله: فأتوك ليس لمن أتوا فما يمكن فيه توحيد الفعل إذ كان قد سبقه قولهم: أتوك. وقوله: ليس لمن نأوا قد يمكن فيه توحيد الفعل؛ إلا أنه لما جمع في النصف الأول آثر أن يقول: نأوا في النصف الثاني. وقوله: لم يدر من بالري أنهم ... فصلوا ولا يدري إذا قفلوا يقول: أنصار هذا الملك كثير؛ فبعضهم يهزم أعداءه, وجماعة من أصحابه لم يعلموا بغزو الجيش ولا قفوله.

وقوله: فأتيت معتزمًا ولا أسد ... ومضيت منهزمًا ولا وعل يقول: أتيت معتزمًا ولا أسد يعتزم كاعتزامك, ومضيت منهزمًا ولا وعل ينهزم كانهزامك. وقوله: تعطي سلاحهم وراحهم ... ما لم تكن لتناله المقل يقول: انهزمت وأعطيت سلاح هؤلاء القوم الذين هم عند عضد الدولة وراحهم, جمع راحة اليد, ما لم تكن لتناله المقل من بعده. وقوله: أسخى الملوك بنقل مملكةٍ ... من كاد عنه الرأس ينتقل جعل وهسوذان ملكًا, وذكر أن أسخى الملوك بنقل مملكة من كاد عنه الرأس ينتقل؛ يعني وهسوذان. وقوله (177/ب): لولا الجهالة ما دلفت إلى ... قومٍ غرقت وإنما تفلوا يقول: لولا جهالتك أيها الخارجي مادلفت إلى قوم. يقال: دلف الرجل يدلف دلفًا إذا مشى مشيًا متقاربًا مثل مشي الشيخ الكبير. ومشى الرجل في الحرب إذا أثقله السلاح, قال أوس بن حجر: [الطويل] كهمك لا عهد الشباب يضلني ... ولا هرم ممن توجه دالف يقول: دلفت إلى قومٍ غرقت؛ وإنما تفلوا عليك فغرقت في تفلتهم. وتفلوا أي بصقوا. وقوله: لا أقبلوا سرًا ولا ظفروا ... غدرًا ولا نصرتهم الغيل يقول: لم يقبلوا إليك وهم يخفون أنفسهم ليختلوك بذلك, ولا نصروا عليك لغدرٍ

بك؛ وإنما أخذوك ببأسهم وقوتهم ولم تعنهم عليك غيل الدهر؛ أي لم يلحقك موت ولا مرض فيصدك عن القتال. وقوله: لا يستحي أحد يقال له ... نضلوك آل بويه أو فضلوا قدروا عفوا, وعدوا وفوا, سئلوا ... أغنوا, علوا أعلوا, ولوا عدلوا يقال: استحيا الرجل واستحى وقد مر. ونضلوك أصله في النضال أي المراماة؛ يقال: ناضل فلان فلانًا إذا راماه, فإذا غلب واحد منهما الآخر قيل: نضله ينضله, وأصل النضال أن يتراميا لينظر أيهما أجود رميًا وأبعد سهمًا, ثم جعل النضال المراماة في الحرب, قال أبو حية النميري: [الطويل] ألا رب يومٍ لو رمتني رميتها ... ولكن عهدي بالنضال قديم ثم أخرج النضال إلى المفاخرة وإن لم يكن ثم رماء, قال الشاعر: [البسيط] قد ناضلوك فأبدوا من كنائنهم ... مجدًا تليدًا ونبلًا غير أنكاس يقال: إنهم كانوا إذا جزوا ناصية فارس جعلها أحدهم في كنانته, فإذا فاخر أظهرها وقال: هذه ناصية فلان. والمعنى أن الشاعر قال: لا يستحي أحد يقال له: نضلك آل بويه أو نضلوك, وهذا نحو قولهم في صدر الإسلام: ما استحيا فارس انهزم من عبد الله بن خازم السلمي أو من

قطري بن الفجاءة المازني. والبيت الذي أوله: «قدروا» قلما يوجد مثله في الأشعار لأنه أخبر عن الممدوحين بعشرة أخبار في بيتٍ واحد, وهو الرابع من الكامل, ولو أنه الأول لجاز أن يجيء فيه اثنا عشر خبرًا من هذا الجنس. وقوله: فوق السماء وفوق ما طلبوا ... فإذا أرادوا غايةً نزلوا ادعى أن هؤلاء القوم فوق ما يطلبون من المعالي؛ فإذا أرادوا غايةً لا يصل إليها سواهم نزلوا إليها من مراتبهم إذ كانت أشرف مما يلتمسون. وقوله: قطعت مكارمهم صوارمهم ... فإذا تعذر كاذب قبلوا يقول: هؤلاء القوم كرام تصد مكارمهم سيوفهم أن تقتل أعاديهم, فإذا تعذر إليهم المذنبون قبلوا المعاذير, وإن علموا أنها ليست بالصادقة. وقوله: لا يشهرون على مخالفهم ... سيفًا يقوم مقامه العذل يقول: هؤلاء القوم فيهم رفق وإحسان؛ فهم لا يشهرون سيفًا إذا كان القول يكفيهم أن يشهروه. وهذا المعنى قد سبق إليه المتقدمون, وقال بعض الملوك: إذا كفاني الكلام لم أرفع السوط, وإذا كفاني السوط لم أشهر السيف. وقوله: فأبو علي من به قهروا ... وأبو شجاعٍ من به كملوا حلفت لذا بركات غرة ذا ... في المهد ألا فاتهم أمل أبو علي هو: الحسن بن بويه والد عضد الدولة أبي شجاع. يقول: أبو علي الذي ظفرهم بالمملكة, وأبو شجاع كملت لهم به الإرادة. والقافية من المتراكب.

ومن التي أولها

ومن التي أولها ما أجدر الأيام والليالي ... بأن تقول ما له وما لي وزنها من سادس السريع على رأي الخليل, وهي رجز عند العرب. والهاء في قوله: ما له يعني بها نفسه؛ أي ما أجدر الأيام (178/أ) والليالي أن تشتكيني فتقول: ما له وما لي. وقوله: لا أن يكون هكذا مقالي ... فتًى بنيران الحروب صال قوله: لا أن يكون هكذا مقالي؛ أي إني أشتكي وهي جديرة أن تشكوني, وفتًى بنيران الحروب صالٍ يريد به نفسه؛ أي أنا فتى صالٍ بنيران الحروب. وقوله: منها شرابي وبها اغتسالي ... لا تخطر الفحشاء لي ببال الهاء في منها راجعة إلى نيران الحروب, يقول: إذا كان الناس يشربون الماء ويغتسلون به؛ فشرابي من نيران الحروب واغتسالي منها, ولما ذكر الاغتسال جاء بذكر الفحشاء. وقوله: لو جذب الزراد من أذيالي ... مخيرًا لي صنعتي سربال ما سمته سرد سوى سروال ... وكيف لا وإنما إدلالي يقول: لو أن الزراد خيرني فقال: ما تريد أن أصنع لك من اللباس لم أسمه شيئًا سوى سروال من زردٍ؛ لأن لي درعًا ومغفرًا. والرواية: سرد بالإضافة إلى سوى, وتنوين سردٍ أحسن. وقوله: لو جذب الزراد من أذيالي, يعني لو جذب أذيالي لينظر ما مقدار الذي أحتاج إليه. ومن شأن الخياط أن يفعل ذلك. وقوله: بفارس المجروح والشمال المجروح والشمال: فرسان لعضد الدولة.

وقوله: لما أصار القفص أمس الخالي ... وقتل الكرد عن القتال حتى اتقت بالفر والإحفال القفص: موضع في جبال فارس يكون فيه قوم, وهذا الكلام يدل على أن عضد الدولة أوقع بالمقيمين في هذا الموضع وجعله كأمس الذاهب, وهذا كلام قديم, ويروى لصخر ابن عمرو بن الشريد: [الكامل] ولقد قتلتكم ثناء وموحدًا ... وتركت مرة مثل أمس الدابر ويجوز أن يعني بالقفص أهل القفص فحذف المضاف, وقد مضى مثل ذلك. وقوله: وقتل الكرد عن القتال: عن هاهنا كأنها تؤدي معنى الباء الخافضة؛ كأنه قال: وقتل الكرد بالقتال, كما يقال: مرض فلان عن أكل كذا أو عن شربه؛ أي بأكله وشربه. ولا يجوز أن تكون عن هاهنا كقولك: طردهم عن المكان لأن الوجه الأول أبلغ. وقوله: وفي رقاق الأرض والرمال ... على دماء الأنس والأوصال الرقاق من الأرض: أرض صلبة فيها رمل, قال لبيد: [الرمل] ورقاقٍ عسبٍ ظلمانه ... كحزيق الحبشيين الزجل الحزيق جمع حزيقةٍ وهي الجماعة من الناس وغيرهم. والزجل: جمع زجلة وهي الجماعة أيضًا.

وقوله: منفرد المهر عن الرعال ... من عظم الهمة لا الملال قيل إن عضد الدولة كان يتقدم أمام الجيش وحده ولا يكون معه أحد, وكذلك حكي عن نقفور دمستق الروم أنه كان يفعل. وحدث قوم من الصوفية أنهم كانوا في بلاد فارس, وأنهم أصبحوا يومًا وهم أولو كلالٍ, فناموا في الشمس. قال المحدث عنهم كلامًا معناه أنهم أيقظهم فارس قد وقف عليهم, فسألهم عن حالهم, فأخبروه ثم تلاحق به العسكر وإذا هو عضد الدولة؛ فأمر لهم بشيء من المال فعرضه عليهم الخازن فلم يقبلوه, وكان قد رآهم بسوء حالٍ. قال المحدث: فلما رددنا المال رأيناه وهو يبكي. وقوله: ما يتحركن سوى انسلال ... فهن يضربن على التصهال ما يتحركن يعني الخيل, وهذا الكلام عائد إلى الرعال وهي جمع رعيلٍ, والرعيل من الخيل: جماعة عليها فرسان, وقد يجوز أن تكون لا فوارس عليها إلا أنها في هذا الموضع لها فرسان, وجعلهن لا يتحركن لفط الهيبة, وإذا صهلن ضربن ليمسكن فلا يسمع لهن صهيل, هذا من قول الطائي: [الكامل] فالمشي همس والنداء إشارة ... خوف انتقامك والحديث سرار وقوله: كل عليلٍ فوقها مختال ... يمسك فاه خشية السعال من مطلع الشمس إلى الزوال كل عليل يعني مريضًا فوق هذه الخيل, وهو من المختالين الذين تلحقهم (178/ب) الخيلاء لعظم قدرهم عند نفوسهم؛ يمسك فاه خشية أن يسعل لفرط الهيبة. وقوله: فلم يئل ما طار غير آل ... فما عدا فانغل في الأدغال

فلم يئل أي لم ينج, وغير آلٍ غير مقصرٍ, وما عدا من العدو, وانغل في الشيء إذا دخل فيه, قال ذو الرمة: [الوافر] تريك بياض سنتها ووجهًا ... كقرن الشمس أفتق ثم زالا أصاب خصاصةً فبدا كليلاً ... كلا وانغل سائره انغلالا الخصاصة: الفرجة. وقوله: كلا أي مثل قولك: لا, وهذا كقول الآخر في صفة أرض: [الطويل] يكون نزول القوم فيها كلا ولا ... غشاشًا ولا يدنون رحلًا إلى رحل والأدغال جمع دغلٍ وهو شجر ملتف. وقوله: وما احتمى بالماء والدحال ... من الحرام اللحم والحلال الدحال: جمع دحلٍ وهو موضع يضيق رأسه ويتسع أسفله, وربما نبت في أسفله شيء من الشجر. ويوصف القبر بانه كالبئر الدحول؛ يريدون التي فيها موضع يضيق ثم يتسع, قال الشاعر: [الطويل] فإن الذي تبكين قد حال دونه ... تراب وزوراء المقام دحول وقوله: من الحرام اللحم والحلال؛ يعني بالحرام اللحم: الخنزير والدب وما جرى مجراهما, وبالحلال: الظبي والوعل. وقوله: سقيًا لدشت الأرزن الطوال الدشت: الأرض الواسعة, وربما قيلت بالسين, وهي أعجمية, وقد تكلمت بها العرب, قال الأعشى: [المنسرح] قد علمت فارس وحمير والـ ... أعراب بالدشت أيهم نزلا

والأرزن شجر واحدته الأرزنة, وأنشد ابن السكيت: [البسيط] إني وعيشك لا أقضي الغريم وإن ... طال المطال وما رقت له كبدي إلا عصا أرزنٍ طارت برايتها ... تنتوء ضربتها بالكف والعضد وأنشد ابن الأعرابي: [الرجز] لو أن عودًا سمهريًا من قنا ... ومن جياد الأرزنات أرزنا لاقى الذي لاقيته تفننا ... ومن تطاوحه الليالي عننا والدهر والأيام يصبح قدونا وقوله: بين المروج الفيح والأغيال ... مجاور الخنزير للريبال الفيح: جمع أفيح, والأغيال: جمع غيلٍ وهو شجر ملتف وقد مر ذكره. والخنزير يقال إنه ليس بعربي, وقال قوم: النون فيه زائدة وهو من قولهم: بعينه خزر, وقال قوم: بل هو مأخوذ من الخنزرة وهي فأس تكسر بها الحجارة سمي بذلك لغلظه وشدته. وقوله: داني الخنانيص في الأشبال ... مشترف الدب على الغزال الخنانيص: أولاد الخنازير, الواحد خنوص. والخنص غير معروف في كلامهم. أي إن الأسد مجاورة فيه للخنازير, والدب في موضع مشرفٍ فهو يطل على الغزال لأنه في موضع سهل. وقوله: فقيدت الأيل في الحبال ... طوع وهوق الخيل والرجال أهل اللغة يروون في الواحد: أيل وإيل, وقد ذكره هاهنا على أنه جمع, ويجوز أن

يكون أبو الطيب وجده في بعض المواضع, ويجوز أن تكون الأيل جمع إيلٍ من قولهم: آل الشيء إلى كذا إذا صار إليه, ويعني بالأيل ما نجا من الوحوش؛ أي إن الناجي منها قد قيد في حبلٍ. والوهوق جمع وهقٍ, وهو شيء يكون مع الفوارس في الحرب؛ فربما ألقاه الفارس في عنق الآخر فكان ذلك سبب قتله أو أسره. وقوله: تسير سير النعم الأرسال ... معتمةً بيبس الأجذال النعم: يراد به ما يملكه الناس من الإبل, فإذا قيل: الأنعام دخل فيه الظأن والمعز. ويجيء في الشعر مذكرًا ولا يمنتع تأنيثه, قال خفاف بن ندبة: [السريع] قد أشهد الغارة مبثوثةً ... تهوي هوي النعم الوارد أراد أن الأوعال قد كثر صيدها فهي كثيرة كالنعم الذي بعضه في آثار بعضٍ, وكل شيء تتابع من الحيوان فهو أرسال كالجراد والقطا وغيرهما, قال امرؤ القيس: [السريع] فيهن أرسال كرجل الدبا ... أو كقطا كاظمة الناهل وقوله: بيبس الأجذال يعني قرون الوعول. واليبس ما يبس من الشجر؛ ولو رويت: اليبس جمع يابس لكان ذلك وجهًا. والأجذال: جمع جذلٍ وهو وتد غليظ, ويقال لأصل الشجرة: جذل. فأما الحديث الذي جاء فيه: «أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب» ربما في هذا زادوا الكلام: وحجيرها المؤوم. يعني (179/أ) بالجذيل تصغير جذلٍ, وهو وتد ينصب في مراح الإبل لتحتك به الفصال الجربى, فلذلك قال المحكك, قال الهذلي: [الطويل] على أنها قالت رأيت خويلدًا ... تغير حتى صار أسود كالجذل

وعذيقها المرجب يعني تصغير عذقٍ بفتح العين وهي النخلة. والمرجب الذي يبنى تحته مثل الدكان إذا كثر حمله مخافة أن يميل, وقد مر. وحجيرها المؤوم؛ أي المدور الصلب. وقرون الوعول توصف بالعظم, ويقال: وعل ناخس إذا وصل قرنه إلى عجزه فنخسه. وقوله: ولدن تحت أثقل الأحمال ... قد منعتهن من التفالي يقول: هذه الوعول عليها من قرونها ثقل, وهي مولودة معها, وإنما تثقلها في حال الكبر. وقد منعتهن من التفالي؛ أي بعضها لا يفلي بعضًا, لأن قرونها تمنعها من ذلك. والحمر الوحشية يتفالين, قال ذو الرمة, وذكر حمير وحشٍ: [الطويل] وظلت بملقى واجفٍ جزع المعى ... قيامًا تفالى مصلخما أميرها المصلخم: المتكبر, ويعني بأميرها عير الآتن. وقوله: لا تشرك الأجسام في الهزال يعني أن قرونها إذا قل عليها المرعى فهزلت لم تشكرها في الهزال؛ بل هي باقية على ما كانت عليه. وقوله: إذا تلفتن إلى الأظلال ... أرينهن أشنع الأمثال يعني يتلفتن: الوعول. يقول: إذا تلفت إلى أظلالهن رأين خلقًا ليست بالحسنة, وأرينهن: يعني الأظلال. كأنما خلقن للإذلال ... زيادةً في سبة الجهال في خلقن ضمير يعود إلى القرون. يقول: كأنهن خلقن ليذللن الأوعال بثقلهن, وهن مع ذلك زيادة في سبة الجهال؛ لأن العامة يقولون: فلان قران وقرنان وأقرن, يريدون بذلك سبًا قبيحًا.

وقوله: والعضو ليس نافعًا في حال ... لسائر الجسم من الخبل يقول: العضو إذا لم ينتفع به سائر الجسم فهو معدود من الخبال؛ أي يخبل الشخص الذي هو فيه. والخبال يوصف به الفاسد والمضطرب والمتغير العقل وغير ذلك من الأشياء المشاكلة هذه الأجناس. والعضو مبتدأ وخبره: من الخبال. والمعنى: أن اليد والرجل إذا لم ينتفع بها سائر الجسد فهي خبال له أي فساد. وبعض الناس يقول: إن قولهم: سائر كذا ينبغي أن يكون قد تقدمه شيء منه مثلما تقول: جاءني أخوك دون سائر أهلك, فالأخ بعض الأهل, قال الشنفرى: [الطويل] إذا حملت رأسي وفي الرأس أكثري ... وغودر عند الملتقى ثم سائري لما كان رأسه بعض جسده جاز أن يكون سائر بعده, ولا يحسن أن يقال أكلت اللحم دون سائر العنب, وإنما حملهم على هذا القول أنهم يرون سائر الشيء بناءً على فاعلٍ من السؤر أي البقية. يقال: أسأر في الإناء إذا ترك فيه شيئًا قليلًا, وهذا القول يضعف لأن سؤر الشيء بقيته اليسيرة, وسائر يستعمل في الشيء الكثير, قال الشاعر: [الطويل] وما حسن أن يعذر المرء نفسه ... وليس له من سائر الناس عاذر المرء واحد. وقوله: سائر الناس يدخل فيه خلق كثير؛ وكأن هذا الوجه يدفع أن يكون سائر من السؤر, وإنما يجب أن يكون من قولهم: سار الشيء في غيره إذا انتشر فيه. يقول: سار النوم في جسده إذ سكن كل أعضائه, وسار الحديث في الناس إذا انتشر فيهم, ويقوي هذا المذهب أن سائرًا قد جاء وليس قبله شيء من جنسه, قال الراجز: [الرجز] لو أن من يزجر بالحمام ... يقوم يوم وردها مقامي إذا أضل سائر الأحلام

وقوله: فأوفت الفدر من الأوعال ... مرتديات بقسي الضال أوفت أي علت وارتفعت. يقال: أوفى على الشيء إذا أشرف عليه من معالٍ, قال الشاعر: [البسيط] أوفى على الماء كعب ثم قيل له ... رد كعب إنك وراد فما وردا والفدر: الأوعال المسان, قال الراعي النميري: [الكامل] وكأنما انتطحت على أثباجها ... فدر تشابه قد تممن وعولا وقوله: مرتيداتٍ بقسي الضال؛ أي قرونهن على رؤوسهن كالأردية, وقد انحنين على أصلابهن فكأنهن قسي الضال, والضال: ضرب من الشجر وهو السدر (179/ب) البري, وما نبت على الأنهار منه فهو العبري, قال ذو الرمة: [الوافر] قطعت إذا تخوفت العواطي ... ضروب السدر عبريًا وضالا وقوله: نواخس الأطراف للأكفال ... يكدن ينفذن من الآطال يعني أن قرونها تنخس أكفالها بأطرافها ويكدن أن ينفذن من الآطال, جمع إطلٍ, وهو الخاصرة. وقوله: لها لحى سود بلا سبال ... يصلحن للإضحاك لا الإجلال يقول: لهذه الوعول لحى يصلحن أن يضحك بهن, ولا يصلحن للإجلال من قولك: أجللت الرجل إذا أكرمته.

وقوله: كل أثيثٍ نبتها متفال ... لم تغذ بالمسك ولا الغوالي يقول: لحاهن أثيثات النبت فكلها متفال؛ أي ليست رائحته بطيبة. والتفل ضد العطر. وامرأة متفال ضد معطار, قال امرؤ القيس: [الطويل] إذا ما الضجيع ابتزها من ثيابها ... ومالت عليها هونةً غير متفال والغوالي: كل ما غلا من الطيب من غلاء السعر؛ فأما خصومة الناس هذا الضرب من الطيب بالغالية, فيقال: إن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب عليه السلام دخل على معاوية فشم منه رائحةً طيبة فسأله عنها, فوصفها له, فقال معاوية: هذه غالية. والأشبه أن تكون الغالية كل شيء غالٍ من الطيب, وقيل: إن فاطمة عليها السلام قالت لما مات النبي صلى الله عليه وسلم: [الكامل] ماذا على من مس تربة أحمدٍ ... ألا يمس مدى الزمان غواليا صبت علي مصائب لو أنها ... صبت على الأيام صرن لياليا وقوله: ترضى من الأدهان بالأبوال ... ومن ذكي الطيب بالدمال يقول: إنها لا تدهن إلا أن يصيبها شيء من بولها فتقيمه مقام الدهن. والدمال نحو الزبل. وقوله: لو سرحت في عارضي محتال ... لعدها من شبكات المال يقول: هذه اللحية لو سرحت في عارضي رجلٍ محتالٍ لعدها شبكةً يصطاد بها أموال الناس؛ لأنهم إذا نظروا إلى كبر لحيته ظنوا أن فيه خيرًا. وقوله: شبيهة الإدبار بالإقبال ... لا توثر الوجه على القذال فاختلفت في وابلي نبال

يريد أنها تنبت في قفاه كما تنبت في وجهه, فإذا أقبل فله لحية, وإذا أدبر فكذلك. يقول: رميت هذه الوعول بوبلين من نبال. وأصل الوابل في المطر, وهو الشديد الوقع, والنبال: جمع نبلٍ. وقال قوم: لا يقال للواحدة نبلة, وقال غيرهم: بل يقال: نبلة ونبلة, والقياس يوجب أن يقال: نبلة. وقوله: من أسفل الطود ومن معال ... قد أودعتها عتل الرجال في كل كبدٍ كبدي نصال دل على الوابلين من أين مجيئهما بقوله: من أسفل الطود ومن معال. والعتل: القسي الفارسية, وهذا البيت يروى لأمية بن أبي الصلت: [البسيط] يرمون عن عتلٍ كأنها غبط ... وزمخرٍ يعجل الرامين إعجالا ويروى: المرمي إعجالًا, والغبط: جمع غبيطٍ وهو مركب من مراكب النساء. يريد أن قسيهم منقوشة لأنهم كانوا ينقشون غبيط المرأة, والزمخر: سهام قصبية. والرجال: جمع راجل مثل: شاهد وشهادٍ, قال الشاعر: [الطويل] أشد على رجال سعدٍ ونائل ... ومن يدعي الداعي إذا هو نددا والهاء في أودعتها راجعة إلى الأوعال؛ يريد أن الرماة قد جعلت في كبد كل وعلٍ كبدي نصال, وكبد النصل ما غلظ منه. وقوله: فهن يهوين من القلال ... مقلوبة الأظلاف والأرقال يهوين, يعني الوعول, أي يرمين فيتساقطن ولا ينحدرن كعادتهن في الانحدار؛ بل تنقلب أظلافهن وإرقالهن؛ لأنهن كن يقمن على الأظلاف ويرقلن بها فسقطن على غير هذه السجية.

وقوله: يرقلن في الجو على المحال ... في طرقٍ سريعة الإيصال يريد أنهن يسقطن من (180/أ) أعلى الجبل فيسقطن على ظهورهن. والمحال: جمع محالةٍ وهي فقارة الظهر. وقوله: في طرق سريعة الإيصال؛ أي إن الساقط من أعلى الجبل يصل إلى الأرض سريعًا, وإذا انحدر لنفسه أبطأ في النزول. وقوله: ينمن فيها نيمة الكسال ... على القفي أعجل العجال أخبر أنهن ينمن, ولا نوم هنالك, وإنما يشبهن النائم لأنهن يهوين علي جنوبهن كما أن النائم يضطجع. والكسال: جمع كسلان مثل: عطشان وعطاش, ويقال: ما أحسن نيمته أي ضجعته للنوم. يقول: ينزلن على قفيهن تارة وعلى جنوبهن أخرى فنيمتهن نيمة الكسال, وهن على عجلة مفرطة. وقوله: فوحش نجدٍ منه في بلبال ... يخفن في سلمى وفي قبال البلبال ما يجدن في قلوبهن من الفزع, والظاهر في أن سلمى أحد جبلي طيئ, ويجوز أن يكون سلمى هاهنا موضعًا آخر. وقبل جبل بنجد. وقوله: نوافر الضباب والأورال ... والخاضبات الربد والرئال والظبي والخنساء والذيال نصب نوافر على الحال ورفعها أحسن؛ لأنه قال: فوحش نجدٍ فيجعل نوافر كالخبر. والأورال: جمع ورلٍ. ويزعم الناس أن التمساح يبيض ويخرج بعض ما في بيضه إلى البر؛ فيقال له: الورل, وجمعه أورال. والخاضبات: النعام إذا رعت الربيع فخضبت سوقها بالصوم, وقيل: الخاضبات التي ترعى اليساريع فتحمر قوادمها, قال النابغة الذبياني: [البسيط] كالخاضيات من الربد الظنابيب الظنابيب: جمع ظنبوب وهو عظم الوظيف. والرئال: أولاد النعام.

وقوله: يسمعن من أخباره الأزوال ... ما يبعث الخرس على السؤال الأزوال: جمع زول وهو العجب, قال حاتم: [الطويل] عطاؤكم زول ويرزأ مالكم ... فإني بكم ولا محالة ساخر وقوله: فحولها والعوذ والمتالي ... تود لو يتحفها بوال المتالي: جمع متليةٍ وهي التي خلفها ولدها. زعم أن الوحش تود أن يتحفها الممدوح بوالٍ. وقوله: يركبها بالخطم والرحال ... يؤمنها من هذه الأهوال الخطم: جمع خطام, وهو ما تخطم به الدابة. والرحال: جمع رحلٍ. يقول: الوحش في هذه المواضع النائية تود له أتحفها هذا الملك بوالٍ يستخدمها كغيرها من الدواب؛ لتأمن من الأهوال التي لقيتها الوحش في الدشت. وقوله: ويخمس العشب ولا تبالي ... وماء كل مسبلٍ هطال يقول: كيف لهذه الوحش أن يكون عليها والٍ يؤمنها من الصيد فيخمس عليها العشب والماء الذي ترد, كما كانت الخلفاء تبعث السعادة فتأخذ الزكاة من أموال البادية. وقوله: لو شئت صدت الأسد بالثعالي ... أو شئت غرقت العدي بالآل ادعى له ما لا يقدر عليه؛ وإنما قالت العرب: الثعالي والأراني تريد الثعالب والأرانب في ضرورة الشعر فأبدلت الياء من الباء, قال الشاعر: [البسيط] لها أشارير من لحمٍ تتمره ... من الثعالي ووخز من أرانيها

وقوله: ولو جعلت موضع الإلال ... لآلئًا قتلت باللآلي الإلال: جمع ألةٍ وهي الحربة, والناس إذا قالوا: حربة فإنهم يعنون النصل وما تحته. والأجود أن يكون الشاعر أراد هاهنا بالإلال: النصال. يقول: لو مددت إليهم اللآلئ مكان النصال لقتلتهم بها. وقوله: لم يبق إلاطرد السعالي ... في الظلم الغائبة الهلال على ظهر الإبل الأبال كانت العرب تزعم أن السعالي من الجن ويسمونهن الغيلان, وقد مر ذكرهن, والإبل الأبال التي قد اجتزأت بالربيع عن الماء, وكذلك يقال للوحشية, قال الهذلي: [الطويل] به أبلت شهري ربيع كليهما ... فقد بان فيها نسؤها واقترارها نسؤها: ابتداء (180/ب) سمنها, واقترارها فيما قال بعضهم: بولها على أفخذها. ويجوز أن يكون من أنها أقامت بقرارٍ من الأرض. والصواب أن يقال: إبل أو أبل وأبل. وقوله: أبال ضرورة. قال العجاج: [الرجز] وردته قبل قطاه الأرسال ... وقبل فراط الذياب العسال كان ينبغي أن يقول: العواسل أو العسل فجاء به على فعالٍ, وإنما يجيء ذلك لمن يعقل, كقولهم: غائب وغياب, وعاذل وعذال. وقافيتها من المتواتر. * * *

حرف الميم

حرف الميم من القصيدة التي أولها وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه ... بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه وزنها من ثاني الطويل. يقال: طسم الربع وطمس إذا درس. وقوله: بأن تسعدا متعلق بقوله: وفاؤكما؛ إلا أنه فصل بينه وبين الكلام الأول بقوله: كالربع أشجاه طاسمه. وينبغي أن يكون أضمر قوله: وفاؤكما بعد تمام النصف الأول ليكون الموصول متعلقًا بالصلة. وذكر أبو الفتح ابن جني رحمه الله أنه ذكر لأبي الطيب هذا الفصل بين وفاؤكما وبين الباء فأنشده قول الأعشي: [الكامل] لسنا كمن جعلت إيادٍ دارها ... تكريت تمنع حبها أن يحصدا أراد: كمن جعلت تكريت دارها, وقدم إيادًا فوضعها في غير موضعها, وهم يقدمون ويؤخرون إذا كان المعنى مفهومًا عند السامع. وأنشد أبو عبيدة: [الطويل] أتجزع أن نفسًا أتاها حمامها ... فهلا التي عن بين جنبيك تدفع أراد: فهلا تدفع عن التي بين جنبيك. وقوله: والدمع أشفاه ساجمه: الشعراء وغيرهم يقولون: إن البكاء يجلو بعض الهم عن المكروب والمحزون. قال الفرزدق: [الطويل]

ألم تر أني يوم جو سويقةٍ ... بكيت فنادتني هنيدة ماليا فقلت لها إن البكاء لراحة ... به يشتفي من ظن ألا تلاقيا وقال ذو الرمة: [الطويل] لعل انحدار الدمع يعقب راحةً ... من الوجد أو يشفي نجي البلابل وفي حكاية معناها أن بعض المتقدمين قال: ما أصابني هم قط إلا خلوت بنفسي فبكيت فاسترحت. وشبه وفاء صاحبيه بالربع أشجى ما يكون إذا درس, وكأنه لامهما على أنهما لم يسعداه. وبعض الناس يذهب إلى أنه أراد بقوله: وفاؤكما مخاطبةً لعينيه, وكلامه يدل على غير ذلك, والمراد أنه بكى ولم يبك صاحباه, ولو بكيا معه لكان ذلك زائدًا في بكائه. وأشجاه هاهنا اسم فيه معنى التفضيل كقولك: هذا الربع أشجى من غيره. وقوله: وما أنا إلا عاشق, كل عاشقٍ ... أعق خليله الصفيين لائمه تم الكلام عند قوله: وما أنا إلا عاشق, ولو استقام له إدخال الواو على قوله: كل عاشق لكان ذلك أبين؛ لأن السامع ربما ظن أن قوله: كل عاشق متعلق بعاشقٍ الأول. وإنما يقولون: فلان كريم كل الكريم؛ فيجيئون بالألف واللام ولا يحذفونهما في هذا الموضع؛ لأن القائل إذا قال: ما فلان إلا كريم كل كريم جاز أن يكون قوله: كل كريم ابتداء كلام ثانٍ, فأراد بيان ذلك بدخول الألف واللام. وقوله: أعق خليله دليل على أنه أراد الصاحبين لا العينين. وأعقهما: أي أشدهما عقوقًا. وقوله: وقد يتزيا بالهوى غير أهله ... ويستصحب الإنسان من لا يلائمه

يقال: تزيا فلان بكذا, وهو مأخوذ من الزي وهو حسن اللباس. قال الراجز: [الرجز] ما أنا في البصرة بالبصري ... ولا شبيه زيهم بزيي وكان أبو الفتح بن جني رحمه الله يومئ إلى أن القياس يوجب: يتزوا لأنه يأخذ الزي من زويت الشيء إذا أملته إلى نفسك أو إلى غيرك. وزوى الرجل ما بين عينيه إذا أمال بعضه إلى بعض. والعرب إذا أظهرت التاء في كلمةٍ وأصلها من ذوات الواو, فربما جاؤوا بالياء لأنهم يستأنسون باللفظ المسموع كما قالو: تديرت المكان حملوه على لفظ الدار, وأصل الدار الواو لأنهم يقولون في جمع الدار: أدور. ولما قالوا: الزي فجاؤوا بياء مشددةٍ - وقالوا: زوى وجهه عني زيًا إذا قبضه آثروا - (181/أ) أن يقولوا: تزيا بكذا. وأنشد ابن الأعرابي: [المتقارب] أتيت خثيمًا ولم آته ... أريد نداه ولا طالبا فلما رآني زوى وجهه ... ونكت عن حاجبٍ حاجبا فلا برح الزي من وجهه ... ولا زال رائده جادبا وقوله: بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها ... وقوف شحيحٍ ضاع في الترب خاتمه بليت معناه الدعاء, يقول: إن لم أقف بهذه الأطلال فبليت بلاءها. ووصف نفسه بطول الوقوف, وشبه وقوفها بوقوف شحيح ضاع خاتمه فهو يطلبه وينظر إلى الأرض لعله يظهر له, وقد جاء نحو من هذا في وصف الإبل. قال الراجز: [الرجز] إذا قطعن علمًا بدا علم ... يبحثن بحثًا كمضلات الخدم حتى توافين بنا إلى حكم

الخدم: الخلاخيل. ولا يجوز إلا كسر التاء في قوله: خاتمه إذا كان في القافية, لأنه إن فتح التاء صار في القصيدة عيب وهو السناد, وكان أبو الطيب يختار فتح التاء في قوله: وأنكر خاتماي الخنصرا وقوله: كئيبًا توقاني العواذل في الهوى ... كما يتوقى ريض الخيل حازمه نصب كئيبًا على الحال كأنه قال: إن لم أقف كئيبًا. وريض الخيل هو الذي لم تكمل رياضته, وهم يذكرون الريض في الأضداد, وكأن الريض الذي قد ريض فهو غني عن الرياضة, ويقال: ريض للذي هو محتاج إليها. قال الراعي: [الكامل] وكان ريضها إذا ياسرتها ... كانت معاودة الرحيل ذلولا فأما قول الآخر: [الطويل] وجدت أباها رائضيها وأمها ... فأعطيت فيها الحكم حتى حويتها فإنه وصف هذه الناقة بأنها ذلول من نوقٍ ذللٍ وكأنها ورثت ذلك عن أبيها وأمها فلم تحتج إلى رائض يروضها. والمعنى: أني توقاني العواذل كما يتوقى ريض الخيل - أي الذي لم تكمل رياضته - من يريد أن يشد حزامه لأنه لا يأمن منه أن يضربه بيدٍ أو برجل]. وقوله: قفي تغرم الأولى من اللحظ مهجتي ... بثانيةٍ والمتلف الشيء غارمه الأولى رفع بفعلها. ومهجتي نصب لأن الغرامة واقعة عليها. والمراد: قفي يا محبوبة

لتغرم اللحظة الأولى الذي لحظتك مهجتي؛ أي خالص نفسي؛ أي تغرمها بلحظةٍ ثانيةٍ, وذلك أنه أراد أن اللحظة الأولى أتلفت مهجته فوجب عليها الغرم, فإن لحظ ثانيةً - حيي من الحياة - فتكون اللحظة الأولى قد غرمت المهجة باللحظة الثانية, ثم ذكر الحجة الموجبةً له أن يطالب بالوقفة, فقال: والمتلف الشيء غارمه, وهي حكومة بحق. وقوله: سقاك وحيانا بك الله إنمنا ... على العيس نور والخدور كمائمه دعا لها بالسقيا, ثم دعا لنفسه بأن تكون تحيةً له بعد سقياها, وجعل اللواتي في الخدور كالنور. والخدور مثل كمائم الزهر واحدتها كمامة, وهي التي تكون فيها لزهرة قبل أن تتفتح. وقوله: وما حاجة الأظعان حولك في الدجى ... إلى قمرٍ ما واجد لك عادمه ما في أول البيت في معنى: أي شيء يحوج الأظعان اللواتي حولك إلى قمر ليس الذي يجدك بعادم له؛ أي إنك قد قمت مقامه في الضياء. وقوله: إذا ظفرت منك العيون بنظرةٍ ... أثاب بها معيي المطي ورازمه الرازم من الإبل الذي إذا سقط إلى الأرض لم يقدر على القيام؛ فأما قول الراجز: [الرجز] أيا بني عبد مناة الرزام ... أنتم حماة وأبوكم حام لا تسلموني لا يحل إسلام فرزام هاهنا: جمع رازم من قولهم: أسد رازم إذا جثم على الفريسة. وأثاب في معنى أعطى ثوابًا. يقول: إذا نظرت إليك الإبل المعيية جعلت ثواب ذلك أن تنهض وتسير. وقد

فسر بعض الناس أثاب هاهنا بمعنى ثاب؛ أي رجعت إليه قوته؛ ولكن المعروف في هذا: ثاب بغير همزة لأنهم يقولون: ثاب الماء إلى البئر أي رجع, وثاب الرجل إلى قومه (181/ب) إذا رجع إليهم, وقلما يقولون أثاب في هذا المعنى. وقوله: تحول رماح الخط دون سبائه ... وتسبى له من كل حي كرائمه يقول: هذا الحبيب عزيز لا تصل رماح الخط إلى سبائه, وتسبى له الكرائم من الأحياء فتكون له خدمًا. وقوله: ويضحي غبار الخيل أدنى ستوره ... وآخرها نشر الكباء الملازمه يقول: غبار الخيل أدنى ستوره إلينا لأن بيننا وبينه ستورًا كثيرة, أقربها إلينا الغبار, وآخرها - وهو أقربها إليه - نشر الكباء أي رائحته. والكباء: العود الذي يتبخر به. والملازمه: نعت لنشر. وقوله: وما استغربت عيني فراقًا رأيته ... ولا علمتني غير ما القلب عالمه أراد أنه عالم بالأشياء مجرب فما يستغرب شيئًا يشاهده. وهذه دعوى غير صحيحة ولكنها تستحسن فيما عند الشعراء. وقوله: فلا يتهمني الكاشحون فإنني ... رعيت الردى حتى حلت لي علاقمه يقول: لا يتهمني الأعداء فيما أقول, ويظنون أني أتزيد, فإن رعيت الردى؛ أي جعلته لي مرعى؛ حتى استحليت علقمه؛ أي ألفته فكأنه ليس بمر. وقوله: مشب الذي يبكي الشباب مشيبه ... فكيف توقيه وبانيه هادمه يقول: الذي أشب من يبكي الشباب؛ أي الذي جعله شابًا؛ هو الذي يشيبه فكيف توقيه, والذي بناه هو الذي هدمه. والهاء في توقيه راجعة إلى الذي يبكي الشباب, والهاء في بانيه كذلك. ويجوز أن تكون راجعةً إلى الشباب نفسه, وحال الهاء في قوله: هادمه كحالها في بانيه.

وقوله: وتكملة العيش الصبى وعقيبه ... وغائب لون العارضين وقادمه جعل العيش أربعة أقسام: الصبى وما يعقبه من الزمان الذي هو قريب منه. وغائب لون العارضين يجوز أن يعني سوادهما مرةً وبياضهما أخرى, وكذلك القادم من لونهما يحتمل وجهين: أن الغائب والقادم كلاهما غاب, وكلاهما قدم؛ ألا ترى أن لون الشعر الذي ينبت في وجه الأمرد يكون غائبًا عنه دهرًا ثم يقدم بعد ذلك. والبياض جار مجرى السواد لأن المشيب يقدم بعد غيبةٍ. وقوله: وما خضب الناس البياض لأنه ... قبيح ولكن أحسن الشعر فاحمه ذكر في هذا البيت أن الشيب لم يخضب لأنه قبيح, ولكن سواد الشعر أحسن. والشيب الذي أوجب الخضاب أن الإنسان إذا شاب علم أنه طاعن في السن فزهد فيه, لأن الشيب يطمع الشاب في الشيخ. وجاء في بعض الحديث: «عليكم بالخضاب فإنه زينة لنسائكم وهيبة لعدوكم»؛ أي يظنون أنكم شباب. والخضاب قديم. وسئل بعض الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم: هل كان يخضب؟ فقال: لم يكن به من الشيب ما يخضب. وروي أن عليًا عليه السلام خضب مرة ثم لم يعد إلى ذلك. وفي حديث يحكى عن عبيد الله بن الحر الجعفي أنه دخل على الحسين عليه السلام فرأى لحيته كأنها جناح غرابٍ فقال: أشباب ما أرى يا ابن بنت رسول الله, فقال: يابن الحر عجل علي الشيب. قال ابن الحر: فعلمت أنه خضاب. ويقال إن عبد المطلب بن هاشم نزل ببعض الملوك وهو أشيب فأمر الملك بخضابه, فقال عبد المطلب بن هاشم: [الكامل] لو دام لي هذا الشباب رضيته ... وكان بديلًا من شبابٍ قد انصرم أنست إليه والحياة حبيبة ... فلابد من موتٍ, نتيلة, أو هرم

نتيلة: امرأة من النمر بن قاسط كانت عند عبد المطلب فولدت له العباس وضرارًا, وإياها عنى البحتري بقول: [الكامل] نمرية ولدت لكم أسد الشرى ... والنمر - بعد - ووائل أخوان وقوله (182/أ): وأحسن من ماء الشبيبة كله ... حيا بارقٍ في فازةٍ أنا شائمه الفازة: الخيمة, والحياء: المطر العام, وكأنه جعل سيف الدولة حيا بارقٍ. وقوله: عليها رياض لم تحكها سحابة ... وأغصان دوحٍ لم تغن حمائمه يريد أن في الخيمة تصاوير وفيها رياض لم ينسجها السحاب, وإنما صنعها الآدميون, وقد صورت فيها أغصان دوحٍ. والدوح شجر عظام, ومن شأن الأغصان أن يغني بها الحمام. وهذا الدوح لم تغن حمائمه لأنها لا يمكنها أن تقف عليه إذ كان ليس بدوحٍ في الحقيقة. يقال: استداحت الشجرة الصغيرة إذا عظمت. قال الشاعر: [الطويل] عريفجة الحسل استداحت بأرضنا ... فيا لعباد الله للأشر المردي هذا مثل قولهم: «إن البغاث بأرضنا يستنسر»؛ أي إن الحقير عندنا يتعظم. والبغاث: ما لا يصيد من الطير. وقوله: ترى حيوان البر مصطلحًا بها ... يحارب ضد ضده ويسالمه يقول: هذه الخيمة قد اصطلح في تصاويرها حيوان البر, فكأن بعضه لا يريب بعضًا, فالأسد لا يروع الشاة ولا غيرها من الفرائس. والنصف الثاني من البيت شرح للأول لأنه قال: يحارب ضد ضده, وهذه صفة حيوان البر, ثم قال: ويسالمه؛ أي هذا الحيوان الذي في الخيمة يسالم بعضه بعضًا لا يروعه.

وقوله: إذا ضربته الريح ماج كأنه ... تجول مذاكيه وتدأى ضراغمه يقول: إذا ضربت هذا الحيوان الريح ماج فكأنه تجول مذاكيه أي خيله المسان. وتدأى ضراغمه أي تختل. أداه ودآه إذا ختله, فمضارع أدا: يأدو, ومضارع دأى: يدأى, ومن أمثالهم: «الذئب يأدو للغزال يختله» , وبعض الناس يروي: يذأى بالذال معجمة, يأخذه من: ذأى الفرس إذا عدا, والوجه الأول هو الصواب. وقوله: وفي صورة الرومي ذي التاج ذلة ... لأبلج لا تيجان إلا عمائمه كان ملك الروم مصورًا في الخيمة وقد صور معه سيف الدولة, وقد اعتمد المصور أن يذلل الرومي لصورة سيف الدولة. ومن كلامهم القديم: «العمائم تيجان العرب والسيوف أرديتها والحبى جدرانها». وقوله: تقبل أفواه الملوك بساطه ... ويكبر عنها كمه وبراجمه البراجم: عقد الأصابع الأواخر وهي التي تليها الأشاجع, وقيل: هي عروق ظاهر الكف, وقيل: بل هي عظامها, ويقال: إن البرجمة غلظ الكلام. والبراجم أحياء من تميم, ومن أمثالهم: «إن الشقي وافد البراجم»؛ وذلك أن عمرو بن هند اللخمي لما قتل أخوه أسعد, وكان مسترضعًا في بني دارم, آلى أن يقتل منهم مئةً؛ فلما قتلهم يوم أوارة بقي واحد لم يقتله ولم يجد دارميًا يتم به المئة. واجتاز بهم رجل من البراجم فاشتم رائحة القتار فظن أن ثم طعامًا فجاء يلتمس ذلك, فلما جاء سئل عن نسبه فذكر أنه من البراجم؛ وهم من تميم؛ فيقال: إن عمرو بن هند, أو غيره قال: إن الشقي وافد البراجم وأمر بطرحه في النار.

وقوله: قيامًا لمن يشفي من الداء كيه ... ومن بين أذني كل قرمٍ مواسمه قيامًا نصب على الحال من الملوك. وقوله: يشفي من الداء كيه مثلًا لما يعلم من الأمور وليس ثم كي. يريد أنه إذا خرج خارجي أو اختلت ناحية من الأرض أزال ما بها؛ إما بالسيف وإما بالرأي. وقد استعملت العرب ذلك في القديم وكنوا بالكي عن الأمر العظيم, ولا كي هنالك. قال جرير: [الوافر] وأشفي من تخلج كل جن ... وأكوي الناظرين من الخنان وقال آخر: [الكامل] أرجأته عني فأبصر قصده ... وكويته فوق النواظر من عل والقرم: أصله الفحل من الإبل ثم استعمل للإنس. والمواسم: جمع ميسم وهو الذي يوسم به (182/ب) النعم. قال المتلمس: [الطويل] ولو غير إخواني أرادوا نقيصتي ... جعلت لهم فوق العرانين ميسما وقوله: قبائعها تحت المرافق هيبةً ... وأنفذ مما في الجفون عزائمه أراد بالقبائع: قبائع السيوف, وحذف المضاف إليه لأنه أراد قبائع سيوف الملوك. وقوله: له عسكرًا خيلٍ وطيرٍ إذا رمى ... به عسكرا لم تبق إلا جماجمه

هذا المعنى قد استوفاه النابغة في مدحه غسان وقد مر ذكره. يقول: لهذا الممدوح عسكرًا خيلٍ وطيرٍ؛ أي تتبع عسكره الطير لتأكل من القتلى, وهي تأكل اللحم وتدع الجماجم لأنها عظام. وقوله: أجلتها من كل طاغٍ ثيابه ... وموطئها من كل باغٍ ملاغمه يقول: ثياب أعدائه تصير أجلةً لخيله وموطئها من الطغاة ملاغمهم. والملاغم ما حول الفم والأنف. يقال: تلغم فلان بالطيب إذا وضعه في ذلك الموضع. قال أبو حية النميري: [الطويل] ولكنه والله ما طل مسلمًا ... كغر الثنايا واضحات الملاغم وقوله: فقد مل ضوء الصبح مما تغيره ... ومل سواد الليل مما تزاحمه أراد: تغير فيه. وأكثر ما تكون الغارة في الصبح؛ ولذلك قالوا في كلامهم: يا صباحاه, لأن الغارة تجيئهم في ذلك الوقت, فإن استعاروا الغارة لليل فإنما ذلك نادر, وإنما قيل لها غارة من قولهم: أغار إذا عدا عدوًا شديدًا. قال عبيد الله بن قيس الرقيات في صفة الخيل: [الخفيف] بدلت بالشعير والقت والمـ ... ـحض ومسح الغلام تحت الجلال غارة الليل والنهار فما تصـ ... ـبح إلا معدةً للقتال وقوله: ومل القنا مما تدق صدوره ... ومل حديد الهند مما تلاطمه هذه كلها استعارات تستحسن في الشعر ولا حقيقة لها في الأصل, لأن الصبح لا يمل الغارة والليل لا يمل سراها فيه, ولا حس للرماح فتمل حطمها في الطعان, وحديد الهند غير عالمٍ بالضراب.

وقوله: سحاب من العقبان يزحف تحتها ... سحاب إذا استسقت سقتها صوارمه شبه العقبان بسحابٍ يظل العسكر. ويزحف تحتها سحاب يعني سيف الدولة. إذا استسقت يعني العقبان؛ وإنما يعني استسقاء الدم. سقتها صوارمه؛ أي يقتل بها الأعداء فتشرب دماءها العقبان. وقوله: سلكت صروف الدهر حتى لقيته ... على ظهر عزمٍ مؤيداتٍ قوائمه مؤيداتٍ في معنى مؤيداتٍ أي قويات. والأيد: القوة, وكأنهم قالوا: آد الرجل إذا قوي؛ فلما عدوه بالهمزة - كما قالوا: قام وأقمته - اجتمعت همزتان فرأوا تصحيح الياء أخف من الإتيان بالهمزتين, وقرأ بعضهم: {وأيدناه بروح القدس} ولذلك قالوا: فلان مؤيد؛ أي قوي. قال المثقب العبدي: [السريع] ينبي تجاليدي وأقتادها ... ناوٍ كرأس الفدن المؤيد وقوله: مهالك لم تصحب بها الذئب نفسه ... ولا حملت فيها الغراب قوادمه البيت يحتمل وجهين: أحدهما: أن الذئب إذا سلك بها فارقته نفسه, وكذلك الغراب إذا طار فيها لم تحمله قوادمه فيهلك. والآخر: أن يكون الذئب لا يقدر أن يصل إليها فهو لم يسلكها قط, وكذلك الغراب لم يطر في هذه الأرض فتخونه القوادم, وهذا كقول الأفوه: [السريع] لا يذعر البهمة سرحانها ... ولا رواياها حياض الأنيس

أي ليس فيها بهمة يذعرها السرحان. وقوله: فأبصرت بدرًا لا يرى البدر مثله ... وخاطبت بحرًا لا يرى العبر عائمه أي إذا طلع القمر المبدر لم يكن تحته مثل هذا الممدوح, واستعار الرؤية للقمر, ولو رويت: لا يرى البدر مثله على أن يجعل مثله فاعله لكان المعنى صحيحًا. والعبر: شاطئ البحر الذي يعبر إليه, وكذلك شاطئ النهر, والعائم: السابح. وقوله (183/أ): غضبت له لما رأيت صفاته ... بلا واصفٍ والشعر تهذي طماطمه الطماطم: جمع طمطم وهو الذي لا يفهم كلامه. قال عنترة: [الكامل] تأوي له حزق النعام كما أوت ... حزق يمانية لأعجم طمطم يقول: غضبت للممدوح لما رأيت الشعراء مقصرين في المدح فجئت ليعلم مكاني في المديح. وقوله: على عاتق الملك الأغر نجاده ... وفي يد جبار السماوات قائمه العاتق: موضع النجاد على كتف الرجل. قال دريد بن الصمة: [الوافر] أعاذل إنما أفنى شبابي ... ركوبي في الصريخ إلى المنادي مع الفتيان حتى سل جسمي ... وأقرح عاتقي حمل النجاد

والعاتق: يذكر ويؤنث, والتذكير أغلب عليه. قال الشاعر: [السريع] لا صلح بيني فاعلموه ولا ... بينكم ما حملت عاتقي سيفي وما دمنا بنجدٍ وما ... قرقر قمر الواد بالشاهق ويروى: الملك الأغر بفتح الميم وضمها, فإذا فتحت الميم فالمراد الخليفة صاحب الملك, وإذا ضمت فالمراد المملكة, والمعنيان متقاربان. وقوله: ويستكبرون الدهر والدهر دونه ... ويستعظمون الموت والموت خادمه هذه مبالغة لا يجوز أن يكون من يقولها صادقًا, لأنه ادعى له أنه أكبر من الدهر, وزعم أن الموت خادمه؛ والموت إنما هو خادم لرب العالم تباركت عزته, ولو كان الموت خادمه كما ذكر لامتنع من أن يموت. وقوله: وإن الذي سمى عليًا لمنصف ... وإن الذي سماه سيفًا لظالمه وما كل سيفٍ يقطع الهام حده ... وتقطع لزبات الزمان مكارمه رضي له أن يكون اسمه عليًا لأنه من العلو مشتق. وقد وصف الله سبحانه وبهذا الوصف. وذكر أن من سماه سيفًا ظالم له لأنه إنسي يقدر على أشياء لا يقدر عليها الحديد وما جرى مجراه؛ إذ كانت الجوامد لا توصف بحس ولا معقولٍ؛ وإنما هي شخوص مرئية ليس عندها نطق ولا سواه. واللزبات: جمع لزبة وهي الشدة التي تدوم, وسكن الزاي من اللزبات والفتح أجود, وقد مضت أشباه لذلك. وقافيتها من المتدارك.

ومن التي أولها

ومن التي أولها أين أزعت أيهذا الهمام ... نحن نبت الربى وأنت الغمام الوزن من أول الخفيف. الهمام نعت للملك. وأي: مناداة, وهذا صفة لها. والهمام نعت لهذا. وإذا قالوا: يا أيهذا لم يكن لهم بد من أن يجيئوا باسم فيه ألف ولام يكون نعتًا كما قال ذو الرمة: [الطويل] ألا أيهذا المنزل الدارس الذي ... كأنك لم يعهد بك الحي عاهد وقوله: نحن نبت الربى: إنما جاء بالربى لإقامة الوزن, ولو أمكنه أن يقول: نحن النبت وأنت الغمام لكان ذلك أعم. ويجوز أن يقال: إنما خص الربى لأن النبت عليها أحسن منه في الوهد. والربى: جمع ربوة, وفيها لغات: ربوة وربوة وربوة, وقد أبان الطائي عن هذا المعنى فقال: [الخفيف] غير أن الربى إلى سبل الأنـ ... ـواء أدنى والحظ حظ الوهاد ومعلوم أن حظ الوهد في المطر أكثر من حظ الربوة لأن ما يصيبها من القطر ينزل إلى الوهد, والوهود يتربص فيها الماء وليست الربى كذلك. وقوله: نحن من ضايق الزمان له فيـ ... ـك وخانته قربك الأيام نصب قربك لأنه مفعول ثانٍ, ولا يجوز نصبه على الظرف لأنه يصير ذمًا

للممدوح, وإقرارًا بأن الزمان خانهم في حال اقترابهم منه, فكأنما خان هاهنا مثلها في قول الأعشى: [المتقارب] وما إن أرى الدهر في صرفه ... يغادر من شارخٍ أو يفن أذال أذينة عن ملكه ... وأخرج من حصنه ذا يزن وخان النعيم أبا مالكٍ ... وأي امرئٍ صالحٍ لم يخن وقوله (183/ب): في سبيل العلى قتالك والسلـ ... ـم وهذا المقام والإجذام يقول: كل فعالك في سبيل المكارم العالية, فإن قاتلت أو سالمت فأنت في طلاب العلياء. والإجذام: سرعة السير, وهو مأخوذ من الجذم أي القطع السريع. ويقال: رجل مجذام إذا وصف بذلك. قال أبو دواد: [الخفيف] غير ريبٍ بني كنانة مني ... إن أفارق فإنني مجذام وقال الربيع بن زيادٍ العبسي: [المتقارب] حرق قيس علي البلا ... د حتى إذا استعرت أجذما أي قطع ما بيننا قطعًا سريعًا.

وقوله: ليت أنا إذا ارتحلت لك الخـ ... ـيل وأنا إذا نزلت الخيام تمنى أن يكون غير مفارقٍ له في المسير والمقام. وقد عاب بعض الناس هذا القول على أبي الطيب, وقالوا: الخيام تكون متعالية عمن فيها ولذلك قال: [الوافر] لقد نسبوا الخيام إلى علاء ... أبيت قبوله كل الإباء وما سلمت فوقك للثريا ... ولمسلمت فوقك للسماء وحجة أبي الطيب في هذا واضحة لأن الخيمة غنما هي خادمة لمن يحل فيها وتصد عنه حر الشمس وغيره من المؤذيات. وقوله: كل عيش ما لم تطبه حمام ... كل شمس ما لم تكنها ظلام يقيمون الهاء مقام خبر كان, وهو بإياها أشبه. وقد قال أبو الأسود الدؤلي: [الطويل] دع الخمر يشربها الغواة فإنني ... رأيت أخاها مغنيًا لمكانها فإلا يكنها أو تكنه فإنه ... أخوها غذته أمه بلبانها وقالوا: تكونها في معنى تكون فيها. قال الشاعر: [الكامل] لما رأى برقًا يضيء وميضه ... منازل من أسماء كانت تكونها أي تكون فيها. وقوله: أزل الوحشة التي عندنا يا ... من به يأنس الخميس اللهام اللهام: الجيش الذي كأنه يلتهم الأشياء أي يبتلعها, وكذلك قولهم: فرس لهم ولهموم, أي كأن جريه يبتلع الأرض. قال رؤبة: [الرجز]

كالحوت لا يشبعه ما يلهمه ... يصبح عطشان وفي البحر فمه وقوله: والذي يضرب الكتائب حتى ... تتلاقى الفهاق والأقدام الفهاق: جمع فهقةٍ وهي خرزة العنق المتصلة بالظهر, وإنما قيل لها: فهقة لأنها تفهق موضعها أي تملؤه. قال الراجز: [الرجز] لا ذنب للبائس إلا في الورق ... وتضرب الفهقة حتى تندلق تندلق: أي تخرج من موضعها. وقوله: وكفاحًا تكع عنه الأعادي ... وارتياحًا تحار منه الأنام يقال: كع الرجل يكع إذا عجز عن الشيء, وكسر الكاف في يكع أكثر, وقد حكي فتحها. وقال قوم: يقال: كع وكاع وكاء بمعنى واحد. وقوله: إما هيبة المؤمل سيف الدو ... لة الملك في القلوب حسام فكثير من الشجاع التوقي ... وكثير من البليغ السلام المعنى: أن هيبة هذا الملك عظيمة؛ فإذا توقى الشجاع صولته فذلك منه مستكثر, وإذا قال له البليغ: السلام عليك, أو نحو ذلك, فقد عظم ما فعل لأن هيبته توجب ألا ينطق أحد بين يديه. وذهب قوم إلى أن المراد أن الشجاع يكثر التوقي منه لأنه يشاهد من الهيبة ما يحمله على ذلك, والبليغ يسلم تسليمًا بعد تسليم فيكثر السلام لأنه لا يقدر على غيره, والمعنى الأول أشبه. وقافيتها من المتواتر.

ومن أبيات أولها

ومن أبيات أولها أنا منك بين فضائلٍ ومكارم ... ومن ارتياحك في غمامٍ دائم الوزن من أول الكامل. قوله: ومن احتقارك كل ما تحبو به ... فيما ألاحظه بعيني حالم يقول: أنت عظيم القدر تحتقر (184/أ) الأشياء المستعظمة, فإذا رأيت كثرة مواهبك ظننت أني في نوم لأن العادة لم تجر بذلك في اليقظة, وهذا قريب من قوله: [المتقارب] أحلمًا نرى أم زمانًا جديدا وقوله: إن الخليفة لم يسلمك سيفها ... حتى بلاك فكنت عين الصارم الهاء في قوله: سيفها راجعة إلى الدولة, وإذا كان المخاطب عالمًا بالغرض فالمضمر كأنه مظهر كقوله تعالى: {حتى توارت بالحجاب}؛ وكقول النابغة: [الوافر] فأقبلهن بطن الأتم شعثًا ... يصن المشي كالحدإ التؤام فأقبلهن: يعني الخيل, ولم يتقدم لهن ذكر. وقوله: وإذا انتضاك على العدى في معركٍ ... هلكوا وضاقت كفه بالقائم يقول: شأنك عظيم, فإذا انتضاك الخليفة لأمرٍ لم تسع كفه قائمك فيذرك تفعل الأشياء, وأنت بها منفرد. وقافيتها من المتدارك.

ومن التي أولها

ومن التي أولها إذا كان مدح فالنسيب المقدم ... أكل فصيحٍ قال شعرًا متيم الوزن من ثاني الطويل. والمعنى: أن الشعراء جرت عادتهم أن يقدموا النسيب في أول القصيدة في المدح والهجاء والافتخار, وإنما ذلك سنة يستعملها أصحاب النظام. والمتيم: المستعبد, ومنه قالوا: تيم الله أي عبده. وقوله: فجاز له حتى على الشمس حكمه ... وبان له حتى على البدر ميسم هذا مبالغة, وكأنها تستحسنها الشعراء, وكان يجب على الممدوح أن ينكرها لأنه مخلوق يوصف بصفة الخالق؛ تعالى الله عن قول المبطلين؛ فجاز له حكمه حتى على الشمس, وبان له ميسم حتى على البدر. وقوله: ضروب وما بين الحسامين ضيق ... بصير وما بين الشجاعين مظلم يقول: هذا الممدوح يضرب إذا دنا القرن من القرن, وقد قرب كل واحد منهما من صاحبه, فالمكان بينهما ضيق. وقوله: بصير وما بين الشجاعين مظلم: إذا ستر الغبار نور الشمس فأظلم ما بين الشجاعين فبصره ثابت لم يمنعه إظلام الوقت من صحة النظر. ويجوز أن يكون قوله: وما بين الشجاعين مظلم؛ أي كل واحد منهما قد وقع في أمر عظيمٍ, ومن شأن الناس أن يقولوا: أظلمت الدنيا بيني وبين فلانٍ, إذا كلمه بكلام يشق عليه, وإنما لم يكن ثم ظلام مرتفع ولا غيره. وقوله:

تباري نجوم القذف في كل ليلةٍ ... نجوم له منهن ورد وأدهم يعني بنجوم القذف النجوم التي يقال إنها رجوم للشياطين؛ وإنما يعني أن خيله سريعة بسرعة النجوم وليست ألوانها كألوانها, لأن الخيل منها الورد ومنها الأدهم, وغير ذلك. وقوله: يطأن من الأبطال من لا حملنه ... ومن قصد المران ما لا يقوم يعني بمن لا حملنه: من لم يحملنه, وقد تردد مثل هذا في شعره. والقصد: الكسر من القنا والعصي. ويقال: عامل مقصود؛ أي مكسور. قال: [الخفيف] فدعا دعوة المخنق والتلـ ... ـبيب منه في عاملٍ مقصود والمران: أصول الرماح, ثم سميت الرماح مرانًا. وقوله: فهن مع السيدان في البر عسل ... وهن مع النينان في الماء عوم السيدان: جمع سيدٍ, وهذه اللفظة مما تساوت فيه التثنية والجمع, وعسل: جمع عاسل؛ يقال: ذئب عاسل وعسال, والاسم العسل. قال الراجز: [الرجز] والله لولا وجع بالعرقوب ... لكنت أبقى عسلًا من الذيب وقال الفرزدق: [الطويل] وأطلس عسالٍ وما كان صاحبًا ... دعوت لناري موهنًا فأتاني والنينان: جمع نون وهي السمكة. قال الأعشى: [الخفيف] محقبًا زكرةً وخبز رقاقٍ ... وحباقًا وقطعةً من نون

وقيل: إن سيبويه عاب على بشار قوله: النينان في بعض شعره, وفي كتاب سيبويه أن النون تجمع على نينان, وهذا تناقض في الحكاية. وقوله (184/ب): وهن مع الغزلان في الواد كمن ... وهن مع العقبان في النيق حوم كثر الوادي في كلامهم حتي حذفوا منه الياء والأجود إثباتها مع الألف واللام؛ كما قال سحيم: [الطويل] ألا أيها الوادي الذي ضم سيله ... إلينا نوى الحسناء بوركت واديا وأما قولهم: [الرجز] إنك لو ذقت الكشى بالأكباد ... لما تركت الضب يعدو بالواد فإنمنا حذفوا الياء للقافية. والكشى: جمع كشيةٍ, وهي شحمة تستطيل في بطن الضب. ومن كلامهم الموزون: [الرجز] عندي دواء الهدبد ... كشية ضب بكبد الهدبد: العشى في العين. وقوله: إذا جلب الناس الوشيج فإنه ... بهن وفي لباتهن يحطم الوشيج: أصول الرماح, والوشيج أيضًا: نبت. قال كثير: [الطويل]

أحبك ما دامت بنجدٍ وشيجة ... وما خلدت أبلى به وتعار وما سال وادٍ في تهامة طيب ... به قلب عادية وكرار الكرار: جمع كر, وهو الغدير. وقوله: أجار على الأيام حتى ظننته ... تطالبه بالرد عاد وجرهم يقول: هذا الممدوح أجار على الأيام من تريد إهلاكه حتى ظننت عادًا وجرهمًا - وهما من العرب العاربة تطالبه - بالرد, وهذا افتراء من القول, والله سبحانه غفور رحيم. وقوله: ضلالًا لهذي الريح ماذا تريده ... وهديًا لهذا السيل ماذا يؤمم نصب ضلالًا على المصدر كأنه قال: أقول: أضلت الريح ضلالًا؛ أي أي شيء تريده. وإنما بنى هذا المعنى على قول الناس: هو يباري الريح جودًا إذا وصفوه بالكرم؛ أي إنها إن هبت تباريك فقك ضلت؛ كأنه دعا عليها بالضلال. وقال: هديًا لهذا السيل؛ كأنه دعا له بالاهتداء؛ كأنه قال: أقول: هديًا لهذا السيل؛ أي هداه الله ماذا يؤمم؛ أي ماذا يقصد. وقوله: ألم يسأل الوبل الذي رام ثنينا ... فيخبره عنك الحديد المثلم كأنه أنكر على الوبل ما هو فيه وجعله قد أراد ثنيهم عما يريدون, فقال: ألم يسأل هذا الوبل الحديد المثلم عنك, فيخبره أنه لم يقدر على ردك, فكيف يقدر المطر على رد من لم يقتدر الحديد على رده؛ لأنه لما أراد ذلك تثلم.

وقوله: ولما تلقاك السحاب بصوبه ... تلقاه أعلى منه كعبًا وأكرم يقال: فلان أعلى كعبًا من فلان, وأصل ذلك في الآدميين, وأول ما استعمل ذلك في المتصارعين؛ لأن كعب الغالب منهما يكون أعلى من كعب المغلوب, ثم استعمل هذا اللفظ في كون الإنسان أرفع من صاحبه وإن لم يكن ثم صراع. وأنشد أبو زيد: [الطويل] أبا قطري لا تصارع فإنني ... أرى غيرك الأعلى وإياك أسفلا أراك إذا صارعت قرنًا سبقته ... إلى الأرض واستسعت للذل أولا وقوله: حواليه بحر للتجافيف مائج ... يسير به طود من الخيل أيهم يقال: جبل أيهم لا يهتدى للطلوع فيه, وأرض يهماء لا يهتدى للسير فيها. والأيهمان لهما تفسيرا؛ يقول أصحاب الرواية: الأيهمان في البادية: السيل والفحل الهائج, وفي الحاضرة: السيل والحريق. وقوله: وكل فتى للحرب فوق جبينه ... من الضرب سطر بالأسنة معجم يقول: الضربة كأنها سطر في الجبين, وكأن آثار الأسنة في هذا السطر نقط فيه من قولهم: عجمت الكتاب إذا نقطته. وقوله: يمد يديه في المفاضة ضيغم ... وعينيه من تحت التريكة أرقم المفاضة: الدرع الواسعة, والتريكة: البيضة من الحديد, وهي التركة أيضًا, وإنما شبهت ببيضة النعام. قال لبيد: (185/أ) [الرمل] فخمةً ذفراء ترتى بالعرى ... قردمانيًا وتركًا كالبصل

وقوله: كأجناسها راياتها وشعارها ... وما لبسته والسلاح المسمم يريد أن في الجيش راياتٍ مختلفات الشكول, وكذلك الشعار الذي فيه مختلف؛ لأنه يدعي أن فيه قبائل بعضهم يقول: يا ل عقيل, ومنهم من يقول: يا ل تميم, وغيرها. وهذا يشابه قوله: [الوافر] تناكر تحته لولا الشعار والمسمم: يجوز أن يكون من السم, ويجوز أن يكون من: سممت الشيء إذا أصلحته. وقوله: وأدبها طول القتال فطرفه ... يشير إليها من بعيدٍ فتفهم يقول: هذه الخيل قد أدبها طول القتال فهي تفهم ما يريد الممدوح إذا أشار إليها بطرفه فكلها يعقل. وقد تزجر الخيل بأصوات وتحث على السرعة بأشياء تعرفها كقولهم: أجد وهجد وهاب وهلا وهقط. قال الراجز: [الرجز] لما سمعت قولهم هقط ... أيقنت أن فارسًا محتطي ومن ذلك قول امرئ القيس: [الطويل] أخفضه بالنقر لما علوته ... وأرفع طرفي في فضاءٍ عريض والنقر: صويت يقوله الفارس إذا ركب الفرس, وقد يستعمل النقر في الإبل, وقد فسر

أبو الطيب هذا البيت بالذي بعده وهو قوله: تجاوبه فعلًا وما تسمع الوحى ... ويسمعها لحظًا وما يتكلم الوحى هاهنا: الصوت, وكأنه يعني به ما خفي من الأصوات, لأن الوحى يستعمل في مواضع كثيرة؛ فيقال: وحى الله وأوحى إذا ألهم, ووحى الكاتب إذا كتب. وأوحى الرجل إلى صاحبه إذا أسر إليه أو أومأ. وقيل: موت وحي أي سريع؛ أي يكون في مدة قصيرة كأنها إيماء. وقالوا: الوحى في معنى العجلة؛ فقيل: إن الملك يوصف بوحى لسرعة أمره, وعلى ذلك فسروا قول الشاعر: [الكامل] وعلمت أني إن علقت بحبله ... وصلت يداي إلى وحى لم يصقع وقوله: تجانف عن ذات اليمين كأنها ... ترق لميافارقين وترحم تجانف: أي تمايل عن ذات اليمين؛ أي من الناحية التي من جانب أيمانها؛ لأن ميافارقين كانت في ذات اليمين. وترق من قولهم: رق الرجل لولده أو غيره إذا أشفق عليه. وقد ذكرت ميافارقين في الشعر القديم, وإنما يجب أن يكون ذلك بعد الإسلام. قال الشاعر: [الطويل] فإن يك في كيل اليمامة عسرة ... فما كيل ميافارقين بأعسرا وإنما زعم الشاعر أن الخيل تجانف عن ميافارقين لأن فيها قبر أم سيف الدولة. وحدث رجل كان يتعصب لأبي الطيب, وله كتاب في ذكر محاسنه, أن سيف الدولة قال له بميافارقين: من عنيت بقولك: ولما عرضت الجيش كان بهاؤه ... على الفارس المرخي الذؤابة منهم فقال أبو الطيب: عنيت نفسي, فقال له سيف الدولة: وإلا فعليك لعنة الله.

وقوله: ولو زحمتها بالمناكب زحمةً ... درت أي سورينا الضعيف المهدم الهاء في زحمتها عائدة على ميافارقين. يقول: لو زحمت الخيل بمناكبها ميافارقين درت أي سورينا - في درت ضمير يعود على ميافارقين - يقول: لو زحمتها خيلنا لهدمت سورها؛ لأنها أشد منها بأسًا, وهذا يشبه صفة الجيش بأنه كالجبال لما قال: تساوت به الأقطار حتى كأنه ... يجمع أشتات الجبال وينظم وقوله: على كل طاوٍ تحت طاوٍ كأنه ... من الدم يسقى أو من اللحم يطعم يقول: الفرسان كلهم طاوٍ؛ من قولهم: طوى الرجل إذا لم يأكل شيئًا. على كل طاوٍ؛ أي على كل فرسٍ لم يرع ولا علق عليه عليق. يقال: هو طاوٍ بين الطوى بفتح الطاء, وحكاه سيبويه بالكسر وأجراه مجري السمن والشبع, وأنشد بيت عنترة: [الكامل] ولقد أبيت على الطوى وأظله ... حتى أنال به كريم المأكل والمراد أن هذه الخيل وفرسانها كأنها تسقى من دماء القتلى وتطعم من لحومها. وذهب قوم إلى أنها كالتي تأكل من لحوم أنفسها وتشرب من دمائها. ولا يحتمل هذا (185/ب) القول غرض الشاعر؛ لأن صفتها بأنها كالآكلة لحوم الأعداء والشاربة من دمائهم أبلغ في المديح, وأما القول الآخر فيحسن إذا كان في صفة إبلٍ مسافرةٍ لا يقصد بها الحرب كما قال الراجز: [الرجز] وبلدةٍ باتت على حزومها ... شاكية الأكوار من لزومها كأنها ترتع في لحومها أي كانت إبلًا سمينة فطال سيرها, فهي لا تجد مرعى, فهي تصبر ولحومها تنقص وكأنها تأكل من سمنها القديم. وقوله:

لها في الوغى زي الفوارس فوقها ... فكل حصان دارع متلثم يقول: هؤلاء الفوارس قد لبسوا الحديد ليدفعوا به سلاح الأعداء, وصانوا خيلهم بما يقدرون عليه, وكأن كل حصانٍ دارع؛ أي عليه درع. والخيل لا توصف بلبس الدروع وإنما تصان بالتجافيف؛ فجعلها كالدروع في هذا الموضع لأنها السبب إلى الصيانة. واعتذر الشاعر بعد هذا البيت للفوارس باحترازهم من الموت فقال: وما ذاك بخلًا بالنفوس على القنا ... ولكن صدم الشر بالشر أحزم قوله: وما ذاك إشارة إلى الفعل الذي فعله الفرسان من التحرز, وما فعلوه خوفًا من الموت ولكن صدم الشر بمثله أحزم. وقوله: أتحسب بيص الهند أصلك أصلها ... وأنك منها؟ ساء ما تتوهم يستفهم سيف الدولة وهو عالم بما يريد؛ يقول: إن ظنت سيوف الهند أن أصلك أصلها فقد توهمت توهمًا فاسدًا؛ لأنك أجل من أن تكون منها. وقد ادعى بعد ذلك دعوى تستحسن في الشعر؛ وهي كذب لا محالة؛ لأنه قال: إذا نحن سميناك خلنا سيوفنا ... من التيه في أغمادها تتبسم وقوله: ولم نر ملكًا قط يدعى بدونه ... فيرضى ولكن يجهلون وتحلم الهاء في دونه عائدة على سيف الدولة, واستعمل دون هاهنا كاستعمال الأسماء, وإنما هي ظرف - والتقدير: بشيءٍ دونه - وإنما يستعملون في موضع الاسم إذا لم تكن مضافةً كقول القائل: [المتقارب] إذا ما علا المرء رام العلا ... ويقنع بالدون من كان دونا وقوله: أخذت على الأرواح كل ثنيةٍ ... من العيش تعطي من تشاء وتحرم فلا موت إلا من سنانك يتقى ... ولا رزق إلا من يمينك يقسم

ومن التي أولها

هذه مبالغة يجب على سامعها أن يستغفر الله ويعوذ به منها. والثنية: المطلع في الجبل. زعم أن هذا الممدوح أخذ على الأرواح كل الطريق فهو يعطي من شاء أن يعطيه ويحرم من أراد أن يحرمه. وزعم أن الموت - على اختلاف أصنافه - إنما يجيء من سنانه, وأن الرزق يقسم من يمينه. وإن ذلك لهو الافتراء المبين. وقافيتها من المتدارك. ومن التي أولها ذكر الصبا ومرابع الآرام ... جلبت حمامي قبل وقت حمامي الوزن من ثاني الكامل. قوله: وكأن كل سحابةٍ وقفت بها ... تبكي بعيني عروة بن حزام خص عروة لأنه موصوف بالصبابة وشدة الشوق, وهذا البيت كالناظر إلى قول الطائي: [الطويل] كأن السحاب الغر غيبن تحتها ... حبيبًا فما ترقا لهن مدامع وقوله: قد كنت تهزأ بالفراق مجانةً ... وتجر ذيلي شرةٍ وعرام قال في أول القصيدة: جلبت حمامي, ثم لم يزل يخبر عن نفسه حتى قال: قد كنت

تهزأ بالفراق؛ فترك الإخبار بالياء وخرج إلى المخاطبة؛ وإنما يخاطب نفسه, وذلك معروف في الشعر وغيره. والناس يستعملون المجانة في معنى الهزء بالشيء والتهاون به. يقولون: فلان ماجن إذا كان مسرفًا في اللهو والقول لما لم يكن. وأما أهل العلم فيقولون: مجن إذا مرن على الشيء. يقول لنفسه: قد كنت تجر ذيلي شرةٍ وعرام؛ أي في أول أمرك؛ ثم انتقلت عن ذلك إلى سواه. وقوله: ليت الذي خلق النوى جعل الحصى ... لخافهن مفاصلي وعظامي (186/أ) الهاء في خافهن عائدة إلى الركاب. والخف يستعمل للإبل, ويستعار للنعام, ويقال للجمل المسن: خف. قال الراجز: [الرجز] أعطيت عمرًا بعد بكرٍ خفا ... والدلو قد تسمع كي تخفا يقال: أسمعت الدلو إذا شددت أسفلها لتخفز يقول: ليت الذي خلق النوى - أي البعد - جعل مفاصلي وعظامي تطؤها الركاب كوطئها الحصى, وهذه أمنية غير صادقٍ فيها الزاعم. وقوله: لو كن يوم جرين كن كصبرنا ... عند الرحيل لكن غير سجام يقول: دموعنا غزيرة وكثيرة فلو كان كصبرنا يوم الرحيل لكن قائلا لا يجرين. وقوله: لم يتركوا لي صاحبًا إلا الأسى ... وذميل دعلبةٍ كفحل نعام يقال: ناقة ذعلب وذعلبة إذا كانت سريعة. قال النابغة: [الطويل] ذكرت سعادًا فاعترتني صبابة ... وتحتي مثل الفحل وجناء ذعلب ويعني بفحل النعام: الظليم, والناقة تشبه بالنعامة, وبالثور الوحشي, والبقرة الوحشية, وحمار الوحش.

وقوله: أنت الغريبة في زمانٍ أهله ... ولدت مكارمها لغير تمام الغريبة: يعني الدرة الغريبة في زمانٍ ولدت مكارم أهله لغير تمامٍ. واستعار الولادة هاهنا للمكارم؛ وإنما أراد تشبيهها بالأولاد الذين يولدون من قبل أن تتم شهور الحمل؛ قال الشاعر: [الكامل] أعجلن مجهضةً لستة أشهرٍ ... وحذين من بعد النعال نعالا وقال الراجز يصف نوقًا ألقين أولادهن: [الرجز] يتركن بالمهامه الأفعال ... كل جنين خلق السربال حي الشهيق ميت الأوصال والناقة تلد لسنةٍ؛ فإذا زادت على ذلك حمدت الزيادة وقيل هي منضجة. قال الشاعر يصف جملًا: [الوافر] هو ابن منضجات كن قدمًا ... يزدن على العديد قراب شهر ولم يك بابن كاسفة الضواحي ... كأن غرورها أعشار قدر قوله: كاسفة الضواحي؛ يعني أن لونها يضرب إلى السواد. والورق من الإبل يصفونها

بالبطء في السير. يقول: هذا الجمل من ناقةٍ كريمةٍ ليست ورقاء ولا رمكاء. وغرورها: جمع غر, وهو أثر التكسر في جلدها. وقوله: صغرت كل كبيرةٍ وكبرت عن ... لكأنه وعددت سن غلام يقول: إنه صغر كل كبيرة لأن الناس إذا نظروا إلى أفعاله استصغروا ما يفعله غيره. وقوله: وكبرت عن لكأنه يشبه قوله: [الطويل] أمط عنك تشبيهي بما وكأنه ... فما أحد فوقي ولا أحد مثلي أراد أنه يكبر عن التشبيه وأن يقول القائل: كأنه الأسد وكأنه السحاب ونحو ذلك. وأدخل لام الابتداء على كأن, وذلك قليل جدًا, والقياس يمنع منه لأنه الكاف أول كلامٍ. وقولهم: كأن زيدًا عمرو مؤدٍ معنى قولك: كزيدٍ عمرو؛ فجاز دخول اللام على الكاف كما جاز دخولها في قولك: لفلان أفضل من فلانٍ. ثم ختم البيت بقوله: وعددت سن غلام؛ أي إنك شاب مع فعلك هذه الأفعال العظام. وقوله: ورفلت في حلل الثناء وإنما ... عدم الثناء نهاية الإعدام استعار الحلل للثناء, وجعل الممدوح يرفل فيهن؛ وإنما يرفل الإنسان في ثيابه إذا طالت عليه. وسموا حصاة القسم التي يقسم عليها الماء في السفر: رافلةً؛ لأن الماء يغمرها, فكأنها ترفل فيه. وقالوا: رفل بنو فلانٍ فلانًا إذا سودوه؛ يريدون أنهم عظموه فطول ثيابه فهو يرفل فيها. قال ذو الرمة: [الطويل] إذا نحن رفلنا امرأً ساد قومه ... وإن لم يكن من قبل ذلك يذكر وقوله:

عيب عليك ترى بسيفٍ في الوغى ... ما يصنع الصمصام بالصمصام قد تردد في شعر أبي الطيب حذفان في مواضع الإثبات كقوله: عيب عليك ترى وإنما الكلام: أن ترى, وقد مر ذكر ذلك. والصمصام: السيف القاطع. والذين يقولون: إن أصل رقرق: رقق, وأصل تجفجف الورق: تجفف؛ يذهبون إلى أن أصل الصمصام مأخوذ من صمم السيف إذا قطع ولم يصب مفصلًا, وكان الأصل عندهم: صمم فجعلت إحدى الميمات صادًا كما قالوا: ترقرق الدمع, والأصل ترقق. يقول: (186/ب) أنت سيف فما تصنع بسيفٍ مثلك؟ وأحسن من هذا المعنى قوله في الأخرى: [البسيط] انظر إذا اجتمع السيفان في رهجٍ ... إلى اختلافهما في الخلق والعمل وقوله: ملك زهت بمكانه أيامه ... حتى افتخرن به على الأيام قال: زهت وهو يريد زهيت؛ وقد حكي: زها الرجل إذا ظهر فيه زهو, والقياس لا يمنع ذلك, وإذا وجد لزهت وجه فهو أحسن من زهت على ما لم يسم فاعله, وهي لغة طائية توجد كثيرًا في شعر طيئ وغيرهم. قال الشاعر: [الطويل] ألا من رأى قومي كأن رجالهم ... نخيل أتاها عاضد فأمالها أدفن قتلاها وآسو جراحها ... وأعلم ألا بد مما منى لها أي مني لها. وهذا الشعر ينشد على لغة طيئ لما لم يسم فاعله, وذلك قوله: [الطويل] فما وجدوا عصم بن عمروٍ بجبأٍ ... ولا ناظرًا سطر المقات إذا لقى يريد: لقي. ولكنه أشغى أصم مثقف ... يكرر إن نادى ويصمت إن دعى الأشغى: المختلف الأسنان, والمثقف: الطويل في انحناء. وهو أصم لا يسمع فيظن أن الناس مثله, وإذا قال: يا فلان كرر النداء, وإذا دعي صمت لأنه لم يسمع.

وقوله: مهلًا ألا لله ما صنع القنا ... في عمرو حاب وضبة الأغتام حاب: أراد حابس فرخم في غير النداء. وبعض النحويين يجيز أن يرخم المنادى الذي يحمل على قولهم: يا حار في الشعر, ولايجيز الترخيم على قول من قال: يا حار, وبيت جرير ينشد على وجهين, وهو قوله: [الوافر] ألا أضحت حبالكم رماما ... وأضحت منك شاسعةً أماما وهذا ترخيم في غير النداء على مذهب من قال: يا حار, وكان محمد بن يزيد ينشد: [الوافر] وما عهد كعهدي يا أماما واختلفوا في قول ابن أحمر: [الوافر] أبو حنشٍ يؤرثنا وطلق ... وعباد وآونةً أثالا أراد: أثالة, وادعى من رفع هذا القول أن أسماء الرجال إنما جاء فيها أثال بغير هاء, وقبل هذا البيت: [الوافر] أرى ذا شيبةٍ منهم كريمًا ... وآخر مثل صدر السيف نالا ثم ذكر رجالًا فارقهم أو ماتوا فسماهم, وهم: أبو حنشٍ وطلق وعباد وأثالة. وأصحاب القول الآخر يزعمون أن قوله: أثالا معطوف على الألف والنون في قوله: يؤرقنا, واختلفوا في قول الآخر: [البسيط] أودى ابن جلهم عباد بصرمته ... إن ابن جلهم أمسى حية الوادي

فذهب قوم إلى أنه أراد جلهمة فرخم في غير النداء على مذهب من قال: يا حار. وقال قوم: جلهم اسم أمه, ولم يصرفها للتأنيث. والأشبه بمذهب العرب أن يكون الترخيم على قول من قال: يا حار جائزًا في غير النداء لاسيما مع هاء التأنيث لأنهم يستجيزون حذفها كثيرًا؛ فأما قول زهير: [الطويل] خذوا حذركم يا آل عكرم واذكروا ... أواصرنا والرحم بالغيب تذكر فلا شك أنه أراد عكرمة بن خصفة بن الياس بن مضر فحذف الهاء, ويجوز أن يكون جعله اسم قبيلة فلم يصرفه. والأغتام: كلمة يوصف بها الأغبياء الجهال, وهو مأخوذ من قولهم: يوم غتمٍ إذا كان يوم حر شديد. قال الراجز: [الرجز] حرقها الحمض بأرض فل ... وغتم نجمٍ غير مستقل فما يكاد نيبه يولي وقوله: وذراع كل أبي فلانٍ كنيةً ... حالت فصاحبها أبو الأيتام يقول: تركت في هذه الأرض ناسًا مقتلين كأنهم أحجار, وفيها نجوم بيضٍ في سماء قتامٍ. وذراع كل أبي فلان؛ أي قتل من كان يكنى فصارت كنيته أبا الأيتام. ونصب كنيةً على الحال, ويجوز أن تنصب بإضمار أعني. وقوله: وكساك ثوب مهابة من عنده ... وأراك وجه شقيقك القمقام يقال لابن الرجل: شقيقه لأن نسبه شق من نسبه. والقمقام: أصله في البحر يراد به كثرة الماء, ثم قيل للرجل السخي العظيم الشأن: قمقام. وقوله: (187/أ) فلقد رمى بلد العدو بنفسه ... في روق أرعن كالغطم لهام

في روق أرعن؛ أي في أوله, والغطم: البحر الكثير الماء, ولم يصرفوا منه الفعل. وقوله: قوم تفرست المنايا فيكم ... فرأت لكم في الحرب صبر كرام قوم: جمع قائم كما قيل: راكب وركب, وأصل ذلك في الرجال, لأنهم الذين يقومون في الأمور دون النساء. وقامة الرجل: أعوانه الذي يقومون معه في الأمر. قال الراجز: [الرجز] وقامتي ربيعة بن كعب ... حسبك ما عندهم وحسبي فأما القامة في غير هذا الموضع فهي البكرة وآلتها. قال الراجز: [الرجز] ألا فتًى يعيرني عمامه ... أحرق كفي رشأ القامه وقال زهير في أن القوم الرجال دون النساء: [الوافر] وما أدري وسوف إخال أدري ... قوم آل حصنٍ أم نساء ولو صغرت قومًا لقلت: قويم كما تقول: ركب وركيب. قال الراجز: [الرجز] بنيته بنيةً من ماليا ... أخشى رجيلًا أو ركيبًا عاديا ومن قال في تصغير ركبٍ: ركيبون جاز أن يقول في تصغير قومٍ: قويمون, وقالوا في الجمع: أقوام, وجمعوا الجمع فقالوا: أقاوم وأقاويم. قال الشاعر: [الطويل] فإن يعذر القلب العشية في الصبا ... فؤادك لا يعذرك فيه الأقاوم ويروى: الأقايم. وقافيتها من المتواتر.

ومن التي أولها

ومن التي أولها واحر قلباه ممن قلبه شبم ... ومن بجسمي وحالي عنده سقم الوزن من البسيط الأول. والهاء في قلباه يجوز فيها الضم والكسر؛ فمن كسر فلالتقاء الساكنين, ومن ضم فلأنه شبهها بهاء عصاه ورحاه. وبعض النحويين يري أن ترك الياء في هذا الموضع روي لأنها تحذف في قولك: يا غلام, وإذا أضيف الغلام إلى غيره لم تحذف منه كقولك: يا غلام غلامي, ويا عبد عبدي. وقد حكى سعيد بن مسعده أن بعرض العرب يقول: جاءني غلام فيحذف الياء في غير النداء؛ فإذا أخذ بغير هذا القول فحذف الياء من قوله: واحر قلباه سائغ يسير. وكذلك من عاب إثبات الياء في الوصل وزعم أنها إنما تثبت في الوقف فقد جاء خلاف ما زعم في الشعر. أنشد يعقوب بن السكيت: [الرجز] يا مرحبًا بحمار عفراء ... إذا أتى قربنه لما شاء من الحشيش والشعير والماء وقال آخر: [الرجز] يا مرحباه بحمار الناجيه ... إذا أتى قربته للسانيه وقال آخر: [الرجز] يارب يا رباه إياك أسل ... عفراء يارباه من قبل الأجل وقال آخر: [الوافر] يارب يا رباه إياك أسل ... عفراء يارباه من قبل الأجل وقال آخر: [الوافر] إليك أتوب يا رباه مما ... جنيت فقد تظاهرت الذنوب

والمعنى أن الشاعر يقول: وا حر قلبي, والذي أوجب حره أن قلب عدوي شبم. والشبم: البارد, ووصف الموت بالشبم لأنه برد. قال الشاعر: [المتقارب] وقد شبهوا العير أفراسنا ... فقد وجدوا سيرها ذا شبم أي: ذا برد؛ أي: ظنوا أن أفراسنا عير تحمل طعامًا وميرةً, فإن ميرها شبم أي موت بارد. ويجوز أن يعني بالشبم أن الحديد بارد وهو يؤدي إلى الموت. قال الشاعر: [البسيط] ولوا سارعًا لدى الطرفا تشدخهم ... زرق الأسنة في أطرافها شبم وقد استعمل لفظ الشبم في غير معنى البرد؛ فقيل لدفيفٍ أو عودٍ يجعل في فم العناق أو الجدي ليمنعه من الرضاع: شبام. قال عدي بن زيد العبادي: [الخفيف] ليس شيء على المنون بباق ... غير وجه المهيمن الخلاق ليس للمرء عصمة من رزايا الدهـ ... ـر تغني عنه شبام عناق وقالوا في بعض الأمثال: «تفرق من صوت الغراب وتقدم على الأسد المشبم» , وهو الذي في فمه شبام. والشبامان: خيطان في البرقع تشدهما المرأة إلى قفاها. وقوله: ومن بجسمي وحالي عنده سقم؛ أي: جسمي سقيم عنده لكثرة الهموم, وحالي سقيمة أيضًا؛ أي إني قليل ذات اليد. وقوله: مالي أكتم حبًا قد برى جسدي ... وتدعي حب سيف الدولة الأمم

أكتم: أكثر الكتمان, ومن شأن المحب أن يكتم ما به. يقول: حبي سيف الدولة قد برى جسمي وأنا كاتم له, وغيري يدعي حبه, ويظهر ما يضمر سواه. وقوله: (187/ب) إن كان يجمعنا حب لغرته ... فليت أنا بقدر الحب نقتسم الغرة: يراد بها الوجه, ويكنى بذلك عن سائر الجسد؛ لأن القائل إذا قال: أحب غرة فلان فليس يريد أنه يحب وجهه دون يده وغيرها من الأعضاء؛ وإنما دل بذكر الغرة على أنه يحب الشخص بأسره. وقوله: يجمعنا يحتمل وجهين: أحدهما: إن كان يجمعنا من آفاق البلاد المتباعدة حب لغرته فليت أنا نقتسم بره كما نقتسم حبه. والآخر: أن يريد إن كان يجمعني وغيري, أي أكون أنا وهو محبين لسيف الدولة؛ فليت حظي منه بمقدار حظي من المحبة, وهذا كما تقول: أنا وفلان تجمع بيننا الكنية أو التجارة؛ أي كلانا من أهلها. وقوله: قد زرته وسيوف الهند مغمدة ... وقد نظرت إليه والسيوف دم أي: قد زرته في أيام السلم وأيام الحرب. وقوله: والسيوف دم كلام يستعمل مثله الناس كثيرًا؛ فيقولون: صار السيف دمًا, إذا خضب بالدم, وكذلك الثوب ونحوه. ومعلوم أنهم لم يريدوا أن عنصر السيف صار من الدماء. وقوله: فوت العدو الذي يممته ظفر ... في طيه أسف في طيه نعم في طيه أسف: الهاء في طيه عائدة إلى الظفر؛ أي: إن فوته إياك إنما وقع به لخوفه منك؛ لأنه هاب لقاءك فهرب. وإنما يعني أن سيف الدولة أسف لذلك. وقوله: في طيه نعم: الهاء في الطي الثاني ترجع إلى الأسف, وقد شرح ذلك الشاعر في البيت الذي يليه بقوله: قد ناب عنك شديد الخوف واصطنعت ... لك المهابة ما لا تصنع البهم

البهم: جمع بهمةٍ. يقال: فارس بهمة إذا كان لا يدرى كيف يؤتى له. فإذا قالوا: فارس بهمةٍ - بالإضافة - فالمراد أنه فارس يلقى بهمةً؛ أي فارسًا مثله؛ أي فارسًا يعد لأمرٍ مبهمٍ يعجز كشفه. ومن ذلك قول الشاعر: [الكامل] غدر ابن جرموزٍ بفارس بهمةٍ ... عند اللقاء وكان غير معرد وقوله: ألزمت نفسك شيئًا ليس يلزمها ... ألا يواريهم أرض ولا علم يقول للمدوح: ألزمت نفسك غير لازم لها لأنك أردت ألا تواريهم أرض ولا علم, أي جبل. والأقضية جرت بغير ذلك. تواريهم: أي تسترهم. وقوله: عليك هزمهم في كل معتركٍ ... وما عليك بهم عار إذا انهزموا أصل الهزم: كسر الشيء. يقال: صارت في الحجر هزمة إذا ضرب بمعول فصار فيه أثر منخض. ويقال: في الأديم هزول؛ أي مواضع قد أخلقت فالماء يخرج من خلالها. ويقال: تهزم البيض من الحديد إذا ضرب بالسيوف فتكسر. قال جرير: [الطويل] ويوم أبي قابوس لم تعطه المنى ... ولكن ضربنا الهام حتى تهزما وقال المرقش الأصغر: [مجزوء البسيط] تبكي على الدهر, والدهر الذي ... أبكاك, فالعين كالشن الهزيم يقول: عليك هزم الأعداء في كل المواطن, وإذا انهزموا فلا عار عليك, وترك اتباعهم أجمل لأنه كالعفو عنهم. وقوله:

أما ترى ظفرًا حلوًا سوى ظفرٍ ... تصافحت فيه بيض الهند واللمم تصافحت: أي تلاقت بالصفاح. وصفحة الشيء: جانبه إذا عرض, يقال: صافح الرجل الآخر إذا وضع يده في يده, ومن ذلك قيل للحجارة العراض: صفاح. قال البرج بن مسهرٍ الطائي: [الوافر] نطوف ما نطوف ثم نأوي ... ذوو الأموال منا والعديم إلى حفرٍ أسافلهن جوف ... وأعلاهن صفاح مقيم يقول: لا يستحلى الظفر إلا أن تضرب الرؤوس بالسيوف. وقوله: يا أعدل الناس إلا في معاملتي ... فيك الخصام وأنت الخصم والحكم زعم أنه أعدل الناس إلا في معاملته إياه. وهذه شكوي مفرطة لأنه قال في موضع آخر [الطويل]: وما يوجع الحرمان من كف حارمٍ ... كما يوجع الحرمان من كف رازق فإذا كان عادلًا في الناس كلهم إلا في معاملته فقد وصفه بأقبح الجور. ووصف الممدوح بثلاثة أوصافٍ مختلفةٍ, فقوله: فيك الخصام؛ أي أنت الشيء الذي يختصم فيه. وأنت الخصم, وهو غير مختصمٍ فيه. وأنت الحكم, وليس الحكم بأحد الخصمين ولا بالشيء الذي وقه فيه الخصام؛ يقال: رجل خصم فيستعمل للواحد (188/أ) والاثنين والجميع, وفي الكتاب العزيز: {هذان خصمان اختصموا في ربهم} , فالخصم هاهنا جماعة. وقال زهير في جمع خصم على خصوم: [الوافر] لعمر أبيك ما هرم بن سلمى ... بملحي إذا اللؤماء ليموا ولا ساهي الفؤاد ولا عيي اللـ ... ـسان إذا تشاجرت الخصوم

وقوله: أعيذها نظراتٍ منك صادقةً ... أن تحسب اشحم فيمن شحمه ورم الأجود أني كون في «تحسب» ضمير عائد على النظرات, ولا يمتنع أن يكون المضمر هو الممدوح؛ كأنه قال: أعيذ نظراتك من أن تحسب - أيها الملك - الورم شحمًا. وهذا لفظ يجوز أن يكون لم يسبق إليه الشاعر, والمعنى حسن, وليس على قدر معناه. والشحم والورم متضادان؛ لأن الشحم يحدث عن الصحة, والورم يحدث عن المرض, فيقال: ورم أنف الرجل إذا أنف الشيء وكرهه, كأنما حدث لأنفه ورم. وقوله: ومن انتفاع أخي الدنيا بناظره ... إذا استوت عنده الأنوار والظلم هذا البيت ممض لمن قيل فيه لأنه يقول له: لك ناظران لا تبصر بهما؛ فجعله وهو بصير كبعض العميان. وقوله: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ... وأسمعت كلماتي من به صمم حمل «الذي» على المعنى ولم يحملها على اللفظ؛ لأن «الذي» يطلب راجعًا إليها, وما رجع إليها الضمير. ولو كان الكلام منثورًا لكان وجه الكلام أن يقول: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبه وأسمعت كلماته من به صمم, وقد جاء في الشعر مثل هذا كثيرًا. قال الراجز: [الرجز] أنا الذي فررت يوم الحره ... والحر لا يفر إلا مره وإنما وجه الكلام أن يقول: أنا الذي فر يوم الحرة, و «الذي» لم يعد إليها ضمير. وقال آخر: [الرجز] يا مر يا بن واقعٍ يا أنتا ... أنت الذي طلقت عام جعتا

وإنما وجه الكلام أن يقول: أنت الذي طلق عام جاع. وقال مهلهل: [الكامل] وأنا الذي قتلت بكرًا بالقنا ... وتركت تغلب غير ذات سنام وإنما وجه الكلام: وأنا الذي قتل بكرًا وترك تغلب. وقوله للممدوح: أنا الذي ينظر إلى أدبى الأعمى أفلا تنظر إليه وأنت في حكم البصير؟ وأسمعت كلماتي الأصم وأنت سميع أفلا تفهم ما أقول. وقوله: أنام ملء جفوني عن شواردها ... ويسهر الخلق جراها ويختصم نصب ملء جفوني على تقدير قوله: أنام نومًا ملء جفوني موضوع موضع المصدر؛ وهذا كقولهم: قعد القرفصاء؛ أي قعد القعدة التي هي كذلك. والهاء في شواردها عائدة إلى كلماته. ويحتمل أن يكون أراد بالكلمات جمع كلمةٍ التي هي لفظة واحدة, وهذا أشد في المبالغة من سواه. ويجوز أن يعني بالكلمات القصائد؛ لأنهم يسمون القصيدة كلمة. والقصائد توصف بالشرود؛ أي تسير في الأرض كسير النعام الشارد وغيره. قال القطامي: [البسيط] مالي أرى الناس مزورًا فحولهم ... عني إذا سمعوا صوتي وإنشادي إلا أخي بني الجوال يوعدني ... ماذا يقول ابن جوالٍ بإيعادي وطالما ذب عني سير شرد ... يصبحن فوق لسان الراكب الغادي يعني الأبيات والقصائد, وذلك مما تصفه الشعراء. قال المسيب بن علس: [الكامل] فلأهدين مع الرياح قصيدةً ... مني مغلغلةً إلى القعقاع ترد المياه فلا تزال غريبةً ... في القوم بين تمثلٍ وسماع وجراها: جرى كلمة على فعلى, مأخوذة من قولك: جره يجره؛ أي كان سببه؛ كما

تقول في الكلام: أصابني تعب جر فلان إلى ذلك؛ أي بجره, ومن أجل جره؛ أي يسهر القوم لأجل هذه الشوارد ويختصمون, وأنا نائم لا أشعر بذلك. وقوله: وجاهلٍ مده في جهله ضحكي ... حتى أتته يد فراسة وفم الواو في معنى رب, ومده؛ أي جذبه وجره, وفي الكتاب العزيز: {وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون}. يقول: رب جاهلٍ غره مني ضحكي. يقال: ضحك, وضحك, وضحك, وضحك, وقد مضى القول في ذلك, وأن حروف الحلق إذا كانت ثاني فعل من الأسماء أو فعلٍ من الأفعال جازت فيها هذه الوجوه الأربعة. وقيل للطلع: ضحك كأن النخل يضحك عنه, وشبهوا به العسل الأبيض. قال الهذلي: [الطويل] فجاء بمزجٍ لم ير الناس مثله ... هو الضحك إلا أنه عمل النخل ويد فراسة؛ أي تدق الأعناق. وأصل الفرس: دق العنق, ثم صار كل قتل فرسًا. قال الهذلي: (188/ب) [البسيط] يا مي لا يعجز الأيام ذو لبدٍ ... من الضراغم رزام وفراس الرزام: الذي يجثم على فريسته. وقوله: إذا رأيت نيوب الليث بارزةً ... فلا تظنن أن الليث مبتسم يقول لسيف الدولة: إذا الليث أبرز نيوبه فليس ذلك تبسمًا منه؛ وإنما هو إرادة للصولة, وهذا نقيض ما زعمه الفرزدق في وصف الذئب لما رفع ناره, فجاءه يلتمس عنده الخير, فقال وذكر الذئب: [الطويل]

فلما دنا قلت ادن دونك إنني ... وإياك في زادي لمشتركان وبت أقد الزاد بيني وبينه ... على ضوء نارٍ مرةً ودخان وقلت له لما تكشر ضاحكًا ... وقائم سيفي من يدي بمكان تعش فإن عاهدتني لا تخونني ... نكن مثل من يا ذئب يصطحبان وأنت امرؤ يا ذئب والغدر كنتما ... أخيين كانا أرضعا بلبان ولو غيرنا نبهت تلتمس القرى ... رماك بسهمٍ أو شباة سنان وقال المرقش في نحو من ذلك: [الطويل] ولما أضأنا النار عند شوائنا ... عرانا عليها أطلس اللون بائس نبذت إليه فلذةً من شوائنا ... حياءً وما فحشي على من أجالس فآض بها جذلان ينفض رأسه ... كما آض بالنهب الكمي المخالس وقوله: ومهجةٍ مهجتي من هم صاحبها ... أدركتها بجوادٍ ظهره حرم يقول: ورب مهجةٍ مهجتي من هم صاحبها أي هو يؤثرأن يقتلني - أدركتها - أي بلغت ما أريد منها - بجوادٍ ظهره حرم؛ أي إذا ركبته فكأنني في حرمٍ لا يصل إلى أحد بسوء. وقوله: رجلاه في الركض رجل واليدان يد ... وفعله ما تريد الكف والقدم يريد أن رجليه كل واحدةٍ منهما مثل الأخرى في العدو, وكذلك يداه, ويجوز أن يريد أنهما تقعان معًا. وفعله؛ يعني الجواد؛ ما تريد كف راكبه وقدمه؛ أي هو جواد مؤدب, فإذا قصر عنانه قصر في الجري, وإذا أرخي له في العنان بذل ما يريده الراكب من الجري, وكذلك إن حرك الفارس قدمه عليه ليمتري حضره فإنه يسمح بما يرضيه. ونحو من هذا المعني

قول ساعدة بن جؤية الهذلي: [البسيط] يوشونهن إذا ما آنسوا فزعًا ... تحت السنور بالأقدام والجذم يعني بالجذم: السياط, واحدها جذمة. ويروى: بالأعقاب, وهو جمع عقب الإنسان. ويوشونهن؛ أي يستخرجون ما عندهن من الجري. وقوله: ومرهفٍ سرت بين الموجتين به ... حتى ضربت وموج البحر يلتطم المرهف: سيف رقيق. وجعل نفسه سائرًا بين الموجتين؛ أي بين قرنين يخاف منهما الموت, واستعار للموت موجًا؛ وإنما هو للبحر وما جري مجراه من المياه الكثيرة كالفرات وغيره من الأنهار. قال أبو ذؤيب: [الطويل] فجاء بها ما شئت من لطمية ... يدوم الفرات فوقها ويموج وخطئ أبو ذؤيب في هذا البيت. وقيل: إن الدرة لا تكون في الفرات. وقيل: أراد باللطمية: الدرة التي تحمل في اللطيمة, وهي العير التي تحمل المسك. وقال قوم: أبو ذؤيب في جبال هذيل, ولم يكن ليخفى عليه أن الدر لا يكون في الفرات. وقيل: أراد أن حول الصدفة التي فيها الدرة ماءً كثيرًا كأنه الفرات إذا هاج. وقال قوم: الصدفة إذا شقت عن الدرة خرج منها ماء فذلك الذي أراد الهذلي. وقيل: إنما أراد ماء الدرة في نفسها وحسنها, وشبه ماء الدرة بماء الفرات. وقوله: فالخيل والليل والبيداء تعرفني ... والحرب والضرب والقرطاس والقلم ادعى أن الخيل والليل وما ذكر بعدهما تعرفه, ومثل هذا قد يذكر في الشعر. والقرطاس: أعجمي معرب, وكسر القاف فيه أفصح اللغات لأن القرآن بها جاء. وقد حكي: قرطاس بضم القاف. قال الراجز: [الرجز]

هل تعرف الدار بذات أوطاس ... رسومها مثل رسوم القرطاس يقال في الجمع: قراطس وقراطيس. قال جرير: [البسيط] بين المخيصف والعزاف منزلة ... كالوحي من عهد موسى في القراطيس وقال الراجز: [الرجز] قفي المطي في المحل الطامس ... كأنه ما خط في القراطس وكان لأيوب بن عبيد العنبري جمل يقال له: قرطاس - وأيوب أحد اللصوص, وقد أدرك أول خلافه بني العباس, واستشهد بعض أصحاب اللغة بشعره - فقال في جمله: [البسيط] قد مت من حب قرطاسٍ يفندني ... أهلي فوا كبدي من حب قرطاس محض النجار عتيق الجد تحسبه ... ظبيًا تقلب في قفرٍ من الناس وقالوا: قرطس في معنى قرطاس. والقلم مأخوذ من قلمت الظفر إذا قطعته, وهو فعل من القلم لأنه يقلم, كما قالواة لما هدم: هدم, ولما نقض من الجدر: نقض. وقوله: (189/أ) صحبت في الفلوات الوحش منفردًا ... حتى تعجب مني القور والأكم القور: جمع قارةٍ؛ فقيل: هي الأكمة السوداء شبهت بالقار المعروف. وقيل: بل كل أكمةٍ قارة لأنها تنقار من غيرها أي تنقطع. والقارة: قوم من العرب يوصفون بجودة الرمي؛ وهم من بني خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر. وإنما قيل لهم قارة لأن قومهم أرادوا أن يفرقوهم لأمر حدث فقال قائل منهم: [الوافر] دعونا قارةً لا تفرقونا ... فنجفل مثل إجفال الظليم

وقالوا في المثل: «أنصف القارة من راماها»؛ أي هم قوم رماة فقد أنصفهم من حاربهم بما يعرفون. والأكم: جمع أكمةٍ, وتجمع أكم على آكام وإكام. وقيل لها: أكمة لا رتفاعها؛ ولذلك قيل اللحم الذي في أعلى الفخذين: مآكم. وقوله: ما كان أخلقنا منكم بتكرمةٍ ... لو أن أمركم من أمرنا أمم ما كان أخلقنا؛ أي أجدرنا. والأمم: أمر بين أمرين, لا قريب ولا بعيد. قال الراجز: [الرجز] تسألني برامتين شلجما ... لو أنها تطلب شيئًا أمما وقال آخر: [المنسرح] كوفية نازح محلتها ... لا أمم دارها ولا صقب وقوله: ما أبعد العيب والنقصان من شرفي ... أنا الثريا وذان الشيب والهرم يقول: أنا الثريا, وذان؛ يعني العيب والنقصان؛ أي هذان الشيب والهرم, والثريا آمنة منهما لأنها لا تشيب ولا تهرم. وقوله: ليت الغمام الذي عندي صواعقه ... يزيلهن إلى من عنده الديم يعني بالغمام: سيف الدولة, وبصواعقه ما يلحقه من الأذية, شبهها بالصواعق. والصاعقة هي الراعدة التي يسمع لها صوت عظيم وربما كان معها برق يحرق. يقال: صاعقة وصاقعة. قال الراجز: [الرجز]

يحكون بالهندية اللوامع ... تبوج البرق عن الصواقع والديم: جمع ديمةٍ, وهو مطر ليس بالشديد يدوم أيامًا, وأقل ما يكون يوم وليلة. وهو من ذوات الواو لأنه من: دام يدوم. وأنسواة بالياء فقالوا: ديم المطر, ولم يردوها إلى الواو. قال الراجز: [الرجز] هو الجواد بن الجواد بن سبل ... إن ديموا جاد وإن جادوا وبل وقالوا: كثيب مديم إذا سقته الديم. وقوله: أرى النوم تقتضيني كل مرحلةٍ ... لا تستقل بها الوخادة الرسم النوى هاهنا في معنى النية, وإنما قيل للبعد: نوى لأنه يكون في نية القوم أي ما ينوون. والمرحلة: ما بين المنزلين. يقول: أرى نيتي تقتضيني مراحل شدادًا لا تستقل - أي لا ترتفع - إذا همت بالنهوض. والوخادة: فعالة من الوخد, وهو ضرب من سير الخيل وعدوها, ويستعمل في الإبل والنعام. والرسم: جمع رسوم. والرسيم: ضرب من السير العجل. قال الراجز: [الرجز] ما لك من شيخك إلا عمله ... إلا رسيمه وإلا رمله وقوله: لئن تركن ضميرًا عن ميامننا ... ليحدثن لمن ودعتهم ندم ضمير: موضع يقوم من دمشق. قال عبيدالله بن قيس: [الخفيف] فضمير فالماطرون فحورا ... ن خلاء بسابس الأطلال وقوله:

إذا ترحلت عن قومٍ وقد قدروا ... ألا تفارقهم فالراحلون هم هذه دعوى كغيرها, وإنما غرضه أن الرجل إذا فارق أناسًا وقد ظنوا أنه غير مفارقً لهم أسفوا له فكأنهم راحلون. وقوله: شر البلاد مكان لا صديق به ... وشر ما يكسب الإنسان ما يصم الوصم: العيب. يقال: ما في العود وصم ولا فصم. فالوصم ما فيه من عقدة ونحوها, والفصم الأثر فيه نحو الشق. وقد يكون الانفصام انقطاعًا, وفي الكتاب العزيز: {لا انفصام لها}. والتوصيم يزعمون أنه في معنى الكسل, وهو راجع إلى معنى الوصم. قال لبيد: [الرمل] وإذا حاولت أمرًا فارتحل ... ثم لا يثنيك توصيم الكسل وجاء في الحديث: «إن الإنسان إذا نام حتى يصبح أصبح موصمًا؛ أي به كسل». وقوله: وشر ما قنصته راحتي قنص ... شهب البزاة سواء فيه والرخم يقول: شرد البلاد مكان يعوزك فيه الصديق, وشر ما يقتنصه الإنسان - أي يصيده - قنص تشترك فيه البزاة الشهب والرخم؛ لأن البزاة تصيد, والرخم إنما يقع على الجيف, وكأنه جعل ما يصيبه في هذه البلاد من الرزق شيئًا لا خير فيه؛ لأن الرخم تقع عليه فتصيب منه كما تصيب البزاة. ويقال في جمع الرخمة: {خم (189/ب) كما يقال في جمع الخشب:

خشب, وفي جمع الأكمة: أكم. قال الشاعر: [الطويل] فإن ينج يدمى عارضاه فإننا ... تركنا بنيه للضباع وللرخم وقال آخر: [الطويل] وإني لأرجو أن تكون عوائدي ... ضباعًا ورخمًا حول جسمي عوافيا والرخم, في غير هذا الموضع: عطف الشاة على ولدها وإرضاعها إياه. قال الراجز: [الرجز] حاشكة الدرة بلهاء الرخم وقوله: بأي لفظٍ تقول الشعر زعنفة ... تجوز عندك لا عرب ولا عجم الزعنفة: طرف الشيء والقطعة منه التي لا حاجة به إليها, وزعانف الأديم: أطرافه, وكلك ما تدلى من أطراف الثوب. ويقال لما قشر عن السمك: زعانف. والزعانف من القوم الذين يكونون في أطرافهم وليسوا من صميمهم, فإذا وقعت الحرب انضموا إلى معظم الناس. قال الشاعر: [الطويل] فأدن رباط الجون مني فإنه ... دنا الشر واحتل الجميع الزعانف وقوله: هذا عتابك إلا أنه مقة ... قد ضمن الدر إلا أنه كلم المقة: أصلها الومقة فحذفت الواو التي هي فاء الفعل فقيل: مقة. ووزن مقةٍ: علة, وهذا الحذف مطرد في هذا الباب؛ يقولون: وزنت الشيء زنةً, ووعدت الرجل عدةً, فإذا جاء حرف الحلق فتحوا في بعض المواضع وكسروا؛ يقولون: في فلانٍ ضعة وضعة, وفي وجهه قحة وقحة, وفي الدابة طأة وطئة. وقافيتها من المتراكب.

ومن أبيات أولها

ومن أبيات أولها قد سمعنا ما قلت في الأحلام ... وأنلناك بدرةً في المنام الوزن من أول الخفيف. وكان بعض الناس قد وجه إلى سيف الدولة أبياتًا ذكر أنه رآها في النوم, وفيها شكية الفقر, فقال أبو الطيب هذه الأبيات. البدرة: اصطلح الناس على أنها عشرى آلاف درهم. وقيل: سميت بدرةً لتمامها من قولك: بدر القمر. وقيل: إنها سميت بدرة لأنها مقدار ما يملأ البدرة وهو جلد الفطيم, وجمعها: بدر على غير قياس. وقوله: كل آخائه كرام بني الدنـ ... ـيا ولكنه كريم الكرام آخاء: جمع أخٍ كما يقال: أب وآباء, وقلما يجمعونه هذا الجمع لأنهم استغنوا بقولهم: إخوة وإخوان. وأكثر ما يقال في واحد الآخاء: أخ. وقد حكوا: أخًا في وزن عصًا, وينشدون بيتًا قد كثر على ألسن الناس وهو: [الرجز] إن أخاها وأخا أخاها ... قد بلغا في المجد غايتاها وحكى الفراء: أخو في أخٍ بسكون الخاء, وأنشد: [الطويل] لأخوين كانا خير أخوين شيمةً ... وأسرعه في حاجةٍ لي أريدها وذكر ابن دريد أن ابن الكلبي حكى أخ بالتشديد, وجاء في شعر زهير بيت وهو قوله: [الوافر]

ومن أبيات أولها

وكفي عن أذى الجيران نفسي ... وحفظي الود للأخ المداني وقد روي هذا البيت لكعب بن زهير. فإن خففت الخاء فقد زعم أهل العلم بالشعر أنه زحاف لم يأت مثله عن العرب, وإن شددت الخاء على حكاية ابن الكلبي ففيه زحاف ليس بمنكر وقلما يخلو بيت في هذا الوزن منه. وقافيتها من المتواتر. ومن أبيات أولها المجد عوفي إذ عوفيت والكرم ... وزال عنك إلى أعدائك الألم وزنها من أول البسيط. وقوله: ولاح برقك لي من عارضي ملكٍ ... ما يسقط الغيث إلا حين يبتسم العارضان: تثنية عارض, وهو الناب, والضرس الذي يليه. قال الراجز: [الرجز] عجيز عارضها منفل ... طعامها اللهنة أو أقل اللهنة: ما يعجل للضيف قبل استواء الطعام, وجمع العارض: عوارض. قال عنترة: [الكامل] وكأن فأرة تاجرٍ بقسيمةٍ ... سبقت عوارضها إليك من الفم وأن يروى: حين يبتسم أحسن من حيث يبتسم؛ لأن المعنى: إذا ابتسم سقط الغيث.

وإذا رويت: حين يبتسم كان الإخبار عامًا؛ لأن الغيث لا يسقط في مكان إلا أن يبتسم هذا المعني. وإذا رويت: حيث يبتسم ففي الكلام تخصيص؛ أي لا يسقط الغيث إلا في الموضع الذي يبتسم فيه. ومذهب أبي الطيب المبالغة في هذه الأشياء. وقوله: يسمى الحسام وليست من مشابهةٍ ... وكيف يشتبه المخدوم والخدم (190/أ) و «ليست» فيها إضمار قبل الذكر لأنه أراد: وليست التسمية عن مشابهة. وقد مر ذكر ذلك, وأنهم يضمرون المصدر إذا دل الفعل عليه؛ كقولك: من فعل الخير كان أجمل به؛ أي كان فعله. يقول: إن سميت سيفًا فليس بينك وبين السيوف مشابهة؛ لأن الخدم لا تشابه المخدوم, والسيوف من خدمك. وقوله: تفرد العرب في الدنيا بمحتده ... وشارك العرب في إحسانه العجم يقال: عرب وعرب, وعجم وعجم. والمحتد: الأصل, وإنما أخذ من قولهم: حتد بالمكان إذا أقام به. يقول: انفردت العرب بمحتد هذا الممدوح وشاركتها في إحسانه العجم لأنه جوده عام لا يخص. وقوله: وأخلص الله للإسلام نصرته ... وإن تقلب في آلائه الأمم الآلاء: النعم, واحدها إلى وألى وإلي. وأما قول الأعشى: [المنسرح] أبيض لا يرهب الهزال ولا ... يقطع رحمًا ولا يخون إلى فيقال: إنه أراد بإلى: إلا؛ أي عهدًا, وتخفيف مثل هذا قليل, وقد جاء تخفيف حل في حشو البيت. قال الشاعر: [الوافر] إذا احتكم الصبا والشيب عندي ... فحكمت الشباب فما أبالي

ومن التي أولها

محل الشيب ما لم أجن أمرًا ... يكون سواه أتي حلٍ حلال وقافيتها من المتراكب. ومن التي أولها على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكرام المكارم الوزن من ثاني الطويل. يقول: إن الرجل تكون عزيمته على مقداره, وكذلك مكارمه؛ فإن كان كريمًا في نفسه فمكارمه على حسب ما هو عليه. وقوله: وتعظم في عين الصغير صغارها ... وتصغر في عين العظيم العظائم الهاء في صغارها ترجع على العزائم أو المكارم, ويحتمل أن ترجع إلى الجميع. وقوله: يكلف سيف الدولة الجيش همه ... وقد عجزت عنه الجيوش الخضارم أصل الخضرم في الماء. يقال: ماء خضرم؛ أي كثير, ورجل خضرم؛ أي كثير العطاء, وإذا وصف الجيش بذلك فإنما يراد به الكثرة. ويقال: إن العجاج لقي جريرًا, فقال جرير: أين تريد؟ فقال: اليمامة, فقال: تجد بها نبيذًا خضرمًا؛ أي كثيرًا. وقال الفرزدق: [الطويل] فإن حرامًا أن أسب مقاعسًا ... بآبائي الشم الكرام الخضارم وقوله: ويطلب عند الناس ما عند نفسه ... وذلك ما لا تدعيه الضراغم

يقول: سيف الدولة يريد أن يكون الناس غيره مثله في الشجاعة, وذلك ما لا تدعيه الأسد؛ أي لا تدعي أنها مثله في الشجاعة. وقوله: تفدي أتم الطير عمرًا سلاحه ... نسور الملا أحداثها والقشاعم يعني بأتم الطير عمرًا: النسور. وبعض الناس يدعي أنه يعمر خمس مئة سنة, وبعضهم يقول: عمره ثمانون سنة, وهو أشبه. وقوله: نسور الملا بدل من قوله: أتم الطير. والملا: المتسع من الأرض, واستعمل الأحداث للنسور استعارةً من الإنس, والقشاعم: المسان, وأكثر ما يستعمل في النسور. وقوله: تفدي أتم الطير؛ لما كان أتم يقع على القليل والكثير حسن أن يقول: تفدي فيؤنث. وادعى أن النسور تقول لسلاحه: جلعنا الله فداك, ونحو ذلك؛ لأنها كفتها أمر المطاعم؛ إذ كان الممدوح يقتل بها الناس فتقع عليهم النسور. والنسر لا يقتنص وإنما يسقط على الجيف, وقد بين الشاعر الغرض في البيت الآتي فقال: وما ضرها خلق بغير مخالبٍ ... وقد خلقت أسيافه والقوائم يقول: ما ضرها أنها خلقت لا مخالب لها تقتنص, وقد خلقت أسياف الممدوح وقوائمها؛ فهو يكفيها أن تصطاد كغيرها من الجوارح. وقوله: هل الحدث الحمراء تعرف لونها ... وتعلم أي الساقيين الغمائم وصف الحدث بالحمراء؛ لأنه زعم أن الدم أريق عليها فاحمرت, فقال الشاعر: هل الحدث تعرف لونها وتعلم أي ساقييها الغمائم؟ فقد علم أنها لا تعلم, وذلك سائغ في الكلام, ثم شرح أمر الساقيين. وقوله (190/ب): سقتها الغمام الغر قبل نزوله ... فلما دنا منها سقتها الجماجم

يقول: سقاها الغمام الغر قبل نزول سيف الدولة عليها, فلما نزل بها سقاها دم القتل. وكنى بالجماجم عن المقتولين لأجل القافية. والغمام يحتمل أن ينعت بالغر وبالأغر؛ لأنه إن كان جمعًا فقد استعمل كاستعمال الآحاد, وقد مر ذكره. وقوله: وكان بها مثل الجنون فأصبحت ... ومن جثث القتلى عليها تمائم ادعى أن الحدث كان بها مثل الجنون, ويجوز أن يكون أهلها. فأما الحدث فمعلوم أنها لا تحس بخير ولا شر. والجثث: جمع جثةٍ, وأصل ذلك ما رئي من جسم الإنسان. وقيل: اجتث الشيء إذا أخذ كله فلم يبق منه شيء. والمعنى أنه استؤصلت جثته. والجث: شيء مرتفع من الأرض وليس بالعظيم. قال الشاعر: [الطويل] وأوفى على جث ولليل طرة ... على الأرض لم يكفف جوانبها الفجر وجعل جثث القتلى كالتمائم, لأنها أذهبت ما بالحدث من الجنون. والتمائم تعلق على من تخاف عليه عين, أو يظن أن به سفعةً من الجنون. وقوله: طريدة دهرٍ ساقها فرددتها ... على الدين بالخطي والدهر راغم جعل الحدث طريدةً للدهر طردها على الإسلام فردها الممدوح بالطعن إلى الدين, والدهر راغم. وهذه دعوى على الدهر, ولم يلحقه رغم قط, ولا أحس بما العالم فيه. وأصل الرغم: أن يلتصق الأنف بالرغام؛ أي التراب الدقيق. قال الأعشى: [الطويل] فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى ... ولا تلقني إلا وأنفك راغم وقوله: تفيت الليالي كل شيءٍ أخذنه ... وهن لما يأخذن منك غوارم

يقول: الليالي إذا أخذن شيئًا أفاتته ولم يرجع إلى صاحبه لا هو ولا عوض منه. وهي إذا أخذت شيئًا منك غرمته. وبعض الناس يروي: أخذته, وهو أشد مبالغة من الرواية الأولى؛ لأنه جعل الممدوح إذا أخذ منها شيئًا لم تقدر على استرجاعه منه, وإذا أخذت منه شيئًا غرمته. وقوله: إذا كان ما تنويه فعلًا مضارعًا ... مضى قبل أن تلقى عليه الجوازم الجوازم: الحروف التي تجزم. وأصل الجزم: القطع. وسمى النحويون هذا الفن جزمًا لأنه يقطع الإعراب من الاسم, ومنه قولهم: حلف على يمينٍ جزمٍ؛ أي قطعها. وقول صخر الغي الهذلي: [المتقارب] فلما جزمت به قربةً ... تيممت أطرقةً أو خليفا أراد أنه جزمها فقطعها عن الحركة. ويقال: جزم فلان عن الأمر إذا هم به ثم رجع عنه, فكأنه قطع نفسه عما أراد. قال الشاعر: [الوافر] ولكني مضيت ولم أجزم ... وكان الصبر عادة أولينا ومعنى البيت أن الممدوح إذا كان ما ينويه فعلًا مضارعًا, وهو يصلح لأمرين: للحال والاستقبال, أمضاه هذا المذكور من قبل أن تقع عليه الجوازم؛ كأنه إذا جرى في نفسه أن يقتل عدوًا قتله قبل أن يقول قائل: لم يقلته؟ ! وقوله: وكيف ترجي الروم والروس هدمها ... وذا الطعن آساس لها ودعائم الآساس: جمع أس وهو أصل البناء. والدعائم: جمع دعامةٍ وهو ما يدعم به الشيء كيلا يقع. قال الشاعر: [الطويل] وما لمثابات العروس بقية ... إذا نزعت من تحتهن الدعائم

وقوله: أتوك يجرون الحديد كأنهم ... أتوا بجيادٍ ما لهن قوائم أراد أنهم احترزوا لنفوسهم وخيلهم فلبسوا الحديد, وطرحوا التجافيف على الخيل حتى ما تبين قوائمها؛ لأنها مستورة؛ فكأنها لا قوائم لها. ولما كانت القائم هاهنا يراد بها قوائم الدواب, والقوائم في أول القصيدة يراد بها قوائم السيوف, لم يكن ذلك من الإيطاء. ومع هذا ففي القوائم الأولى ألف ولام, والآخرة ليس فيها علامة التعريف. واختلف أهل العلم في قولهم: الرجل ورجل في قصيدة واحدةٍ؛ فجعله بعضهم إيطاءً, ولم يره بعضهم عيبًا؛ ومن ذلك قول الراجز: [الرجز] يارب سلم سدوهن الليله ... وليلةً أخرى وكل ليله وقوله: إذا برقوا لم تعرف البيض منهم ... ثيابهم من مثلها والعمائم يقول: إذا برقوا بالسيوف لم تميز بينها وبين غيرها من شخوصهم؛ لأنها مواراة بالحديد؛ فثيابهم وعمائمهم من جنس سيوفهم, وهذا يشبه قول البحتري في صفة فرسٍ أشهب: [الكامل] تخفى الحجول إذا بلغن لبانه ... في أبيضٍ متألقٍ كالدملج وقوله: خميس بشرق الأرض والغرب زحفه ... وفي أذن الجوزاء منه زمازم يقول: هذا الجيش بشرق الأرض والغرب زحفه؛ أي قد سمع به في الشرق والغرب, وتحدث به أصناف الأمم, وفي أذن الجوزاء من لجبه (191/أ) وأصواته زمازمن - جمع زمزمة - وهو صوت ليس برفيع ولا مفهوم عند السامع. يقول: فالجوزاء قد شعرت بهذا الجيش وبلغتها منه زمازم.

وقوله: تجمع فيه كل لسنٍ وأمةٍ ... فما تفهم الحداث إلا التراجم يقال: لأبني فلانٍ لسن؛ أي لغة. يقول: في هذا الخميس أصناف العالم فكل منهم يحتاج إلى ترجمانٍ يفسر له ما يسمع. والحداث: الذي يتحدثون. قال الشاعر: [الطويل] أتيت مع الحداث ليلى فلم أبن ... وأخليت فاستعجمت عند خلائي ولفظ الحداث يدل على أنه جمع حادثٍ, ولم يقولوا: رجل حادث من الحديث؛ استغنوا عنه بقولهم: حدث وحدث, وجاء حداث على تقدير حادث. وقوله: فلله وقت ذوب الغش ناره ... فلم يبق إلا صارم أو ضبارم ذكر النار لأن تأنيثها غير حقيقي. والضبارم: الشديد من الأسد والناس. وإن كانت الميم في دلامصٍ وهرماسٍ زائدة فما يمتنع أن تكون أن تكون في ضبارمٍ كذلك, ويكون اشتقاقه من: ضبرت الشيء إذا جمعته, وتكون الميم زائدةً كزيادتها في زرقمٍ وخدلمٍ. وقوله: تقطع ما لا يقطع الدرع والقنا ... وفر من الفرسان من لا يصادم يقول: إن السيف الذي لا يقطع الدرع والدارع تقطع لأنه عجز وكهم, وفر من الفرسان من لا يقدر على المصادمة. وقوله: وقفت وما في الموت شك لواقفٍ ... كأنك في جفن الردى وهو نائم يقول: وقفت في وقت من وقف فيه فقد أيقن بموته؛ فكأنك في جفن الردى وهو نائم لا يحس بك.

وقوله: تمر بك الأبطال كلمى هزيمةً ... ووجهك وضاح وثغرك باسم الأبطال: جمع بطلٍ وهو الذي يبطل قرنه؛ أي لا يجعل له فعلًا. وكلمى: جمع كليم وهو الذي به كلم أي جرح, وهزيمة في معنى مهزومةٍ. وأنت في حال هذه الشدة تبتسم ووجهك وضاح لم يتغير. وقوله: ضممت جناحيهم على القلب ضمةً ... تموت الخوافي تحتها والقوادم يعني بالجناحين: ميمنة العسكر وميسرته؛ ولما جعل للجيش جناحين استعار له قوادم وخوافي. وقال بعض الناس: الجناح عشرون ريشةً: أربع قوادم, وأربع مناكب, وأربع أباهر, وأربع خواف, وأربع كلى. وقال قوم: ما ظهر من الريش فهو قوادم, وما استتر فهو كله خوافٍ. والمراد: أنك ضممت جناحيهم على القلب فمات من في الميمنة والميسرة, وهما الجناحان. وقوله: حقرت الردينيات حتى طرحتها ... وحتى كأن السيف للرمح شاتم الناس في الشام والعراق يروون هذه البيت: شاتم, وله وجه؛ أي كأن السيف لم يرض فعل الرمح فهو يشتمه, ولو رويت: للسيف شائم؛ لكان للبيت معنى ألطف في نقد الشعر؛ لأنهم يقولون: شام السيف؛ إذا أغمده. فكأنه يقول: لما جاء السيف كان كأنه قد شام الرمح. وليس من عادة الرماح أن تشام, ولكنه لما عطل الرمح كان كأنه قد شامه. وقوله: تدوس بك الخيل الوكور على الذرى ... وقد كثرت حول الوكور المطاعم يريد أن الخيل صعدت به في الجبال حتى أتت وكور الطير كالصقور والعقبان, وقد كثرت المطاعم هنالك فهي لا تفتقر إلى طلبها. وذري الجبال: أعاليها. وقوله: تطن فراخ الفتخ أنك زرتها ... بأماتها وهي العتاق الصلادم

فراخ الفتخ؛ أي العقبان. أنك زرتها بأماتها؛ أي بالعقبان. والأمات تستعمل لغير الإنس, والأمهات بالهاء تستعمل في بني آدم. وقد جاءت الأمهات في البهائم. قال الشاعر: [السريع] قوال معروفٍ وفعاله ... عقار مثنى أمهات الرباع ووزن أمات: فعلات, ووزن أمهات: فعلهات, وقد أظهروا الهاء في الواحد. وقد أنشدوا رجزًا نسبوه إلى قصي بن كلاب جد النبي صلى الله عليه وسلم: [الرجز] إني لدى الحرب رخي اللبب ... معترم الصولة عالي النسب عند تناديهم بهالٍ وهب ... أمهتي خندف والياس أبي والعتاق: الخيل الكرام, يقال: عتقت الفرس إذا تقدمت وسبقت. والصلادم: الصلاب. إذا قيل إن الميم زائدة في «شدقم» لأنه من سعة الشدق؛ لم يمتنع أن تكون الميم في صلدام زائدةً؛ لأنه من الصلد, وهو الصلب. ووزن صلادم على هذا: فعالم, وإذا كانت الميم أصلية فوزنه (191/ب) فعالل. وقوله: إذا زلفت مشيتها ببطونها ... كما تتمشي في الصعيد الأراقم يقول: قد أصعدت الخيل في الجبال التي ليس لها عادة بصعودها فحوافرها تزلق عنها, فإذا زلفت مشيتها ببطونها, كما تتمشى الأراقم في الصعيد؛ أي التراب. وفي الكتاب العزيز: {والله خلق كل دابة من ماءٍ فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين

ومنهم من يمشي على أربع}؛ فادعى الشاعر للمدوح أنه يمشي ذوات الأربع مشية الذي يمشي على بطنه, وهذا من المبالغة المفرطة. وقوله: أينكر ريح الليث حتى يذوقه ... وقد عرفت ريح الليوث البهائم يقول: ألم يشم هذا الدمستق رائحة الليث فيعلم أنه إن وقف فرسه فقلة فطنته تمنعه من أن يهرب حتى يذوقه الليث؛ فعند ذلك يفر. والبهائم إذا وجدت رائحة الأسد فرت منه. وقوله: وقد فجعته بابنه وابن صهره ... وبالصهر حملات الأمير الغواشم أشبه الأشياء أن تكون الفاجعة له الخيل لتقدم ذكرها قبل هذا البيت. والصهر يستعمل في تزوج الرجل والمرأة, والحمو إنما يستعمل عند بعضهم للمرأة؛ يقال: هو حموها وحماها وحمها. قال الشاعر: [الطويل] ألا أصبحت أسماء حجرًا محرما ... وأصبحت من أدنى حموتها حما وأما النحويون المتقدمون ففي كتبهم: حموك وأبوك, بفتح الكاف, فكأن فتحها في الكتب المتقدمة يجيز أن يقال: هذا حمو الرجل وحماته. وسكن ميم حملات والأحسن فتحها, وقد فعل ذلك في مواضع هو وغيره من الشعراء. وقوله: مضى يشكر الأصحاب في وفته الظبى ... لما شغلتها هامهم والمعاصم ما وشغلتها في معنى المصدر كأنه قال: الدمستق يشكر أصحابه لما فات الظبى أن تقع به, لأنها شغلتهم عند فوقعت في هام الأصحاب ومعاصمهم. والمعصم يستعمل للرجل والمرأة, وهو ما فوق الزند من الذراع؛ وكأنه مأخوذ من عصم يعصم؛ أي منع. وأصل ذلك

أن يستعمل للمرأة لأن معصمها يعصم سوارها عن أن يخرج من يدها. وقوله: ويفهم صوت المشرفية فيهم ... على أن أصوات السيوف أعاجم يقول: الدمستق يفهم صوت المشرفية في قتل أصحابه, ويعلم إذا سمع صليلها أنهم مقتولون؛ فقد فهم معنى الصليل على أن السيوف أعاجم, وادعى الشاعر أنه يسمع صوتها على بعد, وهو نحو من قوله مهلهل: [الوافر] فلولا الريح أسمع أهل فلجٍ ... صليل البيض تقرع بالذكور وقوله: يسير بما أعطاك لا من جهالةٍ ... ولكن مغنومًا نجا منك غانم هذا مبني على قول العرب في المثل: «السلامة إحدى الغنيمتين». ويقال: إن أول من قاله بسطام بن قيس, وذلك أنه غزا غزاة فهزم, فلما رجع ولقيه من كان غائبًا عنه, قال: «السلامة إحدى الغنيمتين». وقوله: ولست مليكًا هازمًا لنظيره ... ولكنك التوحيد للشرك هازم تشرف عدنان به لا ربيعة ... وتفتخر الدنيا به لا العواصم يقول: لست مليكًا هزم مثله, ولكنك التوحيد هزم الشرك, وليس بينهما قياس في الفضل. والهاء في قوله: تشرف عدنان به عائدة على مليك, ولو أمكنه أن يكون موضع الهاء الكاف, لكان ذلك أوجب, ولكن الوزن لم يسمح بذلك.

وقوله: وإني لتعدوني عطاياك في الوغا ... فلا أنا مذموم ولا أنت نادم على كل طيارٍ إليها برجله ... إذا وقعت في مسمعيه الغماغم يقول: إني لتحملني على الخيل فتعدو بي في الوغا وهي من عطاياك؛ فلا أنا مذموم في الحرب لأني لست بجبان, ولا أنت نادم على إعطائك أياي السوابق؛ لأنك تعلم أنني شجاع أعملها في طاعتك. وجعل الفرس يطير برجله كما يطير الطائر بجناحه, وقد سبقت العرب إلى تشبيه الفرس بالطائر. قال الراجز: [الرجز] كأن تحتي طائرا بادي الضرم ... لأاحت له حمامة غير أمم والغمائم: جمع غمغمةٍ وهو صوت لا يفهم. قال المسيب بن علس: [الكامل] كغماغم الثيران بينهم ... ضرب تغمض دونه الحدق وقال امرؤ القيس: [الطويل] فظل لثيران الصريم غماغم ... يداعسها بالسمهري المعلب (192/أ) وقوله: ألا أيها السيف الذي لست مغمدًا ... ولا فيك مرتاب ولا منك عاصم كان أبو الطيب يختار أن يخاطب الممدوح بالتاء إذا جاء به بعد الذي ونحوها, وقد جاء في هذا البيت بكافٍ في موضعين, فالهاء فيهما أحسن عند أهل العلم, وكون الضمير في ليس نائبًا عن التاء أحسن من قوله: لست, وقد كان يمكنه أن يقول: ألا أيها السيف الذي ليس مغمدًا ... ولا فيه مرتاب ولا منه عاصم ثم يخاطبه بالكاف في البيت الثاني؛ فلم يفعل ذلك, وهو قادر عليه. وقافية هذه القصيدة من المتدارك.

ومن التي أولها

ومن التي أولها أراع كذا كل الأنام همام ... وسح له رسل الملوك غمام الوزن من ثالث الطويل. والسح أصله في: سح الغيم المطر إذا صبه صبًا كبيرًا. فزعم أن غمامًا قد سح الرسل من عند الملوك الراغبين في صلح الممدوح. وأكثر ما يستعملون السح في الماء والدمع وما جرى مجراهما من المائعات. وقالوا: سح التمر من الجراب إذا صبه صبًا متتابعًا. قال الشاعر: [الوافر] وربة غارةٍ أوضعت فيه ا ... كسح الهاجري جريم تمر وقوله: تنام لديك الرسل أمنًا وغبطةً ... وأجفان رب الرسل ليس تنام الأحسن في «ليس» هاهنا أن تكون في معنى «ما» لتخلو من الضمير؛ لأنه إذا جعلها فعلًا كان الأحسن أن يقول: ليست تنام, وقد تقدم له نحو من هذا. وقوله: حذارًا لمعروري الجياد فجاءةً ... إلى الطعن قبلًا ما لهن لجام وصفه بأنه يعروري الجياد؛ أي: يركبها أعراءً. وقد بالغ في مدحه مبالغةً وجب أن ينزهه معها عن اعريراء الجياد إذ كان ذلك لا مفخر فيه لمثله. وقال: ما لهن لجام فوحد في موضع الجمع. وقد وصفت العرب إعجال الحروب إياها عن إلجام الخيل. قال الشاعر: [المتقارب] غداة مررن بآل الربا ... ب تعجل بالركض أن تلجما وبعضهم يفتخر بإلجام الفرس قبل إسراجه؛ لأنه إذا وضع اللجام في رأسه أمكنه أن يعررويه بغير سرج. وقال بعض الشعراء: [المتقارب]

إذا قيل أي فتى تعلمون ... بصعلوك فهرٍ ومحتاجها ومن يعجل الخيل يوم الوغى ... بإلجامها قبل إسراجها أشارت نساء بني غالبٍ ... إليك به قبل أزوجها وقوله: تعطف فيه والأعنى شعرها ... وتضرب فيه والسياط كلام لما ذكر أنه يعروري الجياد ذكر أن الخيل تعطف والأعنى شعرها, وإنما أراد أن يقوله: والأعنة أعرافها فلم يستقم له الوزن. وقوله: وتضرب به والسياط كلام نحو من قوله: فطرفه يشير إليها من بعيدٍ فتفهم وقوله: فإن كنت لا تعطي الذمام طواعةً ... فعوذ الأعادي بالكريم ذمام الطواعة في معنى الطواعية. والمصادر يشترك فيها هذان البناءان: الفعالة والفعالية, مثل: الطواعة والطواعية, والطماعة والطماعية, والرفاهة والرفاهية. قال الشاعر: [الطويل] أما والذي مسحت أر كان بيته ... طماعيةً أن يغفر الذنب غافره يقول: إن كنت لا تعطيهم ذمامك وأنت مقيم؛ فكأنك قد أعطيتهم إياه لأن العوذ بالكريم ذمام. وقوله: أذا الحرب قد أتعبتها فاله ساعةً ... ليغمد نصل أو يحل حزام أذا الحرب؛ أي: يا ذا الحرب. وذو: كناية عن صاحب الشيء ومالكه, ونحو ذلك؛ يقال: فلان ذو مالٍ وذو جاهٍ. وقوله: فاله ساعةً, وهو من لهيت عن الشيء إذا تركته, وليس من اللهو. ليغمد نصل لأني قد حطمت السيوف وأفنيتها في قتال العدو, وقد طال إتعابك

الخيل وإعمالك إياها في الحروب, فأرحها سعةً لتحل عنها لحزم. والعرب تجعل الحزام وشده كالمثل في الجد؛ فيقولون: شد حزامه لكذا, وحيزمه وحيازيمه. والحزيم: الموضع الذي يحزم. وقيل للضروع: الحيازيم؛ لأن الراكب يحزمها في بعض الأوقات. قال ذو الرمة: [البسيط] تعتاده زفرات من تذكرها ... تكاد ترفض منهن الحيازيم وأما قول امرئ القيس: [الكامل] خفض إليك من الوعيد فإنني ... مما ألاقي لا أشد حزامي أي: إني لا أحفل بمن يوعدني إذ كنت كثير اللقاء للأعداء؛ فهذا وجه. ويحتمل وجهًا آخر, وهو أن يريد أن حزامه أبدًا مشدود فهو لا يشده لأنه لا يزال متأهبًا للحرب. وقوله: (192/ب) فإن طال أعمار الرماح بهدنةٍ ... فإن الذي يعمرن عندك عام يقول: إن طالت أعمار الرماح عندك لهدنةٍ تقع بينك وبين العدو - والهدنة من الهدون, وهو السكون - فإن الذي تعمر الأرماح عام لا غير؛ لأنك لا ترى المهادنة أكثر من السنة الواحدة. وجعل للرماح أعمارًا وهي المدة التي تسلم فيها من الحطم والانكسار. وقوله: متى عاود الجالون عاودت أرضهم ... وفيها رقاب للسيوف وهام يقال: جلا القوم عن منازلهم, جلا إذا خرجوا. وقال قوم: جلوا إذا خرجوا وهم كارهون, وجلوا إذا خرجوا منها وهم مختارون. يقول: إذا عاود الجالون بلادهم عاودتها, وقد نشأت فيها رقاب وهام؛ لأنهم جلو بأطفالٍ وعاودوا والطفل قد ارتفع عن الطفولية, وقد بين الشعر الغرض بقوله:

ومن أبيات أولها

وربوا لك الأطفال حتى تصيبها ... وقد كعبت بنت وشب غلام يقال: كعبت الجارية تكعب إذا ظهر ثديها, وكان مثل الكعب, والجارية كاعب وكعاب, ويقال: كعبت فهي مكعب؛ أي: كانوا أطفالًا ليس فهم ما خدم؛ فجئتهم وقد صلحوا للخدمة. وقافيتها من المتواتر. ومن أبيات أولها أيا راميًا يصمي فؤاد مرامه ... تربي عداه ريشها لسهامه وزنها من ثاني الطويل. قوله: تربي عداه ريشها لسهامه يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكونوا يربون الريش فإذا تكامل رماه الممدوح بسهامه. وإنما يعني أن الطائر يكون فرخًا فلا يكمل حتى يتم ريشه. فالممدوح يرميه وقد صلح أن يصاد. والآخر: أن يكون المراد أن الأعداء يربون ريشهم ليأخذه فيربش به سهامه فيكون ما فعلوه قوةً له. والعرب تكني بالريش عن حسن الحال. يقال: راش فلان فلانًا كأنه جعل له ريشًا ينهض به, وقد مر ذكر ذلك. وقوله: وما مطرتنيه من البيض والقنا ... وروم العبدى هاطلات غمامه العبدى: اسم للعبيد, وقد حكي مده. وينشده: [الطويل] تركت العبدي ينقرون عجانها ... كأن غرابًا فوق أنفك واقع والعبد يجمع في القلة على أعبد وجمعه في الأكثر: عبدان, فأما عبيد فهو اسم للجمع, مثل: كليب في جمع كلب. وفي التنزيل: {وعبد الطاغوت} كأنه اسم على فعل, كما يقال: رجل يقظ وحذر. فأما قول أوس بن حجر: [الكامل]

ومن التي أولها

أبني لبينى لستم بيدٍ ... إلا يدًا لها عضد أبني لبيني إن أمكم ... أمة وإن أباكم عبد فإن بعض العرب يقول في الوقف: هذا عبد؛ فيوقع حركة الضمة على الباء, والشعراء تفعل ذلك في غير الوقف ضرورةً. وقوله: ويجعل ما خولته من نواله ... جزاءً لما خولته من كلامه ادعى أن الممدوح خوله الكلام الذي يمدحه به, فلما مدحه بالكلام الذي وهبه له جازاه عنه بأن خوله نوالًا من غير الكلام. يقال: خولت الرجل كذا إذا ملكته إياه. والقافية من المتدارك. ومن التي أولها عقبى اليمين على عقبى الوغا ندم ... ماذا يزيدك في إقدامك القسم الوزن من أول البسيط. المثل القديم: اليمين حنث أو مندمة, وكأن مراد الشاعر أن عقبى يمين الحانث على عقبى الوغا - أي ما تعقبه الحرب - ندم؛ لأنه لا يدري ما يكون. فكأنه يشير بترك الحلف لأن فعل الإنسان ما يريد لا يفتقر إلى يمينٍ؛ فإذا حلف أنه يفعل فإنه لا يعلم بأي شيء يجري القضاء.

وقوله: وفي اليمين على ما أنت واعده ... ما دل أنك في الميعاد متهم إذا كان الرجل عند صاحبه في صورة صادق فقال له: لأفعلن كذا؛ فقد غني عن اليمين؛ وإنما يحتاج إلى الحلف إذا ظن المحلوف له أنه غير صادقٍ فيما زعم. وقوله: آلى الفتى ابن شمشقيقٍ فأحثنه ... فتى من الضرب ينسى عنده الكلم قوله: الفتى في صفة ابن شمشقيق كأنه هزؤ؛ أي: إنه ليس كذلك, وإنما جاء بذكره في أول البيت لأنه (193/أ) ذكر فتى في آخره, وهو يريد الممدوح أيضًا؛ فقد يقول القائل إذا ذكر عنده البخيل: ذلك الرجل الكريم, والسامع يعلم أنه يريد غير ذلك. يقول: آلى ابن شمشقيق فأحنثه فتى ينسى عنده الكلم من الضرب بالسيوف. والهاء في «عنده» راجعة على فتى الذي هو في آخر البيت. وقوله: وفاعل ما اشتهى يغنيه عن حلفٍ ... على الفعال حضور الفعل والكرم وفاعل: نسق على فتى ينسى عنده الكلم, وفاعل ما اشتهى من الأمور, والوصفان للمدوح كما يقال: جاءني رجل حر ثقة وصادق. والمعنى بذلك واحد؛ أي هذا الرجل قد جمع هذه الأوصاف. وقوله: يغنيه عن حلفٍ: الهاء راجعة إلى فاعل؛ أي يغنيه أن يحلف؛ لأن الإنسان إنما يقسم على الشيء قبل أن يفعله, مثل أن يقول: والله لأقومن؛ اليمين وقعت قبل القيام. وقوله: كل السيوف إذا طال الضراب بها ... يمسها غير سيف الدولة السأم ادعى أن السيوف تسأم إذا طالت المضاربة بها, وإنما يريد أنها تثلم وتحطم؛ فلو أنها تسأم لشكت ذلك, والشعراء يقدمون على ادعاء الأشياء المستحيلة, وهذا نحو قوله: فقد مل ضوء الصبح مما تغيره ... ومل سواد الليل مما تزاحمه وإنما أراد أنها تكثر الغارة في الصبح والسرى في الليل إكثارًا يمل مثله من يحس, وأما الصبح والظلام فما يشعران بما يكون فيهما من أفعال الآدميين.

وقوله: لو كلت الخيل حتى ما تحمله ... تحملته إلى أعدائه الهمم يقول: لو أن الخيل كلت حتى لم تستطع حمله إلى الأعداء لحملته إليهم الهمم, ولسي هذا المعنى مستحيلًا استحالة غيره؛ لأن كثيرًا من الناس يقصد عدوه وليس بالراكب, وقد كانت جماعة من العرب تغير على أرجلها كالشنفرى وتأبط شرًا والسليك بن السلكة. وقوله: أين البطاريق والحلف الذي حلفوا ... بمفرق الملك والزعم الذي زعموا يقول: أين البطاريق وأيمانهم التي حلفوها بمفرق ملكهم؛ فلم يفوا بشيء منها؟ وهذه الأبيات شرح للبيت الأول. وقوله: ولى صوارمه إكذاب قولهم ... فهن ألسنة أفواهها القمم في ولى ضمير يرجع إلى الممدوح, وجعل السيوف كالألسنة نطقت بإكذاب الأيمان, وجعل القمم لها أفواهما. والقمة: أعلى الرأس. والمعنى: أن السيوف لما وقعت في الرؤوس كانت كالألسنة نطقت بإكذاب الحالفين. وقوله: الراجع الخيل محفاة مقودة ... من كل مثل وبار أهلها إرم الراجع الخيل: يعني به الممدوح؛ قد أحفاها السير فهي تقود ليزول عنها ذلك. و «وبار»: موضع كان مسكونًا ثم خلا من أهله, والعرب تضرب به المثل في البعد. وإرم هو: أبو عاد بن إرم سام بن نوح. والمثل يضرب بإرم في الفناء. قال الراجز: [الرجز] من يلقني يود كما أودت إرم

أي: خيل هذا الممدوح ترجع عن البلد الذي غزاه وهو مثل وابر خالٍ وأهله مثل إرم هالكون. وقال الأعشى: [مخلع البسيط] إن لقيمًا وإن قيلًا ... وإن لقمان حيث ساروا لم يتركوا بعدهم عريبًا ... فحدثت إثرهم نزار ومر دهر على وبار ... فهلكت جهرة وبار وقوله: كتل بطريقٍ المغرور ساكنها ... بأن دارك قنسرون والأجم شبه البلد الذي يغزوه بوبار, وأهله بإرم, ثم ذكر الموضع المغزو؛ وإنما هو موضع مثل به غيره. والهاء في ساكنها راجعة إلى تل بطريق, وأنثها على معنى البلدة والمدينة, ولو ذكر الضمير جاز. وقنسرون قد وافقت من العربية قوله: رجل قنسري أي مسن كبير. قال الراجز: [الرجز] أطربًا وأنت قنسري ... والدهر بالإنسان دواري ويجوز أن يكون قنسرون في الرفع بواوٍ وفي النصب والخفض بياءٍ, ويجوز أن تقر الياء على حالها في الوجوه الثلاثة (193/ب) وتضم النون في حال الرفع, وتفتح في حال

النصب والخفض. والأجم: شجر ملتف تكون فيه الأسد. وقوله: وظنهم أنك المصباح في حلبٍ ... إذا قصدت سواها عادها الظلم يقول: ظنت الأعداء أنك مثل المصباح في حلب ومتى فارقتها أظلمت بلادها. ولم يكن الأمر كما ظنوه, ولست كالمصباح الذي يضيء موضعًا واحدًا, وإنما أنت كالشمس تعم كل بلدٍ بالضياء. وقد بين الغرض بقوله: والشمس يعنون إلا أنهم جهلوا ... والموت يدعون إلا أنهم وهموا وقوله: فلم تتم سروج فتح ناظرها ... إلا وجيشك في جفنيه مزدحم استعار لسروج ناظرًا وجعل له جفنين؛ وإنما يصف الممدوح بأنه أنجدهم إنجاذًا سريعًا؛ فكأن سروج لم تفتح ناظرها إلا وجيشك مزدحم في جفنيه. وقوله: والنقع يأخذ حرانًا وبقعتها ... والشمس تسفر أحيانًا وتلتثم يقال: بقعة وبقعة وهي الموضع الواسع من الأرض. ويقال: ذهب فلان فما يدرى أين بقع؛ أي في أي بقعة من الأرض وقع. ويقال: سفرت المرأة خمارها إذا أزالته عن وجهها, واستعار ذلك للشمس, وجعل الغبار كاللثام. قال توبة بن الحمير: [الطويل] وكنت إذا ما زرت ليلى تبرقعت ... فقد رابني منها الغداة سفورها وقوله: سحب تمر بحصن الران ممسكة ... وما بها البخل لولا أنها نقم

شبه خيله وغبارها بالسحب فهي تمر بحصن الران ممسكة, وليس إمساكها من بخل, ولكنها نقم؛ فهي لا تمطر إلا في أرض العدو. وقوله: جيش كأنك في أرضٍ تطاوله ... فالأرض لا أمم والجيش لا أمم يقول: كأنك في أرض تطاوله وهي واسعة جدًا, وعدد الجيش كثير فكلاهما غير أمم. والأمم: الشيء بين الشيئين, يقال: دار بني فلان أمم؛ أي: بين القريب والبعيد. قال الشاعر: [الهزج] أطرقته أسماء أم حلما ... أم لم تكن من رحالنا أمما وقوله: إذا مضى علم منها بدا علم ... وإن مضى علم منه بدا علم العلم من الأرض مثل الجبل, والعلم: علم الجيش معروف, وكلاهما من العلامة لأنه مؤد إلى العلم بالشيء. ولو قال: وإن بدا عالم منه بدا علم لكان أحسن في حكم الشعر, ولعل أبا الطيب كذلك قال لأن تكرير العلم في البيت كثير, وقوله في صفة الجيش: وإن بدا عالم يقلل تردد العلم, ويدل على كثرة الجيش. وقوله: وشزبٍ أحمت الشعرى شكائمها ... ووسمتها على آنافها الحكم الشعرى: نجم يطلع في شدة الحر, وتنسب العرب إليها ذلك؛ فيقولون: يوم من أيام الشعرى. قال الشنفرى: [الطويل] ويومٍ من الشعرى يذوب لعابه ... أفاعيه في رمضائه تتململ وقوله: يذوب لعابه كقول الراجز: [الرجز] وذاب للشمس لعاب فنزل ... وقام ميزان النهار فاعتدل

وهما شعريان: الشعرى العبور, وهي أضوأهما, والشعرى الغميصاء, وهي أقل منها صوءًا, ويقال: غميضاء بالضاد. ومن أحاديث الأعراب أن الشعريين أختا سهيل. الشعرى العبور قد عبرت المجرة فهي تراه, وقد استعبرت من البكاء. والغميصاء لم تعبر المجرة فقد أغمصها بكاؤها؛ أي: جعل فيها غمصًا, وهو مثل الرمص. وإذا شبهت المرأة بالشعرى فإنما تعنى بها الشعرى العبور لأنها ذات الضياء والنور. قال الشاعر: [الوافر] ألا قالت بهيشة ما لنفرٍ ... أراه غيرت منه الدهور وأنت كذاك قد غيرت بعدي ... وكنت كأنك الشعرى العبور والشكائم: جمع شكيمة, وهي حديدة اللجام. ويقال: فلان ذو شكيمة؛ أي: ذو شدةٍ. قال عمرو بن شأسٍ الأسدي: [الطويل] وإن عرارًا إن يكن ذا شكيمةٍ ... تقاسينها منه فلا أملك الشيم والحكم: جمع حكمةٍ, وهو ما يكون على أنف الفرس. يقول: قد جعلت الحكم في آنافها وسومًا. (194/أ) وقوله: حتى وردن بسمنينٍ بحيرتها ... تنش بالماء في أشداقها اللجم يريد أن لجمها قد حميت فصارت كالجمر؛ فإذا أصابها الماء سمع لها نشيش؛ وهذا كما قال لبيد يصف ما صبه في حوض: [الرمل]

فهرقنا لهما في داثرٍ ... لضواحيه نشيش بالبلل وقوله: وأصبحت بقرى هنزيط جائلةً ... ترعى الظبى في خضيبٍ نبته اللمم في ترعى ضمير يعود إلى الخيل, ويعني بالخصيب: الشعر. وقوله: فما تركن بها خلدًا له بصر ... تحت التراب ولا بازًا له قدم يقول: ما تركن بهذه الناحية خلدًا - أي رجلًا - قد دخل في مغازة, كما يدخل الخلد في الأرض؛ إلا أن هذا الخلد يبصر وهو يشابه الخلد في اختفائه, ويخالفه في نظره. ولا بازًا له قدم؛ أي ولا بازًا - يعني رجلًا مثل الباز - يكون في أعالي الجبال؛ إلا أنه له قدم مثل أقدام الناس. يقول: يهرب فيقف حيث يقف البازي, إلا أنه ذو قدمٍ. وفي الباز لغة قد مضى ذكرها. وقوله: ولا هزبرًا له من درعه لبد ... ولا مهاةً لها من شبهها حشم يعني بالهزبر: رجلًا مثل الأسد, ودرعه كاللبد عليه. واللبد: الشعر الذي يكون على كتفي الأسد. ويعني بالمهاة: امرأة جميلة شبهها بالبقرة الوحشية, وهي المهاة. وقد أكثرت الشعراء من ذلك. قال زهير: [الوافر] تنازعت المها شبهًا ودر الـ ... ـبحور وشاكلت فيها الظباء فأما ما فويق الجيد منها ... فمن أدماء مرتعفها الخلاء وأما المقلتان فمن مهاةٍ ... وللدر الملاحة والصفاء والمهاة التي ذكرها هي بنت رئيس, فلها حشم من جنسها. وحشم الإنسان, أصله: الذين يغضب لهم إذا لحقهم ضيم, ثم سمي الخدم حشمًا. ويقال: حشمت الرجل

واحتشمته إذا أغضبته. قال الشاعر: [الوافر] لعمرك إن قرص أبى خبيبٍ ... بطيء النضج محشوم الأكيل وكان الأصمعي ينكر قول الناس: فلان يحتشم؛ أي يستحي, وغيره من العلماء يجيز ذلك. وقوله: ترمي على شفرات الباترات بهم ... مكامن الأرض والغيظان والأكم شفرات: جمع شفرةٍ, وهي حد السيف. وشفير كل شيء آخره, ومنه شفر العين. ويقولون: لإلان على شفير أمر؛ أي: في آخره قد أشرف على غيره. ومنه قوله: شفر العطية إذا أقلها. وادعى الشاعر أن هؤلاء القوم المغرورين ترميهم على شفرات السيوف المكامن - وهي جمع مكمنٍ؛ أي الموضع الذي يستتر فيه الإنسان - وكذلك تفعل بهم الغيطان والأكم. [و] لما كانت هذه المواضع لا تمنعهم زعم أنها كالرامية لهم إلى السيوف. وقوله: وجاوزوا أرسناسًا معصمين به ... وكيف يعصمهم ما ليس بنعصم أرسناس: اسم نهر, أو موضع فيه نهر, والمعصم بالشيء: المتمسك به. قال طفيل الغنوي: [الطويل] إذا ما غدا لم يسقط الرعب رمحه ... ولم يشهد الهيجا بألون معصم يقول: أرادوا أن يعتصموا بأرسناس وهو لا يعصم نفسه فكيف يعصم سواه؟ ! . وقوله: تجعفل الموج عن لبات خيلهم ... كما تجفل تحت الغارة النعم كان سيف الدولة قد عبر إلى الروم ماءً على الخيل سبحت بالفرسان فيه؛ فأراد أن الموج يتجفل عن لبات الخيل؛ فكأنه النعم إذا أغير عليه فجعل يتجفل.

وقوله: عبرت تقدمهم فيه وفي بلدٍ ... سكانه رمم مسكونها حمم يعني أن هذا البلد قد قتلت أهله فعظامهم رمم؛ أي بالية. وواحد الرمم: رمة. وقد أحرقت ديارهم فهذه الرمم في مثل الحمم وهو الفحم. قال طرفة: [المديد] أشجاك الربع أم قدمه ... أم رماد دارس حممه وقوله: وفي أكفهم النار التي عبدت ... قبل المجوس إلى ذا اليوم تضطرم يعني بالنار: السيوف؛ لأنها معروفة قبل أن تعبد المجوس النار, وجعلها معبودةً لأنها تهاب ويغلب بها على الممالك, فيذل بها الأعزاء, فكأنها أرباب معبودة؛ وإنما يعني أصحاب السيوف فجعل الخبر عنها, وذلك كثير يسمون الشيء باسم ما قاربه ويصفونه بصفته. وقوله: (194/ب) قاسمتها تل بطريقٍ فكان لها ... أبطالها ولك الأطفال والحرم قاسمتها؛ يعني السيوف, فكان لها أبطالها؛ أي قتلهم بها, فكأنها قاسمتك تل بطريقٍ, فكان لها الأبطال, ولك الحرم والأطفال لأنك سبيتهم. وقوله: تلقى بهم زبد التيار مقربةً ... على جحافلها من نضحه رثم التيار: الموج, وزبده من زبد الماء, والمقربة: الخيل التي جرت عادتها بأن تقرب عند البيوت, وقد مضى ذكرها. والرثم: بياض جحفلة الفرس السفلى, وقد استعمل ذلك في الظباء. قال عنترة: [الكامل] وكأنما التفتت بجيد جدايةٍ ... رشأٍ من الغزلان حر أرثم

وقوله: دهم فوارسها ركاب أبطنها ... مكدودة وبقومٍ لا بها الألم ابتدأ الشاعر بصفة خيلٍ من الخيل المعروفة, ولم يزل مستمرًا على ذلك إلى قوله: دهم فوارسها, ثم دل ذلك على أنه يريد السفن لأنه وصفها بالدهم؛ يعني أنها مطلية بقارٍ, وجعل فوارسها ركاب أبطنها فدل ذلك على أنه يريد السفن لا غير؛ لأن فرسان الخيل إنما يركبون ظهورها, وزعم أنها مكدودة, وهي لا تحس بذلك كما تحس الخيل. وقوله: وبقومٍ لا بها الألم؛ أي إنما يألم الذين يمارسونها حتى تسير في الماء, وقد يجوز أن يكون في هذه الغزاة سبحت به الخيل في الماء, وأن يكون ركب السفن؛ وذلك في غزاةٍ واحدةٍ. وقوله: من الجياد التي كدت العدو بها ... وما لها خلق منها ولا شيم يعني: السفن جعلها جيادًا؛ لأنهم ركبوها كما يركبون الخيل, ثم ذكر أنها ليس لها شبه من الخيل في الخلق ولا الشيم. والشيم: جمع شيمةٍ, وهو ماي ظهر من خلق الإنسان, مأخوذة من قولك: شمت السيف إذا سللته. وقوله: نتاج رأيك في وقتٍ على عجلٍ ... كلفظ حرفٍ وعاه سامع فهم استعار النتاج للرأي؛ وإنما هو للحوامل كالناقة والفرس وغيرهما. يقول: إذا افتقر إلى رأيك جاء موفقًا مصيبًا مع عجلةٍ كلفظ الحرف الذي يعيه سامع فهم, فإذا سئل عنه أجاب من غير تلبثٍ. وقوله: وقد تمنوا غداة الدرب في لجبٍ ... أن يبصروك فلما أبصروك عموا يقول: تمنوا لقاءك وقالوا: إن نظرنا إليه بلغنا منه ما نريد وحلفوا على ذلك بمفرق ملكهم, فلما أبصروك عجزوا عنك؛ فكأنهم عموا عن قصدك. وفي هذا المعنى شبه من قول جميل: [الطويل]

فليت رجالًا فيك قد نذروا دمي ... وهموا بقتلي, يابثين, لقوني إذا ما رأوني طالعًا من ثنيةٍ ... يقولون من هذا وقد عرفوني وقوله: صدمتهم بخميسٍ أنت غرته ... وسمهريته في وجهه غمم جعل الجيش كالفرس وجعل الممدوح له غرةً. والسمهرية - أي: الرماح - غممًا في وجهه. والغمم: شعر يغشى الوجه ومؤخر العنق. وبيت هدبة معروف: [الطويل] فلا تنكحي إن فرق الدهر بيننا ... أغم القفا والوجه ليس بأنزعا وكأنه من قول الأول في صفة الجيش: [الوافر] فلو أنا شهدناكم نصرنا ... بذي لجبٍ أزب من العوالي وقوله: والأعوجية ملء الطرق خلفهم ... والمشرفية ملء اليوم فوقهم تقدير الكلام نصب ملء الطرق بإضمار فعلٍ كأنه قال: والأعوجية تردي, أو تركض في حال ملئها للطرق, والإضافة في ملء الطرق على نية الانفصال, كأنه قال: ملئًا للطرق؛ أي مالئةً, ونصب ملء اليوم على نحوٍ من هذا النصب. وقوله: إذا توافقت الضربات صاعدةً ... توافقت قلل في الجو تصطدم

أراد الضربات فسكن الراء ضرورةً. يقول: إذا توافقت الضربات في حال الصعود قطعت الرؤوس فاصطدمت في الجو. وقوله: وأسلم ابن شمشقيقٍ أليته ... ألا انثنى فهو ينأى وهي تبتسم يقول: أسلم المولي أليته؛ أي الحالف يمينه فهو ينأى بالهرب, وهي تبتسم؛ أي تهزأ به وتضحك. وقوله: لا يأمل النفس الأقصى لمهجته ... فيسرق النفس الأدنى ويغتنم (195/أ) يقول: قد أيقن بالموت فهو لا يأمل النفس الأقصى, فقد جعل يغتنم الأنفاس ويكررها. وقوله: ترد عنه قنا الفرسان سابغة ... صوب الأسنة في أثنائها ديم يقول: طعنا بالرماح طعنًا متتابعًا كتتابع المطر في الديم, إلا أن الدرع ردت عنه. ووصف الدرع بقوله: تخط فيها العوالي ليس تنفذها ... كأن كل سنانٍ فوقها قلم هذه مبالغة في صفة الدرع؛ لأنه جعل الأسنة إذا مرت بها فكأنها أقلام لا تؤثر فيها أثرًا. وقوله: ألهى الممالك عن فخرٍ قفلت به ... شرب المدامة والأوتار والنغم مقلدًا فوق شكر الله ذا شطبٍ ... لا تستدام بأمضى منهما النعم يقول: ألهى الممالك - أي أصحابها - عن نصرٍ قفلت به من غزوك اشتغالهم بالخمر وسماع الغناء, وهذا كقوله في الأخرى: ليس من عنده تدار المنايا ... مثل من عنده تدار الشمول والنغم من قوله: ما نغم بكلمةٍ؛ أي ما تكلم بها, ثم سمي الغناء نغمًا؛ وإنما يراد ما حسن من الأصوات. ونصب مقلدًا على الحال, وصيره متقلدًا لشكر الله تحت تقلده بالسيف. والشطب والشطب: طرائق في السيف.

وقوله: لا تستدام بأمضى منهما النعم: شرح في هذا النصف مراده في النصف الأول, ولا يمكن أن يكون النصف الثاني صفةً لشكر الله وللشطب لأنهما مختلفان في الإعراب. وقوله: ألقت إليك دماء الروم طاعتها ... فلو دعوت بلا ضرب أجاب دم يسابق القتل فيهم كل حادثةٍ ... فما يصيبهم موت ولا هرم يقول: أطاعتك دماء الروم فلو دعوتها بغير السيوف لأجابتك؛ أي: لو قلت لها: هلمي أو انسفكي لفعلت ما تأمرها به من غير أن تسل سيفًا؛ فادعى أن القتل يسابق فيهم الحوادث, فما يمهل الشاب إلى الهرم, ولا يسمح للميت أن يموت بغير السيف. وقوله: نفت رقاد علي عن محاجرها ... نفس يفرح نفسًا غيرها الحلم المحاجر: جمع محجرٍ وهو ما حول العين. فأما المحجر فهو ما يحجر من الأفعال. قال حميد بن ثور: [الكامل] وهممت أن أخطو إليها محجرًا ... ولمثلها يخطى إليه المحجر يقول: نفس هذا الممدوح عظيمة فلا تقتنع إلا بعظام المكارم, ونفس غيره دنية فهي تفرح بما تراه في الحلم وإن علمت أنه ليس بحق. ويحتمل معنى آخر وهو أن عليًا تنفي رقاده نفس شريفة, ونفس غيره ترضى بالنوم لأنه هدوء وراحة؛ وهذا أبلغ من المعنى الأول. وقوله: القائم الملك الهادي الذي شهدت ... قيامه وهداه العرب والعجم أصل القيام أن يكون ضد القعود, ثم قالوا: قام الملك إذا صارت المملكة إليه, كما قال القائل: [الطويل] إذا مات منا سيد قام سيد ... قؤول لما قال الكرام فعول وقوله:

ومن أبيات أولها

ابن المعفر في نجدٍ فهوارسها ... بسيفه وله كوفان والحرم كان أبو الهيجاء والد سيف الدولة قد ولي الكوفة وحج بالناس وجرت له خطوب مع القرامطة. يقول: عفر في نجدٍ فوارسها؛ أي ألقاهم في العفر. وقد ذكر أبو الطيب هذا في قوله لسيف الدولة لما أوقع ببني كلاب: بنو قتلى أبيك بأرض نجدٍ ... ومن أبقى وأبقته الحراب وقافيتها من المتراكب. ومن أبيات أولها رأيتك توسع الشعراء نيلًا ... حديثهم المولد والقديما وزنها من الوافر الأول. وقوله: فتعطي من بقى مالًا جسيمًا ... وتعطي من مضى شرفًا عظيما يقال: إن سيف الدولة وجه شاعره إليه هذه الأبيات في رقعة وقرأها بقي بسكون الياء فأنكر ذلك فعرف (195/ب) أنه أراد اللغة الطائية لأنهم يقولون: بقا في معنى بقي, وباقاة في معنى باقيةٍ, وعلى ذلك أنشدوا البيت المنسوب إلى مروان بن الحكم: [الوافر] وما الدنيا بباقاة لحي ... ولا حي على الدنيا بباق

ومن التي أولها

وقال زيد الخيل: [الطويل] فلولا زهير أن يكدر نعمةً ... لقاذعت كعبًا ما بقيت وما بقى وقوله: سمعتك منشدًا بيتي زيادٍ ... نشيدًا مثل منشده كريما فما أنكرت موضعه ولكن ... غبطت بذاك أعظمه الرميما سمع أبو الطيب سيف الدولة ينشد بيتي النابغة الذبياني, واسم النابغة زياد, والبيتان: [الطويل] ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب تخيرن من أزمان يوم حليمةٍ ... إلى اليوم قد جربن كل التجارب فقال هذه الأبيات. وقافيتها من المتواتر. ومن التي أولها أنا لائمي إن كنت وقت اللوائم ... علمت بما بي بين تلك المعالم الوزن من ثاني الطويل. وفي البيت معنى القسم لأن الإنسان يقول: أنا كافر إن كان كذا, وإذا حلف النصراني واليهودي فربما قالا: أنا حنيف مسلم إن كان كذا. والمعنى: أنه يريد: إن كنت وقت اللوائم علمت بما بي بين معالم الديار فأنا لائمي؛ وإنما يريد تبرؤه من اللوام وأن رأيه ليس كرأيهم.

وقوله: ولكنني مما ذهلت متيم ... كسالٍ وقلبي بائح مثل كاتم يقول: ما علمت بما بي بين تلك المعالم, ولكنني مما ذهلت - أي مما تغير عقلي - ظللت كأنني سالٍ؛ وأنا متيم. وقلبي بائح مثل كاتم؛ أي: لم أدر بما كنت فيه. وشدهت قريبة من معنى ذهلت؛ إلا أن أكثر ما تستعمل الشده فيما لم يسم فاعله. وقوله: وقفنا كأنا كل وجد قلوبنا ... تمكن من أذوادنا في القوائم الأذواد: جمع ذودٍ, وقد استعمل الأذواد للإبل المركوبة وإنما يستعمل الذود للإبل الراعية, وهذا جائز على الاستعارة؛ لأن الأذواد يجوز أن تذلل فتصير عيرًا تحمل ميرةً, أو مطايا يسافر عليها الركبان. يقول: كأن وجد قلوبنا تمكن من قوائم مطايانا فهي لا تقدر على البراج. وقوله: ودسنا بأخفاف المطي ترابها ... فلا زلت استشفي بلثم المناسم يقول: دسنا بأخفاف المطي تراب هذه المعالم؛ فلازلت أستشتفي الله سبحانه بأن ألثم مناسم هذه المطي أرجو البرء والخلاص مما أنا فيه. وقوله: ديار اللواتي دارهن عزيزة ... بطول القنا يحفظن لا بالتمائم يقول: هذه المعالم ديار اللواتي دارهن عزيزة, وتحفظ بالطولى من القنا لا بالتمائم؛ لأن بعض الناس يعلق على الأطفال التمائم خشية العين والجن فيما يزعمون. قال ابن ميادة أو غيره: [الطويل] أحب بلاد الله ما بين منعجٍ ... إلي وبصرى أنيصوب سحابها بلاد بها نيطت علي تمائمي ... وأول أرض مس جلدي ترابها

وقوله: حسان التثني ينقش الوشي مثله ... إذا مسن في أجسامهن النواعم هذه مبالغة يخرج بها المعنى إلى الإحالة, ولو أن غانيةً ينقش الوشي في جسدها مثله لم يكن للرجال فيها غرض؛ لأنها خارجة عن حال الآدميات. وقد وصفت الشعراء في القديم النعمة ولم تبالغ هذه المبالغة. قال امرؤ القيس: [الطويل] من الخفرات البيض لو دب محول ... من الذر فوق الإتب منها لأثرا وقال حسان: [الخفيف] لو يدب الحولي من ولد الذ ... ر عليها لأندبتها الكلوم والذر والنمل لهما قرص ليس للوشي. وقوله: ويبسمن عن غر تقلدن مثلها ... كأن التراقي وشحت بالمباسم الغر: جمع أغر وغراء؛ وإنما عدل إلى الغر عن الدر لأن الدرة ربما كانت عظيمة فلان يحسن أن تشبه بها السن (196/أ) , وسكن ياء التراقي للضرورة وقد كرر مثل لك. وواحد التراقي: ترقوة, وقالوا في جمعها: ترائق قلبوها عن التراقي, وأنشد أبو عبيدة: [الطويل] هم زودنوني يوم قو حرارةً ... خلال الحشى تجول بين الترائق وقوله: فما لي وللدنيا طلابي نجومها ... ومسعاي منها في شدوق الأراقم طلابي مبتدأ, ونجومها خبره, والمعنى: الذي أطلب نجومها فأقام المصدر مقام المفعول, فكأنه قال: مطلوبي نجومها, ولو نصب نجومها لجاز كما تقول: ضربي فلانًا, وهذا مثل قولهم: رأي عيني فلانًا يفعل كذا. قال الراجز: [الرجز]

ورأي عيني الفتى أخاكا ... يعطي الجزيل فعليك ذاكا فيكون المعنى مؤديًا قوله: رأت عيناي أخاك, ويجوز أن يكون خبر رأى مضمرًا؛ كأنه قال: رأي عيني كائن أو واقع, ويجوز أن يكون طلابي بدلًا من الياء في «لي» فينصب نجومها لا غير. يقول: ما لي وللدنيا أطلب فيها معالي الأمور ومسعاي في شدوق الأراقم؛ أي في مواضع الهلكة التي لا تؤدي إلى فائدة. وقوله: من الحلم أن تستعمل الجهل دونه ... إذا اتسعت في الحلم طرق المظالم قد وصفت الشعراء إفراط الحلم وأنه ليس بمحمود. قال الجعدي: [الطويل] ولا خير في حلمٍ إذا لم تكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدرا وقال الأفوه: [الرمل] يحلم الجاهل في السلم ولا ... يقر الحلم إذا ما القوم غاروا ورثي الأحنف بن قيس وقد قاتل يومًا قتالًا شديدًا؛ فقيل: أين الحلم يا أبا بحر؟ فقال: عند الحبى؛ أي إن القوم إذا جلسوا في مجالسهم, وشدوا حباهم فذلك الوقت الذي يحمد فيه الحلم. وقوله: وأن ترد الماء الذي شطره دم ... فتسقي إذا لم يسق من لم يزاحم عطف قوله: وأن ترد الماء على قوله: أن تستعمل, وحث على ورد الماء الذي شطره دم؛ أي نصفه, وأشار بالزحام على الورد إذا لم يسق المزاحمون؛ وقد وصفت الشعراء أنفسها بمسامحة الشريب في الماء. قال الشاعر وذكر الإبل: [البسيط]

ولا تسفه حول الماء عطشتها ... أحلامنا وشريب السوء يحتدم أي يشتعل غيظه كما تشتعل النار. وكان الضعاف منهم والنساء اللواتي لا رجال لهن يرشون الساقي ليسقي لهن. قال الشاعر: [الطويل] سيكفيك سقيًا رجل ظبيءٍ وعلبة ... تمطت بها مصلوبة لم تحارد مصلوبة: أي ناقة سمتها صليب. وتحارد: أي يقل لبنها. وقوله: ومن عرف الأيام معرفتي بها ... وبالناس روى رمحه غير راحم فليس بمرحومٍ إذا ظفروا به ... ولا في الردى الجاري عليهم بآثم هذان البيتان فيهما حث على سفك الدم وقلة الرحمة, وأحسن القائل على الإحسان في قوله: [البسيط] الخير يبقى وإن طال الزمان به ... والشر أخبث ما أوعيت من زاد ويجوز أن يغفر للحطيئة بقوله: [البسيط] من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس وقوله: إذا صلت لم أترك مصالًا لفاتكٍ ... وإن قلت لم أترك مقالًا لعالم وإلا فخانتني القوافي وعاقني ... عن ابن عبيد الله ضعف العزائم

ادعى أمرين عظيمين: أنه إذا صال لم يترك مصالًا لفاتكٍ من الناس, وإن قال لم يترك اللعالم مقالًا, ثم أتبع بقوله: وإلا فخانتني القوافي؛ أي إلا أكن كذلك فخانتني القوافي التي هي لي وافية. دعا على نفسه أن تخونه إن كان كذب فيما زعم وقوله: عن المقنتي بذل التلاد تلاده ... ومجتنب البخل اجتناب المحارم المقنتي: المفتعل من اقتنى الشيء إذا جعله قنيةً وقنيةً, ونصب تلاده لأنه جعل الاقتناء مؤديًا تصيير الشيء فكأنه قال: إلى الجاعل بذل التلاد تلادًا له؛ أي يهب ماله التلاد ويجعل بذله تلادًا له. وقوله: تمنى أعاديه محل عفاته ... وتحسد كفيه ثقال الغمائم يقول: عداة هذا الممدوح يتمنون محل عفاته؛ أي سؤاله؛ أي إنهم إذا حلوا محل العفاة أمنوا من بأسه وصار إليهم من العطاء ما لا يصل إليهم بالحرب, وهذا نحو من قوله: [الطويل] ينام لديك الرسل أمنًا وغبطةً ... وأجفان رب الرسل ليس تنام وادعى أن ثقال الغمائم تحسد كفيه, وإنما يدعي أن عطاءه أكثر من عطائها؛ فكأنها تحسده لعجزها عن ذلك, والحسد لا يكون في الغمائم. وقوله: (196/ب) وذي لجب لا ذو الجناح أمامه ... بناجٍ ولا الوحش المثار بسالم يصف جيشًا بالعظم؛ يقول: إذا طار ذو الجناح أمامه فليس بناجٍ لأن الرماة كثيرة في الجيش, وإن ثار وحش أدرك فأخذ. وقوله: تمر عليه الشمس وهي ضعيفة ... تطالعه من بين ريش القشاعم يعني أن الجيش قد ارتفع غباره فالشمس لا تصل إليه إلا أن تدخله من بين ريش الطير التي تتبعه لتصيب من لحم القتلى. وقوله:

إذا ضوؤها لاقى من الطير فرجةً ... تدور فوق البيض مثل الدراهم. هذا نحو قوله في الأخرى: [الوافر] وألقى الشرق منها في ثيابي ... دنانيرًا تفر من البنان وقوله: ويخفى عليك الرعد والبرق فوقه ... من اللمع في حافاته والهماهم هذا معنى غريب لأنه زعم أن السماء إذا رعدت أو برقت أخفى لمع هذا الجيش برقها وغلبت هماهمه رعدها. والهماهم: جمع همهمةٍ وهو صوت يرتدد في الصدر ولا يفهم. قال الراجز: [الرجز] إنك لو شاهدتنا بالخندمه ... إذ فر صفوان وفر عكرمه وأدركتنا ابالسيوف المسلمه ... لأهم نئيت خلفنا وهمهمه لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه وقوله: وطعن غطاريفٍ كأن أكفهم ... عرفن الردينيات قبل المعاصم هذا معنى في نهاية اللطف والحسن, وقد سلمه من الكذب دخول التشبيه, ولولا ذلك لكان كذبًا. ولبعض شعراء المغرب الذين جاؤوا بعد أبي الطيب بيت يشاكل معناه هذا المعنى ولا تشبيه فيه فهو كذب محض, وذلك قوله: [الطويل] وعلمتموه الضرب قبل فطامه ... ففي فمه ثدي وفي كفه نصل [وقوله: ]

حمته على الأعداء من كل جانبٍ ... سيوف بني طفج بن جف القماقم طفج: اسم أعجمي, وقد استعملته الشعراء المحدثون بتشديد الجيم وتخفيفها, يقولون: طفج وطفج, وقد مضى القول في أن العرب تجترئ على تغيير الكلام الأعجمي, وليس في العربية «الطغج» فيكون اشتقاقه موافقًا لطغج. فأما جف فأعجمي إلا أنه وافق من كلام العرب ما اشتق من الجيم والفاء المشددة نحو: جف يجف ونحوه. وقوله: هم المحسنون الكر في حومة الوغى ... وأحسن منه كرهم في المكارم الكر: رجوع بعد انصراف, فيقال للرجل إذا لقي القوم في الحرب ولم يكن لقيهم قبل ذلك: حمل عليهم, فإذا انصرف ثم رجع قيل: كر, ولذلك قال امرؤ القيس: [الطويل] مكر مفر مقبلٍ مدبرٍ معًا ... كجلمود صخرٍ حطه السيل من عل وقال عامر بن الطفيل: [الطويل] أكر عليهم دعلجًا ولبانه ... إذا ما اشتكى وقع الرماح تحمما استحسن الشاعر كرهم في الحرب وفضل عليه في الحسن كرهم في المكارم. وقوله: حييون إلا أنهم في نزالهم ... أقل حياءً من شغار الصوارم هذا لفظ يستحسن في صناعة النظم وليس له صحة في الحقيقة؛ وإنما يقال: هذا أفعل من هذا إذا فضل أحد الشيئين على الآخر, وفي كل واحد منهما شيء من تلك الفضيلة, فإذا قلت: زيد أكرم من عمرو فقد فضلت زيدًا ولم تخل عمرًا من الكرم. وقوله: أقل حياءً قد حكم على أن في السيوف حياءً إلا أنه قليل, والسيف لا يوصف بهذه الصفة إلا أنه سائغ في الشعر. وقوله: سرى النوم عني في سراي إلى الذي ... صنائعه تسري إلى كل نائم

يقول: إن النوم سرى عني لأني سهرت في سراي إلى هذا الممدوح الذي صنائعه سارية إلى كل نائم. وقوله: وفارقت شر الأرض أهلًا وتربةً ... بها علوي جده غير هاشم الأجود أن تكون الهاء في بها راجعةً إلى تربةٍ, وتكون الجملة في موضع نعتٍ لها. وقوله: بها علوي أقر له بالعلوية, ثم نفاه عن هاشمٍ أن هذا المذكور ينتسب إلى علي بدعواه, وليس هو من ولده. وهاشم بن عبد مناف واسمه عمرو, يقال إنه سمي هاشمًا لأن قومه أصابهم جدب فهشم لهم الثريد. وأصل الهشم أن يكون في الشيء اليابس مثل قولهم: هشم الشجرة؛ إلا أن الشاعر استعمله في الثريد, وهذا الشعر ينسب إلى عبدالله بن الزبعرى, وهو: [الكامل] كانت قريش بيضةً فتفلقت ... فالمخ خالصه لعبد مناف عمرو الذي هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف وقوله: بلى الله حساد الأمير بحلمه ... وأجلسه منهم مكان العمائم هذا البيت إن لم يوصل بما بعده احتمل أن يكون إخبارًا أو دعاءً؛ وكونه إخبارًا أبلغ في المدح؛ لأنه يخبر بشيء قد وقع وكان. (197/أ) والدعاء بالشيء يدل على أنه لم يكن بعد, ومما يدل على أنه دعاء مجيء الفاء في قوله: فإن لهم في سرعة الموت راحةً ... وإن لهم في العيش حز الغلاصم

ومن بيتين أولهما

ولو أنه بالواو لكان ذلك دليلًا على أن في البيت دعوةً على الأعداء. وحز الغلاصم عبارة عن الموت؛ لأن الغلصمة إذا حزت فلا حياة. ويقال إن الفرزدق سمع بعض الشعراء ينشد: [الطويل] وما بين من لم يعط سمعًا وطاعةً ... وبين تميمٍ غير حز الغلاصم فقال له: لتتركنه لي أو لتتركن عرضك, فقال: خذه لا بارك الله لك فيه. وهذا البيت موجود في شعر الفرزدق, وسبحان من يعلم حقائق الأمور. وقوله: كأنك ما جاودت من بان جوده ... عليك ولا قاتلت من لم تقاوم يقول: إذا هم الإنسان بأمر ولم يفعله فكأنه لم يهمم به, وإذا اجتهد في طلب شيءٍ ولم يدركه فكأنه ما طلبه. وهذا البيت مخاطبة لسامعٍ غير الممدوح. يقول: كأنك يا إنسان إذا جاودت غيرك فغلبك في الجود لم تجاوده, وإذا قاتلت من لم تقاومه فكأنك لم تقاتله. وقافيتها من المتدارك. ومن بيتين أولهما أعن إذني تهب الريح رهوًا ... ويسري كلما شئت الغمام وزنهما من الوافر الأول. الرهو: الساكن؛ يقال: هبت الريح هبوبًا رهوًا, ومشت المراة مشيًا رهوًا؛ أي على رسل. وفي الكتاب العزيز: {واترك البحر رهوًا} قيل: ساكنًا, وقيل: مفترقًا, وحكي: رها الرجل ما بين رجليه إذا فرقهما, وقال القطامي: [البسيط]

ومن بيتين أولهما

يمشين رهوًا فلا الأعجاز خاذلة ... ولا الصدور على الأعجاز تتكل وهذا من الشاعر استفهام على معنى الإنكار, كما تقول للرجل إذا أنكرت عليه جلوسه في موضع: أأنت هاهنا جالس؛ أي لا يحق لك أن تجلس. وإنما أراد أن الريح لا تهب عن إذنه, وأن الغمام لا يسري كما أراد, وكأن هذا المعنى مبني على مدح جليس أو رئيسٍ حضر عنده ففعل معه أفعالًا تشبه هبوب الريح رهوًا, وسرى الغمام كلما شاء؛ ويدلك على ذلك مجيئه في البيت الثاني بقوله: ولكن الغمام له طباع ... تبجسه بها وكذا الكرام التبجس: تفتح الغمام بالمطر كأنه قال: ما الريح هابة عن إذني رهوًا ولا الغمام ساريًا كلما شئت, ولكن المذكور قد فعل معي أفعالًا أوهمتني الذي وصفت. وقافيتهما من المتواتر. ومن بيتين أولهما حييت من قسمٍ وأفدي المقسما ... أمسى الأنام له مجلا معظما وزنهما من الكامل الأول. والمعنى: أن رجلًا أقسم عليه ليشربن الخمر, والهاء في «له» يجوز أن تكون عائدة على المقسم, فإذا كانت كذلك فقوله: أمسى الأنام له مجلا معظماً: جملة في موضع الحال من المقسم, وإن عادت على القسم فالجملة في موضع خفضٍ وهي صفة لقسمٍ. وقوله: وإذا طلبت رضى الأمير لشربها ... وشربتها فلقد تركت الأحرما الهاء في شربها عائدة على الخمر ولم يجر لها ذكر؛ لأن الغرض معلوم عند السامع. وزعم أن الخمر محرمة, وأن خلاف الآمر له بشربها حرام, فإذا أرضاه بشربه الخمر فقد ترك الشيء الذي هو أحرم من الراح؛ يعني خلاف الآمر بالشرب. وقافيتهما من المتدارك.

ومن بيتين أولهما

ومن بيتين أولهما غير مستنكرٍ لك الإقدام ... فلمن ذا الحديث والإعلام وزنهما من الخفيف الأول. يقول: إن إقدامك غير مستنكر, وقد علمه الناس كعلمك فحديثك عنه لا حاجة لنا فيه لأنا قد علمناه. وقوله: قد علمنا من قبل أنك من لا ... يمنع الليل همه والغمام يقول: شهر في الناس أنك لا يمنعك مما هممت به ليل ولا غمام يسح. وقافيتهما من المتواتر. ومن التي أولها لا افتخار إلا لمن لا يضام ... مدركٍ أو محاربٍ لا ينام الوزن من الخفيف الأول. قوله: ليس عزمًا ما مرض المرء فيه ... ليس همًا ما عاق عنه الظلام استعملوا العزم في الأمور بمعنى القطع فقالوا: عزمت الشيء وعزمت عليه, وقد عزم الأمر نفسه إذا وقع كأنه قطع, غير الوقوع. قال النابغة: [البسيط] حياك ود فإنا لا يحل لنا ... لهو النساء وإن الدين قد عزما أي: قد قطع عما أردت. وقال آخر: [الوافر] عزمت على إقامة ذي صباحٍ ... لأمرٍ ما يسود من يسود

وفي الكتاب العزيز: {فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرًا لهم} (197/ب) يقول: ليس عزمًا أمر يمرض فيه العازم. والتمريض في الأمر: التقصير فيه, وهو مأخوذ من مرض الإنسان لأن المرض يضعفه. ويقال: ريح مريضة أي ضعيفة. وقوله: ليس همًا ما عاق عنه الظلام؛ أي إن الظلام إذا عاق الهام عما يهم به فليس همه بهم, وإنما الهم ما يحمل الإنسان على ركوب الأهوال. والهم هاهنا: الهمة. وقوله: واحتمال الأذى ورؤية جانيـ ... ـه غذاء تضوى به الأجسام يقال: ضوى الجسم ضوًى إذا صغر. وفي كلامهم القديم: «استغربوا لا تضووا». يقول: تزوجوا الغرائب من النساء لئلا تضوى أولادكم, أي تصغر جسومهم. قال ذو الرمة: [الطويل] أخوها أباها والضوى لا يمسها ... وساق أبيها أمها عقرت عقرا يصف النار. يريد أن أباها وأمها من شجرة واحدةٍ - يعني الزندين اللذين يقدح بهما - أي متقاربة الأبوين وليس يمسها ضوى؛ لذلك قال الراجز: [الرجز] أنذر من كان صغير الهم ... في الناس تزويج بنات العم ليس بناجٍ من ضوى وسقم ... يومًا وإن أطعمته لا ينمي يقول: رؤية من يشق عليك النظر إليه غذاء يضوي الجسم, وشأن الأغذية أن تربي الأجسام. وقوله: ذل من يغبط الذليل بعيشٍ ... رب عيشٍ أخف منه الحمام

قوله: ذل من يغبط الذيل: يحتمل أن يكون إخبارًا أو دعاءً. وقوله: رب عيشٍ أخف منه الحمام: رب تدل على القلة, والعيش الذي أخف منه الحمام كثير جدًا؛ إلا أنه - على ثقله - لا يختار فراقه من هو فيه. وقوله: كل حلمٍ أتى بغير اقتدارٍ ... حجة لاجيء إليها اللئام يقول: ليس حلم الإنسان مما يحمد عليه إلا أن يكون حلم عن مقدرة, وإلا فحلمه ذل, وإنما يحتج بذلك لئام الناس. وقوله: من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرحٍ بميتٍ إيلام يقول: من يهن فالهوان عليه سهل؛ مثال ذلك أن الرجل الهين يهون عليه أن يستخدم في عمل التراب وغيره. ثم ذكر أن الميت قد فارق الحياة وصار من أهون الأشياء, فهو لا يحس بالجرح ولا غيره من الحوادث. وقوله: واقفًا تحت أخمصي قدر نفسي ... واقفًا تحت أخمصي الأنام وصف نفسه بالرفعة والعلو, وأنه مع ذلك واقف تحت أخمصي قدر نفسه وأن الأنام وقوف تحت أخمصيه. وقوله: أقرارًا ألذ فوق شرارٍ ... ومرامًا أبقي وظلمي يرام يقول: كيف أقر وتحتي شرار يحرق, وكيف أبقي مرامًا وغيري يريد ظلمي؟ . وقوله: دون أن يشرف الحجاز ونجد ... والعراقان بالقنا والشام الشام: أصله الهمز, وهو في هذه القافية لا يجوز همزه, قال الراجحز في همزه: [الرجز] لا تقربن الشأم إن الشأما ... كان لدراء العراق وخما

وإنما همزة لأنه مأخوذ من اليد الشؤمى أي الشمال, وذلك أن الرجل إذا وقف بمكة ونحوها واستقبل مطلع الشمس كان الشام عن شماله واليمن عن يمينه. وقالوا في النسب: رجل شآمٍ؛ فحذفوا الياء وكسروا الميم في الرفع والخفض, وقالوا في النصب: رأيت شآميًا, ويجوز في النسب إليه: شأمي على وزن فعلي, وشامي بغير همز إلا أن الياء مشددة. فأما قول الناس: الشآم على مثال الشغام؛ فذلك ردئ جداً, وقد استعمله حبيب بن أوس والوليد بن عبيد, وقد جاء في بعض الشعر القديم. قال رجل من طيئ: [الطويل] أتتنا قريش قضها بقضيضها ... وأهل الشآم والحجاز توجف أي كل ما تقدر عليه. وقوله: شرق الجو بالغبار إذا سا ... ر علي بن أحمد القمقام هذا الكلام متعلق بما قبله. يقول: أأبقي مرامًا وظلمي يرام دون أن يشرق الحجاز ونجد؟ ! أي إني يجب علي أن أجر الجيوش ومعهم القنا حتى يشرق به الحجاز ونجد وغيرها من البلاد مثل شرق الجو بالغبار إذا سار هذا الممدوح. وقوله: الأديب المهذب الأصيد الضر ... ب الذكي الجعد السري الهمام (198/أ) يقال: رجل ضرب إذا كان خفيف اللحم. قال طرفة: [الطويل] أنا الرجل الضرب الذي تعرفونه ... خشاش كرأس الحية المتوقد والجعد: يجوز أن يعني جعودة الشعر؛ لأنه إن أراد به جعودة الجسم فهو ضد الضرب؛ لأن الجعل ضد السبط. وقوله: يتداوى من كثرة المال بالإقـ ... ـلال جودًا كأن مالًا سقام

يتداوى: يتفاعل من الدواء, والهمزة في الدواء مقلوبة عن ياء لأنهم يقولون: داويت المريض. والهمزة في الدواء أصلية لأن أصله دواء وجمعه أدواء. زعم أن الممدوح يتداوى بفرط جوده من كثرة المال بالإقلال حتى كأن المال سقم. وقوله: حسن في عيون أعدائه أقـ ... ـبح من ضيفه رأته السوام حسن: متعلق بالبيت الأول, والمعنى يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون وصفه بالحسن وهو في عيون أعدائه أقبح من ضيفه في عيون سوامه - أي إبله - لأنه ينحرها له, والعرب تصف ذعر الإبل من النحر وتدعي أنها تكره نزوله. قال الشاعر وذكر ضيفًا: [الطويل] حبيب إلى كلب الكريم مناخه ... بغيض إلى الكوماء والكلب أبصر وقال أعشى باهلة, ووصف فزع الإبل ممن يعقرها: [البسيط] وتفزع الإبل منه حين تبصره ... حتى تقطع في أعناقها الجرر وهذا المعنى نحو من قوله في الأخرى: [الطويل] فما شعروا حتى رأوها مغيرةً ... قباحًا وأما خلقها فجميل والآخر من المعنيين: أن أعداءه يرونه حسن الصورة قبيح الفعل؛ فهم في هذا الوجه يرونه حسنًا قبيحًا, وفي الوجه الأول يرونه قبيحًا لا غير. وقوله: لو حمى سيدًا من الموت حامٍ ... لحماك الإجلال والإعظام وعوارٍ لوامع دينها الحـ ... ـل ولكن زيها الإحرام يقول: لو حمى سيدًا من الموت شيء لحمتك جلالتك وعزك. وعوارٍ لوامع هي سيوف

تسل دينها الحل؛ أي إنها لا تقتل إلا من يجب قتله, ولكن زيها زي المحرم لأنها تقر في الغمود, فهي عارية. وقوله: كتبت في صحائف المجد بسم ... ثم قيس وبعد قيس السلام جعل الباء هاهنا مع اسم بمنزلة الكلمة الواحدة الثلاثية نحو رجلٍ وجذعٍ, ولعل هذه الكلمة ما استعملت على هذه السجية إلا في البيت, لأنه جعل الباء مع اسم بمنزلة كلمةٍ واحدةٍ وأدخل عليها التنوين. ولو أنها: بسم الله لحسن أن تحكى على ما هي عليه, فيقال: كتبت في صحائف المجد بسم الله, فأما قول القائل: [الخفيف] أن لوًا وإنليتًا عناء فليس من هذا الجنس لأنه أخرج «لو» من بابها وجعلها كلمةً معربةً, ولا من نحو قولهم: مررت ببرق نحره؛ لأن الجمل إذا سمي بها فهي محكية في النصب والرفع والخفض. وقوله: إنما مرة بن عوف بن سعدٍ ... جمرات لا تشتهيها النعام قد شاع بين العامة أن النعام يلتهم الجمر, فحمل أبو الطيب كلامه على ذلك, وقال: مرة ابن عوف بن سعد جمرات لا تشتهيها النعام؛ أي هي جمرات عظيمة. وفي العرب قبائل تعرف بالجمرات, وإنما سميت بذلك لشدة بأسها. روي عن أبي عبيدة أن جمرات العرب ثلاث: الحارث بن كعب, وبنو عبسٍ, وبنو نمير. وقال مرة أخرى:

ضبة بن أد, فقيل له: إنك قلت: نمير؛ فقال: ضبة بن أد أشبه من نميرٍ. وقال: طفئت جمرتان وبقيت جمرة. طفئت جمرة بني عبس لحالفتهم بني عامر يوم جبلة, وطفئت جمرة الحارث بن كعب لمحالفتهم بني نهدٍ. وقيل: طفئت جمرة بني نمير, قال: ومن أطفأها؟ قيل: بغا؛ فضحك. وقوله: ليلها صبحها من النار والإصـ ... ـباح ليل من الدخان تمام ليلها صبحها من النار: يعني أنهم يوقدون النيران بالليل لقرى الضيفان؛ فالليل قد صار كأنه صبح لزوال الظلام. والعرب تفتخر بإيقاد النار, ويخصون بذلك المواضع العالية؛ لأن النار إذا كانت بالموضع المرتفع كان ذلك أشهر لها. قال الأنصاري: [الوافر] وترفع باليفاع الليل ناري ... تشب إذا يحس لها خبوت وقال حاتم: [الطويل] ولكن بهذاك اليفاع فأوقدي ... بجزلٍ - إذا أوقدت - لا بضرام وقوله: الإصباح ليل من الدخان تمام يحتمل وجهين: أحدهما: أنهم يوقدون النار بالنهار؛ إلا أنه يخفى ضوؤها لأن قراهم لا ينقطع في ليل ونهار؛ فدخان النار يستر ضياء الشمس. والآخر: أنهم يغيرون في النهار ويحاربون فيزول نور النهار لأجل الغبار. وقد جعل أبو الطيب الغبار دخانًا في قوله: [الطويل] وما كان إلا النار في كل موضعٍ ... يثير غبارًا في مكان دخان

وقوله: ونفوس إذا انبرت لقتالٍ ... نفدت قبل ينفد الإقدام زعم أن نفوسهم لا تفرق من الموت, وأنها إذا انبرت لقتال أنفدتها الحرب واإقدامها لم ينفد. وقوله: وقلوب موطنات على الروع ... كأن اقتحامها استسلام الاقتحام: الدخول على الشيء (198/ب) والتهجم عليه؛ يقال: قحم فلان نفسه في الهلكة. كأن اقتحامها استسلام: يجب أن يكون الاستسلام هاهنا الطلب للسلم, كما يقال: استخرج فلان المال أي طلب خروجه, واستنقذ فلانًا من الأمر إذا طلب استنقاذه. والعامة يقولون: استسلم فلان إذا سلم أمره إلى الله, ولم يجد حيلةً إلى الخلاص, وهذا المعنى لا يحتمله هذا البيت. وقوله: قائدو كل شطبةٍ وحصانٍ ... قد براها الإسراج والإلجام الشطبة: الفرس السبطة العظام القليلة اللحم. قال عبد يغوث الحارث: [الطويل] ولو شئت نجتني من الموت شطبة ... ترى خلفها الجرد العتاق متاليا ويقال: غلام شطب إذا وصف بخفة اللحم. قال الراجز: [الرجز] ترى مع القوم الغلام الشطبا ... إذا أحس وجعًا أو كربا دنا فما يزداد إلا قربا ومن هذا المعنى قيل لقطع السنام المستطيلة: شطائب.

وقوله: يتعثرن بالرؤوس كما مر ... بتاءات نطقه التمتام يقول: هذه الجياد يتعثرن برؤوس القتلى فمنعهن ذلك من العدو منعًا غير شديد, وإنما هو كتردد التمتام في التاء إذا حاول بها النطق. ونحو قولهم: تمتام قولهم للذي يتردد بالفاء: فأفاء. قال الشاعر: [الطويل] يقولون فأفاء فلا تنكحنه ... ولست بفأفاءٍ ولا بجبان وقوله: طال غشيانك الكرائه حتى ... قال فيك الذي أقول الحسام الكرائه: جمع كريهةٍ, وهو ما يكره من لقاء الحروب: فعيلة في معنى مفعولة. وادعى أن الحسام يقول للممدوح كما يقول له الشاعر. وقوله: وكفتك الصفائح الناس حتى ... قد كفتك الصفائح الأقلام الصفائح: جمع صفيحة, وهي السيف العريض الصفح, وإذا عرض الحجر أو غيره من الحديد فهو صفيحة. قال الشاعر: [الكامل] إن الذي بين الصفائح والصفا ... في أرض مرو على الطريق الرائح وصفحة الوجه: عرضه, والمراد به الخد. يقول: كفتك السيوف أمور الناس وعظمت

هيبتك فأغنتك أقلامك عن سيوفك. واختار الصفائح دون غيرها من أسماء السيوف, نحو: القواضب والبواتر والقواطع؛ لأنه أراد أن يجيء بضد الأقلام إذ كانت لا عرض لها وإنما هي دقاق. وقوله: وكفتك التجارب الفكر حتى ... قد كفاك التجارب الإلهام يقول: كفاك التجارب أن تفكر لأنك قد عرفت الأشياء, فإذا ورد عليك مشكل لم تحتج أن تفكر فيه؛ لأنك تقيسه على سواه. ثم ارتقت بك الفطنة إلى أن صار الله سبحانه يلهمك فعل الخير, والتحرج من الخطوب. والإلهام: مأخوذ من قولهم: لهم الإنسان الشيء إذا بلعه, والله جلت عظمته كأنه يلقي التوفيق بصدره. وقوله: فارس يشتري برازك للفخـ ... ـر بقتلٍ معجلٍ لا يلام يقول: برازك فخر عظيم يفتخر به مبارزك, فالذي يشتريه بالقتل لا يلام فيما صنع؛ لأنه يبني له مجدًا باقيًا, والعرب تفتخر بأنهم يقتلون. قال زهير: [الطويل] وإن يقتلوا فيشتفى بدمائهم ... وكانوا قديمًا من مناياهم القتل وقوله: نائل منك نظرةً ساقه الفقـ ... ـر عليه لفقره إنعام يقول: إن الرجل إذا كان فقيرًا فجاء يطلب نائلك فنال نظرةً إليك, فذاك إنعام لفقره عليه. وقوله: قد لعمري أقصرت عنك وللوفـ ... ـد ازدحام وللعطايا ازدحام خفت إن صرت في يمينك أن يأ ... خذني في هباتك الأقوام هذا معنى لم يعلم أن أبا الطيب سبق إليه؛ لأنه احتج لتأخره عنه بطلاب الأعطية يزدحمون لديه؛ لأنه خشي أن يؤخذ في الهبات, وهذه مبالغة لم يأت بمثلها سواه.

وقوله: ومن الرشد لم أزرك على القر ... ب على البعد يعرف الإلمام هذا الكلام فيه تقديم وتأخير, وهو يحتمل وجهين: أحدهما: أن يريد: ولم أزرك من رشدي على القرب؛ أي (199/أ) إني أرشدت إلى تأخير الزياة؛ لأن الزائر على البعد يجب له من الحق ما لا يجب للزائر مع قرب الدار. والإلمام: زيارة ليست بالدائمة, والمثل السائر: «زر غبا تزدد حبا». والإلمام بالشيء أن يفعل فعلًا غير المتصل. قال الراجز: [الرجز] إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبدٍ لك لا ألما وقوله: ومن الخير بطء سيبك عني ... أسرع السحب في المسير الجهام يقول: بطء سيبك عني خير؛ لأن السحاب إذا كثر ماؤه بطؤ مسيره, وإذا أراق ماءه وصف بسرعة السير. قال النابغة: [الوافر] وأصبح في مداهن بارداتٍ ... بمنطلق الجنوب مع الجهام وقوله: قل فكم من جواهرٍ بنظامٍ ... ودها أنها بفيك كلام ادعى أن الجواهر المنظومة تود أنها كلام في فم الممدوح. وهذا المذهب يستحسن في رأي الشعراء, وقد علم أنه لا يكون؛ لأن الجواهر غير وادةٍ شيئًا من الأشياء.

وقوله: هابك الليل والنهار فلو تنـ ... ـهاهما لم تجز بك الأيام يرحم الله أبا الطيب فقد اجتهد بقيل الباطل ورضي على ذلك بعطاءٍ زهيد؛ ولو أن هذا البيت في صفة الله - عز سلطانه - لجاز أن ينال به رضوان الله. وقوله: لم لا تحذر العواقب في غيـ ... ـر الدنايا أو ما عليك حرام يقول: أنت لا تحذر العواقب إلا في أمر دني تهاب أن تفعله. وقوله: أو ما عليك حرام؛ فإذا رفع عليك حرام فحرام خبر هو المحذوفة, ولو كانت القافية مخفوضةً لجاز أن يخفض حرام وتجعل «ما» نكرةً, ويكون التقدير: في غير الدنايا أو شيءٍ عليك حرام. وإذا رفع حرام جاز أن تكون «ما» معرفةً ونكرةً. وقوله: إن بعضًا من القريض هذاء ... ليس شيئًا وبعضه أحكام منه ما تجلب البراعة والفضـ ... ـل ومنه ما يجلب البرسام القريض: الشعر, أخذ من قرض الشيء؛ أي: قطعه؛ كأن الإنسان يقرضه من فكره أو من كلامه. وقد ميز الأغلب الراجز الرجز من القريض: [الرجز] أرجزًا تريد أم قريضا ... أم هكذا بينهما تعريضا كليهما أجد مستفيضا وقال قوم: إنما قيل للشعر قريض تشبيهًا بجرة البعير؛ لأنه يخرجها من جوفه, ومن أمثالهم: «حال الجريض دون القريض». ويقال: إن أول من قال ذلك عبيد بن الأبرص

لأن بعض ملوك الحيرة - ويزعمون أنه عمرو بن هند - كان له يومان: يوم بؤسٍ ويوم أنعمٍ؛ فإذا كان يوم بؤسه فلقيه رجل قتله, وإذا كان يوم أنعمه فلقيه رجل أنعم عليه, فلقيه عبيد في يوم بؤسه فقال له أنشدني قولك: [مخلع البسيط] أقفر من أهله ملحوب فقال عبيد: «حال الجريض دون القريض»؛ يعني الغصص. وقيل: كان لبعض العرب ولد يحب قول الشعر وينهاه أبوه عنه, فمرض ولده وأشرف على الموت, فجاءه أبوه وقال له: إني كنت أنهاك عن الشعر وقد أذنت لك فيه؛ فقال الغلام: «حال الجريض دون القريض». وقد وصف طرفة حال عمرو بن هند فيما كان يفعل فقال: [الوافر] ليت لنا مكان المرء عمرو ... رغوثًا حول قبتنا تخور من الزمرات أسبل قادماها ... وضرتها مركنة درور قسمت الدهر والأيام فينا ... كذاك الحكم يقصد أو يجور لنا يوم وللكروان يوم ... تطير البائسات ولا نطير من كسر تاء البائسات نصبها على الترحم؛ كأنه قال: ارحم البائسات, ونحو ذلك. والبراعة تستعمل في الكلام, وفي الشجاعة, يقال: إن فلانًا بارع. قال الراجز: [الرجز] أين دريد وهو ذو براعه ... تعدو به سلهبة سراعه ويقال: برسام وبلسام وجرسام. وقال امرؤ القيس: [الكامل]

ومن أبيات أولها

وكأن شاربها أصاب لسانه ... خبل مخالطه من البرسام وقافيتها من المتواتر. ومن أبيات أولها ما نقلت في مشيئةٍ قدما ... ولا اشتكت من دوارها ألما الوزن من أول المنسرح. والأبيات في صفة لعبةٍ. والمشيئة من قولهم: شئت الشيء أشاؤه إذا أردته, وهو من قولهم: كان هذا الأمر بمشيئة الله أي بإرادته. وكان القياس أن يقال: المشاءة لأن الفعل: (199/ب) شئت أشاء فكان حق المصدر أن يجيء على مفعلةٍ, مثل قولهم: هبت الشيء مهابةً, وعبته معابةً. فإذا كانت المشيئة مصدرًا فهي شاذة عن القياس, وإن كانت في معنى مفعولة فقياسها مستمر؛ لأنك تقول: شئت الحاجة فهي مشيوءة, ثم تحذف فتقول: مشيئة كما تقول: بعت البضاعة فهي مبيعة, والأصل: مبيوعة. والمحذوف من المشيئة والمبيعة: الواو على رأي الخليل وسيبويه, والياء على رأي أبي الحسن سعيد بن مسعدة. ومعنى البيت: أن هذه اللعبة بيست تشاء والياء على رأي أبي الحسن سعيد بن مسعدة. ومعنى اليت: أن هذه اللعبة ليست تشاء شيئًا فهي تنقل قدمها فيه, ولا اشتكت ألمًا من ثكرة دوارٍ لأنها لا تحس؛ وإنما يديرها سواها. وقوله: ولا تلمها على تواقعها ... أطربها أن رأتك مبتسما هذا البيت مناقض للبيت الأول لأنه وصفها بأنها لا تشاء ولا تحس بألم, ثم جعلها في الأخير تطرب لابتسام الممدوح؛ وليس ذلك بعيب في صناعة الشعر؛ لأنه مبني على قول الكذب والمحال. والقافية من المتراكب.

ومن التي أولها

ومن التي أولها أحق عافٍ بدمعك الهمم ... أحدث شيء عهدًا بها القدم الوزن من المنسرح. وعافٍ في البيت من قولهم: عفا الربع إذا اندرس, وكذلك عفا غيره. يقول: أحق عافٍ أن تبكي عليه همم الكرام؛ لأنها عفت كما تعفو الربوع؛ فهي أحق بدمعك من كل العافيات. وجعل القدم أحدث الأشياء عهدًا بالهمم؛ أي إن دروسها قديم؛ فلا همم في الأرض, وقد شرح ذلك فيما بعد هذا البيت فقال: وإنما الناس بالملوك وما ... تفلح عرب ملوكها عجم أصل الفلاح: البقاء, ثم صار الناس يستعملونه في كل خيرٍ فيجعلون سعة الرزق فلاحًا, وكذلك قضاء الحاجة, وإذا رام الرجل أمرًا ولم يبلغه قالوا: ما أفلح. ومراد الشاعر: أن ملوك القوم ينبغي أن يكونوا مثلهم ومن خيارهم, وعلى ذلك مضى أكثر اللموك. وإنما كثر في الإسلام أن تكون الملوك من غير العرب فأنكر ذلك القائل هذا البيت. وقوله: بكل أرضٍ وطئتها أمم ... ترعى بعبدٍ كأنها غنم يريد أن ملوك بني العباس وغيرهم صاروا يولون المدائن عبيدهم؛ فيكونون رومًا وتركًا وغير ذلك, ويتفق أن يكون المولى أعجمي اللسان, وكانت الولاة في صدر الإسلام إنما تولي العرب. وقوله: لإي كل أرض وطئتها أمم واليهم عبد, فكأنهم غنم مرعية, وعادتهم أن يرعوا الإبل والغم. وقد بين الشاعر هذا الغرض في غير هذا الموضع فقال: [البسيط] سادات كل أناسٍ من سراتهم ... وسادة المسلمين الأعبد القزم وقوله: يستخشن الخز حين يلمسه ... وكان يبرى بظفره القلم يقول: هذا العبد كان شقيًا يمارس شدةً من العيش؛ ثم تنعم؛ فصار إذا لمس الخز زعم أنه خشن, وكان من قبل ولايته يطول أظفاره حتى يصح أن تبرى بها الأقلام. وهذه دعوى

مستحيلة ما بري بظفر ابن آدم قلم قط, ولكنها مبالغة يستحسنها أصحاب النظم؛ أي صارت أظفاره كالمدي في الحدة. وجاء في الحديث النهي عن التذكية بالظفر, ولم يرد بها ظفر الإنسان, وإنما أراد النهي عن إراقمة دم الذبيح بمخلب أسد ونحوه, لأن مخالب الأسد تسمى أظفارًا. قال زهير: [الطويل] لدى أسدٍ شاكي السلاح مقذفٍ ... له لبد أظفاره لم تقلم وقوله: يهابه أبسأ الرجال به ... وتتقي حد سيفه البهم وصف الشاعر نفسه وزعم أنه رجل مشهور كالعلم, وأنه يطأ بقدمه هامات التاس, ثم قال: يهابه. والهاء في: يهابه راجعة على اسمٍ يعني به الشاعر نفسه, وهو قوله: امرؤ علم. وأبسأ الرجال به؛ أي آنسهم, يقال: بسئت بالرجل وبسأت؛ أي أنست. قال الشاعر يصف كثرة عقره للإبل: [الطويل] فقد بسأت بالحاجلات إفالها ... وسيف كريمٍ لا يزال يصوعها أي: يفرقهاز وقوله: (200/أ) كفاني الذم أنني رجل ... أكرم مالٍ ملكته الكرم جعل الكرم مالًا, وهذا كقولك: لا مال لفلان إلا المكارم؛ أي إنه قد أقامها مقام المال. ومثل هذا كثير في كلامهم, وهو من جنس قولهم: تحيته الضرب وعتابه السيف. وقوله: يجني الغنى للئام لو عقلوا ... ما ليس يجني عليهم العدم يقول: اللئيم إذا لم يكن له مال لم يلمه أحد, فإذا غني وكثر ماله علقت به اللائمة؛ لأن الناس يرومون منه أن يجود, فقد جنى عليه اليسار جنايةً لم يجنها الإعدام.

وقوله: هم لأموالهم ولسن لهم ... والعار يبقى والجرح يلتئم يقول: اللئام لأموالهم إذ كانوا يخدمونها ويثمرونها فكأنهم عبيد لها, وكأن الأموال لسن لهم إذ كانت توفر فتصير إلى سواهم فربما أصابها الحادث وهم أحياء. وأحسن أحوالهم أن تصير أموالهم إلى الورثة, ومن الكلام المشهور: بشر مال اللئيم بحادثٍ أو وارثٍ, وربما سر الوارث بموت الموروث؛ كما قال الشاعر في صفة الميت الذي يرث ماله من يسر به: [البسيط] يبكي الغريب عليه ليس يعرفه ... وذو قرابته في الدار مسرور وقوله: من طلب المجد فليكن كعليـ ... ـي يهب الألف وهو يبتسم بعض أهل العلم يكره أن يتم نصف البيت والكلمة لم تتم؛ وليس ذلك بمكروه ولاسيما في الأوزان الخفاف كقول لبيد: [المنسرح] وهاجها منطق الدجاج مع الصـ ... ـبح وصوت الناقوس إذ ضربا وقوله: ويطعن الخيل كل نافذةٍ ... ليس لها من وحائها ألم لم توصف الطعنة قط بوحاءٍ أسرع من هذا الوصف؛ لأنه زعم أن الطعين لا يحس بألم الطعنة لأنها تقتله من قبل أن يصل إليه الألم. وقد قال الأول في صفة السيف: ترى ضرباته أبدًا خظايا ... إلى أن يستبين له قتل

وهذه صفة لا يكون أشد منها في المبالغة. وقوله: ويعرف الأمر قبل موقعه ... فما له بعد فعله ندم إذا حمل هذا البيت على صفة الظن فهو كقول أوس بن حجر: [المنسرح] الألمعي الذي يظن لك الظنـ ... ـن كأن قد رأى وقد سمعا يقول: هذا الممدوح لا يندم لأنه لا يفرط في الأمور, وإنما يندم من ضيع حزمه في وقت المنفعة به, وقد أقرت الشعراء بالعجز عن إدراك المعرفة والندم على ما يفوت. قال الشاعر: [الطويل] لو أن صدور الأمر يبدون للفتى ... كأعقابه لم تلفه يتندم وقال آخر: [الطويل] تبين أعقاب الأمور إذا أتت ... وتقبل أشباهًا عليك صدورها وقد شرح هذا الغرض من قال: [الطويل] إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدًا ... ندمت على التفريط في زمن البذر وقوله: يرعيك سمعًا فيه استماع إلى الد ... اع وفيه عن الخنا صمم في النخسة حذف اياء من الداعي, وحذفها لا يحتاج إليه؛ إنما تحذف إذا كان ثباتها إخلالًا بالوزن كقول الأعشى: [الكامل]

وأخو الغوان متى يشأ يصرمنه ... ويصرن أعداءً بعيد وداد وكقول الآخر: [الوافر] فطرت بمنصلي في يعملاتٍ ... دوامي الأيد يخبطن السريحا أراد: الأيدي. وقوله: يرعيك سمعًا: يجعل سمعه راعيًا لك, وأراد بالداعي من يدعوه إلىنصرٍ أو فعل مكرمةٍ من عطاء ونحوه؛ أي هو يسمع دعوات من يدعوه إلى الفعل الأجمل. وإذا قبلت الكلمة المخنية فكأنه أصم. والخنا ما يكره من الكلام, وقد جعل لبيد شدائد الدهر خنى, فقال: [الرمل] قال هجدنا فقد طال السرى ... وقدرنا إن خنا الدهر غفل وفي هذا البيت زيادة ساكن ينكره الطبع وموقعه التنوين من قوله: استماع, وهو عند الخليل أصل, وعند سعيد بن مسعدة فرع, وقد مر مثله. وقوله: يريك من خلقه غرائبه ... في مجده كيف تخلق النسم يقول: هذا الممدوح من ابتداعه غرائب المكارم, وأنه يريك في نفسه ما يدلك على قدرة الله تعالى, وأنه (200/ب) يخلق النسم بمشيئة الله. والنسم: جمع نسمةٍ, وهي النفس؛ وإنما قيل لها: نسمة لأن النفس يتصل خروجه منها, وهو مشبه بالنسيم؛ أي ما ضعف من الرياح. وقد سموا مجرى النفس: مطرد النسيم. قال الشاعر في صفة الفرس: [الكامل] وكأن مطرد النسم إذا جرى ... يوم الرهان خليتا زنبور

وقوله: ملت إلى من يكاد بينكما ... إن كنتما السائلين ينقسم قد أغرب الشاعر في تصييره المسؤول ينقسم بين السائلين؛ على أنه مأخوذ من قول الآخر: [الطويل] ولو لم يكن في كفه غير نفسه ... لجاد بها فليتق الله سائله إلا أن قسمة النفس بين السائلين أشد تعذرًا من دفعها إلى الواحد؛ لأن القسمة لها حظ من الزمن, وتركها أروح لمن يقسم. وقوله: بنو العفرنى محطة الأسد الأ ... سد ولكن رماحها الأجم العفرنى: الليث, والنون والألف فيه زائدتان, وإنما قيل له: العفرنى لأنه يعفر الفريسة؛ أي يلقيها في العفر وهو التراب. لإترك الشاعر ذكر الممدوح وخرج إلى مدح بني أبيه وقومه. ومحطة: اسم رجل ينسب إليه بنو الفصيص الذين مدحهم أبو الطيب, منهم: علي بن إبراهيم, والحسين بن إسحاق. والأسد وصف لمحطة. والأسد خبر لقوله: بنو. يقول: بنو محطةٍ أسد ولكن أجمها الذي تأوي إليه هو الرماح. وقد سبقت الشعراء إلى هذا الغرض فقال حبيب بن أوس: [البسيط] أسد العرين إذا ما الروع صبحها ... أو صبحته ولكن غابها الأسل وقال الوليد بن عبيد: [الكامل] جيش إذا ركز القنا في عرضه ... أيقنت أن الغاب غاب أسود

وقوله: قوم بلوغ الغلام عندهم ... طعن نحور الكماة لا الحلم يقول: هؤلاء القوم إذا طعن الغلام منهم نحور الكماة فقد بلغ مبالغ الرجال, وليس البلوغ عندهم إدراك الحلم؛ وإنما هو الطعن. وقوله: كأنما يولد الندى معهم ... لا صغر عاذر ولا هرم يقول: كأن الندى توأم لكل مولود من هؤلاء القوم, فهم أجواد في أوائل الأعمار وأواخرها, لا يعذرهم الصغر في ترك الجود, وكذلك لا يمنعهم الهرم من الإعطاء, وكأن هذا مأخوذ من قول الآخر: [الطويل] فأنت الندى وابن الندى وأخو الندى ... حليف الندى ما للندى عنك مذهب فقوله: أخو الندى مثل قول الشاعر: كأنما يولد الندى معهم إلا أن أبا الطيب جاء بعبارةٍ مستحسنة لم يهتد إليها سواه. وقوله: إذا تولوا عداوةً كشفوا ... وإن تولوا صنيعةً كتموا يقول: إذا عادوا فإنهم يجاهرون الأعداء ولا يطلبون منهم غرة في حال الغفلة, فإذا اصطنعوا صنيعةً, لم يفتخروا بها ويظهروها, وقد جاء الأمر بكتمام الصدقة في الكتاب الأشرف في قوله تعالى: {وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم} , ومن الكلام القديم: «المنة تذهب الصنيعة» أي: إن الإنسان إذا فعل مكرمةً ثم امتن بها فقد أذهبها, ولكن من شأن العرب في القديم أن تفتخر بإكرام الضيف وسقي اللبن, وذلك معروف في أشعارهم ولم يكونوا يرون ذلك عيبًا, وقد عابته الأعاجم عليهم. ومما جاء فيه التعريض بذم

من يفتخر بإكرام الضيف قول أمية بن أبي الصلت, ويقال: إن الشعر لأبي الصلت والد أمية يمدح سيف بن ذي يزن لما أخرج الحبشة من اليمن: [الطويل] اشرب هنيئًا عليك التاج مرتفقًا ... في رأس غمدان دارًامنك محلالا والتط بالمسك إذ شالت نعامتهم ... وأسبل الآن من برديك إسبالا تلك المكارم لا قعبان من لبنٍ ... شيبا بماءٍ فعادا بعد أبوالا هذا تعريض بذم من يفتخر بسقي اللبن وإكرام الضيف؛ لأن اللبن يصير بولًا والطعام يصير إلى ما يكنى عنه. وأنشد أبوزياد الكلابي (201/أ) بيتًا ذكر أنه لجدته وهو: [الطويل] ألم تعلمي أن الطعام مصيره ... ليرخموه بغثاء خلف الأصارم يرخمومة: أي: رخمة. وبغثاء أي يضرب لونها إلى الغبرة, والأصارم: جمع أصرامٍ, والأصرام: جمع صرمٍ وهو أبيات من بيوت الأعراب ليست بالكثيرة. وقوله: تظن من فقدك اعتدادهم ... أنهم أنعموا وما علموا يقول: هؤلاء القوم لا يعتدون بجميل فعلوه, حتى يظن من أسدوا إليه معروفًا أنهم لم يعلموا به. وهذا من أحسن ما قيل في كتمان المعروف.

وقوله: أو حلفوا بالغموس واجتهدوا ... فقولهم: خاب سائلي, القسم الغموس: اليمين التي من كذب فيها غمسته في الإثم. وهذه منة عظيمة لأنهم جعلوا أعظم الأيمان عندهم أن يقولوا: خاب سائلي إن كان كذا أو فعلنا كذا. ونقيض هذا المذهب ما كان يفعله بعض البخلاء إذا أتاه السائل, يقول: إني قد آليت على إبلي أن لا يخرج منها شيء؛ وذلك عني زهير بقوله: [البسيط] وإن أتاه خليل يوم مسألةٍ ... يقول لا غائب مالي ولا حرم أي: لم أحرم علي هبته باليمين. ويروى لقد بن مالك الأسدي: [الوافر] فلا والله لا أولي عليها ... لتمنع سائلًا منها يمين فإني لست منك ولست مني ... إذا ما طار من مالي الثمين كأن امرأته قالت له: احلف على مالك أنك لا تخرج منه شيئًا؛ فأعلمها أنه لا يفعل, وأنها إذا أخذت ثمن ماله كما تأخذ المرأة من ميراث الزوج, فقد انقطع ما بينها وبينه. وقوله: لولاك لم أترك البحيرة والـ. ز. ـغور خصيب وماؤها شبم عندهم أن الأجود: لولا أنت, وقد جاء في الشعر لولاك ولولاي, وكان محمد بنيزيد يرد ذلك؛ وقد أنشده سيبويه: [الطويل] وكم موطن لولاي طحت كما هوى ... بأجرامه من قلة النيق منهو

وأنشد الفراء: [الطويل] أتطمع فينا من أراق دماءنا ... ولولاك لم يعرض لأحسابنا حسن يقول: لولا أنت أيها الممدوح لم أترك في مشتاي البحيرة والغور دفيئًا, وماؤها شبم مع دفئها؛ أي بارد. وقوله: والموج مثل الفحول مزبدةً ... تهدر فيها وما بها قطم شبه الموج بفحول الإبل وصوته إذا تلاطم بهديرها. والفحل إمنا يهدر إذا قطم أو غضب. والقطم: إرادة الفحل الضراب. والهدير يستعمل في الإبل والرعد والأسد, وكل صوت يوصف بغلظ. يقول: فالموج يهدر هدر الفحول ولم يصبه القطم. وقوله: والطير فوق الحباب تحسبها ... فرسان بلقٍ تخونها اللجم الحباب: أكثر ما يقال فيه: إنه ما يظهر على الماء من النفاخات الصغار, وربما قالوا: الحباب معظم الماء, والمعنى متقارب؛ لأن الموج ومعظم الماء لا يعدم أن يكون فيه شيء صغير الصورة. شبه الموج ببلق الخيل لأن بعضه لون الماء وبعضه متغير, وقد ذكر ذلك المسب بن علس بقوله: [الكامل] فكأن بلق الخيل في حجراته ... يرمي بهن دوالي الزراع شبه الطير بفرسانٍ على خيلٍ بلقٍ, وهي الموج تخونها اللجم أي لا تقدر على ضبطها. وقوله: كأنها في نهارها قمر ... حف بها من جنانها ظلم

شبه البحيرة بالقمر لبياض الماء. والجنان: جمع جنةٍ وهي الأرض التي قد سترها الشجر والنبت, وشبهها بالظلم لشدة خضرتها. والأخضر إذا اشتدت خضرته وصف بالسواد, ومن ذلك الآية, وهي قوله تعالى: {مدهامتان} في صفة جنتين وهما مفعالتان من الدهمة. وأكثر ما تستعمل الدهمة في الخيل, وقد وصف الليل بالأدهم, وربما وصفت الناقة بالدهماء. وقالوا: دخل فلان في دهماء الناس؛ أي في سوادهم. ويقال: إن سواد العراق قيل له ذلك لشدة خضرته, قال الراجز, وهو القطامي: [الرجز] ياناق سيري عنقًا زورا ... وقلبي منسمك المغبرا (201/ب) وبادري الليل إذا ما اخضرا وقوله: ناعمة الجسم لا عظام لها ... لها بنات وما لها رحم يصف البحيرة ويلغز بها. وزعم أنها ناعمة الجسم لأنه شبه الماء به. ولما جعل لها جسمًا زعم أنها لا عظام لها يلغز بذلك؛ لأن الجسم لابد له من العظام. وذكر أن لها بناتٍ؛ يعني السمك؛ ونفى أن يكون لها رحم. وقوله: يبقر عنهن بطنها أبدًا ... ولا تشكى ولا يسيل دم هذا اللفظ كله إلغاز عن البحيرة؛ لأنه جعل لها جسمًا بلا عظام, وبنات من غير رحم, وجعل بطنها يبقر عنهن لأن الصادة يأخذنها من الماء, وهي مع ذلك لا تشكى لا يسيل دمها, ومن شأن التي يبقر بطنها أن يسيل دمها. قال الشاعر: [الطويل] بقرنا النساء التغلبيات عنوةً ... وما بقروةا منا بطون نساء تركنا دماءً فوقهن جوازيًا ... فأف لها من نسوةٍ ودماء وقوله: فهي كماويةٍ مطوقةٍ ... جرد عنها غشاؤها الأدم

الماوية: المرأة شبهت بالماء لصفائها. وقال الشاعر: [الطويل] وهند لها ماوية في غلافها ... تطالعها في كل ممسى ومصبح فإن أبصرت ما يعجب الطرف سرها ... وتأسف أن وافت بوجهٍ مقبح في «وافت» ضمير يرجع إلى المرأة. وقوله: يشينها جريها على بلدٍ ... تشينه الأدعياء والقزم يشينها: يعني البحيرة. والأدعياء: جمع دعي؛ يعني الذي ينتسب إلى القوم وليس منهم. والقزم: تستعمل في الصغار الأجسام, ثم استعملوه في ضؤولة الحسب وقلة الخير. قال الشاعر: [الطويل] تساق من المعزى مهور نسائهم ... وفي قزم المعزى لهن مهور قزم المعزى: صغارها. وقالوا: حسب قزم؛ أي حقير لا خير فيه. قال الراجز: [الرجز] في الحسب العادي غير الأقزم وقوله: وقد توالى العهاد منه لكم ... وجادت المطرة التي تسم العهاد: أمطار بعضها في إثر بعض, وهي العهود أيضًا. قال الشاعر: [الوافر] أمير جاد بالمعروف حتى ... كأن الأرض جللها العهاد وقال آخر: [الخفيف]

ومن التي أولها

أصلتي تسمو العيون إليه ... مستنير كالبدر عام العهود وتسم: من المطر الوسمي وهو أول المطر. وتزعم أصحاب الأنواء أن له خمسة أنجم, وهي: العرقوة السفلى - يعنون عرقوة الدلو من النجوم - والرشاء والشرطان والبطين والثريا. وقافيتها من المتراكب. ومن التي أولها ملام النوى في ظلمها غاية الظلم ... لعل بها مثل الذي بي من السقم الوزن من أول الطويل. يقول: ملام النوى في ظلمها ظلم, وقد صدق في هذا القول لأن النوى لا حس لها فتوصف بنصفةٍ ولا ظلم. ثم استشهد على براءة النوى من الظلم بقوله: لعل بها مثل الذي بي من السقم وهذا ظن كاذب, وقد علم قائل البيت أن النوى لا تسقم ولا يصيبها داء, ولكن جاء به على مذهب الشعراء لأن الشعر بني على قيل المحال. وقوله: فلو لم تغر لم تزو عني لقاءكم ... ولو لم تردكم لم تكن فيكم خصمي هذا البيت تقوية لما ظنه في البيت الأول؛ لأنه قال: لعل بها, فكان كالشاك, ثم أقام الأدلة على أن ظنه صحيح, فقال: لو لم تغر - من الغيرة؛ يعني النوى - لم تزو عني لقاءكم؛ أي لم تصرفه. وقوله: أمنعمة بالعودة الظبية التي ... بغير ولي كان نائلها الوسمي الظبية: يجوز أن تكون في نبية المبتدأ؛ كأنه قال: الظبية منعمة كما تقول: أقائم فلان فتدخل الهمزة على قائمٍ. والمعنى: أفلان قائم. ويجوز أن تكون الظبية مرتفعة بفعلها لأن منعمةً معتمدة على الهمزة؛ ولولا ذلك لم يجز أن تكون إلا خبرًا مقدمًا على رأي سيبويه.

ويجوز أن ترفع الظبية بفعلها إذا لم يكن ثم استفهام, وتكون الظبية سادةً م سد الخبر, وتكون منعمة ابتداءً. وقوله: ونكهتها والمندلي وقرقف ... معتقة صهباء في الريح والطعم (202/أ) المندل والمندلي: العود الذي يتبخر به, قال الشاعر: [الطويل] إذا جلست نادى بما في ثيابها ... ذكي الشذا والمندلي المطير يقال: إن الشذي رائحة المسك, قال الشاعر: [الهزج] لمن نار بأعلى التلـ ... ـل من غمدان ما تخبو إذا ما خمدت وهنًا ... علاها المندل الرطب وقالوا: مندل ومندلي كما قالوا: رجل أحمر وأحمري. والقرقف: من صفات الخمر, وقيل: إنما سميت قرقفًا لأنها تقرقف؛ أي ترعد. وقالوا: ديك قراقف؛ أي يحرك رأسه إذا صاح. قال الشاعر: [الطويل] لعمري لئن أصبحت في دار تولبٍ ... يغنيك بالأسحار ديك قراقف وقوله: يحاذرني حتفي كأني حتفه ... وتنكزني الأفعى فيقتلها سمي الأفعى: اسم يقع على الذكر والأنثى مثل الأرنب. فإذا أرادوا الذكر قالوا: أفعوان. وقد أنث الأفعى في هذا البيت, وذكره القائل في قوله: [المديد]

مطرق يرشح موتًا كما أطـ ... ـرق أفعى ينفث الموت صل والنكز: يقال إنه لدغ الحية بأنفها, والنشط: لدغها بفيها. وقوله: طوال الردينيات يقصفها دمي ... وبيض السريجيات يقطعها لحمي السريجيات: سيوف تنسب إلى قينٍ يقال له: سريج, ويقال: إنه من بني أسد, قال الشاعر: [الوافر] وأسياف تنخلها سريج ... لها في هامهم أثر شنيع وقوله: برتني السرى بري المدى فرددنني ... أخف على المركوب من نفسي جرمي جعل السرى جمع سريةٍ؛ وقلما تفرد فلذلك قال: رددنني. والجرم: الجسم؛ ثم استعملوا الجرم في معنى الصوت واللون لأن الألوان تتصل بالأجرام؛ فجعل اللون جرمًا؛ وكذلك الصوت يخرج من الجرم؛ إلا أن الغالب على هذه الكلمة أن الجرم هو الجسم. وجرمي: مرفوع بمعنى أخاف. والفعل لا يتصرف منه, فلو رفع أخف لكان وجهًا, ويجعل خبرًا لقوله: جرمي. وإذا نصبت أخف فهو على الحال لأن رد أصلها أن تتعدى إلى مفعول واحد, تقول: رددت الرسول إلى القوم, ورددت الثوب إلى صاحبه. وإذا جعلت: رددنني في معنى جعلنني جاز أن تكون أخف مفعولًا ثانيًا. وقوله: أخف على المركوب من نفسي جرمي: مبالغة في صفة النحول لم يعبر عنها المتقدمون بهذه العبارة؛ إلا أن يكون الشاعر لم يسر شعره فيعرف. وقوله: وأبصر من زرقاء جو لأنني ... إذا نظرت عيناي شاواهما علمي

جو: اسم اليمامة, قال الشاعر: [البسيط] فاستنزلوا أهل جو من مساكنهم ... وهدموا عالي البنيان فاتضعا وكان بجو امرأة يقال لها: عنز زرقاء توصف بحدة البصر, وهي التي ذكرها النابغة في قوله: [البسيط] واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام سراع وارد الثمد قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا ... إلى حمامتنا أو نصفه فقد فكملت مائة فيها حمامتنا ... وأسرعت حسبةً في ذلك العدد فحسبوه فألفوه كما زعمت ... تسعًا وتسعين لم تنقص ولم تزد ويقال: إنها نظرت إلى سرب قطًا فقالت هذه المقالة. ويقال: إن ملكًا من حمير يقال له: حسان غزا اليمامة فنظرت هذه المرأة فأبصرت الجيش على مسافةٍ بعيدة, فقالت: لقد جاءكم الشجر أو غزتكم حمير, وقالت لهم: إني أرى رجلًا يأكل كتفًا أو يخصف نعلًا؛ فكذبوها فيما قالته. وقد وصف ذلك الأعشى في قوله: [البسيط] ما نظرت ذات أشفارٍ كنظرتها ... إنسان عينٍ وموقًا لم يكن قمعا قالت أرى رجلًا في كفه كتف ... أو يخصف النعل لهفًا أيةً صنعا فكذبوها بما قالت فصبحهم ... ذو آل حسان يزجي السم والسلعا وفي هذه المرأة يقول القائل: [الرمل]

شر يوميها وأرداه لها ... ركبت عنز بحدجٍ جملا لا ت رى خارجةً من بيتها ... وتراهن إليها رسلا جمع رسول, ويروى: رسلًا, أي بعضهن في إثر بعض. وقال القائل مدعيًا: أنا أبصر من زرقاء جو؛ لأنها شكت لما نظرت, فقالت: أرى رجلًا يأكل كتفًا أو يخصف نعلًا؛ فزعم الشاعم أن عينيه يشاويهما علمه؛ أي يسابقهما, وفضل نفسه في النظر على زرقاء اليمامة. والشأو: الطلق, يقال: جرى شأواً أو شأوين؛ أي طلقًا أو طلقين, والقياس يوجب أن يقول: شآهما في وزن: رآهما (202/ب) لأنه بنى فاعل من الشأو, ولكنه أنس بالواو كما أنست العرب بايلاء في الديار فقالوا: تدير القوم؛ وإنما الدار من ذوات الواو. وقد أنكر أبو الفتح بن جني هذا الحرف, وما جاء به الشاعر غير مستنكرٍ؛ لأن القلب في كلامهم كثير لاسيما مع الهمزة والألف إذا اجتمعا في فعلٍ. يقولون: ساءني وسآني, وراءني, ورآني, قال الشاعر: [الوافر] لقد لاقت قريظة ما سآها ... وحل بدارها ذل ذليل وقال آخر فجمع بين اللغتين: [الكامل] بان الحمول فما شأونك نقرةً ... ولقد أراك تشاء بالأظعان قال في أول البيت: شأونك وفي آخره: تشاء, ولو جاء به على اللفظ الأول لوجب أن يقول: تشأى؛ فكأن الشاعر قال: شاواهما علمي, فقلب شأوت إلى شاوى, وهي من ذوات الواو, وخفف الهمزة التي هي آخر الفعل.

وقوله: كأني دحوت الأرض من خبرتي بها ... كأني بنى الأسكندر السد من عزمي دحوت الأرض أي بسطتها, ومنه: أدحي النعام؛ لأنها تدحو المكان بأرجلها أي توسعه وتبسطه, ومنه بنو دحي من الأنصار. و: كأني بنى الأسكندر السد من عزمي: هو نقيض النصف الأول, وذلك مستحسن في صناعة النظم لأنه زعم أنه كالذي دحا الأرض من خبرته بها. والدحو: البسط وخفض المرتفع, وهو ضد البناء الذي ذكره في النصف الثاني. وادعى أن الأسكندر كأنه بنى السد من عزمه لشدته. والأسكندر: اسم أعجمي, ولم يأت على وزنه في كلام العرب إلا أنه وافق في الزنة قولهم: احرنجم وبابه, إلا أنهمزة الأسكندر مفتوحة وهمزة احرنجم مكسورة. ولو كسر كاسر همة الأسكندر لكان ذلكمستمرًا؛ لأنهم إذا أخرجوا الكلمة من كلام العجم إلى اللفظ العربي اجتهدوا في أن تكون موافقةً للعربية في الوزن. مثال ذلك أنهم يقولون لاسم الموضع: زبطرة فيفتحون الزاي إذا تركوا الكلمة على الأصل, فإذا أرادوا أن يشبهوها بالعربية كسروا الزاي لتصير في وزن: سبطرةٍ وهي الطويلة, وليس في كلام العرب مثل: دمقسٍ بفتح الدال, وكل ما جاء في كلامهم على هذا الوزن فهو مكسور الأول. ويجوز أن يقال: كأني وكأنني, والأصل إثبات النون, وكذلك في إنني؛ وإنما تحذف لاجتماع النونات. ولو أن الكلام منثور لكان مجيئه بالواو في قوله: كأني بنى الأسكندر أحسن لأنه جاء بجملة بعد جملة, ولم يعطف أحدهما على الأخرى, فكأنه قال: أخوك حاضر أبوك غائب, فجاء بجملتين ليس بينهما حرف عطف, ومجيئه بالواو أحسن. وقوله: لألقى ابن إسحق الذي دق فهمه ... فأبدع حتى جل عن دقة الفهم إسحاق: كلمة أعجمية لم تنصرف للتعريف والعجمة, وقد وافقت من العربية مصدر قولهم: أسحقه الله إسحاقًا. ولو سمي رجل بإسحاق والمراد المصدر لوجب أن يصرف. كما أنه لو سمي بيعقوب, والمراد ذكر الحجل لوجب أن يصرف؛ لأن اليعقوب

إذا أريد به الطائر عربي, وإنما وافق لفظ الأعجمي. وقوله: فأبدع حتى جل عن دقة الفهم, هـ من قول الأول: [المديد] حدث ما نابنا مصمئل ... جل حتى دق فيه الأجل وقوله: يمين بني قحطن رأس قضاعةٍ ... وعرنينها بدر النجوم بني فهم جعله يمينهم لأن اليمين أفضل من الشمال, وهي التي يباشر بها الضرب والطعن وغيرهما من الأعمال؛ ولذلك قالوا في مدح الرجل: كلتا يديه يمين؛ أي هو يعمل بهما فشماله كأنها يمين. قال الشاعرة: [الوافر] فإن على السماوة من عقيلٍ ... فتى كلتا يديه له يمين ولما جعل الشاعر الممدوح يمينًا لم يرض له بذلك حتى جعله رأسًا, وكلاهما من أعضاء الجسد, وفي ذلك صنعة: جاء بعضو مع عضوٍ. وقضاعة: اختلف الناس في اشتقاقه, قيل: هو من قولهم: انقضع من قومه إذا انقطع منهم. وقيل: قضاعة: دابة تسكن الماء. وبنو فهمٍ من تنوخ. وفي قيس عيلان بنو فهمٍ وهم حي تأبط شرًا. وقوله: إذا بيت الأعداء كان استماعهم ... صرير العوالي قبل قعقعة اللجم بيت الأعداء؛ أي طرقهم بياتًا وهم نائمون, وصرير العوالي: صوتها, وكأن الصرير صوت دقيق (103/أ) [وكأن أصوات اللجم] قعقعة. وأكثر ما يستعمل في الحديد: الصلصلة, فإذا كانوا قد وصفوا الحلي بالقعقعة فالحديد أولى به من ذلك. قال النابغة: [الطويل] يسهد من نوم العشاء سليمها ... لحلي النساء في يديه قعاقع

وقوله: مذل الأعزاء المعز وإن يؤن ... به يتمهم فالموتم الجابر اليتم ذكر أنه يعز ويذل. وقوله: يؤن من قولهم: آن الشيء يئين إذا حان, وهو مثل قولهم: أنى يأني, وإحدى الكلمتين مقلوبة عن الأخرى. واليتم: أصله الانفراد, وأكثر ما يستعمل في موت الأب إذا كان للآدميين, وإذا كان في البهائم فاليتم موت الأم. وإنما يريد هاهنا أنه يقتل الآباء؛ وإن قتلهم وأيتم أولادهم فإنه يجبر الأيتام الذي هو أيتمهم. وأضاف اليتم هاهنا على معنى قوله: يتم أولادهم فحذف المضاف. وقال الشاعر: [مجزوء الكامل] كوماء يسمو فوقها ... مثل اليتيم من الأرانب يعني بالأرانب: جمع أرنبٍ وهو الموضع المرتفع من الأرض, واليتيم: المنفرد؛ وإنما يصف ناقةً بعظم السنام. وقوله: وإن تمس داءً في القلوب قناته ... فممسكها منه الشفاء من العدم يقول: إن تك قناته داءً في القلوب؛ أي يطعنها بها - ويجوز أن يعني أنها تهاب قناته فهيبتها داء في القلوب - فإن ممسكها يشفي من العدم. وقوله: ممسكها يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون يعني بالممسك الرجل كما تقول: لك من فلان صديق؛ أي هو صديقك. والآخر: أن يكون المعني بالممسك هو اليد من الرجل لأن الأعطية إليها تنسب؛ فيكون التقدير: العضو الذي أمسك القناة من هذا الرجل هو مذهب العدم عن الناس. وقوله: مقلد طاغي الشفرتين محكم ... على الهام إلا أنه جائر الحكم

يريد أن سيفه قد ظغت شفرتاه في قتل الناس, وكل شيء زاد فزيادته مؤدية إلى هلكه فهو طاغٍ. وفي التنزيل: {إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية}. وادعى أن سيفه محكم على الهام, وهو مع ذلك جائر في الحكومة, وإنما ينبغي أن يحكم المنصف, وهذا لفظ يحتمله الشعر, ولا حكم للسيف وإنما هو لمن يضرب به. وقوله: تحرج من حقن الدماء كأنه ... يرى قتل نفسٍ ترك رأسٍ علم جسم في «تحرج» ضمير يرجع إلى السيف, وجاء بكأنما بعد ذلك فخفف بالتشبيه ما أفرط فيه من الكذب؛ لأنه التشبيه لم يحكم بوقوعه. وقوله: وجدنا ابن إسحق الحسين كحده ... على كثرة القتلى بريئًا من الإثم الهاء في «حده» راجعة إلى السيف, وذكر أن الممدوح لا يقتل أحدًا إلا باستحقاق, فهو برريء من الإثم, كما أن سيفه لا ذنب له. وقوله: مع الحزم حتى لو تعمد تركه ... لألحقه تضييعه الحزم بالحزم أصل الحزم: شد الشيء كالثياب ونحوها إذا أرادوا أن يحفظوها. يقال: حزم الشيء, فهو محزوم, ثم استعمل ذلك في جودة الرأي وترك التفريط. يقال: لإلان حازم إذا كان يحكم أموره ولا يغفل عن فعلٍ يجلب إليه صلاحًا, والمصدر من الحازم: الحزامة والحزومة. قال الشاعر: [المتقارب] وأن الحزامة أن تصرفوا ... لحي سوانا صدور الأسل وأصل الحزم: التعدي؛ إلا أنه لما نقل إلى الرجل بطل تعديه. يقول: هذا الممدوح لا يفارقه الحزم فلو ضيعه لصيره ذلك إليه. قال الشاعر: [الطويل] دعوت أبا أروى إلى الرأي كي يرى ... برأيٍ أصيلٍ أو يعود إلى حلم

وداعٍ دعاه البغي والحين كاسمه ... وللحين أحداث تصد عن الحزم وقوله: وأرهب حتى لو تأمل درعه ... جرت جزعًا من غير نارٍ ولا فحم هذا سرف في الصفة؛ يقول: لو نظر إلى درعه وهي حديد لذابت, والمعروف في الفحم تحريك الحاء, قال الراجز: [الرجز] جاؤوا بزوريهم وجئنا بالأصم ... شيخٍ لنا معاودٍ ضرب البهم وقاتلوا لو ينفخون في فحم (203/ب) يعني بزوريهم: تثنية زورٍ, وهو شيء كانت العرب تفعله في الجاهلية يجيئون بالصنم الذي يعبدونه أو شيء ينصبونه, ثم يقولون: لا نفر حتى يفر هذا المنصوب. وقوله: لو ينفخون في فحم, أي: وقاتلوا لو ينتفعون بالقتال؛ وإنما مثلهم مثل من ينفخ في حطبٍ لا تأخذ فيه النار. وقال النابغة الذبياني في صفة الثور الوحشي: [البسيط] مقابل الريح روقيه وصفحته ... كالهبرقي تنحى ينفخ الفحما الهبرقي: الصائغ والحداد. وتنحى: أي اعتمد, ويروى: تشحى من شحا فاه إذا فتحه. وقوله: وجاد فلولا جوده غير شاربٍ ... لقيل كريم هيجته ابنة الكرم جاد: فيه ضمير يعود إلى الممدوح, وغير شاربٍ: منصوب على الحال, وقدجرت عادة العرب أن تصف من سكر بالجود وتوهم الباطل. قال عنترة: [الكامل]

فإذا شربت فإنني مستهلك ... مالي وعرضي وافر لم يكلم وقال المنخل اليشكري: [مجزوء الكامل] فإذا سكرت فإنني ... رب الخورنق والسدير وإذا صحوت فإنني ... رب الشويهة والبعير أي: أظني أني ملك فأجود بما أملك. وقوله: أطعناك طوع الدهر يابن ابن يوسف ... بشهوتنا والحاسدو لك بالرغم حذف النون من قوله: الحاسدون لما استقبلتها اللام لأنهم يتوهمون الإضافة في هذا الموضع؛ كأنه قال: والحاسدوك. فكذلك قالوا: لا خفي له لأنهم توهموا سقوط اللام, وقدحذفوا نون الجميع وإن لم يكن ثم لام الإضافة. ويروى بيت ينسب إلى عبيدٍ الأسدي, وهو قوله: [الرمل] ولقد يغني بها جيرانك الـ ... ـممسكو منها بأسباب الوصال وقوله: دعيت بتفريظيك في كل مجلسٍ ... وظن الذي يدعو ثنائي عليك اسمي التقريظ: الثناء على الرجل بالجميل, وهو مأخوذ من: قرظت الأديم إذا دبغته بالقرظ لتطيب رائحته, واستعمل ذلك في معنى الثناء على الإنسان؛ لأن الثناء عليه يحسن ذكره ويطيب رائحته. وقد قالوا: فلان يقارظ فلانًا؛ أي كل واحد منهما يثني على صاحبه. قال الراجز: [الرجز] أهوج إلا أنه يماظظ ... لا يرتجي خيرًا ولا يقارظ

ومن التي أولها

وقال: تقريظيك, فلو أنه في غير الشعر لكان الأحسن أن يقول: تقريظي إياك. وقوله: إذا ما ضربت القرن ثم أجزتني ... فكل ذهبًا لي مرةً منه بالكلم يقول: ضربتك واسعة فإذا أردت أن تجيزني فأعطني مقدارما تسع من الذهب؛ وقد عرفت بالثناء عليك حتى كأنه صار اسمًا لي. ويحتمل أن يكون أراد: إني أمدحك بالشعر فيقول الناس: هذا شاعر الأمير, فقد اشتق لي اسم من مدحك. وقوله: فكم قائل لو كان ذا الشخص نفسه ... لكان قراه ممكن العسكر الدهم يقول: كما قائلٍ لو كان هذا الشخص - يعني شخص الممدوح - عظيمًا كعظم نفسه لكان قراه - أي ظهره - مكمنًا للعسكر الدهم؛ أي العسكر العظيم. وقوله: وقائلةٍ - والأرض أعني - تعجبًا ... علي امرؤ يمشي بوقري من الحلم إن جعل «قائلةً» معطوفةً على قائلٍ فالمعنى: وكم قائلةٍ؛ فيكون قد جعل الأرض هاهنا مبعضةً كأنه جعل أرض الشام تقول ذلك, وأرض العراق, وأرض الحجاز وغيرهن. وإن جعل الواو في قوله: وقائلة بمعنى رب وجب أن يعني الأرض كلها. والوقر: الثقل. وقافية هذه القصيدة من المتواتر. ومن التي أولها فؤاد ما تسليه المدام ... وعمر مثل ما تهب اللئام الوزن من الوافر. وقوله: فؤاد خبر كلامٍ محذوفٍ, أو يكون مبتدأً محذف الخبر. ويجوز أن يعني نفسه, ويحتمل أن يعني كل من له فؤاد؛ فإذا عنى نفسه فكأنه قال: لي فؤاد, أو فؤاد بين جنبي, أو نحو ذلك. فإذا عنى كل فؤادٍ من الناس فالمعنى: لكل أحدٍ, أو فؤاد لكل إنسان.

والعموم في هذا أحسن من الخصوص لأن أعمار أهل هذا العصر إذا قيست إلى القدم بطول الآباد فإنها كالشيء الحقير المتناهي في القصر. وقوله: ودهر ناسه ناس صغار ... وإن كانت لهم جثث ضخام (204/أ) واحد الضخام: ضخم, وأصل الضخامة أن تستعمل في الجسم, ثم استعير ذلك في الخلق والحسب. قال كثير: [الطويل] منعمة لم يغذها بؤس عيشةٍ ... وفي الحسب الضخم الرفيع نجارها وقال الراجز: [الرجز] ضخم يحب الخلق الأضخما وقوله: وما أنا منهم بالعيش فيهم ... ولكن معدن الذهب الرغام زعم أنه ليس من هذا العالم لكونه فيهم, وإنما مثله مثل الذهب معدنه في الرغام وليس هو منه. والمعدن من قولهم: عدن بالمكان إذا أقام به, ومنها اشتقاق جنات عدنٍ, أي إقامةٍ, ومن هذا سمي الرجل: عدنان. وقوله: أرانب غير أنهم ملوك ... مفتحة عيونهم نيام الأرانب تنام وعيناها مفتحتان. وشبه الناس بالأرانب لأن عيونهم مفتحة, وكأنهم مع ذلك نيام, ولم يرد النوم الذي هو ضد اليقظة, وإنما أراد أنهم بله لا يفطنون لما هم فيه. والعرب تمدح بقلة النوم وتذم إذا ألف الرجل ذلك. قال الطرماح: [الطويل]

وليس أخو الحاجات من بات نائمًا ... ولكن أخوها من يبيت على رجل وقال الراعي: [الطويل] كفاني عرفان الكرى وكفيته ... كلوء النجوم والنعاس يعانقه فبات يريه عرسه وبناته ... وبت أريه النجم أين مخافقه وقال عروة بن الوردفي ذم النوم: [الطويل] ينام عشاءً ثم يصبح ناعسًا ... يحت الحصى عن جنبه المتعفر وقوله: بأجسامٍ يحر القتل فيها ... وما أقرانها إلا الطعام أصل الحر في حرارة الشمس والنار, ثم استعير ذلك في غيرهما. يقال: حر اليوم يحر ويحر إذا اشتد حره. يقول: القتل كثير في هذه الأجسام؛ وما أقرانها - يريد: جمع القرن في الحرب - إلا الطعام؛ أي إنهم يأكلون فيكون ذلك سبب موتهم. ويروى عن ابن مسعود أنه قال: «أصل كل دغاء البردة» أي التخمة. وقال بعض المتقدمين: يموت آلاف رجالٍ بالشبع قبل أن يموت رجل من الجوع. وتشبيهه الموت بالقتل مثل قوله في الأخرى: [الطويل] إذا ما تبينت الزمان وصرفه ... تيقنت أن الموت ضرب من القتل وقوله:

وخيلٍ ما يخر لها طعين ... كأن قنا فوارسها ثمام إن أراد بعض الخيل فهو صادق في ذلك؛ إلا أن كثيرًا من الملوك تجري خيلهم في الميادين وتلعب فرسانها بالرماح المدة الطويلة ولا يكون هناك قتل ولا جرح؛ فكأن قناهم ثمام؛ وهو نبت ضعيف تغطي به الأسقية, وتظلل به الخيام المتخذة من الشجر. قال جميل بن معمر: [الخفيف] وصريعًامن الثمام تراءى ... دارجات المدب في خلله فإن أراد أن الخيل كلها لا يخر لها طعين فذلك محال تدل المشاهدة على غيره؛ لأن سكان العمد من البادية لا يعمدون أن تصرع برماحهم القتلى في كل أوانٍ. وقوله: خليلك أنت لا من قلت خلي ... وإن كثر التجمل والكلام يقول: خليلك أيها الرجل نفسك لا غيرك من الناس, فاحذر أن تغتر بخليل. والخليل: مأخوذ من الخلة وهي المودة. يقال: فلان خليلك وخلتك, وبين الرجلين خلال أي مخالة. قال الشاعر: [المتقارب] ألا أبلغا خلتي جابرًا ... بأن خليلك لم يقتل وإن تجمل بالكلام متجمل فلا تغتر بما ظهر فإن الناس لا تصفو المودة منهم لصديق. وقولهك ولو حيز الحفاظ بغير عقلٍ ... تجنب عنق صيقله الحسام هذاا لبيت متصل بما قبله. يقول: الناس لا عقول لهم, وإنما يؤدي إلى حفظ المودة عقل الإنسان, ولو جاء الحفاظ عن ذي عقلٍ لوجب أن يتجنب السيف عنق من صقله. وابن آدم كالسيف لا عقل له صحيح فكيف يعتمد جميل الأفعال. وقوله:

وشبه الشيء منجذب إليه ... وأشبهنا بدنيانا الطغام يقول: الدنيا لا عقل لها وكذلك أهلها, وشبه الشيء ينجذب إليه؛ فأبناؤها يشابهونها فيما يفعلون من الكذب وقلة الإنصاف. والطغام: جمع طغامةٍ, وهو الجاهل الذي لا يعرف شيئًا. وفي حكاية ذكرها ابن السكيت معناها أن رجلًا ممن كان يتردد إلى أبي مهدية الأعرابي سافر, فلما قدم قال له أبو مهدية: كيف مال الناس, أو نحو ذلك, فقال الرجل: وما المال, فقال له أبو مهدية: يا طغامة لقد أحفيتني بالمسألة وأنت لا تدري ما المال. فلزمت الطغامة ذلك الرجل, وقال فيه بعض النحويين: [الكامل] من كان يعجبه الطغامة كلها ... فعليه ميمونًا أبا الضحاك (204/ب) رجلًا تجمعت الطغامة كلها ... فيه وحالفها براك براك ولم يصرفوا من الطغام فعلًا. وقوله: ولو لم يعل إلا ذو محل ... تعالى الجيش وانحط القتام يقول: الدنيا ترفع قومًا لا يستحقون أن يرتفعوا وتحط من يجب أن يكون مرفوعًا, ولو لم يعل إلا من له مقدار في نفسه لكان الجيش أولى بالعلو من القتام الذي ترفعه حوافر الخيل. وقوله: ولو لم يرع إلا مستحق ... لرتبته أسامهم المسام يقول: لو لم يل أمور الناس إلا مستحق لذلك لوجب أن يكون بعض الرعاة مرعيًا. وإنما هذا المثل لبني آدم. يريد: أن الرجل منهم يلي الجماعة الكثيرة فيهم من هو أحق منه بالولاية, وجعل المسيم مثلًا لمن له رعية من الناس, وجعل رعاياه كأنها مسام. يقال: سام المال في الأرض إذا ذهب فيها, وأسامة غيره إذا خلاه وإياها.

وقوله: إذا كان الشباب السكر والشيـ ... ـب هما فالحياة هي الحمام يقول: إذا كان الشاب كالسكر لا يصحبه معقول الإنسان, وكان الشاب إذا جرب وعقل جاءه الشيب فاهتم لذلك؛ فالحياة هي الحما؛ أي الموت خير منها. وقد قال القائل: [الوافر] إذا احتاج الكريم إلى لئيمٍ ... ففي موت الكريم له حياة وقوله: وما كل بمعذورٍ ببخلٍ ... ولا كل على بخلٍ يلام يريد أن المكثر أخا اليسار يلام على بخله, وأن المقتر إذا بخل فلا لوم عليه. وهذا المعنى كأنه مستخرج من قول الحكمي: [الطويل] كفى حزنًا أن الجواد مقتر ... عليه ولا معروف عند بخيل وقوله: ولم أر مثل جيراني ومثلي ... لمثلي عند مثلهم مقام عرض بذم جيرانه ولام نفسه على الإقامة بينهم؛ إذ كانوا لا يجودون بشيء وهو مفتقر إلى جود الكرام؛ فوجب أن لا يكونمثله مقيمًا بين أمثالهم, وقد بين الغرض في البيت الآتي من بعد. وقوله: بأرضٍ ما اشتهيت رأيت فيها ... فليس يفوتها إلا كرام وصف الأرض وأنها كثيرة الخير تصلح للإثامة ولكن لا كرام فيها. وقوله: بها الجيلان من فخرٍ وصخرٍ ... أنافا: ذا المغيث وذا اللكام الهاء في «بها» تعود إلى الأرض. جعل المغيث - وهو الممدوح - جبلًا من فخر مجاورًا

في هذه البلدة جبلًا من صخر وهو اللكام. وبعد هذا البيت ما يخرج به المغيث من جملة المذمومين لأنه قال: وليست من مواطنه ولكن ... يمر بها كما مر الغمام نفى عن هذه الأرض أن تكون من مواطن الممدوح, وجعله يمر بها كما يمر الغمام فيصيب من نفعه؛ فميزه بهذا البيت من المقيمين بالأرض المذمومة التي ليس يفوتها إلا الكرام. وقوله: سقى الله ابن منجبةٍ سقاني ... بدر ما لراضعه فطام أصل الدر: اللبن, وكأنه سمي بالمصدر من قولهم: در الشيء يدر إذا غزر. وقالوا: لله دره؛ أي: لله اللبن الذي أرضع به؛ يقولون ذلك للرجل إذا عجبوا من فضله. وهم يجيئون بهذه اللام للتعجب. يقولون: لله در فلان أي: كأن الله سبحانه فضل اللبن الذي سقي به على غيره, وربما قالوا: لله در الرجل, وهم يذمونه, فاستعملوه في الشيء وضده. قال ابن قيس الرقيات: [الخفيف] إن لله در قومٍ يريدو ... نك بالنقص والشقاء شقاء إن في معنى نعم, فهذا ذم للقوم. وقال آخر: [مجزوء الكامل] كم شامت بي إذ هلكـ ... ـت وقائل لله دره فأما قول مالك بن الريب: [الطويل] فلله دري يوم أترك طائعًا ... بني بأعلى الرقمتين وماليا

فيجوز أن يكون عجب من نفسه حين ترك بنيه وماله, ويكون كاللائم نفسه على ما صنع. ويحتمل أن يكون أراد أنه فعل فعلًا جميلًا فحمد نفسه عليه لأنه ذكر في هذه القصيدة أنه غازٍ, فقال: [الطويل] ألم ترني بعت الضلالة بالهدى ... وأصبحت في جيش ابن عفان غازيا وقول القائل: بدر ما لراضعه فطام: كناية عن جودٍ متصل ليس له فناء ولا انقضاء, وليس هو كالرضاع الذي يفطم منه الصبي, بل هو دائم للأبد. وقوله: فقد خفي الزمان بها علينا ... كسلك الدر يخفيه النظام قوله بها: الهاء راجعة إلى عطاياه, وادعى أنها قد انتظمت الزمان, فغطته كتغطية الدر ما نظم فيه من السلوك. وقوله: تلذ له المروة وهي تؤذي ... ومن يعشق يلذ له الغرام المروة: أصلها الهمز, وهي مأخوذة من المرء, كما أن الرجولية مأخوذة من الرجل. ومن عادة الناس أن يقولوا: لإلان رجل يصفونه بالفضل على غيره, والرجال كثير, ومثل هذا يتردد في الكلام والشعر. وقوله: مروءة, من قولهم: فلان امرؤ على معنى التفضيل, كما يقولون: إنسان إذا وصفوه بالفضل, وقد علم أن أمثاله في الشخص كثير, ومن هذا النحو قول الهذلي: (205/أ) [الطويل] لعمر أبي الطير المربة بالضحى ... على خالدٍ أن قد وقعن على لحم

أراد: على لحم له شأن ليس لغيره من اللحوم. وروي أن يهوديًا رأى علي بن أبي طالب عليه السلام يشتري جهاز عروس فسأله: بمن تزوج, فقال: بفاطمة ابنة محمد عليهما السلام فقال اليهودي: لقد تزوجت بامرأةٍ؛ أي: بامرأة لها شأن عظيم. وقوله: تعلقها هوى قيسٍ لليلى ... وواصلها فليس به سقام يقول: هذا الممدوح يحب المعالي حبًا شديدًا كحب قيسٍ لليلى. وقيس هذا هو الذي يزعم الناس أنه المجنون وينسبون إليه أشعارًا كثيرة, وهو قيس بن الملوح, وقيل: الملوح, وقد اختلفوا في شأنه حتى قال بعض الناس: إن أخباره موضوعة وإنه لم يكن قط. وهذا ادعاء ليس بصحيح لأن ذكره أسير مما زعموا وقد تناقلت أشعاره الرواة. وقوله: يروع ركانةً ويذوب ظرفًا .. فما ندري أشيخ أم غلام الظرف: يستعمله الناس في حسن الهيئة وحسن الوجه. ويقال: إن الظريف هو البليغ اللسان, وفي بعض الحديث: «إذا كان اللص ظريفًا لم يقطع» أي: إذا كان له لسان وخاطر لم تعوزه حجة يخلص بها من القطع. وقيل: الظريف: الحاذق بالشيء, وقيل: الظريف الذي كأنه ظرف للفضل, والظرف هو الإناء. وحكى النحويون: ظروف في جمع ظريف, وذكروا أنه اسم للجمع. وذكر السكري أن بعض الناس يروي قول أبي ذؤيب: [الطويل] وإن غلامًا نيل في عهد كاهلٍ ... لظرف كريم الوالدين صريح فيقول مكان لظرف: لظرف. فإن صحت هذه الرواية فظرف واحد ظروف إذا وصف به القوم وليس باسمٍ للجمع.

وقوله: وقبض نواله شرف وعز ... وقبض نوال بعض القوم ذام الذام: العيب, ومن أمثالهم: «لكل حسناء ذام» , و «لا تعدم الحسناء ذامًا» , قال أبو داد الإيادي: [الخفيف] في نظامٍ ما كنت فيهم فلا يغـ ... ررك شيء لكل حسناء ذام ويقال: ذان بالنون. وفي قصيدة قيس بن الخطيم التي أولها: [المتقارب] أجد بعمرة غنيانها ... فتهجر أم شأننا شانها: رددنا الكتيبة مفلولةً ... بها أفنها وبها ذانها وبعض الناس يروي هذا البيت في أبيات رويها باء ويروي: ذابها في مكان ذانها. وقوله: أقامت في الرقاب له أيادٍ ... هي الأطواق والناس الحمام يقول القائل: قلده طوق الحمامة إذا وصل به أمرًا مشهورًا؛ إما من خيرٍ وإما من شر. وقال شاعر في عهد النبي صلى الله عليه يخاطب أبا سفيان بن حرب, وكان باع دارًا بمكة لأحد بني جحش إخوة زينب ابنة جحش: [مجزوء الكامل]

دار ابن أختك بعتها ... تنفي بها عنك الغرامه اذهب بها اذهب بها ... طوقتها طوق الحمامه وقال المسيب بن علس: [الطويل] وقلدها طوق الحمامة عامرًا ... وسفيان إذ كان الجيااد لهم نفل وقوله: إذا عد الكرام فتلك عجل ... كما الأنواء حين تعدع عام يقول: إذا عد الكرام فعجل تجمعها, كما أن الأنواء التي هي منسوبة إلى النجوم ثمانية وعشرون بعدة منازل القمر, وهي أربعة عشر شامية, وأربعة عشر يمانية: فالشامية: الشرطان, والبطين, والثريا, والدبران, والهقعة, والهنعة, والذراع, والنثرة, والطرف, والجبهة, والزبرة, والصرفة, والعواء, والسماك. واليمانية: الغفر, والزبانى, والإكليل, والقلب, والشولة, والنعائم, والبلدة, وسعد بلع, وسعد الذابح, وسعد السعود وسعد الأخبية, وفرغ الدلو المقدم, وفرغ الدلو المؤخر, والرشاء. فهذه النجوم اليمانية, ولكل نجم منها ثلاثة عشر يومًا من السنة إلا الجبهة؛ فإن لها أربعة عشر يومًا. وقوله: (205/ب) تقي جبهاتهتم ما في ذراهم ... إذا بشفارها حمي اللطام يقول: هؤلاء القوم - أي بنو عجلٍ - يقون بجبهاتهم ما في ذراهم؛ أي في فنائهم؛ إذ كان اللطام بشفار السيف. يصفهم بالشجاعة وأنهم يبلون نفوسهم في المكارم فلا يسمحون لعدهم بما حموه. وقوله:

ولو يممتهم في الحشر تجدو ... لأعطوك الذي صلوا وصاموا تجدوا: أي تطلب جداهم, وهذه تناهٍ في صفة الجود, وقد سبقه إليه حبيب بن أوس في قوله: [الطويل] ولو قصرت أمواله عن سماحه ... لقاسم من يرجوه شطر حياته ولو لم يجد في قسمة العمر حيلةً ... وجاز له الإعطاء من حسناته لجاد بها من غير كفرٍ بربه ... وواساهم من صومه وصلاته وقوله: قبيل أنت أنت وأنت منهم ... وجدك بشر الملك الهمام قوله: أنت أنت يقول: أنت الرجل المشهر المعروف. وتقول للرجل: فلان هو هو؛ أي هو الذي عرف وشهر فضله, ومن ذلك قول أبي خراش: [الطويل] رفوني وقالوا يا خويلد لم ترع ... فقلت وأنكرت الوجوه هم هم أي: هم القوم الذين كنت أخافهم وأتقيهم. ولما شهد له بالفضل قال: وأنت من هؤلاء القوم الذين هم بنو عجلٍ, ومنهم جدك المسمى ببشرٍ. وذهب بعض الناس إلى أن الكلام فيه تقديم وتأخير كأنه قال: أنت وأنت منهم, وهذا تعسف لا يحتاج إليه.

وقوله: لمن مال تمزقه العطايا ... ويشرك في رغائبه الأنام ولا ندعوك صاحبه فترضى ... لأن بصحبةٍ يجب الذمام قال: لمن مال تمزقه العطايا فاستفهم, وعلمه ثابت بأنه مال الممدوح. ثم قال: ولا ندعوك صاحبه فترضى؛ لأنه لو صاحبك لوجب له ذمام عليك, وإنما يمر بك مرور مجتازٍ لا تلبث له لديك. وقوله: لأن بصحبةٍ يجب الذمام: يجب أن يكون في «أن» ضمير كأنه قال: لأنه بصحبةٍ, وتكون الهاء عائدةً على الأمر والشأن, وإن لم يجعل في «أن» ضمير؛ فكأنه أولى أن قوله: يجب, وأن لا تلي الفعل إلا وفيها ضمير. وقوله: تحايده كأنك سامري ... تصافحه يد فيها جذام السمرة لهم مذهب معروف, وأنهم إذا مسلهم غيرهم بيده أو لاصقهم؛ فلهم بركة فيها ماء إذا ماسهم سواهم طرحوا أنفسهم فيفها بثيابهم يرون أن ذلك طهارة لهم, وحديثهم في الكتاب الكريم. والسامري هو الذي زين لهم اتخاذ العجل فضرب به الشاعر المثل, وجعل الممدوح لا يقرب من المال وينفر منه, كما ينفر السامري من مصافحة يدٍ بها جذام, هذه نهاية في صفة النفار من المال. وقوله: إذا ما العالمون عروك قالوا: ... أفدنا أيها الحبر الإمام عروك: من عرا الرجل غيره إذا أتاه لزيارة أو حاجة. وجعل العلماء إذا جاؤوا هذا الممدوح سألوه أن يفيدهم. والحبر: العالم, يقال بفتح الحاء وكسرها, وبعض الناس يختار الكسر وبعضهم يختار الفتح, واشتقاقه من تحبير الشيء أي تحسينه, ومنه اشتقاق الحبرة من الثياب. وكان معاوية إذا قدم عليه قوم من أهل المدينة قال: هل معكم من حبرات قيسٍ شيء؛ يعني شعر قيس بن الخطيم. ويروون أن عبد الرحمن بن حسان دخل على أبيه وهو

ومن أبيات أولها

صبي فقال: يا أبه لسعني طائر كأنه ملتف في بردي حبرةٍ - يعني زنبورًا -. فعلم حسان أنه سيقول الشعر لما سمع منه هذه المقالة. وقافيتها من المتواتر. ومن أبيات أولها أبا عبد الإله معاذ إني ... خفي عنك في الهيجا مقامي الوزن من الوافر الأول. ومعاذ: مرفوع على البدل من أبي عبدالله, ولو كان معطوفًا عطف البيان لوجب أن ينصب فينون؛ لأنهم جعلوا عطف البيان جاريًا مجرى الصفة. وقولهم: الإله: الأصل في قولهم: الله سبحانه, وكان الأصل: الإله فألقوا حركة الهمزة على لام التعريف فاجتمعت لامانك الأولى منهما مكسورة فأدغمت في الثانية, وهذا الوجه يوجب ألا تفتح اللام من قولهم: الله تعالت عظمته في حال النصب والرفع, وإنما يحسن كسرها مع كسر الهاء. وقد ذهب قوم إلى أن الألف في قولهم: الله منقلبة عن ياء, وأهل العلم يكرهون الكلام في اشتقاق هذا الاسم. فأما الشمس فكانوا (2006/أ) في الجاهلية يسمونها إلاهةً معرفةً, وينشد: [الوافر] رحلناها من اللعباء ظهرًا ... فأعجلنا إلاهةً معرفةً, وينشد: [الوافر] رحلناها من اللعباء ظهرًا ... فأعجلنا إلاهة أن تغيبا وقرأ بعضهم: {ويذرك وإلاهتك} , وزعموا أن فرعون كان يعبد الشمس. وقوله: ذكرت جسيم ما طلبي وأنا ... نخاطر فيه بالمهج الجسام «ما» تحتمل وجهين: أحدهما: أن تكون زائدةً كزيادتها في قول الشاعر: [الطويل] فإن أمس ما شيخًا كبيرًا فظالما ... عمرت ولكن لا أرى العمر ينفع

ومن التي أولها

والآخر: أن تكون اسمًا في معنى الذي أو في معنى نكرة, وتكون هو بعدها مضمرةً. وإذا كان نكرة فمعناها: جسيم شيء هوطلبي. والجسيم: أصله ما شغل الأماكن, ثم قالوا لكن أمرٍ عظيم: جسيم وإن لم يكن له شخص. وقوله: وما بلغت مشيتها الليالي ... ولا سارت وفي يدها زمامي يقول: ما بلغت الليالي ما شاءته في. يقال: شاء الرجل الشيء يشاؤه إذا أراده, وأشاءه إليه غيره إذا ألجأه, وفي كلام بعض الأعراب: إن الذي أشاءني إليكم كذا وكذا؛ أي ألجأني وأحوجني, فأما قول ثعلبة بن صعيرٍ: [الكامل] ومغيرةٍ سوم الجراد وزعتها ... عند الصباح بشيئانٍ ضامر يعني بالشيئان: فرسًا, كأنه قلب شأي يشأي؛ أي سبق فقال: شاء. ويجب أن يكون المضارع: شاء يشوء, وبنى الكلمة على فيعلانٍ؛ كقولهم: تيجان وهيبان. والأصل: شيؤان فادغم, وقلب الواو إلى الياء, كما قالوا: ميت وهو من المت. والقافية من المتواتر. ومن التي أولها نرى عظمًا بالصد والبين أعظم ... ونتهم الواشين والدمع منهم

الوزن من الطويل الثاني. قوله: ومن لبه مع غيره كيف حاله ... ومن سره في جفنه كيف يكتم يقول: لبي مع غيري فيكف تكون حالي؛ أي إنها غير جميلةٍ. وقوله: ومن سره في جفنه كيف يكتم؛ أي: إن الأسرار إنما تكتم في القلوب لا في الأجفان. وقد جرت عادة الناس بأن يقولوا: عين فلان تبين عما في صدره, وتردد ذلك في الشعر, قال الشاعر: [الطويل] تخبر من لاقيت أنك ناصح ... وعينك تبدي أن صدرك لي دو ويضاف إلى هذا المعنى أن المحب يجري دمعه فيبين سره لرائيه. وقوله: ظلوم كمتنيها لصب كخصرها ... ضعيف القوى من فعلها يتظلم المتنان: تثنية متن وهو أسفل الظهر. يقال: متنان ومتنتان. قال أبو دواد الإيادي: [الهزج] ومتنان خظاتان ... كزحلوقٍ من الهضب خظاتان أي كثيرتا اللحم, وقال امرؤ القيس: [المتقارب] لها متنتان خظاتا, كما ... أكب على ساعديه النمر يقول: هذه المرأة ثقيلة الأراداف؛ فمتناها يضربان خصرها. وشبه المرأة في ظلمها بظلم

متنيها لصب كخصرها. ثم وصف نفسه بأنه ضعيف القوة يتظلم مما يفعل به. يقال: تظلم الرجل إذا اشتكى الظلم, وتظلم إذا ظلم, قال الجعدي: [الطويل] وما يشعر الرمح الأصم كعوبه ... بفروة رأس الأبلخ المتظلم يعني بالأبلخ: المتكبر, ومن روى: فروة رأسه أراد جلده؛ ومن روى: ثروى رهطه أراد كثرتهم. وهذه اللام التي في قوله: لصب إذا تقدمها فعل قبح مجيئها بعده في مثل قولك: ظلمت لفلانٍ. فإن تقدمت اللام على الفعل لم يقبح ذلك؛ تقول: لفلانٍ أعطيت درهمًا, وكذلك إن جئت باللام بعد فاعلٍ أو فعولٍ. فقولك: هو ظالم لعمرو وظلوم لزيد؛ أحسن من قولك: ظلم لعمروٍ؛ لأن الفعل عادته أن يتعدى بغير معد. وقوله: فلو كان قلبي دارها كان خليًا ... ولكن جيش الشوق فيه عرموم يقول: لو كان قلبي دار هذه الموصوفة لكان خاليًا لأنها قد رحلت عنه, ولكنه؛ يعني أن قلبه مملوء بالشوق؛ ففيه منه جيش عرموم؛ أي عظيم. وقوله: أثاف بها ما بالفؤاد من الصلا ... ورسم كجسمي ناحل متهدم أثافٍ: جمع أثفيةٍ, وهي من قولهم: أثف الرجل غيره إذا تبعه, وقيل للواحدة: أثفية؛ لأنها تتبع صاحبتها. والبصريون يحكون تخفيف الياء في الأثافي, والكوفيون يروون التشديد, وعلى الوجهين أنشدوا قول زهير: [الطويل] أثافي سفعًافي معرس مرجل والصلا: أثر الناس في الأثافي وغيرها, ولما شبه صلا الأثافي بصلا فؤاده زعم أن جسمه مثل الرسم الذي قد نحل وتهدم. وقوله:

بلتت بها ردني والغيم مسعدي ... وعبرته صرف وفي عبرتي دم الردنان: تثنية ردنٍ, وهو أصل الكم. قالت عمرة أخت ذي الكلب الهذلية: [البسيط] المخرج الكاعب الحسناء مذعنةً ... في السبي ينفخ من أردانها الطيب والعبرة: تردد الدمع, وقيل للثكل: عبر, وللثاكل: عابر. والصرف: الخالص, وأصل ذلك في الخمر إذا لم تمزج, وكذلك خمر مصروفة, قال المتنخل الهذلي: [السريع] إن يمس نشوان بمصروفةٍ ... منها بنيءٍ أو على مرجل وقوله: (206/ب) بنفسي الخيال الزائري بعد هجعةٍ ... وقولته لي: بعدنا الغمض تطعم سلام فلولا البخل والخوف عنده ... لقلت أبو حفصٍ علينا المسلم يقال: خيال وخيالة, فأما قول زهير: [الوافر] تطالعنا خيالات لسلمى ... كما يتطلع الدين الغريم يجوز أن يكون جمع خيالٍ بالتذكير كما يقال: سجل وسجلات, وحمام وحمامات.

ويجوز أن يكون جمع خيالةٍ. وقال آخر: [الوافر] ألا طرقت خيالة أم كرزٍ ... وأصحابي بعيهم من تباله وقوله: بعدن المغض تطعم: الأحسن فيه أن يكون معناه معنى الاستفهام, كأن الخيال قال: أتطعم الغمض بعدنا؟ ! وقد يحتمل أن يكون معناه معنى الاستفهام, كأن الخيال قال: أتطعم الغمض بعدنا؟ ! وقد يحتمل أن يكون على معنى الخبر كما تقول للرجل إذا رأيته يفعل فعلًا لا ينبغي أن يفعله: جلست في موضع كذا؛ أي قد جلست في موضع لا ينبغي أن تجلس فيه. وقوله: سلام: من لفظ الخيال. يقول: لولا أن الخيال بخيل بما نريد وإن معه خوفًا من هجرانه لقلت: أبو حفص المسلم علينا من عظم فرحي بذلك. وقوله: محب الندى الصابي إلى بذل ماله ... صباءً كما يصبو المحب المتيم يقول: أبو حفص يصبو إلى بذل ماله كما يصبو المحب المتيم إلى من يحب. يقال: صبا يصبو صبوًا وصبى بكسر الساد والقصر, وصباءً بفتحها والمد. وقوله: يجل عن التشبيه لا الكف لجة ... ولا هو ضرغام ولا الرأي مخذم يقول: هذا الممدوح يجل عن التشبيه بالأشياء؛ لا كفه لجة؛ أي كفه أعظم جودًا. والأسد وهو الضرغام يحتقر عنده, ولأنه أمضى من السيف المخذم؛ أي القاطع؛ فمن شبهه بهذه الأشياء فقد ظلمه. وقولهك ولا يبرم الأمر الذي هو حالل ... ولا يحلل الأمر الذي هو مبرم يقال: أبرمت الأمر إذا أحكمته. وأصل ذلك من فتل الحبل. وبعض الناس يعيب عليه حالل, لأنه أظهر التضعيف, وتلك ضرورة, ولو وضع مكانها ناقضًا لسلم من الضرورة. ويجوز أن يكون الشاعر فعل ذلك لينكر عليه فيعلمهم أنه عالم بالضرورات. فأما قول ابن أم صاحب: [البسيط]

مهلًا أعاذل قد جربت من خلقي ... أني أجود لأقوامٍ وإن ضننوا فإنه احتاج إلى إظهار التضعيف لأنه أراد أن يقابل الجود بالضن, وكذلك قول زهير: [الكامل] لم يلقها إلا بشكة باسلٍ ... يخشى الحواث حازمٍ مستعدد وقوله: ولا يرمح الأذيال من جبريةٍ ... ولا يخدم الدنيا وإياه تخدم أصل الرمح في الخيل, يقال: رمحه الفرس إذا ضربه برجله, ثم استعارواة ذلك في غير الخيل؛ فقالوا للمرأة التي تسحب أذيالها: هي ترمح ذيلها, وكذلك يقولون للرجل المتكبر إذا سحب ذيله. وقوله: ولا يشتهي يبقى وتفنى هباته ... ولا تسلم الأعداء منه ويسلم قد كثر في شعر أبي الطيب حذف «أن» في مواضع إثباتها فيها أحسن كقوله: ولا يشتهي يبقى, أراد: أن يبقى, وقوله: وقبل يرى من جوده, أي: قبل أن يرى, وقوله: ويمنعها الحياء تميسا؛ أي: أن تميس, وغير ذلك. والمجيء بها أحسن وأقوى للفظ. يقول: هذا الممدوح لا يشتهي أن يسلم ويسلم أعداؤه؛ ولكن يريد أن يسلم في نفسه ويهلك جميع أعدائه. وقوله: وأغرب من عنقاء في الطير شكله ... وأعوز من مسترفدٍ منه يحرم قد مضى ذكر العنقاء في أول الكتاب. يقول: شكله مفقود كما فقدت عنقاء مغرب. وأعوز من مسترفدٍ حرمه لأنه لا يحرم أحدًا استرفده؛ أي أعطاه الرفد أي العطية. وقوله:

سني العطايا لو رأى نوم عينه ... من اللؤم آلى أنها لا تهوم أصل التهويم: النوم القليل؛ وكأنهم يريدون به أخذ النوم في هامة الإنسان لأنه يبدأ برأسه, ثم ينتشر في سائر الجسد. وقوله: ولو قال: هاتوا درهمًا لم أجد به ... على سائل أعيا على الناس درهم يقال: هاتى الرجل يهاتي إذا قال لغيره: هات. وتقول للرجلين: هاتيا, وللجماعة: هاتوا, وللمرأة: هاتي, وللمرأتين: هاتيا, كما تقول للرجلين (207/أ) وللجميع: هاتين. وقوله: ولو ضر مرءًا قبله ما يسره ... لأثر فيه بأسه والتكرم يقال: امرؤ فتضم الراء في الرفع, ورأيت امرءًا فتفتح, ومررت بامرئٍ فتكسر. فإذا جاءت الألف واللام ألزموا الراء سكونًا فقالوا: هذا المرء, ورأيت المرء, ومررت بالمرء. منهم من يشدد الراء فيقول: هذا المر, ورأيت المر, ومررت بالمر؛ وربما قالوا: رأيت مرءاً. وينشد لبعض اللصوص: [الطويل] ولست أرى مرءاً تطول حياته ... فتبقي له الأيام خالًا ولا عما وقوله: يروي بكالفرصاد في كل غارةٍ ... يتامى من الأغماد بيضًا ويوتم الفرصاد: التوت, قال الشاعر: [البسيط] التارك القرن مصفرًا أنامله ... كأن أثوابه علت بفرصاد

وربما سموا الخمر فرصادًا على التشبيه. وقوله: بكالفرصاد أي بمثله, والكاف تدخل عليها حروف الخفض, قال الأخطل: [الطويل] قليلو غرار النوم حتى يخلصوا ... على كالقطا الجوني أفزعه الزجر والمعنى: أنه جعل الأغماد كالآباء للسيوف, وزعم أن الممدوح يموتها بطول السل ويوتم أولاد الأعداء. وقوله: إلى اليوم ما حط الفداء سروجه ... مذ الغزو سارٍ مسرج الخيل ملجم يعني بالفداء ما كان يجري بين الروم والمسلمين من المفاداة بالأسرى. هذا المصدر ممدود لا يجوز قصره. فإذا جعل اسمًا فقد حكي: فدي لك وفدى لك. وفداء لك يا فلان بالكسر والتنوين, وهي كلمة شاذة. وذكر أبو جعفر أحمد بن عبيد أن فداءً إذا كانت موفوعة برافعه لم يجز فيها الكسر؛ يعني مثل قول النابغة: [البسيط] مهلًا فداءٍ لك الأقوام كلهم ... وما أثمر من مالٍ ومن ولد والبصريون ينشدون هذا البيت بالكسر. يقول: هذا الممدوح ما حط الفداء سروجه؛ بل هو على حاله في الغزو مسرج ملجم.

وقوله: ومن عاتقٍ نصرانةٍ برزت له ... أسيلة خد عن قليلٍ سيلطم يقال: خد أسيل بين الإسالة والأسل؛ وإنما يراد سهولته, ومن ذلك قيل للرماح: أسل. والأسل أيضًا: نبت تعمل منه الحصر. وقوله: أجدك ما تنفك عانٍ تفكه ... عم بن سليمان ومالًا تقسم أجدك بمعنى: أجد منك, وهو استفهام كالمعلوم عند المستفهم. ونصب أجدك على المصدر أو فعلٍ مضمرٍ, وينبغي أن يكون عانٍ مرفوعًا بالابتداء, ولولا وزن البيت لكان نصب عانٍ أوجه, ويكون التقدير: ما تنفك عانيًا. ويقوي نصبه أنه نصب مالًا. وقوله: عم بن سليمان؛ أراد: عمر فرخم على رأي أهل الكوفه, والبصريون لا يرون ترخيم الثلاثي الذي أوسطه متحرك. وقوله: مكافيك من أوليت دين رسوله ... يدًا لا تؤدي شكرها اليد والفم مكافيك أصله الهمز؛ يقال: كافأت فلانًا على فعله, وفلان كفؤ لفلان أي هو نظير له. وتخفيف الهمزة جائز, وبعض النحويين يرده إلى السماع, وحمله على القياس أوجه؛ لأنك إذا وقفت على «كافأ» سكنت الهمزة وقبلها فتحة فجعلت ألفًا. وكذلك إذا وقف على المضارع قيل: يكافئ فسكن آخر الفعل وقبل الهمزة ضمة فجاز أن تجعل ياءً. وكذلك إذا قلت في اسم الفاعل: مكافئ سكنت آخر الكلمة فاتجه تخفيف الهمز. وقوله: وزارك بي دون الملوك تحرج ... إذا عن بحر لم يجر لي التيمم أصل التيمم: القصد, يقال: تيممت الرجل وتأممته. ومنه اشتقاق التيمم في الصلاة, وهذا أمر حدث في الإسلام, وإنما يجوز التيمم إذا فقد الماء. فقال الشاعر: أنت أيها الممدوح بحر, وغير من الملوك مثل قاصده مثل من فقد الماء فتطهر بالتراب, وأنت بحر قد عن لي - أي عرض - فلا يجوز أن أقصد ملكًا غيرك. وقافيتها من المتدارك.

ومن التي أولها

ومن التي أولها ألا لا أري الأحداث حمدًا ولا ذما ... فما بطشها جهلًا ولا كفها حلما (207/ب) الوزن من الطويل الأول. وأري في البيت بمعنى: أعلم, وهي تستعمل كثيرًا على هذا الوجه. وأصل الرؤية في العين, ثم استعملت في العلم والاعتقاد والمشورة, ونحو ذلك. يقول: المسلم يرى أن الصلاة فرض أي يعتقد, وفلان يرى أن تفعل أي يشير عليك. والمعنى: لا أرى الأحداث أني أحمدها ولا أذمها لأنها إذا حدث فيها شر فلا علم لها بالجناية, وإن اتفق خير فليست بالمحمودة عليه لأنها لم ترده ولم تكن السبب في فعله. وقوله: إلى مثل ما كان الفتى مرجع الفتى ... يعود كما أبدى ويكري كما أرمى يقال: بدأ الشيء, بالهمز, وهي اللغة الجيدة. ويقال: أبدى في معنى بدأ وهي قليلة. ويقال: أكرى الشيء إذا نقص وأكري إذا زاد. وقد ذكرت هذه الكلمة في الأضداد, وكري الزاد إذا نقص, وأكرى الرجل إذا نقص زاده. قال الشاعر: [الوافر] كذي زاد متي لا يكر منه ... فليس وراءه ثقة بزاد وأرمى على الشيء إذا زاد عليه, والاسم منه الرماء. وفي الحديث: «إني أخاف عليكم الرما» أي الربا. والمعنى: أن الفتي كان معدومًا لا يعلم له شخص ولا يعرف له اسم وإلى مثل ذلك يعود.

وقوله: بكيت عليها خيفةً في حياتها ... وذاق كلانا ثكل صاحبه قدما يقول: كنت أعلم أني لا بد لي من فراقها فكنت أبكي عليها, والفراق لم يكن. وكانت هي من إشفاقها علي كأنها ثاكلة, وهذا نحو من قوله: [الخفيف] من رآها بعينها شاقه القطا ... ن فيها كما تشوق الحمول وقوله: ولو قتل الهجر المحبين كلهم ... مضى بلد باقٍ أجدت له صرما ادعى أن البلد الذي كانت فيه محب لها لما كانت عليه من الطاهرة وفعل الخير. وهذه الدعوى باطلة, ولكنها تجوز في أحكام الشعر. وقوله: منافعها ما ضر في نفع غيرها ... تغذى وتروى أن تجوع وأن تظما يقول: هذه المرأة كانت ترى أنها تنتفع بنفع غيرها وإن كان نفعها إياه يضرها. والمراد: أنها كانت تطعم المساكين وتجوع وتظمأ وظمؤها في نفسها ري؛ وكأن هذا مأخوذ من قوله تعالي: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}. وقوله: أتاها كتابي بعد يأسٍ وترحةٍ ... فماتت سرورًا بي فمت بها هما الترحة: الحزن, قال الشاعر: [الطويل] وما فرحة إلا ستعقب ترحةً ... ولا عامر إلا قريبًا سيخرب والأطباء يقولون: إن السرور إذا زاد جاز أن يقتل. وقوله: تعجب من خطي ولفظي كأنها ... ترى بحروف السطر أغربةً عصما العصم: جمع أعصم, ويقال للغراب إذا كانت فيه ريشة بيضاء: أعصم. وأصل العصمة

في الوعول والخيل وهو أن يكون في قوائمها بياض. وقد قيل: إن الغراب الأعصم الذي رجله بيضاء. وقال النمر بن تولب في الأعصم الذي هو الوعل: [المتقارب] ولو أن من يومه ناجيًا ... لكان هو الصدع الأعصما وقال أبو خراشٍ الهذلي: [الطويل] تراه قريبًا يحسر الطرف دونه ... وإن كان طودًا فوقه فرق العصم وقوله: وتلثمه حتى أصار مداده ... محاجر عينيها وأنيابها سحما يذكر أن هذه النسيبة لثمت كتابه؛ أي قبلته. ويقال: صار الشيء إلى كذا وكذا, وأصاره غيره. والمعنى أنها لم تزل تلثم السطور وتضعها على عينيها حتى اسودت أنيابها ومحاجرها. والسحم: السود, الذكر أسحم, والأنثى سحماء. يقال: أسحم بين السحمة والسحم. والسحم - في غير هذا الموضع - ضرب من النبت, قال النابغة: [الكامل] إن العريمة مانع أرماحنا ... ما كان من سحمٍ بها وصفار الصفار: يبيس البهمى. وقوله: رقا دمعها الجاري وجفت جفونها ... وفارق حبي قلبها بعدما أدمى (208/أ) أصل رقأ الهمز. يقال: رقأ الدم رقوءًا, وكذلك رقأ الدمع. قال الشاعر: [الطويل] بكى دوبل لا أرقأ الله دمعه ... ألا إنما يبكي من الذل دوبل

يقول: رقأ دمع هذه المرأة لأنها كانت تبكي من فراقي في أيام الحياة, فلما أصابها الموت رقأ الدمع وجفت منها الجفون, وفارق قلبها حبي بعدما أدماه. وقوله: ولم يسلها إلا المنايا وإنما ... أشد من السقم الذي أذهب السقما المعنى: أنهما لم تسل حتى سلتها المنية, والذي يذهب السقم أشد منه؛ إلا أن الموت؛ وإن كان شديدًا؛ فإنه يؤدي إلى الراحة بمشيئة الله, وفي هذا المعنى طرف من قوله: [الكامل] وشكيتي فقد السقام لأنه ... قد كان لما كان لي أعضاء فهذا يشابه قوله: أشد من السقم الذي أذهب السقما وقوله: طلبت لها حظا ففاتت وفاتني ... وقد رضيت بي لو رضيت لها قسما يقول: سافرت عنها لأفيد مالًا يكون لهاحظًا وسعةً ففاتت هي وفات الحظ, وكانت راضيةً بي لو أني رضيت لها بذلك. وقوله: فأصبحت أستسقي الغمام لقبرها ... وقد كنت أستسقي الوغا والقنا الصما يقول: أصبحت أقول: سقي قبرها الغمام لا أقدر على غير ذلك, وقد كنت قبل موتها استسقي الوغا, أي الحرب, والقنا الصم لأصل إلى مالٍ أنفعها به. وقوله: هبيني أخذت الثار فيك من العدى ... فكيف بأخذ الثار فيك من الحمى يقول: لو قتلك عدو لجاز أن أطلب بثأرك, فكيف أقدر على أن آخذ ثأرك من الحنى القاتلة لك. وقوله: فوا أسفا ألا أكب مقبلًا ... لرأسك والصدر اللذي ملئا حزما يقال: أكب على الشيء إذا خفض رأسه وظهره إليه, وكب الشيء لوجهه إذا ألقاه

عليه, ومنه قولهم: فلان يكب الإبل, أي يضرب عراقيبها فيكبها على وجوهها. قال الشاعر: [الطويل] ولا عيب فينا غير أن حدايدًا ... نكب بها صهب العشار البهازر أي الضخام من النوق. وقوله: اللذي حذف النون من اللذين, وقد مر ذكر ذلك. وقوله: تغرب لا مستعظمًا غير نفسه ... ولا قابلًا إلا لخالقه حكما ولا سالكًا إلا فؤاد عجاجةٍ ... ولا واجدًا إلا لمكرمةٍ طعما زعم أنه تغرب لا يستعظم شيئًا غير نفسه, ونصب مستعظمًا على الحال. وذكر أنه لا يقبل حكمًا إلا للخالق تعالت كلمته, واستعار للعجاجة فؤادًا كما يستعير الشعراء بعض الأشياء لبعض. وادعى أنه لا يستعذب شيئًا ولا يجد له طعمًا إلا أن يكون مكرمةً. وقوله: يقولون لي: ما أنت؟ في كل بلدةٍ ... وما تبتغي؟ ما أبتغي جل أن يسمى «ما» تقع على الصفات للآدميين كأنهم إذا قالوا له: ما أنت, فالمراد أي شيء أنت؟ فيقول: كريم, أو كاتب, أو شاعر, أو نحو ذلك. وما تبتغي؟ أي أي شرفٍ تروم؟ ثم ابتدأ الكلام فقال: الذي أبتغي جل أن يسمى, أي عظم أن يذكر. وقوله: كأن بنيهم عالمون بأنني ... جلوب إليهم معادنه اليتما الهاء والميم من بينهم راجعة إلى الذين يقولون له: ما أنت في كل بلدة؛ يزعم أنهم يبغضونه كأن بنيهم قد علموا أنه سيوتمهم بقتل آبائهم. وقوله: وما الجمع بين الماء والنار في يدي ... بأصعب من أن أجمع الجد والفهما يقول: لا أستطيع أن أجمع بين الفهم والثروة التي يؤديني إليها الجد؛ أي الحظ, إذ كان أهل الفضل قد يكونون فقراء, وقلما رئي ملك عالم أو عالم ملك. وقد ضرب البحتري المثل

بفقر الأنبياء صلى الله عليهم, ولهم الفضل الأعظم, فقال: [الكامل] فقر كفقر الأنبياء وغربة ... وصبابة ليس البلاد بواحد في الكتاب العزيز: {ووجدك عائلًا فأغنى} أي فقيرًا. وفي قصة موسى عليه السلام: {إني لما أنزلت إلي من خيرٍ فقير}. وقوله: ولكنني مستنصر بذبابه ... ومرتكب في كل حال به الغشما الهاء في ذبابه راجعة إلى السيف؛ ولم يتقدم له ذكر؛ إلا أنه (208/ب) معلوم عند السامع, وإنما قيل لطرف السيف: ذباب لأنه يذب به الأعداء؛ أي يطردون, وإنما يكون ذلك من قبل أن تقع الملاحمة؛ فإذا كان ذلك فالمضاربة بصدور السيوف. وقيل: إنما قيل له: ذباب لأنه له حدة تزيد على حد السيف, فشبه بذباب العين وهو إنسانها أي أفضل ما فيها. وقيل: إنما قيل له: ذباب من قولهم: بقي عليه ذباب من دينٍ؛ أي شيء قليل منه؛ فكأن هذا الشيء طرف من السيف قليل. وقوله: وجاعله يوم اللقاء تحيتي ... وإلا فلست السيد البطل القرما أصل التحية أن تكون «تفعلةً» من الحياة, فيجوز أن يريد أن أجعله حياتي في الحرب - وقد مضى الكلام على التحية, ونقلها من حالٍ إلى حال - فيجوز أن يعني أنه يحيي بالسيف نفسه كما يحييها بالشيء الطيب الرائحة. ويحتمل أن يكون أراد: إني أجعله كالتحية لمن أقابل كما قال القائل: [الوافر] تحية بينهم ضرب وجيع

ومن بيتين أولهما

وقوله: إذا فل عزمي عن هدى خوف بعده ... فأبعد شيءٍ ممكن لم يجد عزما يقول: إذا فل عزمي خوفي بعد المطلوب - وأبعد مما أطلب إذا بعد ممكن؛ أي قريب - لم يجد عزمًا في طلبه. وقوله: ممكن يدل على أن الميم في «مكان» أصليه, والأشبه بمكان أن يكون مفعلًا من الكون. وقوله: وإني لمن قوم كأن نفوسنا ... بها أنف أن تسكن اللحم والعظما كان أبو الطيب له مذهب في أن يحمل الضمير على المعنى, كقوله في هذا البيت: كأن نفوسنا, ولو قال: كأن نفوسهم لرجع الضمير إلى قوم. وإذا قال: كأن نفوسنا فلم يرجع إلى قومٍ ضمير, وقد تردد نحو من هذا شعره, كقوله: [الكامل] قوم تفرست المنايا فيكم ... فرأت لكم في الحرب صبر كرام ولو قال: فيهم ولهم لكان ذلك أقرب إلى فهم السامع, وكأنه أراد بهذا القول: أنا نؤثر القتل لأن نفوسنا تأنف من سكناها العظم واللحم. والقافية من المتواتر. ومن بيتين أولهما إذا ما شربت الخمر صرفًا مهنأً ... شربنا الذي من مثله شرب الكرم وزنهما من الطويل الأول. يقول: إذا شربت الخمر شربنا الماء الذي شرب منه الكرم. وأص الكرم: شجر العنب, والكرم شجر آخر تتخذ منه نصب السكاكين, وقد ذكره أبو حنيفة الدينوي في كتاب «النبات». وقافيتهما من المتواتر.

ومن أبيات أولها

ومن أبيات أولها إذا غامرت في شرفٍ مروم ... فلا تقنع بما دون النجوم وزنها من الوافر الأول. وغامرت: أي دخلت في الغمرات وهي الشدائد. وأصل المغامرة أن تكون من اثنين فما زاد. والمعنى: أن طعم الموت في الأمر الهين كطعمه في الأمر الأعظم, وقد بين ذلك بقوله: فطعم الموت في أمرٍ حقيرٍ ... كطعم الموت في أمرٍ عظيم ستبكي شجوها فرسي ومهري ... صفائح دمعها ماء الجسوم يقال: إنه ذهبت له فرس ومهر في أنطاكية, وذلك في أيام مدح العشائر بالشينية. وقد يجوز أن يكون ما قيل, ولا يمتنع أن يريد أنه يحمل فرسه ومهره على الإقدام حتى يصيبهما القتل فتكون الصفائح باكيةً عليهما. وقوله: قربن النار ثم نشأن فيها ... كما نشأ العذارى في النعيم قربن: استعاره من قرب الإبل؛ أي سار حديد هذه السيوف إلى النار - كما أن الإبل تسير إلى القرب - ثم نشأت في النار فأداها ذلك إلى حسن منظرٍ ومضاءٍ فكأنهن عذارى نشأن في نعيم. وقوله: ولكن تأخذ الآذان منه ... على قدر القرائح والعلوم يقول: الناس يفهمون ما دق من الكلام على مقدار علومهم وقرائحهم. والقرائح: جمع قريحة وهي خالص الطبع, وأخذت من قريحة البئر, وهو أول ما يخرج من مائها. ويقال: فلان في قرح عمره أي في أوله, ومن هذا قيل: ماء قراح؛ أي لا يخالطه غيره. وقافيتها من المتواتر.

ومن بيتين أولهما

ومن بيتين أولهما وأخٍ لنا بعث الطلاق أليةً ... لأعللن بهذه الخرطوم (209/أ) وزنهما من ثاني الكامل, وقافيتهما من المتواتر. ومن التي أولها لهوى القلوب سريرة لا تعلم ... عرضًا نظرت وخلت أني أسلم عرضًا: يحتمل نصبه وجهين: أحدهما: أن يكون المراد: نظرت نظرةً عرضًا, والآخر: أن يكون عرض مفعولًا؛ أي ظننت عرضًا من أعراض الدنيا. وقوله: يا أخت معتنق الفوارس في الوغا ... لأخوك ثم رق منك وأرحم وصف أخا المرأة بالشجاعة, وذكر أنه على قتله الناس أرق من أخته قلبًا وأكثر منها رحمةً. وقوله: يرنو إليك مع العفاف وعنده ... أن المجوس تصيب فيما تحكم هذا نحو من قول الآخر: [الخفيف] بأبي من إذا رآها أبوها ... قال بالغيب: ليت أنا مجوس أي: أبوها ليس مجوسيًا, وهي يتمنى أن يكون متمجسًا لأنهم يجيزون نكاح الأخوات والبنات. وذهب بعض الناس إلى أن هذين البيتين كالتعريض بابن كيغلغ, وليس الأمر كذلك. وقوله:

راعتك راعية البياض بعارضي ... ولو انها الأولى لراع الأسحم يقول: راعتك الشعرة البيضاء في عارضي, ولو أنها أول ما يظهر في العذار من الشعر, وكان الأمرد تخرج لحيته وهي بيضاء ثم تسود إذا طعن في السن لكان السواد يروعها كما يروعك البياض. وإنما السبب في كراهة الشيب أن إذا ظهر علم أن الإنسان قد أنفد سنين كثيرةً وأن شبابه قد ذهب. والأشبه بمعنى الشعر أن يقال: رائعة فتكون فاعلةً من الروع أي الفزع, والناس يروونها: راعية البياض, ويقولون: بدت راعية الشيب في رأسه؛ أي أول شعرة؛ يريدون أنها مخالفة لون الشعر فكأنها راعية بيضاء في معزٍ سودٍ. وفي نوادر ابن الأعرابي: [البسيط] أهلًا براعيةٍ للحلم داعيةٍ ... تنعى الشباب وتنهانا عن الغزل أما الشباب فقد وفاك عقبته ... وعقبة الشيب تستوفى مع الأجل وقوله: لو كان يمكنني سفرت عن الصبى ... فالشيب من قبل الأوان تلثم يقول: عجل على الشيب, وعمري يوجب أن يكون شعري أسود؛ فلو كنت أقدر لسفرت عن الصبى؛ أي كشفت الشيب عنه لأنه ظلمني وجاءني في غير أوانه, فلو سفرت وكان ذلك في قدرتي لعلم أني حديث السن؛ لأن الشيب قبل الأوان كاللثام يستر الشباب. وقد ذكرت الشعراء ظهور المشيب من قبل أن يطول العمر, وهذا الشعر ينسب إلى ابن المعتز: [الطويل] وقائلةٍ غط المشيب بخضبه ... فقلت لها: هيهات لم يأن ذا الوقت سأتركه حتى يرى الناس ظلمه ... وأخضبه من بعد خمسين إن عشت ويروى له أيضًا: [الخفيف] شعرات في الرأس بيض ودعج ... حل رأسي جيشان روم وزنج

طار عن لمتى غراب شبابي ... وعلاها من بعده شاه مرج أيها الشيب لم حللت برأسي ... إنما لي عشر وعشر وبنج وقد ذكرت الشعراء أن الشباب كالغراب, وأنه يطير عن الرأس, قال المرقش: [الطويل] هل يرجعن لي لمتي إن خضبتها ... إلى عهدها قبل المشيب خضابها رأت لائحات الشيب فوق خطيطةٍ ... إذا مطرت لا يستكن صؤابها فإن يمس قد بان الشباب فقد ترى ... به لمتي ما طار عنها غرابها وقال آخر وقد ذكر لمته: [المتقارب] وكان الغراب بها واقعًا ... فطيره الشيب عنها فطارا فلا يبعد الله ذاك الغراب ... وإن كان لا هو إلا ادكارا وقال شاعر سيف الدولة, وهو النامي المصيصي, واسمه أحمد بن محمد, وكنيته أبو العباس: [الطويل] كأن برأسي عسكرين تحاربا ... فقد كثر استئمان جند إلى جند

وهذا مأخوذ من قول ابن المعتز: حل برأسي جيشان روم وزنج وقوله: ولقد رأيت الحادثات فلا أرى ... يققًا يميت ولا سوادًا يعصم اليقف: الأبيض. يقال: يقق ويقق. يقول: قد جربت الحادثات ورأيتها فما علمت أن الشيب يعجل الموت, ولا رأيت شيئًا يعصم من الهلاك. وهذا نهي للإنسان عن كراهة الشيب؛ إذ كان هو والشباب مثلين. وقوله: ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ... وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم يقول: ذو العقل يتفكر فيما هو فيه؛ ويعلم أنه إلى زوال؛ فلا يزال في هم يشقيه. وأخو الجهل يكون في شقاوةٍ وهو يحسب أنه في نعيم. ويقال: إن الزنج أقل الناس همومًا. وقد ردد أبو الطيب هذا المعنى في شعره كقوله: [الكامل] تصفو الحياة لجاهلٍ أو غافلٍ ... عما مضى فيها وما يتوقع وكذلك قوله: [الوافر] أشد الغم عندي في سرورٍ ... تيقن عنه صاحبه انتقالا وقوله: والناس قد نبذواة الحفاظ فمطلق ... ينسى الذي يولي وعافٍ يندم (209/ب) الناس منذ كانوا على الحال التي هم عليها اليوم فيهم الكريم والبخيل؛ إذا أطلق منهم مطلق جاز أن يشكر وجاز أن يكفر, وكذلك صاحب المنة ربما ندم على فعل جميلٍ. ويقال: إن معقر بن حمارٍ البارق مر على سنان بن أبي حارثة في يوم

جبلة ومضى يلتمس ثوابه فلم يعطه ما يرضيه, فقال معقر: [الطويل] متى ما تكن عند امرئٍ لك نعمة ... فلا تطلبنها الدهر بعد سنان أتيناه للنعمى فكان ثوابه ... قلوص ووطبا حازرٍ مذقان الحازر: اللبن الحامض. وقوله: لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم هذا حث على القتل, وهو نحو من قوله: [الطويل] وأن ترد الماء الذي شطره دم ... فتسقي إذا لم يسق من لم يزاحم والدم: اسم ناقص قد ذهبت منه الياء, وقالوا في التثنية: دميان, وقالوا في الجمع: دماء, وأصله دماي, فلما وقعت الياء طرفًا وقبلها ألف قلبت همزة. وحكى أبو زيد: دمًا في وزن رحى فكان يذهب إلى أن الدم في قول القائل: [الطويل] ولكن على أقدامنا يقطر الدما

فاعل يقطر, وكان غيره ينشد: تقطر بالتاء, ويجعل الألف في آخر البيت للترنم, وهي في رأي أبي زيد أصلية. وقوله: يؤذي القليل من اللئام بطبعه ... من لا يقل كما يقل ويلؤم يقول: يؤذي القليل من اللئام بطبعه اللئيم من ليس هو قليلًا كقلة المؤذي. ويلؤم: المضارع من لؤم يلؤم. وهو معطوف على قوله: يقل. ويقال: لئيم على الأصل, ووزنه فعيل, كما يقال: كرم فهو كريم. وقالوا: رجل ليم, كما قالوا: لئيم. قال عبيدالله بن قيس الرقيات: [الكامل] وإذا حبوت الليم منك صنيعةً ... كتم الصنيعة لؤمه فلواكها يريد: فلواك إياها, فاستعمل المضمر المتصل مكان المنفصل. يريد: لواكها من لي الدين أي مطله. والذين قالوا: الليم هم الذين قالوا: الروس في جمع راس؛ فيجوز أن يكون المحذوف الهمزة من اللئيم؛ لأنهم يجترئون على حذف ما همز. ويجوز أن يكونوا لما خففوا الهمزة أشبهت الساكن فحذفوها, وتركوا ياء فعيل. ويحتمل قولهم: روس أن يكونوا حذفوا الهمزة من رؤوس وأقروا الواو, ويجوز أن يكون المحذوف الواو, والهمزة باقية لأنهم قد جمعوا فعلًا على فعلٍ, كما قالوا: فرس ورد وخيل ورد, وسقف البيت وسقف. وقال الشاعر في روس: [المديد] إنما هند كشمسٍ تبدت ... يوم عيدٍ فوق روس الجبال وقوله: والظلم في خلق النفوس فإن تجد ... ذا عفةٍ فلعلةٍ لا يظلم يقول: الظلم في الطباع المخلوقة, وكل من صدق نفسه علم أنه لا يظلم؛ إلا أن الظلم يتفاضل؛ فمنه ما يوبق, ومنه ما يجوز أن يغفر؛ وليس كل من ظلم دينارًا كمن ظلم بدرة. والظلم يجتنب لأشياء؛ فمن الناس من يترك الظلم مخافة الله عز وجل, ومنهم من يتجنب

الظلم لأنه لا يقدر عليه, وكلاهما ترك الظلم لعلةٍ, ومنهم الذي يجتنب الظلم بالحياء ومخافة ذكر القبيح. وقوله: أقم المسالح فوق شفر سكينةٍ ... إن المني بحلقتيها خضرم المسالح: جمع مسلحةٍ, وهي الموضع الذي يجعل السلطان به من يأخذ له المكوس, ولا بد أن يكون مع القوم سلاح؛ فهو مفعلة من السلاح. والمني: الأجود فيه التشديد, وكانت بنو يربوع بن حنظلة تعير, ويذكر أنهم يشربون المني. قال الراجز: [الرجز] إن بني يربوع أرباب الشوي ... قوم يلتون السويق بالمني من يشرب المني يحبل بصبي ويقال: إن أصل ذلك أن رجلًا من ضبة يقال له: أبو سواج نزل في بني يربوع, وكانت معه امرأة, فاخلتف إليها صرد بن عمرو - وهو عم مالك بن نويرة - فاطلع الضبي على ذلك, وأمر عبدين أن يتراوحا أمةً بالجماع ويجعلا المني في قعب, فلما فعلا ذلك ملأ القعب لينًا ودس على صرد من يغره بذلك؛ فتمت عليه الحيلة فشربه؛ فنعت - أي رفعت - العرب عليه ذلك, فقال محرز بن المكعبر الضبي: [الطويل] لقد كان في سقي المني أخاكم ... من العار ما ينهى صحيحًا وأعورا فلو أن ما في بطنه بين نسوةٍ ... حبلن ولو كن القواعد عقرا وقال الأخطل يخاطب جريرًا: [الوافر] تعيب الخمر وهي شراب كسرى ... ويشرب قومك العجب العجيبا مني العبد عبد أبي سواجٍ ... أحق من المدامة أن تعيبا

وقوله: وارفق بنفسك إن خلقك ناقص ... واستر أباك فإن أصلك مظلم (210/أ) ادعى أن حسب هذا المهجو مظلم, وقد سبق إلى هذا اللفظ لأن خفاف بن ندبة السلمي كانت أمه سوداء, وهو من غربان العرب, فقال: [المتقارب] كلانا يسوده قومه ... على ذلك الحسب المظلم وإنما أراد سواد اللون, وقد ادعى السؤدد مع إظلام الحسب. وإنما أراد الشاعر أن يهجو الرجل بكثرة مخازيه ويزعم أنها سود كالليل. وقوله: واحذر مناوأة الرجال فإنما ... تقوى على كمر العبيد وتقدم المناوأة من قولهم: ناء بالشيء إذا نهض به وهي المعاداة؛ يريد أن كل واحد من العدوين ينهض لقتال صاحبه. وقوله: ومن البلية عذل من لا يرعوي ... عن جهله وخطاب من لا يفهم الارعواء: الرجوع إلى الشيء. يقال: قد ارعوى فلان إلى الدين أي قد رجع إليه. وحكي عن أبي بكر الخياط النحوي, وكان - فيما قيل - يعرف مذهب البصريين والكوفيين, أنه قال: أقمت عشر سنين أسأل عن وزن ارعوى فلم أجد من يعرفه. وأصله عند النحويين: ارعو في وزن احمر, وأصل احمر. احمرر؛ فكأنهم [لما] لم يأت في كلامهم واوان مجتمعتان فروا إلى أن يجعلوا الواو الثانية في ارعو ألفًا فيقولون: ارعوى. ولو قيل: ابنوا من الغزو مثل افعل؛ لوجب أن يقال: اغزوى, والأصل: اغذو كما تقدم في ارعو.

وكذلك لو قيل: ابن من قضيت مثل افعل؛ لوجب أن تقول: اقضيا فتقلب الياء الآخرة ألفًا, ولا يجوز أن تحمله على قولك: قد حي فلان بالمكان أي حيي به. وقد عي بالمكان أي عيي به. قال عبيد بن الأبرص: [مجزوء الكامل] عيوا بأمرهم كما ... عيت بييضتها الحمامه جعلت لها عودينمن ... نشمٍ وآخر من ثمامه وإنما جاء في هذا الباب هاتان اللفظتان وكلاهما على فعل بكسر العين, ولم يأت شيء على فعل فيشبه به اقضى وارعو. قال يزيد بن الحكم الكلابي: [الطويل] جمعت وفحشًا غيبةً ونميمةً ... ثلاث خالٍ لست عنها بمرعو وقد جاء في هذه القصيدة اسمان يجريان مجرى مرعوٍ, وهما: محجوٍ: في معنى متقبضٍ مجتمعٍ, ومدحوٍ: مأخوذ من الدحو, وهو البسط في قولهم: دحا الله الأرض؛ أي بسطها, قال: [الطويل] ويدحو بك الداحي إلى كل سوأةٍ ... فيا شر مدحو ويا شر مدحو أفحشًا وخبًا واختناءً عن الندى ... كأنك أجحى صخرةٍ فر مجحو ويروى: محجو, والمعنى واحد. والاختناء: الاستحياء والانقماع, وأجحى صخرةٍ؛ أي ملتجئ إليها قريب منها. وفيها موضع ثالث: [الطويل] جداك عن المولى ونصرك غائب ... وأنت له بالضر والغي مجدو من الجدوى.

وقوله: والذل يظهر في الذليل مودةً ... وأود منه - لمن يود - الأرقم يقول: إذا أذللت الذليل أظهر لك مودةً لأنه يفزع منك. وضرب المودة مثلًا في المودة بالأرقم, والعرب تضرب بالحية المثل في الظلم؛ فيقولون: «هو أظلم من حيةٍ» , ويزعمون أن ظلمها أنها تجديء إلى حجر غيرها فتنحجر فيه. قال الراجز: [الرجز] كأنما وجهك ظل من حجر ... وأنت كالأفعى التي لا تحتفر تجيء جحر غيرها فتنجحر فهذا الذي يذكرون في ظلم الحية. ولها مظالم كثيرة؛ لأنها تلدغ فتقتل من ليس بينها وبينه ذحل. قال المرار الفقعسي: [الطويل] لعمرك إني لو أخاصم حيةً ... إلى فقعسٍ ما أنصفتني فقعس وقوله: ولمن أقمت على الهوان ببابه ... تدنو فيوجأ أخدعاك وتنهم يقال: وجأه بالحديدة إذا ضربه بها, وكذلك وجأ الوتد بالحجر, ومنه الوجاء للتيس والكبش, وهو أن تشد بيضتاه حتى تندرا؛ وقيل: بل ترض بين حجرين. والأخدعان في العنق معروفان, ويقال: فلان شديد الأخدع إذا وصف بالقوة, ويقال: استقام أخدع فلانٍ ولان أخدعه إذا ذل بعد عز. قال الشاعر: [الكامل] قد كنت أشوس في المقامة سادرًا ... فنظرت قصدي حين لان الأخدع وقال الفرزذق: [الطويل]

وكنا إذا الجبار صعر خده ... ضربناه حتى تستقيم الأخادع وتنهم: أي: تزجر, يقال: نهمت العنس إذا زجرتها. قال الراجز: [الرجز] ألا أنمهماها إنها مناهيم ... وإنها مناجد متاهيم وإنما ينهمها القوم الهيم وقوله: ولربما أطر القناة بفارسٍ ... وثنى فقومها بآخر منهم يقال: أطر العود إذا حناه, وأطرت الرجل على ما كره إذا عطفته عليه. وفي الحديث: «حتى تأخذوا على يد الظالم وتأطروه على الحق أطراً». قال خفاف بن ندبة: [الطويل] (210/ب) أقول له والرمح يأطر متنه ... تأمل خفافًا إنني أنا ذلكا وقال آخر: [المنسرح] ولوا وأرماحنا حقائبهم ... نكرهها فيهم وتنأطر وقافيتها من المتدارك.

ومن التي أولها

ومن التي أولها ضيف ألم برأسي غير محتشم ... والسيف أحسن فعلًا منه باللمم الوزن من أول البسيط. يعني بالضيف: الشيب. واشتقاق الضيف من قولهم: ضاف يضيف إذا مال كأنه يميل إلى من يضيفه. ويقال: ضاف السهم عن الغرض, وصاف: إذا مال. قال أبو زبيدٍ الطائي: [الخفيف] كل يومٍ ترميك منها بسهمٍ ... فمصيب أو ضاف غير بعيد وقد استعملت العرب الضيف في الشيب. قال الشاعر: [البسيط] ألقى عصاه وأرخى من عمامته ... وقال: ضيف, فقلت: الشيب؟ قال: أجل وقوله: والسيف أحسن فعلًا منه باللمم, هو ناظر إلى قول البحتري: [الطويل] وددت بياض السيف يوم لقينني ... مكان بياض الشيب حل بمفرقي وقوله: ابعد بعدت بياضًا لا بياض له ... لأنت أسود في عيني من الظلم أسود في هذا البيت لا يراد به أشد سواداً؛ لأن النحويين يزعمون أن الألوان لا تستعمل في هذا الموضع ولا في التعجب إلا بأشد ونحوها, ويقولون: هذا أشد حمرةً من الشقيق, ولا يقولون: هذا أحمر من الشقيق, وكذلك يقولون في التعجب: ما أشد سواده, ولا يقولون: ما أسوده. ولم يجعله أشد سوادًا من الظلم؛ وإنما أراد أنه بعضها كما تقول: فلان مسود من الليل؛ أي كأنه منه. وقد أنشدوا بيتًا شاذًا, وهو قول الراجز: [الرجز] جارية في درعها الفضفاض ... أبيض من أخت بني إباض

وقد يتوجه لهذا البيت أن يكون على غير ما ذهبوا إليه, ويكون قوله: في درعها الفضفاض أبيض؛ أي في درعها جسد مبيض من أخت بني إباض؛ فيكون أبيض وصفًا بالبياض, وتكون «من» ها هنا كما تقول للرجل: لك من فلانٍ صديق. وكذلك البيت المنسوب إلى طرفة: [البسيط] إذا الرجال شتوا واشتد أكلهم ... فأنت أبيضهم سربال طباخ يريد: أنت مبيضهم؛ أي ثوبك أبيض, ولا يريدون أن ثوبه أشد بياضًا من ثيابهم, وإنما هو كما تقول: هذا كريم من بني فلان, أي: أنت كريم, وأنت منهم. ونحو هذه الأبيات في أن أفعل لا يراد به التفضل قول القائل: [الطويل] وأعنق من أولاد ذروة لم أجئ ... بإعطائه عارًا ولا أنا نادم لم يرد أنه أطول عنقًا من أولاد ذروة, وإنما أراد أنه طويل العنق, وأنه من أولاها. وقوله: بحب قاتلتي والشيب تغذيتي ... هواي طفلًا وشيبي بالغ الحلم تم الكلام عند قوله: تغذيتي, ثم فسر النصف الأول بالنصف الثاني, فقال: هواي طفلًا. جعل هواي دالًا على الفعل كأنه قال: هويت طفلًا, ونصب طفلًا على الحال. وقوله: وشيبي بالغ الحلم؛ أي شبت حين بلغت الحلم, والنصب في: بالغ الحلم كالنصب في: هويت طفلًا على الحال. وقوله: تنفست عن وفاءٍ غير منصدعٍ ... يوم الرحيل وشعبٍ غير ملتئم أصل الانصداع: الانشقاق. يقول: وفاء هذه المذكورة لم يحدث فيه عيب. قال الشاعر: [الطويل]

ونحن كصدع العس إن يعط شاعبًا ... يذره وفيه عيبه متشاخس أي متباين مختلف. والعرب تضرب المثل بصدع الزجاجة فإنه لا يلتئم. قال الشاعر: [الكامل] وأمانة المري حيث لقيته ... مثل الزجاجة صدعها لا يجبر الشعب ها هنا: القبيلة العظيمة؛ أي افتراق قومي وقومها. ويجوز أن لا يعني بالشعب قبيلة. والشعب يستعمل في معنى الجمع, ومعنى التفرقة, وقد مر ذكر ذلك. يقول: تنفست عن وفاءٍ لا صدع فيه, وشعبٍ - أي فراق - لا يلتئم, وهذا الوجه أشبه من الأول. وقوله: قبلتها ودموعي مزج أدمعها ... وقبلتني على خوفٍ فماً لفم قد ذقت ماء حياةٍ من مقبلها ... لو صاب ترباً لأحيا سالف الأمم نصب «فماً» بفعل مضمرٍ أو اسم فاعل يقوم مقام الفعل؛ كأنه قال: جعلت فمها إلى فمي, أو جاعلةً فمها إلى فمي. وقوله: فماً موضوع موضع الحال, وكذلك قولهم: كلمته فاه إلى في؛ أي جاعلًا فاه إلى (211/أ) في؛ فقوله: فاه في موضع حال, وأما قول الشاعر: [الطويل] تحسب هواس وأيقن أنني ... بها مفتدٍ من صاحبٍ لا أساوره فقلت له فاها لفيك فإنها ... قلوص امرئٍ قاريك ما أنت حاذره ويروى: من قاصدٍ. فقوله: فاها لفيك منصوب بفعل مضمر كأنه قال: تلق فاها إلى

فيك؛ يعني الداهية, أو ضربةً, أو طعنةً, استعار لها فماً. وهواس: يعني أسدًا يطلب شيئًا بالليل, وتحسب أي تظنن من حسبت الشيء. والبيت الذي بعد هذا لم يقل في معناه مثله لأنه جعل الريق فيه ماء حياةٍ لو أصاب الترب لأحيا من سلف من الأمم, وهذا قول يجب أن يستغفر الله سبحانه عند استماعه فكيف باختلاقه وتقوله. وقوله: ترنو إلى بعين الظبي مجهشةً ... وتمسح الطل فوق الورد بالعنم يقال: أجهش إذا تهيأ للبكاء, أو ظهر فيه فزع من شيء. قال لبيد: [البسيط] جاءت تشكى إلي النفس مجهشةً ... وقد حملتك سبعاً بعد سبعينا وشبه الشاعر الدمع بالطل, والخد بالورد, والبنان مخضوبًا بالعنم. قال بعض العلماء: العنم قضبان حمر تنبت في جوف السمرة, وقد رأيتها بمكة. وقال قوم: العنم دود أحمر يكون في الرمل, ويجوز أن يكون شبه بالعنم الذي هو نبت؛ وقد زعم قوم أن العنم هو الخروب. قال الراجز: [الرجز] لقد أرتك اليد أم علقمه ... كأنما الإصبع منها عنمه ومما يدل على أن العنم نبت قول النابغة: [الكامل] بمخضبٍ عبلٍ كأن بنانه ... عنم على أغصانه لم يعقد ويروى: يكاد من اللطافة يعقد. وقوله: أبديت مثل الذي أبديت من جزعٍ ... ولم تجني الذي أجننت من ألم إذًا لبزك ثوب الحسن أصغره ... وصرت مثلي في ثوبين من سقم

وصفها بصحة الوفاء في أول الأبيات, ثم نقض ذلك بقوله: إنما أبدت مثل ما أبداه من الجزع ولم تخف كما أخفاه من الألم, ولو أن وفاءها غير المنصدع لأجنت الألم كما أجنه. ثم قال: لو أنك أجننت كما أجن لبزك ثوب الحسن أصغر ذلك وصرت مثلي في ثوبين من سقمٍ. وإنما ذكر الثوب لإقامة الوزن. وقوله: ولا أظن بنات الدهر تتركني ... حتى تسد عليها طرقها هممي بنات الدهر: شدائده, ويسستعملون البنوة والأخوة لمن فعل شيئًا أو عرف به؛ فيقولون: هو ابن سفرٍ إذا كان معتادًا للأسفار, وهو أخو معروف إذا كان يسديه إلى الناس, وكذلك يقولون: هو أبو الأضياف إذا كان يقريهم؛ فداعى الشاعر لنفسه ما لا يقدر عليه إنسي لأنه تسد هممه طرق الحدثان. وقوله: أرى أناسًا ومحصولي على غنمٍ ... وذكر جدٍ ومحصولي علم الكلم المحصول ها هنا: المصدر الذي نقل من اسم المفعول, كما قالوا: ليس له معقول: أي عقل, وليس له مجلود: أي جلد. والمحصول - ها هنا - ما حصل له. يقول: أرى أناسًا وإذا ميزت أمورهم فإنما هم مثل الغنم, وأسمع ذكر جودٍ وإنما أحصل على الكلم دون الفعل. وقوله: ورب مالٍ فقيرًا من مروته ... لم يثر منها كما أثرى من العدم يقول: أرى أناسًا وأرى رب مالٍ أي صاحبه. والهاء في مروته عائدة على رب مالٍ فقيرٍ, وأرى- ها هنا - يجوز أن يكون من رؤية العين ورؤية القلب. يقول: إذا كان رب المال لا مروة له, فقد أثرى من العدم. والإثراء: كثرة المال, وهو نحو من قوله: [المنسرح] يجني الغنى للئام لو عقلوا ... ما ليس يجني عليهم العدم وقوله: سيصحب النصل مني مثل مضربه ... وينجلي خبري عن صمة الصمم يعني بالنصل: السيف, أي إني مثل مضربه أي حده. ويستعملون في السيف. النصل,

والمنصل بضم الصاد وفتحها, ولم يستعملوا في السنان إلا النصل, وكذلك في نصل السهم. قال عنترة: [الكامل] إني امرؤ من خير عبسٍ منصباً ... شطري وأحمي سائري بالمنصل والصمة: الشدة, وربما قيل للأسد: صمة؛ فكأنه يقول: ينجلى خبري عن شدة الشدائد وأسد الأسد. وقوله: لقد تصبرت حتى لات مصطبرٍ ... فالآن أقحم حتى لات مقتحم (211/ب) لات عندهم أنها «لا» أوصلت بها التاء, ويكون بعدها اسم مضمر, وقله تعالى: {ولات حين مناصٍ} يكون على هذا القول منصوبًا بلات. ويقال: إن بعضهم قرأ: {لات حين مناصٍ} بالرفع, وربما زادوا التاء في بعض المواضع كما قال القائل: [الكامل] العاطفون تحين ما من عاطفٍ ... والمفضلون يداً إذا ما أنعموا وقال آخر: [الخفيف] نولي قبل بين داري جمانا ... وصليه كما زعمت تلانا ويجوز أن يكون الشاعر أضمر «حين» في قوله: لات حين مصطبر, ولا حين مقتحم, لما كان الحين يستعمل في هذا الموضع كثيرًا جاز أن يحذف ويكون مقدرًا في المراد, كما حذفوا «لا» في القسم لعلم السامع أنها في المعنى ثابتة. وقوله:

لأتركن وجوه الخيل ساهمةً ... والحرب أقوم من ساقٍ على قدم الساهمة: المتغيرة الوجوه وذلك مع قلة اللحم. والعرب تستعير الساق للحرب, وكذلك القيام, فيقولون: قامت الحرب على ساق. وقال سعد بن مالك بن ضبيعة؛ ووصف الحرب: [مجزوء الكامل] كشفت لهم عن ساقها ... وبدا من الشر الصراح وإنما يريدون أن أمرها قد اشتد وعظم, كما أن الإنسان إنما يكشف عن ساقه إذا هم بحرب أو فرار. قال دريد بن الصمة: [الطويل] كميش الإزار خارج نصف ساقه ... بعيد من الآفات طلاع أنجد ويقال: كشفت السنة عن ساقها: إذا اشتد جدبه وقل المطر فيها. قال الراجز: [الرجز] عجبت من نفسي ومن إشفاقها ... ومن طرادي الطير عن أرزاقها والموت في عنقي وفي أعناقها ... في سنةٍ قد كشفت عن ساقها حمراء تنفي اللحم عن عراقها وقوله: قد كلمتها العوالي فهي كالحة ... كأنما الصاب مذرور على اللجم كلحت؛ أي فتحت أفواهها لألمها من الجراح, كأن الصاب ذر على لجمها, فهي تكره أن تطبق أفواهها. وقال الراجز في صفة فرس: [الرجز] إذا علاه الزبد اقشعرا ... كأنما ألعق شيئًا مرا وقوله:

بكل منصلتٍ ما زال منتظري ... حتى أدلت له من دولة الخدم الانصلات: ذهب سريع, وإنما يشبه الرجل المنصلت بالسيف إذا سل من الغمد, فيقال: سيف إصليت وأصلته صاحبه. قال الراجز: [الرجز] فانصلتت تعجب لانصلاتها ... كأنما أعناق سامياتها قسي نبعٍ رد من سياتها والخدم في هذا البيت يعني بهم الخصيان, وهذه الكلمة إنما كثرت في الإسلام لأن الخصيان كثروا في دور الملوك. وإذا سمعت الخدم في شعر قديم فإنما يراد به قوم يخدمون ولا يذهب به إلى غير ذلك. وهذا البيت ينشد على وجهين: [البسيط] مخدمون كرام في مجالسهم ... وفي الرحال إذا صاحبتهم خدم فخدم: جمع خادمة وهو جمع شاذ, وخدم: جمع خدوم وهو جمع مطرد. وقوله: شيخ يرى الصلوات الخمس نافلةً ... ويستحل دم الحجاج في الحرم شيخ: وصف لمنصلت, أي هو مسن. وصفه بأنه مرتد عن الإسلام؛ ولا يحفل للصلوات المفترضة ويزعم أنها نافلة. والنافلة إذا كانت عطيةً فهو شيء يتفضل به المعطي ليس بواجب عليه. والنافلة من الصلاة هي ما ليس بفريضةٍ. وذكر أن هذا المنصلت يستحل دم الحجاج في الحرم, وهذه نهاية في الصفة بقلة الدين؛ لأن العرب في الجاهلية كانت تعظيم الحرم ولا ترى أن تروع من التجأ إليه. وقوله: وكلما نطحت تحت العجاج به ... أسد الكتائب رامته ولم يرم

يستعمل النطح في الحرب لأنهم يشبهون الرئيس بالكبش وكذلك الشجاع. قال الراجز: [الرجز] الليل داجٍ والكباش تنتطح ... ومن نجا برأسه فقد ربح ويقال: إن هذا الرجز قيل في ليلة من ليالي صفين. ولما جعلوا البطل مثل الكبش جعلوا الرماح قرونًا للخيل. يقال: خيل جم لا رماح معها, وفارس أجم لا رمح معه. وقوله: رامته ولم يرم, يقول: إن الأسد أسد العجاج تروم هذا المنصلت؛ أي قتله, وهو لا يريم موقفه؛ ألا يبرح منه. وقوله: تنسي البلاد بروق الجو بارقتي ... وتكتفي بالدم الجاري من الديم يقول: سيوفي تكفي البلاد بروق الجو؛ أي تغنيها عن المطر, ويغنيها الدم المسفوك عن الديم. وقوله: ردي حياض الردى حوباء واتركي ... حياض خوف الردى للشاء والنعم الحوباء: النفس, ويجوز أن يكون قيل لها: حوباء لأنها تكتسي الحوب أي الإثم, ويجوز أن يكون من التحوب؛ أي (212/أ) التوجع والتحزن. قال الشاعر: [الطويل] فذوقوا كما ذقنا غداة محجرٍ ... من الغيظ في أكبادنا والتحوب وإذا رويت: حوباء بالضم فهو يريد: يا حوباء, فذلك عند النحويين ضرورة؛ لأنهم يرون حذف حرف النداء من اسم يمكن أن يكون وصفًا لمبهم, وهو كل اسم كانت فيه الألف واللام كالنفس والرجل, لا يحسن عندهم أن يقال: حوباء أطيعي الله؛ لأنه يمكن أن تقول: يا أيتها الحوباء. ويذهبون إلى أن قول العرب: أصبح ليل, وافتد مخنوق,

كلام جرى مجرى المثل. والأمثال يجوز فيها ما لا يجوز في الشعر. قال بشر بن أبي خازم: [الوافر] فبات يقول أصبح ليل حتى ... تجلى عن صريمته الظلام ومما جاء في الشعر كالضرورة قول العجاج: [الرجز] جاري لا تستنكري عذيري ... سيري وإشفاقي على بعيري وإذا رويت حوباء بالكسر فلا ضرورة في البيت, لأن المعنى: يا حوباء كما تقول: يا غلام, فالمعنى معنى الإضافة. ومعنى البيت أنه يأمر نفسه بورود حياض الردى وتركه الحياض المورودة, ويحتمل أن يعني بالندى: الأعطية, وأضاف إليها الماء لأنه محسوب من العطاء. ومن روى: واتركي حياض خوف الردى؛ فإنه يريد: لا ينبغي للإنس الذين يأنفون من الدنيات أن يتخوفوا ورد الحمام وإنما يحلوه الشاء والنعم. ويحتمل أن يكون أراد الناس الذين يشبهون الأنعام في الذلة, وهو أشبه من أن يريد الشاء والنعم المعروف. والشاء: الأغلب عليه أن يكون من ذوات الهاء لأنهم قالوا في الجمع: شياه, وفي الواحدة: شويهة. وقد ذهب قوم إلى أن الهمزة أصلية, وأنهم قالوا: شوي فلزموا تخفيف الهمز. وذهب قوم إلى أن الهمزة في شاءٍ منقلبة من ياءٍ كأنها مأخوذة من: شويت اللحم؛ فيكون الأصل على هذا: شوي؛ فقلبت الواو ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها, ثم جعلت الياء همزة لأنها طرف وقبلها ألف, كما قالوا: سقاء وأصله: سقاي, وهذا قول يضعف لأن العين واللام لا تعتلان ولاسيما إذا كانتا متواليتين. وقوله: أيملك الملك والأسياف ظامئة ... والطير جائعة لحم على وضم لحم يرتفع بقوله: أيملك, وإنما يعني به ملوك عصره؛ أي إنهم ليس فيهم ما يدفع عن

أنفسهم. وإذا وصف الشيء بالإباحة وصف بهذه الصفة. وفي الحديث: «إن النساء لحم على وضمٍ إلا ما ذب عنه». والوضم هو الذي يوضع عليه اللحم. قال الشاعر: [الرجز] وتركتنا لحمًا على وضم ... لو كنت تستبقي من اللحم يقول الشاعر: أيملك الملك قوم أذلاء كاللحم على الوضم؛ وأسيافنا ظامئة إلى دمائهم والطير جائعة؟ يريد أن يشبعها منهم. وقوله: من لو رآني ماء مات من ظمأٍ ... ولو مثلت له في النوم لم ينم قوله: من بدل من لحم على وضمٍ. يقول: كيف أترك الملك لمن لو رآني ماءً لهاب أن يشرب مني؟ وهذا الوصف إنما يحدث بمن عضه الكلب الكلب لأنه يتصور في الماء ما يمنعه من الشرب. قال الشاعر: [الطويل] أقام زمانًا يكره الماء صاديًا ... وينفر منه وهو أزرق صاف فإن عضه كلب فأودى بنفسه ... فكم ركن عز قد أصيب نياف ويقال: مثل الشيء إذا ظهر, ومثل إذا عاب. يقول: لو رآني المتملك في هذا الدهر في النوم لامتنع من أن ينام. وقوله: ميعاد كل رقيق الشفرتين غدًا ... ومن عصى من ملوك العرب والعجم فإن أجابوا فما قصدي بها لهم ... وإن تولوا فما أرضى لها بهم يقول: قيامي قد دنا وقته فميعاد السيف غدًا أي سله. يقول: نضرب بالسيوف من عصى من الملوك عربهم وعجمهم, فإن أطاعوا فما أقصدهم بها؛ بل أقصد إلى غير مطيع, وإن لم يدخلوا في الطاعة, فما أرضى بهم؛ أي أقتلهم؛ فلا أرضى بذلك حتى أقتل غيرهم. وقافيتها من المتراكب.

ومن أبيات أولها

ومن أبيات أولها إلى أي حينٍ أنت في زي محرم ... وحتى متى في شقوةٍ وإلى كم الوزن من الطويل الثاني. يخاطب نفسه وكأنه يخاطب سواه, والشعراء يفعلون ذلك كثيرًا. قال الشاعر: [الكامل] صرمت حبالك في الخليط المشئم وإنما يعني حبال نفسه ومودته. وكذلك في قول أبي ذؤيب: (212/ب) [الطويل] أبالبين من أسماء حدثك الذي ... جرت بيننا لما استقلت ركابها؟ فقال: حدثك وإنما يريد نفسه. ووصف الشاعر نفسه بأنه في زي محرمٍ؛ فدل ذلك على أنه مفتقر إلى الناس. وقال: وحتى متى في شقوةٍ وإلى كم, فدل على أنه في عيشٍ غير حميد. وكسر ميم كم لأنها وقعت في القافية, وإذا وقع فيها المجزوم والموقوف أو كانت القوافي مخفوضةً كسر آخر الكلمة, كما قال امرؤ القيس: [الطويل] ألم تر أني كلما جئت طارقًا ... وجدت بها طيبًا وإن لم تطيب وقوله: وإلا تمت تحت السيوف مكرمًا ... تمت وتقاسي الذل غير مكرم يقول لنفسه: إن لم تموتي كريمةً بين السيوف, وإلا مت ذليلةً غير المكرمة, وهذا يشبه قوله: [الخفيف] عش عزيزًا أو مت وأنت كريم ... بين طعن القنا وخفق البنود والقافية من المتدارك.

ومن التي أولها

ومن التي أولها كفي أراني ويك لومك ألوما ... هم أقام على فؤادٍ أنجما الوزن من الكامل الأول. النصف الأول يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون مستغنيًا بنفسه, يقول: كفي لومك فإني أراني ألوم منك, أي ألومك أكثر من لومك إياي. وويك: كلمة لم يصرف منها فعل. وأصحاب اللغة يزعمون أن معناها التنبيه على الشيء كأنهم يريدون: «ألم تر» , وفي الكتاب العزيز: {ويكأنه لا يفلح الكافرون}؛ فذهب الخليل فيما يروون إلى أنه قال: وي على معنى التعجب, ثم قال: «كأنه لا يفلح الكافرون»؛ وهذا مخالف مذهب من يقول: ويك بلا أن, وقد جاءت مع أن المخففة ويك في قول الشاعر: [الخفيف] ويك أن من يكن له نشب يحـ ... ـبب ومن يفتقر يعش عيش ضر فإذا جعلت وي كلمةً والكاف للخطاب وجب أن تفتح إذا خوطب بها المذكر, وأن تكسر إذا أريد بها التأنيث. والوجه الآخر من الوجهين الجائزين في النصف الأول أن يكون متعلقًا بالنصف الثاني, ويكون هم مرفوعًا بقوله: أراني, كأنه قال: أراني لومك ألوم هم أقام على فؤادٍ أنجم. في أنجم ضمير يعود على الفؤاد؛ أي ذهب به كما يذهب السحاب المنجم؛ فيكون قوله: ألوما أي أحق باللائمة مني, وإذا حمل على القول الأول فهم مرفوع بابتداءٍ مضمرٍ أو فعلٍ أو خبر مقدم؛ كأنه قال: هذا هم, وأصابني هم, أو بي هم. وقوله: وخفوق قلبٍ لو رأيت لهيبه ... ياجنتي لظننت فيه جهنما

جعل المرأة كالجنة, وهي مأخوذة من قولهم: جن الأرض الشجر والنبت إذا ستراها, ويقال للبستان جنة لأن الشجر يغطيه, وقد جاء في الحديث: «أن امرأة الرجل جنته» وإنما تراد المرأة الصالحة, فأما المذمومة فهي غل قمل. قال جران العود, وذكر النساء: [الطويل] ولسن بأسواءٍ فمنهن روضة ... تحف الرياض نبتها ما يصوح ومنهن غل مقمل لا يفكه ... من القوم إلا الشحشحان الصمحمح الشحشحان: الذي يدوم على الشيء, والصمحمح: الصلب الشديد. وجهنم: اشتقاقها من الجهامة وهي غلظ الوجه وكراهته. وقالوا: فلان جهم المحيا إذا كان كريه الوجه, فالنون على هذا زائدة. وقيل: الجهنام: البئر البعيدة القعر, فشبهت جهنم بها لبعد غورها. وقالوا: أحمر جهنام؛ أي شديد الحمرة فكأنهم أرادوا أن نارها حمراء. وكان بعض الشعراء في الجاهلية يزعم أن له شيطانًا يقول الشعر على لسانه يسمى جهنام. قال الأعشى: [الطويل] دعوت خليلي مسحلًا ودعوا له ... جهنام بعدًا للغوي المذمم وقوله: يا وجه داهية الذي لولاك ما ... أكل الضنى جسدي ورض الأعظما

جعل اسم المرأة داهيةً, وأغلب الظن أنه اسم وضعه مشتق من الدهاء؛ أي إنها قد دهته, وهذا أشبه من أن تكون مسماةً بهذا الاسم, لأنه لم تجر عادته بذلك. وقال: لولاك, وقد مضى القول: إن الصواب: لولا أنت. وقوله: إن كان أغناها السلو فإنني ... أمسيت من كبدي ومنها معدما ادعى أن الحب قد أذهب كبده على مذاهب الشعراء, وإنما يذكرون ذلك في التشبيب, يطلبون به الرحمة من قلوب الأحباب؛ فيدعون للكبد الذوب والشيب, وقد علموا أن ذلك كذب وافتراء. وقوله: (213/أ) غصن على نقوى فلاةٍ نابت ... شمس النهار تقل ليلًا مظلما النقوان: تثنية نقاً وهو الكثيب من الرمل. ويقال: نقيان بالياء, وبالواو أكثر. ويحتمل أن يكونوا قالوا له: نقاً لأن المطر يصيبه فينقيه كما ينقي الثوب الغسل, ويكون هذا من باب قولهم للمنفوض: نفض, وللمنقوض: نقض. شبه وركي المذكورة بنقوي رملٍ وقوامها بغصنٍ, وقد رددت الشعراء ذلك حتى ملته الأسماع. وجعلها كشمس النهار وشعرها كالليل المظلم, وقد كثر هذا الكلام في الشعر القديم. قال بعض المتقدمين: [الكامل] بيضاء تسحب من قيامٍ فرعها ... وتغيب فيه وهو جثل أسحم فكأنها فيه نهار مشرق ... وكأنه ليل عليها مظلم وقوله: كصفات أوحدنا أبي الفضل التي ... بهرت فأنطق واصفيه وأفحما

يقول: بهرت صفات هذا الممدوح فأنطق الواصفين فوصفوه حتى فحموا؛ أي انقطع كلامهم. يقال: بكى الصبي حتى فحم؛ أي: عجز عن البكاء. وقالوا: أفحم الشاعر إذا تعذر عليه قول الشعر. ويجب أن يكون هذا اللفظ أخذ من الفحم المعروف؛ لأنهم يريدون أن الخاطر إذا كان كالنار الموقدة فانقطع إلى أن صار كالفحم. قال الهذلي: [الطويل] أصخر بن عبدالله إن كنت شاعرًا ... فإنك لا تهدي القوافي لمفحم وقوله: يا أيها الملك المصفى جوهرًا ... من ذات ذي الملكوت أسمى من سما جعل الممدوح خالصًا من جوهر من عز عن الجواهر والأعراض, وخلقها بالإرادة؛ فهذه مجاوزة إلى غير الفعل المحمود؛ فالقائل لها مذموم؛ وإن رضي الممدوح بذلك, فقد أقدم على أمرٍ يستعظم. والملكوت: فعلوت من الملك, والتاء في ذات أصلها هاء ولكنها استعملت مضافةً؛ وهذه الهاء إذا اتصلت بالمضاف منعها ذلك من الوقف؛ لأن الناطق جرت عادته أن يصل المضاف بالمضاف إليه فشبهها المتكلمون بالتاء الأصلية؛ فقالوا: الصفات الذاتية. والنحويون يرون أن الصواب في النسب إلى الذات: ذووية, ولا يمتنع أن تشبه هذه التاء بالتاء الأصلية, كما قالوا: تمسكن المسكين؛ قأثبتوا الميم في الفعل الماضي كما يثبتون الميم الأصلية لكثرة ما لزمت الميم المسكين. وقوله: نور تظاهر فيك لاهوتيةً ... فتكاد تعلم علم ما لن تعلما نصب لاهوتيةً على التمييز, ولا يمتنع أن يكون نصبها على الحال, وإن كان النور مذكرًا؛ لأنه يمكن أن تقول: قد تصور فلان رحمةً. ويجوز أن تنصب لاهوتيةً لأنها مفعولة له أي من أجله. وبعض الناس يروي: لاهوتيه بالإضافة إلى الهاء الراجعة على النور. والناس يقولون: اللاهوت فيزيدون التاء, كما يقولون: الناسوت إذا أرادوا به الإنسان أو

الإنسانية؛ وكذلك قولهم: طاغوت. والنحويون يذهبون إلى أن الطاغوت أصله: طيغوت أو طغووت؛ فقلبت عين الفعل ألفاً. وأقيس من هذا القول أن يكون طاغوت على فاعولٍ لأنهم قد حكوا: طغيت وطغوت؛ فكأنه في الأصل: طاغو فقلبت الواو الآخرة تاءً كما قلبت في تخمةٍ وهي من الوخامة, وتراثٍ وهو من ورث. وقوله: ويهم فيك إذا نطقت فصاحةً ... من كل عضوٍ منك أن يتكلما في يهم ضمير يعود على النور, ويجوز أن تكون فصاحة منصوبةٍ على التمييز, وأن تكون مفعولًا لنطقت ومفعولًا له. يقول: يهم هذا النور أن يتكلم من كل عضوٍ فيك, ولا يقتصر على اللسان دون الأعضاء كلها. وقوله: أنا مبصر وأظن أني نائم ... من كان يحلم بالإله فأحلما قال: أنا مبصر؛ أي أرى الشيء على حقيقته, وكأني في نوم, والنائم ليس بصره بثابتٍ. وتم الكلام في النصف الأول, ثم فسر الغرض بقوله: من كان يحلم بالإله فأحلما. من ها هنا: استفهام, ونصب أحلم لأنه جواب؛ وهذا كما تقول: من أمكنه أنيطلع إلى النجوم فأطلع إليها؛ أي إن ذلك أمر لا يستطاع. وقوله: كبر العيان علي حتى إنه ... صار اليقين من العيان توهما قال: كبر بضم الباء في معنى عظم, وكبر بكسر الباء في معنى أسن. يقول: نظرت إلى شيء ولم أر مثله, ولم تجر العادة أن يصل إليه الإنسان؛ فاستعظمت ذلك حتى ظننت يقيني توهمًا. وقوله: (213/ب) حتى يقول الناس ماذا عاقلًا ... ويقول بيت المال ماذا مسلما عظم الممدوح تعظيمًا يجب معه أن لا يكون خاطبه بقوله حتى يقول الناس: ماذا عاقلًا؛ وإنما تبع في ذلك الحكمي في قوله: [مجزوء الرمل]

ومن التي أولها

جاد بالأموال حتى ... قيل ما هذا صحيح ويجوز أن يكون أبو الطيب ظن أن القائل أراد: ما هذا صحيح العقل, ولعله لم يرد ذلك وإنما أراد: ما هذا الفعل صحيح. وقافيتها من المتدارك. ومن التي أولها فراق ومن فارقت غير مذمم ... وأم ومن يممت خير ميمم وزنها من الطويل الثالث. وفراق مرفوع لأنه خبر مبتدأٍ محذوف؛ أي هذا فارق, ويجوز أن تضمر له فعلًا كأنه قال: وقع فراق وحدث فراق. ويقال: يممت وأممت ويممت الرجل وأممته. قال الشاعر: [الوافر] فلم أجبن ولم أنكل ولكن ... يممت بها أبا عمرو بن عمرو الهاء في بها راجعة إلى الطعن, ولم يجر لها ذكر ولكن الغرض قد بان في قوله: [الوافر] تركت الرمح يبرق في صلاه ... كأن صلاته خرطوم نسر وقوله: وما منزل اللذات عندي بمنزلٍ ... إذا لم أبجل عنده وأكرم أبجدل في معنى أعظم ويعرف موضعي. يقال: رجل بجيل وبجال إذا كان ضخمًا سيدًا. وهذا الشعر يروى لزهير بن جناب الكلبي: [مجزوء الكامل]

أبني إن أهلك فإني ... قد بنيت لكم بنيه وتركتكم أبناء سا ... داتٍ زنادكم وريه من كل ما نال امرؤ ... قد نلته إلا التحيه يعني: الملك, ويروى: من كل ما نال الفتى والموت أجمل بامرئٍ ... فليهلكن وبه بقيه من أن يرى الشيخ البجا ... ل يقاد يهدى بالعشيه وقوله: سجية نفسٍ ما تزال مليحةً ... من الضيم مرميًا بها كل مخرم سجية: مرفوعة لأنها خبر ابتداءٍ محذوفٍ كأنه وصف حال نفسه, ثم قال: هذه سجية نفسٍ, فلو نصبها لجاز, ويكون نصبها بإضمار فعل, كأنه قال: اعتدت سجية نفسٍ. ويجوز أن ينصبها لأنها تكون بدلًا من مصدرٍ محذوفٍ, كأنه قال: مرميًا بها كل مخرمٍ رميًا سجيةً. والسجية مأخوذة من قولهم: سجا البحر والليل إذا سكنا؛ كأنهم يريدون بها الغريزة التي يسكن إليها الإنسان ويسجو. ومليحة من قولهم: ألاح من الشيء إذا أشفق منه. قال جميل بن معمر: [المنسرح] غير بغضٍ له ولا سأمٍ ... غير أني ألحت من ملله والمخرم: الطريق في الجبل والمصعد فيه.

وقوله: رحلت فكم باكٍ بأجفان شادنٍ ... علي وكم باكٍ بأجفان ضيغم عرض في هذا البيت بسيف الدولة لأنه جعله أحد الضياغم التي تبكي عليه, ثم قال: وما ربه القرط المليح مكانه ... بأجزع من رب الحسام المصمم يقول: وما المرأة الباكية علي ذات القرط بأجزع من صاحب السيف. وكان أبو الطيب ترك أهله بحلب لما انصرف. وقوله: فلو كان ما بي من حبيبٍ مقنعٍ ... عذرت ولكن من حبيبٍ معمم هذا تصريح بالعتب على سيف الدولة. يقول: لو أن ما بي من حبيبٍ صاحب مقنعةٍ لعذرته, ولكنه من حبيب معممٍ, والمعمم ها هنا ضد المقنع, ويستعمل المعمم في معنى المسود, ويحسن استعماله في هذا الموضع لأنه يصير موضوعًا موضع المعمم ضد المقنع, والمراد به السيد. وقوله: وأحلم عن خلي وأعلم أنه ... متى أجزه حلمًا على الجهل يندم وصف أنه يحلم عن الخل لعلمه أنه متى يجزه يجهله حلمًا يندم على ما فرط منه, وهذه صفة خل جميل الطريقة. وفي الناس من إذا حلم عنه الصديق زاد في الطمع والأذية. وهذا كله تعريض بسيف الدولة. وقوله: وإن بذل الإنسان لي جود عابسٍ ... جزيت بجود التارك المتبسم يقول: لا آخذ الصلة من الإنسان حتى يكون معها بشر وبشاشة, وإن بذل عطيةً من هو عابس جزيته عن جوده بجود, وهو تركي عطيته مع تبسمٍ مني. يريد أني أزيد على ما فعل لأنه بذل جودًا بعبوسٍ وجزيته جودًا بتبسمٍ.

وقوله: (214/أ) وأهوى من الفتيان كل سميدعٍ ... نجيبٍ كصدر السمهري المقوم السميدع: يختلف في العبارة عنه؛ يقال: هو السيد الكريم, ويقال: هو السيد الشجاع. ورووا عن المنتجع بن نبهان الكلابي أنه قال: السميدع: السيد الموطأ الأكناف. وقوله: الموطأ الأكناف يدل على أنه وصفه بالحلم. وقوله: خطت تحته العيس الفلاة وخالطت ... به الخيل كبات الخميس العرموم يقول: أحب من الفتيان من قد ركب العيس وقطع الفلوات, وهومع ذلك قد شاهد الحروب وكبات الخميس؛ أي حملاته في الحرب. يقال: كان ذلك في كبة القوم أي في حملتهم. وقوله: ولا عفة في سيفه وسنانه ... ولكنها في الكف والفرج والفم نفى عن هذا الموصوف عفة السنان والسيف؛ لأنه وصفه بقتل الأعداء, وذكر أنه عفيف الطرق؛ أي لا ينظر إلى ما يكره النظر إليه, فهو عفيف الطرف والفرج والفم. وعفة الفم تحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون يمسك لسانه عن الغيبة. والآخر: أن يريد: كرم مأكله وأنه لا يصيب مالًا إلا من وجهه. وقوله: فدى لأبي المسك الكرام فإنها ... سوابق خيلٍ يهتدين بأدهم الهاء في إنها عائدة على الكرام, ويجوز أن يكون الذي حمله على ذلك أنه شبههم بالسوابق, وقال: يهتدين فجعل الضمير عائدًا عليها, ولو قال: إنهم سوابق خيلٍ يهتدون لكان حسنًا. وقوله: أغر بمجدٍ قد شخصن وراءه ... إلى خلقٍ رحبٍ وخلقٍ مطهم شبه كافورًا بجوادٍ أدهم وجعله أغر بمجد. وزعم أن السوابق قد شخصن وراءه إلى خلقٍ رحبٍ وخلقٍ مطهم. والتطهيم حسن الخلق. ويقولون: المطهم من الخيل الذي يحسن كل عضوٍ منه.

وقوله: يضيق على من رآه العذر أن يرى ... ضعيف المساعي أو قليل التكرم يقول: من رأى كافورًا ضاق عذره في أن يكون ضعيفًا في المساعي؛ يريد جمع مسعاةٍ, وهي السعي في الكرم؛ لأن السعي يستعمل في مواضع كثيرة. وأصل السعي: المشي, فربما كان بطيئًا وربما كان سريعًا. وقالوا: سعى فلان إلى السلطان؛ يريدون المشي إليه بما يضر الناس, وكانوا يسمون الذين يبعثهم السلطان لأخذ الصدقة من العرب: سعاةً, لأنهم يمشون في ذلك. وأصل السعي: المشي. وقالوا: سعى فلان على قومه إذا كان يجتهد في مصالحهم؛ فيجوز أن يكون ماشيًا ويجوز أن يكون راكبًا. قال زهير: [الطويل] سعى بينهم قوم لكي يدركوهم ... فلم يبلغوا ولم يلاموا ولم يألوا وقال أبو قيس بن الأسلت: [السريع] أسعى على جل بني مالكٍ ... كل امرئٍ في قومه ساع أي يسعى في مصالحهم. فأما قول الراجز: [الرجز] يا أيها الساعي على غير قدم ... تعلمن أن الدواة والقلم يفنى ويبقى ما كتبت في الغنم

فإنه يريد أن ساعيًا بعثه السلطان فكتب عليه في عدة الغنم أكثر مما له. وقوله: ومن مثل كافورٍ إذا الخيل أحجمت ... وكان قليلًا من يقول لها اقدمي يقال في زجر الفرس: اقدم بفتح الدال, والألف ألف وصلٍ, وأقدم بفتح الهمزة وكسر الدال مأخوذًا من قولهم: أقدم يقدم. وبيت عنترة ينشد على وجهين: [الكامل] ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها ... قول الفوارس ويك عنتر اقدم ويروى: عنتر اقدم. وقوله: شديد ثبات الطرف والنقع واصل ... إلى لهوات الفارس المتلثم يقول: هذا الممدوح شديد ثبات الطرف إذا وصل النقع - أي: الغبار - إلى فم الفارس الملثم, وإنما يصل إليه لأنه قد كلح لكراهة المت, كما قال عنترة: [الكامل] إذ تقلص الشفتان عن وضح الفم وهذا نحو من قوله في الأخرى: [الطويل] بصير وما بين الشاعين مظلم وقوله: ويومًا يغيظ الحاسدين وحالةً ... أقيم الشقا فيها مقام التنعم الشقاء عند قومٍ ممدود, وقصره ضرورة وهمزته منقلبة عن واوٍ, وأصله شقاو؛ فلما وقعت الواو طرفًا وقبلها ألف قلبت (214/ب) همزةً. وقال قوم: الشقاء يمد ويقصر. قال عمرو ابن كلثوم: [الوافر] ولا شمطاء لم يترك شقاها ... لها من تسعةٍ إلا جنينا وبيت ابن أبي ربيعة ينشد ممدودًا: [المتقارب]

لمما شقائي تعلقتكم ... وقد كان لي عنكم مقصد وقال آخر: [البسيط] صبت عليه ولم تنصب عن كثبٍ ... إن الشقاء على الأشقين مصبوب وقوله: فلو لم تكن في مصر ما سرت نحوها ... بقلب المشوق المستهام المتيم يقال إن مصر - هذه البلدة - منسوبة إلى رجل يقال له: مصراييم من ولد سام بن نوح فهي تعرف ولا تصرف, والناس يسمون كل بلد آهلٍ مصرًا, والمصر: الحاجز بين الشيئين. قال أمية بن أبي الصلت: [البسيط] وجعل الشمس مصرًا لاخفاء به ... بين النهار وبين الليل قد فصلا وقوله: ولا نبحت خيلي كلاب قبائلٍ ... كأن بها في الليل حملات ديلم سكن ميم حملات والأجود فتحها, وقد فعل هذا في مواضع كثيرة, وأراد بالديلم هذا الجيل المعروف, فأما قول عنترة: [الكامل] زوراء تنفر عن حياض الديلم فيقال: إنه أراد الأعداء؛ ويجوز مثل ذلك؛ لأن العرب كانت معادية لغيرها من العجم فكأنه جعل الأعادي كلهم ديلمًا. وقيل الديلم: الكثير من الإبل, وأنشد في عجز بيتٍ: [الرجز]

يعطي الهنيدات والديلما فأما قول رؤبة: [الرجز] في ذي قدامى مرجحن ديلمه فيجوز أن يعني به هذا الفن من العجم, وأن يعني الأعداء كلهم. وإذا قيل: إن الديلم الكثير من الإبل جاز أن يحمل قول عنترة عليه. وقوله: ولا اتبعت آثارنا عين قائفٍ ... فلم تر إلا حافرًا فوق منسم القائف: الذي يقوف القوم؛ ؛ أي يتبع آثارهم. قال الشاعر: [الطويل] كذبت عليك لا تزال تقوفني ... كما قاف آثار الطريدة قائف وكأن يقوف مقلوب عن قفا يقفو. وقوله: فلم تر إلا حافرًا؛ يريد: أثر حافرٍ فوق أثر منسم فحذف, وكانت العرب تركب الإبل وتجنب إليها الخيل, فلذلك قدم الحافر على المنسم. قال الشاعر: [الطويل] فألا وألا يا امرأ القيس بعدما ... خصفن بأخفاف المطى الحوافرا فكأنه قلب الكلام وأراد: خصفن أخفاف المطي بالحوافر. وقوله: وسمنا بها البيداء حتى تغمرت ... من النيل واستذرت بظل المقطم

الهاء في بها عائدة على الإبل والخيل؛ أي أثرن في البيداء آثارًا كأنها وسوم. وفي تغمرت ضمير يعود على الإبل والخيل. والتغمر شرب دون الري. واستذرت؛ أي كانت في الذرى, يقال: استذرى بفلان إذا حل بذاره أي فنائه, وإنما أراد بالاستذراء: الاستظلال. والمقطم: بل بمصر معروف. وقوله: وأبلج يعصي باختصاصي مشيره ... عصيت بقصديه مشيري ولومي أبلج: معطوف على المقطم, ويعني به كافورًا كأنه قال: استذرت بظل المقطم وظل أبلج. والأبلج: المفترق الحاجبين, ويقال: الفرق بينهما بلجة, ومن أمثالهم: «الحق أبلج والباطل لجلج». قال الراجز: [الرجز] إن ابتسامًا بالنقي الأبلج ... ونظرًا في الحاجب المزجج مئينة من الفعال الأسمج والهاء في مشيره عائدة على كافور. مئينة أي مظنة من كذا, وجدير به؛ وإنما يعرض بوزيره أبي الفضل ابن الفرات. وقوله: بقصديه يريد بقصدي إياه, وهذا موضع يحتمل منفصل الضمير ومتصله, والمنفصل أحسن, ولكن الوزن منع من ذلك. وقوله: قد اخترتك الأملاك فاختر لهم بنا ... حديثًا وقد حكمت رأيك فاحكم أراد: قد اخترتك من الأملاك, وفي الكتاب العزيز: {واختار موسى قومه سبعين} أي: من قومه. قال الفرزدق: [الطويل] منا الذي اختير الرجال سماحةً ... وجودًا إذا هب الرياح الزعازع

ومن التي أولها

أراد: اختير من الرجال. وقوله: فاختر لهم بنا حديثًا؛ أي اجعل حديثهم بنا حسنًا, وفي هذا الكلام تخويف من الهجو, وقوى ذلك بقوله: وقد حكمت رأيك فاحكم أي: احكم لنفسك بما تختار. وقوله: وقد وصل المهر الذي فوق فخذه ... من اسمك ما في كل عنقٍ ومعصم كان أنفذ إليه مهرًا موسوم الفخذ باسم كافورٍ, وادعى الشاعر أن اسم كافور موسوم به كل عنق ومعصم. وقوله: (215/أ) لك الحيوان الراكب الخيل كله ... وإن كان بالنيران غير موسم الحيوان عند الخليل أصله حييان, فقلبت الياء الثانية واواً. وقال قوم: بل الواو فيه أصلية؛ كأنهم يذهبون إلى أن أصل الحياة حيوة, ويحتجون بأن بعض العرب يشيرون إلى ضمة الياء إذا قالوا: الحياة, ولذلك كتبت في المصحف بالواو. وقافيتها من المتدارك. ومن التي أولها ملومكما يجل عن الملام ... ووقع فعاله فوق الكلام الوزن من الوافر الأول. يقال: جل الأمر إذا عظم, وجل الشيء إذا قل, ومنه: جلت الهاجن عن الولد وهي التي توطأ وهي صغيرة, وربما حملت قبل أوان الحمل. ووقع فعاله فوق الكلام؛ يريد أنه إذا قال قولًا أتبعه بالفعل من غير تلبث وليس كمن يمطل إذا وعد أنه يفعل. وقوله: ذراني والفلاة بلا دليلٍ ... ووجهي والهجير بلا لثام فإني أستريح بذي وهذا ... وأتعب بالإناخة والمقام

يقول: لصاحبيه: ذراني وجوب الفلاة, ولا دليل معي فإني عارف بالمسالك, واتركا وجهي يعاني الهجير, ولا لثام عليه, فإني أستريح بالفلاة, وهذا, أي: الهجير. وادعى في هذا البيت ما يشهد العقل أن الأمر بخلافه, وذلك مستحسن في رأي الشعراء. وقوله: عيون رواحلي إن حرن عيني ... وكل بغام رازحةٍ بغامي الناس يروون: حرت بالتاء, والنون أشبه؛ لأنه وصف نفسه فيما تقدم أنه لا يحتاج إلى دليل فوجب أن يقول: إن حارت رواحلي فعيني نائبة عن عيونها؛ لأنها تهديها السبيل. وكل بغام رازحةٍ بغامي؛ البغام أكثر ما يستعمل في الظباء, وربما استعمل في النوق. والناقة تحمد إذا تركت بغامي؛ البغام أكثر ما يستعمل في الظباء, وربما استعمل في النوق. والناقة تحمد إذا تركت البغام. قال الأعشى: [المتقارب] كتوم البغام إذا هجرت ... وكانت بقية ذودٍ كتم والرازحة التي تعجز عن القيام لضعفها وهزالها. يقول: عيني تنوب عن عيون رواحلي, وشكيتي الدهر تنوب عن بغامها في الهواجر؛ لأن بغامها في الهواجر إنما يكون عن التعب والأين. ومن روى: حرت بالتاء فله معنى صحيح إلا أنه ينافي قوله: ذراني والفلاة بلا دليل. ويكون المعنى إذا رويت حرت بالتاء معنى الدعاء والقسم, كما يقول الرجل للآخر: إن عبدك وإن فعلت كذا وكذا؛ كأنه يقول: إن فعلت كذا فأنا عبد لك؛ فينوب ذلك عن قوله: أقسم لا كان ما ذكرت, أو جعلني الله عبدك إن أجبتك إلى ما تريد, فيكون هذا القول في مذهب الدعاء, ويكون المراد بقوله: وكل بغام رازحةٍ بغامي؛ أي: إن حرت فكل بغام النوق التي تشكو الأين بغامي؛ أي إني لا أشكو. فكأنه أقام ذلك مقام اليمين أو مقام الدعاء على نفسه. وقوله: فقد أرد المياه بغير هادٍ ... سوى عدي لها برق الغمام ذكر ابن الأعرابي في «النوادر» أن العرب كانوا إذا لاح البرق عدوا سبعين برقةً, فإذا كملت السبعون وثقوا بأنه برق ماطر فرحلوا يطلبون موقع الغيث. وأنشد غير ابن الأعرابي: [الطويل]

سقى الله جيرانًا حمدت جوارهم ... كرامًا إذا عدوا وفوق كرام يعدون برق المزن في كل مهمه ... فما رزقهم إلا بروق غمام وقوله: ولا أمسي لأهل البخل ضيفًا ... وليس قرى سوى مخ النعام يقال: إن النعام لا مخ له, فكأنه قال: وليس قرى إلا قرى معدومًا لا يوجد. وينشدون في أن النعام لا مخ له قول الهذلي: [الوافر] كأن ملاءتي على هجف ... يعن مع العشية للرئال على حث البراءة زمخري الـ ... ـسواعد ظل في شريٍ طوال على حث البراءة؛ أي سريعٍ عندما يبريه من السفر, والزمخري: الأجوف, والسواعد: مجاري المخ. وقوله: ولما صار ود الناس خباً ... جزيت على ابتسامٍ بابتسام يقول: لما صار ود الناس غير صادقٍ صرت كأحدهم أفعل بهم كما يفعلون بي, فإذا تبسموا لي تبسمت لهم. وقوله: (215/ب) فصرت أشك فيمن أصطفيه ... لعلمي أنه بعض الأنام يقول: لما جربت الناس وعلمت أن الوفاء فيهم معدوم صرت أشك فيمن أصطفيه؛ لعلمي أنه كغير من الناس, وهذا مناسب قوله: [الوافر] خليلك أنت لا من قلت خلي ... وإن كثر التجمل والكلام وقوله: يحب العاقلون على التصافي ... وحب الجاهلين على الوسام

الوسام: الحسن مثل الوسامة. يقول: ذوو العقول يحب بعضهم بعضًا على معنى الإخلاص في الصفاء؛ فيحب العاقل صديقه وإن كان قبيح المنظر, والجاهل يحب الوسيم وإن كان ليس له بواد ولا صفي. وفي هذا البيت شبه من قوله: [الطويل] وما الحسن في وجه الفتى شرفًا له ... إذا لم يكن في فعله والخلائق وقوله: أرى الأجداد تغلبها كثيرًا ... على الأولاد أخلاق اللئام يقول: الزمان يحدث في العالم أخلاقًا لئيمة فطال ما كان الجد كريماً, وكان ولد ولده غير حميدٍ. وقال: الأجداد لأن الجد أجدر بتغير ولد الولد من الأب بابنه, على أن الآباء لا تكون أبناؤهم على طرائقهم إلا في الأول, فطال ما رأيت العالم وابنه جهول, والسخي وابنه بخيل, والموصوف بالشجاعة يوصف ولده بالجبن. وقوله: ولست بقانعٍ من كل فضلٍ ... بأن أعزى إلى جد همام يقول: إن رضي قوم بشرف آبائهم وأقاربهم؛ فإني لا أقنع من الفضل بأن أعتزي إلى جد ذي همة. والمعنى بين. وقوله: عجبت لمن له قد وحد ... وينبو نبوة القضم الكهام يقول: عجبت لمن له جسم حسن وقوام, وله جد مع ذلك؛ أي قوة, وهو ينبو نبوة السيف القضم, وهو الذي في حده فلول. قال الشاعر: [البسيط] ما عبت مني ما رمحي بذي أودٍ ... يوم الطعان ولا سيفي به قضم والكهام: الكليل من السيوف, ويقال: كهام وكهيم. وقال الفرزدق يخاطب ناقته: [الوافر] علام تلفتين وأنت تحتي ... وخير الناس كلهم أمامي

نقض جرير هذه القصيدة فقال في قصيدته: [الوافر] تلفت إنها تحت ابن قينٍ ... حليف الكير والفاس الكهام فوصف الفأس بالكهام. وقوله: ومن يجد الطريق إلى المعالي ... فلا يذر المطي بلا سنام من في هذا البيت معطوفة على من في البيت الأول. يقول: إني لأعجب ممن يجد طريقًا إلى مالي الأمور فلا يطلبها حتى يذهب أسنمة الإبل. ونحو من هذا يتردد في الأشعار القديمة. قال الراجز: [الرجز] أعملها الركبان في موماتها ... فأنضب الإدلاج أسنماتها وقال آخر: [الوافر] وهدمنا صوامع شيدتها ... لها حبب مخالطها نجيل يعني بالصوامع: أسنمة الإبل, والحبب: جمع حبةٍ وهي بذور الصحراء, والنجيل: ضرب من الحمض. وقوله: ولم أر في عيوب الناس شيئًا ... كنقص القادرين على التمام عاب على الناس عجزهم عن إدراك المكارم, وليس ذلك إلى المخلوقين؛ وإنما هو إلى الله تعالى؛ وليس في العالم أحد إلا وهو يؤثر أن يكون ذا فضل, وربما رزق موضعًا في الجاه وطال ما حرم فكان من العوام. وقوله: أقمت بأرض مصر فلا ورائي ... تخب بي الركاب ولا أمامي

يقول: أقمت بمصر لا أتوجه إلى أمامي ولا أرجع إلى ما خلفي, فهذا بيت لا كذب فيه, ثم قال: فملني الفراش وكان جنبي ... يمل لقاءه في كل عام هذا دعوى لا تصح لأحدٍ من الناس, واستعار الملل للفراش لأن اضطجاعه كثر عليه فكان كأنه قد مله. ويقال: إن الإنسان لا يقيم ثلاثة أيام بغير شيء من النوم, وإن كان قليلًا نزراً, وادعاء الشعراء كلها داخلة في قوله تعالى: {وأنهم يقولون ما لا يفعلون}. وقوله: وزائرتي كأن بها حياءً ... فليس تزور إلا في الظلام يقول: بزائرتي -[أي] حماه الطارقة (216/أ) له بالليل - يقول: كأن بها حياءً فهي تخاف أن تزور بالنهار. وقوله: بذلت لها المطارف والحشايا ... فعافتها وباتت في عظامي المطارف: جمع مطرفٍ ومطرفٍ وهو الذي في طرفيه علمان. والحشايا: جمع حشيةٍ وهو ما حشي مما يتفرش. وجعل عنترة السرج حشيةً على معنى التشبيه؛ أي إني لا فراش لي إلا سرج فرسي, فقال: [الكامل] وحشيتي سرج على عبل الشوى ... نهدٍ تعاوره الكماة مكلم يقول: بذلت لهذه الزائرة المطارف والحشايا لتحل بها دون جسمي فعافتها. والعيافة إنما تستعمل في الطعام والشراب. قال عمر بن أبي ربيعة: [الطويل] فسافت وما عافت وما صد شربها ... عن الري مطروق من الماء أكدر وادعى أنه بذل لها أشياء كأنها مخاطبة لمن يعقل وهذه من الدعوى المستحيلة. يقول: إنها اختارت المبيت في عظامي على المبيت في أشياء مرتفعة مما يفترش أو يلتحف.

وقوله: يضيق الجلد عن نفسي وعنها ... فتوسعه بأنواع السقام يروى: نفسي بسكون الفاء, أي إنها زاحمتني في جسمي فضاق أن يسعها ويسع نفسي, فأوسعته بأنواع السقام؛ يعني أنها أقلت لحمه؛ فوسعت جلده. وإن رويت: نفسي بفتح الفاء فالمعنى صحيح؛ لأن نفس المحموم يكثر ويتصل, فكأن الجسد قد ضاق عنه. وقوله: إذا ما فارقتني غسلتني ... كأنا عاكفان على حرام يقول: إذا فارقتني عرقت, وجعل العرق كغسلٍ تفعله حماه. ثم قال: كأنا عاكفان على حرامٍ. العكوف: اللزوم للشيء, والغسل قد يكون من الحلال والحرام, وخص الحرام ها هنا لأن جعلها زائرة وليست بالزوجة ولا الجارية له, وإنما هي غريبة زارته. وقوله: كأن الصبح يطردها فتجري ... مدامعها بأربعةٍ سجام يقول: تجيء هذه الزائرة فتقيم عندي الليل, فإذا الصبح أسفر خلت أنه طردها فتجري مدامعها. وقد جرت عادة الشعراء بذم الصبح لأنه يؤذن بفراق المحبوب, وقد حمد أبو الطيب الظلام فدل حمده إياه على ذم الصبح, قال: [الطويل] وكم لظلام الليل عندك من يدٍ ... تخبر أن المانوية تكذب وقال ردى الأعداء تسري عليهم ... وزارك فيه ذو الدلال المحجب وقال الوليد بن عبيد: [الطويل] فلولا بياض الصبح طال تشبثي ... بعطفي غزالٍ بت ليلي أغازله وكم من يد لليل عندي برة ... وللصبح من خطب تخاف غوائله وقوله: أراقب وقتها من غير شوقٍ ... مراقبة المشوق المستهام

ويصدق وعدها والصدق شر ... إذا ألقاك في الكرب العظام من شأن المحموم أن يراقب الوقت الذي تجيئه فيه الحمى فكأنه مشوق إليها؛ وإنما هو كاره للقائها. ووعدها صادق ليست تخلفه ولا تكذب فيه, وإذا ألقاك الصدق في الكرب العظام فهو شر من الكذب. وقد ذكرت العرب الحمى المنتابة, وشكا بعضهم أن أهله يقصرون في خدمته ويسأمونه. قال الراجز: [الرجز] قد سئمتني طلتي وجارتي ... والبنت ملتني لما زارت كأنها ما أخذت أثارتي ... تختار ما أودعه غرارتي لا سعدت إن أنجذت أو غارت ... وليتها إلى القبور سارت وقوله: أبنت الدهر عندي كل بنتٍ ... فكيف وصلت أنت من الزحام جعل الحمى بنتًا للدهر لأنها تحدث فيه فكأنها ولد له, ثم قال: عندي كل بنت, يعني كل بنتٍ للدهر؛ يريد أن شدائده متكاثرة لديه فكيف وصلت هذه من الزحام. وقوله: جرحت مجرحًا لم يبق فيه ... مكان للسيوف ولا السهام يقول: ما بقي في موضع لسيفٍ أو سهمٍ؛ فما بقي في مكان لجرح يحدث, وفي هذا البيت شبه من قوله: [الوافر] رماني الدهر بالأرزاء حتى ... فؤادي في غشاءٍ من نبال ومن قول البحتري: [الوافر] وهل يزداد من قتلٍ قتيل وقوله: ألا يا ليت شعر يدي أتمسي ... تصرف في عنانٍ أو زمام

وهل أرمي هواي براقصاتٍ ... مجلاة المقاود باللغام قال: يا ليت شعر يدي؛ أي علمها, واليد لا تشعر وإنما يعني نفسه, وهذا سائغ في كل الكلام. يقول: هل تصرف يدي في عنان فرسٍ أو زمام ناقة؟ وهل أرمي هواي؛ أي الأمر الذي أهواه؛ براقصاتٍ يعني نوقًا تسير الرقص؟ (216/ب) وهو ضرب من السير نحو الجمز. قال حسان: [الكامل] بزجاجةٍ رقصت بما في قعرها ... رقص القلوص براكبٍ مستعجل ويقال: رقص ورقص. وقوله: مجلاة المقاود باللغام: يعني أن لغام العيس أبيض فكأنه الفضة حلثيت به المقاود. قال ذو الرمة: [الطويل] نفخن اللغام الهيبان كأنه ... جنى عشرٍ تنفيه أشداقها الهدل يقال: إن العشر يكون في جناه شيء أبيض كأنه القطن فلذلك شبه به لغام الإبل. وقال جران العود: [الطويل] وحتى بدا جون اللغام كأنه ... بألحي المطايا والخراطيم كرسف الكرسف: القطن. وقول ذي الرمة: الهيبان؛ أي إنه أجوف؛ شبهه بالجبان الذي لا فؤاد له. وقوله: فربتما شفيت غليل صدري ... بسيرٍ أو قناةٍ أو حسام وضاقت خطة فخلصت منها ... خلاص الخمر من نسج الفدام الفدام: شيء يجعل على فم الإبريق الذي يكون فيه الخمر, وهو الفدام أيضًا. قال علقمة: [البسيط] كأن إبريقهم ظبي برابته ... مقلد بسبا الكتان مفدوم

وقال امرؤ القيس: [الكامل] أيام فوها كلما نبهتها ... كالمسك بات وظل في الفدام وربما قالوا للفدام: مصفاة الخمر, وهي التي أراد الشاعر في هذا البيت. وقوله: يقول لي الطبيب أكلت شيئًا؟ ... وداؤك في شرابك والطعام وما في طبه أني جواد ... أضر بجسمه طول الجمام من شأن الأطباء أن يقولوا للعليل أن تجتنب ما يضرك من الأطعمة, فربما أطاعهم وربما خالفهم, ويجوز أن يكون أبو الطيب اتفق له شيء من ذلك, وهو القائل: [الوافر] بأجسادٍ يحر القتل فيها ... وما أقرانها إلا الطعام وربما كان الإنسان أكولًا فحث نفس على الطعام. قال الراجز: [الرجز] إن الطعام يهضم الطعاما ... فابلع - هديت - لقمًا عظاما وقال صاحب قصيدة الهر: [المنسرح] كم أكلةٍ داخلت حشى شرهٍ ... فأخرجت روحه من الجسد وقال ابن المعتز في علةٍ اعتلها: [المتقارب] إذا ما رأيت امرءاً مطلقاً ... له الأكل تخنقني العبره

وربما كان بعض الأعلاء لا يصبر عن الطعام. وتروى أبيات لكشاجم: [البسيط] قلت: اطعموني, فقالوا: من مزورةٍ ... فقلت: زور وليس الزور من وطري هاتوا أطايب عجلٍ فائق سمناً ... كالفيل خلقاً وإن عدوه في البقر وسكبجوها ووفوها توابلها ... وزعفروها وصونوها عن الغمر وقربوها على بيضاء صافيةٍ ... كأنما خرطت من دارة القمر فمن نجا فدفاع الله أخره ... ومن مضى فإلى الفردوس أو سقر فيضر به ذلك. وقال بعض العرب: [الطويل] يقولون: لا تأكل وتلك بلية ... ألا كل ذي طعمٍ عليك وخيم لئن لبن المعزى بماء مويسلٍ ... بغاني سقماً إنني لسقيم والجمام: أن يترك الفرس لا يركب.

ومن التي أولها

وقوله: فأمسك لا يطال له فيرعى ... ولا هو في العليق ولا اللجام يقول: أمسكت بالعلة ومنعت من المأكل وغيره, فكنت كالجواد أمسك فلا يمكن من المرعى, ولا يعلق عليه شعير ولا يلجم للركوب. وظاهر هذا الكلام متعلق بالعلة, ويجوز أن يعني به كافورًا ومنعه إياه مما طلب ومن الانصراف. وقوله: تمتع من سهادٍ أو رقادٍ ... ولا تأمل كرًى تحت الرجام الرجام: جمع رجمٍ وهو القبر. قال الشاعر: [البسيط] أمست أمية معمورًا بها الرجم ... لقى صعيدٍ عليها الترب مرتكم يقول لنفسه وأميره: تمتع من سهادك أو من رقادك فإنهما زائلان, ثم ذكر ثالثًا فقال: فإن لثالث الحالين معنى ... سوى معنى انتباهك والمنام يعني الموت؛ ولو لم يقل أبو الطيب غير هذه القصيدة لكان من أشعر الناس. والقافية من المتواتر. ومن التي أولها حتام نحن نساري النجم في الظلم ... وما سراها علىخف ولا قدم الوزن من أول البسيط. نساري النجم: تفاعله من سريت الليل؛ أي نحن نسري بخيلٍ وإبلٍ, وربما سعينا بالأقدام. والنجم ليس يجري بخف ولا قدمٍ فلا يجد ألماً كما نجد. وقوله: (217/أ)

ولا يحس بأجفانٍ يحس بها ... فقد الرقاد غريب بات لم ينم أتبع البيت بقوله: ولا يحس بأجفانٍ يحس بها الغريب فقد النوم, فنحن إذا ساريناه نظلم أنفسنا بذلك؛ لأنا نباري ما لا طاقة لنا به. وقوله: تسود الشمس منا بيض أوجهنا ... ولا تسود بيض العذر واللمم وكان حالهما في الحكم واحدةً ... لو احتكمنا من الدنيا إلى حكم قوله: تسود الشمس منا بيض أوجهنا نحو من قوله: [الخفيف] صحبتنا على الفلاة فتاة ... عادة اللون عندها التبديل زعم أن الشمس تسود الوجوه البيض, وتترك بيض العذر واللمم بيضاً لا تغيرهن عن حال الشيب, وهذا معنى لم يسبق إليه, وقد استوفاه وجاء به في نهاية الشرف؛ إلا أن حال الوجوه - في الحقيقة - ليس كحالة اللمم؛ لأن الوجوه فيها ماء ورطوبة تنال منهما الشمس, والشعر ليس في شيء من ذلك. وقوله: ونترك الماء لا ينفك من سفرٍ ... ما سار في الغيم منه سار في الأدم يقول: نرد الغدران التي ملأها السحاب فنجعل ماءها في المزاد؛ فالماء معنا مسافر؛ فتارةً يسير في الغيم, وتارة يسير في الأدم, أي ما معهم من المزاد والأداوى, وهذا معنى مستغرب. وقد كانت العرب تكابد الشدة من فقد الماء في السفر؛ لأن السموم يأتي على ما في المزاد من الماء. قال الشاعر: [البسيط] ما أنس لا أنس إعمالي بمهلكةٍ ... والشمس توقد جمرًا دائم الضرم لما فزعنا إلى ما في مزايدنا ... والهوف قد شربت مستودع الأدم الهوف: ريح حارة تأتي من قبل اليمن, وكانوا لخوفهم من ذلك يظمئون الإبل ويوردونها الماء مرةً بعد مرة ويركبون بها المفاوز؛ فإذا عدموا الماء بقروا بطونها فشربوا ما يجدون فيها. قال زيد الخيل: [الوافر]

يصول بكل أبيض مشرفي ... على اللاتي بقى فيهن ماء عشية يؤثر الغرباء فينا ... فلا هم ظامئون ولا رواء وقوله: طردت من مصر أيديها بأرجلها ... حتى مرقن بنا من جوش والعلم سكن ياء أيديها ضرورة. ووصف أنه حثها في السير فكأنه طرد أيديها بأرجلها. وجوش والعلم جبلان, ومرقن بنا؛ أي خرجن كما يمرق السهم من الرمية. وطرد الأيدي بالأرجل قد جاء في شعر غيره. وفي شعر ابن المعتز: [البسيط] ويدها تقتضي ورجلها طارده وقوله: تبري لهن نعام الدو مسرجةً ... تعارض الجدل المرخام باللجم تبري لهن: أي تعارضهن, والهاء والنون راجعة على العين, وشبه الخيل بنعام الدو. والعرب تشبه الخيل والإبل بالنعام, والدو: كل موضع خال. والجدل: جمع جديل, وهو حبل مضفور من أدم. وذكر أن الخيل تعارض الإبل؛ وإنما جرت عادة العرب أن يصفوا ركوب الإبل وأنهم قد جنبوا الخيل وراءها, وقد ذكره أبو الطيب في قوله: [الطويل] ولا اتبعت آثارنا عين قائفٍ ... فلم تر إلا حافرًا فوق منسم وقوله: في غلمةٍ أخطروا أرواحهم ورضوا ... بما لقين رضى الأيسار بالزلم غلمة: جمع غلامٍ في القلة. والكثير: الغلمان. وقوله: أخطروا أرواحهم؛ أي جعلوها

كالخطر, والخطر - ها هنا - هو الشيء الذي يضعه المتراهنان والمتراهنون بينهم ليأخذه الغالب منهم. يقول: أخطروا أرواحهم ورضين بذلك. والأيسار: جمع يسيرٍ وهم القوم الذين يدخلون في الميسر. والزلم بفتح الزاي وضمها: اسم للقدح الذي يتقامر به أخائبًا كان أم فائزاً, وقد تقدم ذكر الأيسار, والفعل: يسر الرجل ييسر يسرًا فهو ياسر فهذا اسم الفاعل. وقالوا للرجل: يسر كأنه مسمى بمصدر, وقد يجيء في المصادر فعل وفعل كثيرًا. قالوا: عذل وعذل, وطرد وطرد, وشحط وشحط؛ فيجوز أن يكونوا قالوا: يسروا يسيراً ويسراً؛ وخصوا الرجل بتحريك السين إذا وصفوه بذلك ليفرقوا بينه وبين المصدر. قال الشاعر: [الكامل] نعم المعاشر هم ألاك إذا ... هز المخالع أقدح اليسر وقال الأعشى في الياسر: [السريع] المطعمو الضيف إذا ما شتوا ... والجاعلو القوت على الياسر وقوله: (217/ب) تبدو لنا كلما ألقوا عمائمهم ... عمائم خلقت سوداً بلا لثم هذا البيت في وصف الغلمة الذين ذكرهم. يقول: مرد لم تنبت لحاهم, وشعور رؤوسهم وافرة, ولو لفوا عمائمهم كانت شعورهم كأنها العمائم السود, ولو كانوا أصحاب لحى لكان الشعر قد صار لهم كاللثم؛ أي جمع لثامٍ. وقوله: بيض العوارض طعانون من لحقوا ... من الفوارس شلالون للنعم شلالون: من الشل وهو الطرد, ووصفهم ببيض العوارض لأن خدودهم ليس فيها شعر.

وقوله: قد بلغوا بقناهم فوق طاقته ... وليس يبلغ ما فيهم من الهمم يريد أنهم قد حطموا قناهم فكلفوه ما لا يطيق ولم يبلغ هممهم؛ لأنهم لم يرضوا لأنفسهم بما أتوه, بل يرومون ما هو أعظم. وقوله: في الجاهلية إلا أن أنفسهم ... من طيبهن به في الأشهر الحرم يقول: هؤلاء الغلمة كأنهم في الجاهلية, إلا أن أنفسهم من طيبها بالقنا كأنها في الأشهر الحرم؛ لأنها آمنة بالرماح. والهاء في به راجعة إلى القنا, والتذكير أشبه من التأنيث, والوجهان جائزان. ويقال: طابت نفسه بالشيء طيباً, ويزعمون أن قول الناس: فعل ذلك بطيبة نفسه خطأ, وإنما الصواب بطيب نفسه. وكانت العرب في الجاهلية تعظم الأشهر الحرم ولا تسفك فيها الدم, وهي ثلاثة سرد وواحد فرد؛ فالسرد ذو القعدة وذو الحجة والمحرم, والفرد رجب. وقوله: ناشوا الرماح وكانت غير ناطقةٍ ... فعلموها صياح الطير في البهم يقول: ناشوا الرماح؛ أي تناولوها, ولو كانت لا تنطق - يعني بالنطق الصوت لا الكلام - فعلموها صياح الطير لما طعنوا بها فسمع لها صوت فجعله لها كالنطق. قال الشاعر: [المنسرح] تصيح فيهم سمر الرماح كما ... صاح دجاج المدينة السحرا وقال آخر: [الطويل] تصيح الردينيات فينا وفيهم ... صياح بنات الماء أصبحت جوعا قيل: أراد ببنات الماء طيراً من طير الماء واحدها ابن ماءٍ. قال ذو الرمة: [الطويل]

وردت اعتسافاً والثريا كأنها ... على قمة الرأس ابن ماءٍ محلق وقيل: أراد ببنات الماء: الضفادع. وقوله: تخدي الركاب بنا بيضاً مشافرها ... خضراً فراسنها في الرغل والينم الخديان: ضرب من السير؛ يقال: خدى البعير يخدي خدياً وخدياناً. يقول: نمنع العيس من الرعي لأنا في السير مجدون؛ فمشافرها بيض لأنها لا ترعى النبت, وفراسنها خضر لأنها تطأ مكاناً خصيباً فقد اخضرت لوطئها الرغل والينم؛ فالرغل ضرب من الحمض, والينم نبت يحمد للغنم. والفراسن: جمع فرسنٍ وهو أسفل الخف, والنحويون يزعمون أن النون فيه زائدة وأنه من الفرس. والفرس: دق العنق في الأصل؛ فإذا أخذا بهذا القول حمل على أنهم يصفون الإبل بأنها تطأ الأفاعي فتفرسها؛ أي: تدق أعناقها. قال الشاعر: [الطويل] فجاءت كسن الظبي لم ير مثلها ... سناء قتيلٍ أو حلوبة جائع تقطع أعناق التنوط في الضحى ... وتفرس في الظلماء أفعى الأجارع التنوط والتنوط: طائر يقال إنه يدلي له عشاً من الشجرة. وجاءت كسن الظبي؛ أي هي أثناء؛ لأن الظبي إذا أثنى بقي كذلك. وقوله: سناء قتيل؛ أي إنها سيقت في ديته فدلت على شرفه, والسناء من الشرف ممدود. وتقطع أعناق التنوط: يريد أنها ترعى الشجر الذي هو فيه فربما وقعت عنقه في أفواهها فقطعته. وقوله: مكعومةً بسياط القوم نضربها ... عن منبت العشب نبغي منبت الكرم

مكعومةً من الكعام, وهو شيء يوضع في فم البعير لئلا يعض. يقول: الركبان يضربونها بالسياط ليستخرجوا ما عندها من السير؛ فكأنهم قد كعموها بالسياط؛ أي جعلوا في أفواهها الكعم. ويقال: مكعوم وكعيم. قال الشاعر وذكر حمار وحشٍ: [الطويل] يسوف بأنفيه الرياض كأنه ... من البدن عن رعي النبات كعيم يعني بأنفيه: منخريه. وقوله: وأين منبته من بعد منبته ... أبي شجاعٍ قريع العرب والعجم أكثر الرواية كسر باء المنبت في الموضعين وفتح الميم, وبعض الناس يروي: وأين منبته من بعد منبته (218/أ) , وهي في صناعة الشعر أبلغ لأن تغيير اللفظ أحسن من تكريره. وقريع القوم: خيراهم, وأصل ذلك في الإبل؛ يقال: هذا فحل قريع إذا حمدوه, ويقولون: قريع في المذموم؛ فإذا حمدوه, وكأنهم أرادوا أنه يقرع الإبل ويختار لذلك؛ لأنه فحل كريم. وقيل: قارع وقريع, كما قالوا: عالم وعليم, وإذا ذموا القريع أرادوا في معنى مقروعٍ؛ أي يقرع أنفه لئلا يضرب في الإبل. وقوله: من لا تشابهه الأحياء في شيمٍ ... أمسى تشابهه الأموات في الرمم يقول: كان هذا المذكور يخالف الأحياء في الشيم والمكارم, فصار مشابهًا للأموات في أن أعظامه صارت رمماً. وقوله: ما زلت أضحك إبلي كلما نظرت ... إلى من اختصبت أخفافها بدم هذا البيت ذم لمن سار إليه غير فاتك. يقول: مازلت أضحك الإبل تعجباً من أني وإياها

سرنا إلى من لا يجب أن نسير إليه, ويشهد بذلك ما بعد البيت من الأبيات؛ وكأن ضحك الإبل هزؤ بالمقصود. ولو كان البيت في صفة فاتكٍ لكان في نهاية المدح. يقول: ما زلت أضحك إبلي من الفرح إذا علمت أنها اختضبت خفافها بالدم إلى هذا المفقود المثل. وقوله: أسيرها بين أصنامٍ أشاهدها ... ولا أشاهد فيها عفة الصنم يقول: هم يشبهون الأصنام في الجهل والغباوة؛ إلا أن الصنم عفيف لا تخشى منه أذية ولا تعد إلى قبيح. وقوله: حتى رجعت وأقلامي قوائل لي ... المجد للسيف ليس المجد للقلم قطع ألف الوصل في أول النصف الثاني, وقد ذكر ذلك سيبويه في الضرورات - وليس بضرورةٍ منكرةٍ - وأنشد: [السريع] لا نسب اليوم ولا حرمةً ... اتسع الخرق على الراقع ويحسن مجيء ذلك في النصف الثاني أن تكون حكايةً عن فاتك كما قال الأعشى: [البسيط] إذ سامه خطتي خسفٍ فقال له ... أعرض علي كذا أسمعهما حاري وفي الأبيات: [البسيط] فشك غير طويلٍ ثم قال له ... اقتل أسيرك إني مانع جاري

وبيت أبي الطيب مثل هذين البيتين لأنه حكاية عن قائل. وقطع ألف الوصل له أربع مراتب: الأولى: أن يكون في أول البيت وذلك لا ضرورة فيه كقول القطامي: [البسيط] الضاربين عميراً عن بيوتهم ... بالتل يوم عمير ظالم عاد والرتبة الثانية: أن يكون في أول النصف الثاني وقد تقدم ذكره. والثالث: أن يكون بعد حرف ساكن فذلك ضرورة بينة كقول جميل فيما رووه: [الطويل] ألا لا أرى الإثنين أحسن شيمةً ... على حدثان الدهر مني ومن جمل وقال قيس بن الخطيم: [الطويل] إذا جاوز الإثنين سر فإنه ... بنشرٍ وتكثير الوشاة قمين والرتبة الرابعة, وهي أقبح الضرورات, أن تكون ألف الوصل بعد حرفٍ متحركٍ, كقول الراجز: [الرجز] يا نفس صبراً كل حي لاق ... وكل إثنين إلى افتراق ولا عذر لهذا الراجز, ولقيس بن الخطيم, في قطع هذه الألف؛ لأنهما لو قالا: خلين

لكفيا ذلك, ولعلهما نطقا به على الصواب وغيره بعض الرواة. وقوله: من اقتضى بسوى الهندي حاجته ... أجاب كل سؤالٍ عن هلٍ بلم أخرج هل ولم من بابهما فجعلهما اسمين كدمٍ ويدٍ فحسن فيهما التنوين. يقول: من اقتضى بغير السيف حاجته أجاب كل سؤال يقال فيه: هل قضيت حاجتك؟ يقول: لم تقض. وينبغي أن يكون الشاعر قصد بالحاجة في هذا الموضع ما عظم من الأشياء والمطالب, فأما عادة الناس فيما هان من الأمور فإن حوائجهم مقضية بأهون السعي. وقوله: فلا زيارة إلا أن تزورهم ... أيدٍ نشأن مع المصقولة الخذم ذم القوم الذين كان تقرب إليهم, وزعم أنهم توهموه عاجزاً وأنه لا يزورهم إلا بقومٍ أيديهم قد نشأت مع السيوف. وقوله: صنا قوائمها عنهم فما وقعت ... مواقع اللوم في الأيدي ولا الكزم الكزم: قصر اليد. يقول: صنا قوائم السيوف عن أيدي هؤلاء القوم لأن أيديهم لئيمة؛ فوصفها بالكزم مع اللؤم. وهذا المعنى قريب من قول جعفر بن علبة الحارثي: [الطويل] نقاسمهم أسيافنا شر قسمةٍ ... ففينا غواشيها وفيهم صدورها وقال الحارثي: [الطويل] لهم صدر سيفي يوم بطحاء سحبلٍ ... ولي منه ما ضمت إلى الأنامل

وقوله: هون على بصرٍ ما شق منظره ... فإنما يقظات العين كالحلم هذا أمر بتهوين الدنيا على النفس وألا يحفل بها الإنسان لأن يقظانها كالحالم. وقوله: ما شق منظره؛ أي ما كان النظر إليه يشق على الإنسان, وقد ذكر ذلك في قوله: [البسيط] كلام أكثر من تلقى ومنظره ... مما يشق على الأسماع والحدق وقوله: ولا تشك إلى خلق فتشمته ... شكوى الجريح إلى الغربان والرخم (218/ب) أمر من يطيعه بأن لا يشتكي ما يلقاه من الشدائد إلى أحدٍ من الناس؛ لأنه لا يأمن أن يكون المشكو إليه إذا علم بصاحب الشكية شامتاً به؛ أي إن الناس بعضهم أعداء لبعضٍ, فمن شكى حاله إليهم فمثله مثل جريح قد اجتمعت عليه طير لتأكل لحمه, فهو يشكو إلى من ليس عنده رحمة؛ لأن الغربان والرخم إنما تجتمع الجريح لتأكله. قال أبو زبيد الطائي يصف جريحًا اجتمعت عليه الطير: [المنسرح] تذب عنه كف بها رمق ... طيراً حكين الزوار للعرس عما قليلٍ علون جثته ... فهن من والغٍ ومنتهس وقوله: وكن على حذرٍ للناس تستره ... ولا يغرك منهم ثغر مبتسم أمر باتقاء العالم, وأن يحذر الإنسان من جميع المخلوقين ولا يغتر بضحكهم إليه؛ فإنه يصدر عن عداوةٍ وغش. وهذا نهي عن الركون إلى كل أحد؛ وقد يكون للرجل النصيح الذي يصدقه بكل الأمور, وإنما هذه الوصاة كغيره من إسراف الشعراء. وقوله: سبحان خالق نفسي كيف لذتها ... فيما النفوس تراه غاية الألم

ومن أبيات أولها

زعم أن نفسه تلتذ بالشيء الذي يراه غيرها شدة وألما. وقد بين هذا في قوله: [الوافر] فإني استريح بذي وهذا ... وأتعب في الإناخة والمقام وقوله: وقت يضيع وعمر ليت مدته ... في غير أمته من سالف الأمم زعم أن عمره ضائع لأنه لا ينال فيه ما يلتمس, وتمنى أن يكون عمره ذهب بين السالف من الأمم؛ لأنه يذهب إلى أنهم أفضل من الجيل الذي هو فيه. وقوله: أتى الزمان بنوه في شبيبته ... فسرهم وأتيناه على الهرم يقول: إن المتقدمين جاؤوا الزمن وهو شاب فسرهم وفعل معهم ما يريدون. وذكر أنه جاء وقد هرم الزمان فلم يحسن المعاملة معه. وقد بدأ حبيب بن أوس بذكر هرم الزمان بقوله: [البسيط] مجد رعى تلعات المجد وهو فتًى ... حتى أتى الدهر يمشي مشية الهرم والقافية من المتراكب. ومن أبيات أولها يذكرني فاتكاً حلمه ... وشيء من الند فيه اسمه الوزن من ثالث المتقارب والقافية من المتدارك. يقال: إن وكيلًا لأبي الطيب دخل عليه ومعه ند عليه اسم فاتك فقال هذه الأبيات. وأي فتى سلبتني المنو ... ن لم تدر ما ولدت أمه يحتمل البيت دخول الواو في قوله: ولم تدر وسقوطها منه. يقول: إن أمه ولدت مولوداً له شأن عظيم لم تعرف مقداره؛ وهذا ضد ما قال البكري ربيعة بن ضبيعة: [الرجز]

قد علمت والدة ما ضمت ... ولففت في خرقٍ وشمت فهذا زعم أن أمه زعمت أنه ولد نجيب, وأنه سيكون له شأن عظيم. والشاعر ذكر أن الممدوح لم تدر أمه مقدار من ولدت منه, وليست هي بالمملوكة؛ لأنها ولدت أمرأً عظيماً لم تجر العادة بأن يولد مثله. وقوله: وإن منيته عنده ... لكالخمر سقيه كرمه ذكر الخمر, والغالب عليها التأنيث, لأن تأنيثها ليس بحقيقي. وقد ذكرها الأعشى في قوله: [الخفيف] وكأن الراح الذكي من الإسـ ... ـفنط ممزوجةً بماءٍ زلال فقال: الذكي, وإنما ذكرها على معنى الشراب. يقول: هذا الميت كان شجاعًا يقتل أعاديه وكأنه منية وأصل للمنون. فالحتف الذي سقيه كأنه خمر سقيها كرم, وهي من الكرم معتصرة, فكأنه لها والد وأصل. وقوله: فذاك الذي عبه ماؤه ... وذاك الذي ذاقه طعمه يقال: عب الماء عباً وعب فيه إذا جرعه جرعًا متتابعًا. قال الراجز: [الرجز] يكرع فيها فيعب عبا ... مجبياً في مائها منكبا يقول: هذا الهالك إنما شرب ماء نفسه, والذي ذاق إنما هو طعمه؛ لأنه كان يذيق عداته من الموت.

ومن التي أولها

وقوله: (219/أ) ومن ضاقت الأرض عن نفسه ... حرى أن يضيق بها جسمه من في هذا البيت مبتدأ. يقول: كانت نفس هذا المذكور عظيمةً تضيق بها الأرض الواسعة, وإذا كان الأمر كذلك فهو حرى - أي جديرًا - أن يضيق جسمه بنفسه فتخرج منه. ومن التي أولها أما في هذه الدنيا كريم ... تزول به عن القلب الهموم سأل: هل يوجد كريم في الأرض تزول به هموم القلب؟ وهذا استفهام قد صح مع المستفهم؛ لأنه لا يجاب عنه مما هو له مرض؛ لأن البلاد خلت من الأكرمين. ثم استفهم سائلًا عن مكانٍ يكون أهله لجارهم سارين, فقال: أما في هذه الدنيا مكان ... يسر بأهله الجار المقيم وقوله: تشابت البهائم والعبدى ... علينا والموالي والصميم يقول: تشابهت العبيد والبهائم, وإن كان العبيد إنساً والبهائم ليست كذلك؛ وإنمنا يريد أنهم تشابهوا في الأخلاق لا في الخلق. والموالي تستعمل في مواضع كثيرة, وهي مأخوذة من: ولي الشيء, فاستعملوا الموالي في بني العم والحلفاء والجيران والعبيد المملوكين والمعتقين. والأصل في الاشتقاق واحد؛ فيقال للمعتق لأنه ولي أمر عبده, ويقال للعبد المعتق: مولى؛ لأن مولاه ولي أمره, وفي الحديث: «الولاء للكبر»؛ أي لأكبر أولاد الرجل. والمعنى: أنه إذا أعتق عبداً وله ولاء فالولاء لولده الذي من صلبه. والصميم: الخالص من الشيء. وقوله:

وما أدري: أذا داء حديث ... أصاب الناس أم داء قديم يقول: ما أدري أهكذا كان الناس في أول الزمن أم هو فساد حدث في العالم؟ والذي يوجبه المعقول أن آخر العالم كأوله؛ فيه الكريم والبخيل والشجاع والجبان, وغير ذلك من الأضداد المختلفة. وقوله: كأن الأسود اللابي فيهم ... غراب حوله رخم وبوم اللابي: منسوب إلى اللابة, وهي حرة يقال في جمعها: لاب ولوب. قال النابغة الذبياني: [البسيط] فإن وقيت بحمد الله وقعته ... فانجي فزار إلى الأطواد فاللوب وقال قيس بن الخطيم: [الطويل] ترى اللابة السوداء يحمر لونها ... ويشرق منها كل ريعٍ وفدفد وقوله: أخذت بمدحه فرأيت لهواً ... مقالي للأحيمق يا حليم أصل الحمق: الضعف والاسترخاء. يقال: حمقت السوق إذا كسدت, وانحمق الرجل إذا ضعف وسقط. قال الشاعر: [الكامل] يا كعب إن أخاك منحمق ... فاشدد إزار أخيك يا كعب والتصغير أصله للشخوص, مثل أن يقال في تصغير الحجر: حجير؛ فيدل ذلك على أنه ليس بكبير, ثم استعير ذلك لتقليل الشيء, وإن كان لا شخص له, مثل أن يقال لفلان: عليم؛ أي علم قليل, وربما صغروا الشيء وهم يريدون ضد ذلك. قال لبيد: [الطويل]

ومن أبيات أولها

وكل أناسٍ سوف تدخل بينهم ... دويهية تصفر منها الأنامل فقيل: التصغير ها هنا في معنى التعظيم, ولو قيل: إنه صغر الدويهية لأنه أراد الموت؛ ولا شخص يرى له؛ لكان ذلك وجهاً. وجاءت أشياء مصغرةً لا مكبر لها, كقوله للفضة: لجين, وللفرس: كميت. وقوله: ولما أن هجوت رأيت عياً ... مقالي لابن آوى يا لئيم أراد أن من يقول لابن آوى: يا لئيم فإنه في كلامه هاذٍ؛ لأن ابن آوى قد علم صغر شأنه, وأنه يقتات الجيف, ويرضى بالحظ الخسيس؛ فالذام له غير صانعٍ شيئاً يحمد عليه. وآوى: اسم على أفعل فيجب أن لا ينصرف, فإن نكر صرف, فقيل: مررت بابن آوى وابن آوى آخر. وقوله: فهل من عاذرٍ في ذا وفي ذا ... فمدفوع إلى السقم السقيم يقول: هل من عاذرٍ يعذرني في مدحي هذا المذكور وهجوي إياه, فكان مدحه من القضاء الذي لا يقدر الإنسان على دفعه, وهجوه مثل الهذيان؛ إلا أنه حملني عليه إساءته إلي؛ وقد بين ذلك بقوله: إذا أتت الإساءة من وضيعٍ ... ولم ألم المسيء فمن ألوم وقافيتها من المتواتر, والوزن من الوافر. ومن أبيات أولها من أية الطرق يأتي مثلك الكرم ... أين المحاجم يا كافور والجلم (219/ب) الوزن من أول البسيط والقافية من المتراكب.

والمحاجم: مأخوذة من الحجم وهو المص؛ يقال: حجم الصبي الثدي إذا مصه؛ وقد نطق بها قديماً. قال الأعشى: [الطويل] يزيد يغض الطرف دوني كأنما ... زوى بين عينيه علي المحاجم والجلم معروف وهو من قولهم: جلمت الشعر والصوف إذا جززته. قال علقمة: [البسيط] والمال صوف قرارٍ يلعبون به ... على نقادته وافٍ ومجلوم والقرار: ضرب من الغنم صغير, والنقادة: ضرب من النقد, وهي ضرب من الغنم. وقوله: أغاية الدين أن تحفوا شواربكم ... يا أمةً ضحكت من جهلها الأمم يقال: أحفيت الشارب إذا أخذت شعره كله. والشارب ها هنا ما ينبت عليه الشعر من الشفة. وقيل لها: شارب لأنها تشرب الماء. ويقال: طر شارب الغلام إذا بدا شعره. قال الشاعر: [البسيط] منا الذي هو ما إن طر شاربه ... والعانسون ومنا المراد والشيب وأما قول أبي ذؤيب: [الكامل] صخب الشوارب لا يزال كأنه ... عبد لآل أبي ربيعة مسبع فيقال: إنه أراد بالشوارب عروقًا في الحلق, وهي راجعة إلى معنى الشرب. ولو قيل للجحافل: شوارب لم يبعد ذلك؛ لأنها تشرب الماء ويمر بها نهيق الحمار.

ومن أبيات أولها

وقوله: ألا فتى يورد الهندي هامته ... كيما تزول شكوك الناس والتهم فتى ها هنا مرفوع لأن المعنى معنى أليس؛ أي: أما من فتى؟ وهو استفهام على معنى الإنكار, كأنه قال: أفقد فتى هذه صفته؛ أي هو مفقود. و «ألا» تدخل في الكلام على معنى الاستفهام, وعلى معنى التمني؛ فإذا كانت في معنى الاستفهام جاز أن تجعل في معنى لا النافية, إذا قلت: ألا مال لك, ويجوز أن تجعل بمعنى ليس فيرتفع ما بعدها. قال الشاعر: [البسيط] ألا طعان ولا فرسان حاديةً ... إلا تجشؤكم عند التنانير وإذا كانت في معنى التمني فقد زعم قوم أنها لا يجوز فيها إلا أن تنصب, وقيل: بل يجوز فيها الوجهان. وقوله: فإنه حجة يؤذي القلوب بها ... من دينه الدهر والتعطيل والقدم يقول: هذا المذكور حجة للدهرية؛ لأنهم يقولون بالقدم وينفون الحساب والعقاب؛ فزعم الشاعر أنهم يقولون: لو كان الأمر كما يزعم الشرعية لم يكن لهذا الشخص أمر في العالم ولا نهي. ومن أبيات أولها أجارك يا أسد الفراديس مكرم ... فتسكن نفسي أم مهان فمسلم الوزن من أول الطويل, والقافية من المتدارك. الفراديس بدمشق مشهورة, ولم يردها الشاعر في هذا الموضع, وإنما أراد الفراديس

وهي قرية بناحية قنسرين, والأجم قريب منها وهي مظنة من الأسد. ويقال: إن أصل الفراديس يراد بها الأماكن الواسعة. وقيل: الفردوس: البستان, وقال بعض المفسرين: هو البستان الذي فيه عنب. وقوله: ورائي وقدامي عداة كثيرة ... أحاذر من لص ومنك ومنهم ويروى عن الأصمعي أنه كان يختار اللص بفتح اللام ذكر ذلك ابن دريد. وقال غير الأصمعي: يقال: لص ولص. ويقال: إن طيئاً تقول: لصت بالتاء وجمعه لصوت. وأنشد ابن السكيت: [الكامل] أتركن جرماً عيلًا أبناؤها ... وبني كنانة كاللصوت المرد وقوله: فهل لك في حلفي على ما أريده ... فإني بأسباب المعيشة أعلم إذًا لأتاك الرزق من كل وجهةٍ ... وأثريت مما تغنمين وأغنم أحسن أبو الطيب في هذه الأبيات كل الإحسان, وقد سبقه إلى معناها النجاشي الحارثي, وكان من أصحاب علي عليه السلام, وذكر ما ورده: [الطويل] وماءٍ تخال الطحلب الجون فوقه ... إذا ما أتاه وارد ثائر الغسل وجدت عليه الذيب يعوي كأنه ... خليع خلا من كل مالٍ ومن أهل فقلت له: يا ذئب هل لك في أخٍ ... يؤاخي بلا غرمٍ عليك ولا خذل فقال هداك الله إنك إنما ... دعوت لما لم يأته سبع قبلي فلست بآتيه ولا أستطيعه ... ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل

ومن أبيات أولها

ومن أبيات أولها (220/أ) قد صدق الورد في الذي زعما ... أنك صيرت نثره ديما الوزن من المنسرح الأول, والقافية من المتراكب. كان أبو الطيب في مجلس ثنر فيه الورد. وقوله: كأنما مائج الهواء به ... بحر حوى مثل مائه عنما قد مضى ذكر العنم, وذكره إياه يدل على أن الورد المنثور كان أحمر. والعرب إذا ذكرت الورد فإنما تريد به الزهر, فأما الورد المعروف بين العامة فإنه قليل التردد في أشعارهم. وقد رروا شعراً ينسبونه إلى مجنون بني عامر: [الطويل] أرى عهدها كالورد ليس بدائمٍ ... ولا خير فيمن لا يدوم له عهد وعهدي بها كالآس حسناً وبهجةً ... له نضرة تبقى إذا ما انقضى الورد ولا يمتنع أن يكون الورد في هذا الشعر معنيًا به الزهر كله؛ لأنه إنما يكون وقتاً ثم يزول. وقد ذكر أهل العلم باللغة أن الوردة البيضاء يقال لها: وتيرة, وأن الحمراء يقال لها: حوجمة. وقوله:

ناثره الناثر السيوف دماً ... وكل قولٍ يقوله حكما يقول: ناثر هذا الورد هو الذي يجعل السيوف تنثر الدم, ونصب كل قولٍ لأنه عطفه على السيوف, ونصب حكماً على الحال؛ أي كل ما يقوله حكمة. وقوله: والخيل قد فصل الضياع بها ... والنعم السابغات والنقما عطف الخيل وما يعدها على ما تقدم, فزعم أنه ينثر الخيل والضياع المقطعة والنعم والنقم. والضياع: جمع ضيعةٍ في معنى القرية, وهي مساوية لفظ المصدر في قوله: ضاع الشيء ضيعةً, وفلان في ضيعةٍ؛ أي في حال مذمومة, ويجوز أن تكون هذه الكلمة اتسع فيها كما اتسع في غيرها فسميت ضيعةً؛ لأنها تزيل الضيعة عن الإنسان؛ أو لأنها يخشى عليها أن تضيع. وليس ذلك بأبعد من وصفهم الكلمة الواحدة على الضدين. وقوله: فليرنا الورد إن شكا يده ... أحسن من جود كفه سلما يقول للورد على معنى الأمر له: إن شكا يده أحسن منه. نصب بيرنا. والأشبه أن يكون بجوده, بفتح الجيم, ليتعدى المصدر من: جاد يجود إلى الكلم. والهاء في منه عائدة إلى الورد؛ فإن ضمت الجيم في جوده فهو يدل على معنى جاد؛ إلا أن الفتح أولى بالإعمال من الضم.

حرف النون

حرف النون من القصيدة التي أولها نزور دياراً ما نحب لها مغنى ... ونسأل فيها غير ساكنها الإذنا الوزن من أول الطويل والقافية من المتواتر. نزور دياراً لا نحب مغنى من مغانيها, ونستأذن في زيارتها غير أهلها؛ يعني سيف الدولة. وقوله: نقود إليها الآخذات لنا المدى ... عليها الكماة المحسنون بها ظنا ونصفي الذي يكنى أبا الحسن الهوى ... ونرضي الذي يسمى الإله ولا يكنى حمل الشاعر هذا البيت على الحقيقة وجعل الممدوح له كنية, وإنما جرت العادة أن يكنى من له ولد أو يرجى أن يولد له. والله سبحانه جل عن جميع الأشياء, وقد كانوا في الجاهلية يزعمون أن آلهتهم من الأصنام بنات الله, تعالى عن الشبه والأوهام. وقال بعضهم في التلبية: لبيك لا شريك لك؛ إلا شريك هو لك, تملكه وما ملك, أبو بنات بفدك. وقال بعض شعراء الجاهلية: [الوافر] فما كثرت فائدتي بغنمٍ ... كفى ضد الفوائد ما يطيب ولا خالست رب البيت سراً ... أبو العزى لجارته رقيب وقوله: وأنا إذا ما الموت صرح في الوغى ... لبسنا إلى حاجاتنا الضرب والطعنا قصدنا له قصد الحبيب لقاؤه ... إلينا وقلنا للسيوف هلمنا صرح: أي صار صريحاً خالصاً. وقوله: لبسنا إلى حاجتنا الضرب والطعنا؛ يقول: لا نلبس الدروع لأنا لا نحتمي بها, ونلبس الضرب والطعن؛ أي نتقي بها الأعداء كما

يتقيها غيرنا بالدروع. والهاء في قوله: الحبيب لقاؤه عائدة على الموت. وقوله: هلمن: تستعمل هلم على وجهين: فمنهم من يقول للواحد والاثنين والجميع والمذكر والمؤنث على لفظ واحد: [هلم] , ومنهم من يقول للاثنين: هلما, وللجميع: هلموا, وللنسوة: هلممن. وكأن الشاعر قال: هلمن فأدخل النون الشديدة على قوله: هلموا, كما تقول للجماعة: اضربن يا قوم. وليس ذلك بمجمعٍ عليه. وخاطب السيوف خطاب من يعقل فقال: هلموا قبل إدخال النون, وذلك جائز لأنه يجعل السيوف كأنها تعقل. وقوله: وخيلٍ حشوناها الأسنة بعدما ... تكدسن من هنا علينا ومن هنا تكدسن: أي ركبن رؤوسهن في العدو. قالت الخنساء: [المتقارب] وخيلٍ تكدسن بالدارعيـ ... ـن تحت العجاجة يجمزن جمزا وقوله: من هنا علينا ومن هنا؛ أي من هذا الموضع وهذا الموضع؛ وعندهم أن هنا أقرب من هنا. قال ذو الرمة: [البسيط] هنا وهنا ومن هنا لهن بها ... إذا تخالفت الأصوات هينوم وقوله: ضربن إلينا بالسياط جهالةً ... فلما تعارفنا ضربن بها عنا يقول: حملوا علينا فضربوا جيادهم بالسياط, لأنهم بنا جاهلون, فلما تعارفنا ضربوا جيادهم بالسياط نافرين عنا كما ضربوهن إلينا وهم مقبلون. وقوله: تعد القرى والمس بنا الجيش لمسةً ... نبار إلى ما تشتهي يدك اليمنى خرج إلىم خاطبة سيف الدولة بالكاف بعدما خاطبه بالهاء وذلك سائغ كثير. يقول: تعد القرى؛ أي اتركها وعدها إلى غيرها, والمس بنا الجيش. صير الجيش كأنه في كفه؛

ومن أبيات أولها

وذلك تعظيم للممدوح؛ وجعل الجيش - وهو أحدهم - يبارون إلى الروم يده اليمنى؛ لأن الضرب والطعن إنما يكون باليمنى, والمباراة أن يفعل الرجل كما يفعل الآخر. وقوله: وإن كنت سيف الدولة العضب فيهم ... فدعنا نكن قبل الضراب القنا اللدنا يقول: إن كنت سيف الدولة العضب؛ والسيف هو الذي يعول عليه؛ فدعنا نكن قدامك, كما أن الرمح يطعن به قبل الضرب بالسيف؛ فاجعلنا كالقنا الذي يتقدمك. وقوله: فلولاك لم تجر الدماء ولا اللها ... ولم يك للدنيا ولا أهلها معنى اللها: جمع لهوةٍ وهي العطية, وأصل ذلك القبضة من الطعام التي تطرح في فم الرحى. كما يقول: لولا أنت يا سيف الدولة لم تجر دماء الأعداء ولا المواهب إلى المعتفين, ولم يك للدنيا والساكنين بها معنى يعرف. وقوله: وما الخوف إلا ما تخوفه الفتى ... وما الأمن إلا ما رآه الفتى أمنا يقول: إن الفتى قد يتخوف وهو آمن؛ إلا أن التخوف قد حصل معه وإن كان لا تلحق به نكبة. والأمن قد يكون في موضع تخوفٍ وهو يرى أنه في أمن؛ فإذا رأيى ذلك فكأنه لا تخوف عنده, ولا هو في مكان خوفٍ؛ وكأنه يقول: نحن وإن كنا في موضع المخافة فإنا نرى ذلك أمناً. ومن أبيات أولها ثياب كريمٍ ما يصون حسانها ... إن نشرت كان الهبات صوانها الوزن من ثاني الطويل. والصوان: الشيء الذي يصان به الثوب, وهو اسم من: صان يصون, ولو أنه مصدر جارٍ على الفعل لانقلبت الواو فيه ياءً كما يقال: قام قياماً وصام صياماً.

وقوله: ترينا صناع الروم فيها ملوكها ... وتجلو علينا نفسها وقيانها يقال: امرأة صناع, ولا يقال ذلك للرجل, ولكن يقال له: صنع. يقول: هذه الثياب وليتها صناع من نساء الروم صورت ملوكها في هذه الثياب فرأيناها وجلت علينا نفسها. والأحسن في الهاء أن تكون راجعةً على الصناع (221/أ) , ويجوز أن تكون عائدةً على الملوك, وتكون نفسها في موضع نفوسها كما قال: [الوافر] كلوا في نصف بطنكم تعيشوا ... فإن زمانكم زمن خميص ويقوي عودة الهاء إلى الملوك عطف القيان على النفس, ولا يمتنع أن تكون الهاء للصناع وتكون الهاء في قيانها راجعةً إلى الملوك؛ لأن السامع قد علم أن الصناع لا يكون لها قيان. والمراد بالقيان ها هنا المغنيات. وقوله: ولم يكفها تصويرها الخيل وحدها ... فصورت الأشياء إلا زمانها بالغ في صفة الصناع, وذكر أنها لم تكتف بصنعة الخيل وحدها بل صورت أشياء كثيرة. وقد حكم على أنها صورت الأشياء كلها, وهذا من السرف في القول, واستثنى الزمان؛ لأنها لم تقدر أن تصوره. وقد صور بعض الناس شهور السنة فصور سباط في صورة شيخ يجر رجل عنزٍ ميتة, وصور أيار في صورة حاصدٍ في يده منجل؛ وليس هذا تصويرًا للزمان وإنما هو تشبيه للشهور ببني آدم, فأما الزمان فلا صورة له تدرك. وقوله: وما ادخرتها قدرةً في مصورٍ ... سوى أنها ما أنطقت حيوانها في ادخرتها ضمير يرجع إلى الصناع, والهاء في ادخرتها راجعة إلى الصورة. وقوله: قدرةً في مصور؛ أي لم تقدر هذه الصناع على شيء إلا فعلته في هذه الصورة. والمعنى:

ما ادخرت عنها شيئًا تصل إليه إلا أنها لم تقدر أن تنطق حيوانها. والأشبه أن تكون الواو في مصورٍ مكسورةً لأنها إذا فتحت كان المصور كأن فيه قدرةً؛ وكون القدرة للمصور أشبه. وفي أنطقت ضمير يعود إلى الصناع فهذا يشد القول في أن الواو مكسورة. وقوله: وسمراء يستغوي الفوارس قدها ... ويذكرنا كراتها وطعانها سمراء معطوفة على قوله: ثياب كريمٍ, وكأن التقدير: هذه ثياب كريم. يقول: هذه القناة يستغوي قدها الفوارس؛ أي يدعوهم إلى الطعن, وإن لم يكونوا في وقت طعانٍ, فذلك استغواؤها لهم, كأنهم تذكرهم الطعن والكر. ومن أمثالهم السائرة: «ذكرتني الطعن وكنت ناسياً». ويقال: إن أصل ذلك أن صخر بن عمرو بن الشريد لقي يزيد بن عمرو بن الصعق الكلابي فقال له يزيد: ألق الرمح؛ فقال له صخر: أو معي رمح! ذكرتني الطعن وكنت ناسياً. وقوله: ردينية تمت وكاد نباتها ... يركب فيها زجها وسنانها هذا وصف للقناة ما جاء به غيره فيما يعلم؛ لأنه جعل نبتها كأنه قد ركب فيها سناناً وزجًا. وقوله: وأم عتيقٍ خاله دون عمه ... رأى خلقها من أعجبته فعانها أم عتيق: عطف على ما تقدم من النكرات المرفوعات بالمبتدأ. والعتيق: الجواد من الخيل, ويقال: إنما سمي عتيقًا من قولهم: عتق الشيء إذا تقدم؛ كأنه يسبقها فيكون أمامها؛ يعني الخيل. وزعم أن هذا المهر خاله دون عمه, فكأنه قد وصفه بالهجنة من شهادته له بالعتق. وأم هذا العتيق كأنها نظر إليها رجل أعجبته فأصابها بالعين. يقال: عان الرجل غيره يعينه فهو معين وميعون. قال الشاعر: [الكامل]

نبئت قومك يحسبونك سيداً ... وإخال أنك سيدمعيون وقوله: إذا سايرته باينته وبانها ... وشانته في عين البصير وزانها يقول: إذا سايرته لم يلتبس خلقها بخلقه لأنها قد باينته, وكذلك قد بانها هو؛ أي بعد عنها في الشبه؛ يقال: بان الرجل عن غيره وبانه. قال الراجز: [الرجز] كأن عيني وقد بانوني ... غربان في منحاة منجنون وشانته في عين البصير يحتمل وجهين: أحدهما: أن يريد البصير بأمر الخيل دون غيره, والآخر: أن يعني من أبصرها ولم يكن له علم لأن بصره قد كفاه. وقوله: فأين التي لا تأمن الخيل شرها ... وشري ولا تعطي سواي أمانها وأين التي لا ترجع الرمح خائباً ... إذا خفضت يسرى يدي عنانها (221/ب) يصف نفسه بالشجاعة, ويقول للمدوح: أين الفرس التي لا تأمن شرها الخيل ولا شري معها؟ وزعم أنها يرهبها كل أحدٍ غيره لأنه فارسها, وكرر السؤال بأين, وذكر فرساً لا ترجع الرمح خائباً؛ وإنما يصف بذلك نفسه؛ أي إذا ركبتها طعنت الفوارس. وقوله: وما لي ثناء لا أراك مكانه ... فهل لك نعمى لا تراني مكانها هذا عتب ممض. يقول: قد أعطيتك أفضل ثنائي ورأيتك أهلًا له, فما ينبغي أن يكون لك إنعام لا تراني له مستحقًا. وقافيتها من المتدارك.

ومن التي أولها

ومن التي أولها حجب ذا البحر بحار دونه ... يذمها الناس ويحمدونه الوزن من مشطور الرجز, وهو رابعه, وهذا الضرب من الشعر يسمى ذا الوجهين؛ لأنه إذا وقفت هاؤه فهو حسن, وإن جئت به مطلقاً فكذلك. ويقال: إن سيف الدولة رأى في المنام أن حيةً قد تطوقت على داره, فعظم عليه ذلك, فقال له بعض المفسرين: الحية في النوم ماء, فأمر بحفرٍ يحفر بين داره وبين قويق حتى أدار الماء حول الدار. وكان في حمص رجل ضرير من أهل العلم يفسر المنامات, وقد لقيته أنا في زمان الطفولية, فدخل على سيف الدولة فسأله عن المنام فقال له كلاماً معناه: أن الروم تحتوي على دارك؛ فأمر به فدفع وأخرج بعنف. وقضى الله سبحانه أن الروم خرجوا ففتحوا حلب واستولوا على دار سيف الدولة, فذكر معبر المنام أنه دخل على سيف الدولة بعدما كان من أمر الروم فقال له: ما كان من أمر ذلك المنام الملعن. وقوله: يا ماء هل حسدتنا معينه ... أم اشتهيت أن ترى قرينه يقال: حسدت الرجل على كذا وحسدته إياه, وفي الكتاب العزيز: {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله}. وقال الشاعر في حذف حرف الخفض مع الحسد: [الوافر] ونارٍ قدرفعت بعيد وهنٍ ... بدارٍ لا أريد بها مقاما سوى ترحيل راحلةٍ وعينٍ ... أكالئها مخافة أن تناما أتوا ناري فقلت: منون أنتم ... فقالوا: الجن قلت: عموا ظلاما وقلت: إلى الطعام, فقال منهم ... زعيم: نحسد الإنس الطعاما

أي: على الطعام. يقول للماء: أحسدتنا على قرب سيف الدولة أم اشتهيت أن ترى قريناً له. وقوله: أم انتجعت للغنى يمينه ... أم زرته مكثراً قطينه يقول للماء: أم انتجعت يمينه؟ وأصل الانتجاع الطلب للكلأ والرعي, ثم صار طلب كل خير نجعةً. أم أردت يا ماء أن تكثر قطينه أي حشمه. قال الشاعر: [الطويل] نهته فلما لم تر النهي عاقه ... بكت فبكى مما شجاها قطينها وقوله: أم جئته مخندقاً حصونه ... إن الجياد والقنا يكفينه يقول: أجئته يا ماء لتجري في خندق داره فتكون لها كالمخندق, وليس بمحتاج إلى ذلك, إن الجياد والقنا يكفينه. وقوله: يا رب لج جعلت سفينه ... وعازب الروض توفت عونه ذكر له حديث عبوره في قباقبٍ في الغزاة التي غرق فيها خليفة بن جندي العقيلي, وكان سيف الدولة قد ولاه شيزر. والعازب من الأرض هو البعيد الذي لم يوطأ, والعون يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون جمع عانةٍ وهي الجماعة من آتن الوحش, يقال: عانة وعون, كما يقال: ساحة وسوح.

والآخر: أن يكون جمع عوانٍ وهي التي قد حملت بطنين أو ثلاثة, وقولهم في صفة حمار الوحش: إنه لمتل عونٍ يفسر على هذين الوجهين. وقوله: توفت عونه من الوفاة التي هي موت؛ أي صادت وحش هذا الروض فكانت سبب هلاكها. وقوله: وذي جنونٍ أذهبت جنونه ... وشرب كأسٍ أكثرت رنينه (222/أ) قوله: وذي جنون؛ يعني رجلًا كأنه مجنون من كبره ونخوته؛ لا أنه مجنون في الحقيقة. وشرب كأسٍ جعلتهم يرنون كما يرن النساء. وقوله: وأبدلت غناءه أنينه ... وضيغمٍ أولجها عرينه يريد أنه أوقع بشرب الكأس فأصابتهم جراح يئنون منها فكان أنينهم بدل غنائهم. وعرين الأسد حيث يأوي من الغابة. وعرين كل شيء: فناؤه وما قرب منه, وفي الحديث: «يموت في عرين الكعبة رجل عليه ثلثا عذاب هذه الأمة». وقوله: وملك أوطأها جبينه ... يقودها مسهداً جفونه مباشرًا بنفسه شؤونه ... مشرفاً بطعنه طعينه نصب مسهداً على الحال, وعدى مسهدًا إلى الجفون ونصبها لأنها مفعولة. وذكر أنه لا يعتمد على غيره في الحرب, وأنه يباشرها بنفسه, وإذا طعن فارساً شرف بطعنه. وقوله: عفيف ما في ثوبه مأمونه ... أبيض ما في تاجه ميمونه نصب عفيفاً على الحال وهو نكرة, وإن كان مضافاً إضافةً تنتهي إلى الهاء في ثوبه.

ومن التي أولها

والهاء معرفة, وكأن التقدير: عفيف الجسم الذي هو في ثوبه, وهو مؤد معنى قولك: عفيفاً جسمه. وقوله: بحر يكون كل بحرٍ نونه ... شمس تمنى الشمس أن تكونه النون: السمكة. قال الشاعر: [البسيط] يا أم إني أكلت النون بعدكم ... فكيف لي بطعامٍ هاضمٍ نوني جعل البحر كالنون في جود الممدوح, والشمس تمنى أن تكونه, وهذا الماء يحتمل أن يكون في موضعها إياه؛ وقد مر في شعره مواضع من هذا الجنس تحتمل الضمير المتصل والمنفصل. وقوله: إن تدع يا سيف لتستعينه ... يجبك قبل أن تتم سينه هذا مبالغة مفرطة لأن السين حرف واحد. وقد اختلف الناس في الحرف المتحرك؛ فقبل: الحركة قبله, وقيل: معه, وقيل: بعده, وأقل ما يخبر به الإنسان عن مراده حرف متحرك بعده ساكن. والقافية من المتدارك إذا نطق بالواو بعد الهاء, وإذا وقف على الهاء فهي من المتواتر. ومن التي أولها الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أول وهي المحل الثاني وزنها من الكامل الثاني. يقال: شجيع وشجاع وشجعان وشجعان وشجعة وشجعة. والشجاعة في الناس: الجرأة على الحرب وغيرها من الشدائد؛ فإذا قيل: ناقة شجعاء فإنما يراد به الجرأة على السير, وقد قيل: إن الشجعاء: الطويلة, والاشتقاق يدل على القول الأول. وفضل الرأي على

الشجاعة؛ لأنه أصل يتفرع منه كل المحمودات, وجعل الشجاعة ثانية له. وقوله: فإذا هما اجتمعا لنفسٍ مرةٍ ... بلغت من العلياء كل مكان يعني بالنفس المرة: الشديدة التي لا تقبل الضيم, وكأن المر مأخوذ من اشتداد الكراهة فيه, كما أن المرة هي الشديدة من قوى الحبل؛ يقال: أمر الشيء فهو ممر, وهي اللغة العالية. ويقال: فلا يحلي ولا يمر؛ أي ليس عنده خير ولا شر؛ فهو لا يأتي بحلاوة ولا مرارة. قال الشاعر: [الطويل] أمر على أفواه من ضاق طعمه ... مطاعمنا يمزجن صاباً وعلقما وقوله: لولا العقول لكان أدنى ضيغمٍ ... أدنى إلى شرفٍ من الإنسان أدنى في هذا البيت على معنيين: أما الكلمة الأولى فهي مأخوذة من الدناءة, وهي ضد الشرف, وأصله الهمز. وأما الكلمة الثانية فهي من الدنو الذي هو ضد البعد. يقول: لولا العقول لكان أقل الأسد بأساً أقرب إلى الشرف من الإنسان لأنه أجرأ منه. وقوله: لولا سمي سيوفه ومضاؤه ... لما سللن لكن كالأجفان يقول: لولا سيف الدولة ومضاؤه في الحروب لكانت نصال سيوفه مثل أجفانها لا يسفك بها دم ولا تهاب. والمعروفة في جفن السيف أنه مفتوح الجيم وقد حكي بالكسر. وقوله: (222/ب) وسعى فقصر عن مداه في العلى ... أهل الزمان وأهل كل زمان قال: أهل الزمان يعني الذي فيه سيف الدولة. واقتنع لعلم السامع, ولولا أن الوزن ضاق لكان الواجب أن يبينه؛ لأنه إذا قال: أهل الزمان فهو لفظ يقع على الأزمنة كلها.

وقوله: تخذوا المجالس في البيوت وعنده ... أن السروج مجالس الفتيان تخذوا في معنى: اتخذوا, والضمير عائد على أهل الزمان الذين ذكرهم. يقول: اتخذ الناس المجالس في البيوت, وعند هذا الممدوح أن السروج مجالس القوم الفضلاء. والفتيان: واحدهم فتى, وأصل ذلك أن يقال للشاب المقتبل, ثم خصوا به من فيه شجاعة أو جود, كما يقولون: فلان إنسان إذا وصفوه بالخير والفضل. والمعنى أنه إنسان يفضل غيره, وكذلك قولهم: فلان رجل؛ يريدون أنه أفضل الرجال. ونحو من هذا قول طرفة: [الطويل] إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني ... عنيت فلم أكسل ولم أتبلد وقد علم أن الفتيان كثير؛ وإنما المراد: من فتى فيه شجاعة وبأس. وقوله: قاد الجياد إلى الطعان ولم يقد ... إلا إلى العادات والأوطان كل ابن سابقةٍ يغير بحسنه ... في قلب صاحبه على الأحزان يقول: قاد الممدوح الجياد كما جرت عادته بذلك. ثم قال: كل ابن سابقةٍ؛ ووصعه بحسن المنظر, وزعم أنه إذا رآه من يملكه فرح به وذهب الحزن من قلبه, فكأن الفرس أغار على الحزن وذهب به. وقوله: إن خليت ربطت بآداب الوغى ... فدعاؤها يغني عن الأرسان هذا مثل قوله: [الطويل] وأدبها طول القتال فطرفه ... يشير إليها من بعيد فتفهم واضطرته القافية إلى الأرسان, ولو وصفها بالغناء عن اللجم لكان ذلك أبلغ في صفتها بالأدب.

وقوله: في جحفلٍ ستر العيون غباره ... فكأنما يبصرن بالآذان معنى هذا البيت مفهوم؛ يريد أن الغبار منع عيونها من أن تبصر فهي تسمع الأصوات بآذانها وتفعل ما يقتضيه الصوت فكأنها تبصر بهن. وذهب بعض المتكلمين في شعر أبي الطيب إلى أن الغبار وقع على عيون الخيل فثقلت أجفانها حتى صارت كالآذان. وهذا ليس بشيء. وقوله: فكأن أرجلها بتربة منبجٍ ... يطرحن أيديها بحصن الران يصفها بالسرعة وسعة الخطو؛ فكأن أرجلها تطرح أيديها على مسافة بعيدة. وقوله: حتى عبرن بأرسناس سوابحاً ... ينشرن فيه عمائم الفرسان أرسناس: نهر, ويجوز أن يكون موضعاً فيه ماء. وكان سيف الدولة عبر بأرسناس بين شجر ملتف في طريق ضيق؛ فحدث من شهد ذلك الموضع أنه رأى عمامة أبي الطيب وقد علقت في شجرة, ولم يمكنه التوقف لأن وراءه فرساناً؛ فجعل يسير والعمامة تنتشر إلى آخرها. وقوله: يقمصن في مثل المدى من باردٍ ... يذر الفحول وهن كالخصيان يقمصن: يعني الخيل. والقمص أن يرفع يديه ورجلاه على الأرض, أو يرفع رجليه ويداه غير مرفوعتين. والماء البارد إذا سبح فيه السابح من بني آدم تقلص صفنه, وهو الجلد الذي يجمع البيضتين, وإن كان فرساً تقلص قنبه. وقوله: والماء بين عجاجتين مخلص ... تتفرقان به وتلتقيان يعني أن الماء قد صار في جانبيه عجاجتان, وكأنه يخلص بينهما؛ لأنه ليس يشاكلهما في اللون ولا الخلقة (223/أ) فتارة تفترق العجاجتان وتارة تلتقيان.

وقوله: ركض الأمير وكاللجين حبابه ... وثنى الأعنة وهو كالعقيان فتل الحبال من الغدائر فوقه ... وبنى السفين له من الصلبان يقول: ركض الأمير خيله وحباب الماء كالجين؛ أي الفضة, وعاد والدم قد غيره فصار كالعقيان؛ أي: الذهب. وادعى أن الأمير أمر بأن تضفر الحبال من شعر من قتل وأن تبنى السفين من الصلبان. وهذا أمر لم يكن قط, والله العالم. وقوله: وحشاه عاديةً بغير قوائمٍ ... عقم البطون حوالك الألوان يعني أنه حشاه سفناً وهي العادية بغير قوائم؛ شبهها بالخيل العادية, من العدو. والعقم: جمع عقيم وهي التي لا تحمل. لما شبه السفن بالخيل؛ وكأن لها قوائم ومن عاداتها أن تنتج؛ بين أنه أراد السفائن فذكر أنها لا قوائم لها, والخيل لها قوائم. ولما كانت الخيل تنتج المهار ذكر أن هذه عقملا تلد. وقوله: حوالك الألوان؛ أي قد طليت بالقار فهي سود. وقوله: تأتي بما سبت الخيول كأنها ... تحت الحسان مرابض الغزلان في «تأتي» ضمير يرجع على السفن, وجعلها تأتي بما سبته الخيول, فكأنها مرابض الغزلان؛ لأن سبايا العدو كأنها ظباء. وقوله: بحر تعود أن يذم لأهله ... من دهره وطوارق الحدثان فتركته وإذا أذم من الورى ... راعاك واستثنى بني حمدان شبه هذا الماء بالبحر. والعرب تعبر عن الماء إذا كثر بالبحر أملحاً كان أم عذباً, وربما قالوا: أبحر الماء إذا ظهرت فيه ملوحة, وضرب نصيب ذلك مثلًا بتغير من يهواه عليه, قال: [الطويل] وقد أبحرت تلك المياه فزادني ... إلى كلفي أن أبحر البارد العذب

يقول: هذا البحر كانت عادته أن يذم لأهله من الدهر وطوارق الحدثان فتركته إذا أذم, خاف من الغدر فراعاك واستثنى قومك؛ كأنه قال: أذم لكم إلا من آل حمدان. وقوله: المخفرين بكل أبيض صارمٍ ... ذمم الدروع على ذوي التيجان المخفرين من قولهم: أخفر الرجل غيره إذا نقض عهده؛ فوصف بني حمدان بأنهم يخفرون ذمم الدروع لأنه جعل الدرع المعطية لابسها الذمام, وسيوف هؤلاء تخفر ذممها إذا لبسها ذوو التيجان. وقوله: متصعلكين على كثافة ملكهم ... متواضعين على عظيم الشان يقول: هؤلاء القوم ملوك, وهم في الحروب يتشبهون بالصعاليك لأنهم يباشرونها بأنفسهم. والصعلكة تستعمل في قلة المال وقلة اللحم. قال أبو دواد الإيادي في صفة الخيل: [الخفيف] قد تصعلكن في الربيع وقد قلـ ... لص جلد الفرائص الأقدام وذكر الشاعر أنهم يتواضعون على عظم شأنهم. والتواضع يحمد عليه من محله مرتفع. وقوله: يتقيلون ظلال كل مطهمٍ ... أجل الظليم وربقة السرحان لما وصفهم بالتصعلك عرض بأن الملوك يتقيلون عند الهاجرة في القصور والمنازل الباردة, وأن هؤلاء القوم يتقيلون؛ أي يكونون وقت الهاجرة في ظلال الخيل. يقال: قال وتقيل إذا أقام في الهاجرة فلم يبرح مكانه, فإن شرب في ذلك الوقت سمي الشراب قيلًا. وقيل: تقيل الشارب إذا شرب القيل, وفي الكلام المحكي عن أم تأبط شراً في صفة ابنها لما هلك:

وابناه .. ليس بزميل ... شروبٍ للقيل وقوله: خضعت لمنصلك المناصل عنوةً ... وأذل دينك سائر الأديان يقول: خضعت سيوف الملوك لسيفك وأذل دينك أديان الأمم. والدين يستعمل في مواضع فيكون الملك, ويكون الطاعة, والعادة والفعل. ومن أمثالهم: «كما تدين تدان». أي كما تفعل يفعل بك, وفي هذا الكلام - على اختصاره - مأدبة عظيمة وأمر للإنسان ألا يفعل شرًا البتة. وكان بعض ملوك العرب إذا سمع بامرأةٍ جميلةٍ (223/ب) أخذها غصبًا؛ فأخذ ابنةً ليزيد بن الصعق الكلابي, ويزيد غائب, فقدم على الملك وهو متبد في الصحراء, فقال بحيث يسمعه: [الكامل] يا أيها الملك المقيت أما ترى ... ليلًا وصبحاً كيف يختلفان هل تستطيع الشمس أن تؤتى بها ... ليلًا فهل لك بالنهار يدان فاعلم يقيناً أن ملكك زائل ... واعلم بأن كما تدين تدان فروي أن الملك أجابه فقال: [الكامل] إن التي تبلت فؤادك خطة ... مفروضة في الناس يابن كلاب فاذهب لحاجتك التي طالبتها ... والحق بأهلك في جنوب أراب ويقال: إن هذه الأبيات ما أنشدها ملك قط إلا تعظ.

وقوله: وعلى الدروب وفي الرجوع غضاضة ... والسير ممتنع من الإمكان والطرق ضيقة المسالك بالقنا ... والكفر مجتمع على الإيمان نظروا إلى زبر الحديد كأنما ... يصعدن بين مناكب العقبان قوله: وعلى الدروب ابتداء كلام لم يتم إلا بقوله: نظروا ... إلى آخر البيت, وليس في شعر أبي الطيب من هذا الجنس شيء؛ لأنه علق أول كلمةٍ في البيت بآخر كلمة في البيت الثالث. وزبر الحديد: قطعه. شبه الدارعين بزبر الحديد, وشبه خيلهم بالعقبان, وكأنها تحمل الزبر على المناكب. وقوله: وفوارسٍ يحمي الحمام نفوسها ... فكأنها ليست من الحيوان هذا البيت من قول الطائي: [البسيط] يستعذبون مناياهم كأنهم ... لا ييأسون من الدنيا إذا قتلوا إلا أن الشاعر أسرف في المبالغة فجعل الحمام يحيي أنفسهم, فكأنها ليست حيوانًا؛ أي كأنهم كانوا أمواتاً أو جماداً فجعلهم الحمام أحياءً. وقوله: مازلت تضربهم دراكاً في الذرى ... ضرباً كأن السيف فيه اثنان يريد: أنك سيف ومعك سيف. وقوله: خص الجماجم والوجوه كأنما ... جاءت إليك جسومهم بأمان في خص ضمير عائد على ضربٍ. يقول: تضربهم ضربًا يخص وجوههم ورؤوسهم,

فكأن جسومهم أخذت أماناً منك. وترك في هذا البيت المبالغة لأن رسوب السيف في الضريبة محمود, وقد قال في موضع آخر: [المتقارب] إذا ما ضربت به هامةً ... براها وغناك في الكامل وقوله: فرموا بما يرمون عنه وأدبروا ... يطؤون كل حنيةٍ مرنان يقول: رموا قسيهم وهي التي يرمون عنها, وهذه صفة رجالة الأرمن. والحنية: القوس, والمرنان: التي يسمع لها صوت عند الرمي. وقوله: يغشاهم مطر السحاب مفصلًا ... بمهندٍ ومثقفٍ وسنان يصف أنهم مطروا وهم منهزمون, فهم يضربون بالسيوف ويطعنون بالرماح. وقوله: حرموا الذي أملوا وأدرك منهم ... آماله من عاد بالحرمان يقال: أمل الرجل يأمل فهو آمل. والمعنى أن هؤلاء القوم حرم أكثرهم ما أمل, وأدرك ما يؤمله منهم رجل عاد وقد حرم الغنم؛ وهذا يشبه قول العرب: السلامة إحدى الغنيمتين. وقوله: هبهات عاق عن العواد قواضب ... كثر القتيل بها وقل العاني العواد: مصدر عاود الرجل أهله يعاودهم عواداً إذا آب إليهم. قال القتال الكلابي: [الوافر] ولما أن رأيت بني حصينٍ ... به خيف إلى الجارات باد

خلعت عذارها وبرئت منها ... كما خلع العذار عن الجواد وقلت لها: عليك بني حصينٍ ... فما بيني وبينك من عواد والخيف: اختلاف الشيء؛ يريد أنها خالفتني إليهم من قولهم: روضة خيفاء إذا كان فيها نبت ناضر ويابس. والعاني: الأسير. وقوله: ومهذب أمر المنايا فيهم ... فأطعنه في طاعة الرحمن (224/أ) مهذب: نسق على قواضب, والرحمن والرحيم مشتقان من الرحمة, وكأن الرحمن أعظم مبالغةً من الرحيم, والرحيم ألطف وأرفق. وجاء في الحديث شيء معناه أن الله سبحانه قال: «أنا الرحمن, وهذه الرحم لا يصلها أحد إلا وصلته». واشتقاق الرحم من الرحمة أيضاً لأنه يحث الإنسان على الرحمة. وقوله: قد سودت شجر الجبال شعورهم ... فكأن فيه مسفة الغربان يقول: قطعن رؤوس هؤلاء المنهزمين وشعورهم وافية؛ فقد سودت أشجار الجبال لأنها كثيرة, فكأن في الشجر مسفة الغربان. يقال: أسف الطائر إذا دنا من الأرض في طيرانه, وكذلك أسف السحاب إذا دنا من الأرض. قال الشاعر: [البسيط] دانٍ مسف فويق الأرض هيدبه ... يكاد يدفعه من قام بالراح

وقوله: وجرى على الورق النجيع القاني ... فكأنه النارنج في الأغصان القاني: الأحمر, وأصله الهمز. يقال: قنأت الأنامل إذا احمرت من خضابٍ أو غيره, وقنأ الرجل لحيته إذا خضبها بالحمرة. قال مزردبن ضرار أخو الشماخ: [الطويل] يقنئه ماء اليرناء تحته ... تسيل كأطراف الثغامة ناحل اليرناء: الحناء. يريد أن رؤوسهم قد خضبها الدم فكأنها نارنج. والنارنج لم يذكر في شعر العرب كما ذكر غيره من الفواكه, ووزنه وزن ليس هو للعرب, كأنه: فافعل, ولم يستعمل النرج. وقد قالوا: النيرج للريح التي تقشر التراب. ويقال: إن الحديدة التي يداس بها الزرع يقال لها: النورج, فإن أخذ النارنج من النرج فوزنه: فافعل كما تقدم, أو: فانعل إذاجعلت النون الثانية زائدةً, فإذا أخذ من الرنج فوزنه: نافعل. وقوله: إن السيوف مع الذين قلوبهم ... كقلوبهن إذا التقى الجمعان تلقى الحسام على جراءة حده ... مثل الجبان بكف كل جبان مع في قوله: مع الذين تدل على معنى النصرة والمعونة, كما يقال: الله معنا؛ أي معين وناصر؛ وليست في معنى الصحبة لأنها لو كانت كذلك لم يكن لها نفع؛ وإنما أراد أن السيوف تنصر الذين قلوبهم كقلوبها؛ استعار للسيوف قلوباً؛ وإنما يريد المضاء والقطع. وقد شرح هذا البيت بالذي بعده لأنه قال: إن الحسام على جراءة حده فهو مثله ليس له غناء ولا نفع. وقوله: رفعت بك العرب العماد وصيرت ... قمم الملوك مواقد النيران القمم: جمع قمةٍ, وهي أعلى الرأس, وقد قيل هذا المعنى في بعض الشعر. قال بعضهم: [الطويل]

ومن أبيات أولها

تسائل عن بعلٍ لها ليس آيباً ... ونحن وضعنا رأسه تحت مرجل وكلام أبي الطيب أشرف من هذا الكلام. وقوله: أنساب فخرهم إليك وإنما ... أنساب أصلهم إلى عدنان العرب: اسم جامع يقع على عدنان وقحطان, فإن كان الشاعر أراد الخصوص فذلك جائز, وإن أراد العموم فقد زعم أن قضاعة من معد. وحدث الثقة أن أبا الطيب كان ينكر ذلك ويجعل قضاعة ولد مالك بن حمير. يقول: العرب ينتسب فخرها إليك وإن كانوا ينسبون في الأصل إلى عدنان. وقافيتها من المتواتر. ومن أبيات أولها ما أنا والخمر وبطيخة ... سوداء في قشر من الخيزران يشغلني عنها وعن غيرها ... توطيني النفس ليوم الطعان وكل نجلاء لها صائك ... يخضب ما بين يدي والسنان الوزن من أول السريع, والقافية من المترادف. (224/ب) كان أبو الطيب دخل إلى أبي العشائر فحياه ببطيخةٍ من ند وعنبر في غشاء خيزران عليها قلادة لؤلؤ, فقال: أي شيءٍ شبه هذه؟ فقال هذه الأبيات. الخيزران: كلمة أصلها أعجمي, ويقال: إن الخيزران من أصول الرماح, وقيل: هي عروق تكون في الأرض, والعرب تجعل الغصن خيزرانةً. قال الشاعر وذكر حمامةً: [الطويل] هتوفاً دعت أخرى على خيزرانةٍ ... يكاد يدنيها من الأرض لينها

ومن بيتين أولهما

وفي حكاية ذكرها ابن قتيبة في تعبير الرؤيا معناها أن سائلًا سأله عن المجنه فلم يعرف؛ فرأى في النوم قائلًا يقول له: هو الخيزران, فأنشده: [الراجز] هدية لطيفة ظريفة في طبق مجنه فسمع ابن قتيبة بعد ذلك منشدًا ينشد: [البسيط] في كفه جنهي ريحه عبق ... من كف أروع في عرنينه شمم قال ابن قتيبة: قد كنت أعرف هذا البيت إلا أني كنت أرويه: في كفه خيزران. ويقال: وطأ نفسه على كذا إذا أمرها بها وأذلها له. وإن عطف كل على توطيني رفعها, وإن عطفها على الطعان فهي مخفوضة. والصائك: الدم لأنه يبقى له أثر كأثر الطيب. ومن بيتين أولهما زال النهار ونور منك يوهمنا ... أن لم يزل ولجنح الليل إجنان فإن يكن طلب البستان يمسكنا ... فرح فكل مكانٍ منك بستان الوزن من ثاني البسيط والقافية من المتواتر. يقال: جن الليل وأجن, وهو جنونه وجنانه؛ أي ظلمته. قال دريد بن الصمة: [الطويل]

ومن التي أولها

فلولا جنون الليل أدرك ركضنا ... بذي الرمث والأرطى عياض بن ناشب والبستان فارسي, وقد تكلمت به العرب. قال الراجز: [الرجر] فهن مثل الأمهات يلخين ... يطعمن أحياناً وحيناً يسقين كأنها من ثمر البساتين ... العنباء المتنقى والتين ومن التي أولها قد علم البين منا البين أجفانا ... تدمى وألف في ذا القلب أحزانا وزنها من ثاني البسيط. أراد: أن تدمى فحذف. وقد فعل هذا في مواضع كثيرة. وإذا أضمرت أن فهي والفعل في موضع مفعولٍ ثان لقوله: علم منا البين. يقول: لما بان أحبابنا علم نأيهم أجفاننا أن تتباين فلا تلتقي للرقاد. وقوله:

ولو بدت لأتاهتهم فحجبها ... صون عقولهم من لحظها صانا يقول: لو بدت هذه المرأة لأتاهت من ينظر إليها. وأتاهته من قولهم: تاه الرجل إذا تحير. يقال: تاه يتيه ويتوه فتيهه غيره وتوهه. وزعم أن الصون حجبها عن عيونهم فصان عقولهم من أن تذهب. وقوله: بالواخدات وحاديها وبي قمر ... يظل من وخدها في الخدر حشيانا يكثر في كلام الناس: بي فلان وبأبي فلان. والمراد: المفدي بي فلان أو نحو ذلك. وقوله: قمر: خبر ابتداءٍ محذوفٍ, ولا يمتنع أن يكون المضر فعلًا لأنه قال: يفدى بالواخدات وحاديها قمر؛ فيكون قمر مرفوعًا لأنه لم يسم فاعله. وحشياناً؛ أي قد أصابه الربو. وقوله: أما الثياب فتعرى من محاسنه ... إذا نضاها ويكسى الحسن عريانا يقول: هذا القمر إذا كانت عليه ثياب حسنت بذلك, فإذا نضاها عنه - أي نزعها - ذهب حسنها الذي أفادته منه. وإذا تعرى فهو مكسو بالحسن؛ أي لم يضره فقد ثيابه كما ضرها أن فقدته. ومن قال: يكسى بضم الياء فهو مصيب في ذلك لأنه قياس مطرد, ومن فتح الياء حلمه على قولهم: كسي يكسى, وذلك يفتقر إلى سماعٍ, وقد قالوا: كاسٍ أي ذو كسوةٍ. قال الحطيئة: [البسيط] دع المكارم لا تنهض لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي وقوله: كاسٍ يراد به ذو كسوة, كما يقولون: تامر أي ذو تمرٍ, ولابن أي ذو لبنٍ, وكأنهم يستعملون هذا البناء في اسم الفاعل ولا يكادون ينطقون منه بالفعل. وقوله:

يضمه المسك ضم المستهام به ... حتى يصير على الأعكان أعكانا (225/أ) ادعى أن المسك يضم هذا القمر ضم من هو به هائم, فهو لا يفارقه وإن غسله بالماء, ويجتمع لأنه يتطيب في كل يوم فيصير على الأعكان أعكاناً من كثرته. وقوله: تهدي البوارق أخلاف المياه لكم ... وللمحب من التذكار نيرانا يقول: البوارق تفعل فعلًا متضاداً فتهدي إليكم اخلاف المياه؛ والأخلاف: جمع خلفٍ وهو طرف الضرع استعاره للسحاب؛ فهي مع أنها تهدي لكم المياه تهدي إلى المحب من تذكاركم نيرانًا. وقوله: إذا قدمت على الأهوال شيعني ... قلب إذا شئت أن يسلاكم خانا يقول: أنا أقدم على الأهوال التي كأنها غائبة عني, فأسافر إليها كما يسافر الغائب إلى أهله. وشيعني؛ أي قواني فكان لي مشايعاً على ما أريد, ومن ذلك قولهم للشجاع: مشيع؛ أي كأنه قد قوي على الشجاعة بغيره, ومن ذلك قيل: شيعت النار؛ أي شددت وقودها. ويسلاكم في معنى يسلوكم. قال رؤبة: [الرجز] لو أشرب السلوان ما سليت وقوله: لا أشرئب إلى ما لم يفت طمعاً ... ولا أبيت على ما فات حسرانا يقال: اشرأب إلى الشيء إذا تشوف إليه وظهرت فيه إرادته. وسيبويه يذهب إلى أن هذه الهمزة أصلية وهي تزاد في هذا الموضع كثيراً؛ كقولهم: اطمأن, وازبأر إذا تهيأ للقتال, اسمأل الظل إذا قصر, واشمأز من الشيء إذا تقبض منه. وكثرتها في هذه الأماكن

تشهد لها بالزيادة؛ لا سيما والعرب إذا اضطرت هزمت: أفعأل, فقالت: احمأر واسوأد. قال الشاعر: [الكامل] حش الولائد بالوقود جنوبها ... حتى اسوأد من الصلا صفحاتها والاشتقاق يدل على أن اشرأب مأخوذمن شرب ويكون أصله: اشراب في وزن احمار, ثم همز كراهة التقاء الساكنين؛ كأنه أراد الشراب لأنه ظمآن فاشرأب إليه, ثم استعمل ذلك في غير الظمأ. قال ذو الرمة: [الطويل] ذكرتك أنمرت بنا أم شادن ... أمام المطايا تشرئب وتسنح وقوله: ولا أسر بما غيري الحميد به ... ولو حملت إلي الدهر ملآنا في هذا البيت عجائب منها: أنه نفى السرور عن نفسه ولو حمل إليه الدهر وهو مملوء بالخير, والدهر لا يحمل ولا يمكن ملؤه. وقوله: لو استطعت ركبت الناس كلهم ... إلى سعيد بن عبد الله بعرانا قد عاب الصاحب بن عبادٍ رحمه الله هذه اللفظة على أبي الطيب, وله محاسن معفية على هذه اللفظة وغيرها. وبعران: جمع بعيرٍ, مثل: رغفانٍ ورغيفٍ. والبعير يقع على الذكر والأنثى, وشبهوه بقولهم: إنسان تقع على الرجل والمرأة؛ إلا أنهم قد قالوا: إنسانة ولم يقولوا: بعيرة للأنثى. قال الشاعر: [الرجز] إنسانة تسقيك من إنسانها ... خمرًا حلالًا مقلتاها عنبه وحكى الأصمعي أنه سمع رجلًا يقول: صرعتني بعير لي؛ يعني ناقة, وينشد: [الكامل] لا تشربي لبن البعير وعندنا ... حلب الزجاجة واكف المعصار

وقوله: فالعيس أعقل من قومٍ رأيتهم ... عما تراه من الإحسان عميانا لما ذكر الإبل في البيت الأول شفعه بتفضيل العيس على قوم يراهم عما يفعله هذا الممدوح عميانًا لا يهتدون إليه. وأفعل إذا كان وصفاً فبابه أن يجمع على فعلٍ, مثل: أحمر وحمرٍ, وأصفر وصفرٍ, وأعمى وعميٍ, وبذلك جاء التنزيل لقوله تعالى: {صم بكم عمي}. والذين قالوا عند الضرورة: ورق في جمع أورق, وحمر في جمع أحرم, لا يفعلون ذلك في معنى عميٍ؛ لأنهم يتركون المعتل على حاله لمكان العلة, والحرف الصحيح أحمل لها من العليل, وربما قالوا: أحمر وحمران, وأصفر وصفران فجمعوه على فعلانٍ. وقالوا: قوم فرعان يريدون جمع أفرع (225/ب) وهو الكثير الشعر, قال الشاعر: [الوافر] أحب لحبها السودان حتى ... أحب لحبها سود الكلاب وقوله: ذاك الجواد وإن قل الجواد له ... ذاك الشجاع وإن لم يرض أقرانا يقول: ذاك الجواد؛ يصفه بهذه الصفة وهو أشرف من ذلك وأجل لأنه يرتفع أن يوصف بما يوصف به غيره, وهو الشجاع وليس في العالم من يرضاه قرنًا له في الحرب. وقوله: ذاك المعد الذي تقنو يداه لنا ... فلو أصيب بشيء منه عزانا المعد: الذي جعل الأشياء عدةً للعافين, فهو يقنو المال ليعطيه من يسأله, فلو أصيب بشيء منه لعزى العافين به؛ لأنه لم يذهب منه, وإنما ذهب من أيديهم. وقوله: عزانا؛ أي صلح أن يعزينا, إلا أنه لم ينطق بعزائهم؛ وهذا مثل قولك إذا رأيت الرجل قد وقع في شدة: هلك فلان, وهو لم يهلك بعد؛ وإنما يريد أنه قارب الهلكة.

وقوله: خف الزمان على أطراف أنمله ... حتى توهمن للأزمان أزمانا ادعى للمدوح أنه يجعل الزمان على أطراف أنامله ويكون خفيفًا عليهن حتى كأنهن أزمان للأزمان؛ وهذه مبالغة مسرفة لأن أقل جزءٍ من الزمن يشتمل على كل المدركات, وإذا احتوى عليه شيء فقد أتى بالمعجز من الأشياء. وقوله: وتسحب الحبر القينات رافلةً ... في جوده وتجر الخيل أرسانا وصفه بالجودعلى كل الخلق وأن الحبر تجره القينات - أي الإماء - وإنما هو من عطاياه. وجعل الخيل تسحب أرسانها في ملكه؛ فيجوز أن يعني بذلك أنها تترك وشأنها فلا ترتبط فهي تسحب الأرسان لذلك. وهذا الوجه أبلغ من أن يصفها بطول الأرسان المانعة لها من التصرف. وقوله: جزت بني الحسن الحسنى فإنهم ... في قومهم مثلهم في الغر عدنانا كان هذا الممدوح ينتسب إلى الحسن بن علي عليه السلام. يقول: جزتهم الحسنى فإنهم أشراف في قومهم. والهاء في مثلهم راجعة على القوم. يخبر أنهم أشراف قومهم, وأن قومهم أشراف بني عدنان. واشتقاق عدنان من عدن بالمكان إذا أقام به. وقوله: ما شيد الله من مجد لسالفهم ... إلا ونحن نراه فيهم الآنا ما شيد الله؛ أي ما رفع. يقول: ما رفع الله من مجدٍ لسالف هؤلاء القوم فبلغنا بالسماع إلا ونحن نشاهده عيانًا فيهما لآن. والآن: كلمة شاذة لأنها تبنى على الفتح, وفيها الألف واللام, والنحويون يقولون: الآن حد الزمانين. وبيت أبي صخر ينشد بالفتح: [الطويل] كأنهما م الآن لم يتغيرا ... وقد مر بالدارين من بعدنا عصر

وأحسن ما يقال في الآن: إنها ألف ولام دخلت على فعلٍ ماضٍ من قولك: آن الشيء يئين إذا حان. وكان المعنى معنى الذي, فحذفت لكثرة الاستعمال, وإذا قلت: الآن كان كذا وكذا, وقد جاء الاستغناء بالألف واللام عن الذي, وينشد للفرزدق: [البسيط] ما أنت بالحكم الترضى حكومته ... ولا البليغ ولا ذي الرأي والرشد أراد: الذي ترضى. وكذلك قول الآخر: [الوافر] بل القوم الرسول الله منهم ... هم أهل الحكومة من قصي يريدون: الذي رسول الله منهم. وينشد هذا البيت: [الطويل] ويستخرج اليربوع من نافقائه ... ومن جحره ذي الشيحة اليتقصع أي الذي يتقصع - وكان محمد بن يزيد ينكر هذه الأشياء - أي يدخل في قاصعائه وهي جحرة اليربوع, وكذلك قوله: [الطويل] أيبغضه وأبغض العجم ناطقًا ... إلى ربه صوت الحمار اليجدع يريد الذي يجدع؛ أي يقال له: جدع الله أنفه. وقوله: كأن ألسنهم في النطق قد جعلت ... على رماحهم في الطعن خرصانا الخرصان: جمع خرصٍ وخرصٍ وهو ها هنا السنان, وقيل: هو النصف الأعلى منه. ويقال للرمح: خرص (226/أ) وكأنهم يسمون بهذا الاسم كل عودٍ طويلٍ. ويقال لعيدان تكون مع مشتار العسل: أخراص. قال ساعدة بن جؤية: [الطويل]

قليل تلاد المال إلا مسائباً ... وأخراصه يرجو بها ويقيمها والمسائق: زقاق العسل واحدها مسأب. وقال الراجز في أن الرمح يقال له: خرص: [الرجز] يعض منها الظلف الدويا ... عض الثقاف الخرص الملويا ويروى: الخطيا. والظلف: أسافل خشب الرحل. والدوي: جمع دايةٍ؛ يقال ذلك لفقار الظهر, وربما استعمل في الصدر وعظامه. يقول الشاعر: كأن ألسنهم لحدتها ومضائها في المقال جعلت على رماحهم أسنةً. وهذه مبالغة في وصف الأسنة, وهو أشبه من تشبيههم اللسان بالسيف لأن السنان أقرب منه إلى شبه اللسان إذ كان يقاربه في الصغر. وقد قال الوليد بن عبيد: [الكامل] ما كان قلبك في سواد جوانحي ... فأكون ثم ولا لساني في يدي وهذا المعنى مثل قول الآخر: [البسيط] عني إليك فقد كلفتني شططاً ... حمل السلاح وقول الدارعين: قف أمن رجال المنايا خلتني رجلاً ... أمسي وأصبح مشتاقاً إلى التلف تعدو المنايا على قومٍ فأكرهها ... فكيف أغدو إليها عاري الكتف ظننت أن نفاد المال غيرني ... وأن قلبي في جنبي أبي دلف وقوله:

كأنهم يردن الموت من ظمأٍ ... أو ينشقون من الخطي ريحانا يقول: هؤلاء القوم كأنهم ظماء إلى الموت, فكأنه ماء, وينشقون الخطي كأنه ريحان. وكل نبتٍ طابت رائحته يقع عليه هذا الاسم؛ فيقال لورق الزرع الأخضر: ريحان لخضرته, وقد سموا رزق الله سبحانه ريحاناً, وكذلك فسروا قول النمر: [المتقارب] سلام الإله وريحانه ... ورحمته وغيوث درر وقد سمى بعض العرب الكمأة ريحاناً, قال الراجز: [الرجز] يغنيك عن سوداء واعتجانها ... وكرك الطرف إلى تبانها سوداء لو يوضع في ميزانها ... رطل حديدٍ مال من رجحانها تلك من الدنيا ومن ريحانها وقوله: خلائق لو حواها الزنج لانقلبوا ... ظمي الشفاه جعاد الشعر غرانا يقول: هؤلاء القوم لهم خلائق بيض لو حواها الزنج لتغيرت حالهم فصاروا ظمي الشفاه جمع: أظمى وظمياء, والظما في الشفة قلة لحمها, ويجوز أن يكون مع ذلك سمرة تستحسن؛ لأنهم يقولون للرمح: أسمر وأظمى إذا وصفوه بالسمرة وغلظ الشفة وكثرة لحمها. والزنج توصف بعظم الشفاه حتى تشبه شفاهم بمشافر الإبل. قال الفرزدق: [الطويل] فلو كنت ضبياً عرفت قرابتي ... ولكن زنجياً غليظ المشافر وقال أعرابي يخاطب أمةً له: [الرجز] قد كنت حذرتك لقط العصفر ... بالليل حتى تصبحي وتبصري

فإذا فعلت ما فعلت فاصبري ... إني زعيم لك أن تزحري بوافر الجبهة عبل المشفر وإن كانت الجعودة من صفات الزنج فإن الشاعر أراد أنهم يجمعون بين الصفتين؛ فتكون فيهم الصفة الزنجية والصفة التي للعرب البيض الوجوه. والغران: جمع أغر, وإنما يريد أنهم بيض الوجوه وجميع الأجساد. قال امرؤ القيس: [الطويل] ثياب بني عوفٍ طهارى نقية ... وأوجههم بيض المسافر غران وقوله: وأنفس يلمعيات تحبهم ... لها اضطراراً ولو أقصوك شنآنا وصف الأنفس باليلمعيات, يقال: رجل يلمعي وألمعي إذا كان يظن الشيء فيصح ظنه, وقد مضى فيما تقدم. يقول: لهم أنفس نفيسة وأخلاق تلزمك أن تحبهم, ولو أقصوك لبغضهم إياك. (226/ب) ونصب شنآناً لأنه مفعول له ومن أجله, ويجوز أن يقال: هو منصوب على المصدر؛ لأن أقصوك يؤدي معنى شنؤك, ولا يمتنع أن يقال: هو نصب على التمييز. والشنئان ها هنا مصدر شنآن, وفعلان في المصادر قليل, وإنما حكوا فيه: لويت لياناً في معنى مطلت. قال ذو الرمة: [الطويل] تطيلين لياناً وأنت ملية ... وأحسن يا ذات الوشاح التقاضيا وذهب بعض الناس إلى أن أصله كسر اللام ففتح أوله لأجل الياء, والآية تقرأ على وجهين: {ولا يجرمنكم شنئآن قوم} و {شنئان قوم} , فالذين ينكرون فعلان في المصادر يقولون: شنآن في الآية وصف لرجل كأنه أراد رجل مبغض من قومٍ. ومما يدل على أن شنئان مصدر قولهم: الشنان في معنى الشنآن: ألقوا حركة الهمزة على النون وحذفوها,

ومن ذلك قول الأحوص: [الطويل] وما العيش إلا أن تلذ وتشتهي ... وإن لام فيه ذو الشنان وفندا وقوله: الواضحين أبواتٍ وأجبنةً ... ووالدتٍ وألباباً وأذهانا وصفهم بالوضوح, ثم ذكر أشياء مفسراتٍ لما وضح من هؤلاء القوم, فقال: أبواتٍ وهي جمع أبوةٍ, وأجبنةً يعني جمع جبين الإنسان. والشعراء يقولون: فلان وضاح الجبين إذا وصفوه ببياض الوجه. قال الشاعر: [الوافر] صبحنا من بني أسدٍ حلولًا ... بكل أشم وضاح الجبين وأجبنة: جمع لا يكاد يسمع؛ إلا أنه على القياس مستمر كقولك: رغيف ورغف وأرغفة, وقد حكي: أجبن في جمع جبين وهو شاذ. والأذهان: جمع ذهن وهو فطنة الإنسان وذكاؤه, وربما استعمل الذهن في معنى القوة. وقوله: يا صائد الجحفل المرهوب جانبه ... إن الليوث تصيد الناس أحدانا وصف الممدوح بأنه يصيد الجحفل؛ وإنما توصف الأسد بأنها تصيد الأحدان. قال الشاعر في صفة لبؤةٍ: [الطويل] تصيد أحدان الرجال وإن تصب ... جماعتهم تفرح بذاك وتزدد وقوله: وواهباً كل وقتٍ وقت نائله ... وإنما يهب الوهاب أحيانا زعم أنه ليس لجوده وقت محدود؛ بل يجود في كل الأوقات. والإنسان إنما يجود حيناً بعد حينٍ. وجاء في الكتاب العزيز تفضيل الشجرة المباركة التي تؤتي أكلها كل حينٍ

بإذن ربها, والشجر ليس كذلك؛ إنما يؤتي أكله في بعض الأحيان. وقوله: أنت الذي سبك الأموال مكرمةً ... ثم اتخذت لها السؤال خزانا يقول: إن الممدوح سبك الأموال مكارم, وهذا على معنى الاستعارة, ولما فعل بالأموال كذلك جعل خزانها السؤال. يقال: خزن الرجل ماله إذا حفظه, وخزن له الخازن إذا حفظ عليه, ثم استعيرت هذه الكلمة في صيانة اللسان. وجاء في الحديث: «رحم الله امرءاً خزن من لسانه». وقال امرؤ القيس: [الطويل] إذا المرء لم يخزن عليه لسانه ... فليس على شيءٍ سواه بخزان وقيل للشيء الصغير من الآنية كالمكحلة وما جرى مجراها: مخزنة؛ فكسرت الميم لأنها تنتقل. وإذا كان الشيء كبيراً قيل لموضعه: المخزن والخزانة. وقوله: عليك منك إذا أخليت مرتقب ... لم تأت في السر ما لم تأت إعلانا ومن الكلام القديم: «أفضل الناس من سره كعلانيته» , وقد وصف هذا الممدوح بهذه الصفة. ويقال: (227/أ) أخلى الرجل إذا صادف موضعاً خالياً من الناس. قال الشاعر: [الطويل] أتيت مع الحداث ليلى فلم أبن ... وأخليت فاستعجمت عند خلائي والقافية من المتواتر.

ومن التي أولها

ومن التي أولها الحب ما منع الكلام الألسنا ... وألذ شكوى عاشقٍ ما أعلنا الوزن من أول الكامل. الألسن: جمع لسانٍ إذا كان مؤنثًا, فإذا كان مذكرًا فجمعه ألسنة. أثبت في المصراع الأول أن الحب هو الذي يمنع الألسن من الكلام. ومنعه إياها يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون يبلغ بالمحب إلى حال لا يستطيع معها الكلام. والآخر: أن المحب يجب عليه كتمان ما هو فيه؛ لأن ذلك أجمل بمن يحب, وهذا الوجه أشبه من الأول؛ لأن بقية البيت دال عليه وهو قوله: وألذ شكوى عاشقٍ ما يعلنه, فهو ضد لما يجب عليه أن يفعله وهو الكتمان. وقوله: بنا ولو حليتنا لم تدر ما ... ألواننا مما امتقعن تلونا أقل قولهم: حليت الرجل إذا وصفت ما هو عليه من خلقةٍ, وذلك مأخوذ من حلي المرأة وحلية السرج ونحوهما؛ وإنما يرادبه التحسين, ثم كثرت الكلمة حتى قالوا: حليت الرجل إذا وصفت خلقته وإن لم تكن حسنةً. ويجوز أن تكون الكلمة مولدةً ليست بالقديمة. ويقال: امتقع لون الرجل وانتفع واهتفع والتمع وانتشف إذا تغير. ويقال: تلون الشيء إذا اختلفت ألوانه. وقوله: تلوناً يجوز أن يقال: هو منصوب على التفسير, وعلى المصدر, وعلى أنه مفعول له, ومن أجله, وأن يكون قولهم: جاء الرجل مشياً ينتصب فيه المشي على الحال جاز أن يقول ذلك في تلون. وقوله: وتوقدت أنفاسنا حتى لقد ... أشفقت تحترق العواذل بيننا أراد: أشفقت أن تحترق وحذف أن. وأن وما بعدها في موضع نصبٍ؛ فإن جعل الكلام تاماً عند قوله: أشفقت جاز أن ينصب قوله: أن تحترق على معنى المفعول من أجله, وإن جعل الكلام غير تام بقوله: أشفقت؛ فالمعنى معنى: من, كأنه قال: أشفقت من أن تحترق.

فلما حذف من وصل الفعل فعمل كما عمل بعد حذف الخافض في قوله: أمرتك الخير؛ أي أمرتك بالخير. وقوله: أفدي المودعة التي أتبعتها ... نظراً فرادى بين زفراتٍ ثنا فرادى: أصله أن يكون جمع فريدٍ, وفي الكتاب العزيز: {ولقد جئتمونا فرادى}. وفعالى إنما يكثر في جمع فعلان, مثل: سكران وسكارى, وغيران وغيارى. ويجوز أن يكونوا حملوا فريداً على أنه يحتمل أن يقال فيه: فردان أي منفرد, وإنما جاز أن يقول: نظراً فرادى؛ لأن النظر قد يتسع حتى يشتمل على نظراتٍ كثيرةٍ, فلذلك حسن أن يوصف بالجمع. فإذ قلت: جاءني فلان فرادى لم يحسن أن تصف واحداً بجمعٍ. وسكن فاء زفراتٍ والوجه فتحها, وقد تردد مثل ذلك في ديوانه كثيراً. وأراد الثناء فقصر, وذلك جائز في حشو البيت وفي قافيته, وقصر الممدود في القافية أسهل؛ لأنها في موضع حذفٍ يجوز فيه ما لا يجوز في غيره. وقوله: أنكرت طارقة الحوادث مرةً ... ثم اعترفت بها فصارت ديدنا (227/ب) أكثر ما يستعمل الطروق بالليل, وقد حكي أنه يستعمل للنهار؛ إلا أن الليل أغلب عليه, وبذلك قالوا للنجم: طارق. وقال ابن أبي ربيعة: [الطويل] وباتت قلوصي بالعراء ورحلها ... لطارق ليلٍ أو لمن جاء معور ويدل على أن الطروق جائز أن يستعمل بالنهار أن اشتقاقه من الطريق؛ فيقال: طرق القوم أي جعلهم طريقًا له. وقوله: وقطعت في الدنيا الفلا وركائبي ... فيها ووقتي الضحى والموهنا

يقول: قطعت الفلا أي جاوزتها, وقطعت ركائبي أي جعلتها أنضاء لا تقدر على السير. والضحى مؤنثة, وقالوا في تصغيرها: ضحي فلم يدخلوا الهاء لأنهم خشوا أن يلتبس بتصغير ضخوةٍ. والموهن: الطائفة من الليل. وقوله: فوقفت منها حيث أوقفني الندى ... وبلغت من بدر عمار المنى يقال: وقف الرجل. واختلفوا في: وقفت الدابة, فأجاز قوم أوقفتها بالهمز, ولم يجز آخرون وأجمعوا على قولهم: وقفت الدابة. وسمي السوار إذا كان من ذبلٍ: وقفًا؛ لأنه يقف في موضعه. وحذف التنوين من عمارٍ, وذلك جائز, وقد مر مثله. وقوله: لأبي الحسين جدى يضيق وعاؤه ... عنه ولو كان الوعاء الأزمنا الجدى: العطاء, والوعاء: ما يوعى فيه الشيء, وهذيل يهمزون الواو فيقولون: الإعاء. قال الهذلي: [الوافر] فلا والله لا ينجو نجائي ... غداة لقيتهم بعض الرجال هواء مثل بعلك مستميت ... على ما في إعائك كالخيال كان أبو عمر الجرمي يزعم أن قلب الواو همزةً في أول الاسم يؤخذ بالسماع, وكان أبو عثمان المازني يجعله قياساً مستمراً. وقوله:

وشجاعة أغناه عنها ذكرها ... ونهى الجبان حديثها أن يجبنا يقول: قد صار الناس يهابون هذا الممدوح حتى قد غني عن الشجاعة لأنه لا يطمع في قتاله, وإذا سمع الجبان حديث شجاعته نهاه ذلك عن الجبن. وحكي: جبن الرجل وجبن, ولم يعرف جابن. وإن صح قولهم: جبن وجب أن يجيء اسم الفاعل على هذا النحو, كما قالوا: ضارب وداخل. وقوله: نيطت حمائله بعاتق محربٍ ... ما كر قط وهل يكر وما انثنى الحمائل: ما يقع على عاتق الرجل من نجاد السيف, سميت بذلك لأن متقلد السيف يحملها. ويجوز أن تكون سميت حمائل لأنها تحمل السيف, أو لأن السيف يحملها. قال الشاعر: [الطويل] غالم إذا أبصرت عاتق ثوبه ... رأيت عليه شاهدًا للحمائل والمحرب: مفعل من الحرب. وقوله: ما كر قط: نفى عنه ذلك لأن الكر إنما يكون بعد الانصراف. يقول: إذا لقي الأعداء لم ينثن عنهم حتى يأتي عليهم بقتلٍ أو هزيمة. وقوله: فكأنه والطعن من قدامه ... متخوف من خلفه أن يطعنا هذا المعنى قد سبق إليه الطائي في قوله: [البسيط] كأن لدن القنى (الفتى) يقفوك منهزمًا ... إذا تيممت أطراف القنا اللدن وقوله: نفت التوهم عنه حدة ذهنه ... فقضى على غيب الأمور تيقنا يقول: هذا الرجل لا يتوهم كتوهم الناس؛ لأن التوهم إنما يكون في قلة الفطنة؛ ولو اقتصر على النصف الأول لجاز أن يكون ذلك؛ إذ كان التوهم قد يقع في شيءٍ شوهد وعلمت حقيقته ثم حدث الشك فيه. وجاء أبو الطيب في النصف الثاني بما لا يقدر عليه

الإنسان, وهو قوله: فقضى على غيب الأمور تيقنا وقوله: (228/أ) يتفزع الجبار من بغتاته ... فيظل في خلواته متكفنا البغتات: جمع بغتةٍ. يقال: إذا فاجأه, والجبار: العظيم الشأن المتكبر. يزعم أنه يتكفن لأنه لا يأمن الموت أن يأتيه من قبل الرجل المدوح. ومما هو ضدهذا الغرض قول مسلم بن الوليد: [البسيط] تراه في الأمن في درعٍ مضاعفةٍ ... لا يأمن الدهر أن يؤتى على عجل وقوله: أمضى إرادته فسوف له قد ... واستقرب الأقصى فثم له هنا سوف: تقع على الفعل المستقبل فتقول: سوف يفعل وسوف أفعل. ويقال: رجل مسوف إذا وعد الشيء ولم ينجز له كأنه يقال له: سوف يكون كذا. وقد: أكثر ما تدخل على الفعل الماضي فلذلك ذكرها مع سوف, وإذا دخلت قد على الفعل المضارع دلت على معنى رب, كما قال القطامي: (البسيط) قد يدرك المتأنى بعد حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل وقال قوم: ليست تدل في الفعل المستقبل على رب؛ لأن المتأني قد يدرك مآربه كثيرًا, وكذلك المستعجل يتعذر عليه ما يلتمس, ومنه قول البعيث: [الطويل]

قد ينعش الله الفتى بعد عثرةٍ ... وقد يجمع الله الشتيت من الشمل أراد: الشمل. والله سبحانه يكثر نعشه للناس وجمعه للشمل الشتيت. وثم: كلمة تقع على ما بعد من المواضع, وهنا: تقع على ما قرب. وقوله: يجد الحديد على بضاضة جلده ... ثوبًا أخف من الحرير وألينا يقول: هذا الممدوح إذا لبس الدرع فهو أخف عليه من الحرير وألين منه. والبضاضة: رقة الجلد ونعمته مع بياضٍ. وقال قوم: بل يقال للأسود: بض إذا كان ناعم الجسد. وقيل: إنما يقال رجل بض أي كأن الماء يبض من جسده لسمنه ونعمته, أخذ من: بض الحجر بالماء إذا خرج قليلًا قليلًا. قال أبو زبيد: [الكامل] يا عثم أدركني فإن ركيتي ... صلدت فأعيت أن تبض بمائها صلدت أي: صلبت. وقوله: وأمر من فقد الأحبة عنده ... فقد السيوف الفاقدات الأجفنا في البيت تقديم وتأخير. وأمر: مرفوع لأن خبر ابتداءٍ, والتقدير: وفقد السيوف الفاقدات الأجفنا أمر عنده من فقد الأحبة؛ يصفه بإلف الحرب وأنه يؤثر السيوف على أحبابه من الإنس. وقد ادعى أبو الطيب هذا لنفسه في قوله: [البسيط] لولا العلى لم تجب بي ما أجوب بها ... وجناء حرف ولا جرداء قيدود وكان أطيب من سيفي مضاجعةً ... أشباه رونقه الغيد الأماليد وقوله: لا يستكن الرعب بين ضلوعه ... يومًا ولا الإحسان ألا يحسنا يستكن: أي يستتر, وكل ما خفي فقد استكن. قال زهير: [الطويل]

وكان طوى كشحًا على مستكنةٍ ... فلا هو أبداها ولم يتقدم فقيل: المستكنة الحاجة التي عزم عليها, وهذا الوجه هو الصحيح. وقيل: المستكنة قرحة تنبت في الجنب؛ فيجوز أن يكون شبه الحقد الذثي معه بالقرحة التي تؤدي إلى الهلاك. يقول: لا يدخل الرعب جسد هذا المذكور, وكذلك الإحسان لا يستكن في نيته لأنه يظهره فيغنيه عن الإخفاء. وقوله: مستنبط من علمه ما في غدٍ ... فكأن ما سيكون فيه دونا استنبط الشيء إذا استخرجه. يقال: استنبط الماء إذا أخرجه من البئر بالحفر, وكذلك أنبطه, ويقال للماء المستخرج: نبط. يقول: يستنبط من علمه ما يكون في غدٍ فكأن ما لم يكن بعد قد دون فيه؛ أي في علمه. ودون: مشتق من الديوان الذي تثبت فيه الأشياء, وليس بعربي, وقد تكلموا به قديمًا. قال الراجز (228/ب): [الرجز] إن لسلمى عندنا ديوانا ... أخز فلانًا وابنه فلانا وقال آخر: [الوافر] عداني أن أزورك أم عمرو ... دياوين تشقق بالمداد وقوله: تتقاصر الأفهام عن إدراكه ... مثل الذي الأفلاك فيه والدنا الهاء في إدراكه راجعة إلى علم الممدوح. يقول: تتقاصر الأفهام عن إدراكه مثل تقاصرها عن علم ما الأفلاك فيه. والدنا: جمع دنيا, وكذلك تجمع الفعلى إذا كانت أنثى الأفعل. تقول: الأصغر والأكبر مثلما تقول في التأنيث: الصغرى والكبرى, وإذا جمعت قلت: الصغر, وكذلك: الكبرى والكبر.

وقوله: من ليس من قتلاه من طلقائه ... من ليس ممن دان ممن حينا النصف الأول مكتفٍ. والطلقاء: جمع طليق, وهو الأسير الذي يطلق من القد, أو يكون الإنسان قادرًا على عقوبته فلا يفعل به إلاخيرًا. وكان المسلمون يسمون الذين أقاموا بعد فتح مكة: الطلقاء؛ لأن النبي صلى الله عليه أطلقهم لما قفل. وقوله: لما قفلت من السواحل نحونا ... قفلت إليها وحشة من عندنا يقال للجيش إذا رجع إلى أوطانه: قفل, وكذلك للغائب إذا آب إلى أهله. يقول: لما قفلت من السواحل كانت عندنا وحشة لك فرحلت إلى حيث كانت. وقوله: أرج الطريق فما مررت بموضعٍ ... إلا أقام به الشذى مستوطنا أرج: أي طابت رائحته, أي إذا مررت بموضع صارت له ريا ذكية. والشذى: رائحة العود الذي يتبخر به. مستوطنًا: أي قد جعله وطنه. وقوله: سلكت تماثيل القباب الجن من ... شوقٍ بها فأدرن فيك الأعينا التماثيل: جمع تمثالٍ, وهذا المثال للأسماء دون المصادر, يقال في واحد التماثيل: تمثال, قال امرؤ القيس: [الطويل] ألا رب يومٍ قد لهوت وليلةٍ ... بآنسةٍ كأنها خط تمثال وقال عبدة بن الطبيب: [البسيط] فيه الدجاج وفيه الأسد مخدرةً ... من كل شيء يرى فيه تماثيل وقال قوم: قد جاء مصدران على تفعالٍ, وهما: التلقاء والتبيان. يقول: سلكت الجن تماثيل القباب إليك, وإنما فعلت ذلك لأن عادتها جرت بأن لا تظهر للإنس.

وقوله: طربت مراكبنا فخلنا أنها ... لولا حياء عاقها رقصت بنا المراكب: جمع مركبٍ وهو الذي يوضع على ظهر الدابة لتركب, ويجوز أن تسمى الدابة مركبًا, وكون المركب في معنى السرج أبلغ في هذا الموضع؛ لأن الدابة حيوان فهي أقرب إلى الرقص من الذي يركب فيه. وقوله: عقدت سنابكها عليها عثيرًا ... لو تبتغي عنقًا عليه أمكنا العثير: الغبار. يقول: هذه الخيل قد أثارت غبارًا انعقد؛ فلو ابتغت العنق عليه لأمكنها ذلك, وهذا نحو من قوله: [الوافر] عجاج تعثر العقبان فيه ... كأن الجو وعث أو خبار وقوله: فعجبت حتى ما عجبت من الظبى ... ورأيت حتى ما رأيت من السنا يقول: عجبت حتى لم يبق لي عجب إلا رأيته, ورأيت السنا حتى منعني نوره من الإبصار فلم أره. وقوله: فطن الفؤاد لما أتيت على النوى ... ولما تركت مخافةً أن تفطنا يقول: إن أراك عسكرًا في عسكرٍ؛ أي كأنك وحدك جماعة كثيرة. ووصفه بالفطنة, وزعم أنه يفطن لما يفعله الشاعر, ولما لم يفعله مخافة أن يعلم به. يقول: إن كنت أتيت شيئًا وأنت غائب فأنت عالم به. (229/أ) فكأنه يقول: لم أزل أثني عليك في غيبتك وحضورك وأنت عالم بذلك. وقوله: ولما تركت مخافةً أن تفطنا؛ كأنه أراد ذم قومٍ فترك ذمهم لأنه خشي أن يفطن بذلك الممدوح فيكرهه. وقوله: أشحى فراقك لي عليه عقوبةً ... ليس الذي قاسيت منه هينا

الهاء في عليه عائدة على ما ذكره مخافة أن يفطن الممدوح؛ أي فراقك أمسى كالعقوبة على ما تركته. والهاء في منه عائدة على الفراق. والمقاساة: الممارسة للشيء بمشقة وصعوبة, وهي من قولهم: فلان قاسي القلب؛ إذا كان غليظًا لا رحمة له. وقوله: فاغفر فدى لك واحبني من بعدها ... لتخصني بعطيةٍ منها أنا إذا رويت: فدى فالمعنى فدى لك أنا, وأنا فدى لك. ويروى: فاغفر ذنوبي - وهو أبين - واحبني من بعدها. إذا رويت: ذنوبي, فالهاء عائدة على الذنوب, وإذا رويت: فدى لك, فالهاء عائدة على الجناية والزلة, ويجوز أن تعود إلى العقوبة التي في البيت المتقدم. وقوله: لتخصني بعطيةٍ منها أنا؛ أي إذا غفرت ذنوبي فكأنك قد وهبت لي نفسي لأنك لم تقتلني. وقوله: وانه المشير عليك في بضلةٍ ... فالحر ممتحن بأولاد الزنا الزنا: يمد ويقصر, وهو في الكتاب العزيز مقصور, وإذا مد جاز أن يكون من: زانى الرجل المرأة زناءً. قال الشاعر: [الطويل] أبا حاضرٍ من يزن يعرف زناؤه ... ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكرا ويقال: مشورة ومشورة, فالمشورة, مثل: المثوبة في الوزن والمعونة وعينها معتلة, فإذا قيل: المشورة فهي اسم غير جارٍ على الفعل؛ فلذلك صحت الواو. والضلة: الفعلة من الضلال الذي هو ضد الهدى. وقوله: وإذا الفتى طرح الكلام معرضًا ... في مجلسٍ أخذ الكلام اللذعنا يقال: إن اللذعن الكلام البين الذي ليس فيه مواراة, وهذه الكلمة في كتاب العين لم

تأت في شعرٍ فصيح قديمٍ إلا أن تكون شاذة. وقالوا: أراد باللذعن؛ أي: الذي عنا فسكن ذال الذي وحذف الياء. وقوله: ومكائد السفهاء واقعة بهم ... وعداوة الشعراء بئس المقتنى المكائد: جمع مكيدةٍ من قولهم: كاد الرجل غيره إذا أراد شرًا يخفيه, وتسمى الحرب: كيدًا. يقول: من أراد كيدًا يبرئ من الذنوب وقع فيما كاد. قال الراجز: [الرجز] إني حفرت حفرةً أخفيها ... حفرة سوءٍ فوقعت فيها وتهدد الذين كادوه, وزعم أن عداوة الشعراء بئس ما اقتناه الإنسان؛ وقد سبق غيره إلى مثل هذا المعنى وهو ابن الرومي, فقال: [الكامل] لا تقبلن الشعر ثم تعقه ... وتنام والشعراء غير نيام فجناية الجاني عليهم تنقضي ... وعقابهم باقٍ على الأيام وقوله: لعنت مقارنة اللئيم فإنها ... ضيف يجر من الندامة ضيفنا الضيفن: ضيف الضيف, فإذا أخذ من الضيافة فوزنه فعلن والنون زائدة. قال الشاعر: [الطويل] إذا جاء ضيف جاء للضيف ضيفن ... فأودى بما تقري الضيوف الضيافن وقال قوم: الضيفن مشتق من الضفن وهو الأحمق الثقيل الكثير اللحم. وقال قوم: الضفن ضيف الضيفن, وإذا قيل: إن الضيفن مشتق من الضفن فوزنه فيعلن؛ فيقال للمرأة: ضفنة. قال جرير: [الكامل]

تلقى الضفنة من بنات مجاشعٍ ... ولها إذا انحل الإزار حران يقول: مقارنة اللئيم ضيف يجر من الندم ضيفنًا. وقوله: أمسى الذي أمسى بربك كافرًا ... من غيرنا معنا بفضلك مؤمنا (229/ب) المؤمن: المصدق. والمعنى أن أصحاب الشرائع المخالفة للإسلام, والذين يرون رأي الدهرية كلهم يجمعون معنا على التصديق بفضلك, وهم يخالفوننا في الدين, وبعضهم كفار. والكافر مشتق من: كفر الشيء إذا غطاه. وقوله: خلت البلاد من الغزالة ليها ... فأعاضهاك الله كي لا تحزنا قد مر ذكر الغزالة, وأعاض في معنى عوض. والصواب عند النحويين إذا اجتمع الضميران: ضمير المخاطب وضمير الغائب فالواجب أن يقدم ضمير المخاطب, فكان الأجود أن يقول: عاضكها الله. وفي كتاب سيبويه هذا البيت: [الطويل] وقد جعلت نفسي تهم بضغمةٍ ... كضمهماها يقصم العظم نابها الضغمة: العضة, ومنها اشتقاق الضيغم, وهو الأسد. ويروى: كضغمكما, فإذا رويت بالكاف فقد جمع بين ضمير المخاطب وضمير الغائب, وإذا رويت: كضغمهماها فالضميران الغائبان والضمير المؤنث عائد على قوله: نفسي. والأحسن في مثل هذه المواضع أن يكون الضمير منفصلًا, وهو: إياه وإياها. وحدث من يوثق به أن أبا الطيب قال: خلت البلاد من النبي محمدٍ ثم غير البيت بقوله: الغزالة ليلها. والقافية من المتدارك.

ومن أبيات أولها

ومن أبيات أولها يا بدر إنك والحديث شجون ... من لم يكن لمثاله تكوين الوزن من الكامل الثاني. وقوله: الحديث شجون أي يتصل بعضه ببعضٍ, وقد مضى ذكره. ومدحه بأن لم يكن مثله. والمثال والمثل في معنى واحد. وقوله: لعظمت حتى لو تكون أمانةً ... ما كان مؤتمنًا بها جبرين قد أنكر الصاحب ابن عباد عليه قوله: جبرين, وزعم أنها كلمة مستنكرة. واللام والنون متقاربتان فلذلك جاءت بهما العرب في القافية على سبيل الغلط وهو الذي يسمى: الإكفاء. قال الراجز: [الرجز] بنات وطاء على خد الليل ... لا يشتكين عملًا ما أنقين ما دام مخ في سلامى أو عين ... لأم من لم يتخذهن الويل ويقال: أصيلال وأصيلان لآخر النهار. وأبنت الميت وأبلته إذا رثيته. قال الشاعر: [الوافر] بني إذا هلكت فأبلوني ... فإني قد كفيتكم السبابا وقالوا: إسماعين في معنى إسماعيل, وأنشد الفراء: [الرجز] يقول أهل السوق لما جينا ... هذا ورب بيت إسماعينا

ومن أبيات أولها

ومن أبيات أولها أبلى الهوى أسفًا يوم النوى بدني ... وفرق الهجر بين الجفن والوسن الوزن من أول البسيط, والقافية من المتراكب. قوله: روح تردد في مثل الخلال إذا ... أطارت الريح عنه الثوب لم يبن يقال للعود الدقيق الذي يتخلل به الإنسان: خلال, وجمعه اخلة, وإنما قيل له ذلك لأنه يتخلل ما بين الأسنان؛ أي يدخل في الخلل الذي بينها. ويقولون: خل الخباء بالعود إذا أدخله فيه. قال الشاعر: [الوافر] سمعن بيومه فظللن نوحًا ... قيامًا ما يخل لهن عود ومن التي أولها أفاضل الناس أغراض لذا الزمن ... يخلو من الهم أخلاهم من الفطن الوزن من أول البسيط. إذا قيل: هذا أفضل من فلانٍ فجاءت «من» بعد «أفعل» لم يثن, ولم يجمع, ولم يؤنث, فإذا حف حرف الخفض قيل: هذا أفضل القوم, ويجوز حينئذ أن يجمع فيقال: هؤلاء أفاضل الناس. وإذا (230/أ) قلت: هذا الأفضل فقلما تدخل عليه التثنية, والقياس يوجب دخولها عليه. والناس: أصلهم أناس؛ فحذفت الهمزة لكثرة الاستعمال, وإنما يحذفون الهمزة إذا جاءت الألف واللام كقوله تعالى: {قل أعوذ برب الناس} , وغير ذلك من تردد هذه

الكلمة في الكتاب العزيز. ووزن أناسٍ: فعال, ووزن ناسٍ: عال لأن الهمزة فاء الفعل, قال القطامي: [البسيط] والناس من يلق خيرًا قائلون له ... ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل وقوله: وإنما نحن في جيلٍ سواسيةٍ ... شر على الحر من سقمٍ على بدن يقال: قوم سواسية؛ أي مستوون في الضعة. وحكي: سواسوة. ومن أمثالهم: «سواسية كأسنان الحمار» , وقال الشاعر: [الطويل] سواسية سود الوجوه كأنما ... بطونهم من كثرة الزاد أوطب وقال آخر: [الطويل] لهم مجلس سود الوجوه أذلة ... سواسية أحرارها وعبيدها وقوله: حولي بكل مكانٍ منهم خلق ... تخطي إذا جئت في استفهامها بمن خفف همزة تخطئ, وقد فعل ذلك في غير موضع. والمعنى يحتمل وجهين: أحدهما: أن تكون تخطئ فيه ضمير عائد على الخلق. يريد أنهم إذا قيل للرجل منهم: من أنت؟ لم يهتد للبيان في الجواب بل يخطئ فيه, وهذه مبالغة في الصفة بالجهل. والآخر: أن يكون المعنى: تخطئ أيها الرجل إذا قلت لبعضهم: من أنت؟ لأن من إنما تكون لمن يعقل, وهذه الخلق ليست لها عقول.

وقوله: لا أقتري بلدًا إلا على غررٍ ... ولا أمر بخلقٍ غير مضطغن أقتري من قروت الشيء إذا تتبعته على غررٍ؛ أي إني أغرر بنفسي في المسير بين هؤلاء العالم. والمضطعن: المفتعل من الضغن, وهذه الطاء تاء في الأصل. وقد مضى القول في أن تاء الافتعال وما تصرف منه إذا وقعت بعد طاءٍ أو ظاءٍ أو ضادٍ قلبت طاءً؛ فلو صغر مضطغن لقيل مضيغن. وقوله: ولا أعاشر من أملاكهم أحدًا ... إلا أحق بضرب الرأس من وثن الوثن: الصنم, وهو معروف؛ يقال إنه من: وثن بالمكان إذا أقام به. وقوله: إني لأعذرهم مما أعنفهم ... حتى أعنف نفسي فيهم وأني أني من قولهم: ونى الرجل يني إذا قصر في الأمر, والرجل وانٍ. قال الشاعر: [الطويل] أناةً وحلمًا وانتظاراً بهم غداً ... فما أنا بالواني ولا الضرع الغمر يقال: ونى يني ونياً. وزعم قوم أن الونا يمد ويقصر, وهو مقصور في قول امرئ القيس: [الطويل] مسح إذا ما السابحات على الونى ... أثرن غباراً بالكديد المركل وقوله: ومدقعين بسبروتٍ صحبتهم ... عارين من حللٍ كاسين من درن المدقعون: جمع مدقع وهو الذي قد افتقر حتى لحق بالدقع وهو التراب, ونحوه قولهم للفقير: مرمل أي قد افتقر حتى لصق بالرمل كأنه ينام عليه من غير وطاءٍ. والسبروت: الأرض المقفرة التي لا شيء بها. قال الأعشى: [الطويل]

سباريت أمراتاً قطعت بجسرةٍ ... إذا الجبس أعيا أن يروم المسالكا سباريت: جمع سبروت, ويقال للفقير: سبروت, وقيل لأعرابي: ما السبروت فقال: كأنا الغداة. ويقال: ما له سبروت أي ما له شيء. قال الراجز: [الرجز] يا بنت شيخٍ ما له سبروت وقوله: عارين من حلل, أي لا لباس عليهم. والحلة عندهم ثوبان. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه اشترى حلة ذي جدنٍ بثلثمائة دينارٍ فلبسها ساعةً ثم خلعها على أسامة بن زيد, وقال: «خشيت أن تفتنني». ويقال في جمع الحلة: حلل وحلال, كما يقال: جلة وجلل (230/ب) وجلال لقوصرة التمر. قال ذو الرمة: [الوافر] نعوضه المئين مكملاتٍ ... مع البيض الكواعب والحلالا والدرن: الوسخ. يريد أن هؤلاء القوم لا ثياب عليهم وهم كاسون من الدرن. قال أبو الأخزر الحماني: [الرجز] يعبق داري الإناب الأدكن ... منه بجلدٍ طيبٍ لم يدرن الإناب: المسك, وقيل: هو ضرب من الطيب. وقوله:

خراب باديةٍ غرثى بطونهم ... مكن الضباب لهم زاد بلا ثمن الخراب: جمع خاربٍ, وأصله الذي يسرق الإبل خاصة, ثم قيل لكل لص: خارب. قال الشاعر: [الرجز] والخارب اللص يحب الخاربا ... وتلك قربى مثل أن تناسبا أن تشبه الضرائب الضرائبا وقال آخر: [الرجز] إن بها أكتل أو رزاما ... خويربين ينقفان الهاما لم يدعا لمسلمٍ طعاما ومكن الضباب: بيضها؛ يقال: ضبة مكون إذا كان في بطنها بيض. وفي حديث أبي وائل شقيق بن سلمة: «ضبة أحب إلي من دجاجةٍ سمينة». وقوله: يستخبرون فلا أعطيهم خبري ... وما يطيش لهم سهم من الظنن يقول: إذا سألوني عن خبري كتمته لأني أريد حاجةً لا ينبغي لي أن أظهرها. ومن

كلام النبوة: «استعينوا على أموركم بالكتمام». وذكر أن هؤلاء القوم لهم ظنون صحيحة, فإذا رموا بسهام ظنونهم أصابوا. وقوله: وخلةٍ في جليسٍ أتقية بها ... كيما يرى أننا مثلان في الوهن يقال: وهن ووهن أي ضعف, والخلة: الخصلة تكون المحمودة وتكون المذمومة, وهي هاهنا الذميمة. والمعنى: أنه إذا رأى رجلًا فيه عيب أراه أن ذلك العيب فيه يتقرب إليه بذلك. وهذا يتفق كثيرًا للناس؛ ومنه أن الرجل العالم بالكلام والإعراب إذا جالس العامة لم يعرب في كلامه مخافة أن ينكروا عليه ذلك, وهو مثل قد سار في العامة: «إن زربت أرضاً إهلها كلهم عور فغمض عينك الواحدة». وقوله: وكلمة في طريقٍ خفت أعربها ... فيهتدى لي فلم أقدر على اللحن يقال: كلمة وكلمة؛ إلا أن فتح الكاف وكسر اللام هي اللغة الفصيحة. ويقال: كلمة بكسر الكاف وسكون اللام وهو مجانس لقولهم: كتف في: كتفٍ, وكبد في: كبدٍ. وأراد: خفت أن أعربها فحذف أن, وقد أكثر من ذلك في ديوانه. ووصف الشاعر نفسه بالفصاحة, وزعم أنه لا يقدر أن ينقل طبعه عن الإصابة, وأنه ربما احتاج إلى إخفاء نفسه بترك الإعراب في كلامه فلم يقدر على ذلك. واللحن الذي هو خطأ في الإعراب: المعروف فيه سكون الحاء, واللحن بفتحها: الفطنة. والكوفيون يرون أن الحرف الثلاثي إذا كان ساكن الأوسط, وهو مع سكونه حرف من حروف الحلق؛ جاز فيه السكون والفتح, ويجعلون ذلك مطرداً. والبصريون يردونه إلى السماع.

وقوله: كم مخلصٍ وعلاً في خوض مهلكةً ... وقتلةٍ قرنت بالذم في الجبن يقول: كم خلاصٍ كان سببه خوض مهلكةٍ. إذا فتحت الميم فهي اسم لموضع الهلاك؛ فإذا ضمت الميم فهي الهلك بعينه. يقول: إن الإنسان إذا صبر على الشدائد جاز أن يصل إلى ما يؤثر وهو محمود, والجبان طال ما قتل وذم فجمع له جنسان من الشر: قتله وذمه. وقوله: لا يعجبن مضيماً حسن بزته ... وهل يروق دفيناً جودة الكفن (231/أ) المضم الذي يقع به الضيم وهو الظلم والإذلال. يقول: لا يعجبن من هو ذليل حسن بزته - والبزة يراد بها ما يلبس من الثياب - فهو مثل الميت الذي دفن, والميت لا يروقه؛ أي لا يعجبه؛ حسن الكفن. وقوله: مدحت قوماً وإن عشنا نظمت لهم ... قصائداً من إناث الخيل والحصن أظهر الندم على مدح رجالٍ, وزعم أنه إن عاش نظم لهم قصائد من الخيل؛ أي إنه يجمعها كما يجمع القصائد من الكلام. والحصن: جمع حصانٍ وهو الذكر من الخيل. وقوله: تحت العجاج قوافيها مضمرةً ... إذا تنوشدن لم يدخلن في أذن لما شبه الخيل بالقصائد أتبع ذلك بما يشبهه من الكلام فجعل لها قوافي, والهاء والألف في قوافيها ترجع إلى القصائد. وزعم أنهن إذا تنوشدن لم يدخلن في أذنٍ؛ فكأنه ألغز تناشد الضالة عن تناشد الشعر. يقال: نشدت الضالة إذا طلبتها, وأنشدتها إذا عرفتها. وقولهم: أنشدت الشعر مأخوذ من قولهم: أنشدت الضالة؛ لأن المنشد له يعزوه إلى قائلة, فكأنه الضالة يردها عليه. يقال: نشد الراعي الناقة نشيداً, وأنشد الرجل الشعر نشيدًا أيضًا. قال الشاعر: [الوافر] وأنا نعم أحلاس القوافي ... إذا استعر التنافر والنشيد

وقال بعد يغوث الحارثي: [الطويل] نشيد الرعاء المصدرين المتاليا يقول: هذه الخيل ليست كالقصائد إذا تنوشدت تدخل في الآذان. وقوله: فلا أحارب مدفوعاً على حذرٍ ... ولا أصالح مغروراً على دخن يقول: لا أمتنع من عدوي بحذارٍ, ولا أصالح, وفي قلبي حقد. والدخن ما يجده الرجل في قلبه من العداوة. وفي الحديث المأثور: «هدنة على دخنٍ وجماعة على أقذاء». وأصل الدخن تغير اللون, وأن يكون يضرب إلى لون الدخان, وإنما يعني تغير القلب بالعداوة. وقوله: مخيم الجمع بالبيداء يصهره ... حر الهواجر في صم عن الفتن المخيم: المقيم, وأصل ذلك من نصب الخيام. ويجوز نصب مخيمٍ ورفعه؛ الرفع على إضمار المبتدأ والنصب على الحال. ويصهره؛ أي يذيبه, والصهارة ما أذيب من الشحم. قال الراجز: [الرجز] لا تعدمن ضيفنا والحاره ... من القدير ومن الصهاره ويقال: فتنة صماء إذا وصفت بالشدة. وقوله: ألقى الكرام الأولى بادوا مكارمهم ... على الخصيبي عند الفرض والسنن

فهن في الحجر منه كلما عرضت ... له اليتامة بدا بالمجد والمنن يقول: اعتمد الكرام الذين ذهبوا في حفظ المكارم على الخصيبي؛ فجعلوا أمرها إليه فهن في حجره يكفلهن كما يكفل أيتام الناس, وإذا عرضت اليتامى له ليحسن إليه بدأ بالمجد والمنن. خفف همزة بدأ للضرورة. يقول: هذا الحاكم يرى المكارم عنده كالأيتام فيبدأ بالإحسان إليها قبل إحسانه إلى بني آدم. وقوله: غض الشباب بعيد فجر ليلته ... مجانب العين للفحشاء والوسن يريد أنه شاب وهو مع ذلك ناسك يبعد فجر ليلته لأنه يتهجد ويقوم للصلاة فيطول عليه الليل؛ لأن الراقد لا يحس بأن الليل طويل. وقوله: شرابه النشح لا للري يطلبه ... وطعمه لقوام الجسم لا السمن النشح أن يشرب الإنسان دون الري. قال ذو الرمة: [البسيط] وقد نشحن فلا ري ولا هيم وصفه بقلة الشرب والطعام؛ لأن العرب تذم ملء البطن من المأكول. قال عروة بن الورد: [الطويل] (231/ب) أقسم جسمي في جسومٍ كثيرةٍ ... وأحسو قراح الماء والماء بارد يعني أنه يقتنع بالشيء القليل ويقسم قوته بين من هو أحود إليه منه؛ ولو أكله لزاد في جسمه ولكنه يفرقه؛ وكأنه يجعل ما نقص من لحم جسم نفسه زيادةً في جسوم المحتاجين. وقال أبو خراش الهذلي: [الطويل] أرد شجاع البطن قد تعلمينه ... وأوثر غير من عيالك بالطعم

وأغتبق الماء القراح فأنتهي ... إذا الزاد أمسى للمزلج ذا طعم وقوله: القائل الصدق فيه ما يضر به ... والواحد الحالتين السر والعلن يقول: هذا الرجل يقول الصدق وإن كان مضرًا به, لا يمنعه خوف الضرر من قول الحق, وسره كعلنه, وذلك نهاية في وصف الإنسان؛ ونحو من ذلك قول القائل: [الطويل] رآني على ما بي عميلة فاشتكى ... إلى ماله حالي أسر كما جهر أي إنه أسر الإحسان إلي وأظهره لي. وقوله: الفاصل الحكم عي الأولون به ... ومظهر الحق للساهلي على الذهن عي الأولون أي عيوا؛ يقال: عيي الرجل بيائين, وعي على الادغام. يقول: هذا الحاكم يهتدي من فصل الأحكام إلى ما عجز عنه الأولون, والساهي: الذي به غفلة لا يدري كيف يناظر خصمه. والذهن: الفطن الجيد اللب. وقوله: أفعاله نسب لو لم يقل معها ... جدي الخصيب عرفنا العرق بالغصن يقول: أفعاله نسب تدل على أن أصله كريم فلو لم ينتسب إلى الخصيب لعلمنا أنه ولده؛ كما أنا إذا رأينا الغصن من الشجرة أخبرنا ذلك عن عرقها الذي هو متوارٍ في الأرض. وقوله: العارض الهتن ابن العارض الهتن ... ابن العارض الهتن ابن العارض الهتن يقال: هتن الغيم وهتل إذا جاء بالمطر, والعارض: السحاب الذي يعرض, وفي الكتاب

العزيز: {هذا عارض ممطرنا} , وبعض الناس يعيب هذا البيت على أبي الطيب فينبغي أن يقال له ما قال أبو عبادة: [البسيط] إذا محاسني اللاتي أدل بها ... كانت ذنوبي فقولي كيف أعتذر وهذا البيت قلما يوجد مثله لأنه وصف الممدوح بوصفين, ثم وصف ثلاثةً من آبائه بمثل ما وصفه به؛ وقلما يتفق مثل هذا النظام؛ وهو يشابه قوله: [الطويل] وحمدان حمدون وحمدون حارث ... وحارث لقمان ولقمان راشد وقوله: قد صيرت أول الدنيا وآخرها ... آباؤه من مغار العلم في قرن يقول: آباؤه قد أغارت حبلًا في العلم قرنت به أول الدنيا وآخرها فجعلها معلومة الأمور. والقرن: الحبل الذي يقرن به البعير إلى غيره, وكل ما قرن به شيئان فهو قرن. قال الشاعر: [الطويل] فلو عند غسان السليطي عرست ... رغا قرن منها وكاس عقير يعني بالقرن: البعير المقرون بالحبل. وقال جرير: [البسيط] وقطعوا من حبال الوصل أقرانا أي حبالًا كثيرةً. وقوله: كأنهم ولدوا من قبل أن ولدوا ... وكان فهمهم أيام لم يكن

يقول: كأن هؤلاء القوم علموا بالأشياء فكأنهم داروا في الدهر الأقدم قبل أن تولد شخوصهم, وكأن علمهم كان قبل كونه. وكان ها هنا في معنى حدث تكتفي باسمٍ واحد. وقوله: الخاطرين على أعدائهم أبداً ... من المحامد في أوقى من الجنن (232/أ) الجنن: جمع جنة, وهي ما تتقى به الحرب من درعٍ وغيرها. والخاطرين: جمع خاطرٍ من قولهم: خطر الرجل في مشيته إذا ظهر فيها بعض الاختيال؛ وذلك مما يحمل الصديق على أن يتكلم في الإنسان. وهؤلاء القوم يمرون بأعدائهم وهم خاطرون؛ فلا يقدر عدو أن يعيبهم بكلمةٍ؛ فالمحامد لهم أوقى من الدروع والترسة وغيرها من العدد. وقوله: للناظرين إلى إقباله فرح ... يزيل ما بجباه القوم من غضن يقول: هذا الممدوح يفرح الناظرون إلى إقباله حتى تنبسط أبشارهم فيزول ما بجباههم من الغضن, وهو تكسر في الجلد. والإقبال ها هنا يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون من أقبل شخص الرجل ضد أدبر. و: من أقبل إذا أريد به إقبال السعود. وقوله: كأن مال ابن عبدالله مغترف ... من راحتيه بأرض الروم واليمن يقول: مال هذا الرجل مفرق على الناس فكأن البعيد منه قريب؛ فأهل اليمن ومن بأرض الروم كأنهم يغترفون ماله من راحتيه. وقوله: لم نفتقد بك من مزنٍ سوى لثقٍ ... ولا من البحر غير الريح والسفن المزن: جمع مزنةٍ, وهو من الجمع الذي ليس بينه وبين واحده إلا الهاء, كقولك: برة وبر, ويقال: إن المزنة السحابة البيضاء, وربما قالوا: المزنة السحاب مرسلًا. ومن قال: المزن فسكن الزاي جاز له أن يضم الزاي كما يقال: شغل وشغل؛ لأن هذا الجمع يجري مجرى الواحد؛ فيجوز أن يقال في الجمع: مزن, مثل: ظلمة وظلم, ويقال للهلال: ابن مزنةٍ. قال ابن قميئة: [المتقارب]

كأن ابن مزنته ماثلًا ... فسيط لدى الأفق من خنصر واللثق: ما يحدث عن المطر من طينٍ ليس بكثيرٍ. وقيل: لا يكون اللثق إلا مع سكون ريح. زعم أن الممدوح لا يفتقد معه من الغيث إلا لثقه, ولا من البحر إلا ريحه وسفنه. وقوله: ولا من الليث إلا قبح منظره ... ومن سواه سوى ما ليس بالحسن جمع في هذا البيت كل الأشياء المستحسنة, وادعى أنه لا يفتقد مع هذا الممدوح شيئًا يستحسن من جميع الأشياء. وقوله: منذ احتبيت بأنطاكية اعتدلت ... حتى كأن ذوي الأوتار في هدن الاحتباء: مصدر احتبى الرجل إذا شد حبوته, وقد مر ذكرها. يقول: منذ أقمت بأنطاكية اعتدلت؛ أي تعادل أمرها وتساوى في الخير؛ حتى كأن ذوي الأوتار - أي الحقود - في هدنٍ: جمع هدنةٍ وهي الموادعة والسكون. وقوله: ومذ مررت على أطوادها قرعت ... من السجود فلا نبت على القنن الأطواد: الجبال, وجبل أنطاكية يقال له: الأقرع. ادعى الشاعر أن هذا الرجل مذ مر بأجبال هذا البلد قرعت من السجود لله سبحانه؛ لأنها استعظمت ما شاهدته, فليس في رؤوسها نبت. والقنن: جمع قنةٍ وهو أعلى الجبل. قال الراجز: [الرجز] إن لنا لكنه ... سمعنه نظرنه كالريح حول القنه ... إلا تره تظنه

وقوله: أخلت مواهبك الأسواق من صنعٍ ... أغنى نداك عن الأعمال والمهن الصنع: كل من يباشر صناعةً كالحديد والصياغة وجميع الأشياء. فادعى الشاعر أن مواهب الممدوح قد أغنت الصناع عن الصنائع وأن يخدم بعض الناس بعضاً. والمهن: جمع مهنةٍ وهي الخدمة, وقال بعض أهل العلم: المهنة (232/ب) بفتح الميم أفصح, وأما المهن فجمع مهنةٍ بكسر الميم. وقوله: فمر وأوم تطع قدست من جبلٍ ... تبارك الله مجري الروح في حضن مر: أمر من أمر يأمر, وهو أحد الحروف التي جاءت شاذةً لأن الأصل أن يقال: أومر؛ فاستثقلوا ذلك فحذفوا الهمزة الأصلية والزائدة, وردوها مع الواو والفاء؛ فقالوا: قل وأمر بما شئت, وفي الكتاب العزيز: {وأمر أهلك بالصلاة} , وقالوا: خذ وكل فلم يردوا الهمزتين إذا اتصل بهما كلام. وقدست من جبل: أصل القدس الطهارة, وهذا اللفظ يحتمل أن يكون دعاءً زخبراً, ومذهب الشاعر أن يجعله إخباراً لأن الدعاء بالشيء إنما يكون قبل كونه, والإخبار يكون مع الوقوع والحضور. فقوله: قدست من جبلٍ إنما هو في معنى: قد كان ذلك. وإذا دخلت «قد» في الكلام الذي يحتمل أن يكون دعاءً وخبراً صيرته للخبر لا غير. وحضن: اسم جبل بنجد. ومن أمثالهم: «أنجد من رأى حضناً»؛ أي: من رأى هذا الجبل فقد حصل بنجدٍ, ويقال ذلك للرجل الذي قد بلغ حاجته, وإن كان ليس في بلاد نجد ولا قريباً من حضن. وقافيتها من المتراكب.

ومن أبيات أولها

ومن أبيات أولها إذا ما الكأس أرعشت اليدين ... صحوت فلم تحل بيني وبيني الوزن من أول الوافر. وأرعشت: أي جعلت بها ارتعاشاً وهو الاضطراب. صحوت: أي لم أسكر إذا شربت الخمر؛ لأنها لم تزل عقلي ولم تضعف جسمي. وهذا البيت إذا لم ينشد ما بعده احتمل وجهين: أحدهما: أن يكون قد شرب ولم تغيره الخمر. والآخر: أن يكون لم يشرب راحاً في هذا الأوان. وما بعد هذا البيت يدل على أنه لم يشرب راحاً. والقافية من المتواتر. ومن أبيات أولها قضاعة تعلم أني الفتى الـ ... ـذي ادخرت لصروف الزمان الوزن من أول المتقارب. وقوله: ومجدي يدل بني خندفٍ ... على أن كل كريمٍ يمان خندف: امرأة الياس بن مضر, وهي ليلى ابنة حلوان بن عمران بن إلحاف بن قضاعة. ويقال: إنه أغير على إبل الياس وله بنون ثلاثة: عمرو, وعامر, وآخر يلقب قمعة. فذهب عمرو في أمر الإبل فأدركها فسمي مدركة, وأقام يطبخ قدراً فسمي طابخة, وانقمع الآخر في بيته فسمي قمعة. وخرجت خندف من بيتها لتنظر ما يكون من حال إبلهم فرآها زوجها فقال: مالك تخندفين وقد أدركت الإبل.

ومن بيتين أولهما

والخندفة: الذهاب والمجيء. وقيل: هو السرعة, وقيل: الخندفة استدارة في المشي, وهو من مشي النساء. ويقال: يمانٍ في الرفع والخفض, ورأيت يمانياً في النصب, وهو أحد الحروف التي جاءت بتخفيف الياء في النسب. يقال: تهامٍ ويمانٍ, وقد جاء بتشديد يمانٍ في الشعر. قال أبو زيدٍ الطائي: [الخفيف] ترهب السوط في اليدين وتنجو ... كاليماني طار عنه العفاء وقال آخر: [الطويل] وتصبح في أفناء أوس بن مالكٍ ... كأنك جار لليماني تبع وقوله: يرى حده غامضات القلوب ... إذا كنت في هبوةٍ لا أراني الهاء في حده ترجع إلى السيف؛ يعني أنه يضرب به حتى يبلغ غامضات القلوب؛ فكأن السيف يراها إذا كان حامله في هبوةٍ؛ أي غبرةٍ لا يرى فيها نفسه. والقافية من المتواتر. (233/أ) ... ومن بيتين أولهما كتمت حبك حتى منك تكرمةً ... ثم استوى فيك إسراري وإعلاني الوزن من ثاني البسيط. يقول: إنه كتم حبه حتى عن محبوبه, ثم غلبه الأمر فاستوى إسراره وإعلانه. وقوله: كأنه زاد حتى فاض عن جسدي ... فصار سقمي به في جسم كتماني الهاء فثي كأنه عائدة على الحب, فصار السقم الذي كان بي في جسم كتماني؛ أي إن كتماني ذاب وضعف, حتى صار يشبهني في السقم, وأنا أخفى عن الناظر. والقافية من المتواتر.

ومن التي أولها

ومن التي أولها بم التعلل لا أهل ولا وطن ... ولا نديم ولا كأس ولا سكن الوزن من أول البسيط. قوله: أريد من زمني ذا أن يبلغني ... ما ليس يبلغه من نفسه الزمن جرى في هذا البيت على عادته من المبالغة, وجعل الزمان كأنه عاقل يريد لنفسه الخير. وذهب أبو الفتح ابن جني رحمه الله إلى معنى حسنٍ, ويجوز أن يكون الشاعر لم يذهب إليه, وذلك أنه ذهب إلى أن الزمان كالذي يعقل, فيختار أن يكون كلها ربيعاً؛ لأنه زمان طيب يظهر فيه من الزهر والرياض والريا الأرجة ما لا يظهر في غيره من الأزمنة. وقوله: لا تلق دهرك إلا غير مكترثٍ ... ما دام يصحب فيه روحك البدن اكثرت: افتعل من قولهم: كرثه الأمر إذا شق عليه. قال رجل من قريش: [الكامل] منع الرقاد فما ينام الحارث ... سقم ألم به وهم كارث وجاء في شعر الصنوبري: شهر كريث بالثاء في معنى كريتٍ؛ فيقال إنه صحفه, ويجوز أن يكون ذهب إلى أن كريثاً في معنى كارثٍ؛ كما قالوا: عالم وعليم, وراحم ورحيم, فزعم أن الشهر شديد شاق عليه. وقوله: تحملوا حملتكم كل ناجيةٍ ... فكل بين علي اليوم مؤتمن كأنه دعا لنفسه بأن يتحملوا عنه وتحملهم النواجي من الإبل؛ أي السراع, وهذا ضد ما ذكره في قوله: [الكامل]

ليت الذي خلق النوى جعل الحصى ... لخفافهن مفاصلي وعظامي وذكر أن البين مؤتمن عليه, لأنه سالٍ لا يلحقه من البين ضرر, ثم شرح ما ادعاه في هذا البيت بقوله: ما في هوادجكم من مهجتي عوض ... إن مت شوقاً ولا فيها لها ثمن يقول: سلوت عنكم كأن هوادجكم ليس لي فيها عوض من نفسي وإن هلكت شوقاً, وليس في الهوداج ثمن لها. والهودج كلمة قد تكلمت بها العرب قديماً؛ ويجوز أن يكون اشتقاقها من الهدجان والهداج وهو مشي متقارب الخطو. قال الشاعر: [الوافر] ويأخذه الهداج إذا هداه ... وليد الحي في يده الرداء فكأنهم أرادوا بالهودج أنه إذا حمل على البعير وركبت فيه المرأة ثقلت عليه فهدج تحتها. وقوله: قد كان شاهد دفني قبل قولهم ... جماعة ثم ماتوا قبل من دفنوا هذا البيت فيه تهزؤ بالناعين له. يقول: زعموا أني دفنت ثم ماتوا قبلي. وقوله: دفنوا إنما يريد أنهم قالوا ذلك لأن المعنى يصح على هذا التأويل, وإذا قال الرجل: قتل فلان ثم علم أنه حي جاز أن يقال له: لم قتلته؛ أي لم قلت ذلك اللفظ. وقوله: (233/ب) رأيتكم لا يصون العرض جاركم ... ولا يدر على مرعاكم اللبن قالوا: يدر ويدر إذا غزر وكثر, وهذا مثل ضربه بدر اللبن؛ وإنما جعله كناية عن الخير؛ أي مرعاكم لا يدر عليه اللبن؛ أي: إذا أصيب منكم خير لم تكن له عاقبة تحمد. وقوله: جزاء كل قريبٍ منكم ملل ... وحظ كل محب منكم ضغن أي: إذا قرب الإنسان منكم مللتموه, وتجازون محبكم بأن تضطغنوا عليه. والضغن والضغن واحد.

وقوله: وتغضبون على من نال رفدكم ... حتى يعاقبه التنغيص والمنن أي: حتى يكون في عاقبته تنغيص بالمنن على أخذه. ويجوز أن يكون يعاقبه من تعاقب الراكبين على الدابة. يريد أن رفدكم والتنغيص لا يجتمعان فيسهل أحدهما الآخر؛ ولكن التنغيص يجيء ولا رفد معه. وقوله: فغادر الهجر ما بيني وبينكم ... يهماء تكذب فيها العين والأذن اليهماء: الأرض التي لا يهتدى لها؛ كأنه يخبر الذين يخاطبهم أنه قد بعد عن بلادهم, فصار بينه وبينهم يهماء تكذب فيها العين والأذن لأنها بعيدة الأرجاء, والعين لا تتبين فيها الشخص على حقيقته, وكذلك الأذن ليس سمعها في هذه المقفرة بالصحيح. وقوله: تحبو الرواسم من بعد الرسيم بها ... وتسأل الأرض عن أخفافها الثفن يقال: حبا البعير حبواً إذا عجز عن القيام فحبا وهو بارك. قال الراجز: [الرجز] يا حكم الوارث عن عبدالملك ... هلكت إن لم تحب حبو المعتنك يقال: اعتنك البعير إذا وقع في عانكٍ من الرمل, وهو رمل كثير يصعب المشي فيه. والرواسم: نوق تسير الرسيم, وهو ضرب من السير سريع. قال حميد بن ثور: [الطويل] أرسما: أي حملا البعيرين على الرسيم. يريد أن النوق حبت في هذه الأرض لأنها

عجزت عن السير. والثفن: جمع ثفنةٍ وهو ما يصيب الأرض من البعير إذا برك. يقول: قد ذهبت أخفاف هذه الإبل لطول السفر؛ فثفناتها تقول للأرض: ما فعلت أخفافي؟ أي إن ثفناتها قد باشرت الأرض لأنها تحبو للضعف. وقوله: سهرت بعد رحيلي وحشةً لكم ... ثم استمر مريري وارعوى الوسن أصل قولهم: استمر مريري أن يقال في الحبل الذي يفتل. والمرير: جمع مريرة وهي القوة من قوى الحبل. قال توبة بن الحمير: [الطويل] لعلك يا تيساً نزا في مريرةٍ ... معذب ليلى أن تراني أزورها فالإنسان يقول: استمر مريري أي استقام أمري. وارعوى الوسن؛ أي رجع النعاس إلى عيني. وقوله: وإن بليت بود مثل ودكم ... فإنني بفراقٍ مثله قمن يقول: بليت بقوم ليس ودهم بالصحيح, وهو مثل: ودكم خؤون؛ فإني بفراقٍ مثل هذا الفراق جدير. ولو رويت: بفراقٍ مثله بنصبها لكان ذلك وجهًا قويا, وتكون الهاء راجعة إلى الود. يقال: فلان قمن وقمين بهذا الأمر, ويثنى هذا اللفظ ويجمع. فإذا قيل: قمن بفتح الميم لم تدخله التثنية ولا الجمع. قال الشاعر: [البسيط] من كان يسأل عنا أين منزلنا ... فالأقحوانة منا منزل قمن وقوله:

أبلى الأجلة مهري عند غيركم ... وبدل العذر بالفسطاط والرسن المهر: كلمة تقع على ولد الفرس منوقت نتاجه إلى أن يركب, وبعد الركوب. قال الشاعر: [الكامل] يقذفن بالمهرات والأمهار يريد أن الخيل تلقي أولادها في شدة الحرب والسير. وقال زيد الخيل (234/أ) وذكر فرساً أخذ منه: [الرمل] عودوا مهري كما عودته ... دلج الليل وإيطاء القتيل لا تذيلوه فإني لم أكن ... يا بني الصيداء مهري بالمذيل والعذر: جمع عذار الفرس. وقال: بدل العذر ولو أمكنه المجيء بالتاء لكان أحسن. والأجلة: جمع جلالٍ وهو ما يجلل به الفرس. وقوله: عند الهمام أبي المسك الذي غرقت ... في جوده مضر الحمراء واليمن مضر: يقال إنه اشتق من اللبن الماضر وهو الحامض. ويقال: مضر مأخوذ من الشيء المضر وهو الشيء الحسن الرائق. ويقال: دنيا خضرة مضرة. وإنما قيل لمضر: الحمراء؛ لأن أباهم قسم ميراثه على أولاده: فأعطى مضر قبةً حمراء كانت له, وأعطى ربيعة فرساً, وأعطى إياداً شيئاً من بناءٍ كان يملكه. وإياد الشيء: ما حوله, ويقال للحائط: إياد. وقوله: وإن تأخر عني بعض موعده ... فما تأخر آمالي ولا تهن تهن: من الوهن وهو الضعف, يقال: وهن يهن, ووهن يوهن. فالوهن بسكون الهاء مصدر

وهن بفتحها, والوهن بفتح الهاء مصدر وهن بكسرها. يقول: آمالي قوية في إكرامه لي. وقوله: هو الوفي ولكني ذكرت له ... مودةً فهو يبلوها ويمتحن يقال: فلان يمتحن فلاناً إذا كان يختبر ما عنده ويستخرجه, ومنه قوله تعالى: {فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن}. والقافية من المتراكب. ومن أبيات أولها صحب الناس قبلنا ذا الزمانا ... وعناهم من شأنه ما عنانا الوزن من الخفيف الأول. قوله: وكأنا لم نرض فينا بريب الدهـ ... ـر حتى أعانه من أعانا كلما أنبت الزمان قناةً ... ركب المرء في القناة سنانا هذا البيتان من أحسن ما قيل في إقامة الحجة على العالم وأن طباعه الشر. يقول: كأنا لم نرض بما يفعله الزمان, وإنما فعل الزمان منسوب إلى القضاء والزمان لاي فعل شيئاً, وإنما يفعل فيه. وكذلك يقال: هذا يوم سعيد, واليوم لا يحس بسعدٍ ولا نحسٍ وإنما يحس من يشتمل عليه اليوم. وأنكر القائل ما يفعله الأنيس؛ لأن الزمان إذا نبتت فيه قناة - إنما ينبتها بالطبع ولا يشعر لأي شيء تصلح - تكلف بنو آدم أن يتخذوا سناناً لتلك القناة يتوصلون به إلى هلاك النفوس. وقوله: ومراد النفوس أصغر من ... أن نتعادى فيه وأن نتفانى يقول: إنما يحصلون من دنياهم على الشيء التافه, فالذي يطلبون أصغر من أن يقع التفاني عليه, وأن تشب له العداوات المؤدية إلى الحروب.

وقد جمع هذا القائل ثلاث جملٍ في بيت يشتمل على آدابٍ ثلاثةٍ لو تأدب بها الناس لكانت المنفعة بها عظيمةً, ولكن الذاكر لها لم يأخذ بها فكيف يأخذ بها سواه؟ ! وذلك قوله: ذكر الفتى عمره الثاني وقد وهب لأبي الطيب طول عمرٍ منع منه كثير من أهل الحكم. ثم قال: وحاجته ما قاته وقد يوجد خلق كثير عنده ما يقوته من المال لسنين كثيرةٍ لا يجوز أن يعيشها مثله, وهو شديد الحرص بين الرغبة في الازدياد, وقال بعد ذلك: وفضول العيش أشغال أي إن الإنسان إذا وصل إلى ما يكفيه ففضول عيشه أشغال يشغل بها نفسه وإنه عنها لغني. وقوله: غير أن الفتى يلاقي المنايا ... كالحاتٍ ولا يلاقي الهوانا ذكر أن النفوس يصغر مرادها عن إقامة الحرب وعظيم الكلف, ثم استثنى استثناءً كالاعتذار بطلبه ما لا يحتاج إليه, وزعم أن الذي يحمله على ذلك أنفته من الهوان؛ لأن لقاء المنية أخف من لقائه. وقوله: ولو أن الحياة تبقى لحي ... لعددنا أضلنا الشجعانا يقول: لو أن الجبان يسلم من الحمام والشجاع يلقاه لكانت الشجاعة من الضلال. ثم أتبع هذا البيت بما هو له بيان فقال: (234/ب) وإذا لم يكن من الموت بد ... فمن العجز أن تكون جبانا حث بهذا البيت على الشجاعة ونهى عن الجبن؛ وإنما يكون الإنسان كما خلق؛ فإن جعل شجاعاً لم يكن موصوفاً بالجبن, وإن خلق جباناً فليس له إلى الشجاعة سبيل. وقد قال الأول: [البسيط] لقد علمت فلا أنهاك عن خلقٍ ... ألا يكون امرؤ إلا كما خلقا

ومن التي أولها

وقوله: كل ما لم يكن من الصعب في الأنـ ... ـفس سهل فيها إذا هو كانا هذا البيت حث على الصبر عند المصيبة, والعامة يقولون: الصبر ينزل مع البلية, وقد قال أوس بن حجرٍ يأمر نفسه بالصبر إذا وقع ما تكره من الأمور: [المنسرح] أيتها النفس أجملي جزعا ... إن الذي تحذرين قد وقعا وقافيتها من المتاتر. ومن التي أولها عدوك مذموم بكل لسان ... ولو كان من أعدائك القمران الوزن من ثالث الطويل] يقول: عدوك يذمه الناس, ولو كان القمران من أعدائك لكانا بين البشر مذمومين, وأراد بالقمرين: الشمس والقمر فغلب اسم القمر لأنه مذكر. وقيل في قول الفرزدق: [الطويل] أخذنا بآفاق السماء عليكم ... لنا قمراها والنجوم الطوالع أراد إبراهيم ومحمداً عليهما السلام فضرب لهما المثل بالشمس والقمر. وقوله: ولله سر في علاك وإنما ... كلام العدى ضرب من الهذيان يقول: لله سر لا يشعر به المخلوقون, وهو فيما ظهر من علاك؛ وكأن في هذا البيت تعريضًا لأن المخاطب قد أعطي ما ليس له بمستحق. وجعل كلام العداة كالهذيان ليس له تأثير. وقوله: رأت كل من ينوي لك الغدر يبتلى ... بغدر حياةٍ أو بغدر زمان فرق بين غدر الحياة وغدر الزمان, وإنما حمله على ذلك إقامة الوزن. والزمان غدره على

ضربين: أحدهما: هلاك النفوس, والآخر: هلاك المال وزوال الدول وموت الأعزاء. وغدر الحياة داخل في غدره. وقوله: برغم شبيبٍ فارق السيف كفه ... وكانا على العلات يصطحبان شبيب العقيلي كان من قوم يعرفون بالمستأمنة استأمنوا إلى سيف الدولة, وكانوا قبله مع القرامطة. وولي شبيب معرة النعمان دهراً طويلًا, ثم سار إلى مصر, ورأى أن يخرج على كافورٍ, واجتمعت إليه طائفة, وهجم بها دمشق ومعه عسكر. واختلف الناس في حديثه؛ فقيل: إن امرأةً ألقت عليه رحى يدٍ فصرعته, فلما صرع انصرف العسكر منهزماً. وقال من يدعي الخبرة بأمره: إنه كان قد حدث به صرع من شرب الخمر, وإنه عرض له في تلك الساعة فلم يدر أصحابه ما شأنه فانصرفوا وتركوه. وكان كافور قد أعد عسكراً ليجهزه إليه فكفي بالإقبال مؤونته. وفي هذا البيت معنى حسن لطيف, وذلك أن الشاعر قال: كأن رقاب الناس قالت لسيفه: رفيقك من قيس عيلان وأنت منسوب إلى اليمن, فأفسدت بين شبيبٍ وبين السيف؛ لأن عادة من ينسب إلى قيس عيلان أن يتعصب على اليمن. وقوله: وما كان إلا النار في كل موضعٍ ... تثير غباراً في مكان دخان شبهه بالنار التي تحرق, وإنما أراد أنه كان يوقد نار الحرب فكأن غبارها دخان نارٍ. وقوله: فنال حياةً يشتهيها عدوه ... وموتاً يشهي الموت كل جبان (235/أ) أي إنه مات موتةً وحيةً ولم يمت حتف أنفه فيعاني العلل والأمراض.

وقوله: نفى وقع أطراف الرماح برمحه ... ولم يخشن وقع النجم والدبران أي كان شبيب يقاتل أمثاله من الناس. والنجم هاهنا يعني به الثريا دون غيرها, ويدل على ذلك ذكره الدبران معها. والعرب تتشاءم بالدبران لأنه يدبر الثريا, واسمه كأنه مشتق من الإدبار. قال عنترة: [الكامل] يا دار ماوية بالسهب ... بنيت على خطبٍ من الخطب بنيت على سعد السعود ولم ... تبن على الدبران والقلب وإنما قالت العرب للدبران: حادي النجم لأنهم يزعمون أنه خطب الثريا ليتزوجها؛ فطلبت منه مهراً فذهب فجاءها بنجوم تسمى القلاص ودفعها إلى الثريا فكرهته هربت منه. وقد ذكرت العرب ذلك, قال بعض الشعراء: [البسيط] أما ابن طوقٍ فقد أوفى بذمته ... كما وفى بقلاص النجم حاديها وقوله: وقد قتل الأقران حتى قتلته ... بأضعف قرنٍ في أعز مكان حكى الشريف أبو إبراهيم محمد بن أحمد العلوي نضر الله وجهه: أنه كان بحضرة كافور, وأبو الطيب ينشد هذه القصيدة, فقال أبو الطيب: بأضعف قرنٍ في أذل مكان فقال كافور وهو يتكلم كلام الخدم: لا والله إلا بأشد قرنٍ في أعز مكان. فروى الناس: بأضعف قرنٍ, وجعلوا مكان أذل: أعز. وقوله: ودى ما جنى قبل المبيت بنفسه ... ولم يده بالجامل العكنان ودى من قولهم: ودى القتيل يديه إذا حمل ديته؛ أي ودى شبيب ما جناه بنفسه, ولم

يده بالجامل, وهو جمع جملٍ على غير قياسٍ. ويقال: إبل عكنان وعكنان بسكون الكاف وتحريكها؛ أي كثير. قال الراجز: [الرجز] إن ابنة القيسي سامت مهرا ... وعكناناً بازلًا وبكرا وقوله: أتمسك ما أوليته يد عاقلٍ ... وتمسك في كفرانه بعنان هذا استفهام على معنى الإنكار. والتقدير أنه يقول: أحسنت إليه إحساناً أمسكته يده, وكان لا ينبغي أن يمسك في كفران ما صنع معه بعنانٍ. يقال: أمسك الشيء وأمسك به, وقد بين الغرض في قوله: ثنى يده الإحسان حتى كأنها - وقد قبضت - كانت بغير بنان يقول: ملأت يده بالإحسان حتى ثناها إلى ورائها, فكأنها لما قبضت ما وهبت لم يكن لها بنان تطبقه على الموهوب فأرسلته. وقوله: وعند من اليوم الوفاء لصاحب؟ ... شبيب وأوفى من ترى أخوان قوله: وعند من اليوم الوفاء استفهام يدل على النفي؛ أي لم يبق في الناس وافٍ لمن يصحبه. وابتدأ في النصف الثاني: بشبيبٍ وجعل أوفى من ترى عطفاً عليه؛ والخبر قوله: أخوان؛ أي شبيب في الغدر وأوفى العالم سواء. وقوله: فما لك تختار القسي وإنما ... عن السعد يرمي دونك الثقلان يقول: ما لك تخير القسي لترمي عنها الأعداء وعن السعد يرمي الثقلان دونك؟ يعني بالثقلين: الجن والإنس. وجاء في الحديث أنه صلى الله عليه قال: «أخلف فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي». فالثقلان في الحديث تثنية ثقلٍ من قولهم: حط فلان ثقله؛ أي متاعه الذي يحمله؛ فأراد صلى الله عليه أن كتاب الله وعترته ثقلاه الذي يهمه حفظهما.

ومن أبيات أولها

وقوله: وما لك تعنى بالأسنة والقنا ... وجدك طعان بغير سنان (235/ب) يقول: لم تعن بالقنا والأسنة وجدك - أي حظك - يطعن أعداءك بغير سنان؟ وأنكر عليه حمل السيف, وهو غني عنه لما يسعده من حدثان الدهر, فقال: ولم تحمل السيف الطويل نجاده ... وأنت غني عنه بالحدثان وقوله: أرد لي جميلًا جدت أو لم تجد به ... فإنك ما أحببت في أتاني يقول: الأقدار جارية بحكمك فإذا أردت شيئاً كان, وإذا نويت أن تعطيني شيئاً وصل إلي؛ وإن لم تجد به؛ لأن الأقضية تجري بمحبتك. وقوله: لو الفلك الدوار أبغضت سعيه ... لعوقه شيء عن الدوران الناس يرفعون الفلك ولا بأس برفعه لأنه مؤد معنى قولك: لو الفلك الدوار مبغض أنت سعيه, لعوقه شيء منعه أن يدور. وكان ابن جني رحمه الله يختار النصب وهو مذهب النحويين, وليس الرفع بخطأ. ويجوز أن يضمر للفلك فعل ما لم يسم فاعله ويفسره ما بعده. والقافية من المتواتر. ومن أبيات أولها لو كان ذا الآكل أزوادنا ... ضيفاً لأوليناه إحسانا الوزن من ثالث السريع. الأزواد جمع زاد, ومنه اشتقاق المزود, فأما المزادة التي يكون فيها الماء فيجب أن يكون اشتقاقها من زاد يزيد؛ ويدل على ذلك قولهم في الجمع: مزايد, ولو أنها من ذوات الواو لوجب أن يقال: مزاود كما قالوا: مخافة ومخاوف. قال الشاعر: [الطويل] مزايد خرقاء اليدين مسيفةٍ ... أخب بهن الساقيات وأحفدا أي حملا سيرهما على الحفد وهو السرعة, ومسيفةٍ؛ أي قد أفسدت الخرز. والقافية من المتواتر.

ومن أبيات أولها

ومن أبيات أولها جزى عرباً أمست ببلبيس ربها ... بمسعاتها تقرر بذاك عيونها الوزن من ثاني الطويل. الناس يقولون في اسم هذا الموضع: أبو البيس. ويجوز أن يكون الشاعر هون على نفسه في هذه الكلمة, وإن كانت بلبيس فهي كلمة أعجمية لأن البلبسة ليست في كلام العرب المعروف. وإن كان أصلها: أبو البيس فإن الشعراء قد اجترؤوا على حذف الهمزة من الأب؛ فقالوا: يا با فلانٍ, ويا با جعادة. قال الشاعر: [الطويل] فقلت له: يا با جعادة إن تمت ... تمت سيئ الأفعال لا تتقبل وقال آخر: [الطويل] أتاني كلام عن نصيبٍ يقوله ... وما خلت با سلام أنك عائبي يريد: يا أبا سلام. وقوله: كراكر من قيس بن عيلان ساهراً ... جفون ظباها للعلى وجفونها كراكر: أي جماعات كثيرة. قال الشاعر: [الطويل] فلما هبطنا بطن مر تخزعت ... خزاعة منا في جموعٍ كراكر تخزعت: أي تفرقت وتقطعت.

ومن التي أولها

وقوله: وخص بها عبدالعزيز بن يوسفٍ ... فما هو إلا غيثها ومعينها يقال: إن المعين: الماء الذي يجري على وجه الأرض. والقافية من المتدارك. ومن التي أولها مغاني الشعب طيباً في المغاني ... بمنزلة الربيع من الزمان الوزن من أول الوافر. المغاني: جمع مغنى, وهو المنزل, واحدها مغنى. يقال: غني القوم بمكان كذا إذا أقاموا فيه. قال حسان: [الخفيف] ذاك مغنى من آل جفنة في الدهـ ... ـر وحق تعاقب الأزمان والرواية التي في أيدي الشاميين ينصبون (236/أ) فيها طيباً, ويجب أن يكون نصبه بإضمار فعل كأنه قال: تزيد طيباً أو تطيب طيباً؛ كما تقول: فلان سيراً؛ أي يسير سيراً. والبغداديون ينشدون طيباً بالرفع ويزعمون أن النصب غير جائز, وإنما فروا من أن ينصبوه على التمييز وليس ثم فعل يحمل عليه. وإذا كان العامل في التمييز فعلًا أجاز بعض النحويين تقدمه كقول الشاعر: [الطويل] أتهجر ليلى للفراق حبيبها ... وما كان نفساً بالفراق تطيب ووجه رفع الطيب أنه يجعل المغاني مبتدأً وطيباً خبرها؛ فيكون المعنى: مغاني الشعب طيب في المغاني كلها كما أن الربيع طيب في الزمان. والشعب: الطريق في الجبل. وقوله:

ولكن الفتى العربي فيها ... غريب الوجه واليد واللسان ذهب بعض الناس إلى أن اليد في هذا البيت: النعمة, وإنما أراد: أن العرب تخالف العجم في خلقها ولفظها, لأن وجوههم بينة من وجوه العرب, ولحاهم صهب وشقر. وكان مرو أبي الطيب بالكرد وأيديهم لا تشبه أيدي العرب لأنها غلاظ جعدة. وقوله: ملاعب جنةٍ لو سار فيها ... سليمان لسار بترجمان أراد أن أهلها كأنهم جن, ولم يرد أن الجن تلعب فيها؛ لأن المكان يوصف بذلك إذا كان خالياً. وقد وصف الشاعر هذا الموضع وصف آهل أي كثير الأهل. وفي البيت مبالغة عظيمة لأنه مشهور في الناس أن سليمان كان يعرف منطق الطير؛ فقال: لو سار في هذه البلاد سليمان لاحتاج إلى ترجمان. والتاء في ترجمان تفتح وتضم, والضم أقيس لأن فعللان بفتح الفاء وزن معدوم. وقوله: طبت فرساننا والخيل حتى ... خشيت وغن كرمن من الحران في طبت ضمير يعود على المغاني, يقال: طباه الشيء يطبيه ويطبوه إذا دعاه إليه بحسنه. ويقال: طبا الكلب العظم ونحوه إذا دعاه إلى عرقه. قال الشاعر: [الطويل] جليلة ضاحي الجسم ليست بغثةٍ ... ولا دفنسٍ يطبي الكلاب خمارها وقال كثير: [الطويل] له نعل لا يطبي الكلب ريحها ... وإن وضعت بين المجالس شمت حرك عن نعل. والمعنى: أن هذه المغاني دعت فرساننا والخيل المركوبة إلى المقام لما شاهدته من طيب الموضع؛ فخشيت وإن كانت خيلنا كريمةً أن يدركها حران فلا تسير.

يقال: حران وحران. والكسر أعلى. وربما نقل الحران من الخيل إلى بني آدم. وكان حبيب بن المهلب يلقلب بالحرون لأنه كان يثبت في الحرب فلا ينهزم. وقوله: غدونا تنفض الأغصان فيه ... على أعرافها مثل الجمان يقول: هذه الشجر يسقط عليها ندى الليل فهي تنفض على أعراف الخيل شيئاً كأنه الجمان. وفي هذا البيت شبه من بيت ذي الرمة, وهو قوله: [الطويل] وحف كأن الندى والشمس ماتعة ... إذا توقد في حافاته التوم أي: اللؤلؤ. وقوله: وألقى الشرق منها في ثيابي ... دنانيراً تفر من البنان يقول: هذا شجر كثير الورق ملتف؛ فضوء الشمس يدخل من خلله فيكون على الثياب كأنه الدنانير؛ إلا أنه يفر من البنان, والدنانير ليست كذلك؛ أي إذا قربت بناني إليه زال من موضعه. وهذا معنى لم يسبق إليه فيما يظهر. وقوله: (236/ب) لها ثمر تشير إليك منه ... بأشربةٍ وقفن بلا أوان جمع شراباً على أشربة, وقد جمعه حسان على أشربات فجاء بجمع الجمع, فقال: [الوافر] إذا ما الأشربات ذكرن يوماً ... فهن لطيب الراح الفداء يقول: هذه الثمار كانها أشربة قائمة بأنفسها لا أواني لها تضبطها. والأواني: جمع

آنية. والآنية: جمع إناء. وفي هذا البيت نظر إلى قول أبي عبادة: [الكامل] يخفي الزجاجة لونها فكأنها ... في الكف قائمة بغير إناء وقوله: وأمواه يصل بها حصاها ... صليل الحلي في أيدي الغواني الصليل: يستعمل في صوت الشيء اليابس كالحديد والحصى ونحو ذلك. وزعم الشاعر أن هذه الأمواه حسنة, فحصاها يصل فيها كما يصل حلي الغانية عليها. وفي هذا البيت صفة للأمواه ولحصاها؛ لأنه جعل حصاها كالحلي وجعلها كالغانيات من النساء. وقوله: ولو كانت دمشق ثنى عناني ... لبيق الثرد صيني الجفان يقول: لو كانت هذه المواضع دمشق لثناني عنها من أنا له قاصد. وقد دل هذا اللفظ على أنه فضل دمشق على هذه المواطن. وقوله: لبيق الثرد من قولهم: لبقت الثريد إذا نعمته وأحكمت القيام عليه. قال الشاعر: [الوافر] إذا ما الخبز تأدمه بلحمٍ ... فذاك - أمانة الله - الثريد وقال المقنع الكندي: [الطويل] ومن جفنةٍ لا يغلق الباب دونها ... مكللةٍ لحماً مدفقةٍ ثردا ووصف الممدوح بأنه صيني الجفان؛ لأن الآنية التي تجلب من الصين لها فضيلة على غيرها من آنية البلاد. وقوله: يلنجوجي ما رفعت لضيفٍ ... به النيران ندي الدخان

اليلنجوج: العود الذي يتبخر به وهو أعجمي معرب, وفيه لغات: يلنجوج, وألنجوج, ويلنجج, وألنجج. قال النمر بن تولب: [البسيط] كأن ريح خزاماها وحنوتها ... بالليل ريح يلنجوجٍ وأهضام موضع «ما» رفع بإضافة يلنجوج إليه, ولم يتعرف اليلنجوج بالإضافة لأن المعنى: لثناني لبيق ثرده, صيني جفانه, يلنجوجي ما رفعت لضيفٍ به النيران, ندي دخانه. وقوله: يحل به على قلبٍ شجاعٍ ... ويرحل منه عن قلبٍ جبان يقول: هذا الملك إذا نزلت بمحله الوفود والأضياف وجدت منه من يبتهج بنزولها, فقلبه موصوف بالشجاعة لأنه يؤثر إضافة الوفود؛ فإذا حان رحيلهم كره ذلك فكأن قلبه يجبن منه. وقوله: منازل لم يزل منها خيال ... يشيعني إلى النوبندجان يقول: هذه المنازل لما شاهدت من حسنها لا أزال أرى خيالها في النوم, فكأنه شيعني إلى النوبندجان. وقوله: إذا غنى الحمام الورق فيها ... أجابته أغاني القيان يقول: هذه المنازل إذا غنى حمامها أجابته قيانها بغناءٍ. وقد تكون القينة أعجميةً فيطرب صوتها السامع وهو لا يعلم ما تقول, وقد بين ذلك بقوله: ومن بالشعب أحوج من حمامٍ ... إذا غنى وناح إلى البيان يقول: الحمام إذا غنى فإنما ينسب إلى الفرح, وإذا وصف بأنه ينوح فإنما ينسب إلى الأسف. وهو على أنه لا يفهم ما يريد أقل حاجةً إلى البيان من أهل الشعب. وهذا تناهٍ في وصفهم بالعجمة. وقوله: (237/أ) وقد يتقارب الوصفان جداً ... وموصوفاهما متباعدان

المعنى: أن الجمامة يقال لها مغنية وكذلك القينة من بني آدم, والوصفان متقاربان, والحمامة بعيدة من القينة في الخلق والخلق. وقوله: يقول بشعب بوانٍ حصاني: ... أعن هذا يسار إلى الطعان أبوكم آدم سن المعاصي ... وعلمكم مفارقة الجنان ادعى أن حصانه أنكر عليه مفارقة شعب بوانٍ, وأنه قال: أتسير عن هذا الموضع إلىم كان تطاعن فيه الفرسان؟ وذكر له عصيان آدم عليه السلام, وأن بنيه ورثوا عنه المعصية وفراق الجنة, وأنت أيها الشاعر قد فارقت من هذا الشعب جنةً؛ فزعم أنه قال له: فقلت إذا رأيت أبا شجاعٍ ... سلوت عن العباد وذا المكان فإن الناس والدنيا طريق ... إلى من ما له في الأرض ثان ادعى أن العالم ودنياهم طريق إلى هذا الممدوح, وقد بالغ فلم يترك ما يقدر عليه الفم إلا نطق به. وقوله: له علمت نفسي القول فيهم ... كتعليم الطراد بلا سنان زعم أنه مدح المتقدمين من الرؤساء ليتعلم القول في هذا الملك, كما أن الذي يريد تعلم الطعن تكون قناته لا سنان فيها؛ لأنه يخشى أن يصيب بسنانها إنساناً. وقوله: بعضد الدولة امتنعت وعزت ... وليس لغير ذي عضدٍ يدان في عضد الدولة لغات: عضد على مثال سبعٍ, وعضد: بكسر الضاد على وزن حذرٍ, وعضد: بسكون الضاد وفتح العين على وزن سعدٍ, وعضد: بضم أوله وسكون الضاد على مثال جندٍ, وعضد: بضم الحرفين الأولين مثل: عنقٍ. يقول: بعضد الدولة امتنعت, ومن ليس له عضد فلا يدي له. وفي هذا الكلام إشارة إلى الملوك غير عضد الدولة لأنهم دونه في الرتبة؛ وقد بين ذلك بقوله: ولا قبض على البيض المواضي ... ولا حظ من السمر اللدان

جعل من لا عضد له بلا يدٍ, وإذا لم تكن له يد فليس يقدر أن يقبض على سيفٍ ماضٍ, ولا حظ له في حمل الرماح. وقد دخل في هذا سيف الدولة وغيره. دعته بمفزع الأعضاء منها ... ليوم الحرب بكرٍ أو عوان دعته: يعني الدولة, وجعل العضد مفزع الأعضاء الذي تستعين به على ما تروم من طعنٍ أو ضربٍ أو رميٍ. يقول: دعته بمفزع الأعضاء منها؛ أي من الدولة؛ ليوم الحرب التي لم يقاتل فيها بعد والتي قد شبت مرةً بعد مرة. وقوله: أروض الناس من تربٍ وخوفٍ ... وأرض أبي شجاعٍ من أمان جمع أرضاً على أروضٍ, وذلك نادر في المسموع, وهو القياس فيما كان على فعلٍ, مثل: سرجٍ وسروجٍ, وشرجٍ وشروج. والذي جاء على ذلك أكثر من أن يحصى؛ إلا أن أروضاً شاذ. وقوله: تذم على اللصوص لكل تجرٍ ... وتضمن للصوارم كل جان يقول: أرض أبي شجاع من أمانٍ فهي تذم لأموال التجار وتضمن للصوارم الجناة. وقال تذم على اللصوص كم يقال: قد أجار علي فلان, أي أجار مني, ومن في هذا الموضع أشبه من على, وكلاهما يرجع إلى معنى واحد. وقوله: إذا طلبت ودائعهم ثقاتٍ ... دفعن إلى المحاني والرعان (237/ب) الهاء والميم في ودائعهم عائدة إلى التجر. يقول: إذا طلب أصحاب الودائع ثقاتٍ؛ استعار الطلب للودائع لأن المعنى مفهوم. والمحاني: جمع محنيةٍ وهي منعطف الوادي. والرعان: جمع رعنٍ وهو أنف يتقدم من الجبل. يقول: التجر يطرحون أمتعتهم في محاني الأودية ورؤوس الجبال لأنهم لا يخشون عليها لصاً, وهي ثقات تؤدي إليهم ما استودعوه. وهذا معنى غريب يجوز أن يكون لم يسبق إليه. وقوله: فباتت فوقهن بلا صحابٍ ... تصيح بمن يمر: أما تراني

ادعى للمحاني والرعان أنها تصيح بالمار: أما تراني, فتأخذ لك مما عندي شيئاً, فلا يجترئ أحد على أخذ ما فيهن. وقوله: رقاه كل أبيض مشرفي ... لكل أصم صل أفعوان الرقى: جمع رقيةٍ. يقول: إنه قد أقام السيوف مقام رقى يرقي بهن الأعداء. والناس يقولون: فلان يرقي الحيات؛ يزعمون أنه يتكلم عندها بشيء فتخرج. وفي الناس من يدعى له أنه يرقي اللديغ فينجو من اللدغة بأمر الله سبحانه. ويقال: حية أصم إذا كان لا يجيب الرقاة؛ فشبه أهل العصيان بالصم من الحيات. والصل: الذكر منها, وكذلك الأفعوان. وقوله: وما يرقي نداه من لهاه ... ولا المال الكريم من الهوان يقول: هذا الملك يرقي بالسيوف من عصاه فيبلغ ما يريد منه. وهو لا يرقي نداه - أي جوده - من لهاه؛ أي من عطاياه. جعل نداه كأنه عاصٍ لأن عطاياه تهلك المال. وقوله: حمى أطراف فارس شمري ... يحض على التباقي في التفاني يقال: رجل شمري وشمري إذا كان مشمراً في الأمور, نهاضاً فيها؛ وإنما هو مأخوذ من شمر الرجل ثوبه إذا رفعه, أو شمر كمه ليضرب بسيفٍ أو نحوه. ويحض أي يحث, ويجب أن يكون يحض على التباقي بالتفاني بالباء؛ أي إنه يحض على ترك الناس القتل بالقتل, وفي الكتاب العزيز: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب} , وهذا اللفظ مشير إلى اللفظ الأول. ومن الكلام القديم: «القتل أنفى للقتل». وإن رويت: في التفاني فله معنى يؤدي إلى المعنى الآخر, ويحتمل أن يريد أنه يحض على التباقي في الدار التي فيها التفاني؛ إما من تفاني الناس بالقتل, وإما من تفانيهم بالموت. وقوله:

بضربٍ هاج أطراب المنايا ... سوى ضرب المثالث والمثاني جعل صليل السيوف في الحرب يهيج أطراب المنايا فاستعار لها الطرب, وهو ها هنا: الخفة من الفرح. زعم أنها تبتهج بالقتل. وهذا الضرب ليس كضرب مثالث العود ومثانيه؛ لأن ذلك وضع لغير ما وضع له سواه. وقوله: كأن دم الجماجكم في العناصي ... كسا البلدان ريش الحيقطان العناصي: جمع عصوةٍ, وهو الشعر المفترق في نواصي الرأس. قال أبو النجم: [الرجز] إن يمس رأسي أشمط العناصي ... كأنما جاذبه مناصي ويستعمل العناصي في الريش. وبيت ذي الرمة ينشد على وجهين, وهو قوله في صفة فراخ القطا: [الطويل] ينؤن ولم يكسين إلا عناصياً ... من الريش تنواء القلاص الهذائل ويروى: قنازعاً من الريش, والحيقطان: ذكر الدراج, يقال بضم القاف وفتحها. وقوله: ولم أر قبله شبلي هزبرٍ ... كشبليه ولا فرسي رهان أشد تنازعاً لكريم أصلٍ ... وأشبه منظراً بأبٍ هجان (238/أ) كان لعضد الدولة في ذلك الزمان ولدان فشبههما بالشبلين وفرسي الرهان. وذكر أنه لم ير مثلهما أشد تنازعاً لأصلٍ كريمٍ وأشبه منظراً بوالدٍ. ويقال: رجل هجان إذا وصف بالكرم. وقيل: الهجان الأبيض. قال الشاعر: [الخفيف] وإذا قيل من هجان قريشٍ ... كنت أنت الفتى وأنت الهجان وقولهم: رجل هجين ضد لهذه اللفظة؛ لأن الهجين الذي أبوه أفضل من أمه. ويقال: هجان اللون أي خالصه. قال الشاعر: [الوافر]

هجان اللون كالذهب المصفى ... صبيحة ديمةٍ يجنيه جان وقوله: وأول دايةٍ رأيا المعالي ... فقد علقا بها قبل الأوان الناس يقولون للمرأة التي تلي الطفل: داية. ويجوز أن تكون مشتقةً من داية البعير لأنها تقوية للصبي كما أن داية البعير قوة له. وداية البعير: فقاره من ظهره. ويقال لعظام الصدر: دايات. ودعا لابني الممدوح فقال: وكان ابنا عدو كاثراه ... له ياءي حروف أنيسيان أراد: جعل الله سبحانه ابني عدو كاثرا هذا الملك له - أي للعدو - كياءي حروف أنيسيان؛ أي هما زيادة في عدده, ونقصان في قدره؛ يعني الياء التي بعد النون في أنيسيان, والياء التي بعد السين, وهو تصغير إنسان. وهذا معنى لم يأت به أحد قبل أبي الطيب. واختلف النحويون في إنسانٍ فادعى قوم أنه من النسيان وحكي ذلك عن ابن عباس. وفي الكتاب العزيز: {ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي} , وأخذ بذلك الطائي فقال: [الكامل] لا تنسين تلك العهود فإنما ... سميت إنساناً لأنك ناس والبصريون ينكرون أن اشتقاق إنسانٍ من النسيان ويزعمون أنه حرف شاذ. ولو أن إنساناً من النسيان لوجب أن يقال في وزنه: إفعان؛ لأن الياء وقعت موقع اللام, واشتقاقه عند البصريين من الإنس والأنس؛ واحتد عليهم بقوله في الجمع: أناسي؛ فذهب طائفة إلى أنهم أرادوا: أناسين فأبدلوا من النون ياءً؛ وهذه دعوى يمكن أن تكون ليست بالصحيحة. والذي لا ينكسر من القياس أن يقال: أناسي جمع إنسي كنحو قولهم: كرسي وكراسي, وسيف هندي وهنادي. والقافية من المتواتر. * * *

حرف الهاء

حرف الهاء من بيتين أولهما أغلب الحيزين ما كنت فيه ... وولي النماء من تنميه الوزن من ثاني الخفيف. الحيز على مثال: ميت, وهو من حاز يحوز. وقد قالوا: تحيزت الحية وتحوزت. وإن كان تحيزت في وزن تفيعلت, فأصل حيزٍ: حيوز, وقلبت الواو ياءً. فإن كان قولهم: تحيزت الحية على تفعلت فيجب أن يكونوا قالوا: حاز يحيز. فحيز حينئذ يجوز أن يكون مثل: هينٍ من ذوات الواو, ومن ذوات الياء من لينٍ, مثل: لان يلين. وقوله: ذا الذي أنت جده وأبوه ... دنيةً دون جده وأبيه يقول: هذا الغلام أنت الذي قام مقام جده ومقام أبيه وبك نفخر؛ لأنهما يجوز أن يكونا ماتا وتركاه في حجره. ويقال: هو ابن عمه دنيةً, وأصلها الواو؛ لأنها من: دنا يدنو فيجوز أن يكونوا اختاروا الواو لكسرة الدال. وآنسهم بذلك أنهم يقولون في الفعلى: الدنيا. والقافية من المتواتر. ومن أبيات أولها الناس من لم يروك أشباه ... والدهر لفظ وأنت معناه الوزن من ثاني المنسرح ولم يذكره الخليل. يقول: الناس مشتبهون ما لم يروك؛ فإذا حضروا لديك رأوا منك خلقاً وخلقاً لا يعرفونه لغيرك ولا يشابهك فيه سواك. وقوله: (238/ب) والجود عين وفيك ناظرها ... والباس باع وفيك يمناه

جعل الجود عيناً والممدوح ناظرها, وهذا معنى قد صنعه بعض الشعراء, ويجوز أن يكون بعد أبي الطيب, وهو: [الكامل] الناس حمير والبراجم وجهها ... وأبوك مقلتها وأنت الناظر البراجم: قبيلة من حمير. والباع من قولهم: مد فلان باعه إذا مد عضديه وذراعيه عن يمينٍ شمال. والفرس يبوع في مشيه وجريه إذا كان واسع الخطو. قال أبو دواد: [الخفيف] وتمطى بوعاً كما يتمطى ... حبشي بحربة مظلوم ويقال: فلان من أهل الباع؛ أي من أهل القوة والقدرة على الأشياء. قال المسيب بن علسٍ: [الكامل] ولذاكم علمت معد أنه ... أهل الحفيظة والندى والباع وقوله: أفدي الذي كل مازقٍ حرجٍ ... أغبر فرسانه تحاماه المازق: أصلها الهمز, وكان حقه أن يجيء بفتح الزاي لأنه من: أزق يأزق إذا ضاق, وهو المقام الضيق في الحرب. قال زهير: [البسيط] كان إذا ما تلاقى القوم في رهجٍ ... تحبسه النجدات المحبس الأزقا فهذا يدل على أن الماضي: أزق؛ فجاء المأزق شاذاً كما قالوا: المحمدة, وهي من: حمد يحمد. والمعنى: أن فرسان كل مأزقٍ أغبر تحامى عن هذا الممدوح وتكره أن تلقاه. وقوله: أعلى قناة الحسين أوسطها ... فيه وأعلى الكمي رجلاه أراد: أنه يطعن الكمي فتنفذ فيه القناة وينحطم صدرها وقد نفذ إلى الجانب الآخر,

فقد صار أوسط القناة كأنه أعلاها؛ لأن بعضها قد ذهب, وقد ارتفعت رجلا الكمي لأنه لما طعنه انقلب. وقوله: تنشد أثوابنا مدائحه ... بألسنٍ ما لهن أفواه يعني: أنه يخلع عليهم فكأن ثيابه تنشد مدائحهم فيه بألسنٍ لا أفواه لها. وقوله: إذا مررنا على الأصم بها ... أغنته عن مسمعيه عيناه يقول: إذا مضينا بهذه الثياب على الأصم فقد أغنته عن مسمعيه عيناه؛ أي يعلم إذا رآها أنا قد مدحناه؛ فكأنه قد سمع المدائح. وهذا كقوله في الأخرى: [الكامل] كالخط يملأ مسمعي من أبصرا وقوله: سبحان من خار للكواكب بالبعد ولو نلن كن جدواه نلن: من نال ينول أي بلغ. ونلن ها هنا فعل ما لم يسم فاعله؛ أي خار الله للكواكب في البعد؛ أي إنهن لا ينلن, ولولا ذلك لجاز أن يجود بهن, ويجوز في أول هذا الفعل الضم, وإشمام الكسر, والكسر. وبعض الناس يختار في مثل هذا اللفظ أن يكسر أول الفعل الذي لم يسم فاعله؛ ليكون ذلك فرقاً بينه وبين الإخبار عن نفسه, ومثال ذلك أن الرجل إذا قال: سمت فلاناً كذا ضم السين, فإذا أخبر عن نفسه بأنه سيم شيئاً حسن أن يقول: سمت بالكسر ليفرق بين الفعلين. وقوله: لو كان ضوء الشموس في يده ... لصاعه جوده وأفناه صاعه: أي فرقه؛ ومنها اشتقاق الصاع الذي يكال به وهو عربي صحيح. قال أبو قيس ابن الأسلت: [السريع]

ومن أبيات أولها

لا نألم القتل ونجزي به الـ ... أعداء كيل الصاع بالصاع وإنما قيل له: صاع لأن الشيء المكيل يفرق به. والقافية من المتواتر. ومن أبيات أولها قالوا ألم تكنه فقلت لهم: ... ذلك عي إذا وصفناه الوزن مثل الوزن الذي قبلها, وكذلك قافيتها. قد جرت العادة بأن حرف الاستفهام إذا دخل على (239/أ) حرف النفي صار المستفهم كالمخبر المقرر, يقول القائل: لم أعطك درهماً فيكون نافياً للإعطاء, فإذا قال: ألم أعطك درهماً؟ فالمعنى قد أعطيتك, ومن ذلك قول عمرو بن كلثوم: [الوافر] إليكم يا بني بكرٍ إليكم ... ألما تعلموا منا اليقينا أي قد علمتم منا ذلك. وفي الكتاب العزيز: {ألم نشرح لك صدرك}؛ أي قد شرحناه, وكذلك قوله تعالى: {ألم يجدك يتيمًا فآوى} أي قد وجدك, ومثل هذا في القرآن كثير. وقلما يجيئون بهذه الهمزة مع حرف النفي وهم يريدون استخباراً خالصاً. وقد ذهب بعض الناس في قول الأعشى: [الطويل]

ومن أبيات أولها

ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا ... وبت كما بات السليم مسهدا إلى أنه استفهام محض. وقد اختلفوا في الآية وهو قوله تعالى: {أليس منكم رجل رشيد}؛ فقيل المعنى معنى الاستفهام الذي لا تقرير فيه, كما قالت امرأة من العرب: [الطويل] أما في بني حصنٍ من ابن كريمةٍ ... من القوم طلاب التراث غشمشم فهذه مستفهمة لم يستقر عندها أن في القوم من يفعل بها ما يريد. وقيل إن قوله [تعالى]: {أليس منكم رجل رشيد}؛ أي قد كان بعث إليكم نبي. وقيل: إنه يعني نفسه, فإذا حمل على هذا الوجه فالكلام على معنى التقرير. وقوله: ألم تكنه؟ ! يقال كنوت الرجل وكنيته, وينشد: [الطويل] وإني لأكنو عن قذور بغيرها ... وأعلن أحياناً بها فأصارح ومن أبيات أولها أحق دارٍ بأن تدعى مباركةً ... دار مباركة الملك الذي فيه الوزن من ثاني البسيط. ومباركة الملك صفة لدارٍ, ولم تتعرف مباركة بالإضافة إلى الملك؛ لأنها إضافة على معنى الانفصال, كأنه قال: دار مبارك الملك الذي فيها. ومبارك يستعمل فيما وقعت فيه البركة من الله سبحانه, وكل ما تيمن به الإنسان جاز أن يوصف بمبارك. قال ذو الرمة: [الطويل]

وقد غاب عنهن الغيور وأشرقت ... لنا الشمس في اليوم القصير المبارك وقوله: وأجدر الدور أن تسقى بساكنها ... دار غدا الناس يستسقون أهليها قالوا: أهل وأهلة؛ وينشد: [الطويل] وأهلة دارٍ قد تبريت ودهم ... وأبليتهم في الحمد مالي ونائلي تبريت: تعرضت لهم. وقال آخر: [الطويل] فهم أهلات حول قيس بن عاصمٍ ... إذا أدلجوا بالليل يدعون كوثرا وقولهم: أهل وأهلة يدل على أنهم ذهبوا به مذهب المصدر, فأما قولهم: أهلون فيدل على أن أهلًا جمع آهلٍ, مثل: راكبٍ وركبٍ, فيقال في تصغيره: أهيل؛ كما يقال: ركيب, ثم جمعوه بالواو والنون فقالوا: أهلون. وأنشد أبو زيد لعبد قيس بن خفاف البرجمي: [الطويل] إليك أبيت اللعن أعملت ناقتي ... بحوران تجتاب السريح المقددا

ومن أبيات أولها

فلما أنيخت بالبريص وجدتها ... كذي الرامك الممطول يسقى غداً غدا الرامك: ضرب من الطيب يقال إنه السك. والبريص: موضع بدمشق. يكذب وعده ويخلف وأيه ... ويسقى إذا يسقى قليلًا مصردا إذا ما اتصلت قلت يال تميمٍ ... وأين تميم من محلة أهودا وأين ركيب وضعوان رحالهم ... إلى أهل نارٍ من محلة أسودا أعد نظراً يا عبد قيسٍ لعل ما ... أضاءت لك النار الحمار المقيدا والقافية من المتواتر. ومن أبيات أولها أوه بديل من قولتي واها ... لمن نأت والبديل ذكراها (239/ب) الوزن من ثاني المنسرح لم يذكره الخليل. أوه: كلمة تقال عند التأوه من قولهم: رجل أواه أي كثير التأوه. قال الشاعر: [الطويل] فأوه من البعد الذي دون أهلها ... ومن خرق أرضٍ دائم العسلان وقال العبدي: [الوافر] إذا ما قمت أرحلها بليلٍ ... تأوه آهة الرجل الحزين وواهاً كلمة تقال عند التعجب من الشيء. قال الراجز: [الرجز] وهاً لسلمى, ثم واهاً واها ... يا ليت عينيها لنا وفاها بثمنٍ نرضي به أباها

ولو أن لي في هذا البيت حكماً لجعلت بدلاً من «قولتي»: «قولنا»؛ لأنه أقوى من التأنيث. يقول: نأت هذه الموصوفة, وحصل ذكراها بديلًا منها. وقال: أوه من الا أرى محاسنها ... وأصل واهاً وأوه مرآها أضاف أصل إلى قوله: واهاً, وتركه منصوباً على الحكاية. يقول: أصل قولي واهاً وأوه أني رأيتها. ومرآها: مفعل من الرؤية, وألقى حركة أن على نون من في قوله: من ان لا أرى ليقيم الوزن. وقوله: شامية طال ما خلوت بها ... تبصر في ناظري محياها شامية: نسبها إلى الشام على ما يجب في أصل النسب, وزعم أنه تبصر وجهها في ناظر عينيه, ثم قال: فقبلت ناظري تغالطني ... وإنما قبلت به فاها لما ذكر أنها تبصر وجهها في ناظره زعم أنها قبلت فاها المتصور لها في ناظره, وهذا بيت يشابه قول الصنوبري: [الكامل] لولا الحياء لظل يلثم ثغره ... إذ كان يبصر وجهه في الكاس وقوله: فليتها لا تزال آويه ... وليته لا يزال مأواها الهاء في قوله: آويه تعود إلى الناظر. يقول: ليتها لا تزال آويةً في ناظري, وليته لا يزال مأواها؛ وهذا كلام يغني بعضه عن بعضٍ؛ لأن قوله: لاتزال آويه يدل على أنه مأواها, وكذلك مأواها يدل على أنها آوية به. وقوله: تبل خدي كلما ابتسمت ... من مطرٍ برقه ثناياها هذا البيت يحتمل وجهين:

أحدهما: أن يكون أنها كلما ابتسمت أخذه البكاء؛ لأنه يخاف من الفراق أو تغير النية فيكون المعنى كقوله: ظلت أشكو وتبسم والآخر: أن تكون تقبله فيصيب خديه شيء من الريق, وإن قل. ويقوي هذا البيت قوله: فقبلت ناظري. وقوله: ما نفضت في يدي غدائرها ... جعلته في المدام أفواها هذا البيت يحتمل وجهين: أحدهما: أن تكون «ما» في معنى الذي وهي مبتدأ, وخبرها قوله: جعلته, وما بعده إلى آخر البيت. والآخر: أن تكون «ما» في معنى الجزاء وتنتصب بنفضت, وتكون نفضت في موضع جزمٍ لأنها شرط, وقوله: جعلته: جزاء. وأفواه الطيب واحدها: فوه. وقوله: لقيننا والحمول سائرة ... وهن در فذبن أمواها الحمول: السائرون من قولهم: احتملوا عن الدار إذا ارتحلوا عنها. وهو اسم جامع يجوز أن يجمع الرجال والنساء وما حمل من المتاع. وقوله: وهن در فذبن أمواها؛ شبه النساء بالدر. ونصب أمواهٍ يحتمل أن يكون مفعولًا, وأن يكون حالًا, ويجوز أن يعني أنهن استحيين فذبن من الحياء على معنى المبالغة؛ والمراد: كدن يذبن؛ أي قاربن, ويجوز أن يعني أنهن بكين فجعل بكاءهن كالذوب. وقوله: (240/أ) في بلدٍ تضرب الحجال به ... على حسانٍ ولسن أشباها وقد مر ذكر الحجال, وقوله: الحسان ولسن أشباها؛ أي بعضهن أفضل من بعض؛ وكأنه فضل التي ذكر عليهن؛ فقال: كل مهاةٍ كأن مقلتها ... تقول إياكم وإياها فيهن من تقطر السيوف دماً ... إذا لسان المحب سماها يقول: كأن مقلتها تخذرنا منها فتقول: إياكم وإياها؛ أي احفظوا نفوسكم وملا تلحظوها, فإن ذلك مؤد لكم إلى الهلاك. ووصف قومها بالغيرة, وإن سماها المحب هموا

بقتله؛ فإن كان له قوم ينصرونه شبت بينهم وبين قومها حرب وقطرت السيوف دماءً لذلك. وقوله: أحب حمصاً خناصرةٍ ... وكل نفسٍ تحب محياها حمص: اسم أعجمي, وقد وافقت من قول العرب قولهم: حمص الجرح إذا ذهب ورمه. وخناصرة معروفة بالشام, وقد ذكرت في الشعر الفصيح, وإن كانت عربية الأصل, فاشتقاقها من الخصر أي البرد, ومن اختصار الشيء أي الاقتناع منه بالقليل, وجمعها الراعي بالألف والتاء, فقال: خناصرات كما قالوا: عرفات, قال: [الوافر] رعين الحمض حمض خناصراتٍ ... بما في القرع من ديم الغوادي القرع: يعني كروشها, أي إنها قد قرعت عن شرب الماء؛ أي صارت إذا قرعها وجدت لذلك أذى. وقيل: القرع التي ذهب شحمها. وقال عدي بن الرقاع: [الكامل] وإذا الربيع تتابعت أنواءه ... فسقى خناصرة الأحص وجادها وقوله: حيث التقى خدها وتفاح لبـ ... ـنان وثغري على حمياها التفاح قد جاء في شعر العرب, قال حسان: [الوافر] كأن سبيةً في بيت رأسٍ ... يكون مزاجها عسل وماء على أنيابها أو طعم غض ... من التفاح هصره اجتناء

ويجب أن يكون اشتقاقه من التفح وليس ذلك بمستعمل. وقال بعض أهل العلم: يجوز أن يكون أصله: فواح من فاحت الرئاحة تفوح, ثم نقلت الواو إلى أوله, كما قالوا: جذب وجبذ. وقيل: وفاح فلما وقعت الواو في أوله وهي مضمومة جعلت تاءً كما قالوا: تخمة وتراث, وهي من الوخامة, وتراث من ورث. ولبنان معروف بالشام. وقال الراعي: [الوافر] سيكفيك الإله ومسنمات ... كنجدل لبن تطرد الصلالا فقيل: أراد لبنان فحذف. وقيل: بل لبن جبل آخر. والهاء في حمياها يجوز أن تكون راجعة إلى البلاد التي ذكرها, ولا يمتنع أن تعود على المرأة الموصوفة, وهي الحميا التي حضرت معها. وحميا الراح: سورتها؛ وهو مما استعمل مصغراً واشتقاقها من: حمي الشيء إذا اشتد في وقودٍ أو نحوه. وقوله: وصفت فيها مصيف باديةٍ ... شتوت بالصحصحان مشتاها الصحصحان ها هنا: موضع بعينه؛ ويقال: مكان صحصحان وصحصح وصحصاح إذا كان واسعاً. قال الراجز: [الرجز] وصحصحانٍ قذفٍ كالترس وقال آخر: [الرجز] كأننا فوق الفضاء الصحصح ... نرمي الموامي بنجومٍ لمح وقال آخر: [الرجز]

تركته للقدر المتاح ... مجدلًا بالصحصح الصحصاح والمصيف - ها هنا - مصدر صاف يصيف بالموضع إذا أقام به في الصيف. والمشتى مصدر شتا يشتو إذا أقام بالمكان في الشتاء. وقوله: أو عبرت هجمة بنا تركت ... تكوس بين الشروب عقراها الهجمة: قطعة من الإبل, يقال: هي من ستين إلى مائة, وقيل: من خمسين إلى مائةٍ, وقيل: من سبعين. (240/ب) وهذه الأقوال متقاربة. وأما قول المرقش: [البسيط] أضحت خلاءً وقد كان بها ... في سالف الدهر أرباب الهجوم يجوز أن تكون الهجوم جمع هجمةٍ من الإبل على حذف الهاء؛ كما قالوةا: نعمة وأنعم فجمعوا نعمةً كما يجمعون فعلًا؛ فيقولون: ضرساً وجرواً. ويجوز أن تكون الهجوم جمع هجمٍ وهو قدح عظيم يحلب فيه. وأنشد أبو عمرو الشيباني: [البسيط] أتملأ الهجم رسلًا وهي وادعة ... حتى تكاد نواحي الهجم تنثلم وتكوس من قولهم: كاس البعير إذا عقر إحدى قوائمه فمشى على ثلاث. قالت الخنساء: [المتقارب] فظلت تكوس على أكرعٍ ... ثلاثٍ وكان لها أربع والشروب: جمع شربٍ, وهم القوم الذين يشربون الراح. والعقرى: جمع عقيرٍ, مثل: جريحٍ وجرحى. وقوله:

والخيل مطرودة وطاردة ... تجر طولى القنا وقصراها إذا كانت الفعلى أنثى الأفعل, مثل الطولى والقصرى؛ فأكثر ما تجيء مستعملةً بالألف واللام كقولك: الكبرى والصغرى, أو مضافةً كما قال سحيم: [الطويل] عبثن بمسواكي وغادرن مذهباً ... من الصوغ في صغرى بنان شماليا ولا يقال: صغرى وكبرى إلا في شذوذٍ. وقوله: وقد رأيت الملوك قاطبةً ... وسرت حتى رأيت مولاها قاطبةً تستعمل في معنى الجماعة, وهي مأخوذة من: قطبت الشيء بالشيء إذا خلطته, ونصب قاطبةً على الحال, وقيل: هي كالوصف لمصدرٍ محذوف. والمولى: كلمة تستعمل في الشيء وضده, وهو ها هنا المولى الذي يملك غيره. واصطلحت الكتاب على أن قولهم في المخاطبة للملك: مولانا أشرف من سيدنا, وهذا وهم وقع في القديم لأن العبد يجوز أن يقال له: مولى, وكذلك الحليف والمعتق وابن العم, فقد صح أن هذه الكلمة يشترك فيها الرفيع والوضيع. والسيد كلمة لا تستعمل إلا في معنى السيادة والرفعة؛ وكانت المخاطبة بها للملوك أوجب. وقوله: أبا شجاعٍ بفارسٍ عضد الدو ... لة فناخسراً شهنشاها قوله: أبا شجاع بدل من قوله: مولاها, وهذا ببيت جامع على قصر وزنه؛ لأنه ذكر فيه كنية الممدوح واسمه, وذكر البلاد التي هو فيها, ولقبه ونعته بملك الملوك, وهو قوله: شهنشاها. وقد استعملت العرب شهنشاها. قال الأعشى: [الطويل] وكسرى شهنشاه الذي شاع ذكره ... له ما اشتهى راح ذكي وديسق الديسق: الفضة, ويقال: هو خوان من فضة. وقوله:

أسامياً لم تزده معرفةً ... وإنما لذةً ذكرناها قوله: أسامياً جمع أسماءٍ, وأسماء جمع اسمٍ, واسم وزنه أفع, لأنه من: سما يسمو فحذفت منه الواو, وقالوا: سم وسم فحذفوا ألف الوصل, وجاءت الياء في الأسامي لأجل كسرة الميم. وهذا البيت احتجاج بما ذكره من اسم الممدوح وكنيته وصفته. يقول: هذه الأسامي لم نزده بها اشتهاراً, وإنما ذكرناها ملتذذين بذكرها. وقوله: تقود مستحسن الكلام لنا ... كما تقود السحاب عظماها يقول: هذه الأسماء المذكورة تقود لنا ما يحسن من الكلام, كما أن عظمى السحاب تقود ما وراءها. وقوله: لا تجد الخمر في مكارمه ... إذا انتشى خلةً تلافاها (241/أ) يقول: من غيرته الخمر فأحدثت فيه خلقاً لا يعرف منه بجودٍ أو شجاعة؛ فإن هذا الملك لا تقدر الخمر أن تزيده شيئاً يحمد عليه, وهذا المعنى متكرر في أشعار العرب كقول امرئ القيس: [الطويل] سماحة ذا وبشر ذا ووفاء ذا ... ونائل ذا إذا صحا وإذا سكر وقوله: تصاحب الراح أريحيته ... فتسقط الراح دون أدناها الأريحية: الهزة للمكارم والارتياح إليها, ويجوز أن يكون اشتقاقها من الريح التي تهب, فألقت العرب الياء في الريح وكرهوا أن يردوا الواو في قولهم: أريحية, فتلتبس بالاشتقاق من الروح ومن الروح, وهو تباعد ما بين الرجلين. يقول: لا تجد الراح إذا صاحبت أريحيته زيادةً في كرمه؛ لأنها تسقط دون أدنى ما فيه. وقوله: تسر طرباته كرائنه ... ثم يزيل السرور عقباها

الكرائن: جمع كرينةٍ, وهي المغنية, وليس في كلامهم: الكرن. قال لبيد: [الكامل] وصبوح صافيةٍ وجذب كرينةٍ ... بموترٍ تأتاله إبهامها ويروى: تأتى له. والكران: العود. قال امرؤ القيس: [الطويل] فإن أمس مكروباً فيا رب قينةٍ ... منعمةٍ أعملتها بكران وسكن الراء من طرباته, وقد جرت عادته بذلك. وقوله: بكل موهوبةٍ مولولةٍ ... قاطعةٍ زيرها ومثناها هذا البيت مفسر للبيت الأول. يقول: إذا طرب هذا الملك لغناء القينة فرحت بذلك, ولا يتم فرحها لأن عقباها تصير إلى ما تكره؛ وذلك أنه يهبها فترى أن ذلك مصيبة عظيمة لخروجها إلى غيره. ومولولة أي تردد الويل, وإذا قيل: إن هذه اللفظة مأخوذة من واو وياءٍ ولامٍ؛ فوزنها فلفلة؛ لأن الياء من الويل سقطت وهي العين فبقيت الفاء واللام. والزير والمثنى معروفان من أوتار العود؛ أي إنها تقطع آلات الغناء؛ لأنها تنوي أنها لا تعرض بعد هذه الكائنة للألحان. وقوله: تعود عوم القذاة في زبدٍ ... من جود كف الأمير يغشاها يعني أن هذه الموهوبة كأنها قذاة في جود هذا الملك تعوم في زبدٍ قد غشيها من جود كفه. وجعله في أول المدح مولى الملوك, ثم خاطبه بالأمير؛ فكأنه قد نقصه عن الرتبة الأولى. وقوله: تشرق تيجانه بغرته ... إشراق ألفاظه بمعناها تشرق: من إشراق الشمس. يقال: أشرقت إذا أضاءت وصفت, وشرقت إذا طلعت, ويقال: مكان مشراق إذا كانت الشمس تطلع عليه في أكثر النهار. قال تأبط شراً: [البسيط]

وقلةٍ كشباة الرمح باسقةٍ ... ضحيانةٍ في شهور الصيف مشراق الضحيانة: الظاهرة للشمس, ومنه قوله تعالى: {وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى}. ويقال: جئت فلاناً كل شارقٍ؛ أي كل يومٍ طلعت فيه الشمس. وقوله: دان له شرقها ومغربها ... ونفسه تستقل دنياها دان: أي أطاع, والشرق أصله أن يكون مصدراً ثم قيل للمكان: شرق؛ لأن الشرق يكون فيه. (241/ب) فأما المشرق فالموضع الذي الشرق فيه. وكذلك الغرب؛ إنما هو مصدر في الأصل؛ ثم قيل للمكان: غرب. فأما المغرب فموضع الغروب. والهاء في شرقها ومغربها راجعة إلى الدنيا. وقوله: تجمعت في فؤاده همم ... ملء فؤاد الزمان إحداها يقول: هذا الممدوح عظيم الهمم؛ فأصغر هممه ملء قلب الزمان, وهذا إفراط في المبالغة. واشتقاق الهمة والهم واحد؛ إلا أنهم استعملوا الهم في الحزن وشغل القلب, واستعملوه في معنى الهمة. وقوله: فإن أتى حظها بأزمنةٍ ... أوسع من ذا الزمان أبداها حظها: يعني الدنيا. يقول: إن كان للدنيا حظ يأتيها بزمانٍ أوسع من زمانها الذي هي فيه أبدى هذا الممدوح هممه. والهم والهمة مشتقان من الهميم وهو الدبيب. يقال: همت الهوام على وجه الأرض أي دبت. والمراد أن الهم يهم في القلب؛ أي يدب, وكذلك الهمة. قال الهذلي: [الطويل]

كأن بقايا الأثر في صفحاته ... مدارج شبثانٍ لهن هميم وقوله: وصارت الفيلقان واحدةً ... تعثر أحياؤها بموتاها الفيلق: الكتيبة, وإنما أخذت من الفلق وهي الداهية. وقوله: صارت الفيلقان؛ أراد بإحداهما الجماعة التي في طاعة هذا الملك, وبالأخرى الجماعة التي ليست في طاعته؛ فإن كان الذي ذكره الشاعر من حظ الدنيا فإن المخالفين لهذا الممدوح يصيرون من عبيده وأصحابه. وقوله: ودارت النيرات في فلكٍ ... تسجد أقماره لأبهاها يقول: إن صح هذا المرجو صار الناس كلهم في طاعةٍ واحدة, ودارت ذوات النور في فلكٍ أقماره تسجد لأكثرها بهاءً ونوراً؛ يعني الممدوح. والأجود أن يروى: أقماره, وتكون الهاء عائدةً على الفلك. وإن رويت: أقمارها, وجعلت الهاء عائدةً على النيرات فذلك جائز؛ إلا أن عودة الهاء إلى الفلك أحسن لأن الهاء والألف تكررت في القافية, فحسن أن تكون الهاء في أقماره راجعةً إلى الفلك. وقوله: الفارس المتقى السلاح به ... المثني عليه الوغا وخيلاها إذا خفض الفارس جعل متصلًا بقوله: لأبهاها, ورفعه جائز على أن يضمر له مبتدأ, ويحتمل النصب على إضمار فعلٍ. وقوله: لو أنكرت من حيائها يده ... في الحرب آثارها عرفناها يقول: هذا الممدوح عظيم الحياء لا يؤثر أن يتحدث عنه بشيءٍ من المكارم والشجاعة,

فلو أن يده أنكرت ما تؤثره في الحرب من الطعن والضرب لعلمنا أنها هي الفاعلة ذاك؛ لأن غيرها من الأيادي لا يقدر عليه. وقوله: وكيف تخفى التي زيادتها ... وناقع الموت بعض سيماها ذكر أبو الفتح ابن جني رحمه الله أن الزيادة: السوط في هذا البيت, ولا يمتنع ذلك, والأشبه أن تكون الزيادة ها هنا السيف؛ لأنه قرنه بناقع الموت. والموت الناقع الذي قد اجتمع (242/أ) من قولهم: ماء ناقع؛ أي مجتمع في موضعه. وقوله: لو كفر العالمون نعمته ... لما عدت نفسه سجاياها يقول: لو كفر الناس نعم هذا الملك لما أخر عنهم الإنعام؛ لأن نفسه مخلوقة على فعل الإحسان فلا يغيرها عن مغير. وقوله: كالشمس لا تبتغي بما صنعت ... منفعةً عندهم ولا جاها يقول: هذا الملك يحسن إلى العالم ولا يريد منهم جزاءً, فمثله مثل الشمس ينتفع بها كل الحيوان ولا تبغي بذلك ثناءً ولا نفعاً. ومصالح بني آدم جعلها البارئ جلت عظمته في طلوع الشمس عليهم؛ لأنها إذا لم تطلع على الموضع لم يكن فيه نبت ولا شجر ولم يسكنه حيوان. وقوله: الواسع العذر أن يتيه على الد ... نيا وأبنائها وما تاها يقول: هذا الملك لو تاه على الدنيا ومن بها من الخلق لكان عذره مبسوطاً في ذلك, ولكنه لكرمه لم يته. وقوله: ول السلاطين من تولاها ... والجأ إليه تكن حدياها قوله: من تولاها يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون معناه عرف السلاطين بمن وليها فإنهم لا يعرفون قدره.

والآخر: أن تكون «من» على معنى الاستفهام كأنه يقول للسلاطين: من تولاكم؛ أي أتدرون من هو فنبؤه عظيم فيجب عليكم أن تعظموه. وقوله: حدياها كلمة جاءت مصغرةً, وأصلها من: حدا الشيء يحدوه إذا تبعه, وإنما قيل لمن يحدو بالإبل: حادٍ؛ لأنه يتبعها. ويقال: فلان حدياك؛ أي الذي يقال لك: افعل كما يفعل. وقوله: تكن حدياها؛ أي إذا لجأت إليه كنت حديا السلاطني؛ أي يقال لهم: اتبعوا فلاناً فيما فعل. قال عمرو بن كلثوم: [الوافر] حديا الناس كلهم جميعاً ... مقارعةً بنيهم عن بنينا وقوله: ولا تغرنك الإمارة في غيـ ... ـر أميرٍ وإن بها باهى يقول: إن رأيت إنساناً يعرف بالأمير فلا تغرنك هذه الصفة فإنه لا يستحق أن يكون أميراً وإن افتخر بذلك وتجمل به عند الناس. ويقال: فلان أمير وفلانة أميرة, وقد يقال للمرأة: أمير على التشبيه؛ أي تقوم مقامه وتغني غناه. قال الشاعر: [الوافر] فليت أميرنا - وعزلت عنا - ... مخضبة أناملها كعاب وقال آخر: [الوافر] ولو جاؤوا ببرة أو بهندٍ ... لبايعنا أميرة مؤمنينا وقوله: وإنما الملك رب مملكة ... قد فغم الخافقين رياها يقال: فغمه الطيب إذا ملأ أنفه رائحته, ولا يستعمل ذلك في غير الطيب. والريا:

الرائحة الطيبة, وأصل ذلك في الطيب؛ وإنما قيل للرائحة: ريا لأنها تحدث في الزهر إذا روي من السحاب. وقوله: مبتسم والوجوه عابسة ... سلم العدا عنده كهيجاها الهيجا: تمد وتقصر, وهي من: هاج الشيء يهيج. قال الراجز: [الرجز] يا رب هيجا هي خير من دعه ... أكل يومٍ هامتي مروعه ويروى: مقزعه؛ أي فيها قنازع شعرٍ. وقال آخر في مد الهيجاء: [الطويل] إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا ... فحسبك والضحاك عضب مهند أي: فيحسبك ويحسب الضحاك. ومعنى يحسبك: يكفيك. وقوله: (242/ب) الناس كالعابدين آلهةً ... وعبده كالموحد الله يقول: الناس الذين في طاعة غيره كأنهم يعبدون آلهةً مختلفةً وعبيده الذين يطيعونه كأنهم الموحدون. وهذا كقوله: [الطويل] ولست مليكاً هازماً لنظيره ... ولكنك التوحيد للشرك هازم وقافيتها من المتواتر.

ومن أبيات أولها

ومن أبيات أولها إن تك طيئ كانت لئاما ... فالأمها ربيعة أبو بنوه وزنها من أول الوافر. وسمي الرجل ربيعة بربيعة الحديد وهي البيضة. وخرم أبو الطيب في هذا البيت خرماً يسمى العضب. وقوله: وإن تك طيئ كانت كراماً ... فوردان لغيرهم أبوه وردان بن ربيعة من طيئٍ من آل جراح. ويقال: إن وردان هذا قتل في ظاهر عسقلان وهو شاب؛ لأن طيئاً كانت حاربت الحاضرة. ووردان: اسم مشتق من الورود؛ ولو سميت رجلاً بوردان تثنية وردٍ لجاز لك فيه وجهان: أحدهما: أن تجعله يجري مجرى مروان؛ فتقول: هذا وردان, ورأيت وردان, ومررت بوردان؛ فتجريه مجرى ما لا ينصرف. والآخر: أن تلفظ به لفظ التثنية؛ فتقول: جاءني وردان, ورأيت وردين, ومررت بردين. وقوله: مررنا منه في حسمى بعبدٍ ... يمج اللؤم منخره وفوه حسمى: اسم موضعٍ, وقد ذكره النابغة الذبياني في قوله: [الوافر] فأصبح عاقلًا بجبال حسمى ... دقاق الترب محترم القتام

ويمج الشيء من قولهم: مجه إذا أخرجه من فيه. يقال: مج النبت نداه, ومج الإنسان ريقه, والماء إذا أخرجه من فيه. قال أبو دواد: [الخفيف] بلسانٍ كجثة الورد الأحـ ... ـمر مج الندى عليه العرار وقال آخر يصف رجلًا عضه كلب كلب: [الطويل] ويدعو ببرد الماء وهو بلاؤه ... وإما سقوه الماء مج وغرغرا ويقال: منخر بفتح الميم وكسرها. وقوله: أشذ بعرسه عني عبيدي ... فأتلفهم ومالي أتلفوه يقال: شذ العبد إذا هرب, وأشذه غيره. وعرس الرجل: امرأته. ويقال للرجل والمرأة: هما عرسان, وأصل العرس والعروس من قولهم: عرس بالمكان إذا أقام به. وقوله: فإن شقيت بأيديهم جيادي ... لقد شقيت بمنصلي الوجوه كان قد هرب له غلمان فاتهم هؤلاء القوم بأنهم كانوا سبب ذلك؛ فتبع الهراب فظفر بهم وقتلهم, وفيهم قال: أعددت للغادرين أسيافا ... أجدع منهم بهن آنافا والقافية من المتواتر. * * *

حرف الراء

حرف الراء من القصيدة التي أولها كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا أن يكن أمانيا الوزن من الطويل الثاني. والباء في بك في موضع رفع, كما تقول: كفى بفلان صديقاً؛ أي كفى فلان, فأما قولهم في التعجب: أكرم بزيدٍ فقد اختلف فيه النحويون؛ فقيل: الباء وما بعدها في موضع نصب لأنه مؤد معنى قولك: ما أكرم زيداً, وروي عن محمد بن يزيد أنه كان يقول: هو في موضع رفعٍ لأن المعنى: كرم زيد. ويحتمل أن الفعل لا يخلو من الفاعل وقد يخلو من المفعول. وواحد (243/أ) الأماني: أمنية بتشديد الياء لا غير, والأجود أن تكون مشددةً في الجمع لأن العادة جرت بذلك. يقولون: أوقية وأواقي, وأضحية وأضاحي. وأكثر القراء يقرؤون: {لا يعلمون الكتاب إلا أماني} بالتشديد, وقدروي عن ابن القعقاع بالتخفيف وقد جاءت في الشعر مخففة. قال مالك بن الريب: [الطويل] ويا زيد عللنا بمن يسكن الغضا ... وإن لم يكن يا زيد إلا أمانيا وقوله: تمنيتها لما تمنيت أن ترى ... صديقاً فأعيا أو عدواً مداجيا خاطب نفسه في الحقيقة وكأنه يخاطب غيره؛ وذلك معروف بمذهب الشعراء, وقد مر مثله, ومنه قول الشاعر: [الكامل] قف بالعراص عراص نجدٍ أمينا ... درست وغيرها الزمان سنينا

إنما أراد نفسه بالوقوف. والتمني المعروف هو أن يطلب الإنسان ما يريده كقول الجائع: ليت لي طعاماً, والظمآن: ليت لي ماءً بارداً, ثم وقع ذلك على جميع الأشياء التي يخختارها صاحب الأمنية. قال النابغة الذبياني: [الوافر] تمن بعادهم واستبق منهم ... فإنك سوف تترك والتمني وأصل هذا الكلمة من قولهم: منى الأمر يمنيه, ومناه يمنوه إذا قدره. قال الشاعر: [البسيط] ولا تقولن لشيءٍ سوف أفعله ... حتى يبين ما يمنو لك الماني وكأن قولهم: تمنى؛ أي أراد أن يقدر الله له شيئاً لم يصل إليه. وفي الكتاب العزيز: {إلا أذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته}. وقال بعض المفسرين: تمنى معناه: تلا القرآن, وأنشدوا بيتاً يجوز أن يكون مصنوعاً, وهو: [الطويل] تمنى كتاب الله آخر ليلةٍ ... تمني داود الزبور على رسل ويجوز أن يكون التمني إذا جعل من التلاوة دخولًا فيما قدره الله؛ لأن الشيء الممنو يجوز أن يسمى مناً. والعدو المداجي: الذي يساتر, وهو مأخوذ من دجى الليل. وقوله: إذا كنت ترضى أن تعيش بذلةٍ ... فعلا تستعدن الحسام اليمانيا تستعدن: من العدة. ومن الأمثال: «كل امرئٍ يغدو بما استعد» , أي بما جعله عدةً لأمرٍ. وقال عمرو بن معدي كرب: [مجزوء الكامل] كل امرئٍ يغدو إلى ... يوم الهياج بما استعدا والحسام: من الحسم وهو القطع السريع, والسيوف تنسب إلى اليمن وإلى الهند,

ويقال: سيف مشرفي إذا كان منسوباً إلى المشارف وهي أرض تشرف على اليمن. وقالوا: سيف قساسي منسوب إلى قساسٍ وهو جبل فيه معدن حديدٍ. قال الشاعر: [الطويل] فإن القساسي الذي قب ضرسه ... وشاخس فوديه لعند ابن أحمرا شاخس فوديه: أي خالف بينهما. وقب الشيء إذا قطعه. وقد تردد ذكر قساسٍ في الشعر, ويجوز أن يكون المراد به هذا الجبل. قال جران العود: [الطويل] تذكرنا أيامنا بسويقةٍ ... وهضبى قساسٍ والتذكر يشعف وقال آخر: [المتقارب] تجاوزت حمران من ساعةٍ ... وقلت قساس من الحرمل وقوله: ولا تستطيلن الرماح لغارةٍ ... ولا تستجيدن العتاق المذاكيا كانوا يفتخرون بطول الرماح ويكرهون قصرها. قال الشاعر: [الوافر] لعمرك ما رماح بني قشيرٍ ... بطائشة الصدور ولا قصار وقال عدي بن الرقاع العاملي: [الخفيف] تحتها واحد وعشرون كعباً ... ردنياً وآخر كالشهاب وقال آخر يمدح قوماً: [الوافر] رماحكم تزيد على ثمانٍ ... وعشرٍ قبل تركيب النصال

وقد اقتصر حاتم الطائي في قوله: (243/ب) [الطويل] متى يأت يوماً وارثي يبتغي الغنى ... يجد جمع كف غير ملأى ولا صفر يجد فرساً نهداً وأبيض صارماً ... جرازاً إذا ما هو لم يرض بالهبر وأسمر خطياً كأن كعوبه ... نوى القسب قد أربى ذراعاً على العشر وقوله: فما ينفع الأسد الحياء من الطوى ... ولا تتقى حتى تكون ضواريا الطوى بفتح الطاء. يقال: فلان طوي البطن إذا كان خميصاً. والمعروف فتح الطاء, وحكاه سيبويه بالكسر؛ وعلى ذلك أنشد بيت عنترة: [الكامل] ولقد أبيت على الطوى وأظله ... حتى أنال به كريم المأكل والمعنى: أن حياء الليث لا يأتيه بالشبع, وإنما ينال ذلك إذا افترس. وهذا حث على طلب الرزق بالسيف؛ وهو نحوه من قول الآخر: [المتقارب] وشر الضراغم ضرغامة ... طوى شبله وهو في الغيل هاد والضواري: جمع ضارٍ, والضراوة أصلها لزوم الشيء. وكان بعض الصالحين يكره إدمان أكل اللحم. وفي بعض الحديث: «إياكم وهذه المجازر فإن لها ضراوةً كضراوة الخمر». ويقال: عرق ضارٍ إذا دام سيلانه, وأسد ضارٍ إذا تعود الفرس. وقوله: حببتك قلبي قبل حبك من نأى ... وقد كان غداراً فكن لي وافيا المعروف: أحببت بالهمزة, وأكثر ما يستعمل في اسم المفعول: محبوب, وإنما القياس محب كما قال عنترة: [الكامل]

ولقد نزلت فلا تظني غيره ... مني بمنزلة المحب المكرم وقال امرأة من قرش, ويقال: إنها ابنة أبي سفيان بن حرب أم عبدالله بن الحارث الذي يلقب ببه: [الرجز] لأنكحن ببه ... جاريةً خدبه مكرمة محبه وقال زهير بن مسعود الضبي: [السريع] شادخة الغرة محبوبة ... والفرس الصالح محبوب وحببت قليلة جداً. ويقال إن أبا رجاءٍ العطاردي قرأ: {فاتبعوني يحببكم الله}. وأنشد ابن الأعرابي: [الطويل] وأقسم لولا تمره ما حببته ... ولا كان أدنى من عبيدٍ ومرشق وأنشد سيبويه هذا البيت: [الوافر] أحب لحبها السودان حتى ... أحب لحبها سود الكلاب فهذا على منهاج قولهم: مغيرة في مغيرةٍ. ومعنى البيت أنه قال لقلبه: أحببتك قبل حبك من نأى عنك وقد غدر بي, فكن وافياً لي لأن محبتي لك قبل محبتي له. وقوله: وأعلم أن البين يشكيك بعده ... فلست فؤادي إن رأيتك شاكيا

أشكى: تستعمل في الأضداد؛ يقال: أشكيته إذا أحوجته أن يشكو, وأشكيته إذا أدمت شكواه. قال الراجز: [الرجز] تمد بالأعناق أو تلويها ... وتشتكي لو أننا نشكيها مس حوايا قلما نجفيها والبيت يحتمل الوجهين: فإذا جعل قلبه قد جعل شاكياً, فكأنه يأمره بالصبر وأن لا يظهر شكيةً. وإن أخذه من قوله: أشكاه إذا أزال شكيته, فالمعنى أن البين يشكيك؛ أي ينسبك من كنت تحب لأن البين الذي يؤيس من اللقاء يسلي باليأس. قال الحطيئة: [البسيط] لما رأيت نبوي في دياركم ... ولم يكن لجراحي فيكم آس أزمعت يأساً مريحاً من نوالكم ... ولن ترى طارداً للحر كالياس ويروى لزهير بن جناب الكلبي: [الوافر] إذا ما شئت أن تسلى حبيباً ... فأكثر دونه عدد الليالي (244/أ) فما أسلى حبيباً مثل نأي ... ولا أبلى جديداً كابتذال وقوله: فإن دموع العين غدر بربها ... إذا كن إثر الغادرين جواريا غدر: جمع غدورٍ. يقول: إن الدموع إذا جرت في إثر الغادرين فهي غادرة بصاحب الدمع. وقوله: إذا الجود لم يرزق خلاصاً من الأذى ... فلا الحمد مكسوباً ولا المال باقيا في هذا البيت تعريض بذم من فارق؛ لأنه ذكر أنهم جادوا له جوداً لم يخلص من أذيةٍ, وإذا كان الجود كذلك فالجود ما حمد والمال ما بقي.

وقوله: وللنفس أخلاق تدل على الفتى ... أكان سخاءً ما أتى أم تساخيا هذا المعنى يتردد في الشعر, وهو مثل قول القائل: [البسيط] كل امرئٍ عائد يوماً لشيمته ... وإن تخلق أخلاقاً إلى حين يقول: إن نفس الإنسان لها أخلاق تدل عليه: أسخي هو أم متشبه بالأسخياء. وقوله: أقل اشتياقاً أيها القلب ربما ... رأيتك تصغي الود من ليس جازيا الأجود كسر اللام في أقل, وفتحها جائز. يأمر قلبه أن يدع الشوق إلى غير مجازٍ بالمودة, وهذا تعريض كالتصريح؛ لأنه أتبع كلامه بما بينه, وذكر أنه جيد له جود غير هني فنهى قلبه عن الحنين إلى من هذه صفته. وقوله: خلقت ألوفاً لو رحلت إلى الصبا ... لفارقت شيبي موجع القلب باكيا هذا البيت شرح لما قبله, وهو دليل على أنه لمن فارق ذام؛ لأنه جعله كالشيب. وقال: لو فارقت الشيب الذي هو ذميم برحيلٍ إلى الصبا الذي هو أفضل حياة الإنسان؛ لكان ذلك الفراق موجعاً للقلب مبكياً للعين. وقد وصف نفسه في هذا البيت بوفاءٍ لم يسمع بمثله قط. وقوله: ولكن بالفسطاط بحراً أزرته ... حياتي ونصحي والهوى والقوافيا أزرته: أفعلته من الزيارة, ويعني بالبحر: الممدوح. والعرب تصف بالبحر الرجل الكريم, وكذلك الفرس الجواد. وركب النبي صلى الله عليه فرساً وقال: «وجدته بحراً». وقال الشاعر في صفة الكرام بالبحور: [الخفيف]

فلدته عرى الأمور نزار ... قبل أن تهلك السراة البحور وقوله: وجرداً مددنا بين آذانها القنا ... فبتن خفافاً يتبعن العواليا الخيل توصف بالجرد وهي أن تكون قليلة الشعر. ووصف أنه مد القنا بين آذان الخيل فهي تتبع العوالي, وهذا نحو من قولهم: يطرد الزج في صفة الفرس, ويباري شباة الرمح, وقد مر ذكر ذلك. وقوله: تماشى بأيدٍ كلما وافت الصفا ... نقشن به صدر البزاة حوافيا البزاة: جمع بازٍ وهو هذا الطائر المعروف, وهذه كلمة أخذها الشاعر من كلام العامة؛ لأن النساء يقلن: «نقشتها الناقشة صدر البزاة». يقول: [الخيل] إذا وطئت الأرض وهي غير منعلةٍ نقشت في صفا الأرض نقشاً ذلك المذكور. وقد اقتصر في هذا الوصف لأنه شبه في الأخرى تشبيه آثار الخيل بآثار قلع الحلي من المناطق, وزعم أنه إذا عدا غادر آثاراً كالخنادق؛ وهذه مبالغة في شدة الوطء. ويحتمل أن يكون في هذا الموضع صفة بالخفة, وأنها لا تمكن الحوافر من الوطء. وقوله: وتنظرن من سودٍ صوادق في الدجى ... يرين بعيدات الشخوص كما هيا (244/ب) هذا بيت لم توصف العيون في النظر بمثله لأنه ادعى لها أنها ترى ما بعد من الشخوص على هيأته. ولم تجر العادة بذلك, وكلما بعد الشخص من الناظر صغر الشخص في العين, وعلى ذلك جاء الشعر القديم. قال النابغة: [الطويل] سأربط كلبي أن يريبك نبحه ... وإن كنت أرعى مسحلان وحامرا وحلت بيوتي في يفاعٍ ممنعٍ ... يخال به راعي الحمولة طائرا

أخبر أنه موضع مرتفع؛ فراعي الحمولة فيه كأنه طائر لبعده. وقوله: وتنصب للجرس الخفي سوامعاً ... يخلن مناجاة الضمير تناديا الجرس والجرس: الصوت, وسوامع: جمع سامعةٍ, وهي الأذن, والمناجاة: السرار والكلام الخفي, والتنادي: التفاعل من قولهم: فلان أندى صوتاً من فلانٍ؛ أي أرفع صوتاً منه, قال الشاعر: [الوافر] فقلت ادعي وأدعو فإن أندى ... لصوتٍ أن ينادي داعيان وهذا البيت في صفة حدة السمع نظير البيت الذي قبله في الصفة بصحة النظر. وقوله: تجاذب فرسان الصباح أعنةً ... كأن على الأعناق منها أفاعيا يعني بفرسان الصباح؛ أي الذين يدعون إذا أغير على القوم عند الصباح؛ كأنه وصف نفسه وأصحابه وشبه الأعنة بالأفاعي. وقد سبقت الشعراء إلى نحو ذلك واستعملوه في الإبل وشبهوا الزمام بالأرقم. قال الفرزدق: [الوافر] كأن أراقماً علقت بارها ... معلقةً إلى عمد الرخام ويقال إن بعض أعنة الخيل تتخذها البادية مضفورةً كأنها حبل من أذمٍ. وقوله: بعزمٍ يسير الجسم في السرج راكباً ... به ويسيبر القلب في الجسم ماشيا

يصف عزمه بالمضاء والشدة. يقول: هذا العزم يسير الجسم راكباً في السرج ويسير القلب في الجسم ماشياً؛ أي إنه عزم على أمرٍ عظيم؛ فالراكب وإن كان جسمه في سرجٍ فكأن قلبه ماشٍ في جسده لأنه في مشقةٍ وتعبٍ لعظم ما يهم به. وسرج الفرس يجوز أن يكون مأخوذاً من السراج الموقد لأنه يحسن الفرس كتحسين السراج ما يوقد فيه. ويحتمل أن يكون سمي سراجاً لأنه يدوم على ظهر الدابة. يقال: ما زال ذلك منه سرجوجةً أي دائماً. قال عبيدالله بن الحر الجفعي: [الطويل] فلا تحسبن الخير لا شر بعده ... ولا الشر سرجوجًا على المر ترتبا وقوله: قواصد كافورٍ توارك غيره ... ومن قصد البحر استقل السواقيا كافور: اسم عربي, ويقال لهذا الطيب: كافور, وقافور. والكافور: وعاء الطلع ونبت طيب الرائحة يقال له: قفور. قال العجاج: [الرجز] كأن ريح بيته المزبور ... في الظل تحت الهدب اليخضور مثواه عطارين بالعطور ... أهضامها والمسك والقفور أراد بالقفور: الكافور المعروف. وقيل: بل أراد نبتاً طيب الرائحة. قال ابن أحمر: [السريع] ترعى القطاة الخمس قفورها ... ثم تغر الماء فيمن تغر والسواقي: جمع ساقية, وهو كل ما ثعب من غيره كأنه قليل من كثير. وقوله: فجاءت بنا إنسان عين زمانه ... وخلت بياضاً خلفها ومآقيا

جعله إنسان عين الزمن, وإنسان العين هو الناظر, وجمعه: أناسي. قال ذو الرمة: [الطويل] (245/أ) إذا استوحشت آذانها استأنست لها ... أناسي ملحوب لها في الحواجب جعل الشاعر العالم كبياض العين ومآقيها؛ لأن هذه الأشياء لا ينتفع بها في النظر, وجعل الممدوح كإنسان العين لأن الخاصة فيه. وقوله: تجوز عليها المحسنين إلى الذي ... نرى عندهم إحسانه والأياديا يقول: تجوز على هذه الخيل الملوك الذين يحسنون إلى الناس إلى الملك الذي جرت عادته بأن يحسن إلى المحسنين, وقد رأينا إنعامه عليهم, فاخترنا قصده على قصدهم. وقوله: فتى ما سرينا في ظهور جدودنا ... إلى عصره إلا نرجي التلاقيا هذا البيت لم يقل في معناه مثله؛ لأن الشاعر ادعى أنه وأن غيره لم يسروا في ظهور جدودهم إلا رغبةً في لقاء هذا الممدوح. وهذا من إفراط الغلو؛ إلا أنه على مذاهب الشعراء معنى لا يوصل إلى مثله. وقوله: ترفع عن عون المكارم قدره ... فما يفعل الفعلات إلا عذاريا استعارت العرب العوان للحرب, وكذلك للحائل واللاقح. فالحائل التي لم يقاتل فيها ذلك العام, واللاقح التي قد وجب فيها القتال, والعوان التي قد حورب فيها مرةً بعد مرةٍ وجعلوها تنتج كما تنتج الناقة. وقال الشاعر: [الوافر] متى لاقيت قومي فسأليهم ... إذا ما حربهم نتجت فصيلا

فيجوز أن يعنى بالفصيل أمر حدث كسيدٍ يقتل, أو أمرٍ تجلى عنه الحرب. والعذارى: جمع عذراء, والأكثر عذارا بالألف, وكانت النساء تقول في المدينة على عهد النبي صلى الله عليه وقبله إذا حذرن في عرسٍ: [الرجز] أتيناكم أتيناكم فحيونا نحييكم فلولا الذهب الأحمر لم نحلل بناديكم ولولا البرة السمراء لم تسمن عذاريكم وسكن عين الفعلات, وقد فعل ذلك مراراً وهو من الضرورات. يقول: هذا الممدوح لا يفعل مكرمةً فعلها غيره وإنما يتكرم بشيء لم يسبق إليه. وقوله: يبيد عداوات البغاة بلطفه ... وإن لم تبد منهم أباد الأعاديا يبيد: أي يهلك. يريد أنه يحسن إليهم فإن بلغ ما يريد من زوال العداوة؛ وإلا فإنه يبيد العدو. وقوله: أبا المسك ذا الوجه الذي كنت تائقاً ... إليه وذا الوقت الذي كنت راجيا تاق إلى الشيء يتوق إذا حن إليه, فهذا فعل معتل. فأما قولهم: تئق بالهمز فهو من: امتلأ الشيء, ويقال: فرس تئق أي كأنه قد امتلأ بالجري. فأما قول المرئ القيس: [الطويل] فإما تريني اليوم في رأس شاهقٍ ... فقد أغتدي أقود أجرد تائقا فيجوز أن يكون فاعلًا من التأق وهو الامتلاء؛ كما قالوا: حاذر من الحذر. ويجوز أن يكون من تاق يتوق؛ أي كأن هذا الفرس مشتاق إلى الجري. ويجوز أن يعني الشاعر بالتائق نفسه؛ أي أقود فرساً وأنا مشتاق إلى من أحب.

وقوله: لقيت المرورى والشناخيب دونه ... وجبت هجيراً يترك الماء صاديا المرورى: جمع مروراةٍ وهي الأرض التي لا شيء فيها. جمعها الجمع الذي بينه وبين واحده الهاء؛ كما قالوا: فلاً وفلاة, وحصى وحصاة, ولو جمعت جمع السلامة لقيل: مروريات, ولو جمعت جمع التكسير لقيل: مرارٍ بالرفع والخفض, وجبت مرارياً في النصب. ووزن مروراةٍ: فعلعلة, وظاهر أمرها أن يكون اشتقاقها من المرو وهي حجارة صغار تقدح منها النار. والشناخيب: جمع شنخوبٍ وشنخابٍ, وهو أعلى الجبل. والهجيز: (245/ب) جمع هاجرة وهي الحر الشديد؛ وإنما يستعمل ذلك في نصف النهار وما قاربه. يقال: هجر القوم إذا ساروا في الهجير, وهجر النهار إذا جاء بالهاجرة. قال امرؤ القيس: [الطويل] فدعها وسل الهم عنك بجسرةٍ ... ذمولٍ إذا صام النهار وهجرا فأما قول ذي الرمة: [الطويل] ولميبق بالخلصاء مما عنت به ... من البقل إلا يبسها وهجيرها فيقال: إن الهجير ضرب من الحمض, ويجوز أن يعنى بالهجير: الهاجرة, ويحتمل أن يكون اشتقاق الهاجرة من قولهم: هجرت البعير إذا شددت حبلاً في حقوه إلى وظيفيه؛ أي هذه الهاجرة كأنها تقيد الإنسان وغيره من شدة الحر, فلا يقدر على التصرف. ولا يمتنع أن يكون قوله: الهاجرة؛ أي الوقت الذي يهجر الإنسان فيه عادته؛ لأنه يطلب الظلال والقائلة, وكذلك أصناف الحيوان, فكأنها تهجر ما كانت تعتاد. وقوله: يترك الماء صادياً مبالغة مفرطة لأنه زعم أن الماء يتركه الهجير صادياً, وقد جرت عادته أن يشفي من صدي من صداه. وقد وصفت العرب ضنهم بالماء إذا قل, وأنه لا يسمح به إلا الكريم كما فعل كعب بن مامة. وقد زعم الفزدق أنه من على رفيقٍ له بحظه

من الماء لما اقتسموه فقال: [الطويل] فلما تصافنا الإداوة أجهشت ... إلي غضون العنبري الجراضم فجاء بجلمودٍ له مثل رأسه ... ليشرب بين القوم ماء الصرائم على حالةٍ لو أن في القوم حاتماً ... على جوده ضننت به نفس حاتم وكيف يضل العنبري ببلدةٍ ... بها قطعت عنه فضول التمائم يقال: تصافنوا الماء بالحصاة إذا اقتسموه بها, وأجهشت أي تهيأت للبكاء. غضون الوجه: آثار التكسر فيه, والجراضم: الضخم الشديد الأكل. ويروى: على جوده لضن بالماء حاتم؛ فقيل: خفض حاتماً لأنه جعله بدلًا من الهاء في قوله: جوده. وأنشده قوم: حاتمي بالياء على إضافة حاتمٍ إليها, وزعم قوم أنه مخفوض على المجاورة, وهو أضعف الوجوه. وقوله: أبا كل طيبٍ لا أبا المسك وحده ... وكل سحابٍ لا أخص الغواديا إذا خفض كل عطف على كل طيبٍ, وإذا نصب حمل على النداء. وقالوا: تركته في كلة أرضٍ في معنى كل, فأدخلوا عليها الهاء وذلك قليل. ويجوز أن يكون اشتقاق كل من كلل الشيء إذا صار له إكليل, ويحتمل أن يكون من قولهم: ألقى عليه كله أي ثقله, ويكون قولهم: أخذه كله؛ أي أخذ ما يكل الحامل إذا حمله. وقوله: يدل بمعنى واحدٍ كل فاخرٍ ... وقد جمع الرحمن فيك المعانيا يقال: عرفت ذلك في معنى كلامه ومعناته ومعناه ومعناته. وفتح الميم أكثر وأفصح, وعليه دل الاشتقاق؛ يقال: عنى فلان كذا إذا أرادوه, ويقال: عنيت بحاجتك؛ أي كأني

قصدت بها لأقضيها, وأكثر ما يستعمل هذا فيما لم يسم فاعله, وقد جاء على غير ذلك, قال الراجز: [الرجز] عني بأولاها كثير الشغل ... له جفيران وأي نبل وقال آخر: [الطويل] إذا لم تكن في حاجة المرء عانياً ... نسيت ولم ينفعك عقد الرتائم الرتائم: جمع رتيمةٍ وهي خيط يشد لئلا ينسى الإنسان الحاجة. وقوله: (246/أ) إذا كسب الناس المعالي بالندى ... فإنك تعطي في نداك المعاليا واحد المعالي: معلاة, وهي مبنية على الفعل, فلذلك جاءت معتلة اللام, وكذلك جميع ذوات الواو, نحو: يغزو ويعلو ويغدو, وتقول في مفعلة منه: مغزاة ومعلاة ومفداة. قال أعشى باهلة: [البسيط] فإن يصبك عدو في مناوأةٍ ... فقد تكون لك المعلاة والظفر وقوله: وغير كثيرٍ أن يزورك راجل ... فيرجع ملكًا للعراقين واليا قد مضى ذكر العراق واشتقاقه, وإذا قالوا: العراقان أرادوا الكوفة والبصرة, وقد يجوز أن يعنوا بالعراق الواحد بلداً يجمع الكوفة والبصرة وغيرهما, ثم يثنونه على ذلك كما قالوا:

المكتان؛ فيجوز أن يعنوا المكة أعلاها وأسفلها, ويحتمل أن يعنوا مكة والمدينة. قال نصر بن حجاج السلمي: [الطويل] فأصبحت منفيا على غير ريبةٍ ... وقد كان لي بالمكتين مقام وقوله: فقد تهب الجيش الذي جاء غازياً ... لسائلك الفرد الذي جاء عافيا أصل الغزو: القصد. يقال للرجل: ما مغزاك بهذا الكلام؛ أي ما مقصدك, ثم خص الناس بالغزو القصد للعدو. قال مالك بن الريب: [الطويل] ألم ترني بعت الضلالة بالهدى ... وأصبحت في جيش ابن عفان غازيا ويقال للأتان إذا بعد عهدها بالحمل: هي مغزية العقاق؛ أي كأن عقاقها غازٍ فهو غائب عنها. يقال: امرأة مغزية إذا كان زوجها في الغازين, والعافي الذي يطلب الهبة؛ وكثر ذلك حتى قيل للطير التي تسقط على الشجر: عافية. وقوله: وتحتقر الدنيا احتقار مجربٍ ... يرى كل ما فيها - وحاشاك - فانيا حاشاك: كلمة تستعمل في الاستثناء, ويقع بعدها المخفوض والمنصوب, فإذا وقع بعدها منصوب فهي فعل, وإذا وقع بعدها المخفوض فكأنه على إرادة لام الخفض, فلما كثر مجيئها بعد هذا الحرف جاز أن تحذف وهي في الإرادة كما حذفوا لا في القسم في قولهم: والله أفعل. وكثر قولهم: حاش لله وحاشى لله. وإذا خفضت حاشى فهي بعيدة من أن تحمل

على أنها اسم, مثل: خاتمٍ وطابقٍ؛ لأن ذلك بناء قليل, ولاسيما في المعتل, والأشبه أن تحمل على حذف اللام. وقوله: وما كنت ممن أدرك الملك بالمنى ... ولكن بأيام أشبن النواصيا يقول: لست ممن أدرك الملك براحةٍ واتفاقٍ؛ وإنما تمناه فقضي له؛ وإنما بلغت ما بلغت ببأسك ونجدتك. وقد جرت عادة الناس بأن يذكروا مشيب الرأس لما يلقاه الإنسان من الشدائد, وهو كلام قديم؛ وإنما جرت العادة بأن يشيب الإنسان إذا طال عمره. والغرائز تختلف فربما تأخر الشيب عن المسن وعجل إلى الحدث, وقد ألف الناس ما تقدم ذكره من أن الأمر المستصعب يشين؛ وفي الكتاب العزيز: {فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا} , وقال بعض المحدثين: [الخفيف] إن أمراً جنى علي مشيب الـ ... ـرأس في ليلةٍ لأمر عظيم وقوله: عداها تراها في البلاد مساعياً ... وأنت تراها في السماء مراقيا المساعي: جمع مسعاةٍ وهي مفعلة من سعيت في الأمر المحمود إذا مشيت فيه, وهو اسم عام يقع على الصغير والكبير في الأصل, ثم خصوا به الأمر الذي يؤدي إلى الحمد والشرف. قال الأفوه: [الرمل] أيها الساعي على آثارنا ... نحن من لست بسعاءٍ معه والهاء في تراها عائدة إلى الأيام. يقول: عداك يحسبون (246/ب) أنك ساعٍ في الأرض وإنما مساعيك مراقٍ في السماء. وواحدة المراقي: مرقاة ومرقاة. واللغة الفصيحة: ورقيت في السلم بغير همز. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه كان يمشي الحسن أو الحسين على صدره فيقول:

خبقه خبقه ... ترق عين بقه ويروى: حبقه بالحاء. وقد حكي: رقأت بالهمز. وقال الأفوه: [الوافر] فارقأن منك على ظلعك قد ... فاتك القوم نجاراً وسعه وقوله: لبست لها كدر العجاج كأنما ... ترى غير صافٍ أن ترى الجو صافيا يقال: عجاج أكدر وكدر, ويستعمل الكدر في الماء وغيره. قال الجعدي: [الطويل] ولا خير في حلمٍ إذا لم تكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدرا وقالوا: كدر الشيء إذا سقط من علوٍ إلى أسفل؛ فأما قولهم للحمار الوحشي: كدر؛ فهو فعل من أنه كالشيء المنكدر من العلو أي سريع. قال الهذلي: [الطويل] نجاء كدر من حميرٍ أبيدةٍ ... بكاهله والصفحتين كلوم والمعنى أن الممدوح إذا رأى الجو صافياً لم يعجبه ذلك وإنما اختياره أن يثير الغبار فيكدر الجو. وقوله: وقدت إليه كل أجرد سابحٍ ... يوديك غضباناً ويثنيك راضيا الهاء في إليها يجوز أن ترجع إلى العدى وإلى الأيام. وقد مضى ذكر القود وأن الرجل يوصف بأنه يقود الخيل فيكون في أولها وتتبعه فكأنه يقودها. ويقولون في الشعر: قدنا الخيل؛ يريدون أنهم ركبوا الإبل وجنبوا خيلهم إليها, وقد مضى ذلك. وصرف غضبان

للضرورة, ولو ترك صرفه لظهر في البيت زحاف يقال له الكف, وهو مثل قول امرئ القيس: [الطويل] ألا رب يومٍ لك منهن صالحٍ ... ولاسيما يوم بدارة جلجل والعرب تختار صرف ما لا ينصرف على هذا الفن من الزحاف, كما قال الشاعر: [الطويل] لا تعذلي في حندجٍ إن حندجاً ... وليث عفرينٍ لدي سواء نون عفرين والمعروف ترك تنوينه. ويقال في المثل: «أشجع من ليث عفرين»؛ زعم الأصمعي أنه دويبة يتخذا الراكب ويضرب بذنبه. وزعم أبو عمرو الشيباني أنه الأسد. وقال عمرو بن قميئة: [مجزوء البسيط] منه الصبوح التي تتركني ... ليث عفرين والمال كثير والمعنى: أن هذا الفرس يحملك إلى الهيجاء أيها الممدوح وأنت غضبان, ويردك وقد رضيت؛ لأنك قد أدركت ما تريد من عدوك. والحندج: كثيب من الرمل صغير. وقوله: ومخترطٍ ماضٍ يطيعك آمراً ... ويعصي إن استثنيت أو صرت ناهيا ومخترطٍ: يعني سيفاً. يقال: اخترط من غمده إذا سله. واستعار للسيف طاعةً وعصياناً, وإنما يريد أن يصفه بالمضاء, ونصب آمراً على الحال؛ أي هذا السيف إذا ضربت به كنت كالآمر له بالقطع, فإن أردتأن تستثني أو تنهاه عن المضاء فهو عاصٍ لك؛ أي يسبقك إلى ما أردته منه. وقوله:

وأسمر ذي عشرين ترضاه وارداً ... ويرضاك في إيراده الخيل ساقيا يعني بأسمر ذي عشرين رمحاً طوله عشرون ذراعاً. وذو عشرين يدل على معنى المالك والصاحب والرفيق ونحو ذلك. يقال: فلان ذو مال؛ أي صاحبه, وفلان ذو زيدٍ؛ أي رفيقه. وعلى ذلك (247/أ) قالوا: ذو رعينٍ, ذو جدنٍ, وذو يزنٍ. ولا يضاف ذو إلى مضمرٍ, وهو كناية عن شيءٍ كرهوا أن يضيفوا كنايةً إلى كنايةٍ. وقوله: كتائب ما انفكت تجوس عمائراً ... من الأرض قد جاست إليها فيافيا يقال: جاس البلاد إذا تخللها, وفي الكتاب العزيز: {فجاسوا خلال الديار} , فإن كان هذا البلد المعروف بـ «جوسية» عربياً فهو فعلية من الجوس؛ وإلا فهو أعجمي وافق لفظه هذا اللفظ. والعمائر: جمع عمارةٍ, وهي الأرض المسكونة. والفيافي: المواضع الخالية. وقوله: غزوت بها دور الملوك فباشرت ... سنابكها هاماتهم والمغانيا باشرت من المباشرة. وبشرة الإنسان: ظاهر جلده؛ يقال: باشر فلان غيره إذا ألصق بشرته ببشرته, واستعار المباشرة للسنابك وليس ذلك معروفاً فيها. والمغاني: جمع مغنى, وهو محل القوم ومسكنهم. يقال: غني القوم في المكان إذا أقاموا فيه؛ وكأنهم مع ذلك يوصفون بأنهم أغنياء. قال الأسود بن يعفر: [الكامل] ولقد غنوا فيها بأنعم عيشةٍ ... في عز ملكٍ ثابت الأطواد وقوله: وأنت الذي تغشى الأسنة أولاً ... وتأنف أن تغشى الأسنة ثانيا

إذا الهند سوت بين سيفي كريهةٍ ... فسيفك في كف تزيل التساويا ساوت بالألف أشبه من سوت؛ لأنه جاء في القافية بالتساوي, فدل ذلك على ساوت, ولو جاء به على سوت لكان المصدر التسوي, وقد يستعمل الفعل على فاعلت وفعلت كقولك: عاليت الرجل وعليته, وباعدت الرجل وبعدته. يقول إذا ساوت الهند بين السيفين في المضاء فكفك تزيل التساوي؛ لأنك إذا ضربت بأحد السيفين جعلته أقطع من الآخر. ويحتمل البيت معنى آخر, وهو أن كفك كأنها سيف؛ فإذا ضربت بالسيف علم أن فضيلتها في المضاء أعظم من فضيلة السيف المضروب به. وقوله: ومن قول سامٍ لو رآك لنسله ... فدى ابن أخي نسلي ونفسي وماليا صار نسب الناس إلى ثلاثة من أولاد نوحٍ, فالعرب والعبريون, وغيرهم ممن شاء الله, منتسبون إلى سام بن نوحٍ, والسودان كلهم ينتسبون إلى حام بن نوحٍ, والأتراك وعالم كثير ينتسبون إلى يافث بن نوح. والمعنى أن سام بن نوح لو رأى هذا الممدوح وفضله لآثر أن يفديه بالنفس والأهل والمال. وإنما يعني بأخيه: حاماً لأنه والد السودان كلهم, والممدوح من ولده. وقوله: مدى بلغ الأستاذ أقصاه ربه ... ونفس له لم ترض إلا التناهيا الأستاذ: كلمة ليست بالعربية ووزنها أفعال, وقد قالوا في الكلام القديم: الأساتيذ في جمع أستاذٍ, ويقولون للصانع إذا كان حاذقًا بعمل الشيء: هو أستاذ فيه, ويقول المتعلم للصناعة لمعلمه: يا أستاذ, وصار الناس يكنون عن الخادم الخصي بالأستاذ؛ وذلك اصطلاح منهم وليس له أصل في العربية. وقوله: دعته فلباها إلى المجد والعلى ... وقد خالف الناس النفوس الدواعيا دعته: يعني النفس, والهاء عائدة إلى الممدوح. وأصل الدعاء أن ينادي الإنسان بالآخر فيقول: يا فلان, ثم استعملوا ذلك في غير الصوت فقالوا: دعت الضيف النار إلى رأى

ومن أبيات أولها

ضوءها؛ فقصدها فكأنها نادته وإن لم يكن ثم نداء. قال الشاعر وذكر ضيفاً وناراً: (247/ب) [الطويل] دعته بغير اسمٍ هلم إلى القرى ... فجاء يبوع الأرض والليل مقمر يبوع الأرض: أي يقطعها. وقال آخر وذكر امرأةً: [الطويل] دعاك إليها مقلتاها وجيدها ... فملت كما مال المحب على عمد وقوله: فأصبح فوق العالمين يرونه ... وإن كان يدنيه التكرم نائيا يقول: العالم يرون هذا الممدوح متعالياً عليهم؛ وإنما يدنيه التكرم منهم فهو كالشمس يقرب ضوؤها من الحيوان وهي متعالية عليه. والقافية من المتدارك. ومن أبيات أولها أريك الرضى لو أخفت النفس خافيا ... وما أنا عن نفسي ولا عنك راضيا الوزن من ثاني الطويل. قوله: أميناً وإخلافاً وغدراً وخسةً ... وجبناً أشخصاً لحت لي أم مخازيا؟ المين: الكذب على أي وجه كان. فإذا قال الراجل: فعلت كذا ولم يكن فعله فهو مين. والإخلاف لا يكون إلا إذا تقدم الوعد. فكل مخلفٍ كاذب, وليس كل مائنٍ مخلفاً. والخسة من قولهم: رجل خسيس, ويقال: ختيت في معنى خسيسٍ, وأخس الله حظه وأخته. ونصب شخصاً على الحال. والمخازي: جمع مخزاةٍ وهي كل فعل دنيء. وربما قالوا: خزي الرجل

خزياً من الهوان, وخزي خزايةً من الاستحياء, والاشتقاق واحد. فأما قول لبيد: [الرمل] اكذب النفس إذا حدثتها ... إن صدق النفس يزري بالأمل غير أن لا تكذبنها في التقى ... واخزها بالبر لله الأجل فمعنى اخزها: سسها واقهرها, وأصل ذلك في الفصيل, يقال: خزوته خزواً إذا شققت لسانه لئلا يرضع. وقوله: أميناً وإخلافاً وغدراً وخسةً وجبناً منصوب على المصدر؛ كأنه قال: أتمتين ميناً, وتخلف إخلافتاً؟ ! وقوله: وتعجبني رجلاك في النعل أنني ... رأيتك ذا نعلٍ إذا كنت حافيا وصفه بغلظ القدمين وأنه إذا كان حافياً فكأنه ذو نعلٍ. وقالوا في المثل: «أطري فإنك ناعلة» , [و] فسروه على وجهين: أحدهما: أن يكون عليها نعل. والآخر: أن تكون رجلاها غليظتين حافيتين فكأن عليهما نعلاً, وإن كانت حافيةً. وقوله: ويذكرني تخييط كعبك شقه ... ومشيك في ثوبٍ من الزيت عاريا ذكر أن الممدوح مخيط الكعب, وأن تخييطه أذكره أيام كونه مشقوقاً. وقد وصف المتقدمون تخييط شقوق الرجلين. قال الراجز: [الرجز] ترى برجليه شقوقاً في كلع ... من باريءٍ حيص ودامٍ بسلع الكلع: الوضح, وحيص: أي خيط. والمنسلع: المنشق المنقشر. وقوله: في ثوب من الزيت عارياً: إذا جاء الناس بالسبي من الحبشة طلوهم بالزيت يرون في لك منفعةً لهم. ونصب عارياً على الحال.

فصل

وقوله: فإن كنت لا خيراً أفدت فإنني ... أفدت بلحظي مشفريك الملاهيا المشفر: أصله للبعير, ثم استعاروه للعبد ولمن يصفونه بالغلظ. قال الشاعر: [مجزوء الكامل] وافيتهم تحت الظلا ... م وليلهم كالساج كافر فإذا وقود بين عبـ ... ـدانٍ لهم سبطي المشافر والقافية من المتدارك. فصل استعمل أبو الطيب من الأوزان التي ذكرها الخليل أحد عشر وزناً, وهي: (248/أ) الطويل, والبسيط, والوافر, والكامل, والرجز, والرمل, والسريع, والمنسرح, والخفيف, والمجتث, والمتقارب. ولم يستعمل أربعة, وهي: المديد, والهزج, والمضارع, والمقتضب. فاستعمل الطويل بضروبه الثلاثة: الأول: كقوله: أطاعن خيلًا من فوارسها الدهر والثاني: كقوله: وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه والثالث: كقوله: ليالي بعد الظاعنين شكول واستعمل من البسيط ثلاثة أضربٍ: الأول كقوله: أجاب دمعي وما الداعي سوى طلل والثاني كقوله: من الجآذر في زي الأعاريب

والسادس كقوله: نال الذي نلت منه مني ... لله ما تصنع الخمور واستعمل الأول من الوافر كقوله: طوال قنا تطاعنها قصار وجاء بالأول من الكامل كقوله: لك يا منازل في القلوب منازل وبالثاني كقوله: في الخد إن عزم الخليط رحيلا وبالرابع كقوله: أثلث فإن أيها الطلل وبالخامس كقوله: أقصر فلست بزائدي ودا ... بلغ المدى وتجاوز الحدا وبالسادس كقوله: وزيارةٍ عن غير موعد ... كالغمض في الجفن المسهد وبالثامن كقوله: لأحبتي أن يملؤوا ... بالصافيات الأكوبا وجاء بمجزوء الرجز في قوله: أي محلٍ أرتقي ... أي عظيمٍ أتقي وجاء بمشطور الرجز كقوله: وشامخ من الجبال أقود وجاء بأصل الرمل الذي لم يذكره الخليل عن العرب وذلك قوله:

إنما بدر بن عمارٍ سحاب ... هطل فيه ثواب وعقاب إنما بدر عطايا ورزايا ... ومنايا وطعان وضراب وقد روي مثل هذه الأبيات لرجل من قريش قالها في صدر الإسلام أولها: [الرمل] إن ليلي طال والليل قصير ... طال حتى ما أرى الصبح ينير ذكر أيامٍ عرتنا منكراتٍ ... حدثت فيها أمور وأمور فالذي يأمر بالغي مطاع ... والذي يأمر بالخير دحير وجاء أبو الطيب بالثالث من الرمل في قوله: إن هذا الشعر في الشعر ملك. وجاء بالسريع الأول في قوله: لا تحسن الشعرة حتى ترى ... منشورة الضفرين يوم القتال وبالسريع الثاني في مثل قوله: آخر ما الملك معزى به وبالضرب السادس من السريع في رأي الخليل كقوله: ما أجدر الأيام والليالي والعرب تسمي هذا رجزاً. وجاء بالمنسرح الأول في قوله: أبعد نأي المليحة البخل

وبثاني المنسرح ولم يذكره الخليل ولا غيره كقوله: ما سدكت علة بمورود وقوله: أوه بديل من قولتي واها وبالأول من الخفيف كقوله: مالنا كلنا جوٍ يا رسول وبالمجتث في قوله: ما أنصف القوم ضبة وبالمتقارب الأل كقوله: أحلماً نرى أم زماناً جديدا وبالمتقارب الثالث كقوله: إلام طماعيه العاذل فأما الطويل الأول فلم يزاحف فيه زحافاً تنكره الغريزة, وهو سقوط نون الجزء الخماسي, وذلك كثير في الشعر القديم والمحدث. وفي قوله: أغالب فيك الشوق والشوق أغلب ... وأعجب من ذا الهجر والوصل إعجب زحافان: أحدهما في أغالب, والآخر في وأعجب. وقد خرم أبو الطيب الطويل الثالث في موضعٍ واحدٍ؛ وذلك قوله: (248/ب) لا يحزن الله الأمير فإنني ... لآخذ من حالاته بنصيب

وهذا الخرم يسمى الثلم. وأما البسيط فجاء فيه بزحافٍ يسمى الخبن ولا تأثير له في الغريزة, ومنه ما يقع في جزءٍ سباعي؛ ومن ذلك قوله: أجاب دمعي وما الداعي سوى طلل ... دعا فلباه قبل الركب والإبل ففي قوله: أجاب زحاف, وكذلك في قوله: دعا, وهذا زحاف السباعي. وأما زحاف الخماسي فمثل قوله: ظللت بين أصيحابي أكفكفه ... وظل يسفح بين العذر والعذل فبعد قوله: بين, زحاف, وكذلك بعد السين من يسفح, وهو زحاف الخماسي. وقد جاء أبو الطيب بزحافٍ يسمى الطي في البسيط, والغريزة تنفر منه, وهو سقوط الرابع من الجزء السباعي؛ وذلك قوله: رب نجيعٍ لسيف الدولة انسفكا وأول البسيط وثانيه يستوي الزحاف فيهما؛ فما قبح في الأول قبح في الثاني, وإذا خفي في أحدهما خفي في الآخر. فأما السادس منه فلا يقبح فيه خبن السباعي ولا طيه, وتنفر الغريزة من خبن الخماسي, ولم يستعمله أحد من المحدثين. ومن خبن السباعي قول أبي الطيب: وذا انصرافي إلى محلي ... فآذن أيها الأمير ومن الطي الخفي قوله: مال علي الشراب جدا ... وأنت للمكرمات أهدى وأما الوافر فاستعمل فيه العصب, وهو سكون الخامس من السباعي, وكثر في الشعر القديم والمحدث, قال أبو الطيب:

يبكي خلفهم دثر بكاه ... رغاء أو ثؤاج أو يعار ففي هذا البيت عصب في أربعة مواضع فمثله قول الآخر: [الوافر] تصد الكأس عنا أم عمرو ... وكان الكأس مجراها اليمينا وقد خرم أبو الطيب في الوافر في موضع واحدٍ, وهو الخرم الذي يسمى العضب, وهو قوله: [مجزوء الوافر] إن تك طيئ كانت لئاماً ... فألامها ربيعة أو بنوه وأما الكامل فإنه زاحف فيه الزحاف الذي يسمى الإضمار, وهو كثير جداً في كل شعرٍ من الوزن الكامل, من ذلك قوله: سر حل حيث تحله النوار والإضمار: سكون الحرف الثاني. وأما الرجز فجاء فيه بالطي والخبن, وكلاهما غير قبيح, كقوله: أي محل أرتقي

وكقوله: وشامخٍ من الجبال أقود وأما الرمل فجاء فيه بالخبن, وهو سقوط الثاني من سباعيه, كقوله: فإذا مر بأذني حاسدٍ ... صار ممن كان حياً فهلك ففي النصف الأول خبن في موضعين. وأما السريع فطوى فيه وخبن, كقوله: آخر ما الملك معزى به ففي هذا المصراع طي في موضعين وقوله: ولم أقل ذلك أعني به ... سواك يا فرداً بلا مشبه فيه خبن في قوله: ولم أقل. وأما المنسرح فاستعمل في أول جزء منه الطي كقوله: أبعد نأي المليحة البخل وخبن في الجزء الأول أيضاً كقوله: ملولة ما يدوم ليس لها ففي قوله: ملولة خبن. وأتى بالطي في الجزء الثاني, وطيه أحسن في الغريزة من تمامه. وفي قوله: أبعد نأي المليحة البخل طي في الجزء الثاني.

فأما الخفيف فخبن فيه وشعث. والتشعيث: سقوط حرف متحرك من جزء الضرب. قال: ما لنا كلنا جوٍ يا رسول ففي قوله: كلنا خبن, وقوله: متبول فيه تشعيث؛ وذلك موجود في الشعر الجاهلي والإسلامي. وأما المجتث فجاء فيه يخبن السباعي, وإذا روي: وأمه الطرطبه بسكون الراء (249/أ) ففي البيت تشعيث ولم يذكره الخليل في المجتث وقد كثر في أشعار المحدثين. وإن حركت الراء في الطرطبة فالجزء مخبون غير مشعثٍ. وليس ضم الراء بأبعد من قولهم: سلطان بضم اللام في سلطان. وحكي أن عيسى بن عمر قرأ: {حتى يأتينا بقربانٍ تأكله النار} بضم الراء. وأما المتقارب فإن أبا الطيب قبض فيه قبضاً غير منكرٍ وحذف حذفاً ليس بقبيح؛ كقوله: تفانى الرجال على حبها ... وما يحصلون على طائل فقوله: الرجال فيه قبض, وقوله: حبها فيه حذف. واستعمل أبو الطيب القوافي الأربع التي تردد ذكرها وهي: المتراكب, والمتدارك, والمتواتر, والمترادف, ولم يستعمل المتكاوس, وهي أربعة حروف متحركة بعدها ساكن, واستعمالها يثقل لأنها لا تكون إلا بزحاف.

والقوافي المقيدة ثلاث؛ استعمل أبو الطيب منها اثنتين, وهما: المجردة والمردفة. فالمجردة كقوله: فزيادة عن غير موعد ... كالغمض في الجفن المسهد يلزمها لازمان: الروي والحركة التي قبله, وهي التوجيه. والحركة المردفة كقوله: ما أنا والخمر وبطيخة ... سوداء في قشرٍ من الخيزران يلزمها ثلاثة لوازم: الروي وهو النون, والألف, والحذو وهي الحركة التي قبل الألف. والقوافي المطلقة ست, استعمل منها خمساً: المطلقة المجردة كقوله: [الطويل] إذا كان مدح فالنسيب المقدم الميم روي, وحركتها المجرى, والواو وصل. والمؤسسة المطلقة كقوله: [الطويل] على قدر أهل العزم تأتي العزائم الألف في العزائم تأسيس, وحركة ما قبلها الرس. وكان أبو عمر الجرمي يزعم أن الرس لا يحتاج إلى ذكرها لأن ما قبل الألف لا يكون إلا مفتوحاً, والهمزة التي تصور ياءً في العزائم دخيل, وحركتها الإشباع, والميم روي, وحركتها المجرى, والواو وصل. والمطلقة المردفة كقوله: [الخفيف] أين أزمعت أيهذا الهمام

الميم الآخرة في الهمام روي, وحركتها مجرى, والواو وصل, والألف التي قبل الميم ردف, وحركة ما قبلها حذو. والقافية التي لها نقاذ كقوله: [الطويل] أود من الأيام ما لا توده الدال روي, وحركتها مجرى, والهاء وصل, وحركتها نفاذ. والقافية المردفة التي لها نفاذ كقوله: [الرجز] حجب ذا البحر بحار دونه الواو في قوله: دونه ردف, وحركة ما قبلها حذو, والنون روي, وحركتها مجرى, والهاء وصل, وحركتها نفاذ, والواو خروج. ولم يستعمل القافية السادسة وهي المؤسسة التي لها نفاذ كقول القائل: [مجزوء الوافر] وماءٍ لا أنيس به ... مطحلبةٍ جوانبه وردت وليله داجٍ ... وقد غارت كواكبه الألف في قوله: كواكبه تأسيس, وحركة ما قبلها رس. والكاف الثانية دخيل وحركتها إشباع. والباء روي وحركتها مجرى, والهاء وصل وحركتها نفاذ. والواو خروج. * * *

تم الكتاب المعروف باللامع العزيزي من إملاء الشيخ أبي العلاء أحمد بن عبدالله بن سليمان رضي الله عنه في شرح ديوان أبي الطيب أحمد بن الحسين المتنبي رحمه الله. والحمد لله مولى العالمين, وصلواته على خيرته من خلقه محمد نبيه وعلى عترته الطاهرين وحسبنا الله ونعم الوكيل. تمت المقابلة على نسخة الأصل وذلك في شعبان من سنة ست وسبعين وأربعمائة. * * * يقول مصحح هذا الجزء, وهو نفسه مصحح الجزء الثاني من الكتاب, يوسف بن عبدالله بن يوسف بن حجاج: الحمد لله الذي من بالفراغ منه ظهر الأربعاء الحادي والعشرين من شعبان من عام ثلاثة وثلاثين وأربعمئة وألف من هجرة من له العزة والشرف. والله وحده يعلم قدر الجهد الذي بذلته فيه, فإن أحسنت فمن الله عز وجل, وإن أسأت فمن نفسي وتقصيري. وصلى الله وسلم على خيرته من خلقه, وعلى آله وصحبه والتابعين وسلم. * * *

§1/1